تفسير سورة الأحقاف

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ٣٤ وقيل ٣٥

[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ فاحمدوا الله لذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات والأرض والعالمين، فان مثل هذه الربوبية العامة يوجب الحمد والثناء على كل مربوب، وكبروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وحق مثله أن يكبر ويعظم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب» «١».
سورة الأحقاف
مكية [إلا الآيات ١٠ و ١٥ و ٣٥ فمدنية] وآياتها ٣٤ وقيل ٣٥ آية [نزلت بعد الجاثية] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣)
إِلَّا بِالْحَقِّ إلا خلقا ملتبسا بالحكمة والغرض الصحيح وَبتقدير أَجَلٍ مُسَمًّى ينتهى إليه وهو يوم القيامة وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا من هول ذلك اليوم الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه مُعْرِضُونَ لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له. ويجوز أن تكون ما مصدرية، أى: عن إنذارهم ذلك اليوم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
(١). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب. [.....]
بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أى من قبل هذا الكتاب وهو القرآن، يعنى: أنّ هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك. وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأوّلين، من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم، أى: على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب. وقرئ: أثرة، أى: من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم. وقرئ: أثرة بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء، فالإثرة بالكسر بمعنى الأثرة. وأما الأثرة فالمرّة من مصدر: أثر الحديث إذا رواه. وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر، كالخطبة: اسم ما يخطب به
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٥]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥)
وَمَنْ أَضَلُّ معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام، «١» حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام، ويدعون من دونه جمادا لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة، وإذا قامت القيامة وحشر الناس: كانوا لهم أعداء، وكانوا عليهم ضدا، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم. وإنما قيل مَنْ وهُمْ لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلا وغباوة. ويجوز أن يريد: كلّ معبود من دون الله من الجن
(١). قال محمود: «استفهام معناه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام... الخ» قال أحمد: وفي قوله إلى يوم القيامة: نكتة حسنة، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية، لأنهم في القيامة أيضا لا يستجيبون لهم، فالوجه والله أعلم: أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشىء وضده، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم، فهو من وادى ما تقدم آنفا في سورة الزخرف في قوله بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ.
والإنس والأوثان، فغلب غير الأوثان عليها. وقرئ: ما لا يستجيب. وقرئ: يدعو غير الله من لا يستجيب، ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها. ونحوه قوله تعالى إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٦ الى ٧]
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
بَيِّناتٍ جمع بينة: وهي الحجة والشاهد. أو واضحات مبينات. واللام في لِلْحَقِّ مثلها في قوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً أى لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا «١». والمراد بالحق: الآيات، وبالذين كفروا: المتلو عليهم، فوضع الظاهران موضع الضميرين، للتسجيل عليهم بالكفر، وللمتلوّ بالحق لَمَّا جاءَهُمْ أى: بادوه بالجحود ساعة أتاهم، وأوّل ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر. ومن عنادهم وظلمهم: أنهم سموه سحرا مبينا ظاهرا أمره في البطلان لا شبهة فيه.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٨]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا إلى ذكر قولهم: إن محمدا افتراه. ومعنى الهمزة في أم: الإنكار والتعجيب، كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضى منه العجب، وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله، ولو قدر عليه دون أمّة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدّق الكاذب فلا يكون مفتريا. والضمير للحق، والمراد به الآيات قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ على سبيل الفرض عاجلني الله تعالى لا محالة بعقوبة الافتراء عليه. فلا تقدرون
(١). قال محمود: «اللام في قوله تعالى للحق نحو اللام في قوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أى لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا... الخ» قال أحمد: هذا الاضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفا في بابها فانه انتقال إلى موافق، لكنه أزيد من الأول، فنزل بزيادته عليه مع ما تقدمه مما ينقص عنه منزلة المتنافيين، كالنفى والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر، وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات أشد وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر، فأضرب عن ذلك الأول إلى ذكر ما هو أغرب منه.
على كفه عن معاجلتى ولا تطيقون دفع شيء من عقابه عنى، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه.
يقال: فلان لا يملك إذا غضب، ولا يملك عنانه إذا صمم، ومثله فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ومنه قوله عليه السلام «لا أملك لكم من الله شيئا» «١» ثم قال هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أى تندفعون فيه من القدح في وحى الله تعالى، والطعن في آياته، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق والبلاغ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود. ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوا. فإن قلت: فما معنى إسناد الفعل إليهم «٢» في قوله تعالى فلا تملكون لي؟ قلت: كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والإشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم، فكأنه قال لهم: إن افتريته وأنا أريد بذلك التنصح لكم وصدكم عن عبادة الآلهة إلى عبادة الله، فما تغنون عنى أيها المنصوحون إن أخذنى الله بعقوبة الافتراء عليه.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٩]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
البدع، بمعنى: البديع، كالخف بمعنى الخفيف. وقرئ: بدعا، بفتح الدال، أى: ذا بدع
(١). متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، ولما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا النبي ﷺ قريشا فاجتمعوا. فعم وخص. فقال: يا بنى كعب بن لؤي يا بنى مرة بن كعب: يا بنى عبد شمس يا بنى عبد مناف، يا بنى هاشم، يا بنى عبد المطلب، إنى لا أملك لكم من الله شيئا- الحديث»
(٢). قال محمود: فان قلت: ما معنى إسناد الفعل إليهم... الخ» قال أحمد: فيه نظر من قبيل أن الكلام جرى فرضا وتقديرا. ومتى فرض الافتراء لا يتصور على تقديره نصح، فان النصح عبارة عن الدعاء إلى ما فيه نفع، ولا ينفع المكلف في عمل ظاهر أو باطن إلا أن يكون مأمورا به من الله تعالى، ولا سبيل إلى الاطلاع على ذلك إلا من الوحي الحق لا غير، فإذا لا يتصور نصح مع الافتراء، وإنما يتم هذا الذي قرره على قاعدة المعتزلة القائلين بأن العقل طريق يوصل إلى معرفة حكم الله تعالى، لأنه إذا أمر بطاعة من الطاعات كالتوحيد مثلا وقال: إن الله حتم عليكم وجوب التوحيد، وأنا رسول الله إليكم. ولم يكن متعوقا: فانه محق في الأمر بالتوحيد، لأن العقل دل على وجوبه عندهم، وإن كان مفتريا في دعوى كونه رسولا من الله عز وجل. وهذه قاعدة قد أفسدتها الأدلة القاطعة، فيحتمل في إجراء الآية على مذهب أهل السنة: أن يكون إسناد الفعل لهم على معنى التنبيه بالشيء على مقابله بطريق المفهوم، فالمعنى إذا إن كنت مفتريا فالعقوبة واقعة بى لا تدفعونها عنى، فمفهومه، وإن كنت محقا وأنتم مفترون فالعقوبة واقعة بكم لا أقدر على دفعها عنكم. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ وأمثاله كثيرة والله أعلم.
ويجوز أن يكون صفة على فعل، كقولهم: دين قيم، ولحم زيم «١» : كانوا يقترحون عليه الآيات ويسألونه عما لم يوح به إليه من الغيوب، فقيل له: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ فآتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من المغيبات، فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلا بما آتاهم الله من آياته، ولا يخبرون إلا بما أوحى إليهم. ولقد أجاب موسى صلوات الله عليه عن قول فرعون: فما بال القرون الأولى؟ بقوله: علمها عند ربى وَما أَدْرِي لأنه لا علم لي بالغيب- ما يفعل الله بى وبكم فيما يستقبل من الزمان من أفعاله، ويقذر لي ولكم من قضاياه إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وعن الحسن: وما أدرى ما يصير إليه أمرى وأمركم في الدنيا، ومن الغالب منا والمغلوب. وعن الكلبي: قال له أصحابه- وقد ضجروا من أذى المشركين-: حتى متى نكون على هذا؟ فقال: ما أدرى ما يفعل بى ولا بكم، أأترك بمكة أم أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها- يعنى في منامه- ذات نخيل وشجر؟ وعن ابن عباس: ما يفعل بى ولا بكم في الآخرة، وقال: هي منسوخة بقوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ويجوز أن يكون نفيا للدراية المفصلة «٢». وقرئ: ما يفعل، بفتح الياء، أى: يفعل الله عز وجل. فإن قلت: إنّ يُفْعَلُ مثبت غير منفي، فكان وجه الكلام: ما يفعل بى وبكم. قلت: أجل، ولكن النفي في ما أدرى لما كان مشتملا عليه لتناوله ما وما في حيزه: صح ذلك وحسن.
ألا ترى إلى قوله أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ كيف دخلت الياء في حيز أنّ وذلك لتناول النفي إياها مع ما في حيزها. وما في ما يُفْعَلُ يجوز أن تكون موصولة منصوبة، وأن تكون استفهامية مرفوعة. وقرئ: يوحى، أى الله عز وجل.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
(١). قوله «ولحم زيم» في الصحاح «اللحم الزيم» المتفرق ليس بمجتمع في مكان فيبدن. وفيه أيضا: بدن الرجل يبدن، إذا ضخم وسمن. (ع)
(٢). قال محمود: «أجود ما ذكر فيه حمله على الدراية المفصلة، يريد بذلك أن تفصيل ما يصير إليه من خير ويصيرون إليه من شر... الخ» قال أحمد: «بنى على أن المجرور معطوف على مثله، وأنهما جميعا في صلة موصول واحد، ولو قيل: إن المجرور الثاني من صلة موصول محذوف معطوف على مثله، حتى يكون التقدير: وما أدرى ما يفعل بى ولا ما يفعل بكم: لكانت لا واقعة بمكانة غير مفتقرة إلى تأويل، وحذف الموصول المعطوف وتفاصيله كثيرة. ومنه
فمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
يريد حسان رضى الله عنه: فمن يهجو رسول الله ﷺ ومن يمدحه سواء.
298
جواب الشرط محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين.
ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ والشاهد من بنى إسرائيل:
عبد الله بن سلام، لما قدم رسول الله ﷺ المدينة نظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب. وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر وقال له: إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبىّ: ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟ فقال عليه الصلاة والسلام «١». أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته. فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامى قبل أن تسألهم عنى بهتوني «٢» عندك. فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أى رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر. قال سعد بن أبى وقاص ما سمعت رسول الله ﷺ يقول لأحد يمشى على وجه الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام «٣»، وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ «٤» الضمير للقرآن، أى: على مثله في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك. ويدل عليه قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ويجوز أن يكون المعنى: إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك، يعنى كونه من عند الله. فإن قلت:
أخبرنى عن نظم هذا الكلام لأقف على معناه من جهة «٥» النظم. قلت: الواو الأولى عاطفة
(١). أخرجه البخاري من رواية حميد عن أنس، وأتم منه».
(٢). قوله «بهتوني» أى: رموني بما ليس فىّ. (ع)
(٣). متفق عليه.
(٤). عند البخاري وشك في إدراجها. وروى الطبري من رواية محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال قال عبد الله بن سلام «فىّ نزلت هذه الآية. ثم روى عن الشعبي أنه أنكر ذلك لكون السورة مكية. كذا أخرجه ابن أبى شيبة عن الشعبي.
(٥). قال محمود: «إن قلت: أخبرنى عن نظم هذا الكلام لأقف عليه من جهة النظم... الخ»
قال أحمد:
إنما لم يوجه المعطوف إلى جهة واحدة، لأن التفصيل قد يكون عطف مجموع مفردات على مجموع مفردات كل منهما والآية من هذا النمط، ومثلها قوله تعالى وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وقوله إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الآية، وقد تقدم تقرير ذلك في الآيتين فجدد به عهدا.
299
لكفرتم على فعل الشرط، كما عطفته ثُمَّ في قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ وكذلك الواو الآخرة عاطفة لاستكبرتم على شهد شاهد، وأما الواو في وَشَهِدَ شاهِدٌ
فقد عطفت جملة قوله. شهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم: على جملة قوله كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ونظيره قولك: إن أحسنت إليك وأسأت، وأقبلت عليك وأعرضت عنى، لم نتفق في أنك أخذت ضميمتين فعطفتهما على مثليهما، والمعنى: قل أخبرونى إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بنى إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به، مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ وقد جعل الإيمان في قوله فَآمَنَ مسببا عن الشهادة على مثله، لأنه لما علم أنّ مثله أنزل على موسى صلوات الله عليه، وأنه من جنس الوحى وليس من كلام البشر، وأنصف من نفسه فشهد عليه واعترف كان الإيمان نتيجة ذلك.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
لِلَّذِينَ آمَنُوا لأجلهم وهو كلام كفار مكة، قالوا: عامّة من يتبع محمدا السقاط، يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود، فلو كان ما جاء به خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء. وقيل:
لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار: قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم. وقيل: إن أمة لعمر أسلمت، فكان عمر يضر بها حتى يفتر ثم يقول لولا أنى فترت لزدتك ضربا، وكان كفار قريش يقولون: لو كان ما يدعو إليه محمد حقا ما سبقتنا إليه فلانة. وقيل: كان اليهود يقولونه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه. فإن قلت: لا بدّ من عامل في الظرف «١» في قوله وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ومن متعلق لقوله فَسَيَقُولُونَ وغير
(١). قال محمود: «لا بد من عامل الظرف وغير مستقيم أن يعمل فيه... الخ» قال أحمد: إن لم يكن مانع من عمل فسيقولون في الظرف ألا تنافى دلالتى المضي والاستقبال، فهذا غير مانع، فان الاستقبال هاهنا إنما خرج مخرج الاشعار بدوام ما وقع ومضى، لأن القوم قد حرموا الهداية وقالوا: هذا إفك قديم، وأساطير الأولين وغير ذلك، فمعنى الآية إذا: وقالوا إذ لم يهتدوا به هذا إفك قديم وداموا على ذلك وأصروا عليه، فعبر عن وقوعه ثم دوامه بصيغة الاستقبال، كما قال إبراهيم إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وقد كانت الهداية واقعة وماضية ولكن أخبر عن وقوعها، ثم دوامها فعبر بصيغة الاستقبال، وهذا طريق الجمع بين قوله سَيَهْدِينِ وقوله في الأخرى فَهُوَ يَهْدِينِ ولولا دخول الفاء على الفعل لكان هذا الذي ذكرته هو الوجه، ولكن الفاء المسببة دلت بدخولها على محذوف هو السبب، وقطعت الفعل عن الظرف المتقدم، فوجب تقدير المحذوف عاملا فيه لينتظم بتقديره عاملا أمران: مصادفة الظرف للعامل والفعل المعلل لعلته، فتعين ما ذكره الزمخشري لأجل الفاء لا لتنافى الدلالتين.
والله أعلم.
300
مستقيم أن يكون فَسَيَقُولُونَ هو العامل في الظرف، لتدافع دلالتى المضي والاستقبال، فما وجه هذا الكلام؟ قلت: العامل في إذ محذوف، لدلالة الكلام عليه، كما حذف من قوله فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وقولهم: حينئذ الآن، وتقديره: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم، فسيقولون هذا إفك قديم، فهذا المضمر صحّ به الكلام، حيث انتصب به الظرف وكان قوله فَسَيَقُولُونَ مسببا عنه كما صحّ بإضمار أنّ قوله حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ لمصادفة حَتَّى مجرورها، والمضارع ناصبه. وقولهم إِفْكٌ قَدِيمٌ كقولهم: أساطير الأوّلين كِتابُ مُوسى مبتدأ ومن قبله ظرف واقع خبرا مقدما عليه، وهو ناصب إِماماً على الحال، كقولك: في الدار زيد قائما.
وقرئ: ومن قبله كتاب موسى، على: وآتينا الذين قبله التوراة. ومعنى إِماماً: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه، كما يؤتم بالإمام وَرَحْمَةً لمن آمن به وعمل بما فيه وَهذا القرآن كِتابٌ مُصَدِّقٌ لكتاب موسى. أو لما بين يديه وتقدّمه من جميع الكتب. وقرئ:
مصدق لما بين يديه. ولِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير الكتاب في مصدق، والعامل فيه مُصَدِّقٌ ويجوز أن ينتصب حالا عن كتاب «١» لتخصصه بالصفة، ويعمل فيه معنى الإشارة. وجوّز أن يكون مفعولا لمصدق، أى: يصدق ذا لسان عربى وهو الرسول. وقرئ: لينذر بالياء والتاء، ولينذر: من نذر ينذر إذا حذر وَبُشْرى في محل النصب معطوف على محل لينذر، لأنه مفعول له.
(١). أجاز محمود في نصبه أن يكون حالا عن كتاب لتخصصه بالصفة... الخ. قال أحمد: وجهان حسنان أعززهما بثالث: وهو النصب على الاختصاص، وهذه الوجوه في قوله تعالى فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا، والله أعلم.
301

[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
قرئ: حسنا، بضم الحاء وسكون السين. وبضمهما. وبفتحهما. وإحسانا. وكرها، بالفتح والضم، وهما لغتان في معنى المشقة، كالفقر والفقر. وانتصابه على الحال: أى: ذات كره.
أو على أنه صفة للمصدر، أى: حملا ذا كره وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ومدّة حمله وفصاله ثَلاثُونَ شَهْراً وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن مدّة الرضاع إذا كانت حولين لقوله عز وجل حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بقيت للحمل ستة أشهر. وقرئ: وفصله.
والفصل والفصال: كالفطم والفطام، بناء ومعنى. فإن قلت: المراد بيان مدّة الرضاع لا الفطام، فكيف عبر عنه بالفصال؟ قلت: لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهى به ويتم:
سمى فصالا، كما سمى المدّة بالأمد من قال:
كل حى مستكمل مدّة العمر ومود إذا انتهى أمده «١»
وفيه فائدة وهي الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته. وقرئ: حتى إذا استوى وبلغ أشدّه. وبلوغ الأشد: أن يكتهل ويستوفى السنّ التي تستحكم فيها قوّته وعقله وتمييزه، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين. وعن قتادة: ثلاث وثلاثون سنة، ووجهه أن يكون ذلك أوّل الأشد، وغايته الأربعين. وقيل: لم يبعث نبىّ قط إلا بعد أربعين سنة.
والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها: نعمة التوحيد والإسلام، وجمع بين شكرى النعمة عليه وعلى والديه، لأن النعمة عليهما نعمة عليه. وقيل في العمل المرضى: هو الصلوات الخمس.
فإن قلت: ما معنى فِي في قوله وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي؟ قلت: معناه: أن يجعل ذرّيته موقعا للصلاح «٢» ومظنة له كأنه قال: هب لي الصلاح في ذرّيتى وأوقعه فيهم ونحوه:
يجرح في عراقيبها نصلى «٣»
مِنَ الْمُسْلِمِينَ من المخلصين. وقرئ: يتقبل، ويتجاوز، بفتح الياء، والضمير فيهما لله عز
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢٧٧ فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]
(٢). قال محمود: «فان قلت: ما معنى في هاهنا، وأجاب بأن المراد جعل ذريته... الخ» قال أحمد: ومثله قوله تعالى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى عدولا عن قوله: إلا مودة القربى. أو المودة للقربى، والله أعلم.
(٣). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٥٧٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
وجل. وقرئا بالنون. فإن قلت: ما معنى قوله فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ؟ قلت: هو نحو قولك:
أكرمنى الأمير في ناس من أصحابه، تريد: أكرمنى في جملة من أكرم منهم، ونظمنى في عدادهم، ومحله النصب على الحال، على معنى: كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد، لأن قوله: يتقبل، ويتجاوز: وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز. وقيل:
نزلت في أبى بكر رضى الله عنه وفي أبيه أبى قحافة وأمّه أم الخير وفي أولاده، واستجابة دعائه فيهم. وقيل: لم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبى بكر.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨)
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ مبتدأ خبره: أولئك الذين حق عليهم القول. والمراد بالذي قال:
الجنس القائل ذلك القول، ولذلك وقع الخبر مجموعا. وعن الحسن: هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وعن قتادة: هو نعت عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه. وقيل:
نزلت في عبد الرحمن بن أبى بكر «١» قبل إسلامه وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمّه أمّ رومان إلى الإسلام، فأفف بهما وقال: ابعثوا لي جدعان بن عمرو وعثمان بن عمرو، وهما من أجداده حتى أسألهما
(١). قال محمود: «زعم بعضهم أن المعنى بالآية عبد الرحمن بن أبى بكر... الخ» قال أحمد: ونحن نختار أن المراد الجنس لا عبد الرحمن بن أبى بكر، ولكنا لا نختار الرد على قائل ذلك بهذا الوجه، فان له أن يقول: أراد عبد الرحمن وأمته، ومثل ذلك قول الله تعالى حكاية عن العزيز يخاطب زليخا إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ فخاطبها وخاطب أمتها، والمقصودة هي، وقد عاد إلى خطابها خصوصا بقوله وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ ولكن وجه الرد على من زعم أن المراد عبد الرحمن: ما ذكره الزمخشري ثانيا فقال قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هم المخلدون في النار في علم الله تعالى، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. ونقل أن معاوية كتب إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد فقال عبد الرحمن: لقد جئتم بها هرقلية أتبايعون لأبنائكم فقال مروان أيها الناس: إن هذا هو الذي قال الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ... الآية فسمعت عائشة فغضبت وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله» قال أحمد: وفي هذه الآية رد على من زعم أن المفرد الجنسي لا يعمم، لأنه لا يعامل معاملة الجمع لا في الصفة ولا في الخبر، فلا يجوز أن تقول: الدينار الصفر خير من الدرهم البيض، وهذا مردود بأن خبر الذي الواقع جنسا جاء على نعت خبر المجموع كما رأيت، والله أعلم.
عما يقول محمد، ويشهدوا لبطلانه أن المراد بالذي قال: جنس القائلين ذلك، وأنّ قوله الذين حق عليهم القول: هم أصحاب النار، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. وعن عائشة رضى الله عنها إنكار نزولها فيه، وحين كتب معاوية إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد قال عبد الرحمن:
لقد جئتم بها هرقلية: تبايعون لأبنائكم، فقال مروان: يا أيها الناس، هو الذي قال الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما فسمعت عائشة فغضبت وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته «١» ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله «٢». وقرئ: أف، بالكسر والفتح بغير تنوين، وبالحركات الثلاث مع التنوين، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر، كما إذا قال: حس، علم منه أنه متوجع، واللام للبيان، معناه: هذا التأفيف لكما خاصة، ولأجلكما دون غير كما. وقرئ: أتعدانني: بنونين. وأ تعداني: بأحدهما. وأ تعداني:
بالإدغام. وقد قرأ بعضهم: أتعدانني بفتح النون، كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرتين والياء، ففتح الأولى تحريا للتخفيف، كما تحراه من أدغم ومن أطرح أحدهما أَنْ أُخْرَجَ أن ابعث وأخرج من الأرض. وقرئ: أخرج وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يعنى: ولم يبعث منهم أحد يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك، وهو استعظام لقوله وَيْلَكَ دعاء عليه بالثبور: والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك فِي أُمَمٍ نحو قوله فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وقرئ: أن، بالفتح، على معنى: آمن بأن وعد الله حق.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٩]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩)
وَلِكُلٍّ من الجنسين المذكورين دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أى منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منهما «٣». فإن قلت: كيف قيل: درجات، وقد جاء:
الجنة درجات والنار دركات؟ قلت: يجوز أن يقال ذلك على وجه التغليب، لاشتمال كل على الفريقين وَلِيُوَفِّيَهُمْ وقرئ: بالنون تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه، كأنه قيل:
(١). أخرجه النسائي، واللفظ له وابن أبى خيثمة والحاكم وابن مردويه من رواية محمد بن زياد- وقال «لما بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبى بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبى بكر: سنة هر قل وقيصر قال مروان:
هذا الذي أنزل- فذكر الآية فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب والله. ما هو به. فذكره. ولكن رسول الله ﷺ لعن أبا مروان ومروان في صلبه إلى آخره. ولفظ ابن أبى خيثمة «إن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم أن يبايع الناس ليزيد بن معاوية. فقال عبد الرحمن لقد جئتم بها هر قلبة- إلى آخر لفظ المصنف.
قلت: أصله في البخاري من رواية يوسف بن ماهك عن عائشة دون ما في آخره.
(٢). قوله «فأنت فضض من لعنة الله»
في الصحاح كل شيء تفرق فهو فضض. وفي الحديث: أنت فضض من لعنة الله، يعنى: ما انفض من نطفة الرجل وتردد في صلبه. (ع)
(٣). قوله «ومن أجل ما عملوا منهما» لعله: أو من أجل. (ع)
وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم: قدر جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٠]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
ناصب الظرف هو القول المضمر قبل أَذْهَبْتُمْ وعرضهم على النار: تعذيبهم بها، من قولهم: عرض بنو فلان على السيف «١» إذا قتلوا به. ومنه قوله تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها ويجوز أن يراد: عرض النار عليهم من قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريدون: عرض الحوض عليها فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس رضى الله عنه: يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ أى: ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم، وقد ذهبتم به وأخذتموه، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها. وعن عمر رضى الله عنه:
لو شئت لدعوت بصلائق وصناب «٢» وكراكر وأسنمة، ولكنى رأيت الله تعالى نعى على قوم طيباتهم فقال: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا «٣». وعنه: لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا، ولكنى أستبقى طيباتى: «٤» وعن رسول الله ﷺ أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا، فقال: أأنتم اليوم خير أم يوم
(١). قال محمود: «عرضهم على النار إما من قولهم عرض بنو فلان على السيف... الخ» قال أحمد: وإن كان قولهم: عرضت الناقة على الحوض مقلوبا، فليس قوله: يعرض الذين كفروا على النار مقلوبا، لأن الملجئ ثم إلى اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له، والناقة هي المدركة، فهي التي يعرض عليها الحوض حقيقة. وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذ مدكرة إدراك الحيوانات بل إدراك أولى العلم، فالأمر في الآية على ظاهره، كقولك: عرضت الأسرى على الأمير، والله أعلم.
(٢). قوله «بصلائق وصناب» في الصحاح: الصلائق: الخبز الرقاق. والصناب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب. والكركرة: رحى زور البعير: والزور: أعلى الصدر اه أخذا من مواضع. (ع)
(٣). أخرجه ابن المبارك في الزهد أخبرنا جرير بن حازم أنه سمع الحسن يقول «قدم على أمير المؤمنين عمر وقد أهل البصرة مع أبى موسى الأشعرى قال لو كنا ندخل وأنه كل يوم خبز بيت. فذكر الحديث. وفيه «أما والله ما أجهل من كراكر وأسنمة وصلا وصناب وقال جرير: الصلا هو الشواء والصناب الخردل، والصلائق الخبز الرقاق. ولكن سمعت الله عير أقواما بأمر فعلوه. فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ الآية. وأخرجه أبو عبيدة في الغريب. وابن سعد وأحمد في الزهد. وأبو نعيم في الحلية كلهم من طريق جرير به.
(٤). أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال ذكر لنا عمر قال: فذكره.
يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا: نحن يومئذ خير. قال. بل أنتم اليوم خير «١» وقرئ: أذهبتم بهمزة الاستفهام. وآ أذهبتم بألف بين همزتين، الهون. والهوان: وقرئ عذاب الهوان، وقرئ يفسقون بضم السين وكسرها.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢١]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)
الأحقاف: جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء، من احقوقف الشيء إذا اعوج، وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر من بلاد اليمن. وقيل: بين عمان ومهرة. والنُّذُرُ جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ من قبله وَمِنْ خَلْفِهِ ومن بعده. وقرئ: من بين يديه ومن بعده. والمعنى: أنّ هودا عليه السلام قد أنذرهم فقال لهم: لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم العذاب، وأعلمهم أنّ الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره وعن ابن عباس رضى الله عنه: يعنى الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه. ومعنى وَمِنْ خَلْفِهِ على هذا التفسير ومن بعد إنذاره، هذا إذا علقت، وقد خلت النذر بقوله: أنذر قومه، ولك أن تجعل قوله تعالى وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ اعتراضا بين أنذر قومه وبين أَلَّا تَعْبُدُوا ويكون المعنى: واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك، فاذكرهم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٢]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢)
الإفك: الصرف. يقال أفكه عن رأيه عَنْ آلِهَتِنا عن عبادتها بِما تَعِدُنا من معاجلة العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ صادقا في وعدك.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٣]
قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣)
فإن قلت: من أين طابق قوله تعالى إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ جوابا لقولهم فَأْتِنا بِما تَعِدُنا؟
(١). أخرجه الطبري من رواية سعد عن قتادة قال: ذكر لنا. فذكره. ومن طريقه الشعبي. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة أهل الصفة من طريق الحسن قال «حسب أضعاف المسلمين» فذكر نحوه مطولا وفي الترمذي من طريق محمد بن كعب القرظي: حدثني من سمع على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: بينا نحن جلوس في المسجد إذ طلع علينا مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو. فلما رآه رسول الله ﷺ بكى للذي كان فيه من النعمة. ثم قال: كيف بكم... الحديث نحوه».
قلت: من حيث إنّ قولهم هذا استعجال منهم بالعذاب. ألا ترى إلى قوله تعالى بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ فقال لهم: لا علم عندي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم حكمة وصوابا، إنما علم ذلك عند الله، فكيف أدعوه بأن يأتيكم بعذابه في وقت عاجل تقترحونه أنتم؟ ومعنى:
وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وقرئ بالتخفيف: أن الذي هو شأنى وشرطي: أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف والصرف عما يعرّضكم لسخط الله بجهدي، ولكنكم جاهلون لا تعلمون أنّ الرسل لم يبعثوا إلا منذرين لا مقترحين، ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
فَلَمَّا رَأَوْهُ في الضمير وجهان: أن يرجع إلى ما تعدنا، وأن يكون مبهما قد وضح أمره بقوله عارِضاً إما تمييزا وإما حالا. وهذا الوجه أعرب وأفصح. والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق السماء. ومثله: الحبى والعنان، من حبا وعنّ: إذا عرض. وإضافة مستقبل وممطر مجازية غير معرفة بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفا للنكرة بَلْ هُوَ القول قبله مضمر، والقائل: هود عليه السلام، والدليل عليه قراءة من قرأ: قال هود، بل هو. وقرئ: قل بل ما استعجلتم به هي ريح، أى قال الله تعالى: قل تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير، فعبر عن الكثرة بالكلية. وقرئ يدمر كل شيء من دمر دمارا إذا هلك لا تَرى الخطاب للرائى من كان. وقرئ: لا يرى، على البناء للمفعول بالياء والتاء، وتأويل القراءة بالتاء وهي عن الحسن رضى الله عنه: لا ترى بقايا ولا أشياء منهم إلا مساكنهم. ومنه بيت ذى الرمّة:
وما بقيت إلّا الضلوع الجراشع»
وليست بالقوية. وقرئ: لا ترى إلا مسكنهم، ولا يرى إلا مسكنهم. وروى أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط والظعينة فترفعها في الجوّ حتى ترى كأنها جرادة. وقيل:
أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار. وروى:
أوّل ما عرفوا به أنه عذاب: أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ١٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.
الأبواب وصرعتهم، وأما الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين، ثم كشفت الريح عنهم، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر. وروى أنّ هودا لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: اعتزل هود ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا مايلين على الجلود وتلذه الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وعن النبي ﷺ أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال: اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت «١» به، وإذا رأى مخيلة: قام وقعد، وجاء وذهب، وتغير لونه، فيقال له: يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول: إنى أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا: «هذا عارض ممطرنا». فإن قلت: ما فائدة إضافة الرب إلى الريح؟ قلت: الدلالة على أن الريح وتصريف أعنتها مما يشهد لعظم قدرته، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده. وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وجل: يعضد ذلك ويقوّيه،
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٦]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
إِنْ نافية، أى: فيما ما مكنا كم فيه، إلا أنّ إِنْ أحسن في اللفظ، لما فيه مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع. ومثله مجتنب، ألا ترى أن الأصل في «مهما» :
«ماماز» لبشاعة التكرير: قلبوا الألف هاء. ولقد أغث «٢» أبو الطيب في قوله:
لعمرك ماما بان منك لضارب «٣»
وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال:
لعمرك ما إن بان منك لضارب «٤»
(١). أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والبزار وأبو يعلى والبخاري في الأدب المفرد، كلهم من رواية عطاء عن عائشة، ولفظ مسلم قريب من لفظ الكتاب.
(٢). قوله «ولقد أغث أبو الطيب» في الصحاح «أغث» : أى ردؤ وفسد، تقول: أغث الرجل في منطقه. (ع) [.....]
(٣).
لعمرك ماما بان منك لضارب بأقتل مما بان منك لعائب
لأبى الطيب. يقول: وحياتك ليس الذي ظهر منك للضارب يعنى السنان، أفتل: أى أسرع قتلا من الذي ظهر منك للعائب، يعنى: اللسان، بل هما سواء في الحدة. ويجوز أنه استعار القتل للضرب تصريحا.
(٤). قال أحمد: بيت المتنبي ليس كما أنشده، وإنما هو كما يروى:
لعمرك إن ما بان منك لضارب بأقتل مما بان منك لعائب
ولا يستقيم إلا كذلك لأن قبله:
هو ابن رسول الله وابن صفيه وشبههما شبهت بعد التجارب
من قصيدة يمدح بها طاهر بن الحسين العلوي، ولو أنى أبو الطيب عوض «ما» ب «إن» لجاء البيت:
يرى أن إن ما بان منك لضارب
وهذا التكرار أثقل من تكرار «ما» بلا مراء. وإنما فنده الزمخشري وألزمه استعمال «إن» عوض «ما» لاعتقاده أن البيت كما أنشده:
لعمرك ما مابان منك لضارب بأقتل مما بان منك لعائب
ولو عوض «إن» عوض «ما» كما أصلحه الزمخشري: لزم دخول الباء في خبر «ما» وإنما تدخل الباء في خبر «ما» الحجازية العاملة، و «إن» لا تعمل عمل «ما» على الصحيح، فلا يستقيم دخول الباء في خبرها، فما عدل المتنبي عن ذلك إلا لتعذره عليه من كل وجه. على أنى لا أبرئ المتنبي من التعجرف، فانه كان مغرى به، مغرما بالغريب من النظم. ونقل الزمخشري في الآية وجها آخر: وهو جعلها صلة مثلها في قوله: قال: ويكون معناه على هذا مكناهم في مثل ما مكناكم... الخ» قلت: واختص بهذه الطائفة قوله تعالى وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وقوله مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ.
308
وقد جعلت إن صلة، مثلها فيما أنشده الأخفش:
يرجّى المرء ما إن لا يراه... وتعرض دون أدناه الخطوب «١»
وتؤوّل بإنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه: والوجه هو الأوّل، ولقد جاء عليه غير آية في القرآن هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً وهو أبلغ في التوبيخ، وأدخل في الحث على الاعتبار مِنْ شَيْءٍ أى من شيء من الإغناء، وهو القليل منه. فإن قلت بم انتصب إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ؟ قلت: بقوله تعالى فَما أَغْنى. فإن قلت: لم جرى مجرى التعليل؟ قلت: لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك: ضربته لإساءته وضربته إذا أساء، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته، فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه، إلا أن «إذ، وحيث، غلبتا دون سائر الظروف في ذلك.
(١).
فان أمسك فان العيش حلو... إلى كأنه عسل مشوب
يرجي المرء ما إن لا يراه... وتعرض دون أدناه الخطوب
وما يدرى الحريص علام يلقى... شراشره أيخطئ أم يصيب
لجابر بن رالان الطائي. وقيل: لا ياس بن الأرت. والشراشر: جمع شرشر، وهي أطراف الشيء المشرشرة، أى: المفرقة المنشورة، وتطلق على الجسد وعلى الثقل ويكنى بها عن النفس كما هنا. وقيل: هي حبال الصيد.
يقول: إن أبخل فالعيش حلو عنده كحلاوة العسل الممزوج بالماء لتزول حرارته وضمن «حلو»
معنى محبوب، فعداء بإلى. ثم قال: ولكن لا خير في الإمساك، فان المرء يرتجى الأمر الغائب عنه. وتحول أهوال الموت أو شدائد الدهر بينه وبين أدنى شيء منه. وإن: زائدة بعد ما الموصولة حملا على ما النافية، وما يدرى الذي وجه نفسه بكليتها للدنيا عواقب أمره، أريح أم خسر، وعلى أنها حبال الصيد ففي الكلام استعارة تمثيلية حيث شبه حال من أخذ في أسباب الأمر جاهلا عاقبته: بحال من نصب الحبال للصيد، فقد وقد.
309

[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٧]

وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧)
ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى من نحو حجر ثمود وقرية سدوم وغيرهما. والمراد:
أهل القرى. ولذلك قال لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٨]
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
القربان: ما تقرب به إلى الله تعالى، أى: اتخذوهم شفعاء متقربا بهم إلى الله، حيث قالوا:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وأحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين «١» المحذوف «٢»، والثاني:
آلهة. وقربانا: حال ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا وآلهة بدلا منه لفساد المعنى. وقرئ قربانا بضم الراء. والمعنى: فهلا منعهم من الهلاك آلهتهم بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أى غابوا عن نصرتهم وَذلِكَ إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم، أى: وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء. وقرئ:
إفكهم: والأفك والإفك: كالحذر والحذر. وقرئ: وذلك إفكهم، أى: وذلك الاتخاذ الذي هذا أثره وثمرته صرفهم عن الحق. وقرئ: أفكهم على التشديد للمبالغة. وآفكهم:
جعلهم آفكين. وآفكهم، أى: قولهم الآفك ذو الإفك، كما تقول قول كاذب، وذلك إفك مما كانوا يفترون، أى: بعض ما كانوا يفترون من الإفك.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
(١). قال محمود: «أحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الموصول محذوف... الخ» قال أحمد: لم يتبين وجه فساد المعنى على هذا الاعراب. ونحن نبينه فنقول: لو كان قربانا مفعولا ثانيا ومعناه متقربا بهم: لصار المعنى إلى أنهم وبخوا على ترك اتخاذ الله متقربا به، لأن السيد إذا ونخ عبده وقال: اتخذت فلانا سيدا دوني، فإنما معناه اللوم على نسبة السيادة إلى غيره، وليس هذا المقصد، فان الله تعالى يتقرب إليه ولا يتقرب به لغيره، فإنما وقع التوبيخ على نسبة الالهية إلى غير الله تعالى، فكان حق الكلام أن يكون آلهة هو المفعول الثاني لا غير.
(٢). قوله «اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف» هو الذي أبرزه في قوله: أى اتخذوهم. (ع)
310
صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك. وقرئ: صرفنا بالتشديد، لأنهم جماعة. والنفر: دون العشرة. ويجمع أنفارا. وفي حديث أبى ذر رضى الله عنه: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا «١» فَلَمَّا حَضَرُوهُ الضمير للقرآن. أى: فلما كان بمسمع منهم. أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعضده قراءة من قرأ فَلَمَّا قُضِيَ أى أتمّ قراءته وفرع منها قالُوا قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا اسكتوا مستمعين. يقال: أنصت لكذا واستنصت له. روى أنّ الجنّ كانت تسترق السمع، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا: ما هذا إلا لنبإ حدث، فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جنّ نصيبين أو نينوى: منهم زوبعة، فضربوا حتى بلغوا تهامة، ثم اندفعوا إلى وادى نخلة، فوافقوا «٢» رسول الله ﷺ وهو قائم في جوف الليل يصلى أو في صلاة الفجر، فاستمعوا لقراءته، وذلك عند منصرفه من الطائف حين خرج إليهم يستنصرهم فلم يجيبوه إلى طلبته وأغروا به سفهاء ثقيف «٣». وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن ولا رآهم، وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر، فأنبأه الله باستماعهم «٤». وقيل: بل أمر الله رسوله أن ينذر الجنّ ويقرأ عليهم فصرف إليه نفرا منهم جمعهم له فقال: إنى أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فمن يتبعني: قالها ثلاثا، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: لم يحضره ليلة الجنّ أحد غيرى، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطا وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك، ثم افتتح القرآن وسمعت لغطا شديدا حتى خفت
(١). هذا طرف من قصة إسلام أبى ذر رضى الله عنه من رواية عبد الله بن الصامت عن أبى ذر ذكره مطولا.
وفيه: فبينا أنا في ليلة قمراء ختموانية وقد ضرب الله على أهل مكة فما يطوف غير امرأتين، فأتيا على فذكر القصة.
وفيه ثم انطلقتا يولولان. ويقولان لو كان هاهنا أحد من أنصارنا» أخرجه مسلم مطولا.
(٢). قوله «فوافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم» لعله: فوافوا. (ع)
(٣). متفق عليه بمعناه من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس دون أوله. ودون قوله «وكانوا تسعة نفر أحدهم زوبعة» ودون قوله «في جوف الليل يصلى» ودون قوله «من نينوى» ودون قوله «عند منصرفه إلى آخره» وأما زوبعة فأخرجه الحاكم من رواية ذر عن ابن مسعود قال «هبطوا- يعنى الجن- على النبي ﷺ وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة. فلما سمعوه قالوا أنصتوا. وكانوا تسعة أحدهم زوبعة. فأنزل الله وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ- الآية وقوله «نينوى» أخرجه الطبري من رواية قتادة في هذه الآية قال: ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى الحديث».
(٤). متفق عليه من رواية سعيد بن جبير، وهو في الذي قبله.
311
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم انقطعوا كقطع السحاب فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت شيئا؟ قلت: نعم رجالا سودا مستثفري ثياب بيض «١»، فقال: أولئك جنّ نصيبين» «٢» وكانوا اثنى عشر ألفا، والسورة التي قرأها عليهم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. فإن قلت: كيف قالوا مِنْ بَعْدِ مُوسى؟ قلت: عن عطاء رضى الله عنه: أنهم كانوا على اليهودية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إنّ الجنّ لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام، فلذلك قالت: من بعد موسى. فإن قلت: لم بعّض في قوله مِنْ ذُنُوبِكُمْ؟ قلت: لأن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كذنوب المظالم «٣» ونحوها.
ونحوه قوله عزّ وجل أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. فإن قلت:
هل للجنّ ثواب كما للإنس؟ قلت: اختلف فيه فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، لقوله تعالى وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وإليه كان يذهب أبو حنيفة رحمه الله. والصحيح أنهم في حكم بنى آدم، لأنهم مكلفون مثلهم فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أى: لا ينجى منه مهرب، ولا يسبق قضاءه سابق. ونحوه قوله تعالى وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً.
(١). قوله «مستثفري ثياب بيض» في القاموس «الاستئفار» : أن يدخل إزاره بين فخذيه ملويا وإدخال الكلب ذنبه بين فخذيه حتى يلزقه ببطنه اه (ع)
(٢). لم أجده بتمامه في سياق واحد. بل وجدته مفرقا. فروى الطبري من رواية قتادة ذكر لنا النبي ﷺ قال «إنى أمرت أن أقرأ على الجن. فأيكم يتبعني فأطرقوا ثلاثا إلا ابن مسعود قاتبعه حتى دخل شعبا يقال له شعب الحجون قال: وخط على ابن مسعود خطا. فذكر أى قوله حتى خفت عليه- وزاد فيه: فقلت ما هذا اللغط؟ فقال: اختصموا إلى في جبل قضيت بينهم بالحق» وروى الحاكم والطبراني والدارقطني من طريق أبى عثمان ابن شيبة الخزاعي وكان رجلا من أهل الشام أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول «إن رسول الله ﷺ قال لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل. فلم يحضر منهم أحد غيرى. قال:
فانطلقت حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ثم أمرنى أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام. فافتتح القرآن- الحديث»
ولم يذكر قوله «رجالا سودا إلى آخره» وروى الطبري من رواية عمرو بن غيلان الثقفي أنه سأل ابن مسعود فذكر القصة. وفيها فقال «رأيت شيئا؟ قلت: نعم. قد رأيت رجالا سودا مستشعرين بثياب بيض. فقال: أولئك جن نصيبين سألونى المتاع- فذكر الحديث» وليس فيه عددهم ولا اسم السورة. وروى ابن أبى حاتم من رواية عكرمة في هذه الآية قال «كانوا من جن نصيبين جاءوا من جزيرة الموصل. وكانوا اثنى عشر ألفا» فهذه الأحاديث من مجموعها ما ذكر إلا اسم السورة.
(٣). قال محمود: «إنما بعض المغفرة لأن من الذنوب مالا يغفره الايمان كذنوب المظالم» قال أحمد: ليس ما أطلقه من أن الايمان لا يغفر المظالم بصحيح، لأن الحربي لو نهب الأموال المصونة وسفك الدماء المحقونة ثم حسن إسلامه: جب الإسلام عنه إثم ما تقدم بلا إشكال. ويقال: إنه ما وعد المغفرة الكافر على تقدير الايمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة، وهذا منه، فان لم يكن لاطراده بذلك سر فما هو إلا أن مقام الكافر قبض لا بسط، فلذلك لم يبسط رجاءه في مغفرة جملة الذنوب. وقد ورد في حق المؤمنين مثله كثيرا، والله أعلم.
312

[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٣]

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)
بِقادِرٍ محله الرفع، لأنه خبر أن، يدل عليه قراءة عبد الله: قادر، وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أوّل الآية على أن وما في حيزها. وقال الزجاج: لو قلت: ما ظننت أنّ زيدا بقائم: جاز، كأنه قيل: أليس الله بقادر. ألا ترى إلى وقوع بلى مقرّرة للقدرة على كل شيء من البعث وغيره، لا لرؤيتهم. وقرئ: يقدر. ويقال: عييت بالأمر، إذا لم تعرف وجهه.
ومنه أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٤]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)
أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ محكي بعد قول مضمر، وهذا المضمر هو ناصب الظرف. وهذا إشارة إلى العذاب، بدليل قوله تعالى فَذُوقُوا الْعَذابَ والمعنى: التهكم بهم، والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده، وقولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٥]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
أُولُوا الْعَزْمِ أولوا الجد والثبات والصبر. ومِنَ يجوز أن تكون للتبعيض، ويراد بأولى العزم: بعض الأنبياء. قيل: هم نوح، صبر على أذى قومه: كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم على النار وذبح ولده، وإسحاق على الذبح، ويعقوب على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضرّ، وموسى قال له قومه: إنا لمدركون، قال: كلا إنّ معى ربى سيهدين، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال: إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها. وقال الله تعالى في آدم وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وفي يونس وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ويجوز أن تكون للبيان، فيكون أولو العزم صفة الرسل كلهم وَلا تَسْتَعْجِلْ لكفار قريش بالعذاب، أى: لا تدع لهم بتعجيله، فإنه نازل بهم لا محالة، وإن تأخر، وأنهم مستقصرون حينئذ مدّة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
يرجى المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب