تفسير سورة النّمل

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة النمل من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة النّمل
مكّيّة وهى ثلاث وتسعون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ اشارة الى آيات السورة آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ اى اللوح المحفوظ وإبانته انه خط فيه ما هو كائن فهو تنبيه للناظرين فيه وتأخيره هاهنا باعتبار تعلق علمنا به وتقديمه فى الحجر باعتبار سبقه على القران فى الكتابة. او المراد به القران المبين للاحكام من الحلال والحرام وغير ذلك ومبين لصحته باعجازه وعطفه على القران كعطف احدى الصفتين على الاخرى وتنكيره للتعظيم. نكر الكتاب هاهنا وعرفه فى الحجر ونكر القران هناك وعرف هاهنا لان القران والكتاب اسمان علمان لما نزل على محمد ﷺ ووصفان له لانه يقر او يكتب فحيث جاء بلفظ التعريف أريد به العلم وحيث جاء بالتنكير أريد به الوصف.
هُدىً وَبُشْرى منصوبان حالان من القران والعامل فيهما معنى الاشارة او مجروران بدلان منه او مرفوعان خبران آخران لتلك او خبران لمحذوف اى هى هدى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ متعلق بهدى وبشرى على سبيل التنازع او ببشرى فقط يعنى هدى لجميع الحلق فمن لم يهتد فبسوء اختياره وبشرى للمؤمنين خاصة.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ اى يحافظون على فرائضها وسننها وآدابها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ من تمّة الصلة والواو للحال او للعطف وتغير النظم بتقديم المسند اليه على الفعل للدلالة على قوة يقينهم وثباته وقصد الحصر يعنى ما يوقنون بالاخرة
حق الإيقان الا هؤلاء الجامعين بين الايمان والأعمال الصالحة فان الجهد فى الأعمال دليل على ايقانهم. وجاز ان يكون خارجا عن الصلة استينافا كما يدل عليه تغير النظم يعنى الّذين كذلك هم الموقنون لا غير.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة بتسليط النفس وجعلها مشتهاة لها فَهُمْ يَعْمَهُونَ لا يدركون عواقب أمرها جملة زيّنّا خبر لان وقولهم فهم يعمهون معطوف عليها او هذا خبر لان والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط وزيّنّا حال من فاعل لا يؤمنون بتقدير قد وجملة انّ الّذين لا يؤمنون معترضة لبيان حال من نجاست المذكورين.
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ فى الدنيا اخبار بما يلحقهم يوم بدر من قتل واسر وذل وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ من غيرهم حيث أكرمهم الله من بين الناس حيث بعث فيهم رسولا من أنفسهم يريد ان يطهرهم ويزكيهم ويوصلهم الى أكرم الكرامات فى الدنيا والاخرة فاختاروا على هذا فى الدنيا القتل والاسر وفى الاخرة النار المؤيدة المؤصدة جملة أولئك الى آخرها وما عطف عليها استيناف لبيان عاقبة أمرهم.
وَإِنَّكَ يا محمد لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ عطف على آيات القران وتنكير الحكيم والعليم للتعظيم يعنى من عند اىّ حكيم واىّ عليم لا يدرك كنه علمه ولا حكمته أحد والجمع بين الوصفين مع ان العلم داخل فى الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل والاشعار بان علوما منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والاخبار بالمغيبات وهذا تمهيد لما يذكر فيه من القصص منها ما قال.
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ فى مسيره من مدين الى مصر الظرف متعلق باذكر وجاز ان يكون متعلقا بعليم إِنِّي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها آنَسْتُ اى أبصرت ناراً سَآتِيكُمْ اى امكثوا مكانكم ساتيكم ذكر هاهنا ساتيكم على التيقن وفى القصص لعلىّ اتيكم على الترجي لان الراجي على تقدير حصول رجائه يعد بالإتيان قطعا اشعارا على غرفه وجزمه بما يعدبه وفيه دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى وجواز النكاح بغير لفظ النكاح والترويح مما يؤدى معناه مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق لانه قد ضل الطريق والسين للدلالة على بعد المسافة الوعد بالإتيان وان ابطا أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قرأ الكوفيون «ويعقوب- أبو محمد» بالتنوين على ان قَبَسٍ بدل منه اوصف له فان الشهاب شعلة من نار ساطعة والقبس مشعلة يقتبس من معظم النار كذا فى
القاموس. والباقون بلا تنوين باضافة الشهاب الى القبس والاضافة بيانية لجواز اطلاق القبس على الشهاب. وقال البغوي الشهاب والقبس متقاربان فى المعنى فان القبس هو العود الذي أحد طرفيه تار وليس فى طرفه الاخر نار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ افتعال من الصلى وهو الإيقاد بالنار اى راجيا ان تستدفئوا بها من البرد وكان فى شدة الشتاء.
فَلَمَّا جاءَها يعنى لمّا قرب موسى من النار التي راها يقال بلغ فلان المنزل إذا قرب منه وان لم يبلغه بعد نُودِيَ أَنْ بُورِكَ ان مفسرة لما فى النداء معنى القول او التقدير بان بورك على انها مصدرية او مخففة من الثقيلة والتخفيف وان اقتضى التعويض بلا او قد او السين او سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره فى احكام كثيرة مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها روى عن ابن عباس رض وسعيد بن جبير والحسن معناه قدس من فى النّار وهو الله سبحانه على معنى انه تعالى نادى موسى وأسمعه كلامه قيل كان ذلك نوره عزّ وجلّ حسبه موسى نارا فلذلك ذكر موسى بلفظ النار روى مسلم عن ابى موسى قال قام فينا رسول الله ﷺ بخمس كلمات فقال ان الله لا ينام ولا ينبغى له ان ينام يخفض القسط ويرفعه برفع اليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفت لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه. وقال سعيد بن جبير كانت النار بعينها وهى احدى حجب الله تعالى كما ورد فى بعض الروايات حجابه النار لو كشفها لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه وعلى هذا التأويل هذه الاية من المتشابهات كقوله تعالى هل ينظرون الّا ان يأتيهم الله فى ظلل من الغمام ولمّا كان فى هذا الكلام إيهام التحيز والتشبيه نزه الله سبحانه نفسه وهو المنزه من كل سوء وعيب فقال وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وروى مجاهد عن ابن عباس انه قال بوركت النار وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رض انه قال سمعت ابيّا يقول ان بوركت النار ومن حولها وكلمة من على هذا زائدة وبورك النار وبورك فى النار معناهما واحد فان العرب يقول بارك الله وبارك فيه وبارك عليه بمعنى واحد والمعنى بورك فى النار وفيمن حولها وهم الملائكة وموسى عليه السلام ويسمى النار مباركة كما يسمى البقعة مباركة قال الله تعالى فى البقعة المباركة وقيل معناه بورك من فى طلب النار او من فى مكان النار بحذف المضاف وهو موسى عليه السلام ومن حولها وهم الملائكة الذين حول النار حاضرين هناك فهذه تحية من الله لموسى بالبركة كما حيّا ابراهيم على السنة الملائكة حين دخلوا على ابراهيم فقالوا رحمة الله وبركاته عليكم اهل البيت وقيل من فى النار
هم الملئكة وذلك ان النور الذي راه موسى كان فيه ملائكة لهم رجل بالتسبيح والتحميد والتقديس ومن حولها موسى لانه كان بالقرب منها وقيل من حولها عام شامل لكل من فى ذلك الوادي وحواليهما من ارض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وتصدير الخطاب بذلك بشارة بانه قد قضى له امر عظيم ينتشر بركته فى أقطار الشام وعلى هذه التأويلات قوله تعالى وسبحن الله ربّ العلمين لدفع توهم التشبيه الناشي من سماع كلامه وللتعجيب من عظم ذلك الأمر.
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الضمير الشأن اسم ان وانا الله خبرها او الضمير للمنادى اسمها وانا خبرها والله عطف بيان له والعزيز الحكيم صفتان له ممهدتان لما أراد ان يظهره يعنى انا القوىّ القادر على ما يبعد من الأوهام كتقليب العصا حيّة الفاعل لكل ما يفعله بحكمة وتدبير.
وَأَلْقِ عَصاكَ عطف على بورك داخل فى حيزان المفسرة يدل عليه قوله تعالى فى غير هذه السورة وان الق عصاك بعد قوله ان يا موسى انّى انا الله بتكرير ان والتقدير نودى هذا المقول وهذا المقول فهو من قبيل عطف المفرد على المفرد وليس من عطف الإنشاء على الخير فَلَمَّا رَآها اى راى موسى عصاه تَهْتَزُّ تتحرك بالاضطراب كَأَنَّها جَانٌّ اى حية خفيفة فى سرعة سيره وكثرة اضطرابه وَلَّى اى هرب موسى من الخوف مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ اى لم يرجع من عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرار يا مُوسى لا تَخَفْ جملة النداء وما بعده فى محل النصب على تقدير القول يعنى قلنا يا موسى لا تخف من هذه الحية إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ يعنى لاجل قربهم بي واستقرارهم بحضرتي الْمُرْسَلُونَ الجملة فى مقام التعليل لعدم الخوف يعنى الذين يبلغون رسالاتى فانهم يخشوننى وحدي ولا يخشون أحدا غيرى فلا منافاة بين هذه الاية وبين قوله عليه السلام انا أخشاكم بالله او المعنى لا يخافون مطلقا عند نزول الوحى لفرط الاستغراق او المعنى انهم لا يكون لهم سوء عاقبة فيخافون.
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ قيل هذا استثناء متصل وفيه اشارة الى موسى حيث قتل القبطي والمعنى لا يخيف الله أنبياءه من أحد غيره الا بذنب أصابه أحدهم والمراد بالظلم الذنب الصغيرة او ترك الأفضل وعلى هذا قوله ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ يعنى توبة بعد ذنب عطف على ظلم داخل فى الصلة وانما قيد بهذا إيذانا بانه لا يحوز صدور ذنب من الأنبياء وان كانت صغيرة او قبل النبوة الا مستعقبا للتوبة فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ معطوف على بدل تقديره فانى اغفر له وارحمه وقيل قوله ثم بدل الى آخره كلام مبتدا معطوف على محذوف بيان لحال من ظلم من الناس كافة تقديره فمن ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء فانّى غفور رّحيم. وقيل الاستثناء منقطع لان المرسلين
لا يجوز منهم الظلم وعلى انقطاعه تقديره لكن من ظلم من الناس وهم غير المرسلين فانهم يخافون غير الله تعالى وقيل هو استدراك لما يختلج فى الصدور من نفى الخوف عن كلهم مع ان فيهم من فرطت منه صغيرة فالتقدير لكن من صدر منه صغيرة منهم فانه وان فعلها فقد اتبعها ما يبطلها واستحق به من الله مغفرة ورحمة فهو ايضا لا يخاف غير الله- لكن هذين التأويلين يقتضيان ان موسى لم يخف من الحية وذلك غير واقع لقوله فلمّا راها- ولّى يدبّرا ولم يعقّب وقوله تعالى فاوجس فى نفسه خيفة موسى الا ان يراد بنفي الخوف من الأنبياء ففى مطلق الخوف منهم لانتقاء سوء العاقبة نظيره قوله تعالى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لكن سوق الكلام يأبى عنه إذ الموجود المنهي عنه انما هو الخوف من الحية وقال بعض العلماء الا هاهنا بمعنى ولا يعنى لا يخاف لدىّ المرسلون ولا المذنبون التائبون اى هم صلحاء المؤمنين فان غير المعصوم لا يخلو عن ذنب لكن من استدرك ذنبه بالتوبة صار كمن لا ذنب له وهذا التأويل ايضا يناسب نفى مطلق الخوف لا خوف غير الله فقط كالتأويلين السابقين «١».
وَأَدْخِلْ يَدَكَ عطف على الق عصاك فِي جَيْبِكَ اى جيب قميصك وهو طرقه كذا فى القاموس وقيل الجيب هو القميص لانه يجاب اى يقطع قال البغوي قال اهل التفسير كان عليه مدرعة من صوف لاكم لها ولا آزر تَخْرُجْ اى يدك مجزوم فى جواب الأمر بتقدير ان تدخل يدك تخرج بَيْضاءَ نيرة تغلب نور الشمس حال من الضمير المستتر فى تخرج مِنْ غَيْرِ سُوءٍ اى كائنا من غير برص صفة لبيضاء او حال مرادف له او حال من الضمير فى بيضاء فِي تِسْعِ آياتٍ يعنى هاتان آيتان لك فى تسع آيات اى فى جملتها او معها على التسع هى فلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والذم والطمسة والجذب فى بواديهم والفقصان
(١) أقول هذا البحث الطويل لا يجدى شيئا ولا يشفى غليل الذكي للمتفطن والحق ما قاله حكيم الامة المحمدية خاتم المفسرين والمحدثين الولي الكامل الشيخ التهانوى نور الله مرقده فى تفسير المسمى ببيان القران فى تفسير قوله تعالى خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى ما نصه. اور موسى عليه السلام كادر جانا بعض نى كما هى كه طبعى هى جو كسى طرح جلالت شاركى منافى نهين اور بعض نى كها هى كه جو حادثه مخلوق كى جانب سى هواس مين تونه درنا كمال هى جيسى ابراهيم عليه السلام اتش نمرودى سى نهين درى اورجو امر خالق كى طرف سى هواس مين درناهى كمال هى كه وه فى الحقيقة حق تعالى سى درنا هى جيسى هواتيز هونى كى وقت جناب رسول الله ﷺ كاگهبرا جانا حديثون مين أيا هى سو چونكه أس تبدل مين مخلوق كاواسطه نه تها أس سى درگئى كه يه كوئى قهر الهى نهو وقال رحمه الله تعالى فى رسالته المسماة بمسائل السلوك من كلام ملك الملوك فى تفسير هذه الآية قال العبد الضعيف فيه بقاء الطبائع فى الكاملين حيث خاف عليه السلام خوفا طبعيا وفيه الأمر بتعديل الطبعيات بالعقليات انتهى فالحاصل وفه عليه السلام كان من الله تعالى الا من غيره او كان طبعيا والمنتهى عنه هو الخوف العقلي فلا منافاة فلا حاجة الى الدفع ١٢ لفقير الدهلوي
فى مضارعهم ومن عدّ العصا واليد مع التسع عدّ الأخيرين واحدا ولم يعد الفلق لانه لم يبعث به الى فرعون او التقدير اذهب فى تسع آيات على انه استيناف بالإرسال فيتعلق به قوله إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وعلى الأولين تقدير هاهنا مبعوثا او مرسلا على انه حال من فاعل الق وادخل على سبيل التنازع إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تعليل للارسال..
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا يعنى جاءهم موسى بها مُبْصِرَةً اى بينة واضحة اسم فاعل بمعنى اسم المفعول اشعارا بانها لفرط وضوحها للابصار صارت بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر او ذات بصر يبصر بها قالُوا يعنى فرعون وقومه هذا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح سحريته وجملة لمّا جاءتهم معطوفة على جملة محذوفة معطوفة على نودى تقديره نودى ان الق عصاك وادخل يدك فى جيبك اذهب فى تسع آيات الى فرعون وقومه او مبعوثا إليهم اذهب إليهم فالقى موسى عصاه وادخل يده فى جيبه ثم ذهب الى فرعون قومه فلمّا جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين.
وَجَحَدُوا بِها اى أنكروا بايتنا انّها من عند الله «١» عطف على قالوا وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ اى وقد استيقنتها لان الواو الحال والاستيقان ابلغ من الإيقان ظُلْماً وَعُلُوًّا منصوبان على العلة او حالان من فاعل جحدوا يعنى لاجل الظلم والتكبر او ظالمين أنفسهم باستيجارهم النار المؤبدة متكبرين عن الايمان بما جاء به موسى فَانْظُرْ ايها المخاطب نظر استبصار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ كيف خبر لكان قدم عليه لاقتضائه الصدارة والجملة مفعول لانظر يعنى انظر كيفية عاقبتهم حيث اغرقوا فى الدنيا فادخلوا نارا بعد الموت..
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً بذات الله سبحانه على حسب الطاقة البشرية وبصفاته وأحكامه وبأحوال المبدا والمعاد ومنطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ولانه الحديد وَقالا شكرا للنعمة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بالنبوة والكتاب وغير ذلك عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عطفه بالواو اشعارا بان ما قالا بعض ما أتيا به فى مقابلة النعمة فهو معطوف على محذوف تقديره فعلا على حسب ما علما وعرفا حق النعمة وقالا هذا القول ولولا تقدير المحذوف لكان المناسب الفاء موضع الواو كما فى قولك أعطيته
(١) قال البيضاوي رحمة الله تعالى وحجدوا بها اى فى ظاهر أمرهم إلخ فلا يردان الجحود بعد اليقين مستبعد ١٢ الفقير الدهلوي
نشكر وفى الاية دليل على شرف العلم وكونه موجبا للفضل وتقدم العلماء على من سواهم قال رسول الله ﷺ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وان العلماء ورثة الأنبياء وان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما انما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ يحظ وافر. رواه احمد والترمذي وابو داود وابن ماجة من حديث كثير بن قيس وسماه الترمذي قيس بن كثير وقال رسول الله ﷺ فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم الحديث رواه الترمذي عن ابى امامة الباهلي وفيها تحريض على الشكر على نعمة العلم وعلى ان يتواضع ويعتقد بانه وان فضل على كثير فقد فضل عليه كثير وفوق كلّ ذى علم عليم-.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ نبوته وملكه وعلمه كذا اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة واحتجّت الروافض بهذه الاية على ان الأنبياء يورثون كغيرهم وهى حجة عليهم لا لهم لدلالتها على انه ورث سليمان دون سائر أولاد داود وقد كان لداود تسعة عشر ابنا- والإرث عبارة عن ان ينقل شىء الى أحد بعد ما كان لغيره من غير عقد جرى بينهم ولا ما يجرى مجرى العقد سواء كان بينهما قرابة اولا قال الله تعالى وأورثناها بنى إسرائيل وأورثكم ارضهم وديارهم- ومعنى قوله ﷺ لا نورث انه لا يملك أحد من الناس مال نبى بعد موته بل يكون ماله موقوفا محبوسا على ملك الله تعالى قال البغوي اعطى سليمان ما أعطي داؤد وزيد له تسخير الريح والشياطين وقال وقال مقاتل كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضي منه وكان داود أشد تعبدا من سليمان وكان سليمان شاكرا لنعم الله قلت وكذا داود وَقالَ سليمان يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فيه شكر لنعمة الله عليه ودعاء للناس الى التصديق بذكر المعجزة. والنطق والمنطق عبارة عما يعبر به عما فى الضمير مفردا كان او مركبا فى القاموس نطق ينطق نطقا ومنطقا ونطوقا تكلم بصوت وحروف يعرف بها المعاني ولما كان فهم المعاني للناس منحصرا فيما يتلفظ به الإنسان زعموه من خواص الإنسان. ولمّا كان سليمان عليه السلام يفهم من صوت الطير ما فى ضميرها كما كان يفهم من كلام الإنسان سماه منطقا قال البغوي روى عن كعب قال صاح ورشان عند سليمان فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول. لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة فقال أتدرون ما تقول قالوا لا قال انها تقول ليت هذا الخلق لم يخلق وصلح طاءوس فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول من لا يرحم لا يرحم وصاح صرد فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول استغفروا
103
لله يا مذنبون قال وصاحت طيطوى «١» فقال أتدرون ما تقول قالوا لا قال فانها يقول كل هى ميّت وكل جديد بال وصلح خطاف فقال أتدرون ما تقول قالوا لا قال انه يقول قدموا خيرا تجدوه وهدرت حمامة فقال أتدرون ما تقول قالوا لا قال تقول سبحان ربى الا على ملأ سماواته وارضه وصاح قمرى فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال فانه يقول سبحان ربى الا على قال والغراب يدعوا على العشار والحدأة تقول كل شىء هالك الا الله والقسطاة تقول من سكت سلم والببغاء يقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان ربى القدوس والبازي يقول سبحان ربى وبحمده والضفدعة سبحان المذكور بكل لسان. وعن مكحول قال صاح دراج عند سليمان فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال فانه يقول الرحمان على العرش استوى. وعن فرقد السيحى قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال أتدرون ما يقول هذا البلبل قالوا الله ونبيه اعلم قال انه يقول أكلت ونصف تمرة فعلى الدنيا العفا- وروى ان جماعة من اليهود قالوا لابن عباس انا سائلون عن سبعة أشياء فان اخبرتنا امنّا صدّقنا قال سلوا تفقها ولا تسئلوا تعنتا قالوا أخبرنا ما يقول القنبر «٢» فى صفيره والديك فى صقيعه والضفدع فى نقيفه والحمار فى تهيقه والفرس فى صهيله وماذا يقول الزرزور والدراج. قال نعم اما القنبر فيقول اللهم العن مبغضى محمد ومبغضى ال محمد والديك يقول اذكروا الله يا غافلون والضفدع يقول سبحان المعبود فى لجج البحار واما الحمار فيقول اللهم العن الغشار واما الفرس يقول إذا التقى الصفان سبوح قدوس رب الملائكة والروح واما الزرزور يقول اللهم انى أسئلك قوت يوم بيوم واما الدراج يقول الرحمان على العرش استوى فاسلم اليهود وحسن إسلامهم. وروى عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن على عليهم السلام قال إذا صاح النسر قال ابن آدم عشق ما شئت آخره الموت وإذا صاح العقاب قال السلامة فى البعد من الناس وإذا صاح
القنبر قال الهى العن مبغضى ال محمد وإذا صاح الخطاف قرأ الحمد لله ربّ العالمين ويمد الضّالّين كما يمد القاري. قلت ما روى عن كعب شرح أصوات الطيور عن سليمان عليه السلام وكذا ما روى عن مكحول وعن فرقد عنه عليه السلام يحتمل حمله على ان كل واحد منها واقعة هان ولا يدل على انحصار نطقهم فى الكلمات المذكورة وما قص الله تعالى فى هذه السورة قصة النمل والهدهد صريح فى انها تتكلم بكل ماسخ لها لكن ما روى من سوال اليهود وعن ابن عباس رضى الله عنه وجوابه إياهم يدل على انحصار مقالهم فيما ذكر فان صح هذا
(١) طيطوى كنينوى ضرب من القطا او غيره كذا فى القاموس ١٢ الفقير الدهلوي [.....]
(٢) القنبر هكذا فى الأصل قال فى القاموس القبر كشكرّ وصرد طائر الواحدة بهاء ويقال القنبراءة قنابر ١٢ الفقير الدهلوي
104
الرواية لزم تأويلها والله اعلم وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ المراد به كثرة ما اولى كما يقال فلان يقصد كل أحد ويعلم كل شىء ومثله وأوتيت من كلّ شىء والضمير فى علّمنا وأوتينا له ولابيه عليهما السلام اوله ولاتباعه فان اتباعه يأخذون منه ما علمه الله وأعطاه اوله وحده تعظيما على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة. وقال ابن عباس المراد كل شىء من امر الدنيا والاخرة وقال مقاتل يعنى النبوة وو الملك وتسخير الشياطين والرياح إِنَّ هذا العطاء لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ يعنى ليس هذا باستحقاق منّا او جزاء لاعمالنا بل تفضل من الله تعالى او المعنى زيادة ظاهرة على من عدانا. وهذا القول وارد على الشكر كقوله صلى الله عليه واله وسلم انا سيد ولد آدم ولا فخر آدم ومن دونه تحت لوائى يوم القيامة امتثالا لقوله تعالى وامّا بنعمة ربّك فحدّث قال البغوي روى ان سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك سبع مائة سنة وستة أشهر جميع اهل الدنيا الجن والانس والطير والدوابّ والسباع واعطى مع ذلك العلم بمنطق كل شىء وفى زمنه صنعت الصنائع العجيبة.
وَحُشِرَ اى جمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فى مسير له فَهُمْ يُوزَعُونَ اى يكفون ويحبسون اى يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وفيه اشارة الى انهم مع كثرتهم لم يكونوا مبعدين. فى القاموس وزعته اى كففته ومنه الوزعة جمع وازع وهم المانعون من المحارم والكلب والزاجر والتوزيع القسمة والتفريق كالايزاع والتوزع وقال مقاتل يوزعون اى يساقون وقال السدىّ يوقضون قال محمد بن كعب كان معسكر سليمان عليه السلام مائة فرسخ خمسة وعشرون منها للجن وخمسة وعشرون منها للانس وخمسة وعشرون منها للطير خمسة وعشرون منها للوحش وكان له الف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاث مائة منكوحة وسبع مائة سرية يأمر الريح العاصف فترفعه ويأمر الرخاء فتسيره فاوحى الله اليه وهو يسير بين السماء والأرض انى قد زدتّ فى ملكك انه لا يتكلم أحد من الخلائق الا جاءت به الريح وأخبرتك.
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ وقف الكسائي بالياء فقال وادي والباقون بغير ياء النَّمْلِ تعدية الإتيان بعلى اما لان إتيانهم كان من عال واما لان المراد قطعه من قولهم اتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره روى عن وهب بن منبه عن كعب كان سليمان إذا ركب حمل اهله وخدمه وحشمه وقد أخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع فى قدر منها عشر جزائر وقد اتخذ ميادين الدواب له امامه فيطبخ الطباخون ويخبز الخيارون ويجرى الدواب من بين يديه بين السماء والأرض والريح تهوى فسار من إصطخر الى اليمن فسلك مدينة رسول الله ﷺ فقال هذه دار هجرة
نبى اخر الزمان طوبى لمن أمن به وطوبى لمن اتبعه وراى حول البيت أصناما تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فاوحى الله الى البيت ما يبكيك فقال يا رب أبكاني ان هذا نبى من أنبيائك وقوم من أوليائك مرو ابى ولم يصلّوا عندى والأصنام تعبد حولى من دونك فاوحى الله اليه ان لاتبك فانى سوف املؤك وجوها سجدا وانزل فيك قرأنا جديدا او ابعث منك نبيا فى اخر الزمان أحب انبيائى واجعل فيك عمارا من خلقى يعبدوننى وافرض على عبادى فريضة يدفون إليك دفيف «الدّفيف السير الغير الشديد كذا فى النهاية منه رح» النسور الى وكرها ويجنون إليك حنين الناقة الى ولدها والحمامة الى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبده الشياطين ثم مضى حتى مرّ بواد السدير واد من الطائف فاتى على واد النمل هكذا قال كعب انه واد بالطائف وقال مقاتل وقتادة هو ارض بالشام وقيل هو واد كان يسكنه الجن وأولئك النمل مراكبهم قال فرق الحميرى كان نمل ذلك الوادي أمثال الذباب وقيل كالبخاتى والمشهور انه النمل الصغير قالَتْ نَمْلَةٌ قال الشعبي كانت تلك النملة ذات جناحين وقيل كانت نملة عرجا وقال الضحاك كان اسمها طاحية وقال مقاتل كان اسمها حذمى يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لم يقل ادخلن لان الإنسان إذا تكلم وهو يرى غيره من الحيوانات غير عاقلة فيجعل لها ضمائر الجمادات كما يجعل للنساء ضمائرها الحاقا اياهن بغير ذوى العقول لضعف عقولهن واما الحيوانات إذا تكلم بعضها بعضا ترى أنفسها من ذوى العقول فتخاطب العقلاء فحكى الله سبحانه قول النملة كما قالت لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ نهى لهم عن الحطم والمراد نهيهن عن التوقف والبروز كيلا يؤدى الى حطمهم اياهن كقولهم لا ارينك هاهنا اى لا تقف هاهنا فهو استيناف او بدل من الأمر لا جواب له فان النون لا تدخله فى السعة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ انهم يحطمونكم ولو شعروا لم يفعلوا كانها شعرت عصمة سليمان وأصحابه من الإيذاء عمدا. فويل للروافض لم يشعروا شعور النملة حتى نسبوا الظلم الى اصحاب سيد الأنبياء- فان قيل كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على نساط بين السماء والأرض قيل كان بعض جنوده ركبانا ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم وقيل يحتمل ان يكون هذا قيل تسخير الريح لسليمان. وقال بعض اهل العرفان معناه لا يحطمنكم اشتغالكم بروية جنود سليمان وطمكه وما أعطاه الله من زهرة الحيوة الدنيا فيشغلكم عن ذكر الله ويهلككم فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال كذا قال مقاتل وذلك لما انه كلما كان يتكلم خلق الا حملت الريح فالقته فى مسامع سليمان.
فَتَبَسَّمَ سليمان عطف على محذوف تقديره فسمع سليمان مقالها وأدرك معناها ففرح بما سمع وأدرك ما لا يسمع ولا يدرك غيره وبوصفها إياه وجنوده بالعدل او تعجب
من حذرها وتحذيرها واهتدائها الى مصالحها فتبسم سرورا او تعجبا ضاحِكاً حال من فاعل تبسم يعنى تبسم مبالغا فى التبسم وأصلا الى الضحك وجاز ان يكون مصدرا اى تبسم تبسما شديدا كانه ضحك على طريقة قمت قائما قال الرجاج اكثر ضحك الأنبياء التبسم وقيل كان اوله التبسم وآخره الضحك. عن عائشة قالت ما رأيت رسول الله ﷺ قط ضاحكا مستجمعا حتى ارى لهواته انما كان يتبسم رواه البخاري وعن عبد الله بن الحارث بن جزء ما رايت أحدا اكثر تبسما من رسول الله ﷺ رواه الترمذي مِنْ قَوْلِها اى لاجل قول النملة فحبس جنوده حتى دخل النمل مساكنهم وَقالَ شكر الله وهضما لنفسه من أداء الشكر واستعانة من الله على شكره رَبِّ أَوْزِعْنِي قرأ ورش والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها والمعنى الهمنى قيل هذا ايضا بمعناه الحقيقي كما ان معناه الحبس والمنع كذا فى القاموس وقال البيضاوي معناه اجعلنى أزع شكر نعمتك عندى اى اكفه وارتبطه لا ينفلت عنى بحيث لا انفك عنه وقال بعض المحققين معناه اجعلنى بحيت أزع اى احبس نفسى عن الكفر وقيل معناه احبس نفسى عن كل شى غيرك أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ فان الانعام على الوالدين وجعل أحد ولدا الخيار الناس نعمة عليه قال الله تعالى الحقنا بهم ذرّيّتهم وما ألتناهم من عملهم من شىء وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ فى بقية عمرى وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي زمرة عِبادِكَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس يريد مع ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب ومن بعدهم من الأنبياء.
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ اى طلبها وبحث عنها والتفقد طلب ما فقد فلم يجد فيها الهدهد وكان سبب تفقده ان سليمان كان إذا نزل منزلا تظله جنده الطير من الشمس فأصابته من موضع الماء تحت الأرض كما يرى فى الزجاجة ويعرف قربه وبعده فينقر الأرض فتجئ الشياطين فيسلخونه ويستخرجون الماء. كذا اخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم والحاكم وصححه عنه قال سعيد بن جبير لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن ازرق يا وصاف انظر ما يقول ان الصبى يضع الفخ ويحثو عليه التراب فيجئ الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع فى عنقه فقال له ابن عباس ويحك ان القدر إذا جاء حال دون البصر. وفى رواية إذا جاء القضاء والقدر ذهب وعمى البصر. فنزل سليمان منزلا فاحتاج الى الماء فطلبوا فلم يجدوا فتفقد الهدهد ليدل على الماء فلم ير الهدهد وظن انه حاضر ولم يره لساتر او غير ذلك فَقالَ هذه الجملة معطوفة على تفقّد الطّير وهى معطوفة على محذوف معطوف على وحشر لسليمان جنوده تقديره وامر الطيور بالاظلال فوقع الشمس على
سريره فنظر وتفقّد الطّير او يقال حشر لسليمان جنوده فنزل منزلا فلم يجد الماء فطلب الهدهد وتفقّد الطّير فقال ما لِيَ قرأ عاصم وابن كثير والكسائي وهشام «وابن وردان بخلاف عنه. ابو محم» بفتح الياء والباقون بإسكانها لا أَرَى الْهُدْهُدَ الاستفهام للتعجب وجملة لا ارى حال من الضمير للمتكلم والعامل فيه معنى التعجب فلما لم يره بعد التفقد ولاح له انه غائب فاضرب عن ذلك وسال عن صحة ما لاح له فقال أَمْ كانَ أم منقطعة بمعنى بل والهمزة يعنى بل أكان الهدهد مِنَ الْغائِبِينَ ولمّا ثبت انه غائب قال.
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ليعتبر به أبناء جنسه قيل العذاب الشديد ان ينتف ريشه وذنبه ويلقيه فى الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل ولا من هو أم الأرض وقال مقاتل لاطلينّه بالقطران ولاشمسنّه وقيل لاودعنه القفص وقيل لافرقنّ بينه وبين الفه وقيل لاحبسته مع ضده وقيل اولا لزمنه خدمة اقرانه وكان التعذيب جائزا له عليه السلام أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي قرأ ابن كثير بنونين الاولى مشددة مفتوحة والثانية نون الوقاية والباقون بنون واحدة مشيددة مكسورة بِسُلْطانٍ مُبِينٍ اى بحجة بينة فى غيبته وعذر ظاهر والحلف فى الحقيقة على أحد الاقرين بتقدير عدم الثالث لكن لمّا اقتضى ذلك وقوع أحد الثلاثة ثلّث المحلوف عليه بعطفه عليهما وجاز ان يكون او فى او لياتينّى بمعنى الّا ان كما فى قولك لالزمنك او تعطينى حقى يعنى الا ان تعطينى حقى..
فَمَكَثَ الهدهد قرا عاصم «اى روح ابو محمد» ويعقوب بفتح الكاف والباقون بضمها وهما لغتان غَيْرَ بَعِيدٍ اى مكثا غير طويل او زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا من سليمان على نفسه وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء ان سليمان لمّا فرغ من بناء البيت المقدس عزم على الخروج الى ارض الحرم وامام هناك ما شاء الله ان يقيم وكان ينحر كل يوم طول مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين الف كبش وقال لمن حضره من اشراف قومه ان هذا مكان يخرج منه نبىّ عربىّ صفته كذا يعطى النصر على جميع من ناداه ويبلغ هيبته مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء لا تأخذه فى الله لومة لائم قالوا باىّ دين يدين يا نبى الله قال بدين الحنيفة فطوبى لمن أدركه وأمن به فقالوا كم بيننا وبين خروجه قال مقدار الف عام فليبلّغ الشاهد منكم الغائب فانه سيد الأنبياء وخاتم الرسل. قال فاقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة وسار صباحا نحو اليمن ووافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فراى أرضا حسنا تزهر خضرتها فاحب النزول بها ويصلى ويتغدّى فلمّا نزل قال الهدهد ان سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر الى طول الدنيا وعرضها ففعل ذلك
108
فنظر يمينا وشمالا فراى بستانا لبلقيس فسال الى الخضرة فوقع فيه فاذا هو بهدهد فهبط اليه وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان من اين أقبلت واين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبى سليمان بن داود فقال من سليمان قال ملك الجن والانس والشياطين والطير والوحوش والرياح فمن اين أنت قال من هذه البلاد قال ومن ملكها قال امراة يقال لها بلقيس وان لصاحبكم ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه ملكة اليمن كلها وتحت يدها اثنى عشر الف قائد تحت يد كل قائد مائة الف مقاتل فهل منطلق معى حتى تنظر الى ملكها قال أخاف ان تفقدنى سليمان فى وقت الصلاة إذا احتاج الى الماء قال الهدهد اليماني ان صاحبك يسره ان تأتيه بخير هذه الملكة فانطلق معه ونظر الى بلقيس وملكها وما رجع الى سليمان الا وقت العصر قال فلمّا نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة وكان نزل على غير الماء فسال الجن والانس والشياطين عن الماء فلم يعلموا فتفقّد الطير ففقد الهدهد فدعا عريف الطير وهو النسر فساله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك انا لا أدرى اين هو وما أرسلته فغضب عند ذلك ثم قال لاعذّبنّه عذابا شديدا او لاذبحنّه او لياتينّى بسلطان مبين ثم دعا العقاب سيد الطير فقال علىّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الى الدنيا كالقصعة بين يدى أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فاذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده فلما راى الهدهد ذلك علم ان العقاب يقصده بسوء فناشده الله الذي قواك وأقدرك علىّ الا رحمتنى ولم تتعرض لى بسوء قال قولى عنه العقاب فقال له ويلك ثكلتك أمك ان نبى الله قد حلف ان يعذبك او يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلمّا انتهيا الى العسكر تلقاه المنسر والطير فقالوا له ويلك اين غبت فى يومك هذا لقد توعدك نبى الله وأخبره بما قال فقال الهدهد ما استثنى رسول الله قالوا بلى قال او ليايتينّى بسلطان مبين قال فنجوت إذا ثمّ طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبى الله فلما راه الهدهد رفع راسه وارخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان فلما دنى منه أخذ برأسه فمده اليه فقال له اين كنت لا عذبنك عذابا شديدا فقال الهدهد اذكر وقوفك بين يدى الله عزّ وجلّ فلمّا سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ثم ساله فقال ما الّذى ابطاك عنى فَقالَ الهدهد عطف على محذوف تقديره فانى فقال أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ الإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته واستعماله فى غير علم الله سبحانه اما بطريق المجاز او المبالغة والمعنى علمت مستيقنا ما لم تعلم وفى مخاطبته إياه بذلك تنبيه
109
على ان فى ادنى خلق الله تعالى من أحاط علما ما لم يحط به سليمان ليتحاقر
اليه نفسه ويتصاغر لديه علمه وفيه دليل على بطلان قول الروافض ان الامام لا يخفى عليه شىء ولا يكون فى زمانه اعلم منه وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ اسم بلد باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة ايام قرأ ابو عمرو والبزي من سبا وبسبا فى سورة سبأ مفتوحة الهمزة بلا تنوين غير منصرف على تأويل البلدة او المدينة وقرأ قنبل ساكنة الهمزة على نية الوقف والباقون بكسر الهمزة والتنوين منصرفا لما كان فى الأصل اسم رجل. قال البغوي جاء فى الحديث ان النبي صلى الله عليه واله وسلم سئل عن سبا فقال كان رجلا له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشام اربعة يعنى ستة منهم أخذوا اليمن وطنا والباقون أخذوا الشام وطنا بِنَبَإٍ يَقِينٍ اى بخبر متيقن قال سليمان وماذك قال.
إِنِّي وَجَدْتُ اى أصبت امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ صفة لامراة كان اسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان وكان أبوها ملك عظيم عظيم الشأن قد ولده أربعون ملكا وهو فى آخرهم وكان يملك ارض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفوا لى وابى ان يتزوج فيهم فزوجوه امراة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها. وورد فى الحديث ان احدى أبوي بلقيس كان جنيّا فلمّا مات ابو بلقيس طمعت فى الملك فطلبت من قومها ان يبايعوها فاطاعها قوم وعصاها آخرون فملّكوا عليهم رجلا وافترقوا فرقيتن كل فرقة استولت على طرف من اليمن ثم ان الرجل الّذى ملّكوه أساء السيرة فى اهل مملكته حتى كان يمديده الى حرم رعيته ويفجر بهن فاراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رات بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فارسلت اليه تعرض نفسها عليه وأجابها الملك وقال ما منعنى ان ابتداك بالخطبة الا الياس منك فقالت لا ارغب عنك كفو كريم فاجمع رجال قومى فاخطبنى إليهم فجمعهم وخطبها إليهم فقالوا لا نراها تفعل ذلك فقال لهم انما ابتدأت وانا أحب ان تسمعوا قولها فجاءوها فذكرو لها فقالت نعم أحببت الولد فزوجوها فلمّا زفت اليه خرجت فى أناس كثير من جيشها فلما راته سقته الخمر حتى سكر ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل الى منزلها فلمّا أصبح الناس راوا الملك قتيلا ورأسه منصوب على باب داره فطموا ان تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها فاجتمعوا إليها وقالوا أنت بهذا الملك أحق من غيرك (حديث) :- روى احمد والبخاري فى الصحيح والترمذي والنسائي عن ابى بكرة رضى الله عنه قال لما بلغ رسول الله ﷺ ان اهل فارس ملّكوا عليهم بنت كسرى قال لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امراة قوله تعالى وَأُوتِيَتْ حال بتقدير قد من فاعل تملكهم مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
يحتاج اليه الملوك من الآلة والعدة او المراد به الكثرة كما سبق وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ حال بعد حال اى سرير ضخم كان مضروبا من الذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد عليه سبعة أبيات على كل بيت باب يغلق. روى ابن ابى حاتم عن زهير بن محمد قال سرير من ذهب وصفحتاه موصول بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا فى عرض أربعين ذراعا وقال ابن عباس كان عرش بلقيس ثلاثون ذراعا فى ثلاثين ذراعا وطوله فى السماء ثلاثون ذراعا وقال مقاتل كان طوله ثمانين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعا.
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ظرف متعلق بيسجدون وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة من عبادة الشمس وغيرها جملة وزين مع ما عطف عليه حال من فاعل يسجدون بتقدير قد فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ المستقيم فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ اليه عطف على يسجدون.
أَلَّا يَسْجُدُوا قرأ ابو جعفر والكسائي «رويس ابو محمد» الا بالتخفيف على انه حرف تنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف تقديره الا يا هؤلاء اسجدوا قال ابو عبيدة امر مستأنف من الله تعالى وجاز كونه امرا من سليمان لمن حضره وعلى هذا حذفت همزة الوصل فى الدرج والالف من حرف النداء لالتقاء الساكنين فى اللفظ وفى خط مثبتان وإذا قف وقف على الا او على يا وابتدا بقوله اسجدوا وقرأ الباقون الّا يسجدوا بالتشديد لاجل ادغام نون ان المصدرية فى اللام من حرف النفي الداخلة على المضارع وان مع صلته بتقدير حرف الجر متعلق بزين لهم او بصدهم- والمعنى زيّن لهم الشّيطان أعمالهم فصدّهم لئلا يسجدوا لله او يقال ان لا يسجدوا بدل من أعمالهم يعنى زين لهم الشيطان ان لا يسجدوا وجاز ان يكون لا زائدة وان مع صلتها متعلق بلا يهتدون تقديره فهم لا يهتدون ان يسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الخبء بمعنى المخبؤ وهو ما خفى غيره وإخراجه إظهاره قال اكثر المفسرين خبء السماوات المطر وخبء الأرض النبات وقيل يريد علم غيب السموات والأرض واللفظ يعم اشراق الكواكب وإنزال المطر وإنبات النبات وإخراج ما فى الشيء من القوة الى الفعل وإخراج ما فى الإمكان والعدم الى الوجوب والوجود ومعلوم انه يختص بالواجب لذاته فهو يستحق بالاستحقاق للسجود دون غيره وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ فى سرائركم وَما تُعْلِنُونَ فيجب الحذر من اشراكه غيره فى العبادة سرّا وعلانية قرأ الكسائي وحفض بالتاء فيهما على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ
بدل من الضمير او خبر ثان الله والجملة تعليل لا سجدوا يعنى فهو المستحق للسجود لا غير.
قالَ سليمان للهدهد سَنَنْظُرُ اى سنستعرف مشتق من النظر بمعنى التأمل أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ غيّر النظر ولم يقل أم كذبت للمبالغة (حيث جعلها منسلكا فى الكاذبين معدودا فيهم ويلزمه كونها كاذبا البتة) ورعاية الفواصل. فدلهم الهدهد على الماء فاحتفر والركايا وروى الناس والدواب ثم كتب كتابا. من عبد الله سليمان بن داود الى بلقيس ملكة سبا بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى اما بعد فلا تعلوا علىّ وأتوني مسلمين قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص الله فى كتابه وقال قتادة كذلك الأنبياء يكتب جملا لا يطيلن ولا يكثرون فلما كتب الكتاب وطبقه بالمسك وختمه بخاتمه قال للهدهد.
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ قرأ ابو عمرو وعاصم وحمزة بإسكان الصاد وابو جعفر ويعقوب باختلاسها كسرا والباقون بإشباع الكسرة إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ اى تنح عَنْهُمْ الى مكان قريب فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ اى ماذا يرجع بعضهم الى بعض من القول وأخذ الهدهد الكتاب واتى به بلقيس وكانت بأرض يقال لها مارب من صنعاء الى ثلاثة ايام فوافاه فى قصرها وقد غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها فاتاها الهدهد وهى نائمة مستلقية قفاها فالقى الكتاب على نحرها كذا اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة- وقال مقاتل حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون اليه حتى رفعت المرأة راسها فالقى الكتاب فى حجرها وقال ابن منبه وابن زيد كانت كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فاذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحيه فارتفعت الشمس فلم تعلمها فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرم الصحيفة إليها. فاخذت بلقيس الكتاب وكانت قارية فلما رات الخاتم ارتعدت وخضعت لان ملك سليمان كان فى خانمه وعرفت ان الّذى أرسل الكتاب أعظم ملكا منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد فجاءت ففعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر الف قائد مع كل قائد مائة الف مقاتل وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة الف قيل مع كل قيل مائة الف والقيل الملك دون الملك الأعظم وقال قتادة ومقاتل كان اهل مشورتها ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة الان قال فجاءوا فاخذوا مجالسهم.
قالَتْ لهم بلقيس يا أَيُّهَا الْمَلَأُ وهم اشراف الناس وكبراؤهم
إِنِّي أُلْقِيَ قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ قال عطاء والضحاك سمته كريما لانه كان مختوما قال رسول الله ﷺ كرامة الكتاب ختمه رواه الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس واخرج ابن مردوية فى القى الىّ كتاب كريم قال مختوم وروى عن ابن جريح كريم اى حسن وهو اختيار الزجاج وروى عن ابن عباس كريم اى شريف لشرف صاحبه قيل سمته كريما لغرابة شانه إذ كانت مستلقية فى بيت مغلقة الأبواب فدخل الهدهد من كوة وألقاه على نحرها بحيث لم تشعر به وقيل سمته كريما لكونه مصدرا ببسم الله الرحمان الرحيم ثم بينت ممن الكتاب فقالت.
إِنَّهُ اى الكتاب او العنوان مِنْ سُلَيْمانَ ثم بينت ما فيها فقالت وَإِنَّهُ اى المكتوب او المضمون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ان مفسرة او مصدرية وهو لصلته خبر محذوف اى هو او المقصود ان لا تعلوا او بدل من كتاب والمعنى لا تتكبروا ولا تمتنعوا من الاجابة فان ترك الاجابة من العلو والتكبر وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ مؤمنين او منقادين وهذا كلام فى غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدلالة على ذات الصانع وصفاته صريحا والتزاما والنهى عن الترفع الذي هى أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لامهات الفضائل وليس فيه الأمر بالانقياد قبل اقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد فان إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلائل..
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي اى أشيروا الىّ فيما عرض لى واجيبونى فيما أشاوركم فيه والفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الاحكام ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً اى حاكمة بامر حكما قطعيّا يقطع اختيار المحكوم عليه حَتَّى تَشْهَدُونِ اى حتى تحضروني وتشيرونى او تشهدوا على كونه صوابا جملة قالت مع ما فى حيزها بدل اشتمال من قالت السابقة.
قالُوا مجيبين لها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فى القتال وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ ٥ عند الحرب قال مقاتل أرادوا بالقوة كثرة العدد وبالبأس شدة الشجاعة. لما ان الاستشار منها دائرا بين الصلح والقتال وكان القتال أصعب الامرين أجابوا بامتثال أمرها فى القتال على خلاف ما قالت اليهود اذهب أنت وربّك فقاتلا انّا هاهنا قاعدون وهذا يدل على اجابة أمرها فى الصلح بالطريق الاولى ولذلك خيروها فى الامرين حيث قالوا وَالْأَمْرُ فى الصلح والقتال وفى كل شىء موكول إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ من المقاتلة والصلح ما استفهامية والجملة بتأويل المفرد مفعول لا نظرى يعنى فانظرى وتاملى حتى يتعين لك أمرك الّذى ينفعك
نطيعك ونتبع رأيك.
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً قهرا وعنوة أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بتهب أموالهم وتخريب ديارهم حتى يستقيم لهم أمرهما حذرتهم من دخول سليمان عليهم قهرا ثم صرحت بالتحذير وقالت وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ يعنى سليمان وجنوده وقيل هذا تأكيد لما وصف من حال الملوك وتقرير بان ذلك من عادتهم الثابتة المستمرة او تصديق من الله لقولها وفى هذا الكلام اشعار بانها ترى الصلح أصلح.
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بيان لما يرى تقديمه فى المصالحة والمعنى اتى مرسلة إليهم رسلا بهدية ادفعه بها عن ملكى والهدية اسم لما يهدى به كالعطية اسم لما يعطى قال البغوي أرادت بلقيس بإرسال الهدية اختيار سليمان املك هو أم نبى تعنى ان كان ملكا قبل الهدية وانصرف وان كان نبيّا لم يرض الا بأتباعه على دينه فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فاهدت اليه وصفا ووصائف قال ابن عباس ألبستهم لباسا واحدا لئلا يعرف ذكر من أنثى وقال مجاهد ومقاتل البس الغلمان لباس الجواري والبس الجواري لباس الغلمان واختلفوا فى عددهم قال ابن عباس مائة وصف ومائه وصيفة وقال مجاهد مائتى غلام ومائتى جارية وقال سعيد بن جبير أرسلت اليه بلبنة فى حرير وديباج وقال ثابت البناني أهدت له صعاع الذهب فى اوعية الديباج وقيل كانت اربعة لبنات من ذهب وقال وهب وغيره عمدت بلقيس الى خمس مائة غلام وخمس مائة جارية فالبست الجواري لباس الغلمان الاقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت فى سواعدهم أساور من ذهب وفى أعناقهم اطواقا من ذهب وفى آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بانواع الجمال وحملت الجواري على خمس مائة رمكة والغلمان على خمس مائة برذون على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت اليه خمس مائة لبنة من فضة وتاجا مكلّلا بالدّر والياقوت المرتفع وأرسلت اليه المسك والعنبر والعود الألنجوج وعمدت الى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوّجة الثقب ودعت رجلا من اشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت اليه رجالا من قومها اصحاب رأى وعقل وكتبت معه كتابا بنسخة الهدية وقالت ان كنت نبيّا فميز بين الوصفة والوصائف واخبر بما فى الحقة قبل ان تفتحها واثقب الدرة ثقبا مستويّا وادخل خيط الخرزة المثقوبة من غير علاج انس ولا جن وأمرت بلقيس الغلمان إذا تكلم لكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء وأمرت الجواري ان تكلمينه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال
114
ثم قالت للرسول انظر الى الرجل فان نظر إليك نظر غضب فاعلم انه ملك ولا يهو لئك منظره فانا أعز منه وان رايت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم انه نبى مرسل فتفهم قوله ورد الجواب فانطلق الرسل بالهدايا واقبل الهدهد مسرما الى سليمان فاخبره كله فامر سليمان الجن ان يضربو البنات الذهب والفضة ففعلوا ثم أمرهم ان يبسطوا من مرضعه الذي هو فيه الى تسع فراسخ ميدانا واحد البنات الذهب والفضة وان يجعلوا حول الميدان حائطا مشرفها من الذهب والفضة ففعلوا ثم قال اى الدواب احسن ممّا رايتم فى البحر والبر قالوا يا نبى الله انا راينا دوابّا فى بحر كذا منقطعة مختلفة ألوانها لها اجنحة واعراف ونواص قال علىّ بها الساعة فاتوا بها قال شددوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة والقوا علوفها ثم قال للجن علىّ باولادكم فاجتمع خلق كثير فاقام على يمين الميدان ويساره ثم قعد سليمان فى مجلسه على سريره ووضع له اربعة آلاف كرسى عن يمينه ومثله عن يساره فامر الشياطين ان يصفوا صفوفا فراسخ عن يمينه ويساره فلما دنا القوم ونظروا الى ملك سليمان وراوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها قط تروث على لبن الذهب والفضة تقاصرت أنفسهم ورموا ما معهم من الهدايا. وفى بعض الروايات ان سليمان لما امر بفرش لبنات الذهب والفضة أمرهم ان يتركوا على طريقهم موضعا على قدر اللبنات التي معهم فلما را الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الأرض معروضة خافوا ان يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم فى ذلك المكان فلمّا راوا الشياطين نظروا الى منظر عجيب ففزعوا فقال لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم فكانوا يمرّون على كردوس كردوس من الجن والانس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدى سليمان فنظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق قال ما وراءكم فاخبره رئيس القوم بما جاءوا به وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه فقال اين الحقة فاتى بها فحركها وجاءه جبرئيل فاخبره بما فى الحقة فقال ان فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب فقال الرسول صدقت فاثقب الدرة وادخل الخيط فى الخوزة فقال
سليمان من لى بثقبها فسال سليمان الانس ثم الجن فلم يكن عندهم علم بذلك ثم سال الشياطين فقالوا ترسل الى الارضة فاخذت شعرة فى فيها فدخلته فيها حتى خرجت من الجانب الاخر فقال لها ما حاجتك فقالت تصير رزقى فى الشجرة فقال لك ذلك وروى انها جاءت رودة فى الصفصاف فقالت انا ادخل الخيط فى الثقب على ان أيكون رزقى فى الصفصاف فجعل لها ذلك فاخذت الخيط فى فيها ودخلت فى الثقب وخرجت من الجانب الاخر فقال سليمان ما حاجتك قالت ان يجعل رزقى فى الفواكه قال لك ذلك ثم
115
ميّزه بين الجواري والغلمان بان أمرهم ان يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الانية بإحدى يديها ثم تجعل على اليد الاخرى ثم تضرب بها الوجه والغلام كما يأخذ من الانية يضرب به وجهه وكانت الجارية نصب على باطن ساعدها والغلام على ظهر الساعد وكانت الجارية تصب صبّا وكان الغلام يحدر الماء على يده حدرا فميّز بيهن ثم رد سليمان الهدية كما قال الله عزّ وجل هذا ما ذكره البغوي وهو مأخوذ من روايات مختلفة اخرج بعضها ابن ابى حاتم عن السدىّ وبعضها ابن المنذر وابن ابى حاتم عن يزيد بن رومان-.
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ الرسول او ما أهدت اليه قالَ أَتُمِدُّونَنِ قرأ حمزة ويعقوب تمدّونّى بنون واحدة مشددة واثبات ياء المتكلم فى الحالين والباقون بنونين خفيفتين واثبت ابن كثير الياء فى الحالين وأثبتها فى الوصل فقط نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابو عمرو والباقون يحذفو لها فى الحالين بِمالٍ تنوين مال للتحقير والخطاب للرسول ومن معه او للرسول والمرسل على تغليب المخاطب والاستفهام للانكار يعنى لا حاجة لى الى امدادكم ايّاى بالهدية ولا وقع لها عندى فَما آتانِيَ اللَّهُ من الدين والنبوة والحكمة والملك لا مزيد عليه قرأ قالون وحفص وابو عمرو «وقفا ابو محمد» بخلاف عنهم بإثبات الباء مفتوحة فى الوصل «بلا خلاف» ساكنة فى الوقف وورش «وابو جعفر- ابو محمد» بالياء المفتوحة وصلا وحذفها وقفا والباقون بحذف الياء فى الحالين «١» خَيْرٌ اى أفضل مِمَّا آتاكُمْ تطيل الإنكار المذكور بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لانكم لا تعلمون الا ظاهرا من الحيوة الدنيا فتفرحون بما اهديتم حبّا لزيادة أموالكم او بما تهدونه الى غيركم افتخارا على أمثالكم إضراب عن مفهوم ما سبق من الإنكار يعنى لا افرح بل أنتم تفرحون وبيان لما حملهم عليه وهو قياس حاله على حالهم فى قصور الهمة بالدنيا والزيادة فيها. ثم قال للمنذر بن عمرو.
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ يعنى الى بلقيس وقومها فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ جواب قسم محذوف والفاء للسببية بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لا طاقة لَهُمْ بِها اى بمقاومتها الجملة صفة لجنود وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها اى من ارضهم أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ اى ذليلون تأكيد لقوله اذلّة وقيل اذلة ضدا عزة وذلك بذهاب عزهم وملكهم والصغار وقوعهم فى الاسر يعنى لنخرجنهم منها ان لم ياتونى مسلمين قال وهب وغيره انه لما رجع رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به من طاقة فبعثت الى سليمان انى قادمة إليك بملوك قومى حتى انظر إليك وما تدعوننا اليه من دينك ثم أمرت بعرشها فجعل فى اخر سبعة أبيات بعضها فى بعضها او فى قصر من
(١) قرأ يعقوب وقفا بإثبات الياء الساكنة وقرأو يس وصلا بفتح الياء وروح بالحذف ابو محمد رح.
سبع قصور لها ثم أغلقت دونه الأبواب ووكلت به حرسا يحفظونه ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما فى قبلك وسرير ملكى لا يخلص اليه أحد ولا برينه حتى اتيك. ثم أمرت مناديا ينادى فى اهل مملكتها يؤذّنهم بالرحيل وشخصت الى سليمان فى اثنى عشر الف قيل من مملوك اليمن تحت يدى كل قيل ألوف كثيرة قال ابن عباس كان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدا بشئ حتى يكون هو الذي يسئل عنه فخرج يومه فجلس على سرير مملكته فراى «الغبار. منه رح» رهجا قريبا منه فقال ما هذا قالو بلقيس قد نزلت منها بهذا المكان وكان على مسيرة فرسخ من سليمان قال ابن عباس وكان بين الحيرة والكوفة قدر فرسخ فاقبل سليمان حينئذ على جنوده و.
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها أراد بذلك ان يريها قدرة الله وعظم سلطانه فى معجزة يأتى بها فى عرشها ويختبر عقلها بان ينكّر عرشها فينظرا تعرفه أم تنكره قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فانها إذا أتت مسلمة لم يحل اخذه الا برضاها.
قالَ عِفْرِيتٌ قال الضحاك هو الخبيث وقال الفراء هو القوىّ الشديد قال ابن قتيبة العفريت الموثق الخلق وأصله من العفر اى التراب يقال عاقره إذا صارعه فالقاه على العافر اى التراب مِنَ الْجِنِّ قال وهب اسمه لوذى وقيل ذكمان وقيل صخر الجنى وكان بمنزلة الجبل يضع قدمه عند منتهى طرف أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ اى مجلسك الّذى تقضى فيه قال ابن عباس له كل غداة مجلس يقضى فيه الى نصف النهار وَإِنِّي عَلَيْهِ على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ على ما فيه من الجواهر هذه الجملة حال من فاعل اتيك قال سليمان انا أريد اسرع من هذا.
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ اخرج ابن ابى حاتم عن ابن لهيعة انه خضر وقال بعضهم هو جبرئيل عليه السلام وقيل هو ملك من الملائكة أيد الله به نبيه سليمان عليه السلام وقال اكثر المفسرين هو اصف بن برخيا وكان صدّيقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به اعطى روى جرير ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس ان اصف قال لسليمان حين صلى مدّ عينيك حتى ينتهى طرفك فمد سليمان عينيه فنظر نحو اليمن ودعا اصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير تحت الأرض تخد «اى تشق الأرض منه الأخدود. منه رح» خدّا حتى تخرقت الأرض بالسرير بين يدى سليمان وقال الكلبي خرّ اصف ساجدا فدعا باسم الله الأعظم فمال عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسى سليمان قيل كانت مقدار شهرين واختلفوا فى الدعاء الذي دعا به اصف فقال مجاهد ومقاتل يا ذا الجلال والإكرام وقال الكلبي يا حى يا قيوم وروى ذلك عن عائشة رضى الله
عنها وروى عن الزهري قال دعاء الذي عنده علم الكتاب يا الهنا واله كل شىء الها واحدا لا اله الا أنت ايتني بعرشها. وقد بحثنا عن اسم الله الأعظم فى صدر سورة ال عمران وقول الزهري يوافق ما اخترت وقال محمد بن المنكدر الّذى عنده علم من الكتاب هو سليمان عليه السلام نفسه أتاه الله علما وفهما فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وان هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب فى أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ للعفريت كانه أراد اظهار معجزة فنحدّاهم اولا فلمّا قال عفريت ما قال استبطأه فقال له ذلك وأراد به انه يتاتى له ما لا يتهيا لعفاريت عن الحسن فضلا عن غيرهم والمراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة او اللوح واتيك فى الموضعين صالح للفعلية والاسمية والطرف تحريك الأجفان للنظر ولمّا كان الناظر يوصف بإرسال الطرف وصف بردّ الطرف والطرف بالارتداد والمعنى انك ترسل طرفك نحو شىء فقيل ان ترده احضر عرشها وهذا غاية الاسراع ومثّل فيه.
فَلَمَّا رَآهُ سليمان معطوف على محذوف تقديره فامره سليمان بالإتيان بالسرير فدعا باسم الله الأعظم فمال عرشها تحت الأرض فنبع عند سرير سليمان فلما راه مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ شكرا للنعمة كما هو دأب المخلصين من عباد الله هذا اى التمكن من إحضار العرش فى مدة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه او غيره مِنْ فَضْلِ رَبِّي اى بعض افضاله علىّ لِيَبْلُوَنِي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمّد» بفتح الياء والباقون بإسكانها اى فضل علىّ لاجل ابتلائى أَأَشْكُرُ نعمة فاراه فضلا من الله من غير حول منى ولا قوة وأقوم بحقه أَمْ أَكْفُرُ بان أجد نفسى أهلا لها او اقصر فى أداء موجبه ومحلهما النصب على البدل من الضمير المنصوب فى ليبلونى وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لانه به يستحب دوام النعمة ومزيدها فان الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة وبه يفرغ ذمته عن الواجب ويرتفع درجته عند الله تعالى ويستحق اجرا فى دار الجزاء قال رسول الله ﷺ الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر- رواه احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم بسند صحيح عن ابى هريرة ورواه احمد وابن ماجة بسند صحيح عن سنان بن سنة بلفظ الطاعم الشاكر له مثل اجر الصائم الصابر وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره كَرِيمٌ ينعم على الشاكر والكافر جواب الشرط محذوف أقيم دليله مقامه تقديره ومن كفر فلا يضر ربى لانه غنى كريم.
قالَ سليمان نَكِّرُوا لَها اى لبلقيس عَرْشَها يعنى اجعلوها بحيث لا تعرفها إذا رأت روى
انه جعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله وجعل مكان الجوهر الأحمر الأخضر ومكان الأخضر الأحمر نَنْظُرْ مجذوم على جواب الأمر أَتَهْتَدِي الى معرفته او للجواب الصواب أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ وانما حمل سليمان على ذلك (على ما ذكره كعب ووهب وغيرهما) ان الشياطين خافت ان يتزوجها سليمان فتفشى اليه اسرار الجن لان أمها كانت جنيّة وإذا ولدت ولدا لا ينفكون من تسخير ولده وذريته من بعده فاساء والثناء عليها ليزهدوه فيها وقالوا ان فى عقلها شيئا وان رجليها كحافر الحمار وانها شعراء الساقين فاراد سليمان ان يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر الى قدمها ببناء الصرح.
فَلَمَّا جاءَتْ عطف على قوله فلمّا جاء سليمان قال أتمدّونن بمال وما بينهما معترضات قِيلَ لها أَهكَذا عَرْشُكِ شبّه الأمر عليها زيادة فى امتحان عقلها قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قال مقاتل عرفته ولكنها شبّهت عليهم كما شبّهوا عليها وقيل اشتبه الأمر عليها فلم يقل نعم ولا لاخوفا من الكذب فعرف سليمان عقلها حيث لم تقر ولم تنكر. وقيل لها فانه عرشك فما اغنى عنك إغلاق الأبواب والحرس فقالت وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بكمال قدره الله وصحة نبوة سليمان مِنْ قَبْلِها اى قبل اية العرش بايات اخر من إلقاء هدهد الكتاب وامر الهدية والرسل وقيل انه من كلام سليمان عليه السلام وقومه عطفه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله تعالى ورسله جوّزت ان يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا وإحضاره ثمه من المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله ولا يظهر الا على أيدي الأنبياء عليهم السلام والمعنى وأوتينا العلم بالله تعالى وقدرته وصحة ما جاء من عنده قبلها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ منقادين لحكمه لم نزل على دينه ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم الله عليهم من التقدم فى ذلك شكرا له وقيل معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله عزّ وجلّ.
وَصَدَّها اى منعها سليمان عليه السلام ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى عن عبادة الشمس فما فى محل النصب بحذف حرف الجر وإيصال الفعل اليه وقيل ما فى محل الرفع والمعنى وصدّها عن التوحيد ما كانت تعبد من دون الله لا نقصان عقلها كما قالت الجن ان فى عقلها شيئا إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ استيناف اخبر الله تعالى انها كانت من قوم تعبد الشمس فنشات فيهم ولم تعرف الا عبادة الشمس.
ثم أراد سليمان ان ينظر الى قدميها وساقيها من غير ان يسئلها كشفها لما قالت الشياطين
ان رجليها كحافر الحمار وهى شعراء الساقين فامر الشياطين ان يبنوا له صرحا اى قصرا من زجاج وقيل بيتا من زجاج كانه الماء بياضا وقيل الصرح صحن الدار والحضري تحته الماء والقى فيه كل شىء من دوابّ البحر السمك والضفادع وغيرهما. ثم وضع سريره على صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والانس والجن وقيل اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل الحيطان والضفادع فكان إذا راه أحد ظنّه الماء. فلما جلس على السرير دعا بلقيس فلمّا جاءت.
لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ
عطف على محذوف تقديره فدخلته يعنى من الباب ورأته اى الصرح بلا حجاب قبل ورودها فلمّا راته سِبَتْهُ لُجَّةً
من ماء كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لتخوضه قرا قنبل عن ساقيها هاهنا وفى ص بالسّؤق وفى الفتح على سؤقه بالهمزة فى الثلاثة- والباقون بغير همزة اخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم فى حديث طويل عن ابن عباس ان سليمان امر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج ابيض واجرى من تحته الماء والقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره فى صدره فجلس عليه فلما بصرته ظنته ماء راكدا فكشف عن ساقيها لتخوضه وتخلص الى سليمان فنظر سليمان فاذا هى احسن الناس ساقا وقد ما الا انها شعراء الساقين فلمّا راى سليمان ذلك صر بصره عنها ومن هاهنا يظهر ان النظر الى الاجنبية على ارادة خطبة النكاح جائز قال رسول الله ﷺ إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع ان ينظر الى ما يدعوه الى نكاحها فليفعل- رواه ابو داود عن جابر وروى احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدار هى عن مغيرة بن شعبة قال خطبت امراة فقال لى رسول الله ﷺ هل نظرت إليها قلت لا قال فانظر إليها فانه أحرى ان يؤدم بينكماالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
اى مملس ومنه الأمرنْ قَوارِيرَ
من زجاج الَتْ
حين رات المعجزة من سليمان بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بالكفر وعبادة الشمس فتبت عنه الان أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
اى أخلصت له التوحيد وقيل انها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت فى نفسها ان سليمان يريد ان يغرقها وكان القتل أهون من هذا فقالت انّى ظلمت نفسى بذلك الظن لسليمان عليه السلام فتبت عنه وأسلمت- واختلفوا فى أمرها بعد إسلامها فقال عون بن عبد الله سال رجل عبد الله بن عيينة هل تزوجها سليمان قال انتهى أمرها الى قولها وأسلمت مع سليمان لله ربّ العلمين يعنى لا علم لنا وراء ذلك وقال بعضهم تزوجها أخرجه ابن عساكر عن عكرمة ولما أراد ان يتزوجها كره ما راى من كثرة شعر ساقيها فسال الانس
ما يذهب هذا قالوا الموسى فقالت المرأة لم تمسنى حديدة قط فكره سليمان الموسى وقال انه يقطع فسال الجن فقالوا لا ندرى ثم سال الشياطين فقالوا انا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ فلمّا تزوجها سليمان أحبها حبّا شديدا فاقرها على ملكها وامر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا وهى سلحون وسنون وعمد ان ثم كان سليمان يزورها كل شهر مرة بعد ان ردها الى ملكها يقيم عندها ثلاثة ايام يبتكر من الشام الى اليمن ومن اليمن الى الشام وولد له منها ذكر وروى عن وهب قال زعموا ان بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلا من قومك أزوجكه قالت ومثلى يا نبى الله تنكح الرجال وقد كان لى فى قومى من الملك والسلطان ما كان قال نعم انه لا يكون فى الإسلام الا ذلك ولا ينبغى لك ان تحرمى ما أحل الله لك فقالت زوجنى ان كان لا بد ذلك من ذى تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردها الى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ودعا رديعه امير جن اليمن فقال اعمل لذى تبع ما استعملك فيه فلم تزل ملكا يعمل له فيه ما أراد حتى مات سليمان فلما ان حال الحول وتبينت الجن موت سليمان اقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان فى جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجن ان ملك سليمان قد مات فارفعوا ايديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك ذى تبع وملك بلقيس مع ملك سليمن- قلت نظر سليمان الى ساق بلقيس يؤيد قول من قال انه نكحها ويأبى قول من قال انه انكحها ذا تبع والله اعلم قيل ان الملك وصل الى سليمان وهو ابن ثلاث عشر سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة سبحان الله من لا زوال لملكه- شعر
لا ملك سليمان ولا بلقيس لا آدم فى الكون ولا إبليس
والكل فصورة وأنت المعنى يا من هو للقلوب مقناطيس والله اعلم.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً جواب قسم محذوف وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى ولقد اتينا داود وسليمان وقوله صالحا بدل من أخاهم أَنِ مفسرة لارسلنا او مصدرية بتقدير الباء اى بان اعْبُدُوا اللَّهَ وحده فَإِذا هُمْ مبتدا خبره فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ صفة لفريقين اى ففاجرا التفرق والاختصام فامن فريق وكفر فريق والواو فى يختصمون لمجموع الفريقين قال اختصامهم ما ذكر فى سورة الأعراف قال الّذين استكبروا من قومه للّذين استضعفوا الى قوله ان كنت من المرسلين.
قالَ لهم صالح يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ اى بالعقوبة حيث تقولون يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين قَبْلَ الْحَسَنَةِ اى قبل التوبة حيث
تاخرونها الى نزول العذاب الاستفهام للانكار والتوبيخ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ بالتوبة من كفركم قبل نزول العذاب لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ اى لكى ترحموا بقبولها فانها لا تقبل بعد ما ترون العذاب.
قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ اى تشامنا بكم إذ وقع بيننا الافتراق حين اخترعتم دينا او تتابع علينا الشدائد وامسك عنا المطر قالوا هذه الضراء والشدة من شومك وشوم أصحابك قالَ طائِرُكُمْ اى شومكم يعنى سبب شومكم الذي جاء منه شر عِنْدَ اللَّهِ وهو قضاؤه او عملكم المكتوب عنده سمى القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان فانه لا شىء اسرع من قضاء مختوم وسمى العمل طائرا لسرعة صعوده الى السماء وقال ابن عباس طائركم عند الله يعنى شومكم أتاكم من عند الله لكفركم وقيل سمى الشوم طائرا لان اهل الجاهلية كانوا يتشامون بصوت الطائر ومروره على تهج معين معروف عندهم إذا سافروا المستعير لفظ الطائر للشوم لذلك العرف بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ إضراب عن مفهوم الكلام السابق يعنى ليس طائركم منى ومن أصحابي بل أنتم تفتنون اى تعذبون بكفركم كذا قال محمد بن كعب وقال ابن عباس تختبرون بالخير والشر نظيره قوله تعالى ونبلوكم بالشّرّ والخير فتنة.
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ اى مدينة ثمود وهى الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ اى تسعة انفس وقع الرهط تميز للتسعة باعتبار المعنى فان معناه الجماعة من الثلاثة او السبعة الى العشرة كما ان النفر من الثلاثة الى التسعة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ خبر لكان واسمه تسعة رهط وفى المدينة حال منه او ظرف وَلا يُصْلِحُونَ يعنى كان شانهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح وهم أبناء الشر افهم الذين اتفقوا على عقر الناقة وهم غواة قوم صالح واشقياهم وأشقاهم قزار بن سالف وهو الذي تولى عقرها.
قالُوا استيناف او حال بتقدير قد يعنى قال بعضهم لبعض تَقاسَمُوا يعنى تحالفوا بالله هو امر مقولة قالوا او فعل ماضى وقع بدلا من قالوا او حال بإضمار قد من فاعل قالوا لَنُبَيِّتَنَّهُ اى لنقتلن صالحا بياتا اى ليلا وَأَهْلَهُ اى قومه الذين اسلموا به ثُمَّ لَنَقُولَنَّ قرأ الأعمش و «خلف- ابو محمد و» حمزة والكسائي لتبيّننّه ولتقوّلنّ بالتاء للخطاب فيما بينهم فيهما وضم التاء الثانية فى الاولى وضم اللام فى الثانية لدلالتها على الواو المحذوفة للجمع والباقون بالنون للتكلم وفتح التاء واللام لِوَلِيِّهِ لولى دمه ما شَهِدْنا اى ما حضرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ قرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام من الإهلاك يحتمل للمصدر والزمان والمكان وكذا على قراءة حفص بفتح الميم وكسر اللام من الهلاك فان مفعلا قد جاء مصدرا لمرجع وقرأ ابو بكر بالفتح فيكون مصدرا وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعنى ونحلف
انّا لصادقون او والحال انّا لصادقون فيما ذكر لان الشاهد للشئ غير المباشر له عرفا او لانا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رايت ثم رجلا بل رجلين..
وَمَكَرُوا مَكْراً اى غدروا غدرا حيث قصدوا تبييت صالح وَمَكَرْنا مَكْراً بان جعلناها سببا لاهلاكهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من فاعل مكرنا.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ عاقبة اسم كان وكيف خبره مقدم عليه لصدارته والاستفهام للتعجب. والجملة الاستفهامية بتأويل المفرد مفعول لانظر أَنَّا دَمَّرْناهُمْ قرأ الكوفيون ويعقوب انّا بفتح الهمزة على انه خبر مبتدا محذوف او بدل من اسم كان او خبر له وكيف حال او التقدير لانّا دمّرناهم والباقون بكسر الهمزة على الاستيناف وعلى هذا ان كان كان ناقصة فخبرها كيف وان كان تامة فكيف حال ولا يجوز ان يكون انّا دمّرناهم خبر كان لعدم العائد- اختلفوا فى كيفية إهلاكهم قال ابن عباس أرسل الله الملائكة تلك الليلة الى دار صالح يحرسونه فاتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلهم وقال مقاتل جلسوا فى سفح الجيل ينتظرون بعضهم ليأتوا دار صالح فحثم عليهم الجبل فاهلكهم الله تعالى اخرج عبد الرزاق وعيد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة قال مكر الله بهم رماهم بصخرة فاخذتهم وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ اهلكهم الله تعالى بالصيحة.
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً اى خالية من خوى البطن إذا خلا او ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط منصوب على الحال والعامل فيه معنى الاشارة بِما ظَلَمُوا اى خاوية بسبب كفرهم وظلمهم إِنَّ فِي ذلِكَ اى فيما فعل يثمود لَآيَةً على كمال قدر تناء صدق الأنبياء لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيتعظون به.
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي وهم صالح ومن معه وكانوا اربعة آلاف.
وَلُوطاً منصوب بفعل مضمر يدل عليه قوله لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ تقديره وأرسلنا لوطا وجاز ان يكون منصوبا باذكر إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف لفعل مقدر وهو اذكر او متعلق بأرسلنا على تقدير كونه عاملا فى لوطا او بدل من لوط على تقدير كونه منصوبا باذكر أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ اى الفعلة البالغة فى القبح الاستفهام للانكار والتوبيخ وكذا الاستفهام الثاني وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ اى تعلمون فخشها من بصر القبائح مع ان اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح وقيل معناه ويبصر بعضكم بعضا فانهم كانوا يعلنون بها ويفعلونها بمشهد القوم فيكون افحش او المعنى وأنتم تبصرون اثار من قبلكم من العصاة وما نزل بهم.
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ
اللائي خلقن لذلك بيان لاتيانهم الفاحشة وشهوة منصوب على العلية للدلالة على قبحه والتنبيه على ان الحكمة فى المواقعة طلب النسل لاقتضاء الشهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ اى تفعلون فعل من يجهل بقبحها او يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبح او تجهلون العاقبة والتاء فى تجهلون لكون الموصوف به فى معنى المخاطب قيل اجتمع هاهنا الخطاب بقوله أنتم والغيبة بقوله قوم فغلب الخطاب على الغيبة. وهذه الآيات تدل على ان حسن الافعال وقبحها ثابتة لها فى أنفسها قبل ورود الشرع وان كانت معرفة بعضها متوقفة على الشرع.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ اى يتنزهون عن أفعالنا او عن الاقذار وجملة انهم أناس فى مقام التعليل للاخراج.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها اى قدرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ اى الباقين فى العذاب.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى امر الله تعالى رسوله ﷺ بعد ناقص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظمة شأنه وما خص به رسله من الآيات والتشريفات ان يحمد الله على إهلاك الكفار من الأمم الخالية وعلى جميع نعمه وعلى اعلامه ما جهل من أحوالهم وان يسلم على من اصطفاه من عباده عرفانا بفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم فى الدين وقوله الَّذِينَ اصْطَفى قال مقاتل هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وقال ابن عباس فى رواية مالك هم اصحاب محمد ﷺ عن سفيان الثوري انها نزلت فى اصحاب محمد ﷺ وقال الكلبي هم امة محمد ﷺ بدليل قوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الاية وقيل هم المؤمنون كلهم السابقون واللاحقون- وقيل هذا من تمام قصة لوط عليه السلام وخطاب للوط عليه السلام بتقدير القول يعنى وقلنا له قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إلخ امره بان يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلّم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة من الهلاك او على محمد وأمته فان ما وصل بالأنبياء والأمم من الكرامات ودفع البليّات كان ببركة نوره صلى الله عليه واله وسلم قال رسول الله ﷺ كنت أول الناس فى الخلق وآخرهم فى البعث.
رواه ابو سعد عن قتادة مرسلا وقال رسول الله ﷺ كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد
124
رواه ابن سعد بسند صحيح عن ميسرة بن سعد عن ابى الجدعاء والطبراني عن ابن عباس آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ متصل بما سبق فى صدر السورة إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ الى قوله هُمُ الْأَخْسَرُونَ وهذا الزام وهكم بهم وتسفيه لرأيهم بعد ما ذكر من القصص الدالة على قدرته تعالى على إكرام عباده الصّلحين وكبت أعدائه يعنى من هذا شانه هو مستحق للعبادة والخوف والرجاء خير من غيره امّا يشركونه من الأصنام وغيرها مما لا يضر ولا ينفع وضره اقرب من نفعه خير من الله القادر القاهر لمن يعبد- قرأ ابو عمرو وعاصم ويعقوب يشركون بالياء التحتانية على الغيبة والباقون بالتاء الفوقانية خطابا لاهل مكة اتيسوان پاره ختم.
125
(الجزء العشرون) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أم متصلة وما عطف عليه بأم محذوف تقديره ءالهتكم التي لم يخلقوا شيئا وهم يخلقون خير أم من خلق. وقيل منقطعة بمعنى بل والهمزة قيل للاضراب عن الاستفهام السابق لبداهة كون الله تعالى مبدا لكل خير وعدم الخيرية رأسا فيما اشركوه فكيف يمكن الموازنة والاستفهام عنه والهمزة للتقرير اى حمل المخاطب على الإقرار بخيرية من خلق السّموات والأرض وَأَنْزَلَ لَكُمْ اى لاجل انتفاعكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ اى بساتين جمع حديقة قال الفراء الحديقة البستان المحاط عليها فان لم يكن عليه حائط فليس بحديقة قال البيضاوي من الاحداق وهو الإحاطة ذاتَ بَهْجَةٍ اى حسن المنظر يبتهج به صفة لحدائق وافراد بهجة لتأويل حدائق بجماعة حدائق وفى الكلام التفات من الغيبة الى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته تعالى والتنبيه على ان اثبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما صرح بقوله ما كانَ اى ما يمكن لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها اى شجرة من أشجارها والاضافة للجنس والجملة ما كان لكم إلخ صفة لحدائق أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أعانه على ذلك الاستفهام للانكار يعنى ليس أحد أعانه على ذلك فلا مستحق للعبادة غيره معه لانفراده بالخلق بَلْ هُمْ يعنى كفار مكة قَوْمٌ يَعْدِلُونَ من لا يخلق بمن يخلق فيشركون به او المعنى بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ عن الحق الذي هو التوحيد فيه التفات من الخطاب الى الغيبة-.
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً بدل من أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ إلخ والكلام فى أم فى هذا وفى ما بعدها مثل ما سبق وجعلها قرارا إبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يمكن الاستقرار عليها
وَجَعَلَ خِلالَها وسطها ظرف مستقر وقع ثانى مفعول جعل وكذا فى الجملة التاليتين أَنْهاراً جارية وَجَعَلَ لَها اى للارض رَواسِيَ جبالا ثابتة منعها من الحركة واتبع منها الأنهار وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذاب والملح حاجِزاً مانعا من الاختلاط أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ليس كذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ انه لا اله الا هو لاهمالهم النظر الصحيح مع الادلة القاطعة فيشركون به جهلا وبعضهم يعلمون ذلك ولكن ينكرونه تعنتا وعنادا.
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ اسم فاعل من الاضطرار وهو افتعال من الضر يعنى من ابتلى بضر أحوجه شدته الى الجاء الى الله تعالى يجيبه إِذا دَعاهُ بفضله إنشاء فان اللام فى المضطر للجنس دون الاستغراق فلا يلزم منه اجابة كل مضطر وَيَكْشِفُ اى يدفع السُّوءَ الّذى ألجأه الى الدعاء وَيَجْعَلُكُمْ عطف على يجيب خُلَفاءَ الْأَرْضِ اى خلفاء من قبلكم فى الأرض بان ورّثكم سكناها والتصرف فيها او سلطانها- وقيل يعنى جعلكم خلفاء الجن فى الأرض قلت ويمكن ان يقال معناه جعل منكم خلفاء الله تعالى فى ارضه بدليل قوله تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً... أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي خلقكم بهذه النعم العامة والخاصة يعنى ليس كذلك قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ الا الله ما مزيدة وقليلا منصوب يتذكرون على المصدرية او على الظرفية والمراد بالقلة العدم او الحقارة المزيحة للفائدة قرأ ابو عمرو وهشام يذّكّرون بالياء للغيبة والباقون بالتاء للخطاب وقرأ حمزة «خلف- ابو محمد» والكسائي وحفص بتخفيف الذال والباقون بتشديدها..
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ بالنجوم وعلامات الأرض فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إذا سافرتم فى الليالى أضاف الظلمات الى البحر والبرّ للملابسة وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعنى المطر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر مثل ذلك تَعالَى اللَّهُ القادر الخالق عَمَّا يُشْرِكُونَ عن اشراك العاجز المخلوق-.
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الاماتة والكفار وان أنكروا الاعادة فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها من النقل المشهود عليه بالمعجزات مع إمكانها عقلا وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ اى من اسباب سماوية واسباب ارضية أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر على ذلك قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ان مع الله الها اخر يقدر على شىء من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى الإشراك فان كمال القدرة من لوازم الالوهية قال البغوي ولمّا سال
المشركون النبي ﷺ عن وقت قيام الساعة نزلت.
قُلْ يا محمد فى جوابهم لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملئكة وَمن فى الْأَرْضِ من الجن والانس ومنهم الأنبياء عليهم السلام من موصول او موصوف الْغَيْبَ يعنى ما غاب عن مشاعرهم ولم يقم عليه دليل عقلى إِلَّا اللَّهُ لكن الله يعلم ما غاب عنهم وغيره تعالى لا يعلم الا بإعلامه فالاستثناء منقطع لانه تعالى منزه عن الاستقرار فى السموات والأرض ورفعه على لغة بنى تميم فانهم يجيزون النصب والبدل فى المنقطع كما فى المتصل وعليه قول الشاعر- شعر
وبلدة ليس بها أنيس... الا اليعافير والا العيس
وقيل الاستثناء متصل ودخول المستثنى فى المستثنى منه على سبيل فرض المحال وفرض المحال ليس بمحال وقال فى البحر المواج المستثنى منه محذوف وفى الكلام حذف تقديره لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ لا يعلمه أحد الّا الله فهذه الجملة تعليل لنفى العلم قلت ويمكن ان يكون التقدير لا يعلم من فى السّموات والأرض الغيب بشئ الّا بالله اى بتعليمه وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ اى متى يحشرون يعنى وقت حشرهم ممّا لا يدرك بالمشاعر فهو من الغيب الذي لا يمكن العلم به والاطلاع عليه الا بتعليم من الله تعالى وانه تعالى لم يطلع على ذلك أحدا بل استأثر علمه لنفسه فلا يتصور لهم العلم به وهذا تخصيص بعد تعميم وفائدته التأكيد ومطابقة الجواب السؤال وحتم احتمال التخصيص فانه قوله تعالى لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ يفيد نفى علمهم بالغيب وذلك مخصوص بما حصل لهم بتعليم من الله تعالى بتوسط الرسل-.
بَلِ ادَّارَكَ كذا قرأ ابو جعفر وابن كثير وابو عمرو بهمزة القطع على وزن أكرم من الافعال اى بلغ ولحق عِلْمُهُمْ فاعل لادرك فِي الْآخِرَةِ ظرف لادرك والمفعول محذوف دلّ عليه ما سبق والمعنى انهم لا يدركون وقت قيام الساعة فى الدنيا قط بل يدرك علمهم ذلك فى الاخرة إذا عاينوه او المعنى بل أدرك علمهم اليوم بتعليم الرسل ﷺ إياهم فى شأن الاخرة أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لكنهم لا يعلمون وقت مجيئها وفرأ الباقون بل ادّرك أصله تدارك يعنى تدارك وتكامل علمهم وحصل لهم اليوم بتعليم الرسول صلى الله عليهم وسلم فى شأن الاخرة او يحصل لهم العلم بذلك إذا عاينوه يقال تدارك الفاكهة إذا تكاملت نضجا وحصول العلم القطعي للمؤمنين فى الدنيا ظاهر وللكافرين باعتبار قيام الادلة الموجبة للقطع مقامه بَلْ هُمْ يعنى كفار مكة فِي شَكٍّ مِنْها اى من قيام الساعة بعد وجود ما يوجب القطع
من اخبار الرّسول ﷺ المؤيد بالمعجزات وقيل قوله بل ادّرك على طريقة الاستفهام معناه هل تدارك وتتابع علمهم فى الاخرة يعنى لم يتتابع وضل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه لان فى الاستفهام ضربا من الجحد يدل هذا التأويل قراءة ابن عباس بلى بإثبات الالف المكتوب بصورة الياء ءادّرك بفتح الهمزة للاستفهام وسقوط همزة الوصل اى لم يدرك وفى قراءة أبيّ أم تدارك علمهم والعرب يضع بل موضع أم وأم موضع بل وذكر على بن عيسى وإسحاق ان بل فى بل ادّرك بمعنى لو والمعنى لو أدركوا فى الدنيا ما أدركوه فى الاخرة لم يشكوا بل هم اليوم فى شك من الساعة بَلْ هُمْ مِنْها اى من الساعة عَمُونَ جمع عمى وهو عمى القلب نفى الله عنهم علم الغيب اولا ثم أكّد ذلك بنفي شعورهم بما هو ما لهم لا محالة ثم بالغ فيه بان اضرب عنه وبيّن ان منتهى علمهم وما تكامل فيه اسباب العلم من الحجج والآيات مقصور على ان القيامة كائنة لا محالة وهم لا يعلمونها كما ينبغى ثم اضرب عنه وقال بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ منها بعد تكامل الادلة كمن يتحير فى امر لا يجد عليه دليلا فهم لا يستطيعون ازالة الشك ثم اضرب عنه وقال بل هم فى أسوأ حال منه فانهم عمون لا يدركون دليلهم لاختلال بصيرتهم وهذا او ان اختص بالمشركين فمن فى السموات والأرض نسب الى جميعهم كما يسند فعل البعض الى الكل وقيل الاضراب الاول عن نفى الشعور بوقت القيامة عنهم بوضعهم باستحكام علمهم فى امر الاخرة تهكما وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدرك الشمرة لانها تلك غايتها التي عندها يعدم وما بعدها إضراب عن علمهم بامر الاخرة مبالغة فى نفيه ودلالة على ان شعورهم بها انهم شاكون فيها ثم اضرب عنه وقال هُمْ مِنْها عَمُونَ ليس لهم صلاحبة العلم أصلا-.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على مضمون قوله تعالى بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ وكالبيان له وضع المظهر هاهنا موضع الضمير ولم يقل وقالوا لكون ذكر الكافرين مجملا فيما سبق أإذا قرأ «وابو جعفر- ابو محمد» نافع إذا بغير همزة الاستفهام على صيغة الخبر وهمزة الاستفهام على هذا مقدرة والباقون بهمزتين على الاستفهام كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا قرأ ابن عامر والكسائي بنونين أحدهما للوقاية وبهمزة واحدة على صيغة الخبر وتقدير همزة الاستفهام والباقون بنون واحدة وهمزتين على الاستفهام وضمير أإنّا راجع إليهم والى ابائهم غلبت الحكاية على الغائب لَمُخْرَجُونَ من القبور أحياء ومن حال الموت الى الحيوة وهذا كالبيان لعمهم والعامل فى إذا محذوف دل عليه مخرجون تقديره انخرج إذا كنا ترابا أنحن مخرجون حينئذ والاستفهام للانكار- والجملة الاستفهامية
الثانية تأكيد للاولى تكرير للانكار مبالغة له ولا يجوز ان يكون مخرجون عاملا فى إذا لان كلام من الهمزة وانّ واللام مانعة من عمله فيما قبله.
لَقَدْ وُعِدْنا هذا اى البعث جواب قسم محذوف نَحْنُ على لسان محمد ﷺ وَآباؤُنا على لسان غيره من الأنبياء مِنْ قَبْلُ وعد محمد ﷺ وتقديم هذا على نحن هاهنا لان المقصود بالذكر هاهنا هو البعث وحيث اخّر فالمقصود هو المبعوث إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها كالاسمار.
قُلْ يا محمد سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ تهديد لهم على التكذيب وتخويف بان ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم والتعبير عنهم بالمجرمين ليكون لطفا بالمؤمنين فى ترك الجرائم.
وَلا تَحْزَنْ يا محمد عَلَيْهِمْ اى على تكذيبهم واعراضهم وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ قرأ ابن كثير بكسر الضاد والباقون بالفتح وهما لغتان يعنى لا تكن فى ضيق صدر وغم مِمَّا يَمْكُرُونَ من للسببية وما مصدرية اى بسبب مكرهم قال البغوي نزلت فى المستهزئين الّذين عقاب مكة يعنى ان الله بالغ أمرك الى الكمال..
وَيَقُولُونَ عطف على قال الَّذِينَ كَفَرُوا وما بينهما معترضات مَتى هذَا الْوَعْدُ اى الموعود من العذاب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ان العذاب نازل.
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ اى ردفكم واللام مزيدة للتاكيد يعنى عسى ان يتبعكم ويلحقكم بلا مهلة بَعْضُ تنازع فيه الفعلان يكون وردف اعمل أحدهما وأضمر فى الاخر الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ حلوله وهو عذاب يوم بدر قال البيضاوي عسى ولعل وسوف فى مواعيد الملوك كالجزم بها وانما يطلقونه إظهارا لوقارهم واشعارا بان الرمزة منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده وهذا المعنى قول من قال ان عسى ولعل فى كلام الله واجبة الوقوع يعنى واما فى الوعيد فيجوز العفو بشرط الايمان واما الكافر فلا يستحق العفو وقوله تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ليس من هذا الباب ومن ثم لم يوجد من فرعون تذكر ولا خشية.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فيغفر المؤمن ان شاء ولا يستعجل الكافر بالعذاب وكذلك لم يعجل على اهل مكة بالعذاب كذا قال المقاتل هذه الجملة اما حال او معترضة وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ولا يعرفون حق النعمة فيستعجلون العذاب بحملهم.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ اى ما نخفى صدور الناس وَما
يُعْلِنُونَ
اى الناس من عداوتك فيجازيهم عليه وليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم وهذه الجملة معطوفة على عسى فان عسى فى كلام الله كالتحقق.
وَما مِنْ غائِبَةٍ اسم ما ومن زائدة اى ما من شىء غائب عن أبصار الناس وهى من الصفات الغالبة كالخافية والتاء فيهما للمبالغة كما فى الرواية او اسمان لما يغيب ويختفى فالتاء فيه كالتاء فى عافية وعاقبة وقال البغوي هى صفة لمحذوف اى جملة غائبة من مكتوم سر وخفى امر وشىء غائب كائنة فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ظرف لغو متعلق بغائبة إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ مستثنى مفرغ خبر ما اى بين او مبين ما فيه لمن يطالعه وهو اللوح المحفوظ.
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ اى يبيّن لهم أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من امر الدين قال الكلبي ان اهل الكتاب اختلفوا بينهم وصاروا أحزابا يطعن بعضهم فنزل القران ببيان ما اختلفوا فيه هذه الجملة مع ما عطف عليه متصل بقوله تعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ واقعة عنها مقام التعليل وما بينهما معترضات.
وَإِنَّهُ اى القران لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فانهم هم المنتفعون به دون الكفار من اهل الكتاب وغيرهم.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي اى يحكم بَيْنَهُمْ اى بين المختلفين فى امر الدين يوم القيامة بِحُكْمِهِ متعلق بيقضى فان قيل قوله يقضى معناه يحكم فكيف يتعلق به بحكمه فانه نظير ينصره بنصره وذالا يجوز قلنا المراد الحكم هذا بمعنى المحكوم والمعنى يحكم بما حكم به فى القران او المراد بحكمته وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا رادّ لقضائه الْعَلِيمُ بحقيقة ما يقضى فيه وحكمته.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ولا تبال بمن عاداك متصل بقوله إِنَّ رَبَّكَ يقضى بينهم إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ البين حقيقة علل التوكل بانه على الحق الظاهر الّذى لا مساغ فيه اشارة الى ان صاحب الحق حقيق بالوثوق على الله ونصره.
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى اى الكفار شبّههم بالموتى لعدم الانتفاع لهم بتسامع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالأصم فى قوله تعالى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ والدعاء مفعول للفعلين على التنازع قرا ابن كثير لا يسمع بالياء وفتحها وفتح الميم على صيغة الغائب من المجرد والصّمّ بالرفع على الفاعلية وكذلك فى سورة الروم والباقون بالتاء وضمها وكسر الميم على صيغة المخاطب من الاستماع ونصب الصّمّ على المفعولية إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ فان قيل ما معنى لهذا القيد فان الأصم الذي لا يسمع سواء عليه ان يولّى او لا قيل ذكره على التأكيد والمبالغة وقيل الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع برفع الصوت او يفهم
بالاشارة او الكتابة فاذا ولى لم يسمع ولم يفهم رأسا يعنى ان الكفار لفرطا عراضهم عما يدعون اليه كالميت الّذى لا سبيل الى استماعه وكالاصم المدبر الذي لا سبيل الى افهامه قيل الظرف متعلق بالفعلين على سبيل التنازع ويرد عليه ان نسبة التولي الى الأصم جائز والى الموتى لا يجوز فكيف يتصور التنازع والجواب ان الموتى والأصم كلا منهما مستعار للكافر وهو من اهل التولي ويسمى هذه الاستعارة استعارة مجروة وهى ان يوصف المستعار بوصف ملائم للمستعار له والله اعلم-.
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ قرأ الأعمش وحمزة هاهنا وفى الروم تهدى بالتاء المفتوحة واسكان الهاء بغير الف على صيغة المضارع والعمى بالنصب وإذا وقف اثبت ياء تهدى فى السورتين والباقون بالياء المكسورة وصيغة اسم الفاعل مضافا والعمى بالجر ووقفوا هاهنا بالياء وفى الروم بغير ياء اتباعا للمصحف عَنْ ضَلالَتِهِمْ يعنى ما أنت بمرشد من أعمى الله قلبه عن الايمان إِنْ تُسْمِعُ يعنى لا تسمع ولا ينفع اسماعك القران أحدا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يعنى من قدّرنا إيمانه فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون من اسلم وجهه لله-.
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعنى إذ دنا وقوع معنى ما قيل عليهم اى ما وعدوا به من البعث والعذاب أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً قال البغوي روى عن على رضى الله عنه ليس بدابة لها ذنب ولكن لها لحية كانه يشير الى انه رجل والأكثر على انها دابة ذات اربع قوائم. اخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال الدابة ذات وبر وريش مولفة فيها من كل لون لها اربع قوائم ثم يخرج بعقب من الحاج وروى عن جريح عن ابى الزبير انه وصف الدابة فقال رأسها رأس الثور وعينها عين الخنزير واذنها اذن الفيل وقرنها قرن ابل وصدرها صدر اسد ولونها لون تمر وخاصرتها خاصرورة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنى عشر ذراعا معها عصا موسى وخاتم سليمان فلا يبقى مومن الا نكتت فى مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء يضئ بها وجهه ولا يبقى كافر الا نكتت وجهه بخاتم سليمان نكتة سوداء فيسود بها وجهه حتى ان الناس يتبايعون فى الأسواق بكم يا مؤمن بكم يا كافر ثم تقول لهم الدابة يا فلان أنت من اهل الجنة يا فلان أنت من اهل النار وذلك قوله عزّ وجلّ وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ متعلق باخرجنا روى البغوي عن ابن عمر رضى الله عنهما قال تخرج من صدع فى الصفا كجرى الفرس ثلاثة ايام وما خرج ثلثا وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما انه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال ان الدابة تسمع قرع عصاى. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها السحاب ورجلاها فى الأرض
132
ما خرجتا فتمرّ بالإنسان يصلى فتقول ما الصلاة من حاجتك فتخطمه.
وذكر البغوي حديث ابى شريحة الأنصاري رضى الله عنه عن النبي ﷺ قال تكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا باليمن فيفشو ذكرها فى البادية ويدخل ذكرها القرية يعنى مكة ثم بينا الناس يوما فى أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله عزّ وجل يعنى المسجد الحرام لم تر عنهم الا هو فى ناحية المسجد يدنو ويدنو كذا قال عمرو ما بين الركن الأسود الى باب بنى مخزوم فى وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبت لها عصابة عرفوا انهم لم يعجزوا الله مخرجت عليهم تنفض راسها من التراب فمرّت بهم فجلّت عن وجوههم حتى تركتها كانها الكواكب الدرية ثم دكت فى الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى ان الرجل ليقوم فيعود منها بالصلوة فيأتيه من خلفه فتقول يا فلان الان تصلى فتقبل بوجهه وتسمه فى وجهه فتجاوز الناس فى ديارهم وتصطحبون فى أسفارهم وتشتركون فى الأموال ويعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر وعن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال ذكر رسول الله ﷺ الدابة قلت يا رسول الله من اين تخرج قال من أعظم المساجد هرمة على الله تعالى بينهما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وتنشق الصفا مما يلى المشرق وتخرج الدابّة من الصفا أول ما يبدو منها رأسها بلمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب وتسم الناس مومنا وكافرا اما المؤمن فتترك وجهه كانه كوكب درى ونكتت بين عينيه مومن واما الكافر فنكتت بين عينيه نكتة سوداء ونكتت بين عينيه كافر. رواه البغوي وكذا اخرج ابن جرير وروى البغوي عن سهل بن صالح عن أبيه عن ابن عباس رضى الله عنهما ان النبي ﷺ قال بئس الشعب شعب حناد مرتين او ثلاثا قيل ولم ذلك يا رسول الله قال تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها بين الخافقين قال وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من راها ان اهل مكة كانوا محمد والقران لا يوقنون- تُكَلِّمُهُمْ صفة لدابة يعنى تكلم الدابة الناس قال السدىّ تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى دين الإسلام وقال بعضهم كلامها ان تقول لواحد هذا مؤمن ولاخر هذا كافر كما مرّ فى الأحاديث وقيل كلامها ما قال الله تعالى أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ قال مقاتل تكلمهم بالعربية فتقول عن الله تعالى أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا
133
لا يُوقِنُونَ
تخبر الناس ان اهل مكة لم يؤمنوا بالقران والبعث- قرأ الكوفيون «ويعقوب- ابو محمد» انّ بالفتح وهو حكاية عن قول الدابة او على تقدير الجار تقديره بان او حكاية قول الله الّذى قيل عليه ودنا وقوعه او علة خروجها على حذف اللام على قول غيره وقرأ الآخرون انّ بالكسر على الاستيناف اى انّ الناس كانوا بايتنا لا يوقنون قبل خروجها قيل أراد بايتنا خروجها اى خروج دابة الأرض وسائر اشراط الساعة وأحوالها فانها من آيات الله تعالى- قال البغوي قرا ابن جبير وعاصم الجحدري وابو رجاء العطاردي تكلّم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم بمعنى الجرح وقال ابن الحوراء سألت ابن عباس عن هذه الاية تكلمهم او تكلّمهم فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلّم الكافر قال ابن عمر رضى الله عنهما وذلك يعنى خروج الدابة حين لا يؤمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر قال الشيخ جلال الدين المحلى ومن خروج الدابة ينقطع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا يؤمن كافر بعد ذلك كما اوحى الله الى نوح أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قلت وهذا يستنبط من الأحاديث والآثار- (فصل) عن ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال بادروا بالأعمال ستّا الدخان والدجال ودابّة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وامر العامة وخويصة أحدكم- رواه مسلم وعن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ان أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابّة على النّاس ضحى وأيتهما كانت قيل صاحبتها فالاخرى على اثرها قريبا- رواه مسلم وعن حذيفة بن اسد الغفاري قال اطلع النبي ﷺ ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون قالوا نذكر الساعة قال
انها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر ايت فذكر الدخان والدجال والدّابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج وثلث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب واخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس الى محشرهم. وفى رواية نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس الى المحشر- وفى رواية فى العاشرة وريح يلقى الناس فى البحر رواه مسلم وعن ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال تخرج الدّابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم انف الكافر بالخاتم حتى ان اهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا... يا كافر. رواه احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن ابى امامة عن النبي ﷺ قال تخرج الدابّة قسّم الناس على خراطيمهم ثم يعمرون فيكم حتى يشترى الرجل الدابّة فيقال ممّن اشتريت فيقول من الرجل المختم رواه احمد
134
عن ابن عمر رضى الله عنهما قال تخرج الدابّة ليلة جمع والناس يشيرون الى منى- واخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن الحسن ان موسى عليه السلام سال ربه ان يريد الدّابّة فخرجت ثلاثة ايام ولياليهن يذهب فى السماء لا يرى واحد من طرفيها قال فراى منظرا فظيعا فقال رب ردها فردها قلت والأحاديث المذكورة تدل على ان الدابة تميّز بين المؤمنين الصادقين فى ايمانهم وبين المنافقين الذين أظهروا الايمان وابطنوا الكفر والمراد بالكفر اما ضد الإسلام المجازى الّذى قلوب أهاليهم غير مصدقة بما جاء به النبي ﷺ واما ضد الإسلام الحقيقي الّذى قلوب أهاليهم وافقت ألسنتهم فى التصديق لكن لم يؤمن نفوسهم ولم تطمئن فان كان المراد بالكافر هذا المعنى فقول الدّابة يا فلان أنت من اهل النار يراد به دخولها لا خلودها ولا يجوز ان يكون المراد بالكفر المجاهر بالكفر لان المجاهر بالكفر لم يبق بمكة بعد الفتح وايضا المجاهر بالكفر ممتاز عن المسلمين قبل خروج الدابة لا حاجة فى امتيازهم الى الدابة والله اعلم.
وَيَوْمَ نَحْشُرُ يعنى يوم القيامة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً اى من كل قرن جماعة كلمة من هاهنا للتبعيض وفوجا مفعول لنحشر ومن كل امة حال منه قلت وذلك حين يقول الله تعالى لادم ابعث بعث النار من ذريتك وقد مرّ الحديث فى صدر سورة الحج مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا صفة لفوج ومن هاهنا للبيان اى فوجا مكذبين فَهُمْ يُوزَعُونَ اى يجلس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا قال البيضاوي هو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم.
حَتَّى ابتدائية داخلة على الشرطية إِذا جاؤُ الى المحشر قالَ الله تعالى لهم أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي الاستفهام للتوبيخ وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً الواو للحال يعنى أكذبتم بها بادى الرأى غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها وانها حقيقة بالتصديق او التكذيب او للعطف يعنى أجمعتم بين التكذيب بها وعدم النظر والتأمل فى حقيقتها أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تقديره أم لم تكذّبوا فان لم تكذّبوا فماذا كنتم ودع يعنى اىّ شىء كنتم تعملون غير التكذيب وهذا ايضا توبيخ وتبكيت إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون ان يقولوا فعلنا ذلك.
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ عطف على قال فى حيز جزاء الشرط اى وجب عليهم العذاب الموعود لهم بِما ظَلَمُوا اى بسبب ظلمهم اى تكذيبهم بايات الله فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ باعتذار إذ ليس لهم عذر فى نفس الأمر او لما لا يؤذن لهم فيعتذرون وقيل لا ينطقون لان أفواههم مختومة وقيل لا ينطقون لشغلهم بالعذاب والظاهر هو الاول يدل عليه قوله.
أَلَمْ يَرَوْا يعنى كيف يعتذرون على الكفر بعد رؤية الادلة الموجبة للايمان والاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات يعنى قد رئوا
أَنَّا جَعَلْنَا اى خلقنا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ بالنوم والقرار وَالنَّهارَ مُبْصِراً كان أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه يجعل الابصار حالا من أحواله المجعول عليه بحيث لا ينفك عنه وجملة انّا جعلنا قائم مقام المفعولين لقوله الم تروا فان الرؤية بمعنى العلم يعنى الم يعلموا بتعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص نافع مناط لمصالح معاشهم ومعادهم انّ لها خالقا حكيما قادر قاهرا وان من كان قادرا على ذلك قادر على بعثة الرسل ليدعوا الخلق الى عبادته وقادر على الانعام والانتقام على اطاعته وعصيانه وقادر على ابدال الموت بالحياة كما هو قادر على ابدال الظلمة بالنور واليقظة بالنوم وقد دلت المعجزات على صدق الرسل وما جاءوا به إِنَّ فِي ذلِكَ الأمور لَآياتٍ دالة على التوحيد وصدق الرسول فاىّ عذر للمكذب بعده وقيد ثبوت الآيات بقوله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لانهم هم المنتفعون بها قيل جملة الم يروا الى آخرها دليل للحشر فان تعاقب اليقظة النوم يدل على جواز تعاقب الحيوة الموت-.
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ معطوف على قوله ويوم نحشر عن ابن عمر ان أعرابيا سال رسول الله ﷺ عن الصور قال قرن ينفخ فيه. رواه ابو داود والترمذي وحسّنه والنسائي وابن حبان والحاكم وعن ابن مسعود نحوه رواه مسدد بسند صحيح وعن زيد بن أرقم قال قال رسول الله ﷺ كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واحنى جبهته وأصغى بالسمع متى يؤمر فسمع بذلك اصحاب رسول الله ﷺ فشق عليهم فقال رسول الله ﷺ قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل- وروى احمد والحاكم والبيهقي والطبراني عن ابن عباس رض نحوه والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابى سعيد نحوه وابو نعيم عن جابر نحوه واخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وهو صاحب الصور يعنى اسرافيل قال القرطبي علماء الأمم مجمعون على ان ينفخ فى الصور اسرافيل فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وأرواح المؤمنين وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الانس اختلف العلماء فى هذه النفخة هل هى الصعق او غير ذلك فقيل النفخات ثلاث أولها نفخة الفزع تفزع منها الخلائق ثانيتها نفخة الصعق تصعق اى تموت بها الخلائق ثالثتها نفخة البعث فهذه الاية تدل على نفخة الفزع وقوله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فيه اخرى فاذا هم قيام ينظرون تدل على نفخة الصعق ونفخة البعث وهذا اختيار ابن العربي. وقد صرّح بالنفخات الثلاث فى حديث طويل لابى هريرة وسنذكره من قريب. وقيل هما نفختان فقط ونفخة
136
الفزع هى نفخة الصعق قالوا الأمر ان متلازمان اى فزعوا فزعا ماتوا منه وهذا ما صححه القرطبي واستدل بانه استثنى من نفخة الفزع كما استثنى من نفخة الصعق حيث قال الله تعالى فيهما إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فدلّ على انهما واحد- وهذا الاستدلال غير صحيح لان الاستثناء منهما بقوله الا ما شاء الله لا يدل على اتحاد النفختين ولا على اتحاد المستثنى فيهما وان كان المستثنى منه فى الكلامين واحد قال البغوي واختلفوا فى هذا الاستثناء روى عن ابى هريرة رضى الله عنه ان النبي ﷺ سئل عن قوله تعالى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال هم الشهداء لانهم احياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم ثم ذكر البغوي قول الكلبي ومقاتل وذكر الحديث كما سنذكر من بعد لكن قول البغوي بالاختلاف فى هذه الاية مبنى على اتحاد نفخة الفزع ونفخة الصعق والظاهر انهما متغائران. فلنذكر الأحاديث والآثار الواردة فى الاستثناء روى ابو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال سالت جبرئيل عن هذه الاية وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من الّذين لم يشاء الله ان يصعقهم قال هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه قالوا وانما صح استثناء الشهداء لانهم احياء عند ربهم قال البغوي وفى بعض الآثار الشهداء ثنية الله عزّ وجل اى الذين استثناهم الله تعالى كذا روى هناذ بن السرى والبيهقي والنحاس فى معانى القران عن سعيد بن جبير فى قوله تعالى الا من شاء الله قال هم الشهداء مقلدون السيوف حول العرش وقال الكلبي ومقاتل يعنى جبرئيل واسرافيل وملك الموت عليهم السلام وذلك لما اخرج الفريابي فى تفسيره عن انس قال قال رسول الله ﷺ ونفخ فى الصّور فصعق من فى السّموات ومن فى الأرض الّا من شاء الله قالوا يا رسول الله من هولاء الذين استثنى الله قال جبرئيل وميكائيل وملك الموت واسرافيل وحملة العرش فاذا قبض الله أرواح الخلائق قال لملك الموت من بقي قال سبحانك ربى تبارك تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت فيقول خذ نفس اسرافيل فياخذ نفس اسرافيل فيقول يا ملك الموت من بقي فيقول سبحانك تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول خذ نفس ميكائيل فيأخذ نفس ميكائيل فيقع
كالطود العظيم فيقول يا ملك الموت من بقي فيقول بقي جبرائيل وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت- فيقول يا جبرائيل من بقي فيقول وجهك الكريم الباقي الدائم وجبرئيل الميت الفاني قال فلا بد من موته فيقع ساجدا يخفق جناحيه قال رسول الله صلى الله ﷺ ان فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على ظرب من الظراب. واخرج البيهقي عن
137
انس رفعه فى قوله فنفخ فى الصور الاية قال فكان ممن استثنى الله ثلاثة جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول الله وهو اعلم يا ملك الموت من بقي فيقول وجهك الباقي الكريم وعبدك جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول توف نفس ميكائيل فيقول وهو اعلم من بقي فيقول بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك جبرئيل وملك الموت فيقول توف نفس جبرئيل ثم يقول وهو اعلم يا ملك الموت من بقي فيقول بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك ملك الموت وهو ميت فيقول مت ثم يقول انا بدأت والخلق ثم أعيده فاين الجبارون المتكبرون فلا يجيبه أحد ثم ينادى لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول هو الله الواحد القهار ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ- واخرج البيهقي عن زيد بن اسلم قال الذي استثنى اثنا عشر جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت وحملة العرش ثمانية وقال البغوي يروى انه يقبض روح جبرئيل وميكائيل ثم روح حملة العرش ثم روح اسرافيل ثم روح ملك الموت واخرج البيهقي عن مقاتل بن سليمان يقبض روح ميكائيل ثم روح جبرئيل ثم روح اسرافيل ثم يأمر ملك الموت فيموت. واخرج ابو الشيخ فى كتاب العظمة عن وهب قال هؤلاء الاربعة جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت أول من خلقهم الله واخر من يميتهم وأول من يحييهم هم المدبّرات امرا والمقسّمات امرا. قال السيوطي لا تنافى بين هذه الروايات يعنى روايات الاستثناء لامكان الجمع بان الجميع من المستثنى. قلت الأحاديث والآثار المذكورة كلها واردة فى بيان الاستثناء الواقع فى نفخة الصعق لا ما وقع فى نفخة الفزع وعندى المستثنى فى نفخة الفزع ما دل عليه قوله تعالى فيما بعد مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فانه نص فى ان المؤمنين الّذين لا يدخلون النار ويدخلون الجنة لا ينحقهم الفزع لكن عند نفخة الفزع لا يكون من الناس الا الكفار لقوله ﷺ لا تقوم الساعة الا على الأشرار- رواه احمد ومسلم عن ابن مسعود وقوله ﷺ لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله الله. رواه احمد ومسلم والترمذي عن انس وقوله ﷺ لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت- رواه عبد الرزاق فى الجامع وقوله ﷺ لا تقوم الساعة حتى يرفع الركن والقران. رواه السنجري عن ابن عمر ويدل على ذلك غيرها من الأحاديث ولهذا حمل رسول الله ﷺ المستثنى على أرواح الشهداء فانهم احياء عند ربهم واما الملائكة وأرواح الأنبياء عليهم السلام فهم ايضا داخلون فى المستثنى ولا يفزعون البتة والله اعلم
138
روى ابن جرير فى تفسيره والطبراني فى المطولات وابو يعلى فى مسنده والبيهقي فى البعث وابو موسى المديني فى المطولات وعلى بن معبد فى كتاب الطاعة والعصيان وعبد بن حميد وابو الشيخ فى كتاب العظمة حديثا طويلا عن ابى هريرة ذكر فيه فينفخ ثلاث نفخات الاولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العلمين فيأمر الله اسرافيل بالنفخة الاولى فيقول الله انفخ نفخة الفزع فينفخ فيفزع اهل السماء والأرض الا من شاء الله. الى ان قال فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتى أقطار الأرض فتتلقاهم الملائكة فتضرب وجوهها فترجع وتولى الناس مدبرين ينادى بعضهم بعضا والذي يقول الله يوم التّناد الى ان قال قال رسول الله ﷺ والأموات يومئذ لا يعلمون بشئ من ذلك قلت يا رسول الله فمن استثنى الله فى قوله الا من شاء الله قال أولئك الشهداء
وانما يصل الفزع الى الاحياء وهم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وقاهم الله من فزع ذلك اليوم وامنهم منه وهو عذاب يبعثه على اشرار خلقه يقول الله يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ الاية فيمكثون فى ذلك ما شاء الله ثم يأمر الله اسرافيل بنفخة الصعق فصعق اهل السموات والأرض الا من شاء الله فيقول ملك الموت قد مات اهل السموات والأرض الا من شئت فيقول وهو اعلم فمن بقي ثم ذكر موت جبرئيل وميكائيل وحملة العرش وموت ملك الموت نحو ما تقدم من حديث انس ثم ذكر الحديث بطوله الى دخول اهل الجنة الجنة وبقاء اهل الخلود فى النار. فان قيل هذا الفزع لا يكون الا على شرار خلق الله من شياطين الانس والجن وليس أحد منهم فى السماء فما معنى قوله تعالى فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ قلت لعل ذلك على سبيل الفرض او يقال ان الشياطين قد يذهبون الى السماء لاستراق السمع او يقال المراد بالسماء السحاب ونحو ذلك فانه قد يطلق السماء على كل ما بفوقك قال الله تعالى فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ يعنى سقف بيتك او يقال المراد بمن يفزع من اهل السماء أرواح بعض المؤمنين ويكون المراد بمن سبقت لهم الحسنى الأنبياء والمقربون الصديقون- واما المستثنى من نفخة الصعق فالقول فيه ما قال صاحب المفهم التحقيق ان المراد بالصعق
139
ما هو أعم من الموت فلمن لم يمت الموت ولمن مات الغشية وهذا من قبيل عموم المجاز وهذه الغشية يعم الأنبياء عليهم السلام الا موسى عليه السلام فانه حصل فيه تردد- روى الشيخان فى الصحيحين والترمذي وابن ماجة واللفظ له عن ابى هريرة قال قال رجل من اليهود بسوق المدينة والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه وقال أتقول هذا وفينا رسول الله ﷺ فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال قال الله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ فاكون أول من رفع رأسه فاذا انا بموسى أخذ بقائم من قوائم العرش فلا أدرى ارفع راسه قبلى او كان ممن استثنى الله ولمّا كان الصعق بمعنى الموت او الغشية يعم الأنبياء فيعم الشهداء بالطريق الاولى والملائكة ايضا والمستثنى منهم جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت وحملة العرش فانهم لا يموتون بالنفخة ويموتون بعد ذلك كما مرّ فى الأحاديث والله اعلم.
وَكُلٌّ اى كل واحد من اهل السماوات والأرض أَتَوْهُ اى حاضرون الموقف بعد نفخة البعث او راجعون الى امره كذا قرأ الجمهور بالمد وضم التاء على صيغة اسم الفاعل وقرأ حفص وحمزة «خلف ابو محمد» مقصورا وفتح التاء على صيغة الماضي ومعناه الاستقبال لتحقيق وقوعه عطف على فزع داخِرِينَ صاغرين.
وَتَرَى الْجِبالَ اى تبصرها ايها الناظر وقت نفخة الفزع عطف على يوم ينفخ او على يوم نحشران يقدر هنا ترى ما ترى تَحْسَبُها جامِدَةً اى وافقه مكانها الجملة حال من فاعل ترى ومفعوله اى تظنها قائمة غير متحركة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حال من الضمير المنصوب فى تحسبها يعنى تسير الجبال كسير السحاب فى السرعة حتى تقع على الأرض فتستوى بها وذلك لان الاجرام الكبار إذا تحركت فى سمت واحد لا تكاد يتبين حركتها صُنْعَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون جملة متقدمة لا محتمل لها غيره ويسمى تأكيدا لنفسه معنى صنع الله صنعا الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ احكم خلقه وسواه على ما ينبغى إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ قرأ ابن كثير وابو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب اى يجازى كلّا من العاصي والمطيع على خسب فعله ثم بينه فقال.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قال ابو معشر كان ابراهيم يحلف ولا يستثنى ان الحسنة لا اله الا الله وقال قتادة بالإخلاص وقيل هى كل طاعة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قيل من للسببية وليس للتفضيل إذ لا شىء خير من قول
لا اله الا الله فالمعنى يحصل له خير وهو الثواب والامن من العذاب من جهة تلك الحسنة وبسبيها وقال محمد بن كعب وعبد الرحمان ابن زيد من تفضيلية والمعنى فله عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف الى ما شاء الله نظيره قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ اى يوم ينفخ فى الصور آمِنُونَ قرأ الكوفيون فزع بالتنوين للتنكير ويومئذ بالنصب على الظرفية والتنكير يفيد الاستغراق لان الجملة فى قوة النفي لان قوله امنون بمعنى لا يخافون ولا يفزعون والنكرة فى حيز النفي يفيد الاستغراق وقرأ الآخرون بلا تنوين باضافة فزع الى يومئذ والاضافة أول على الاستغراق او هى للعهد لتقدم ذكر الفزع فقرأ أكثرهم يومئذ بالجر للاضافة ونافع بفتح الميم على انه مبنى اكتسب البناء ممّا أضيف اليه.
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ اى الشرك فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ الفاء للعطف على محذوف لا للجزاء لا تدخل على الماضي بغير قد تقديره من جاء بالسّيئة فله جزاء السّيئة او استحق العذاب فكبّت وجوههم اى فكبوا على وجوههم فِي النَّارِ او المراد بالوجوه أنفسهم هَلْ تُجْزَوْنَ يعنى ما تجزون إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى إلا جزاؤه وفاقا لما عملوا فان الشرك أعظم الجرائم لا شىء فوقه فى السوء وجهنم أشد الاجزية فيه التفات من الغيبة الى الخطاب والتقدير ويقول لهم خزنة جهنّم هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ-.
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ يعنى مكة أضاف الرّب الى البلدة تشريفا لها واشعارا بما فى الكعبة الحسناء من التجليات المختصة بها الَّذِي حَرَّمَها صفة للرب اى جعلها حرما أمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا ينفر صيدها ولا يختلا خلاها ذكر هذا الوصف منة على قريش حيث جعل مسكنهم أمنا من الفتن الشائعة فى العرب وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقا وملكا مع تلك البلدة عطف على حرمها او حال من الضمير المرفوع المستكن فيها وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بتقدير الباء اى أمرت بان أكون من المنقادين لله تعالى او ثابتين على ملة الإسلام عطف على أمرت ان اعبد.
وَأَنْ أَتْلُوَا تلاوة الدعوة الى الايمان او هو من التلو بمعنى الاتباع والمعنى ان اتبع الْقُرْآنَ عطف على ان أكون وجملة انّما أمرت متصلة بقوله تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وقال البيضاوي امر الله سبحانه لرسوله ان يقول لهم ذلك بعد ما بين لهم المبدا والمعاد وشرح احوال القيامة اشعارا بانه قد أتم الدعوة وادى
ما كان عليه فلم يبق عليه الا الاشتغال بشأنه والاستغراق فى عبادة ربه والتقدير قل انما أمرت بكذا فَمَنِ اهْتَدى بدعوتك وعيد ربه وحده كما أمرت فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فان منافعه تعود اليه فليس له ان يمن عليك وَمَنْ ضَلَّ اى أخطأ طريق الحق يتبعك بعد تمام الدعوة منك فَقُلْ له إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ يعنى لست عليكم بوكيل ولا علىّ من وبال ضلالك أصلا إذ ليس علىّ الا البلاغ-.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمة النبوة وعلى ما وفقك من تمام التبليغ والدعوة الواجبة عليك سَيُرِيكُمْ الله ايها الضالون آياتِهِ القاهرة على حقيقة ما دعوتكم اليه فى الدنيا كما وقع يوم بدر من قتل وسبى وضرب الملائكة وجوههم وادبارهم وكما راوا من انشقاق القمر وتسبيح الحصا ونحو ذلك وكما يجئ من خروج الدابّة وغير ذلك نظيره قوله تعالى سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ او المعنى سيريكم آياته فى الاخرة وقال سيريكم آياته فى السماء وفى الأرض وفى أنفسكم كما سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم فَتَعْرِفُونَها اى فتعرفون انها آيات الله ولكن لا ينفعكم حينئذ المعرفة وَما رَبُّكَ يا محمد ص بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازى كلّا على حسب عمله لوقتهم- تم تفسير سورة النمل من التفسير المظهرى فى التاريخ الثاني والعشرون من شعبان سنة الخامسة بعد الف ومائتين (سنه ١٢٠٥ هـ) ويتلوه تفسير سورة القصص ان شاء الله تعالى.
Icon