تفسير سورة الزخرف

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة الزخرف مكية وقيل إلا قوله : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا وآيها تسع وثمانون آية.

(٤٣) سورة الزخرف
مكية وقيل إلا قوله: (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) وآيها تسع وثمانون آية
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً، وهو من البدائع لتناسب القسم والمقسم عليه كقول أبي تمام: وَثَنَايَاكَ أَنَّهَا إِغْرِيضُ. ولعل إقسام الله بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة على المقسم عليه، وبالقرآن من حيث أنه معجز مبين لطرق الهدى وما يحتاج إليه في الديانة، أو بين للعرب ما يدل على أنه تعالى صيره كذلك لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفهموا معانيه.
وَإِنَّهُ عطف على انا، وقرأ حمزة والكسائي بالكسر على الاستئناف. فِي أُمِّ الْكِتابِ في اللوح المحفوظ فإنه أصل الكتب السماوية، وقرئ أم الكتاب بالكسر. لَدَيْنا محفوظاً عندنا عن التغيير.
لَعَلِيٌّ رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزاً من بينها. حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة، أو محكم لا ينسخه غيره.
وهما خبران لأن وفِي أُمِّ الْكِتابِ متعلق ب «عليّ» واللام لا تمنعه، أو حال منه ولَدَيْنا بدل منه أو حال من أُمِّ الْكِتابِ.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٥]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أفنذوده ونبعده عنكم مجاز من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض، قال طرفة:
اضرب عنك الهموم طارقها ضَرْبكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَس الفَرَسِ
والفاء للعطف على محذوف أي انهملكم فنضرب عَنْكُمُ الذِّكْرَ، وصَفْحاً مصدر من غير لفظه فإن تنحية الذكر عنهم إعراض أو مفعول له أو حال بمعنى صافحين، وأصله أن تولي الشيء صفحة عنقك.
وقيل إنه بمعنى الجانب فيكون ظرفاً ويؤيده أنه قرئ «صَُفْحاً» بالضم، وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح بمعنى صافحين، والمراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب على لغتهم ليفهموه. أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ أي لأن كنتم، وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإِعراض عنهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي أَنْ بالكسر على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق مخرج المشكوك استجهالاً لهم، وما قبلها دليل الجزاء.

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦ الى ٨]

وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عن استهزاء قومه.
فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي من القوم المسرفين لأنه صرف الخطاب عنهم إلى الرسول مخبراً عنهم.
وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ وسلف في القرآن قصتهم العجيبة، وفيه وعد للرسول ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٩ الى ١١]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ لعله لازم مقولهم أو ما دل عليه إجمالاً أقيم مقامه تقريراً لإِلزام الحجة عليهم، فكأنهم قالوا «الله» كما حكي عنهم في مواضع أخر وهو الذي من صفته ما سرد من الصفات، ويجوز أن يكون مقولهم وما بعده استئناف.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً فتستقرون فيها وقرأ غير الكوفيون «مهاداً» بالإلف.
وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا تسلكونها. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لكي تهتدوا إلى مقاصدكم، أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك.
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ بمقدار ينفع ولا يضر. فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً مال عنه النماء.
وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد والمكان. كَذلِكَ مثل ذلك الإِنشار. تُخْرَجُونَ تنشرون من قبوركم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أصناف المخلوقات. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ ما تركبونه على تغليب المتعدي بنفسه على المتعدي بغيره إذ يقال: ركبت الدابة وركبت في السفينة، أو المخلوق للركوب على المصنوع له أو الغالب على النادر ولذلك قال:
لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي ظهور ما تركبون وجمعه للمعنى. ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها. وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مطيقين من أقرن الشيء إذا أطاقه، وأصله وجد قرينته إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف. وقرئ بالتشديد والمعنى واحد.
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال.
سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى قوله:
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي راجعون، واتصاله بذلك لأن الركوب للتنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى، أو لأنه مخطر فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه ويستعد للقاء الله تعالى.

[سورة الزخرف (٤٣) : آية ١٥]

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً متصل بقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي وقد جعلوا له بعد ذلك الاعتراف من عباده ولداً فقالوا الملائكة بنات الله، ولعله سماه جزءاً كما سمي بعضاً لأنه بضعة من الوالد دلالة على استحالته على الواحد الحق في ذاته، وقرأ أبو بكر «جزءوا» بضمتين. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ظاهر الكفران ومن ذلك نسبة الولد إلى الله لأنها من فرط الجهل به والتحقير لشأنه.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٦ الى ١٧]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ معنى الهمزة في أَمِ للإِنكار والتعجب من شأنهم حيث لم يقنعوا بأن جعلوا له جزءاًً حتى جعلوا له من مخلوقاته أجزاء أخس مما اختير لهم وأبغض الأشياء إليهم، بحيث إذا بشر أحدهم بها اشتد غمه به كما قال:
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا بالجنس الذي جعله له مثلاً إذ الولد لا بد وأن يماثل الوالد. ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا صار وجهه أسود في الغاية لما يعتريه من الكآبة. وَهُوَ كَظِيمٌ مملوء قلبه من الكرب، وفي ذلك دلالات على فساد ما قالوه، وتعريف البنين بما مر في الذكور، وقرئ «مسود» و «مسواد» على أن في ظَلَّ ضمير المبشر و «وَجْهُهُ مُسْوَدّ» جملة وقعت خبرا.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٨ الى ١٩]
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي أو جعلوا له، أو اتخذ من يتربى في الزينة يعني البنات. وَهُوَ فِي الْخِصامِ في المجادلة. غَيْرُ مُبِينٍ مقرر لما يدعيه من نقصان العقل وضعف الرأي، ويجوز أن يكون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من هذا حاله ولده وفِي الْخِصامِ متعلق ب مُبِينٍ، وإضافة غَيْرُ إليه لا يمنعه لما عرفت. وقرأ حمزة والكسائي وحفص يُنَشَّأُ أي يربي. وقرئ «يُنَشَّأُ» و «يناشأ» بمعناه ونظير ذلك أعلاه وعلاه وعالاه بمعنى.
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً كفر آخر تضمنه مقالهم شنع به عليهم، وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله تعالى أنقصهم رأياً وأخسهم صنفاً. وقرئ عبيد وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب «عند» على تمثيل زلفاهم. وقرئ «أنثاً» وهو جمع الجمع. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أحضروا خلق الله إياهم فشاهدوهم إناثاً، فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة وهو تجهيل وتهكم بهم. وقرأ نافع أَشْهَدُواْ بهمزة الاستفهام وهمزة مضمومة بين بين، و «ءاأشهدوا» بمدة بينهما. سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على الملائكة. وَيُسْئَلُونَ أي عنها يوم القيامة، وهو وعيد شديد. وقرئ «سيكتب» و «سنكتب» بالياء والنون.
و «شهاداتهم» وهي أن لله جزءا أو أن له بنات وهن الملائكة ويساءلون من المساءلة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ مَّا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ أي لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم فاستدلوا بنفي مشيئة عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها، وذلك باطل لأن المشيئة ترجح بعض الممكنات على
بعض مأموراً كان أو منهياً حسناً كان أو غيره، ولذلك جهلهم فقال: مَّا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يتمحلون تمحلاً باطلاً، ويجوز أن تكون الإِشارة إلى أصل الدعوى كأنه لما أبدى وجوه فسادها وحكى شبهتهم المزيفة نفى أن يكون لهم بها علم من طريق العقل، ثم أضرب عنه إلى إنكار أن يكون لهم سند من جهة النقل فقال:
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن أو ادعائهم ينطق على صحة ما قالوه. فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بذلك الكتاب متمسكون.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ أي لا حجة لهم على ذلك عقلية ولا نقلية، وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة، وال أُمَّةٍ الطريقة التي تؤم كالراحلة للمرحول إليه، وقرئت بالكسر وهي الحالة التي يكون عليها الأم أي القاصد ومنها الدين.
وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقدميهم أيضاً لم يكن لهم سند منظور إليه، وتخصيص المترفين إشعار بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا أي أتتبعون آبائكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، وهي حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير، أو خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويؤيد الأول أنه قرأ ابن عامر وحفص قالَ وقوله: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي وإن كان أهدى إقناطاً للنذير من أن ينظروا أو يتفكروا فيه.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالاستئصال. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ولا تكترث بتكذيبهم.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ واذكر وقت قوله هذا ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل، أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد فإنه أشرف آبائهم. لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ بريء من عبادتكم أو معبودكم، مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث، وقرئ «بريء» و «براء» ككريم وكرام.
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي استثناء منقطع أو متصل على أن «ما» يعم أولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام والأوثان، أو صفة على أن «ما» موصوفة أي إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني.
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ سيثبتني على الهداية، أو سيهديني إلى ما وراء ما هداني إليه.
وَجَعَلَها وجعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو الله كلمة التوحيد. كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته فيكون فيهم أبداً من يوحد الله ويدعو إلى توحيده، وقرئ «كَلِمَةَ» و «فِى عَقِبِهِ» على التخفيف و «في عاقبه»
أي فيمن عقبه. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يرجع من أشرك بدعاء من وحد.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ هؤلاء المعاصرين للرسول صلّى الله عليه وسلم من قريش وآباءهم بالمد في العمر والنعمة، فاغتروا لذلك وانهمكوا في الشهوات. وقرئ «مَتَّعْتُ» بالفتح على أنه تعالى اعترض به على ذاته في قوله:
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً مبالغة في تعييرهم. حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ دعوة التوحيد أو القرآن. وَرَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرسالة بما له من المعجزات، أو مُبِينٌ للتوحيد بالحجج والآيات.
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ لينبههم عن غفلتهم قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به، فسموا القرآن سحراً وكفروا به واستحقروا الرسول.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من إحدى القريتين مكة والطائف. عَظِيمٍ بالجاه والمال كالوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي، فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم، ولم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية.
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم، والمراد بالرحمة النبوة. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهم عاجزون عن تدبيرها وهي خويصة أمرهم في دنياهم، فمن أين لهم أن يدبروا أمر النبوة التي هي أعلى المراتب الإنسية، وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله. وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ وأوقعنا بينهم التفاوت في الرزق وغيره. لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ليستعمل بعضهم بعضاً في حوائجهم فيحصل بينهم تآلف وتضام ينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع ولا لنقص في المقتر، ثم إنه لا اعتراض لهم علينا في ذلك ولا تصرف فكيف يكون فيما هو أعلى منه. وَرَحْمَتُ رَبِّكَ يعني هذه النبوة وما يتبعها. خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا والعظيم من رزق منها لا منه.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لولا أن يرغبوا في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه. لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ ومصاعد جمع معرج، وقرئ «ومعاريج» جمع معراج. عَلَيْها يَظْهَرُونَ يعلون السطوح لحقارة الدنيا، وَلِبُيُوتِهِمْ بدل من لِمَنْ بدل الاشتمال أو على كقولك: وهبت له ثوباً لقميصه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «وسقفا» اكتفاء بجمع البيوت، وقرئ «سقفاً» بالتخفيف و «سقوفاً» و «سقفاً» وهي لغة في سقف. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ أي أبواباً وسرراً من فضة.
وَزُخْرُفاً وزينة عطف على سُقُفاً أو ذهباً عطف على محل من فضة وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إِن هي المخففة واللام هي الفارقة. وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه لما بالتشديد بمعنى إلا وأن نافية، وقرئ به مع أن وما وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ عَن الكفر والمعاصي، وفيه دلالة على أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا، وإشعار بما لأجله لم يجعل ذلك للمؤمنين حتى يجتمع الناس على الإِيمان، وهو أنه تمتع قليل بالإِضافة إلى ما لهم في الآخرة مخل به في الأغلب لما فيه من الآفات قل من يتخلص عنها كما أشار إليه بقوله:
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ يتعام ويعرض عنه لفرط اشتغاله بالمحسوسات وانهماكه في الشهوات، وقرئ «يَعْشَ» بالفتح أي يعم يقال عشي إذا كان في بصره آفة وعشى إذا تعشى بلا آفة كعرج وعرج، وقرئ «يعشو» على أن مَنْ موصولة. نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يوسوسه ويغويه دائماً، وقرأ يعقوب بالياء على إسناده إلى ضمير الرَّحْمنِ، ومن رفع «يعشو» ينبغي أن يرفع نُقَيِّضْ.
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ عن الطريق الذي من حقه أن يسبل، وجمع الضميرين للمعنى إذ المراد جنس العاشي والشيطان المقيض له. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ الضمائر الثلاثة الأول له والباقيان للشيطان.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
حَتَّى إِذا جاءَنا أي العاشي، وقرأ الحجازيان وابن عامر وأبو بكر «جاآنا» أي العاشي والشيطان.
قالَ أي العاشي للشيطان. يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ بعد المشرق من المغرب، فغلب المشرق وثنى وأضيف البعد إليهما. فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت.
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي ما أنتم عليه من التمني. إِذْ ظَلَمْتُمْ إذ صح إنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا بدل من الْيَوْمَ. أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وشياطينكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه، ويجوز أن يسند الفعل إليه بمعنى. ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في أمر صعب معاونتهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لمكابدة عنائه، إذ لكل منكم ما لا تسعه طاقته. وقرئ «إِنَّكُمْ» بالكسر وهو يقوي الأول.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ إِنكار وتعجب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد تمرنهم على الكفر واستغراقهم في الضلال بحيث صار عشاهم عمى مقروناً بالصمم. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتعب نفسه في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غياً فنزلت. وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عطف على الْعُمْيَ باعتبار تغاير الوصفين، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي فإِن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم، و «ما» مزيدة مؤكدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بعذاب فِى الدنيا والآخرة.
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أو إِن أردنا أن نريك ما وعدناهم من العذاب، وقرأ يعقوب برواية رويس أو نُرِيَنَّكَ بإسكان النون وكذا نَذْهَبَنَّ. فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ لاَ يَفوتوننا.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من الآيات والشرائع، وقرئ «أُوحِىَ» على البناء للفاعل وهو الله تعالى. إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج له.
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ لشرف لك. وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ أي عَنْهُ يوم القيامة وعن قيامكم بحقه.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٤٥]
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أي واسأل أممهم وعلماء دينهم، وقرأ ابن كثير والكسائي بتخفيف الهمزة. أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ هل حكمنا بعبادة الأوثان وهل جاءت في ملة من مللهم، والمراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه فيكذب ويعادي له، فإنه كان أقوى ما حملهم على التكذيب والمخالفة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ يريد باقتصاصه تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومناقضة قولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ والاستشهاد بدعوة موسى عليه السلام إلى التوحيد ليتأملوا فيها.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ فاجؤوا وقت ضحكهم منها، أي استهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٤٨]
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨)
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها إلا هي بالغة أقصى درجات الإِعجاز بحيث يحسب الناظر فيها أنها أكبر مما يقاس إليها من الآيات، والمراد وصف الكل بالكبر كقولك: رأيت رجالاً بعضهم أفضل من بعض، وكقوله:
مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاَقَيْتُ سَيِّدَهُم مِثْلُ النُّجُومِ الَّتي يَسْرِي بِهَا السَّارِي
أو إِلَّا وهي مختصة بنوع من الاعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ كالسنين والطوفان والجراد. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ على وجه يرجى رجوعهم.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ نادوه بذلك في تلك الحال لشدة شكيمتهم وفرط حماقتهم، أو لأنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً. وقرأ ابن عامر بضم الهاء ادْعُ لَنا رَبَّكَ فيكشف عنا العذاب. بِما عَهِدَ
عِنْدَكَ
بعهده عندك من النبوة، أو من أن يستجيب دعوتك، أو أن يكشف العذاب عمن اهتدى، أو بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فوفيت به وهو الإِيمان والطاعة. إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فاجؤوا نكث عهدهم بالاهتداء.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢)
وَنادى فِرْعَوْنُ بنفسه أو بمناديه. فِي قَوْمِهِ في مجمعهم أو فيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمن بعضهم. قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ أنهار النيل ومعظمها أربعة أنهر: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس. تَجْرِي مِنْ تَحْتِي تحت قصري أو أمري، أو بين يدي في جناني والواو إما عاطفة لهذه الْأَنْهارُ على الملك وتَجْرِي حال منها. أو واو حال وهذه مبتدأ والْأَنْهارُ صفتها وتَجْرِي خبرها. أَفَلا تُبْصِرُونَ ذلك.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مَع هذه المملكة والبسطة. مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ضعيف حقير لا يستعد للرئاسة، من المهانة وهي القلة. وَلا يَكادُ يُبِينُ الكلام لما به من الرتة فكيف يصلح للرسالة، وأَمْ إما منقطعة والهمزة فيها للتقرير إذ قدم من أسباب فضله، أو متصلة على إقامة المسبب مقام السبب. والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون فتعلمون أني خير منه.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)
فلولا ألقي عليه أساورة مّن ذَهَبٍ أي فهلا ألقي عليه مقاليد الملك إن كان صادقاً، إذ كانوا إذا سودوا رجلاً سوروه وطوقوه بسوار وطوق من ذهب، وأساورة جمع أسوار بمعنى السوار على تعويض التاء من ياء أساوير. وقد قرئ به وقرأ يعقوب وحفص «أَسْوِرَةٌ» وهي جمع سوار. وقرئ «أساور» جمع «أَسْوِرَةٌ» و «أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ» و «أساور» على البناء للفاعل وهو الله تعالى. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ مقرونين يعينونه أو يصدقونه من قرنته به فاقترن، أو متقارنين من اقترن بمعنى تقارن.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فطلب منهم الخفة في مطاوعته أو فاستخف أحلامهم. فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
فَلَمَّا آسَفُونا أغَضبونا بالإِفراط في العناد والعصيان منقول من أسف إذا اشتد غضبه. انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ في اليم.
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة لمن بعدهم من الكفار يقتدون به في استحقاق مثل عقابهم، مصدر نعت به أو جمع سالف كخدم وخادم، وقرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام جمع سليف كرغف ورغيف، أو سالف كصبر جمع صابر أو سلف كخشب. وقرئ «سَلَفاً» بإبدال ضمة اللام فتحة أو على أنه جمع سلفة أي ثلة قد سلفت. وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ وعظة لهم أو قصة عجيبة تسير مسير الأمثال لهم فيقال: مثلكم مثل قوم فرعون.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أي ضربه ابن الزبعرى لما جادل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أو غيره بأن قال النصارى أهل كتاب وهم يعبدون عيسى عليه السلام ويزعمون أنه ابن الله والملائكة أولى بذلك، أو على قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أو أن محمداً يريد أن نعبده كما عبد المسيح. إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ من هذا المثل. يَصِدُّونَ يضجون فرحاً لظنهم أن الرسول صلّى الله عليه وسلم صار ملزماً به. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالضم من الصدود أي يصدون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل هما لغتان نحو يعكف ويعكف.
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي آلهتنا خير عندك أم عيسى عليه السلام فإن يكن في النار فلتكن آلهتنا معه، أو آلهتنا الملائكة خير أم عيسى عليه السلام فإذا جاز أن يعبد ويكون ابن الله كانت آلهتنا أولى بذلك، أو آلهتنا خير أم محمد صلّى الله عليه وسلم فنعبده وندع آلهتنا. وقرأ الكوفيون «أآلهتنا» بتحقيق الهمزتين وألف بعدهما. مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ما ضربوا هذا المثل إلا لأجل الجدل والخصومة لا لتمييز الحق من الباطل. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ شداد الخصومة حراص على اللجاج.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوة. وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أمراً عجيباً كالمثل السائر لبني إسرائيل، وهو كالجواب المزيح لتلك الشبهة.
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لولدنا منكم يا رجال كما ولدنا عيسى من غير أب، أو لجعلنا بدلكم.
مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ملائكة يخلفونكم في الأرض، والمعنى أن حال عيسى عليه السلام وإن كانت عجيبة فإنه تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، وأن الملائكة مثلكم من حيث أنها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليداً كما جاز خلقها إبداعاً، فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله سبحانه وتعالى.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢)
وَإِنَّهُ وإن عيسى عليه السلام. لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ لأن حدوثه أو نزوله من أشراط الساعة يعلم به دنوها، أو لأن احياء الموتى يدل على قدرة الله تعالى عليه. وقرئ «لَعِلْمٌ» أي لعلامة ولذكر على تسمية ما يذكر به ذكراً،
وفي الحديث ينزل عيسى عليه السلام على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها أفيق وبيده حربة يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به.
وقيل الضمير للقرآن فإن فيه الإعلام بالساعة والدلالة عليها. فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فَلا تشكن فيها. وَاتَّبِعُونِ واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي. وقيل هو قول الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر أن يقوله.
هذا الذي أدعوكم إليه. صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه.
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن المتابعة. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثابت عداوته بأن أخرجكم عن الجنة وعرضكم للبلية.

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]

وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤)
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو بآيات الإِنجيل، أو بالشرائع الواضحات. قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بالإِنجيل أو بالشريعة. وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا لبيانه، ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما أبلغه عنه.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بيان لما أمرهم بالطاعة فيه، وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع.
هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ الإِشارة إلى مجموع الأمرين وهو تتمة كلام عيسى عليه السلام، أو استئناف من الله تعالى يدل على ما هو المقتضي للطاعة في ذلك.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ الفرق المتحزبة. مِنْ بَيْنِهِمْ من بين النصارى أو اليهود والنصارى من بين قومه المبعوث إليهم. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من المتحزبين مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هو القيامة.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ الضمير لقريش أو لِلَّذِينَ ظَلَمُوا. أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل من السَّاعَةَ والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. بَغْتَةً فجأة. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ غَافِلُونَ عنها لاشتغالهم بأمور الدنيا وإنكارهم لها.
الْأَخِلَّاءُ الأحباء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي يتعادون يومئذ لانقطاع العلق لظهور ما كانوا يتخالون له سبباً للعذاب. إِلَّا الْمُتَّقِينَ فإن خلتهم لما كانت في الله تبقى نافعة أبد الآباد.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
يا عِبادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩)
يا عِبادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ حكاية لما ينادي به المتقون المتحابون في الله يومئذ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص بغير الياء.
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا صفة المنادي. وَكانُوا مُسْلِمِينَ حال من الواو أي الذين آمنوا مخلصين، غير أن هذه العبارة آكد وأبلغ.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ نساؤكم المؤمنات. تُحْبَرُونَ تسرون سروراً يظهر حباره أي أثره على وجوهكم، أو تزينون من الحبر وهو حسن الهيئة أو تكرمون إكراماً يبالغ فيه، والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ الصحاف جمع صحفة، والأكواب جمع كوب وهو كوز لا
عروة له. وَفِيها وفي الجنة مَا تَشْتَهِى الأنفس وقرأ نافع وابن عامر وحفص تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ على الأصل. وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ بمشاهدته وذلك تعميم بعد تخصيص ما يعد من الزوائد في التنعم والتلذذ. وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الحال.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقرأ ورثتموها، شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه العامل، وتلك إشارة إلى الجنة المذكورة وقعت مبتدأ والجنة خبرها، والَّتِي أُورِثْتُمُوها صفتها أو الْجَنَّةُ صفة تِلْكَ والَّتِي خبرها أو صفة الْجَنَّةُ والخبر بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وعليه يتعلق الباء بمحذوف لا ب أُورِثْتُمُوها.
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ بعضها تأكلون لكثرتها ودوام نوعها، ولعل تفصيل التنعم بالمطاعم والملابس وتكريره في القرآن وهو حقير بالإضافة إلى سائر نعائم الجنة لما كان بهم من الشدة والفاقة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ الكاملين في الإِجرام وهم الكفار لأنه جعل قسيم المؤمنين بالآيات، وحكى عنهم ما يخص بالكفار. فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ خبر إن أو خالدون خبر والظرف متعلق به.
لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلاً والتركيب للضعف. وَهُمْ فِيهِ في العذاب مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة.
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ مر مثله غير مرة وهم فصل.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
وَنادَوْا يا مالِكُ وقرئ «يا مال» على الترخيم مكسوراً ومضموماً، ولعله إشعار بأنهم لضعفهم لا يستطيعون تأدية اللفظ بالتمام ولذلك اختصروا فقالوا: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ والمعنى سل ربنا أن يقضي علينا من قضى عليه إذا أماته، وهو لا ينافي إبلاسهم فإنه جؤار وتمن للموت من فرط الشدة قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لا خلاص لكم بموت ولا بغيره.
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ بالإِرسال والإِنزال، وهو تتمة الجواب إن كان في قالَ ضمير الله وإلا فجواب منه فكأنه تعالى تولى جوابهم بعد جواب مالك. وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لما في اتباعه من إتعاب النفس وآداب الجوارح.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً في تكذيب الحق ورده ولم يقتصروا على كراهته. فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أمراً في مجازاتهم والعدول عن الخطاب للإشعار بأن ذلك أسوأ من كراهتهم، أو أم أحكم المشركون أمراً من كيدهم بالرسول
فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا بهم، ويؤيده قوله:
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ حديث أنفسهم بذلك. وَنَجْواهُمْ وتناجيهم. بَلى نسمعهما.
وَرُسُلُنا والحفظة مع ذلك. لَدَيْهِمْ ملازمة لهم. يَكْتُبُونَ ذلك.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٨١]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١)
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ منكم فإن النبي صلّى الله عليه وسلم يكون أعلم بالله وبما يصح له وبما لا يصح له، وأولى بتعظيم ما يوجب تعظيمه ومن تعظيم الوالد تعظيم ولده، ولا يلزم من ذلك صحة كينونة الولد وعبادته له إذ المحال قد يستلزم المحال بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا غير أن لَوْ ثم مشعرة بانتفاء الطرفين، وإن هاهنا لا تشعر به ولا بنقيضه فإنها لمجرد الشريطة بل الانتفاء معلوم لانتفاء اللازم الدال على انتفاء ملزومه، والدلالة على أن إنكاره الولد ليس لعناد ومراء بل لو كان لكان أولى الناس بالاعتراف به. وقيل معناه إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله الموحدين له أو الآنفين منه، أو من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه، أو ما كان له ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة. وقرأ حمزة والكسائي وَلَدَ بالضم وسكون اللام.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ عن كونه ذا ولد فإن هذه الأجسام لكونها أصولاً ذات استمرار تبرأت عما يتصف به سائر الأجسام من توليد المثل، فما ظنك بمبدعها وخالقها.
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم. وَيَلْعَبُوا في دنياهم. حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي يوم القيامة، وهو دلالة على أن قولهم هذا جهل واتباع هوى، وإنهم مطبوع على قلوبهم معذبون في الآخرة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ مستحق لأن يعبد فيهما، والظرف متعلق به لأنه بمعنى المعبود أو متضمن معناه كقولك: هو حاتم في البلد، وكذا فيمن قرأ «الله» والراجع مبتدأ محذوف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه، ولا يجوز جعله خبراً له لأنه لا يبقى له عائد لكن لو جعل صلة وقدر الإِله مبتدأ محذوف يكون به جملة مبينة للصلة دالة على أن كونه في السماء بمعنى الألوهية دون الاستقرار، وفيه نفي الآلهة السماوية والأرضية واختصاصه باستحقاق الألوهية. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ كالدليل عليه.
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كالهواء. وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ العلم بالساعة التي تقوم القيامة فيها. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم وروح بالتاء على الالتفات للتهديد.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله.
إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بالتوحيد، والاستثناء متصل إن أريد بالموصول كل ما عبد من دون الله لاندراج الملائكة والمسيح فيه، ومنفصل إن خص بالأصنام.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ سألت العابدين أو المعبودين. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لتعذر المكابرة فيه من فرط ظهوره فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
وَقِيلِهِ وقول الرسول ونصبه للعطف على سرهم، أو على محل الساعة أو لإِضمار فعله أي وقال قِيلِهِ. وجره عاصم وحمزة عطفا على السَّاعَةِ، وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ خبره: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ أو معطوف على عِلْمُ السَّاعَةِ بتقدير مضاف. وقيل هو قسم منصوب بحذف الجار أو مجرور بإضماره، أو مرفوع بتقدير وَقِيلِهِ يا رَبِّ قسمي، وإِنَّ هؤُلاءِ جوابه.
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فأعرض عن دعوتهم آيساً عن إيمانهم. وَقُلْ سَلامٌ تسلم منكم ومتاركة. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تسلية للرسول وتهديد لهم، وقرأ نافع وابن عامر بالتاء على أنه من المأمور بقوله.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عبادي لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم ولا أنتم تحزنون».
Icon