تفسير سورة العنكبوت

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة العنكبوت
أهداف سورة العنكبوت
سورة العنكبوت مكية، نزلت بعد سورة الروم، وآياتها ٦٩ آية، وقد نزلت سورة العنكبوت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة قبل الهجرة، وكانت هذه الفترة من أقسى الفترات ولذلك تعرضت السورة لتثبيت المؤمنين على الإيمان، وبيان أن هناك ضريبة يدفعها المؤمن، هي الفتنة والامتحان بالإيذاء أو بالإغراء أو بالوعد أو بالوعيد.
وتناولت قصص الأنبياء السابقين وجهادهم وبلاءهم، ثم إهلاك الكافرين وانتصار المؤمنين، وسميت سورة العنكبوت بهذا الاسم لتكرر ذكر العنكبوت فيها في قوله تعالى :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾ [ العنكبوت : ٤١ ].
وفي المصحف المطبوع بالقاهرة والمتداول بين الناس نجد في عنوان السورة : سورة العنكبوت مكية إلا من آية ١ إلى غاية ١١ فمدنية.
وقد رجحت اللجنة المشرفة على طبع المصحف الرأي القائل بأن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية، وذلك لذكر الجهاد فيها، وذكر المنافقين.
وعند التأمل يترجح لدينا أن السورة كلها مكية، أما تفسير الجهاد فيها فمرجعه أنها ورادة بصدد الجهاد ضد الفتنة، أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن، وهذا واضح في السياق، وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.
ثلاثة فصول
الخط الأساسي لسورة العنكبوت هو الحديث عن الإيمان والفتنة، وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس، فليس الإيمان كلمة تقال باللسان، إنما هو الصبر على المكاره والثبات في المحن.
ومع أن موضوع السورة هو تكاليف الإيمان والثبات في المحنة.. إلا أنه يمكن أن نقسم سورة العنكبوت إلى ثلاثة عناصر لهذا الموضوع أو ثلاثة فصول :
الفصل الأول : من أول السورة إلى الآية ١٣.
ويتناول حقيقة الإيمان، وسنة الابتلاء والفتنة، ومصير المؤمنين والكافرين، ثم فردية التبعة فلا يحمل أحد عن أحد شيئا يوم القيامة.
﴿ وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ].
الفصل الثاني : من الآية ١٤ إلى الآية ٤٥
ويتناول قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب، وإشارة إلى قبيلتي عاد وثمود، ويصور هذا القصص ما وجد من عقبات وفتن في طريق كل دعوة، ويتحدث عن التهوين من شأن هذه العقبات أمام قوة الإيمان والاعتماد على قدرة الله، والمضي في تبليغ رسالته وتحمل تبعات هذه الرسالة إحقاقا للحق وإزهاقا للباطل. قال تعالى :﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.. ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ].
الفصل الثالث : من الآية ٤٦ إلى آخر السورة.
ويتناول النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى، ويتناول وحدة الدين والعقيدة والإيمان، واتحاد ذلك مع الدين الخير الذي يجحد به الكافرون ويجادل فيه المشركون، ويختم بالتثبيت والبشرى والطمأنينة للمجاهدين في الله المهديين إلى سبيله.
ويتخلل السورة من المطلع إلى الختام إيقاعات قوية عميقة حول معنى الإيمان وحقيقته تهز الوجدان هزا، وتوقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة حازمة، فإما النهوض بها، وإما النكوص عنها، وإلا فهو النفاق الذي يفضحه الله.
القصص في سورة العنكبوت
استغرقت الآيات من [ ١٤-٤٥ ] في الحديث عن قصص الأنبياء، والتعليق عليه، وبيان العظة والعبرة منه.
وبدأت بالحديث عن نوح عليه السلام، فقد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، هي مدة الرسالة وجزء من حياته كان قبل الرسالة، وجزء منها كان بعد الطوفان وهو عمر مديد، ولكن نتيجته محدودة فلم يؤمن به إلا قليل من قومه.
ثم ثنى بالحديث عن إبراهيم الخليل صاحب الرسالة الكبرى، إذ دعا قومه إلى عبادة الله الخالق الرزاق، ونبذ الأوثان والأصنام، والتوجه إلى الله الإله الواحد :﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه.. ﴾ [ العنكبوت : ٢٤ ].
وفي قصة لوط يتبدى تبجح الرذيلة وسفورها بلا حياء ولا تحرج، وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل من الانحراف والشذوذ، مع الاستهتار بالنذير :﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ﴾ [ العنكبوت : ٢٩ ].
وفي قصة شعيب مع مدين يتبدى الفساد والتمرد على الحق والعدل فاستحقوا عذاب السماء :﴿ فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾ [ العنكبوت : ٣٧ ].
وتذكر الإشارة إلى عاد وثمود بالاعتزاز بالقوة والبطر بالنعمة، كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان بطغيان المال واستبداد الحكم والتمرد على أمر الله.
وفي النهاية يلقى الظالم حتفه جزاء ظلمه، وقد تكرر هذا المعنى في سور سابقة وتأكد هنا ليستقر في الأذهان أمام المشركين والظالمين.
قال تعالى :﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٠ ]
وتعقب السورة على هذا القصص بمثل ضربته لهوان قوى الشرك والظلم، فالباطل مهما علا لا مستقبل له، والحق مهما امتحن مستقبله هنيء مريء، قال تعالى :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾ [ العنكبوت : ٤١ ].
وينتهي هذا القصص بهوان الشرك وعزة الإيمان، وبيان قدرة الله الذي يضرب الأمثال ليتعظ بها العقلاء وليفهمها العلماء، قال تعالى :﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٣ ].
الدرس الأخير في سورة العنكبوت
يستغرق الدرس الأخير في السورة ربعا كاملا من الآية ٤٦ إلى الآية ٦١ والسورة بدأت بإعلان ثقل تكاليف الإيمان، وتعرض المؤمنين للبلاء والامتحان، ثم ذكرت قصص الأنبياء وبلاءهم من عهد نوح.
وفي هذا الدرس الأخير يبين القرآن وحدة الرسالات في الهدف، فالرسالات كلها من عهد نوح والرسل من بعده إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم دعوة واحدة من عند إله واحد، ذات هدف واحد هو إصلاح العقيدة وتهذيب السلوك ورد البشرية الضالة إلى قوانين الله العادلة، وأن المؤمنين بكل رسالة إخوة للمؤمنين بسائر الرسالات : كلهم أمة واحدة تعبد إلها واحدا، وأن البشرية في جميع أجيالها صنفان اثنان : صنف المؤمنين وهم حزب الله، وصنف المشاقين وهم حزب الشيطان.
ولقد ختم الجزء العشرون في القرآن بآية شهيرة تدعو إلى تلاوة الكتاب وقراءة القرآن وإقامة الصلاة، هي قوله تعالى :﴿ اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ].
وبدأ الجزء الحادي والعشرون بالحديث عن هذا الكتاب، العلاقة بينه وبين الكتب السابقة، ويأمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة –إلا الذين ظلموا منهم وبدلوا في كتبهم وانحرفوا إلى الشرك، والشرك ظلم عظيم- ودعت الآية المؤمنين أن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلها وبالكتب جميعها، فهي حق من عند الله يصدق ما معهم من القرآن والإسلام. قال تعالى :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ].
ثم يحذر القرآن المشركين من استعجالهم بعذاب الله، ويهددهم بمجيئه بغتة، ويصور لهم قربه منهم، وإحاطة جهنم بهم، ويصف حالهم يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ثم يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقون الفتنة والإيذاء في مكة يحضهم على الهجرة بدينهم إلى الله ليعبدوه وحده، يلتفت إليهم في أسلوب عجيب، يعالج كل هاجسة تخطر في ضمائرهم، وكل معوق يقعد بهم، ويقلب قلوبهم بين أصابع الرحمان في لمسات تشهد بأن منزل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب، فما يعرف مساربها ومداخلها الخفية إلا خالقها اللطيف الخبير الذي تكفل برزق كل دابة في كل مكان وزمان.
وينتقل من هذا التعجب من حال أولئك المشركين، وهم يتخبطون في تصوراتهم، فيقرّون لله سبحانه بخلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وإنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الموات، وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين، ثم هم بعد ذلك يشكرون بالله ويكفرون بكتابه، ويؤذون رسوله، ويفتنون المؤمنين به، ويذكر المشركين بنعمة الله عليهم بهذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه، والناس من حولهم في خوف وقلق وهم يفترون على الله الكذب ويشركون به آلهة مفتراة، ويعدهم على هذا جهنم وفيها مثوى للكافرين.
وتختم السورة بوعد من الله سبحانه بهداية المجاهدين ورعايتهم، فيقول سبحانه :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ﴾ [ العنكبوت : ٦٩ ].

﴿ الم ( ١ ) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون( ٢ ) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين( ٣ ) أم حسب الذين يعلمون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون( ٤ ) من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم( ٥ ) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين( ٦ ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذين كانوا يعملون( ٧ ) ﴾.
تمهيد :
كان المسلمون في مكة يتعرضون لصنوف الأذى وألوان الاضطهاد، فنزلت سورة العنكبوت تبيّن أن الابتلاء والاختبار سنّة الله في خلقه، وقيل : إن سورة العنكبوت هي آخر ما نزل بمكة.
وفي المصحف المتداول في البلاد العربية ما يأتي :
( سورة العنكبوت مكية إلا من آية ١ إلى آية ١١ فمدنية ).
وقد اعتمدت المصاحف على بعض الروايات التي ذكرت أن الإحدى عشرة آية الأولى من سورة العنكبوت مدنية وذلك لذكر " الجهاد " فيها وذكر " المنافقين ".
وقد رجح العلماء أن السورة كلها مكية للأسباب الآتية :

١-
الجهاد الذي ورد في صدر السورة يراد منه الجهاد ضد الفتنة، أي : جهاد النفس بالصبر والثبات والتحمل، رجاء ثواب الآخرة.

٢-
ذكر النفاق جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

٣-
ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص، وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال.

٤-
السورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.
التفسير :
١-﴿ الم ﴾
سبق الحديث عن هذه الأحرف في سورتي البقرة وآل عمران وغيرهما.
والخلاصة أنها حروف للتنبيه والتحدي والإعجاز، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ لدخول المدرسة.
تمهيد :
كان المسلمون في مكة يتعرضون لصنوف الأذى وألوان الاضطهاد، فنزلت سورة العنكبوت تبيّن أن الابتلاء والاختبار سنّة الله في خلقه، وقيل : إن سورة العنكبوت هي آخر ما نزل بمكة.
وفي المصحف المتداول في البلاد العربية ما يأتي :
( سورة العنكبوت مكية إلا من آية ١ إلى آية ١١ فمدنية ).
وقد اعتمدت المصاحف على بعض الروايات التي ذكرت أن الإحدى عشرة آية الأولى من سورة العنكبوت مدنية وذلك لذكر " الجهاد " فيها وذكر " المنافقين ".
وقد رجح العلماء أن السورة كلها مكية للأسباب الآتية :

١-
الجهاد الذي ورد في صدر السورة يراد منه الجهاد ضد الفتنة، أي : جهاد النفس بالصبر والثبات والتحمل، رجاء ثواب الآخرة.

٢-
ذكر النفاق جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

٣-
ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص، وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال.

٤-
السورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.
المفردات :
الفتنة : الامتحان والاختبار، من قولهم : فتن الذهب، إذا أدخله النار ليختبر جودته.
التفسير :
٢- ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ﴾
حين خلق الله آدم عليه السلام استخلفه في الأرض، وأعطاه العقل والإرادة والاختيار، فإن اختار الطاعات فهو من المفلحين، وإن اختار المعصية فهو من الخاسرين، وهنا يذكر الله تعالى أنه جعل البلاء ضريبة في هذه الدنيا، يمتحن به الناس، ويطهر به المؤمنين، ويختبر به الصادقين، فتنة لهم وامتحانا، كما يفتن الذهب الإبريز، إذ يوضع في النار ليخرج منه الخبث.
ومعنى الآية :
أظن الناس أن يتركوا بدون اختبار وامتحان، لمجرد قولهم آمنا، بدون أن يخوضوا تجربة عملية، فيها البلاء أو الإيذاء أو التكذيب أو التعرض لألوان من القهر أو الإغراء، أو أي لون من ألوان الامتحان ؟
وقد تعرض المسلمون في مكة لصنوف الأذى، وألوان الاضطهاد، وتعجلوا الفرج والنصر، فنزلت هذه الآيات.
جاء في التسهيل لابن جزي وغيره من المفسرين :
نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة مستضعفين، كسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والوليد ابن الوليد، وعمار بن ياسر، وأبيه ياسر، وأمه سمية، وغيرهم. اه.
تعرضت هؤلاء للفتنة والعذاب فنزلت هذه الآيات تشد أزرهم، وتبارك جهادهم، وتذكرهم بأن ذلك قانون الله ونظامه، يمتحن المؤمنين سابقا ولا حقا.
قال العلماء : والآيات وإن نزلت في قوم معينين، إلا أنها باقية في أمة محمد أبد الدهر.
وقيل : نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب، أول من قتل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فجزع عليه أبواه وامرأته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( سيد الشهداء مهجع، وأول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة )١.
تمهيد :
كان المسلمون في مكة يتعرضون لصنوف الأذى وألوان الاضطهاد، فنزلت سورة العنكبوت تبيّن أن الابتلاء والاختبار سنّة الله في خلقه، وقيل : إن سورة العنكبوت هي آخر ما نزل بمكة.
وفي المصحف المتداول في البلاد العربية ما يأتي :
( سورة العنكبوت مكية إلا من آية ١ إلى آية ١١ فمدنية ).
وقد اعتمدت المصاحف على بعض الروايات التي ذكرت أن الإحدى عشرة آية الأولى من سورة العنكبوت مدنية وذلك لذكر " الجهاد " فيها وذكر " المنافقين ".
وقد رجح العلماء أن السورة كلها مكية للأسباب الآتية :

١-
الجهاد الذي ورد في صدر السورة يراد منه الجهاد ضد الفتنة، أي : جهاد النفس بالصبر والثبات والتحمل، رجاء ثواب الآخرة.

٢-
ذكر النفاق جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

٣-
ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص، وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال.

٤-
السورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.
المفردات :
صدقوا : آمنوا عن عقيدة وإخلاص.
التفسير :
٣-﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾
لقد اختبرنا الأمم قبلكم، وكذلك الرسل والأنبياء، واختبرنا المؤمنين والصالحين في كل أمة وجيل، وبهذا الاختبار وذلك البلاء يظهر المؤمن الصادق الثابت في البلاء، ويظهر الكاذب المرائي، تلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، فالحياة الدنيا حافلة بأنواع البلاء والامتحان، ومنه امتحان بالشر والتعذيب والسجن والقهر والإحباط، وامتحان بالإغراء والمال والجاه والسلطان.
قال تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر وللخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].
وقال تعالى :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ]
وقال تعالى : ٍأم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم.. } [ التوبة : ١٦ ].
وفي الحديث الصحيح :( أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء )٢.
قال ابن كثير :
﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾
أي : الذين صدقوا في دعوى الإيمان، ممن هو كاذب في قوله ودعواه، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة، وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله :﴿ إلا لنعلم.. ﴾ إلا لنرى، وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود، والعلم أعم من الرؤية، فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود. اه.
إن الله تعالى يعلم أزلا كل شيء، والله بكل شيء عليم، لكنه لم يحاسب العباد بمقتضى علمه القديم، بل اختبرهم وامتحنهم بألوان التكاليف، وصنوف الاختبار، ليكون الجزاء في الآخرة على مقتضى سلوك العبد بالشكر أو بالكفر، ويكون الجزاء نتيجة للتجربة العملية للإنسان.
أخرج ابن أبي حاتم أن :﴿ الم*أحسب... ﴾ نزلت في أناس كانوا بمكة أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب الرسول عليه السلام بالمدينة، ألا يقبل منهم حتى يهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فردّهم المشركون.
تمهيد :
كان المسلمون في مكة يتعرضون لصنوف الأذى وألوان الاضطهاد، فنزلت سورة العنكبوت تبيّن أن الابتلاء والاختبار سنّة الله في خلقه، وقيل : إن سورة العنكبوت هي آخر ما نزل بمكة.
وفي المصحف المتداول في البلاد العربية ما يأتي :
( سورة العنكبوت مكية إلا من آية ١ إلى آية ١١ فمدنية ).
وقد اعتمدت المصاحف على بعض الروايات التي ذكرت أن الإحدى عشرة آية الأولى من سورة العنكبوت مدنية وذلك لذكر " الجهاد " فيها وذكر " المنافقين ".
وقد رجح العلماء أن السورة كلها مكية للأسباب الآتية :

١-
الجهاد الذي ورد في صدر السورة يراد منه الجهاد ضد الفتنة، أي : جهاد النفس بالصبر والثبات والتحمل، رجاء ثواب الآخرة.

٢-
ذكر النفاق جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

٣-
ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص، وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال.

٤-
السورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.
المفردات :
أن يسبقونا : أن يفوتونا ويعجزونا، فلا يلاقوا جزاء أعمالهم.
ساء ما يحكمون : قبح حكمهم أنهم يهربون منا.
التفسير :
٤-﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ﴾.
أظن الكافرون والفاسقون أن يفوتونا، ويهربوا من حسابنا، فلا نقدر على مجازاتهم، بمساوئ أعمالهم، لقد ظنوا كذبا، وحكموا فاسدا.
﴿ ساء ما يحكمون ﴾ بئس الحكم الذي يحكمونه، وبئس الظن الذي يظنونه.
ونلاحظ أن الحسبان الأول كان من المؤمنين، وهذا الحسبان من الكافرين.
قال ابن عباس :
يريد سبحانه بالذين يعملون السيئات : الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والأسود، والعاص بن هشام، وشيبة وعتبة ابني ربيعه، والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط، وحنظلة بن وائل، وأنظارهم من صناديد قريش. اه.
ونقول : إن الآية تعم جميع من يعمل السيئات، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية وعيد للكافرين، وللعصاة من المؤمنين الذين يجاهرون بالمعصية، والسلب والنهب والغدر، والإثم والعدوان، ويظنون أنهم سيفوتون من عذاب الله، أو يرون أمور الآخرة باهتة غائمة، وينتصرون للدنيا، أو يبيعون الباقية ويشترون الفانية، ولا يشبعون من الحرام ولا من انتهاك الحرمات.
" فلا يحسب مفسد أنه مفلت ولا سابق، فإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف، فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لابد أن تجيء " ٣.
تمهيد :
كان المسلمون في مكة يتعرضون لصنوف الأذى وألوان الاضطهاد، فنزلت سورة العنكبوت تبيّن أن الابتلاء والاختبار سنّة الله في خلقه، وقيل : إن سورة العنكبوت هي آخر ما نزل بمكة.
وفي المصحف المتداول في البلاد العربية ما يأتي :
( سورة العنكبوت مكية إلا من آية ١ إلى آية ١١ فمدنية ).
وقد اعتمدت المصاحف على بعض الروايات التي ذكرت أن الإحدى عشرة آية الأولى من سورة العنكبوت مدنية وذلك لذكر " الجهاد " فيها وذكر " المنافقين ".
وقد رجح العلماء أن السورة كلها مكية للأسباب الآتية :

١-
الجهاد الذي ورد في صدر السورة يراد منه الجهاد ضد الفتنة، أي : جهاد النفس بالصبر والثبات والتحمل، رجاء ثواب الآخرة.

٢-
ذكر النفاق جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

٣-
ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص، وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال.

٤-
السورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.
المفردات :
يرجو : يطمع.
لقاء الله : نيل ثوابه وجزائه.
أجل الله : الوقت المضروب للقائه.
التفسير :
٥-﴿ من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ﴾
من كان يطمع في ثواب الله يوم القيامة فليبادر إلى فعل ما ينفعه، وعمل ما يوصله إلى مرضاته، وتجنب ما يسخطه.
﴿ فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ﴾
إن رجاء الله وثوابه حق واقع لا محالة، وسيوفى الله كل عامل عمله كاملا موفورا، لأن الله سميع الدعاء، عليم بكل شيء، محاسب على الفتيل والقطمير، والقليل والكثير.
قال تعالى :﴿ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحد ﴾ [ الكهف : ١١٠ ]
وقال سبحانه :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره*ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ [ الزلزلة : ٧، ٨ ].
تمهيد :
كان المسلمون في مكة يتعرضون لصنوف الأذى وألوان الاضطهاد، فنزلت سورة العنكبوت تبيّن أن الابتلاء والاختبار سنّة الله في خلقه، وقيل : إن سورة العنكبوت هي آخر ما نزل بمكة.
وفي المصحف المتداول في البلاد العربية ما يأتي :
( سورة العنكبوت مكية إلا من آية ١ إلى آية ١١ فمدنية ).
وقد اعتمدت المصاحف على بعض الروايات التي ذكرت أن الإحدى عشرة آية الأولى من سورة العنكبوت مدنية وذلك لذكر " الجهاد " فيها وذكر " المنافقين ".
وقد رجح العلماء أن السورة كلها مكية للأسباب الآتية :

١-
الجهاد الذي ورد في صدر السورة يراد منه الجهاد ضد الفتنة، أي : جهاد النفس بالصبر والثبات والتحمل، رجاء ثواب الآخرة.

٢-
ذكر النفاق جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

٣-
ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص، وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال.

٤-
السورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.
المفردات :
جاهد : بذل جهده في جهاد حرب أو نفس.
لنفسه : أي منفعة الجهاد من الأجر عائد على نفسه.
التفسير :
٦-﴿ ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ﴾.
من جاهد نفسه أو جاهد عدوه، وبذل الجهد في سبيل الجهاد، فإن ثوابه وجزاءه عائد على نفسه، فليستمر في الجهاد ولا ييأس، وليثق في ثواب الله وفضله، وليثق في أن ثواب عمله عائد عليه، فمن بذل نفسه في سبيل الله، فسينال الشهادة والجنة والدرجات العلا، ومن جاهد نفسه وصرفها عن المعاصي، وحملها على الطاعات ؛ فنفع ذلك عائد عليه، لأن الله غني عن عباده، لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم.
﴿ إن الله لغني عن العالمين ﴾
فهو سبحانه غني عن جميع خلقه، له الملك وله الأمر يفعل ما يشاء.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ من عمل صالحا فلنفسه.. ﴾ [ فصلت : ٤٦ ].
وقوله تعالى :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم... ﴾ [ الإسراء : ٧ ].
وقوله سبحانه :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ﴾ [ فاطر : ١٥ ]
تمهيد :
كان المسلمون في مكة يتعرضون لصنوف الأذى وألوان الاضطهاد، فنزلت سورة العنكبوت تبيّن أن الابتلاء والاختبار سنّة الله في خلقه، وقيل : إن سورة العنكبوت هي آخر ما نزل بمكة.
وفي المصحف المتداول في البلاد العربية ما يأتي :
( سورة العنكبوت مكية إلا من آية ١ إلى آية ١١ فمدنية ).
وقد اعتمدت المصاحف على بعض الروايات التي ذكرت أن الإحدى عشرة آية الأولى من سورة العنكبوت مدنية وذلك لذكر " الجهاد " فيها وذكر " المنافقين ".
وقد رجح العلماء أن السورة كلها مكية للأسباب الآتية :

١-
الجهاد الذي ورد في صدر السورة يراد منه الجهاد ضد الفتنة، أي : جهاد النفس بالصبر والثبات والتحمل، رجاء ثواب الآخرة.

٢-
ذكر النفاق جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

٣-
ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص، وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال.

٤-
السورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.
المفردات :
ولنجزينهم أحسن : ولنجزينهم على أعمالهم بأحسن عمل كانوا عملوه.
التفسير :
٧-﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ﴾
الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، وصبروا على تكاليف الجهاد، وأدوا الفرائض واجتنبوا المحرمات، هؤلاء لهم جزاء عظيم، من تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، ومكافأتهم على الحسنات بما هو أحسن وأفضل، حيث تضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وهؤلاء إن فاتهم الجزاء في الأرض فلن يفوتهم عند الله تعالى.
قال تعالى :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾ [ النساء : ٤٠ ].
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون( ٨ ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين( ٩ ) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين( ١٠ ) وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين( ١١ ) وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون( ١٢ ) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون( ١٣ ) ﴾.
المفردات :
وصينا : أمرنا.
حسنا : برّهما وعدم عقوقهما.
جاهداك : بذلا الجهد في حملك على الشرك.
مرجعكم : عودتكم بعد الموت.
أنبئكم : أخبركم.
التفسير :
٨-﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ﴾.
أي : أمرنا الإنسان بالإحسان إلى والديه، والبر بهما، وعدم العقوق لهما، والتلطف في القول معهما، والتواضع لهما، وإذا هفا هفوة، أو أخطأ في حقهما، فينبغي أن يعتذر لهما ويطلب الصفح منهما.
وطاعة الوالدين مشروطة بأن تكون مقترنة بطاعة الله، إنما السمع والطاعة في المعروف، فإذا بذل الأب أو الأم جهده في حمل الابن على الشرك والكفر بالله ؛ فلا طاعة لهما، ومع ذلك يجب عليه أن يبرّ بهما، ويتلطف في معاملتهما، مع المحافظة على دينه وإيمانه، واليقين بأن الجزاء الأوفى سيكون في الآخرة، فتهون الدنيا بما فيها من صعاب، وهناك جزاء عادل من الله تعالى في الآخرة.
من هدي السنة
روى الترمذي أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وأمه حمنة بنت أبي سفيان، لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان بارا بأمه، قالت له : ما هذا الدين الذي أحدثت ؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتعيّر بذلك أبد الدهر، يقال : يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة، لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال : يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمرا بالبر بالوالدين، والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به٤.
وجاء في الإصابة ٤/ ١٦٠ رقم ٣١٨٧ في ترجمة سعد بن أبي وقاص أن اسم أمه : حمنة بنت سفيان ابن أمية، بنت عم أبي سفيان بن حرب.
وقيل : نزلت الآية في عيّاش بن أبي ربيعة، وقد فعلت أمّه مثل هذا الفعل، ويجوز أن الحادثة تكررت، عند سعد بن أبي وقاص مع أمه، وعند عيّاش بن أبي ربيعة مع أمه، فنزلت الآية في شأن كل منهما، والعلماء يقولون : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي لجميع الأمة.
المفردات :
الصالحين : المؤمنين، أو ندخلهم الجنة.
التفسير :
٩-﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ﴾
الذين آمنوا بالله تعالى ربا وقاموا بالأعمال الصالحة، من صلاة وصيام وزكاة وحج، وتلاوة القرآن وفعل الصالحات وترك المنكرات، هؤلاء ينزلون منازل الصالحين، الذين يدخلهم الله فسيح الجنة، ويسكنهم الدرجات العالية، وقد بارك القرآن الصلاح، وجعل العبد الصالح قدر الله في الأرض، فالخضر نموذج للعبد الصالح الذي آتاه الله رحمة من عنده، وعلمه علما من لدنه، وأفاض عليه من بركته، وعونه وتوفيقه.
وسليمان عليه السلام يقول :﴿ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ﴾ [ النمل : ١٩ ].
وقال تعالى في شأن إبراهيم عليه السلام :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ [ النحل : ١٢٢ ].
والملائكة تستغفر للمؤمنين وتدعو للصالحين، كما ورد في الآية الثامنة من سورة غافر٥.
والصلاح هو منتهى درجات المؤمنين، وغاية ما امتدح الله به الأنبياء والمرسلين.
المفردات :
أوذي في الله : عُذب من الكافرين بسبب إسلامه.
فتنة الناس : أذاهم له.
كعذاب الله : أي : في الخوف منه، فيطيعهم فينافق.
إنا كنا معكم : كنا مشايعين ومناصرين لكم في الدين.
التفسير :
١٠-﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ﴾.
ترسم الآية نموذجا لفئة من الناس تعلن الإيمان، وتظن أن الإيمان كلمة تقال باللسان، لا يتبعها تضحية أو صبر أو فداء، فإذا لقى في سبيل الإيمان عذابا أو نكاية أو سجنا ارتد عن دينه، زاعما أن عذاب الناس في الدنيا مثل عذاب الله في الآخرة، وشتان ما بينهما، فعذاب الناس امتحان من نجح فيه كان جزاؤه الجنة، وعذاب الله في الآخرة عقوبة أبدية خالدة، والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة، تطيب النفس لها ولا تعدها عذابا.
قال الزجاج : ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله.
أخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجة، عن أنس قال : قال صلى الله عليه وسلم :( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثالثة، ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد، إلا ما وارى إبط بلال )٦.
أسباب النزول
قيل : نزلت في المنافقين.
وقال مجاهد : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.
وقال الضحاك : نزلت في أناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك.
وقيل : نزلت في عياش بن أبي ربيعة أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فارتد، وقدم إلى المدينة أبو جهل والحارث، وكانا أخوين لأمه، فأخذاه وعذباه فارتد، ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه.
والآية دعوة إلى الثبات على الإيمان وتحمل الأذى في سبيل الله، وفيها ذم للنفاق، وذم للارتداد عن الإسلام.
﴿ ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ﴾.
تعبر الآية عن انتهازية المنافقين ونفعيتهم، فهم يفرّون من البأساء ويتواجدون عند الغنيمة والنصر، هم عند التعرض للعذاب والآلام يفرّون ولا يثبتون، فإذا جاء نصر من الله للمؤمنين أعلنوا عن أنفسهم، وقالوا : إنا كنا معكم في الحرب، نشد أزركم ونناصركم، ونستحق أن ننال من الغنائم، والله تعالى مطلع وشاهد على ما تكنه ضمائرهم من الإيمان والنفاق، فهو سبحانه لا تخفى عليه خافية، وهم عالم السر وما هو أخفى من السر.
١١-﴿ وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ﴾
إن الله تعالى مطلع وشاهد وعالم بالذين آمنوا وصدّقوا، وبالذين نافقوا وتلوّنوا، وسيجازى المؤمنون بحسن الجزاء، وسيعاقب المنافقين.
وفي معنى ما سبق يقول الله تعالى :﴿ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين.. ﴾ [ النساء : ١٤١ ].
وقال سبحانه وتعالى :﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ﴾ [ محمد : ٣١ ].
المفردات :
اتبعوا سبيلنا : أي : ديننا وما نحن عليه.
خطاياكم : أوزاركم وسيئاتكم.
التفسير :
١٢-﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ﴾
قال الكفار في مكة لمن آمن من أهلهم وقرابتهم : اتبعوا ديننا واثبتوا عليه، وانصرفوا عن كلام محمد ودعوته، فإنه لا بعث ولا حشر ولا حساب، وإذا فرض أن هناك بعثا وحسابا، فذنوبكم في رقبتنا نتحملها عنكم، ظنا من الكافرين أن العائلة تحمي أفرادها، كما يخطئ قاتل فتتحمل العائلة الدية معه، فكذلك في الآخرة يتحملون خطايا أقاربهم، إذا تركوا الإسلام وانضموا إلى الكافرين.
﴿ وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء.. ﴾
فذلك يوم يتحمّل فيه كل فرد مسؤولية عمله وحده، قال تعالى :﴿ كل امرئ بما كسب رهين ﴾ [ الطور : ٢١ ]
وقال عز شأنه :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى.. ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ]. أي : لا تحمل نفس مذنبة وزر نفس أخرى.
وقال تعالى :﴿ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى.. ﴾ [ فاطر : ١٨ ].
﴿ إنهم لكاذبون ﴾
تأكيد لما سبق وتكذيب لهؤلاء الكافرين الذين يغررون بالناس، ويدّعون حمل أثقالهم عنهم.
المفردات :
أثقالهم : خطاياهم وذنوبهم الفادحة.
يفترون : يختلقون في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل.
التفسير :
١٣-﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ﴾.
سيحمل دعاة الكفر ذنوبهم التي تثقل ظهورهم، وسيحملون نصيبا آخر من الأثقال، مماثلا لأوزار من أضلوهم عن الهدى، وزينوا لهم الكفر، وسيساءلون عن سلوكهم وكذبهم وزعامتهم للشرك وإضلال من خلفهم.
كما قال تعالى :﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم.. ﴾ [ النحل : ٢٥ ]
وكما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجه في السنن، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا )٧.
وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سنّ القتل )٨.
وأخرج مسلم وغيره، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من وزره شيء )٩.
قصة نوح عليه السلام
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون( ١٤ ) فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين( ١٥ ) ﴾
تمهيد :
ذكر الله تعالى في صدر سورة العنكبوت الاختبار والابتلاء لعباده، ثم ذكر قصص عدد من الأنبياء، منهم نوح وإبراهيم ولوط، وهود وشعيب وصالح، وذلك لبيان عاقبة المكذبين، ولتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقيه من كفار قومه.
التفسير :
١٤-﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ﴾.
أي : والله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه، يدعوهم إلى توحيد الله تعالى، ونبذ عبادة الأصنام، ونوح عليه السلام أطول الأنبياء عمرا، وتعددت الآراء في عمر نوح عليه السلام، وأورد القرطبي في تفسيره آراء كثيرة في عمر نوح، ومن أشهر الآراء : أن نوحا عليه السلام بُعث بالرسالة وعمره أربعون سنة، ثم مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، فيكون عمره كلّه ألف سنة وخمسين سنة.
ويرى صاحب الظلال : أن طول العمر سببه قلة عدد البشر، فعوضهم الله بطول أعمارهم ليستمر استعمارهم الأرض وإعمارها. اه.
وقد لوّن نوح في دعوة قومه إلى توحيد الله، ودعاهم سرا وجهرا، وقدم لهم طائفة من الأدلة على التوحيد، مثل ما ورد في قوله تعالى :﴿ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا*يرسل السماء عليكم مدرارا*ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا* ما لكم لا ترجون لله وقارا*وقد خلقكم أطوارا*ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا*وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا*والله أنبتكم من الأرض نباتا* ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا*والله جعل لكم الأرض بساطا* لتسلكوا منها سبلا فجاجا ﴾ [ نوح : ١٠-٢٠ ]
ولما طالت مدة نوح مع قومه، واستمر تكذيبهم لرسالته، دعا على قومه.
﴿ فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ﴾
أرسل الله المطر من السماء، وفجر سبحانه عيون الأرض، فالتقى ماء السماء وماء الأرض، بتقدير الله تعالى، وأمر الله نوحا أن يصنع سفينة، فكانت وسيلة النجاة له ولقومه.
قال تعالى :﴿ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنّور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليلا*وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ﴾ [ هود : ٤٠، ٤١ ].
وقد ذكرت قصة نوح في القرآن الكريم في ثلاثة وأربعين موضعا، وجاءت قصته مع قومه بصورة فيها شيء من التفصيل في سورة الأعراف وهود والمؤمنون ونوح، وينتهي نسب نوح إلى شيث بن آدم عليه السلام.
تمهيد :
ذكر الله تعالى في صدر سورة العنكبوت الاختبار والابتلاء لعباده، ثم ذكر قصص عدد من الأنبياء، منهم نوح وإبراهيم ولوط، وهود وشعيب وصالح، وذلك لبيان عاقبة المكذبين، ولتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقيه من كفار قومه.
١٥-﴿ فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين ﴾
نجّى الله نوحا والمؤمنين معه، وكانوا قرابة الثمانين نسمة، بعضهم من الذكور، وبعضهم من الإناث، وسارت السفينة في البحر بإذن الله، وأغرق الله الكافرين ونجّى المؤمنين، ثم رست السفينة على جبل الجوديّ، وتركها الله عليه مدة طويلة، لتكون عظة وعبرة للناس، حتى لا يعصوا رسل الله، ولا يشركوا بالله شيئا.
من كلام المفسرين
ذكر المفسرون أن زوجة نوح وابنه كنعان هلكا مع الكافرين، ونجّى الله نوحا والمؤمنين، كما نجى أولاده الثلاثة وهم : سام، وهو أبو العرب وفارس والروم وهم الجنس السامي، وحام، وهو أبو القبط والسودان والبربر، ويافث، وهو أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج١٠.
من هدى السنة
أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم -وصححه-عن ابن عباس قال : بعث الله تعالى نوحا عليه السلام وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى الله تعالى، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، حتى كثر الناس وفشوا.
قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه
﴿ وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون( ١٦ ) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون( ١٧ ) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين( ١٨ ) أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير( ١٩ ) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير( ٢٠ ) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون( ٢١ ) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير( ٢٢ ) والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم( ٢٣ ) ﴾.
المفردات :
اتقوه : اتقوا أن تشركوا به شيئا.
تمهيد :
ذكر الله قصة نوح فيما سبق، وذكر هنا قصة إبراهيم مع قومه كنموذج لتحمل البلاء.
قال تعالى :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل.. ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
التفسير :
١٦-﴿ وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوا ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾.
واذكر أيها الرسول لقومك قصة إبراهيم حين قال لقومه : اعبدوا الله وحده لا شريك له، وراقبوه وخافوا عقابه، فإنه هو الإله الواحد الأحد الذي لا شريك له، ذلك التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان، خير لكم في دنياكم وآخرتكم، ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ ذلك فاعبدوا الله وحده، واتركوا عبادة ما سواه، أو إن كنتم من أهل العلم بوجه من الوجوه، تبين لكم أن الخير كله في عبادة الله وحده لا شريك له.
تمهيد :
ذكر الله قصة نوح فيما سبق، وذكر هنا قصة إبراهيم مع قومه كنموذج لتحمل البلاء.
قال تعالى :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل.. ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
المفردات :
أوثانا : أصناما مصنوعة.
إفكا : كذبا.
فابتغوا : فاطلبوا.
التفسير :
١٧-﴿ إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ﴾.
كان قوم إبراهيم يصنعون تماثيل بأيديهم، ثم يعبدونها من دون الله، فقال لهم إبراهيم : إنكم انصرفتم عن عبادة الله، وهو الإله الحق، واتجهتم بعبادتكم إلى الأوثان والأصنام، وأنتم صنعتموها بأيديكم كذبا وزورا، لأن عبادتها وتأليهها كذب وزور وافتراء.
إن هذه الأصنام والأوثان التي تعبدونها لا تنفع ولا تضر، ولا تملك لكم رزقا ولا نفعا ولا لنفسها، فاعبدوا الله وحده، والتمسوا الرزق بعبادته وشكره، وإليه مرجعكم ومصيركم يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ [ الزلزلة : ٧، ٨ ].
تمهيد :
ذكر الله قصة نوح فيما سبق، وذكر هنا قصة إبراهيم مع قومه كنموذج لتحمل البلاء.
قال تعالى :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل.. ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
المفردات :
المبين : الواضح البيّن في نفسه، المبيّن لغيره، الموضح له.
التفسير :
١٨-﴿ وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين ﴾
هذه الآية وما بعدها يحتمل أن تكون من كلام إبراهيم لقومه، ويحتمل أن تكون توجيها من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليقول هذا القول لأمته، فهو كلام مقحم بين أول قصة إبراهيم وآخرها، وسواء أكان هذا أم ذاك فإن معناه ما يأتي : وإن تكذبوني وتجحدوا رسالتي فلا ضرر عليّ من ذلك، إنما الضرر عليكم أنتم، فقد كذب قوم نوح نوحا، وكذب أقوام الرسل من بعده، فأهلك الله المكذبين، والرسول ليس ملزما بهداية قومه، فإن الهدى هدى الله، وليس على الرسول إلا البلاغ الواضع، وتقديم الدليل والحجة والبرهان في أسلوب مقنع، يحرك النفوس إلى الإيمان، ويدعوها إلى النظر والمشاهدة والتأمل، والتفكير في هذا الكون الكبير.
تمهيد :
ذكر الله قصة نوح فيما سبق، وذكر هنا قصة إبراهيم مع قومه كنموذج لتحمل البلاء.
قال تعالى :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل.. ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
المفردات :
أو لم يروا : المراد من الرؤية هنا العلم، أي : أو لم يعلموا علما يشبه المشاهدة بالبصر.
يبدئ الخلق : يوجده ابتداء على غير مثال سابق.
يعيده : يحييه بعد موته وتحلل أجزائه، بل وتلاشيها.
إن ذلك : الخلق الأول، والثاني : هو الإعادة.
على الله يسير : سهل لا صعوبة فيه.
١٩-﴿ أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير ﴾
أو لم يشاهدوا دلائل القدرة الإلهية، حيث خلق الله الكون على غير مثال سابق، فرفع السماء وبسط الأرض، وسخر الرياح والشمس والقمر، والليل والنهار، والمطر والنبات، وأبدع نظام الحياة، ثم خلق الإنسان والحيوان والطير، والملائكة والجن وسائر المخلوقات، وهذه المخلوقات يدركها الموت والفناء، ثم يعيدها الله بالبعث والحشر والحساب والجزاء، وذلك كله هين يسير على الله، لأن الله على كل شيء قدير، بل ليس عليه هيّن وأهون، وإنما ضرب ذلك مثلا لتقريب الأمر إلى نفوسنا، قال تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ﴾ [ الروم : ٢٧ ].
وقال عز وجل :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون* فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ﴾ [ يس : ٨٢، ٨٣ ].
تمهيد :
ذكر الله قصة نوح فيما سبق، وذكر هنا قصة إبراهيم مع قومه كنموذج لتحمل البلاء.
قال تعالى :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل.. ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
التفسير :
٢٠-﴿ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ﴾
قل يا محمد لقومك، أو قل يا إبراهيم لقومك : سيروا في الأرض متأملين في السماء وأبراجها، وشموسها وأقمارها، والأرض وسهولها وجبالها، ووديانها وبحورها، والهواء والفضاء، وآثار السابقين، وهلاك المكذبين، وهذا السير يشمل السير بالأبدان، والتأمل في المخلوقات، والقرون البائدة، وتطور الخليقة، وأصناف النباتات والجبال، وغير ذلك من المشاهد، ويشمل السير بالفكر والنظر، والتأمل في هذا الكون الذي أوجده الله بعد عدم، وهو دليل على أن له موجدا نظمه وأبدعه وخلقه على غير مثال سابق، ومن خلق هذا الخلق، يميتهم ويفنيهم، ثم يعيدهم للحساب والجزاء.
قال تعالى :﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ] والبدء والإعادة هين يسير على الله، فهو على كل شيء قدير.
قال القرطبي :
﴿ قل سيروا في الأرض.. ﴾ أي : قل لهم يا محمد : سيروا في الأرض. ﴿ فانظروا كيف بدأ الخلق.. ﴾ على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية، وديارهم وآثارهم، كيف أهلكهم، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله. اه.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ﴾ [ فصلت : ٥٣ ].
تمهيد :
ذكر الله قصة نوح فيما سبق، وذكر هنا قصة إبراهيم مع قومه كنموذج لتحمل البلاء.
قال تعالى :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل.. ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
المفردات :
تقلبون : تردّون وترجعون، فيحاسبكم على أعمالكم، الحسنة منها والسيئة.
التفسير :
٢١-﴿ يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ﴾
لقد خلق الله الإنسان بقدرته، ومنحه العقل والإرادة والاختيار، وأرسل الله الرسل وأنزل الكتب لتوجيه الإنسان وإرشاده، ومساعدته على الإيمان والتأمل والاعتبار، والله تعالى يعذب من يشاء من الكافرين بعدله، ويرحم من يشاء من المؤمنين بفضله، وإذا أمهلكم في الدنيا، فلا تظنوا أنكم أفلتم من المساءلة، فسترجعون إليه في الآخرة، فيحاسبكم ويجازي كل إنسان بما عمل.
﴿ وإليه تقلبون ﴾ ترجعون وتردون.
تمهيد :
ذكر الله قصة نوح فيما سبق، وذكر هنا قصة إبراهيم مع قومه كنموذج لتحمل البلاء.
قال تعالى :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل.. ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
المفردات :
بمعجزين : بفائتين ولا هاربين من عذاب الله.
وليّ : معين وناصر يمنعكم من العذاب.
التفسير :
٢٢-﴿ وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾
أي : ما أنتم أيها الناس على كثرتكم، واختلاف أحوالكم، بفائتين من حساب الله وجزائه، بالتواري في الأرض الفسيحة، أو التخفي في مناكبها، ولا بالتحصن بالسماء التي هي أمنع من الأرض، إن استطعتم الوصول إليها، فالله تعالى لا يعجزه أحد من أهل سماواته ولا أرضه، بل هو القاهر فوق عباده، فما لكم من مهرب منه ولا ملجأ.
﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾
إذا أراد عذابكم وجزاءكم فليس لكم أيها الناس من ولي يلي أموركم، ويحرسكم من أن يصيبكم بلاء أرضي أو سماوي، ولا نصير يدفع عذاب الله عنكم.
تمهيد :
ذكر الله قصة نوح فيما سبق، وذكر هنا قصة إبراهيم مع قومه كنموذج لتحمل البلاء.
قال تعالى :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل.. ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
المفردات :
يئسوا : انقطع رجاؤهم وقنطوا.
رحمتي : جنتي
التفسير :
٢٣-﴿ والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم ﴾.
والذين جحدوا آيات الله، ودلائل وحدانيته، وما أنزله على رسله من الدلائل والبراهين والعظات والعبر، وكفروا بالميعاد ولقاء الله ؛ هؤلاء لا أمل لهم في رحمة الله بسبب كفرهم، ولهم عذاب مؤلم شديد موجع.
قال تعالى :﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ [ يوسف : ٨٧ ].
جواب قوم إبراهيم
﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون( ٢٤ ) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين( ٢٥ )*فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم( ٢٦ ) ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين( ٢٧ ) ﴾.
التفسير :
٢٤-﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾
قدّم إبراهيم إلى قومه عددا من الأدلة على وجود الله، وحثّهم على السير في الأرض والتأمل فيها، والاعتبار بمن سبقهم من الأمم، فبماذا أجابوه ؟
ما كان جوابهم مقارعة للحجة بالحجة، ولا مقابلة للبرهان بالبرهان، بل قالوا : اقتلوه بأداة قتل، أو حرّقوه بالنار حتى تستريحوا منه، وفعلا استقر رأيهم على تحريقه بالنار، فجمعوا حطبا كثيرا جدا، ولم يستطيعوا الاقتراب من النار، فاهتدوا إلى المنجنيق ليقذفوه في النار من بعيد، لكن الله تعالى جعل النار بردا وسلاما عليه، فلم تحرق سوى الحبل الذي أوثق به، وجعل الله ذلك آية على قدرته، ودليلا على صدق إبراهيم، ومعجزة له، حتى يؤمن برسالته من شارف الإيمان قبله، وقد ذكرت هذه المعاني في سور عديدة من القرآن الكريم.
قال تعالى :﴿ قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين*قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم* وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ﴾ [ الأنبياء : ٦٨-٧٠ ].
وقال سبحانه وتعالى :﴿ قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم*فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ﴾ [ الصافات : ٩٧، ٩٨ ].
المفردات :
أوثانا : أصناما تعبدونها من دون الله.
مودة بينكم : سببا في تواصلكم واجتماعكم على عبادتها.
مأواكم : منزلكم الذي تأوون إليه خالدين فيه أبدا.
-﴿ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ﴾
قال إبراهيم لقومه : إنكم عبدتم الأصنام والأوثان، لا عن عقيدة واقتناع بعبادتها، لكن مجاملة من بعضكم لبعض، وتعصبا ومودة وتآلفا لنصرة الأصنام، وهذه المودة الزائفة تنقلب يوم القيامة إلى عداوة، حيث يكفر بعضكم ببعض، ويتبرأ بعضكم من بعض، ويلعن بعضكم بعضا، ومأواكم ومسكنكم جميعا النار، هي مآلكم ومصيركم، وليس لكم من دون الله من ناصرين يخلصونكم من عذابها.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى :
﴿ إذ تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ﴾ [ البقرة : ١٦٦ ].
ويقول سبحانه وتعالى :
﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ﴾ [ الزخرف : ٦٧ ].
المفردات :
آمن له لوط : أي : آمن بإبراهيم وأسلم له قياده.
مهاجر : الهجرة : مفارقة بلد إلى أخر، فإن كانت قربة إلى الله فهي الهجرة الشرعية.
التفسير :
٢٦-﴿ فأمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ﴾
لقد خرج إبراهيم من النار سليما معافى، وكانت هذه معجزة باهرة تستدعي إيمان الكثيرين بإبراهيم عليه السلام، بيد أنه لم يؤمن بإبراهيم إلا لوط عليه السلام، ابن أخي إبراهيم، وسارة زوجته، وكان إبراهيم في سن الخامسة والسبعين، فعزم على الهجرة بعد أن وجد القوم في العراق محجمين عن الإيمان، مصممين على الكفر، وانتقل إبراهيم من قرية كُوثى " بضم الكاف " وهي قرية من سواد الكوفة بأرض العراق، إلى حرّان ثم إلى الشام، ومعه ابن أخيه، لوط بن هاران بن تارح، وامرأته سارة.
ثم أرسل لوط في حياة إبراهيم عليه السلام، إلى أهل سدوم وإقليمها، قرب البحر الميت، أو بحيرة لوط كما سميت بعد ذلك.
وجمهور المفسرين على أن إبراهيم هو الذي قال :﴿ إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ﴾ أي : آمن لوط بإبراهيم، وبأنه رسول من عند الله تعالى كما آمنت به زوجته سارة، ولما رأى إبراهيم قلة المؤمنين به أعلن هجرته من العراق إلى الشام، وقال : إني مهاجر لتنفيذ أمر ربي، ولنشر دعوته في أماكن أخرى تجد آذانا صاغية ومؤمنين بها إنه هو العزيز. الغالب الذي نجاني من النار، الحكيم. الذي اختار لي الهجرة، وهو الحكيم في كل أفعاله.
وقال صاحب الظلال :
معنى الآية : فآمن لوط بإبراهيم ورسالته، وقال لوط : إني مهاجر إلى ربي ابتغاء مرضاته فهي هجرة في سبيله، وهو سبحانه العزيز الحكيم. أي : الغالب القادر الحكيم في أوامره١١.
المفردات :
وهبنا : مننا وأعطينا.
إسحاق : ابنه الأكبر، ويعقوب حفيده وابن إسحاق.
أجر الدنيا : الرزق الواسع الهنيء والمنزل الرحب، والمورد العذب، والزوجة الصالحة، والثناء الجميل، والذكر الحسن.
التفسير :
٢٧-﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾
رزق الله إبراهيم بعد هجرته إلى الشام من زوجته سارة –وهي عجوز عقيم- بولده إسحاق، وكانت هبة عظيمة، حيث رزق بعد أن أيس من الولد، وقالت زوجته حين بشرتها الملائكة بذلك :﴿ أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب*قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ﴾ [ هود : ٧٢، ٧٣ ].
وبعد أن رزق الله إبراهيم ابنه إسحاق، رزق الله إسحاق ولده يعقوب الملقب بإسرائيل، وقد نشأ في حجر إبراهيم فنسب إليه، وهو حفيده، ومن نسل إبراهيم كان جميع الأنبياء، فقد رزق بإسماعيل من زوجة شابة، هي هاجر، ولم يكن من نسل إسماعيل نبي سوى محمد صلى الله عليه وسلم.
أما إسحاق فقد أنجب يعقوب ورزق يعقوب بالأسباط، أي : الأحفاد، أحفاد إبراهيم، وكانوا اثنى عشر سبطا، من بينهم يوسف الذي رأى في منامه أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا يسجدون له، وتأويل ذلك أن أباه وأمه وإخوته، سيسجدون له سجود تعظيم وتحية لا سجود عبادة، ومن نسل الأسباط كان آلاف الأنبياء من بني إسرائيل مثل : داود صاحب الزبور، وموسى صاحب التوراة، وعيسى صاحب الإنجيل.
﴿ وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب... ﴾
جعلنا في ذرية إبراهيم النبوة والرسالة، والكتاب، أي : جنس الكتب السماوية، فمن نسل إسماعيل رسول واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن نسل إسحاق يعقوب، ومن نسله الأسباط [ الأحفاد ] وهم أحفاد إبراهيم، ومن نسلهم آلاف الأنبياء والمرسلين.
ورزق إبراهيم أجره في الدنيا، بالثناء الحسن والذكر الجميل، قال تعالى :﴿ وإبراهيم الذي وفّى ﴾ [ النجم : ٣٧ ].
حيث وفق الله إبراهيم إلى الوفاء في جميع ما كلّف به، من محاربة الشرك وإعلاء التوحيد، والطاعة له وحده، والاستجابة لما أمر به من ذبح ولده، والصلاة على إبراهيم إلى آخر الدهر.
﴿ وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾
أي : جمع الله له استحقاق الأجر والفوز، وكثرة العطاء في الدنيا، والفوز في الآخرة بالدرجات العلى والحسنى وزيادة، لأنه من الصالحين الأتقياء، ودرجة الصلاح درجة سامية هي وسام للأنبياء الصالحين.
كما يحشر إبراهيم يوم القيامة في زمرة الكاملين في الصلاح، الذين لهم الدرجات العلى، وقصارى أمره، أنه سبحانه جمع له بين سعادة الدارين، وآتاه الحسنى في الحياتين.
قصة لوط عليه السلام
﴿ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين( ٢٨ ) أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين( ٢٩ ) قال رب انصرني على القوم المفسدين( ٣٠ ) ﴾
المفردات :
الفاحشة : الفعلة القبيحة التي تنفر منها النفوس الكريمة.
تمهيد :
بعد قصة إبراهيم عليه السلام، تأتي قصة لوط، إذ كان لوط معاصرا له، وهو ابن أخيه على الراجح، أو ابن أخته، وقد افتنّ قوم لوط في فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سدوم العذاب، جاءوا ضيوفا لإبراهيم عليه السلام، فقد أخبروه أنهم في طريقهم إلى قرية سدوم لإهلاك أهلها المفسدين.
التفسير :
٢٨-﴿ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ﴾
أي : واذكر لوطا حين قال لقومه أهل سدوم، وكان لوط قد أقام بهذه القرية، بعد أن هاجر إلى ربه مع إبراهيم، على ضفاف البحر الميت أو بحيرة لوط كما سميت فيما بعد، وصار لوط من أهل سدوم بالصهر والمعيشة١٢، قال لهم :
﴿ إنكم لتأتون الفاحشة.. ﴾
أي : ترتكبون المنكر، وتفعلون أمرا فاحشا ابتدعتموه، ولم يسبقكم إليه أحد من البشر.
﴿ ما سبقكم بها من أحد من العالمين ﴾
فهو أمر مخالف للفطرة، مناف للطبيعة البشرية، حيث خلق الله الذكر والأنثى، وجعل في كل منهما ميلا للآخر لقضاء وطره وإمتاع نفسه، وإمتاع الطرف الآخر، والاستمتاع بلذة مشتركة بين الرجال والنساء، يتم على آثارها الحمل والولادة وإثراء الحياة.
أما جماع الرجل للرجل، فهو شذوذ وانتكاس للفطرة، وخروج على سنة الحياة، حيث يستغني الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، ويترتب على ذلك أمراض وعلل، وانقطاع للنسل، وآفات جنسية وصحية.
تمهيد :
بعد قصة إبراهيم عليه السلام، تأتي قصة لوط، إذ كان لوط معاصرا له، وهو ابن أخيه على الراجح، أو ابن أخته، وقد افتنّ قوم لوط في فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سدوم العذاب، جاءوا ضيوفا لإبراهيم عليه السلام، فقد أخبروه أنهم في طريقهم إلى قرية سدوم لإهلاك أهلها المفسدين.
المفردات :
السبيل : الطريق " وكلتاهما تذكر وتؤنث " وكانوا يتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ الأموال.
تأتون : تقترفون.
المنكر : الأمر القبيح الذي ينكره الدين والخلق، كاللواط وأنواع الفحش.
التفسير :
٢٩-﴿ أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ﴾
أي : إنكم تجامعون الرجال جماع شهوة، فبدلا من أن يجامع الرجل زوجته في قبلها، كما هو شأن المتعة بين الذكر والأنثى، فإنه يجامع رجلا مثله في دبره، فهي فاحشة وشذوذ، وانتكاس بالفطرة، وخروج على ما رسمه الله، وفساد في التركيب النفسي والتركيب العضوي سواء بسواء.
﴿ وتقطعون السبيل... ﴾
تقفون في الطرقات تقتلون المارة، وتأخذون أموالهم، أو تفعلون بهم الفاحشة كرها، وهي خطوة أبعد في الفاحشة من الأولى.
﴿ وتأتون في ناديكم المنكر... ﴾
يفعلون اللواط في مكان اجتماعهم العام، لا يخجل بعضهم من بعض، حيث يفعلون الأفعال المشينة، ومنها حلّ الإزار، والسباب والفحش في المزاح، والسلوك الماجن المستهتر بكل القيم.
ونلحظ أن لوطا عرض عليهم أفعالهم، مترقيا معهم من سيء إلى أسوأ، ووضع فسادهم أمام أعينهم، فقالوا للوط :
﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ﴾.
كان الأولى بهم أن يهتدوا ويخجلوا، ويكفّوا عن اللواط والعدوان على الآخرين، وممارسة الشذوذ أمام أعين الآخرين.
لكنهم لم يرعووا، ورفضوا النصح، فهددهم لوط بعذاب الله وانتقامه، فقالوا مستهزئين به، مستهينين بأمر العذاب، مكذبين له في هذا الوعيد :
﴿ ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ﴾ أي : في وعيدك.
قال صاحب الظلال :
والقصة هنا مختصرة، وظاهر أن لوطا أمرهم ونهاهم بالحسنى، وأنهم أصروا على ما هم فيه، فخوفهم عذاب الله. اه.
وقد استهانوا بالعذاب، وكذبوا رسولهم، وتحدّوه أن يأتيهم بهذا العذاب إن كان صادقا.
تمهيد :
بعد قصة إبراهيم عليه السلام، تأتي قصة لوط، إذ كان لوط معاصرا له، وهو ابن أخيه على الراجح، أو ابن أخته، وقد افتنّ قوم لوط في فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سدوم العذاب، جاءوا ضيوفا لإبراهيم عليه السلام، فقد أخبروه أنهم في طريقهم إلى قرية سدوم لإهلاك أهلها المفسدين.
المفردات :
المفسدين : العاصين بإتيان الرجال، أو بابتداع الفاحشة، فاستجاب الله دعاءه.
التفسير :
٣٠-﴿ قال رب انصرني على القوم المفسدين ﴾
حار لوط مع قومه فقد نصحهم وبين لهم قبح فعالهم، وتكرر نصحه لهم، وفي آيات مرشدة قال لهم :﴿ أتأتون الذكران من العالمين* وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ﴾ [ الشعراء : ١٦٥، ١٦٦ ].
وقال عز شأنه :
﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين*إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون* وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون*فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين*وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾ [ الأعراف : ٨٠-٨٤ ].
ويذكر الآلوسي في تفسيره المعاني الآتية :
تعددت نصائح لوط لقومه، ففي مرحلة من مراحل إرشاد لوط لقومه وابتداء نصحه لهم، قالوا له :﴿ ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ﴾ [ العنكبوت : ٢٩ ].
ولما تكرر وعظه لهم، وتوبيخه وتحذيره، واستمر لوط يحذر وينذر، قرروا إخراجه من سدوم، وطرده هو ومن اتبعه من المؤمنين.
وبذلك نجمع بين ما ورد هنا في سورة العنكبوت، بأنهم طلبوا نزول العذاب بهم، وما ورد في سورة الأعراف من قرار إخراج لوط وأتباعه من القرية.
قال تعالى :﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم.. ﴾ [ النمل : ٥٦ ].
وقال سبحانه :﴿ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم.. ﴾ [ الأعراف : ٨٢ ]
ونلحظ أن لوطا ضاق بقومه وفسادهم، وعدوانهم وتفاقم شرهم، فمدّ يده إلى ربه داعيا متضرعا :﴿ قال رب انصرني على القوم المفسدين ﴾.
لأنهم فسدوا وأفسدوا، والله لا يحب المفسدين.
حضور الملائكة
﴿ ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين( ٣١ ) قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين( ٣٢ ) ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين( ٣٣ ) إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون( ٣٤ ) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون( ٣٥ ) ﴾.
المفردات :
بالبشرى : بالبشارة بالولد.
هذه القرية : هي سدوم.
تمهيد :
الملائكة رسل الله، وصلت إلى إبراهيم الخليل، تحمل البشرى له بميلاد إسحاق ويعقوب الذي يولد لإسحاق، ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل قرية سدوم ؛ لتمادى أهلها في الشر، وأشفق إبراهيم على لوط، فطمأنته الملائكة بنجاة لوط ومن آمن به، وإهلاك القرية بالزلازل البركانية، وإرسال الصواعق والأمطار المهلكة عقوبة عادلة لهم.
التفسير :
٣١-﴿ ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ﴾
أرسل الله الملائكة إلى إبراهيم الخليل بالبشارة السارة، وهي أن تحمل امرأته سارة في غلام يسمى إسحاق، وببشارة أخرى هي أن إسحاق سيبلغ مبلغ الرجال ويتزوج وينجب ولدا يسمّى يعقوب.
قال تعالى :﴿ وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب*قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب*قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ﴾ [ هود : ٧١-٧٣ ].
ثم أخبرت الملائكة إبراهيم بأن الله تعالى أرسلهم أيضا لإهلاك قوم لوط جزاء فسوقهم وعدوانهم، ونكاح الذكور وترك الإناث.
تمهيد :
الملائكة رسل الله، وصلت إلى إبراهيم الخليل، تحمل البشرى له بميلاد إسحاق ويعقوب الذي يولد لإسحاق، ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل قرية سدوم ؛ لتمادى أهلها في الشر، وأشفق إبراهيم على لوط، فطمأنته الملائكة بنجاة لوط ومن آمن به، وإهلاك القرية بالزلازل البركانية، وإرسال الصواعق والأمطار المهلكة عقوبة عادلة لهم.
المفردات :
الغابرين : الباقين في العذاب.
التفسير :
٣٢-﴿ قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ﴾
تفيد الآية رقة قلب إبراهيم وإشفاقه أن يصيب العذاب لوطا ومن آمن به، فقال إبراهيم للملائكة : إن قرية سدوم فيها لوط ومن آمن به، وهم أهل الإيمان وصلاح، ولم يشتركوا في الفساد والظلم، قالت الملائكة : نحن أكثر علما بلوط، وأكثر حرصا على نجاته، ونجاة من آمن به.
﴿ لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ﴾
أقسموا وأكدوا نجاة لوط وأهله المؤمنين، لكن امرأته الكافرة ستترك مع القرية لتنال العذاب معهم، فقد كانت تعاون أهل القرية وتساعدهم، وتتمنى لهم النجاح في ارتكاب الفاحشة مع أضياف لوط.
تمهيد :
الملائكة رسل الله، وصلت إلى إبراهيم الخليل، تحمل البشرى له بميلاد إسحاق ويعقوب الذي يولد لإسحاق، ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل قرية سدوم ؛ لتمادى أهلها في الشر، وأشفق إبراهيم على لوط، فطمأنته الملائكة بنجاة لوط ومن آمن به، وإهلاك القرية بالزلازل البركانية، وإرسال الصواعق والأمطار المهلكة عقوبة عادلة لهم.
المفردات :
سيء بهم : اعترته المساءة والغم، خوفا عليهم من قومه.
ضاق بهم ذرعا : عجز عن تدبير شؤونهم، يقال : طال ذرعه وذراعه على الشيء، إذا كان قادرا عليه، وضده : ضاق ذرعه، لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصيرها.
التفسير :
٣٣-﴿ ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين ﴾.
وصلت الملائكة إلى قرية لوط في صورة شبان حسان الوجوه، وقد اغتم لوط واعتراه المساءة، خوفا على ضيوفه من قومه الذي يرتكبون الفاحشة قسرا مع الضيوف، وتمنى لوط لو كانت معه قوة أو عصبة من الرجال، تحميه وتحمي أضيافه، وتأسف لوط لضيق يده وعدم قدرته على الدفاع عن أضيافه أمام قوم فاسقين، قد أغرموا بإتيان الذكور في أدبارهم، وقد أفادت آيات أخرى جدال لوط مع قومه، وتحريضهم على الزواج بالنساء، فجماع النساء أطهر وأفضل حيث يكون في مكان الحرث، وتتم المتعة مشتركة بين الذكر والأنثى، بل عرض عليهم زواج ابنتيه، فقال :.
﴿ هؤلاء بناتي هن أطهر لك فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد* قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد* قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد* قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب*فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود* مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ﴾ [ هود : ٧٨-٨٣ ].
لقد فصل القرآن ذلك في سورة سابقة، وكرر هذه القصة للعظة والاعتبار، ولما شاهدت الملائكة مخايل الضجر على لوط، وعاينوا تألمه لعجزه عن حماية أضيافه، ودفع الظلم عنهم طمأنوه :
﴿ وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين ﴾
أخبره الضيوف أنهم ملائكة، فلا خوف عليهم من قومه، وأنهم يحملون العذاب لهذه القرية الظالمة، التي فسد أهلها وغلبت عليهم الشهوات، فسيخسفون بهم الأرض، ويمطرون عليهم حجارة من السماء، وينزلون العذاب بالكافرين، وستتم نجاة لوط وأهله المؤمنين، بيد أن امرأته ستهلك مع الهالكين، لأنها كانت تساعد أهل القرية، وتفشي أسرار لوط، وتتمنى لو نجح الكافرون في عمل الفاحشة مع أضياف لوط، وهذا أمر عجيب من هذه المرأة، وقد أهلكها الله مع الهالكين، ولم ينفعها قربها من لوط رسول الله، لأن عدالة الله قد شملت الإحسان إلى كل محسن، ومعاقبة كل مسيء.
قال تعالى :﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾ [ الرحمان : ٦٠ ].
وقال سبحانه :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره*ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ [ الزلزلة : ٧، ٨ ].
والخلاصة : أن الملائكة طمأنت لوطا وأخبرته بنجاته مع المؤمنين، وأن زوجته الكافرة ستهلك مع الهالكين.
تمهيد :
الملائكة رسل الله، وصلت إلى إبراهيم الخليل، تحمل البشرى له بميلاد إسحاق ويعقوب الذي يولد لإسحاق، ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل قرية سدوم ؛ لتمادى أهلها في الشر، وأشفق إبراهيم على لوط، فطمأنته الملائكة بنجاة لوط ومن آمن به، وإهلاك القرية بالزلازل البركانية، وإرسال الصواعق والأمطار المهلكة عقوبة عادلة لهم.
المفردات :
رجزا : عذابا من السماء يزعجهم، يقال : ارتجز فلان وارتجس، أي : اضطرب.
التفسير :
٣٤-﴿ إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ﴾
زلزل الله بهم الأرض زلزلة شديدة، خسفت بقرية سدوم، الأرض، وابتلعتهم في باطنها، وصار مكان قريتهم بحيرة ملحة [ البحر الميت ].
قال ابن كثير :
إن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض، ثم رفعها إلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم، وجعلهم عبرة إلى يوم التناد، وهم من أشد الناس عذابا إلى يوم الميعاد. اه.
والخلاصة : قالت الملائكة سننزل على أهل قرية سدوم عذابا عظيما من السماء، تضطرب له نفوسهم بسبب فسقهم.
تمهيد :
الملائكة رسل الله، وصلت إلى إبراهيم الخليل، تحمل البشرى له بميلاد إسحاق ويعقوب الذي يولد لإسحاق، ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل قرية سدوم ؛ لتمادى أهلها في الشر، وأشفق إبراهيم على لوط، فطمأنته الملائكة بنجاة لوط ومن آمن به، وإهلاك القرية بالزلازل البركانية، وإرسال الصواعق والأمطار المهلكة عقوبة عادلة لهم.
المفردات :
آية بينة : هي آثار القرية الخربة التي تدل على قصتها العجيبة.
لقوم يعقلون : يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار.
التفسير :
٣٥-﴿ ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ﴾
ترك الله هذه القرية خرابا بيانا فيها آثار الهلاك والدمار، عظة بينة، واضحة لمن استخدم عقله وفكره وبصيرته.
قال تعالى :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين*وبالليل أفلا تعقلون ﴾ [ الصافات : ١٣٧، ١٣٨ ]
وفي السيرة النبوية : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سار إلى غزوه تبوك مر بقرى صمود ؛ فانحنى على راحلته واستحثها، وقال :( لا تمروا على قرى القوم الذي ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون، خشية أن يصيبكم ما أصابهم )١٣.
ومثل ذلك يقال في قرى قوم لوط التي أثبتت الاكتشافات الحديثة ترجيح وجودها في مكان بحيرة لوط بجوار البحر الميت، وهي عبرة وعظة، ودليل على عظم هذه الفاحشة، فهي كبيرة بالإجماع، وأشد حرمة من الزنا١٤.
قصص شعيب وهود وصالح وموسى
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين( ٣٦ ) فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين( ٣٧ ) وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين( ٣٨ ) وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين( ٣٩ ) فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون( ٤٠ ) ﴾
المفردات :
وإلى مدين : وأرسلنا إلى مدين، وأصلها : أبو القبيلة.
ارجوا اليوم الآخر : افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر.
لا تعثوا : لا تفسدوا.
التفسير :
٣٦-﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾.
أرسل الله تعالى عبده شعيبا، رسولا ناصحا إلى قبيلة مدين، إخوته في النسب، فنصحهم بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وبالعمل الصالح الذي يؤهلهم للنجاة في اليوم الآخر، مع خشية الله والخوف من حسابه، والبعد عن الفساد، وتطفيف الكيل والميزان، وقطع الطريق والعدوان على الآخرين، وقد مضت قصتهم مبسوطة في سور : الأعراف، وهود، والشعراء.
ونلاحظ أن الله تعالى قصّ علينا فيما سبق قصص نوح وإبراهيم ولوط، ثم أردف ذلك بقصص شعيب وهود وصالح وموسى بإيجاز، لفائدة العظة والاعتبار بأحوال هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم.
كما نلاحظ أن القرآن فيما سبق تكلّم عن قوم الرسول : قوم نوح، وقوم لوط ؛ لأنهم لم يكن لهم اسم خاص بهم، أما هنا فتكلم عن القبيلة، أو القوم الذين أرسل إليهم الرسول مثل : مدين، وعاد، وثمود.
لأن هؤلاء كان لهم نسب معروف، اشتهروا به عند الناس، فجرى الكلام على أصله، وهو الحديث عن القبيلة أو القوم.
وقد اشتهر أمر قارون وفرعون وهامان بالطغيان، فتحدث القرآن عن أعيانهم.
المفردات :
الرجفة : الزلزلة الشديدة، وقيل : صيحة جبريل.
جاثمين : باركين على الركب ميتين.
التفسير :
٣٧-﴿ فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾
أي : فقابلوه بالتكذيب والعناد والإصرار على الكفر والعصيان ؛ فعاقبهم الله بالهلاك، حيث صاح بهم جبريل صيحة عظيمة زلزلت نفوسهم، أو زلزلت أركان ديارهم، وقد أرسل الله عليهم عذاب يوم الظلة التي أزهق الأرواح من مستقرها، إنه كان عذاب يوم عظيم أدّى إلى إماتتهم، فأصبحوا بسبب ذلك باركين على ركبهم ميتين.
المفردات :
وعادا وثمود : وأهلكنا.
من مساكنهم : كانت قبيلة عاد تسكن الأحقاف، قرب اليمن، وثمود تسكن الحجر، قرب واد القرى، [ بين الحجاز والشام ].
أعمالهم : من الكفر والمعاصي.
السبيل : سبيل الحق الذي بينه الرسل لهم.
مستبصرين : عقلاء ذوي بصائر، ولكنها لم تنفعهم.
التفسير :
قصص هود وصالح
٣٨-﴿ وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ﴾
أي : وأهلكنا عادا قوم هود عليه السلام، الذين كانوا يسكنون بالأحقاف قرب حضر موت، وقد حدثت حفريات حديثة قرب منطقة صلالة، في سلطنة عمان، وشاهد الناس قرى مغمورة غمرتها الرياح، وكشفت الحفريات عن مبان بائدة، يرجح أنها لقبيلة عاد، حيث وجدت مبان ضخمة لها أعمدة صلبة، ونشرت الصحف والمجلات نبأ هذا الكشف، وأشارت إلى قوله تعالى :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد*إرم ذات العماد*التي لم يخلق مثلها في البلاد ﴾ [ الفجر : ٦-٨ ].
وقد تحدث القرآن في كثيرة من السور عن قبيلة عاد، وتفوقهم واعتزازهم بقوتهم، وغرورهم واستكبارهم، وظنهم أن أحد –أي أحد- لن يقدر عليهم.
قال تعالى :
﴿ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون*فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ﴾ [ فصلت : ١٥، ١٦ ].
كما تحدثت سورة الحاقة عن قصة ثمود وعاد، فقالت :
﴿ كذبت ثمود وعاد بالقارعة*فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية*وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية*سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية*فهل ترى لهم من باقية ﴾ [ الحاقة : ٤-٨ ].
ثمود قوم صالح
أهلك الله ثمود قوم صالح، وكانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى بين الحجارة والشام، ومدائن صالح ظاهرة إلى اليوم، وكانت العرب تعرف مساكنهم جيدا، وتمرّ عليهم كثيرا.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم مساكن صالح، حين مرّ بها في غزوة تبوك، فأسرع واستحث راحلته، وانحنى على ظهرها، إشفاقا ووجلا واعتبارا بهلاكهم، وقال لأصحابه، ( لا تمروا على قرى القوم الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون، خشية أن يصيبكم ما أصابهم )١٥.
﴿ وقد تبين لكم من مساكنهم.. ﴾
أي : أنتم يا أهل مكة تمرّون على ديارهم، وتشاهدون كيف أهلكهم الله، فاعتبروا واتعظوا، خشية أن يصيبكم ما أصابهم.
﴿ وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ﴾
لقد كانوا في نعمة وغنى وقوة جسدية ومعنوية، مع عقل وبصيرة وفهم، لكن الشيطان أغراهم بالفجور والكفر والعدوان، وزين لهم الانحراف عن الطريق القويم، وسبيل الهداية والإيمان، قال تعالى :
﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون*ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ [ فصلت : ١٧، ١٨ ].
المفردات :
سابقين : فائتين عذابنا غير مدركين، بل أدركهم أمر الله.
التفسير :
٣٩-﴿ وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ﴾
أي : واذكر أيها الرسول الكريم قارون الذي أوتي العلم والمال، فطغى وبغى وأفسد، وفرعون الذي ملك مصر، وأرسل الله إليه موسى ومعه الآيات البينات، فكذب بها واستكبر، وذبح أبناء بني إسرائيل واستحيى نساءهم، وتكبر في الأرض، وفرق بين الفرق، يستذل فريقا ضعيفا، ويقرّب منه فريقا آخر، وهامان وزير فرعون وبطانة السوء، هؤلاء الثلاثة جاءهم موسى بالمعجزات الواضحات، ودعاهم إلى الإيمان بالله تعالى، وتباع هدى السماء، فاستكبروا في الأرض، وخالفوا هداية السماء.
﴿ وما كانوا سابقين ﴾
لم يفلتوا من عذاب الله بأي حال، فهم في قبضة الملك الجبار القاهر، فقد عاقبهم بالعذاب والهلاك.
المفردات :
حاصبا : سحابا أو ريحا تحصبهم بالحجارة.
الصيحة : تموّج شديد في الهواء، يحدث هزة عنيفة مهلكة.
خسفنا به الأرض : غيبناه في جوفها.
التفسير :
٤٠-فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
عقاب السماء
أرسل الله ألوان العذاب على المكذبين، وكانت عقوبتهم أربعة أنواع :
١- الريح العاصفة تحمل الحصباء [ الحجارة الصغيرة ] فتلقى عليهم، وتقتلعهم من الأرض، ثم تصرعهم فيصبحون جثثا هامدة كقوم عاد.
٢- الصيحة الشديدة، التي زلزلت نفوسهم وبيوتهم، وأخمدت أصواتهم مثل ثمود وأهل مدين.
٣- الخسف بالإنسان وكنوزه وأمواله مثل قارون، الذي اختال وتكبر وطغى ؛ فخسف الله به وبداره الأرض.
٤- الغرق : كما أغرق الله فرعون في ماء النيل، وجعل الله نهايته عبرة وعظة لهلاك ملك قوي، لكنه ظلم وبغى فاستحق الغرق والهلاك.
﴿ وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾
إن الله تعالى عادل لا يظلم مثقال ذرة :﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
فهو سبحانه وتعالى لم يظلمهم حين عاقبهم بالهلاك على أي وجه من الوجوه السابقة، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعدوان، وترك طرق الهداية واتباع سبل الغواية.
قال تعالى :﴿ وثمود الذي جابوا الصخر بالواد* وفرعون ذي الأوتاد* الذين طغوا في البلاد* فأكثروا فيها الفساد*فصب عليهم ربك سوط عذاب*إن ربك لبالمرصاد ﴾ [ الفجر : ٩-١٤ ].
وقال تعالى :﴿ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ﴾ [ فصلت : ٤٦ ].
تشبيه حال عبدة الأصنام بحال العنكبوت
﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون( ٤١ ) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم( ٤٢ ) وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون( ٤٣ ) ﴾.
المفردات :
مثل : المثل : الصفة التي تشبه المثل في الغرابة.
أولياء : أصناما يرجون نفعها.
العنكبوت : حشرة تنسج نسيجا رقيقا واهيا.
اتخذت بيتا : لنفسها تأوي إليه مما نسجته من شبكة واهنة ضعيفة.
أوهن : أضعف البيوت عن دفع أي أذى.
التفسير :
٤١-﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾.
المتجه إلى الله تعالى في العبادة يتجه إلى إله قوي قادر، عليم حكيم بيده الخلق والأمر والنفع والضر، والمتجه بعبادته إلى الصنم أو الوثن أو الجن، أو الملائكة أو غيرها من المعبودات، يتجه إلى أمر واهن ضعيف لا ينفع ولا يضر، فكما أن بيت العنكبوت غاية في الضعف، لا يحمي من حر الصيف أو برد الشتاء، فكذلك عابد الوثن أو الصنم يتجه إلى قوة متهالكة لا تملك له نفعا ولا ضرا.
وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية كالآتي : المؤمن الذي يعبد الله كمثل رجل بنى بيتا من آجر وحجر، أو نحته في صخر، والمشرك الذي يعبد الوثن كمثل عنكبوت اتخذت بيتا، وكما أن أضعف البيوت-إذا استقرأناها بيتا بيتا- هو بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان- -إذا استقرأناها دينا دينا- هو عبادة الأوثان.
﴿ وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾
وإن أضعف البيوت بيت العنكبوت، لأنه يخرب بأدنى شيء ولا يبقى منه أثر، وكذلك أمر دينهم وعبادتهم للأصنام، فإنه قد بلغ الغاية التي لا غاية بعدها في الضعف والوهن.
﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ علما صحيحا أن أصنامهم وعبادتهم لا تنفعهم شيئا ما فعلوا ذلك، إلا أنهم في الواقع في غاية الجهل، لا يعلمون شيئا من عواقب الأمور، فتراهم يظنون ذلك النفع.
المفردات :
من دونه : غيره.
وهو العزيز الحكيم : الغالب القوي في ملكه، الحكيم في صنعه.
التفسير :
٤٢-﴿ إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم ﴾
من يتجه إلى الاعتزاز بالشيطان أو الصنم أو الوثن، أو المال أو الجاه أو السلطان، يتجه إلى غير ما طائل، لأن هذه الأمور مظاهر فانية، والله تعالى يعلم حقيقتها وضعفها وعجزها، وهو سبحانه وحده القوي الغالب، الحكيم في تشريعه وعلمه، وما سواه من الأصنام وغيرها كالمعدوم البحت، وهو سبحانه وتعالى قادر على مجازاة المشركين ومعاقبتهم، لكنه يؤجل ذلك لحكمة يعلمها.
المفردات :
تلك الأمثال : هذا المثل ونظائره.
نضربها للناس : نجعلها مثلا تقريبا لأفهامهم.
وما يعقلها : يفهمها.
إلا العالمون : المتدبرون.
التفسير :
٤٣-﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾
هذا المثل وأشباهه في القرآن الكريم، يضربه الله تعالى للناس تقريبا للمعاني، وتيسيرا عليهم في فهم الأمور، حيث يبرز المعاني المستورة ويوضحها، فتخرج في قالب محسوس مشاهد أمام العيان.
وكان سفهاء قريش وجهلتهم يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فلهذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وما يعقلها إلا العالمون ﴾
أي : لا يعقل صحتها وحسنها، ولا يفهم فائدتها إلا العلماء الأثبات، المتأملون في القضايا والمسائل.
روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال :( العالم من عقل عن الله تعالى، فعمل بطاعته واجتنب سخطه ).
من تفسير القرطبي :
قال عطاء الخرساني : نسجت العنكبوت مرتين : على داود حين كان جالوت يطلبه، ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك نُهى عن قتلها.
ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال :( طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيوت يورث الفقر )١٦اه.
ونحن ندعو الناس جميعا إلى نظافة بيوتهم، وتطهيرها من العنكبوت وغيره من الهوام، فإن الله تعالى نظيف يحب النظافة، جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيبين.
وقد بنى الدين على النظافة، ومن أجل ذلك شرع الإسلام الوضوء والاغتسال، وطهارة البدن والثوب والمكان، وفي الحديث الشريف :( الطهور شطر الإيمان )١٧.
وقال تعالى :﴿ وثيابك فطهر ﴾ [ المدثر : ٤ ].
وقال عز شأنه :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا.. ﴾ [ المائدة : ٦ ].
تلاوة القرآن وإقامة الصلاة
﴿ خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين ( ٤٤ ) اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون( ٤٥ ) ﴾.
المفردات :
بالحق : بالعدل والقسط، أو بحكمته وقدرته المنزهة عن العبث.
لآية : علامة ودلالة.
التفسير
٤٤- ﴿ خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين ﴾.
خلق الله السماوات والأرض خلقا مقترنا بالحق، لم يخلقهما عبثا بل خلقهما لحكمة إلهية سامية، هي أن يخلق الإنسان، وأن يجعله خليفة في الأرض، وأن يمنحه العقل والإرادة والاختيار، وأن يرسل إليه الرسل، وينزل إليه الكتب، فمن أطاع فله الجنة، ومن عصى وأعرض وطغى وبغى فله النار.
﴿ إن في ذلك لآية للمؤمنين ﴾
في خلق السماء مرفوعة مزينة بالنجوم، والشمس والقمر والبروج والأفلاك والأملاك، وخلق الأرض وفيها الجبال والبحار والأنهار، والنبات والفضاء والهواء، لدلائل واضحة للمؤمنين بالله، الذي يتأملون في خلق الله، ويستدلون بالصنعة على الصانع، قال تعالى :
﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب* الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ﴾ [ آل عمران : ١٩٠، ١٩١ ].
وقال تعالى :﴿ لتجزى كل نفس بما تسعى ﴾ [ طه : ١٥ ].
وقال سبحانه وتعالى :﴿ ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ﴾ [ النجم : ٣١ ].
المفردات :
اتل : اقرأ القرآن تقربا إلى الله بقراءته، واستكشافا لمعانيه.
وأقم الصلاة : أدّها في وقتها بخشوعها وكمال أركانها، وحضور القلب والتقرب إلى الله تعالى.
تنهى عن الفحشاء والمنكر : تكون سببا في البعد عن المعاصي، والقبيح السيئ الذي ينكره العقل والشرع، لأن المصلي يناجي ربه، ويتقرب إليه مخلصا تائبا راغبا راهبا ؛ فيخلع الله عليه أنواره وهدايته وتوفيقه.
التفسير :
٤٥-﴿ اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ﴾
اقرأ يا محمد القرآن الكريم، ففيه التشريع والهداية، والحلال والحرام، والآداب ومكارم الأخلاق، فاقرأ القرآن، وبلغ أمتك قراءة القرآن، والتهجد به والعمل بأحكامه، فقارئ القرآن يأجره الله عن كل حرف عشر حسنات، وتشهد الملائكة تلاوته.
﴿ وأقم الصلاة... ﴾
حافظ على إقامة الصلاة كاملة الأركان، مستوفاة الخشوع والخضوع، وحضور القلب، ومراقبة الله بأن المصلى مناج ربه فليستحضر عظمته.
﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.. ﴾
إن مداومة الصلاة مع الإخلاص والخشوع، والخشية من الله وتدبر القراءة، وتأمل عظمة الخالق ومناجاته، والانشغال بذكره وتعظيمه، وتسبيحه وحمده، من شأن ذلك أن يتبعه نور وهداية ومعونة، وتوفيق من الله للعبد، فتراه عازفا عن الفحشاء والمنكر، مبتعدا عن الكبائر والموبقات.
قال أبو العالية :
إن الصلاة فيها ثلاث خصال : الإخلاص، والخشية، وذكر الله.
فالإخلاص يأمر بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله -القرآن- يأمره وينهاه، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخصال فليس صلاة.
﴿ ولذكر الله أكبر.. ﴾
أي : تذكرك عظمة الله، وذكر الله بلسانك وقلبك في الصلاة أكبر وأعظم، أو إذا ذكرت الله ذكرك الله، فذكره لك أكبر وأعظم.
وفي الحديث القدسي :( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه )١٨.
فالمصلي والمؤمن الذي يذكر الله في حياته وصلاته، ونهاره وليله، ويقظته ونومه، وبيعه وشرائه، هذا الذكر أكبر من كل شيء في الدنيا.
قال تعالى :﴿ والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ].
وقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا* وسبحوه بكرة وأصيلا* هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما* تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما ﴾ [ الأحزاب : ٤١-٤٤ ].
﴿ والله يعلم ما تصنعون ﴾
الله تعالى مطلع وشاهد لأعمالكم وسيجازيكم عليها، وفي الحديث الشريف :( والذي نفس محمد بيده لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا ).
مختارات من تفسير ابن كثير :
روى ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.. ﴾ فقال :( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزد بها من الله إلا بعدا )١٩.
وروى الحافظ أبو بكر البزار، قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم :( إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، قال : " إنه سينهاه ما تقول " )٢٠.
وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى، وهو المطلوب الأكبر، ولهذا قال تعالى :
﴿ ولذكر الله أكبر.. ﴾ أي : أعظم من الأول.
﴿ والله يعلم ما تصنعون ﴾
أي : يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم.
وعن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ ولذكر الله أكبر.. ﴾ يقول : ولذكر الله لعباده أكبر-إذا ذكروه- من ذكرهم إياه٢١.
وعن عبد الله بن ربيعة قال : قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله تعالى :{ ولذكر الله أكبر.. ؟ قلت : نعم، قال : فما هو ؟ قلت : التسبيح والتحميد في الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك، قال : لقد قلت قولا عجيبا، وما هو كذلك، ولكنه إنما يقول : ذكر الله إياكم عند ما أمر به أو نهى عنه، إذا ذكرتموه، أكبر من ذكركم إياه.
وقد روى هذا من غير وجه، عن ابن عباس، واختاره ابن جرير٢٢.
***
تم بحمد الله تعالى تفسير الجزء العشرين، والحمد لله، له الحمد في الأولى والآخرة، اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ضياء السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذي انزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون( ٤٦ ) وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين ءاتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بئاياتنا إلا الكافرون( ٤٧ ) وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذ لارتاب المبطلون( ٤٨ ) بل هو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بئاياتنا إلا الظالمون( ٤٩ ) ﴾
المفردات :
الجدل : الحجاج والمناظرة والمناقشة.
أهل الكتاب : اليهود والنصارى أتباع موسى وعيسى عليهما السلام.
إلا بالتي هي أحسن : إلا بالخصلة التي هي أحسن كمعارضة الخشونة بالين والغضب بالكظم وضبط النفس والمشاغبة بالنصح والتنبيه إلا آيات الله وحججه.
إلا الذين ظلموا منهم : لكن الظالمون منهم بالإفراط في الاعتداء والعناد والمحاربة، فجادلوهم وعاملوهم بالمثل.
وأنزل إليكم : صدقنا بالقران وبالتوراة وبالإنجيل في أصولهما الصحيحة.
مسلمون *** : خاضعون مطيعين.
التفسير :
﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾.
دعوة للمسلمين أن يتلطفوا في النقاش والجدال مع أهل الكتاب باستعمال النغمة الهادئة، والحكمة والأسلوب اللين.
كما قال تعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن... ﴾ ( النحل : ١٢٥ ).
وقال سبحانه لموسى وهارون :﴿ اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ﴾ ( طه : ٤٣-٤٤ ).
وهذا منهج الإسلام في النقاش والجدال، ورحابة صدره حيث يدعو إلى الإيمان بالرسل والكتب والأنبياء السابقين لأن الرسل جميعا أرسلهم اله واحد بالدعوة إلى توحيد الله، والتحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن الرذائل والقبائح.
يقول الله تعالى :﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾ ( البقرة : ٢٨٥ ).
وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الأنبياء إخوة لعلاَّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد ". ٢٣
ما أجمل دين الإسلام وما أسمى أهدافه فقد احترم الرسالات السماوية وصدق بالكتب السابقة وحث على النقاش الهادئ مع أهل الكتاب واستعمال اللغة المهذبة، والتعرف على ما عند الآخرين بالأسلوب الأحسن على حد قول علمائنا نتعاون فيما اتفقنا عليه يميز بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.
لكن من ظلم من أهل الكتاب واعتدى في فعله أو قوله فإنه يعامل معاملة مماثلة.
﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم... ﴾( البقرة : ١٩٤ ).
﴿ وقولوا آمنا بالقرآن وبالتوراة والإنجيل إيمانا مجملا ﴾.
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ". ٢٤
أي : ربنا وربكم واحد لا شريك له في الألوهية، ونحن له مسلمون مطيعون مستسلمون لحكمه وأمره.
﴿ وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ﴾.
المفردات :
وما يجحد بآياتنا : مع ظهورها وقيام الحجة على صدقها والجحد : إنكار الشيء بعد معرفته والعلم به.
التفسير :
أي : وكما أنزلانا التوراة على موسى والإنجيل على عيسى أنزلنا إليك القرآن كتاب الله الخالد المجرد من المثيل والنظير، المشتمل على الإلهيات والتشريعات والآداب والقصص وأخبار السابقين ونظام الإسلام وآدابه وتشريعاته وأحكامه وحِكمِه.
فالذين آتيناهم التوراة والإنجيل كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما ممن أسلم من أهل الكتاب يؤمنون بالقرآن ويصدقون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ ومن هؤلاء من يؤمن به... ﴾ ومن أهل مكة من يؤمن بالقرآن كذلك مثل المتحنثين الذين تركوا الإثم والشرك وآمنوا بالقرآن عند نزوله مثل بحيرا الراهب.
﴿ وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ﴾.
لا يرفض الإسلام ولا يكذب بالقرآن إلا المتوغل في الكفر الذي يجحد بآيات الله مع ظهورها وقيام الحجة على صدقها أي فهؤلاء هم المتوغلون في الكفر المصرون على العناد.
﴿ وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذ لارتاب المبطلون ﴾.
المفردات :
الارتياب : الشك.
المبطلون *** : اتباع الباطل وهم الكافرون.
التفسير :
ما كنت يا محمد كاتبا ولا قارئا بل كنت أميا لا تعرف القراءة والكتابة، لحكمة إلهية عليا هي نفى التهمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نقا هذا القرآن من الكتب السابقة ثم ادعى أنه من عند الله.
وهكذا يفند القرآن شبه الكافرين حتى الطفولي منها فمحمد صلى الله عليه وسلم عاش بين قومه مدة من الزمان عرفوا وتيقنوا بصدقه وأمانته، حتى قال هرقل ملك الروم لأبي سفيان هل جربتم عليه الكذب ؟ قال أبو سفيان : لا، فقال هرقل : ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
ومع وضوح الدلالة والحجة على صدق القرآن وشهادة الأعداء بأنه فوق طاقة البشر وأن له حلاوة وعليه طلاوة، وكلما تكرر حلا، وما يستطيع أن يقول مثله بشر مع شهادة صناديد الكفر بأن القرآن فوق طاقة البشر وأن مصدره قوة عليا فقد ادعى بعض المشركين أن محمدا نقل أساطير الأولين وعلومهم، ثم صاغها من عنده مدعيا أنها قرآن من عند الله قال تعالى :﴿ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه* بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما ﴾ ( الفرقان : ٥-٦ ).
روى الطبري عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ شيئا ولا يكتب.
وقال ابن كثير : المعنى : قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك يعرف أنك أمي لا تقرا ولا تكتب، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة، ولا يخط حرفا ولا سطرا بيده، بل كان له كتّاب يكتبون له الوحي والرسائل إلى الأقاليم وما أورده بعضهم من الحديث، أنه لم يمت حتى تعلم الكتابة فضعيف لا أصل له. ٢٥
﴿ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ﴾.
المفردات :
الظالمون : الذي ظلموا أنفسهم وجحدوا وجه الحق.
التفسير :
القرآن العظيم حفظه الله من التغيير والتبديل بطريقتين الأولى : حفظه في الصدور والثانية : حفظه في السطور.
فقد كان المسلمون يهدرون بالقرآن ليلا ونهارا، سحرا وقبل الفجر في السلم والحرب، وكانت أناجيلهم صدورهم، يقرؤون عن ظهر قلب كما أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ لنفسه كتابا يكتبون الوحي على العظام، وجريد النخل والكاغد وهو الورق الغليظ- وما تيسر لهم من وسائل الكتابة.
وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى والقرآن محفوظ في الصدور ومكتوب في السطور.
ثم استشهد سبعون من القراء في معركة اليمامة، فأشار عمر على أبي بكر بجمع القرآن في كتاب واحد، فعهد أبو بكر إلى زيد بن ثابت كاتب الوحي بكتابة المصحف في كتاب واحد خشية أن يضيع منه شيء بموت القراء.
وقد كان القرآن يقرأ على سبعة أحرف فتغالط القراء وتعصب كل حافظ للقرآن للطريقة والقراءة التي حفظ بها، فأشار المسلمون على عثمان بكتابة المصحف باللغة القرشية، على لهجة واحدة وهي اللغة الأم وإحراق ما عداها من اللهجات.
وظل المصحف العثماني في يد المسلمين إلى يومنا هذا، فالجمع في عهد أبي بكر بمعنى تدوين القرآن كاملا في كتاب واحد، والجمع في عهد عثمان هو كتابة القرآن باللغة العربية الفصحى، ونشر القرآن في المدن الرئيسية وإحراق اللهجات العربية الأخرى، وجمع الناس جميعا على المصحف الإمام الذي تكفل الله بحفظه فقال تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ﴾ ( الحجر : ٩ ).
فالقرآن آيات بينات ظاهرة واضحة الصدق، في صدور الصحابة والحافظين وإعجازه واضح للعيان ودلائل صدقه واضحة، فهو لم يصطدم بالعلم وأتى بمعجزات غيبية وعلمية وأسلوبية وبلاغية، تؤكد أنه من عند الله تعالى وليس من صنع بشر، فقد تكلم القرآن عن مراحل تكون الجنين في بطن أمه وأشار إلى بدء الخليقة، وإلى خلق السماوات والأرض، وإلى قلة الأكسجين في طبقات الجو العليا وإلى تطور العلوم في آفاق الكون وآفاق النفس وتميز القرآن بالصحة والصواب وعدم الاضطراب قال تعالى :
﴿ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾. ( النساء : ٨٢ ).
﴿ وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ﴾.
أي : المتعدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه.
***
﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين( ٥٠ ) أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون( ٥١ ) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض والذين ءامنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون( ٥٢ ) ﴾
التفسير :
﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين ﴾.
أي : وقال كفار مكة على سبيل التعنت والعناد : هلا أنزلت على محمد معجزات واضحات تؤكد صدق رسالته كناقة صالح وعصا موسى ومعجزات عيسى.
قل لهم يا محمد : أنا رسول الله مبلغ عن الله ليس علي إلا البلاغ أما المعجزات والآيات فهي شان من شؤون الله تعالى ينزلها بمشيئته وإرادته، وليس من شأني كعبد يبلغ عن الله أن أقترح عليه إنزال المعجزات.
قال تعالى :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ﴾. ( الإسراء : ٥٩ ).
﴿ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ﴾.
المفردات :
الكتاب : القرآن.
ذكرى : عظة وتذكرة.
التفسير :
مرت البشرية بمرحلة الطفولة ثم بمراحل النمو، ونزلت معجزات مادية كناقة صالح، وعصا موسى ومائدة عيسى، وكانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة عامة للناس أجمعين فأراد الله أن تكون معجزة هذه الرسالة، معجزة خالدة بخلاف المعجزات السابقة، فناقة صالح لم يشاهدها إلا الجيل الذي شاهد حياة صالح، وعصا موسى لم يشاهدها إلا الجيل الذي عاصر موسى، ومائدة عيسى لم يشاهدها إلا الجيل الذي شاهد حياة عيسى، أما القرآن الكريم فقد اشتمل على صنوف البيان وأخبار التاريخ، وآيات التشريع وألوان الهداية، وهو يقرأ ويحفظ عن ظهر قلب وقد تكفل الله بحفظه لتشاهده الأجيال السابقة واللاحقة.
والمعنى : أقصر هذا الكتاب فلم يوضع لهم حقيقة الرسالة المحمدية المشتملة على التوحيد والإيمان بالرسل والكتب واتباع الفرائض واجتناب المنهيات.
أو لم يكفهم هذا القرآن المعجز، المبين الحكيم الصادق دليلا على صدق محمد وآية عقلية خالدة ومعجزة مستمرة، حيث يقرأ هذا القرآن صباح مساء وفيه ألوان الهداية والتوضيح قال تعالى :﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ﴾. ( الأنبياء : ١ ).
﴿ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ﴾.
أي في هذا القرآن الكريم الذي تعم معجزته الزمان والمكان لنعمة عظيمة، وتذكرة بالغة لقوم يطلبون الإيمان ويحرصون على تحصيله.
﴿ قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ﴾.
المفردات :
شهيد : حاضرا بعلمه.
التفسير :
أي قل لهم يا محمد كفى بالله عالما وحكما عادلا وشهيدا حاضرا، يشهد لي بتبليغ الرسالة إليكم ويشهد عليكم بالتكذيب والعناد، وهو سبحانه مطلع وعالم بما في السموات من أفلاك وأملاك وبما في الأرض من مخلوقات وبالتالي يعلم رسالتي إليكم وتكذيبكم لي ولو كنت كاذبا لأهلكني، كما قال سبحانه وتعالى :﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل* لأخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين* فما منكم من أحد عنه حاجزين ﴾ ( الحاقة : ٤٤-٤٧ ).
﴿ والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ﴾.
أي والذين صدقوا بالأوثان والأصنام ونحوها، وجحدوا الإيمان بالله ورسوله، ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾. حيث باعوا آخرتهم وآثروا دنياهم، واشتروا الكفر بالإيمان، واتبعوا الباطل والطواغيت والكفر بلا دليل فكانوا هم الخاسرين خسارة كبرى حيث حرموا الجنة ونعيمها واستحقوا النار وعذابها.
***
﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون( ٥٣ ) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين( ٥٤ ) يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون( ٥٥ ) ﴾
المفردات :
يستعجلونك : يطلبون تعجيل العذاب الذي وغدتهم به.
اجل مسمى : هو الأجل الذي ضربه الله لوقوع العذاب.
بغتة : فجأة بدون توقع.
لا يشعرون : لا يتوقعون نزوله بهم.
التفسير :
﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾.
أي ويستعجلونك كفار مكة بنزول العذاب بهم، استهتارا وتحديا لك مثل قولهم :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾. ( الأنفال : ٣٢-٣٣ ).
﴿ ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾.
ولولا أن الله سبحانه وتعالى لا يعجل لعجلة العباد، وقد اقتضت حكمته إمهال الظالمين رجاء هدايتهم، أو تحقيق الثواب للمؤمنين من أجل امتحانهم وطول بلائهم، أو لتخرج من ظهور الكافرين ذرية صالحة تعبد الله وتهتدي بهدايته أو لغير ذلك من حكم إلهية عليا يعلمها الله من بينها : أنه يريد إمهال الظالمين إعذارا لهم، أو استدراجا حتى يكون عذابهم عادلا قال تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاءهم أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ﴾. ( فاطر : ٤٥ ).
وخلاصة المعنى : لولا أن الله تعالى حدد أجلا مسمى لنزول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلا في الدنيا.
﴿ وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾.
وسوف يأتينهم العذاب فجأة وهم لا يحسون بمجيئه بل يكونون في غفلة عنه.
ويشمل المعنى ما أصابهم يوم بدر حيث فاجأهم القتل والأسر وهم في غرور وتيه وكبرياء، لا يتصورون معه أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
أو المراد : وليأتينهم العذاب وهم قارون آمنون لا يخطر ببالهم أن ينزل بهم العذاب كشأن العقوبات النازلة على بعض الأمم السابقة بيانا وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون.
﴿ يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾.
التفسير :
أي يطلبون منك حدوث العذاب وهو واقع بهم لا محالة وإن جهنم ستحيط بهم من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم حيث لا يستطيعون منها فكاكا ولا هربا.
قال تعالى :﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون ﴾. ( الطور : ١٣-١٤ ).
وقال تعالى :﴿ يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ﴾. ( القمر : ٤٨ ).
﴿ يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ﴾.
المفردات :
يغشاهم : يحيط بهم ويعمهم.
ويقول : الله أو الملك الموكل بالعذاب.
ما كنتم تعملون : جزاءه فلا تفوتوننا.
التفسير :
يوم يعمهم العذاب ويحيط بهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومن جميع جهاتهم بحيث يجدون من الهوان والأهوال ما لا يفي به مقال، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من كفر ومعاص.
قال تعالى :﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش... ﴾ ( الأعراف : ٤١ ).
وقال تعالى :﴿ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل... ﴾ ( الزمر : ١٦ ).
وقال عز وجل :﴿ لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ﴾. ( الأنبياء : ٦٩ ).
***
﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون( ٥٦ ) كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون( ٥٧ ) والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين( ٥٨ ) الذي صبروا وعلى ربهم يتوكلون( ٥٩ ) وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم( ٦٠ ) ﴾
تمهيد :
تتحدث الآيات عن المؤمنين بمكة، وكانوا يتعرضون للاضطهاد والتعذيب فتدعوهم إلى الهجرة في أرض الله الواسعة وتهون شأن الدنيا وتبين أن الموت واقع لا محالة سواء في مكة و الحبشة أو المدينة فلا داعي للإقامة بدار مذلة أو هوان، وتذكر جزاء المؤمنين في الجنة ونعيمها وأنهارها وحسن جزائها، وتؤكد أن الرزق بيد الله، الذي يرزق الطير والنمل والحيوان والإنسان.
التفسير :
﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ﴾.
نداء للمؤمنين أينما كانوا إذا أحسوا بالظلم أو الهوان أن يرغبوا في الهجرة إلى مكان آخر.
روي عن مقاتل والكلبي أن الآية نزلت في المستضعفين من المؤمنين بمكة، أمروا بالهجرة عنها وعلى هذا أكثر المفسرين.
والعبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية تخلق في المؤمن حافزا إلى الهجرة، وتحثه على التخلص من الأذى والضيق والهجرة إلى أرض الله الواسعة.
أخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البلاد بلاد الله والعباد عباد الله فحيثما أصبت خيرا فأقم ". ٢٦
وقد هاجر المسلمون إلى الحبشة مرتين واستقبلهم أصحمة النجاشي استقبالا حسنا، فأقاموا في بلاد الحبشة يعبدون الله تعالى.
ثم هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة، وأقاموا بها دولة الإسلام، وكانت الهجرة على المدينة فتحا مبينا، وكانت الهجرة إلى المدينة واجبة قبل فتح مكة للقادر عليها فلما جاء نصر الله والفتح قال صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ". ٢٧
تمهيد :
تتحدث الآيات عن المؤمنين بمكة، وكانوا يتعرضون للاضطهاد والتعذيب فتدعوهم إلى الهجرة في أرض الله الواسعة وتهون شأن الدنيا وتبين أن الموت واقع لا محالة سواء في مكة و الحبشة أو المدينة فلا داعي للإقامة بدار مذلة أو هوان، وتذكر جزاء المؤمنين في الجنة ونعيمها وأنهارها وحسن جزائها، وتؤكد أن الرزق بيد الله، الذي يرزق الطير والنمل والحيوان والإنسان.
﴿ كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ﴾.
التفسير :
تأتي هذه الآية في القراءة لتهوين أمر الدنيا وبيان أن الجزاء العادل سيكون في الآخرة وأن الدنيا متاعها قليل، فيمكن للإنسان أن يستهين بأمر الهجرة والانتقال من بلد إلى بلد مادام ذلك في مرضاة الله.
والمعنى : كل نفس – سواء أكانت في وطنها الذي عاشت فيه أم في غيره- ذائقة الموت وخارجة من الدنيا إلينا، فنوفيها جزاءها فالتزموا أمرنا ولبوا نداءنا لأن عاقبتكم وجزاءكم الحقيقي عندنا.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن المؤمنين بمكة، وكانوا يتعرضون للاضطهاد والتعذيب فتدعوهم إلى الهجرة في أرض الله الواسعة وتهون شأن الدنيا وتبين أن الموت واقع لا محالة سواء في مكة و الحبشة أو المدينة فلا داعي للإقامة بدار مذلة أو هوان، وتذكر جزاء المؤمنين في الجنة ونعيمها وأنهارها وحسن جزائها، وتؤكد أن الرزق بيد الله، الذي يرزق الطير والنمل والحيوان والإنسان.
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين ﴾.
التفسير :
والذين صدقوا بالله وأكثروا من عمل الصالحات لننزلنهم منازل رفيعة في الجنة، حيث يتمتعون بقصورها العالية ومنازلها الرفيعة والأنهار تجري من تحتهم، وهم خالدون فيها خلودا أبديا سرمديا فانعم بذلك الجزاء وهو سكنى المنازل العالية في الجنة، والتمتع بنعيمها فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
جاء في تفسير القرطبي : خرج الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام إليه أعرابي فقال :/ لمن هي يا رسول الله ؟ قال " هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام ". ٢٨
تمهيد :
تتحدث الآيات عن المؤمنين بمكة، وكانوا يتعرضون للاضطهاد والتعذيب فتدعوهم إلى الهجرة في أرض الله الواسعة وتهون شأن الدنيا وتبين أن الموت واقع لا محالة سواء في مكة و الحبشة أو المدينة فلا داعي للإقامة بدار مذلة أو هوان، وتذكر جزاء المؤمنين في الجنة ونعيمها وأنهارها وحسن جزائها، وتؤكد أن الرزق بيد الله، الذي يرزق الطير والنمل والحيوان والإنسان.
﴿ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ﴾.
التفسير :
ونلمح ان الله تعالى يمدح المؤمنين ويثني على صفاتهم بعد أن ذكر عقاب الكافرين ووعيدهم فقد أثنى الله على صفاتهم ومنها الصبر والتوكل أي صبروا على أذى المشركين وعلى الهجرة وفراق الوطن متوكلين على الله فهم قد عملوا ما عليهم وتركوا لله نجاح سعيهم وهذه حقيقة التوكل أي : الأخذ بالأسباب وترك النتائج على رب الأرباب، وبهذا نفرق بين التوكل والتواكل، فقد رأى سيدنا عمر بن الخطاب قوما من أهل اليمن فقال لهم : ما حرفتكم ؟ قالوا : نحن متوكلون فقال لهم : أنتم متواكلون، المتوكل هو الذي يبذر البذرة وينتظر من الله إنضاج الثمرة.
أي أن الفلاح يحرث الأرض ويسقيها ويبذر البذرة ويتعهدها بالنظافة والسماد والسقي ثم ينتظر الحصاد، وكذلك المتوكل يأخذ بالأسباب ويعمل الأعمال اللازمة في السعي للدنيا والجهاد والهجرة، ثم يتوكل على الله معتمدا على فضله ورزقه.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن المؤمنين بمكة، وكانوا يتعرضون للاضطهاد والتعذيب فتدعوهم إلى الهجرة في أرض الله الواسعة وتهون شأن الدنيا وتبين أن الموت واقع لا محالة سواء في مكة و الحبشة أو المدينة فلا داعي للإقامة بدار مذلة أو هوان، وتذكر جزاء المؤمنين في الجنة ونعيمها وأنهارها وحسن جزائها، وتؤكد أن الرزق بيد الله، الذي يرزق الطير والنمل والحيوان والإنسان.
﴿ وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ﴾.
التفسير :
كثير من الدواب التي تدب على وجه الأرض كالنمل والطير والبهائم لا تطيق حمل رزقها، ولا تحمل شيئا لغد، أو تأكل بأفواهها ولا تحمل رزقها، الله تعالى يرزقها أينما توجهت كما يرزقكم، وهذه الدواب مع ضعفها وتوكلها، وأنتم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله.
قال القرطبي :﴿ الله يرزقها وإياكم... ﴾ يسوي بين الحريص والمتوكل في رزقه وبين الراغب والقانع وبين صاحب الحيلة في الرزق والعاجز، حتى لا يغتر الجلد أنه مرزوق بجلده، ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ". ٢٩
﴿ وهو السميع ﴾ لدعائكم وقولكم لا نجد ما ننفق بالمدينة، ﴿ العليم ﴾ : بما في قلوبكم.
﴿ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون( ٦١ ) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم( ٦٢ ) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون( ٦٣ ) ﴾
المفردات :
وسخر الشمس والقمر : ذللهما وسيرهما في مساراتهما.
فأنى يؤفكون : فكيف يصرفون عن توحيد الله ؟
التفسير :
﴿ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ﴾.
أي : إذا سألت هؤلاء المشركين عن الصانع لهذا الكون، الذي خلق السماء مرفوعة وخلق الأرض مبسوطة وسخر الشمس تجري لأجل مسمى وقدر نور القمر وجعله هلالا ثم بدرا ثم يعود هلالا ثم يدخل في المحاق والظلمة في آخر الشهر، أي : من أبدع نظام الكون وخلق السماء وسير الشمس والقمر ؟ ليقولن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر.
﴿ فأنى يؤفكون ﴾.
فكيف يصرفون عن عبادته وعن توحيده ؟ أي : كيف يعترفون بأنه الخالق وحده ثم يشركون معه في العبادة إلا بالرزق وأوثانا لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تجيب ؟
ولما ذكر سبحانه وتعالى اعترافهم بالخلق ذكر حال الرزق' من قبيل أن كمال الخلق ببقاء الرزق ولا بقاء للخلق إلا بالرزق فقال سبحانه :
﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ﴾.
المفردات :
يبسط الرزق : يوسعه ويزيده.
ويقدر : يضيقه ويقلله.
التفسير :
الله تعالى يوسع على من يشاء من عباده، في المال أو الجاه أو السلطان أو العلم أو الهيبة أو القبول أو الزوجة الصالحة أو الذرية الفاضلة كما يضيق على من يشاء في هذه الأرزاق لحكمة إلهية عليا فهو سبحانه أعلم بخلقه وبما يصلحهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة سبحانه وتعالى : " إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ".
وفي معنى الآية قوله تعالى :﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير* وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ويبشر رحمته وهو الولي الحميد ﴾. ( الشورى : ٢٧-٢٨ ).
﴿ ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ﴾.
المفردات :
أحيا به الأرض : أخصبها وجعلها ذات زرع.
موتها : جدبها.
التفسير :
وإذا سألت هؤلاء المشركين : من الذي ساق السحاب وأنزل المطر وأخصب الأرض فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج بعد أن كانت جدباء ميتة فأحياها الله بالمطر ؟
إذا سألتهم عن مسخر السحاب ومنزل المطر، ومحيي الأرض بالنبات ليقولن : الله هو الذي فعل ذلك قل : الحمد لله والشكر لله، الذي خلق الخلق ويسر الرزق، وأنزل المطر وأنبت النبات فله وحده الحمد والشكر أو الحمد لله الذي أنطقهم بذلك.
ومع اعترافهم بأنه سبحانه الخالق الرازق فإنهم يعبدون غيره أو يشركونه معه في العبادة مثل النجوم والأنواء والأصنام والأوثان.
﴿ بل أكثرهم لا يعقلون ﴾.
بل أكثرهم ليسوا من أهل التعقل والتدبر والتأمل، والاهتداء إلى أن الله وحده هو الخالق الذي يستحق العبادة دون سواه.
***
﴿ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعملون( ٦٤ ) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون( ٦٥ ) ليكفروا بما ءاتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون( ٦٦ ) ﴾
المفردات :
اللهو : الاستمتاع باللذات.
اللعب : العبث وما لا فائدة فيه.
لهي الحيوان : لهي الحياة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها والحيوان مصدر حيي كالحياة وأصله : الحييان تحركت الياء والفتح فقلبت واوا، وفي بناء المصدر على فعلان زيادة معنى لما يفيده من الحركة والاضطراب لأن الحياة حركة والموت سكون.
تمهيــد :
ذكر القرآن فيما سبق اعترافهم لله سبحانه وتعالى بأنه الخالق الرازق ثم هددهم بعد ذلك يتركون عبادته ويعبدون ما سواه اغترارا بزينة الحياة الدنيا، فذكر هنا أن الحياة الدنيا زائلة، ثم أرشدهم إلى أنهم مع شركهم بالله إذا عاينوا الغرق أو الهلاك دعوا الله مخلصين له الدين فإذا نجوا وانتقلوا إلى اليابسة عادوا إلى كفرهم وشركهم، وغدا يلقون جزاءهم.
التفسير :
﴿ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ﴾.
ما هذه الدنيا الفانية التي يتشبث بها المشركون إلا لهو يلهو به الكبار في غفلة وعمه، ولعب يلعب فيه الصغار في عبث وبهجة ثم لا تلبث أن تزول.
﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ﴾.
إن الدار الآخرة لهي الحياة الحقيقة التي لا موت بعدها ولا يكدر صفوها ولا ينقطع نعيمها.
لو كانوا يعلمون ذلك ويفقهونه لما آثروا عليها الدنيا الفانية.
تمهيــد :
ذكر القرآن فيما سبق اعترافهم لله سبحانه وتعالى بأنه الخالق الرازق ثم هددهم بعد ذلك يتركون عبادته ويعبدون ما سواه اغترارا بزينة الحياة الدنيا، فذكر هنا أن الحياة الدنيا زائلة، ثم أرشدهم إلى أنهم مع شركهم بالله إذا عاينوا الغرق أو الهلاك دعوا الله مخلصين له الدين فإذا نجوا وانتقلوا إلى اليابسة عادوا إلى كفرهم وشركهم، وغدا يلقون جزاءهم.
﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ﴾.
التفسير :
أي : إذا ركب المشركون السفينة وسارت بهم في عباب البحر ثم اكفهر الجو واشتدت الرياح، وعصفت بهم العواصف نسوا آلهتهم وأخلصوا العبادة والدعاء لله أن ينجيهم فلما استجاب الله لهم ونجاهم إلى اليابسة، عادوا إلى الشرك وإلى عبادة الأصنام وكان الأولى أن يشكروا الله وحده وأن يعبدوه وحده.
قال عكرمة بن أبي جهل :
كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت عليهم الريح ألقوها فيه وقالوا : يا رب يا رب.
قال الفخر الرازي :
وهذا دليل على ان معرفة الرب في فطرة كل إنسان وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء. أ ه.
تمهيــد :
ذكر القرآن فيما سبق اعترافهم لله سبحانه وتعالى بأنه الخالق الرازق ثم هددهم بعد ذلك يتركون عبادته ويعبدون ما سواه اغترارا بزينة الحياة الدنيا، فذكر هنا أن الحياة الدنيا زائلة، ثم أرشدهم إلى أنهم مع شركهم بالله إذا عاينوا الغرق أو الهلاك دعوا الله مخلصين له الدين فإذا نجوا وانتقلوا إلى اليابسة عادوا إلى كفرهم وشركهم، وغدا يلقون جزاءهم.
﴿ ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون ﴾.
التفسير :
أي : يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفران بما آتيناهم من نعمة النجاة، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام فسوف يعلمون عاقبة ذلك حين يلقون عذاب يوم القيامة.
وذهب بعض المفسرين إلى ان اللام في قوله تعالى :﴿ ليكفروا ﴾. لام الأمر، وأن الأسلوب مسوق مساق تهديدهم ووعيدهم فهو على حد قوله تعالى :﴿ اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ﴾. ( فصلت : ٤٠ ).
أي : واكفروا بنعم الله، وتمتعوا بلذائذ دنياكم وتجمعوا على عبادة أصنامكم فسوف تعلمون عاقبة كفركم حين تلقون العذاب الشديد.
***
﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون( ٦٧ ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين( ٦٨ ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين( ٦٩ ) ﴾
المفردات :
حرما آمنا : مكانا مقدسا يأمنون فيه وهو مكة.
ويتخطف الناس : الخطف والتخطف الأخذ بسرعة والمراد به القتل والسلب.
أفبالباطل : الأصنام أو الشيطان.
تمهيد :
يمتن الله على المشركين مكة بنعمة الأمن والأمان مع أن العرب من حولهم كثير وهم أهل إغارة وقتل ولكن الله حفظهم من ذلك، وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف فكان الأولى بهم أن يشكروا هذه النعم وان يؤمنوا بالرسول العربي الأمي لكنهم كفروا بالله وعبدوا الأصنام وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فاستحقوا الثواء والإقامة في جهنم أما المؤمنون المجاهدون فإن الله تعالى ييسر لهم سبل النصر والسعادة جزاء إيمانهم وإحسانهم.
التفسير :
﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ﴾.
أو لم يشاهدوا بأنفسهم أن مكة آمنة مطمئنة، سالمة من الغزو والقتل والإغارة، والعرب حولهم يشنون الحروب لأتفه الأسباب ويقومون بالإغارة والقتل بعضهم على بعض، وكان الأولى بهم بعد ذلك أن يؤمنوا بالله وحده، فإذا بهم يؤمنون بالأوثان والأصنام ويتركون الإيمان بالله ويكفرون بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف*فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴾. ( قريش : ١-٤ ).
وقال تعالى :﴿ ومن دخله كان آمنا... ﴾ ( آل عمرتن : ٩٧ ).
وقال صلى الله عليه وسلم : " من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ". ٣٠
تمهيد :
يمتن الله على المشركين مكة بنعمة الأمن والأمان مع أن العرب من حولهم كثير وهم أهل إغارة وقتل ولكن الله حفظهم من ذلك، وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف فكان الأولى بهم أن يشكروا هذه النعم وان يؤمنوا بالرسول العربي الأمي لكنهم كفروا بالله وعبدوا الأصنام وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فاستحقوا الثواء والإقامة في جهنم أما المؤمنون المجاهدون فإن الله تعالى ييسر لهم سبل النصر والسعادة جزاء إيمانهم وإحسانهم.
﴿ ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ﴾.
المفردات :
افترى على الله كذبا : اختلق على الله كذبا حيث ادعى له شريكا.
أو كذب بالحق ك أو كذب بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به.
مثوى : دار إقامة دائمة ومستقر.
التفسير :
أي إنسان أشد ظلما لنفسه ممن اختلق على الله كذبا فادعى أن له شريكا مع وضوح الأدلة على وحدانيته وتوافر الشواهد على ألوهيته أو جاوزا الحدود في الظلم حين كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم مع صدقه، ومع عجزهم عن الإتيان بمثل ما جاء به لقد استوجبوا الثواء في جهنم ففيها متسع لهم ولأمثالهم من الكافرين المكذبين.
تمهيد :
يمتن الله على المشركين مكة بنعمة الأمن والأمان مع أن العرب من حولهم كثير وهم أهل إغارة وقتل ولكن الله حفظهم من ذلك، وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف فكان الأولى بهم أن يشكروا هذه النعم وان يؤمنوا بالرسول العربي الأمي لكنهم كفروا بالله وعبدوا الأصنام وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فاستحقوا الثواء والإقامة في جهنم أما المؤمنون المجاهدون فإن الله تعالى ييسر لهم سبل النصر والسعادة جزاء إيمانهم وإحسانهم.
﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ﴾.
المفردات :
جاهدوا فينا : غالبوا أنفسهم وشيطانهم وأعدائهم لأجلنا.
لنهدينهم : لنيسرن لهم.
سبلنا : طرق الوصول إلينا.
التفسير :
تأتى هذه الآية في آخر السورة لتربط أولها بآخرها فقد تحدثت في أولها عن الجهاد وتحمل البلاد والمراد به جهاد النفس والصبر على الابتلاء ثم ختمت السورة ببيان أن الله يكرم المجاهدين بعز الدنيا وسعادة الآخرة.
والمعنى : والذين غالبوا وجاهدوا من أجلنا وفي سبيل نشر ديننا وتحملوا في سبيل ذلك البلاء والامتحان لنيسرن لهم السبل الموصلة إلى مرضاتنا.
﴿ وإن الله لمع المحسنين ﴾.
بالنصر في الدنيا، وبالنعيم في الآخرة.
روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : قال عيسى ابن مريم عليه السلام : إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.
وقال ابن عطية :
﴿ والذين جاهدوا فينا... ﴾ هي قبل الجهاد الموفى وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته.
وقال أبو سليمان الداراني :
ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين وقمع الظالمين وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر.
Icon