٢ الآية رقم (٣٥) وهي آخر آية في السورة..
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأحقافهذه السورة مكية لم يختلف منها إلا في آيتين، وهي قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف: ١٠] وقوله: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: ٣٥] الآية، فقال بعض المفسرين: هاتان آيتان مدنيتان وضعتا في سورة مكية.
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
تقدم القول في الحروف المقطعة التي في أوائل السور. وتَنْزِيلُ رفع بالابتداء أو خبر ابتداء مضمر. و: الْكِتابِ القرآن. والعزة والإحكام: صفتان مقتضيتان أن من هي له غالب كل من حادّه.
وقوله: ما خَلَقْنَا السَّماواتِ الآية موعظة وزجر، أي فانتبهوا أيها الناس وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم. وقوله تعالى: إِلَّا بِالْحَقِّ معناه بالواجب الحسن الذي قد حق أن يكون، وب أَجَلٍ مُسَمًّى:
وقتناه وجعلناه موعدا لفساد هذه البنية وذلك هو يوم القيامة. وقوله تعالى: عَمَّا أُنْذِرُوا «ما» مصدرية، والمعنى عن الإنذار، ويحتمل أن تكون «ما» بمعنى الذي، والتقدير: عن ذكر الذي أنذروا به والتحفظ منه أو نحو هذا.
وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ يحتمل أَرَأَيْتُمْ وجهين: أحدهما أن تكون متعدية، وما مفعولة بها، ويحتمل أن تكون منبهة لا تتعدى، وتكون ما استفهاما على معنى التوبيخ. وتَدْعُونَ معناه:
تعبدون. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله بن مسعود: «قل أرأيتم من تدعون». وقوله: مِنَ الْأَرْضِ، مِنْ، للتبعيض، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض.
وقوله: أَوْ أَثارَةٍ معناه: أو بقية قديمة من علم أحد العلماء يقتضي عبادة الأصنام. وقرأ جمهور الناس: «أو أثارة» على المصدر، كالشجاعة والسماحة، وهي البقية من الشيء كأنها أثره.
وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى من علم تستخرجونه فتثيرونه. وقال مجاهد: المعنى هل من أحد يأثر علما في ذلك. وقال القرظي: هو الإسناد، ومن هذا المعنى قول الأعشى: [السريع]
إن الذي فيه تماريتما... بيّن للسامع والآثر
آثرا أي للسند عن غيره، ومنه قول عمر رضي الله عنه: فما خلفنا بها ذاكرا ولا آثرا. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة: المعنى وخاصة من علم، فاشتقاقها من الأثرة، كأنها قد آثر الله بها من هي عنده، وقال عبد الله بن العباس: المراد ب «الأثارة» : الخط في التراب، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر، وهذا من البقية والأثر، وروي أن النبي عليه السلام سئل عن ذلك فقال: «كان نبي من الأنبياء يخطه، فمن وافق خطه فذاك»، وظاهر الحديث تقوية أمر الخط في التراب، وأنه شيء له وجه إذا وفق أحد إليه، وهكذا تأوله كثير من العلماء. وقالت فرقة: بل معناه الإنكار، أي أنه كان من فعل نبي قد ذهب، وذهب الوحي إليه والإلهام في ذلك، ثم قال: فمن وافق خطه على جهة الإبعاد، أي أن ذلك لا يمكن ممن ليس بنبي ميسر لذلك، وهذا كما يسألك أحد فيقول: أيطير الإنسان؟ فتقول: إنما يطير الطائر، فمن كان له من الناس جناحان طار، أي أن ذلك لا يكون. والأثارة تستعمل في بقية الشرف فيقال: لبني فلان أثارة من شرف، إذا كانت عندهم شواهد قديمة، وتستعمل في غير ذلك، ومنه قول الراعي: [الوافر]
وذات أثارة أكلت عليه... نباتا في أكمتها قصارى
يريد: الأثارة من الشحم، أي البقية وقرأ عبد الرحمن السلمي فيما حكى الطبري: «أو أثرة» بفتح الهمزة والثاء والراء دون ألف، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وقتادة وعكرمة وعمرو بن ميمون والأعمش، وهي واحدة جمعها: أثر كقترة وقتر. وحكى الثعلبي أن عكرمة قرأ: «أو ميراث من علم». وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي فيما حكى أبو الفتح بسكون الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر، أي قد قنعت لكم حجة بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم. وقرأت فرقة: «أثرة» بضم الهمزة وسكون الثاء، وهذه كلها بمعنى: هل عندكم شيء خصكم الله به من علم وآثركم به.
وقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ الآية توبيخ لعبدة الأصنام، أي لا أحد أضل ممن هذه صبغته، وجاءت الكنايات في هذه الآية عن الأصنام كما تجيء عمن يعقل، وذلك أن الكفار قد أنزلوها منزلة الآلهة وبالمحل الذي دونه البشر، فخوطبوا على نحو معتقدهم فيها، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «ما لا يستجيب». والضمير في قوله: وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ هو للأصنام في قول جماعة، ووصف الأصنام بالغفلة من حيث عاملهم معاملة من يعقل، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: وَهُمْ وفي:
وقوله تعالى: كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وصف لما يكون يوم القيامة بين الكفار وأصنامهم من التبري والمناكرة، وقد بين ذلك في غير هذه الآية. وذلك قوله تعالى حكاية عنهم: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: ٦٣].
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٧ الى ٩]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
الآيات المذكورة هي آيات القرآن، بدليل قوله: تُتْلى وبقول الكفار: هذا سِحْرٌ وإنما قالوا ذلك عن القرآن من حيث قالوا: هو يفرق بين المرء وبين ولده، وبينه وبين زوجه، إلى نحو هذا مما يوجد مثله للسحر بالوجه الأخس.
وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، أَمْ مقطوعة مقدرة ب (بل) وألف الاستفهام. و: افْتَراهُ معناه: اشتقه واختلقه، فأمره الله تعالى أن يقول: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فالله حسبي في ذلك، وهو كان يعاقبني ولا يمهلني. ثم رجع القول إلى الاستسلام إلى الله تعالى والاستنصار به عليهم وانتظار ما يقتضيه علمه بِما تُفِيضُونَ فِيهِ من الباطل ومرادة الحق، وذلك يقتضي معاقبتهم، ففي اللفظة تهديد. والضمير في قوله:
فِيهِ يحتمل أن يعود على القرآن، ويحتمل العودة على بِما. والضمير في: بِهِ عائد على الله تعالى. و: بِهِ في موضع رفع، وأفاض الرجل في الحديث والسب ونحوه: إذا خاض فيه واستمر.
وقوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ترجية واستدعاء إلى التوبة، لأنه في خلال تهديده إياهم بالله تعالى جاءت هاتان الصفتان. ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم بأنه لم يكن بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ، أي قد جاء غيري قبلي، قاله ابن عباس والحسن وقتادة. والبدع والبديع من الأشياء ما لم ير مثله، ومنه قول ترجمة عدي بن زيد: [الطويل]
فما أنا بدع من حوادث تعتري... رجالا عرت من بعد بؤسى وأسعد
وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة وأبو حيوة: «بدعا» بفتح الدال. قال أبو الفتح، التقدير: ذا بدع فحذف المضاف كما قال [النابغة الجعدي] :[المقارب]
وكيف تواصل من أصبحت... خلالته كأبي مرحب
معنى الآية: ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ في الدنيا من أن أنصر عليكم أو من أن تمكنوا مني، ونحو هذا من المعنى. وقالت فرقة: معنى الآية: ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ من الأوامر والنواهي وما تلزم الشريعة من أعراضها. وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: نزلت الآية في أمر كان النبي ﷺ ينتظره من الله في غير الثواب والعقاب، وروي عن ابن عباس أنه لما تأخر خروج النبي عليه السلام من مكة حين رأى في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وسبخة، قلق المسلمون لتأخر ذلك، فنزلت هذه الآية.
وقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ معناه: الاستسلام والتبري من علم المغيبات والوقوف مع النذارة من عذاب الله عز وجل:
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)
هذه الآية توقيف على الخطر العظيم الذي هم بسبيله في أن يكذبوا بأمر نافع لهم منج من العذاب دون حجة ولا دليل لهم على التكذيب، فالمعنى كيف حالكم مع الله، وماذا تنتظرون منه وأنتم قد كفرتم بما جاء من عنده، وجواب هذا التوقيف محذوف تقديره: أليس قد ظلمتم، ودل على هذا المقدر قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ و: أَرَأَيْتُمْ في هذه الآية يحتمل أن تكون منبهة، فهي لفظ موضوع للسؤال لا يقتضي مفعولا، ويحتمل أن تكون الجملة كانَ وما عملت فيه تسد مسد مفعوليها.
واختلف الناس في المراد ب (الشاهد) فقال الحسن ومجاهد وابن سيرين: هذه الآية مدنية، والشاهد عبد الله بن سلام. وقوله: عَلى مِثْلِهِ الضمير فيه عائد على قول محمد عليه السلام في القرآن إنه من عند الله. وقال الشعبي: الشاهد رجل من بني إسرائيل غير عبد الله بن سلام كان بمكة، والآية مكية.
وقال سعد بن أبي وقاص ومجاهد وفرقة: الآية مكية، والشاهد عبد الله بن سلام، وهي من الآيات التي تضمنت غيبا أبرزه الوجود، وقد روي عن عبد الله بن سلام أنه قال: فيّ نزلت. وقال مسروق بن الأجدع والجمهور: الشاهد موسى بن عمران عليه السلام، والآية مكية، ورجحه الطبري.
وقوله: فَآمَنَ على هذا التأويل، يعني به تصديق موسى بأمر محمد وتبشيره به، فذلك إيمان به، وأما من قال: الشاهد عبد الله بن سلام، فإيمان بين، وكذلك إيمان الإسرائيلي الذي كان بمكة في قول من قاله، وحكى بعضهم أن الفاعل ب «آمن»، هو محمد عليه السلام، وهذا من القائلين بأن الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام، وإنما اضطر إلى هذا لأنه لم ير وجه إيمان موسى عليه السلام، ثم قرر تعالى استكبارهم وكفرهم بإيمان هذا المذكور، فبان ذنبهم وخطؤهم.
وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ قال قتادة: هي مقالة قريش، يريدون عمارا وصهيبا وبلالا ونحوهم ممن أسلم وآمن بالنبي عليه السلام. وقال الزجاج والكلبي وغيره: هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة، قالت ذلك حين أسلمت غفار ومزينة وجهينة.
وقال الثعلبي: هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وغيره منهم. والإفك: الكذب، ووصفوه بالقدم، بمعنى أنه في أمور متقادمة، وهذا كما تقول لرجل حدثك عن أخبار كسرى وقيصر، هذا حديث قديم، ويحتمل أن يريدوا أنه إفك قيل قديما.
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٢ الى ١٥]
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)
الضمير في قوله: وَمِنْ قَبْلِهِ للقرآن، و: كِتابُ مُوسى هو التوراة. وقرأ الكلبي: «كتاب موسى» بنصب الباء على إضمار أنزل الله أو نحو ذلك. والإمام: خيط البناء، وكل ما يهتدى ويقتدى به فهو إمام. ونصب إِماماً على الحال، وَرَحْمَةً عطف على إمام، والإشارة بقوله: وَهذا كِتابٌ إلى القرآن. و: مُصَدِّقٌ معناه للتوراة التي تضمنت خبره وأمر محمد، فجاء هو مصدقا لذلك الإخبار، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «مصدق لما بين يديه لسانا»، واختلف الناس في نصب قوله: لِساناً فقالت فرقة من النحاة، هو منصوب على الحال، وقالت فرقة: لِساناً توطئة مؤكدة. و: عَرَبِيًّا حال، وقالت فرقة: لِساناً مفعول ب مُصَدِّقٌ، والمراد على هذا القول باللسان: محمد رسول الله ولسانه،
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير فيما روي عنه، وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو رجاء والناس: «لتنذر» بالتاء، أي أنت يا محمد، ورجحها أبو حاتم، وقرأ الباقون والأعمش «لينذر» أي القرآن و: الَّذِينَ ظَلَمُوا هم الكفار الذين جعلوا العبادة في غير موضعها في جهة الأصنام والأوثان.
وقوله: وَبُشْرى يجوز أن تكون في موضع رفع عطفا على قوله: مُصَدِّقٌ، ويجوز أن تكون في موضع نصب، واقعة موقع فعل عطفا على لِيُنْذِرَ أي وتبشر المحسنين، ولما عبر عن الكفار ب الَّذِينَ ظَلَمُوا، عبر عن المؤمنين ب «المحسنين» لتناسب لفظ الإحسان في مقابلة الظلم. ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع الظلم. ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع عنهم الخوف والحزن، وذهب كثير من الناس إلى أن معنى الآية: ثُمَّ اسْتَقامُوا بالطاعات والأعمال الصالحات. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه المعنى: ثُمَّ اسْتَقامُوا بالدوام على الإيمان وترك الانحراف عنه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أعم رجاء وأوسع، وإن كان في الجملة المؤمنة من يعذب وينفذ عليه الوعيد، فهو ممن يخلد في الجنة وينتفي عنه الخوف والحزن الحال بالكفرة، والخوف هو الهم لما يستقبل، والحزن هو الهم بما مضى، وقد يستعمل فيما يستقبل استعارة، لأنه حزن لخوف أمر ما.
وقرأ ابن السميفع: «فلا خوف» دون تنوين.
وقوله: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، «ما» واقعة على الجزء الذي هو اكتساب العبد، وقد جعل الله الأعمال أمارات على صبور العبد، لا أنها توجب على الله شيئا.
وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ يريد النوع، أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي، فهي وصية من الله في عباده.
وقرأ جمهور القراء: «حسنا» بضم الحاء وسكون السين، ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل أمرا ذا حسن، فكأن الفعل تسلط عليه مفعولا ثانيا. وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن وعيسى: «حسنا» بفتح الحاء والسين، وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبخل والبخل، ومحتمل، أن يكون هذا الثاني اسما لا مصدرا، أي ألزمناه بهما فعلا حسنا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحسانا»، ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور، والباء متعلقة ب وَصَّيْنَا أو بقوله: «إحسانا».
وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها، وعقوقهما كبيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين.
قال القاضي أبو محمد: ولن يدعوا إلا إذا ظلمهما الولد، فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام:
«اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».
قال: ثم أمك، قال ثم من؟ قال: أباك وقوله: كُرْهاً معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه، ويحتمل أن يريد في وقت الحمل، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه، وقال مجاهد والحسن وقتادة: المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة.
وقرأ أكثر القراء: «كرها» بضم الكاف. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج:
«كرها» بفتح الكاف، وقرأ بهما معا مجاهد وأبو رجاء وعيسى. قال أبو علي وغيره: هما بمعنى، الضم الاسم، والفتح المصدر. وقالت فرقة: الكره بالضم: المشقة، والكره بالفتح هو الغلبة والقهر، وضعفوا على هذا قراءة الفتح. قال بعضهم: لو كان «كرها» لرمت به عن نفسها، إذ الكره القهر والغلبة، والقول الذي قدمناه أصوب.
وقرأ جمهور الناس: «وفصاله» وذلك أنها مفاعلة من اثنين، كأنه فاصل أمه وفاصلته. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري: «وفصله»، كأن الأم هي التي فصلته.
وقوله: ثَلاثُونَ شَهْراً يقتضي أن مدة الحمل والرضاع هذه المدة، لأن في القول حذف مضاف تقديره: ومدة حمله وفصاله، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصا، وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين، وإما بأن تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام، فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع، وبالعكس فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة، وهذا في أمر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله.
واختلف الناس في الأشد: فقال الشعبي وزيد بن أسلم: البلوغ إذا كتبت عليه السيئات وله الحسنات. وقال ابن إسحاق: ثمانية عشر عاما، وقيل عشرون عاما، وقال ابن عباس وقتادة: ثلاثة وثلاثون عاما، وقال الجمهور من النظار: ثلاثة وثلاثون. وقال هلال بن يساف وغيره: أربعون، وأقوى الأقوال ستة وثلاثون، ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قال القاضي أبو محمد: وإنما ذكر تعالى الأربعين، لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته، وفي الحديث: «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول: بأبي وجه لا يفلح» وقال أيمن بن خريم الأسدي: [الطويل]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكن | له دون ما يأتي حياء ولا ستر |
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى | وإن جر أسباب الحياة له العمر |
وقال الطبري: وذكر أن هذه الآية من أولها نزلت في شأن أبي بكر الصديق، ثم هي تتناول من بعده، وكان رضي الله عنه قد أسلم أبواه، فلذلك قال: وَعَلى والِدَيَّ، وفي هذا القول اعتراض بأن هذه الآية نزلت بمكة لا خلاف في ذلك، وأبو قحافة أسلم عام الفتح فإنما يتجه هذا التأويل على أن أبا بكر كان يطمع بإيمان أبويه ويرى مخايل ذلك فيهما، فكانت هذه نعمة عليهما أن ليسا ممن عسا في الكفر ولج وحتم عليه ثم ظهر إيمانهما بعد، والقول بأنها عامة في نوع الإنسان لم يقصد بها أبو بكر ولا غيره أصح، وباقي الآية بين إلى قوله: مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٦ الى ١٩]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩)
قوله تعالى: أُولئِكَ دليل على أن الإشارة بقوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الأحقاف: ١٥] إنما أراد الجنس.
وقرأ جمهور القراء: «يتقبّل» بالياء على بناء الفعل للمفعول وكذلك «يتجاوز». وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فيهما بالنون التي للعظمة «نتقبل» «أحسن» بالنصب «ونتجاوز» وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن جبير والأعمش بخلاف عنه. وقرأ الحسن «يتقبل» بياء مفتوحة «ويتجاوز» كذلك، أي الله تعالى وقوله: فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ يريد الذين سبقت لهم رحمة الله. وقوله: وَعْدَ الصِّدْقِ نصب على المصدر المؤكد لما قبله.
وقوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما الآية، الَّذِي يعنى به الجنس على حد العموم الذي في الآية التي قبلها في قوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الأحقاف: ١٥] هذا قول الحسن وجماعة، ويشبه أن لها سببا من رجل قال ذلك لأبويه. فلما فرغ من ذكر الموفق عقب بذكر هذا العاق. وقال ابن عباس في كتاب الطبري: هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر ولم يسمّه.
لم يبق إلا شكة ويعبوب | وصارم يقتل ضلال الشيب |
جعلتموها هرقلية، كلما مات هرقل ولي هرقل، وكلما مات قيصر ولي قيصر، فقال مروان بن الحكم:
خذوه، فدخل عبد الرحمن بيت عائشة أخته أم المؤمنين، فقال مروان: إن هذا هو الذي قال الله فيه:
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما فسمعته عائشة، فأنكرت ذلك عليه، وسبت مروان، وقالت له: والله ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي، وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية. وذكر ابن عبد البر أن الذي خطب هو معاوية، وذلك وهم، والأصوب أن تكون عامة في أهل هذه الصفات ولم يقصد بها عبد الرحمن ولا غيره من المؤمنين والدليل القاطع على ذلك قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ وكان عبد الرحمن رحمه الله من أفضل الصحابة ومن الأبطال، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة بن مصرف: «أفّ» بكسر الفاء بغير تنوين، وذلك فيها علامة تعريف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن وشبل وعمرو بن عبيد: «أفّ» بالفتح، وهي لغة الكسر والفتح. وقرأ نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج: «أفّ» بالكسر والتنوين، وذلك علامة تنكير، وهي كصه وغاق، وكما تستطعم رجلا حديثا غير معين فتقول «إيه» منونة، فإن كان حديثا مشارا إليه قلت «إيه» بغير تنوين. وأُفٍّ: أصلها في الأقذار، كانت العرب إذا رأت قذرا قالت: «أف» ثم صيره الاستعمال يقال في كل ما يكره من الأفعال والأقوال.
وقرأ هشام عن ابن عامر وعاصم وأبو عمرو: «أتعداني»، وقرأ أبو عمرو ونافع وشيبة والأعرج والحسن وأبو جعفر وقتادة وجمهور القراء «أتعدانني» بنونين، والقراءة الأولى هي بإدغام النون في النون.
وقرأ نافع أيضا وجماعة: «أتعداني» بنون واحدة وإظهار الياء.
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة وأبو رجاء وابن وثاب وجمهور الناس:
«أن أخرج» بضم الهمزة وفتح الراء. وقرأ الحسن وابن يعمر والأعمش وابن مصرف والضحاك. «أن أخرج» بفتح الهمزة وضم الراء. والمعنى أن أخرج من القبر للحشر والمعاد، وهذا القول منه استفهام بمعنى الهزء والاستبعاد.
وقوله: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي معناه: هلكت ومضت ولم يخرج منهم أحد. وقوله:
وَهُما يعني الوالدين، ويقال استغثت الله واستغثت بالله بمعنى واحد. و: وَيْلَكَ دعاء يقال هنا لمن يحفز ويحرك لأمر ما يستعجل إليه.
وقرأ الأعرج «أن وعد الله» بفتح الهمزة، والناس على كسرها.
وقوله: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ أي ما هذا القول الذي يتضمن البعث من القبور إلا شيء قد سطره
وقوله: أُولئِكَ ظاهره أنها إشارة إلى جنس يتضمنه قوله: وَالَّذِي قالَ، ويحتمل إن كانت الآية في مشار إليه أن يكون قوله: أُولئِكَ بمعنى صنف هذا المذكور وجنسهم الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، أي قول الله إنه يعذبهم.
وقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يقتضي أن الْجِنِّ يموتون كما يموت البشر قرنا بعد قرن، وقد جاء حديث يقتضي ذلك. وقال الحسن بن أبي الحسن في بعض مجالسه: إن الجن لا يموتون، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت.
وقوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ يعني المحسنين والمسيئين. قال ابن زيد: ودرجات المحسنين تذهب علوا، ودرجات المسيئين تذهب سفلا.
وقرأ أبو عبد الرحمن: «ولتوفيهم» بالتاء من فوق، أي الدرجات. وقرأ جمهور الناس: «وليوفيهم» بالياء. وقرأ نافع بخلاف عنه، وأبو جعفر وشيبة والأعرج وطلحة والأعمش: «ولنوفيهم» بالنون: قال اللؤلؤي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود: «ولنوفيّنهم» بنون أولى ونون ثانية مشددة، وكل امرئ يجني ثمرة عمله من خير أو شر ولا يظلم في مجازاته، بل يوضع كل أمر موضعه من ثواب أو عقاب.
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢)
المعنى: واذكر يوم يعرض، وهذا العرض هو بالمباشرة، كما تقول عرضت العود على النار والجاني على السوط، والمعنى: يقال لهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ.
وقرأ جمهور القراء: «أذهبتم» على الخبر، حسنت الفاء بعد ذلك. وقرأ ابن كثير والحسن والأعرج وأبو جعفر ومجاهد وابن وثاب. «آذهبتم» بهمزة مطولة على التوبيخ والتقرير الذي هو في لفظ الاستفهام.
وقرأ ابن عامر «أأذهبتم» بهمزتين تقريرا.
والتقرير والتوبيخ إخبار بالمعنى، ولذلك حسنت الفاء وإلا فهي لا تحسن في جواب على حد هذه مع الاستفهام المحض.
والطيبات: الملاذ، وهذه الآية وإن كانت في الكفار فهي رادعة لأولي النهى من المؤمنين عن
وعَذابَ الْهُونِ: العذاب الذي اقترن به هوان، وهذا هو عذاب العصاة المواقعين ما قد نهوا عنه، وهذا بين في عذاب الدنيا، فعذاب المحدود في معصية كالحرابة ونحوها مقترن بهون، وعذاب المقتول في حرب لا هون معه، فالهون والهوان بمعنى؟!.
ثم أمر تعالى نبيه بذكر هود وقومه عاد على جهة المثال لقريش، وهذه الإخوة هي أخوة القرابة، لأن هودا كان من أشراف القبيلة التي هي عاد.
واختلف الناس في هذه «الأحقاف» أين كانت؟ فقال ابن عباس والضحاك: هي جبل بالشام، وقيل كانت بلاد نخيل، وقيل هي الرمال بين مهرة وعدن. وقال ابن عباس أيضا: بين عمان ومهرة. وقال قتادة:
هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني. وقال ابن إسحاق: هي بين حضر موت وعمان، والصحيح من الأقوال: أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد. و «الأحقاف» : جمع حقف، وهو الجبل المستطيل والمعوجّ من الرمل. (قال الخليل: هي الرمال الأحقاف) وكثيرا ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى، لأن الريح تصنع ذلك.
وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ اعتراض مؤكد مقيم للحجة أثناء قصة هود، لأن قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ هو من نذارة هود. و: خَلَتِ معناه: مضت إلى الخلاء ومرت أزمانها. وفي مصحف عبد الله: «وقد خلت النذر من قبله وبعده». وروي أن فيه: «وقد خلت النذر من بين يديه ومن بعده». والنُّذُرُ: جمع نذير بناء اسم فاعل. وقولهم: لِتَأْفِكَنا معناه: لتصرفنا. وقولهم:
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا تصميم على التكذيب وتعجيز منهم له في زعمهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
وقرأ جمهور الناس: «وأبلّغكم» بفتح الباء وشد اللام. قال أبو حاتم: وقرأ أبو عمرو في كل القرآن بسكون الباء وتخفيف اللام.
و: أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي مثل هذا من أمر الله تعالى وتجهلون خلق أنفسكم. والضمير في:
رَأَوْهُ يحتمل أن يعود على العذاب، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطارئ عليهم، وهو الذي فسره قوله: عارِضاً، والعارض ما يعرض في الجو من السحاب الممطر، ومنه قول الأعشى:
يا من رأى عارضا قد بتّ أرمقه | كأنما البرق في حافاته الشعل |
وفي قراءة ابن مسعود: «قال هود بل هو» بإظهار المقدر، لأن قراءة الجمهور هي كقوله تعالى يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: ٢٣] أي يقولون سلام. قال الزجاج وقرأ قوم: «ما استعجلتم» بضم التاء الأولى وكسر الجيم. و: رِيحٌ بدل من المبتدأ في قوله: هُوَ مَا.
و: مُمْطِرُنا هو نعت ل عارِضٌ وهو نكرة إضافته غير محضة، لأن التقدير ممطر لنا في المستقبل، فهو في حكم الانفصال.
وقد مضى في غير هذه السورة قصص الريح التي هبت عليهم، وأنها كانت تحمل الظعينة كجرادة.
و: تُدَمِّرُ معناه: تهلك. والدمار: الهلاك، ومنه قول جرير: [الوافر]
وكان لهم كبكر ثمود لمّا | رغا دهرا فدمرهم دمارا |
وقرأ جمهور القراء: «لا ترى» أيها المخاطب. وقرأ عاصم وحمزة: «لا يرى» بالياء على بناء الفعل للمفعول «مساكنهم» رفعا. التقدير: لا يرى شيء منهم، وهذه قراءة ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن بخلاف عنه، ومجاهد وعيسى وطلحة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجحدري وقتادة وعمرو بن ميمون والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو رجاء ومالك بن دينار بغير خلاف عنهما خاصة ممن ذكر: «لا ترى» بالتاء
كأنه جمل وهم وما بقيت | إلا النجيزة والألواح والعصب |
ثم خاطب تعالى قريشا على جهة الموعظة بقوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ف (ما)، بمعنى الذي، وإِنْ نافية وقعت مكان (ما) ليختلف اللفظ، ولا تتصل (ما) ب (ما)، لأن الكلام كأنه قال: في الذي ما مكناكم فيه. ومعنى الآية: ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسيط في الأموال والأجسام ما لم نعطكم، ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب، فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم. وقالت فرقة: إِنْ شرطية، والجواب محذوف تقديره: في الذي إن مكناكم فيه طغيتم، وهذا تنطع في التأويل.
ثم عدد تعالى عليهم نعم الحواس والإدراك، وأخبر أنها لم تغن حين لم تستعمل على ما يجب.
و «ما» : نافية في قوله: فَما أَغْنى عَنْهُمْ ويقوي ذلك دخول مِنْ في قوله: مِنْ شَيْءٍ.
وقالت فرقة: «ما» في قوله: فَما أَغْنى عَنْهُمْ استفهام بمعنى التقرير، ومِنْ شَيْءٍ على هذا تأكيد، وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول من في الواجب. وَحاقَ معناه: وجب ولزم، وهو مستعمل في المكاره، والمعنى جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩)
وقوله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مخاطبة لقريش على جهة التمثيل لهم بمأرب وسدوم وحجر ثمود. وقوله: وَصَرَّفْنَا الْآياتِ يعني لهذه القرى المهلكة.
وقوله: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الآية يعني هلا نصرتهم أصنامهم التي اتخذوها. و: قُرْباناً إما أن يكون المفعول الثاني ب اتَّخَذُوا و: آلِهَةً بدل منه، وإما أن يكون حالا. و: آلِهَةً المفعول الثاني، والمفعول الأول هو الضمير العائد على: الَّذِينَ التقدير: اتخذوهم. وقوله تعالى: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ
وقوله: وَذلِكَ الإشارة به تختلف بحسب اختلاف القراءات في قوله: إِفْكُهُمْ فقرأ جمهور القراء «إفكهم» بكسر الهمزة وسكون الفاء وضم الكاف، فالإشارة ب ذلِكَ على هذه القراءة إلى قولهم في الأصنام إنها آلهة، وذلك هو اتخاذهم إياها، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ: «أفكهم» بفتح الهمزة، وهي لغة في الإفك، وهما بمعنى الكذب، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ: «أفكهم» بفتح الهمزة: والفاء على الفعل الماضي، بمعنى صرفهم، وهي قراءة ابن عباس وأبي عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان. وقرأ أبو عياض أيضا وعكرمة فيما حكى الثعلبي: «أفّكهم» بشد الفاء وفتح الهمزة والكاف، وذلك على تعدية الفعل بالتضعيف. وقرأ عبد الله بن الزبير: «آفكهم» بالمد وفتح الفاء والكاف على التعدية بالهمزة. قال الزجاج: معناه جعلهم يأفكون كما يقال أكفرهم. وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب: «آفكهم» بفتح الهمزة والمد وكسر الفاء وضم الكاف على وزن فاعل، بمعنى: صارفهم.
وحكى الفراء أنه يقرأ: «أفكهم» بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف، وهي لغة في الإفك، والإشارة ب ذلِكَ على هذه القراءة التي ليست مصدرا يحتمل أن تكون إلى الأصنام. وقوله: وَما كانُوا يَفْتَرُونَ، ويحتمل أن تكون ما مصدرية فلا يحتاج إلى عائد، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي، فهناك عائد محذوف تقديره: يفترونه.
وقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم. و: صَرَفْنا معناه: رددناهم عن حال ما، يحتمل أنها الاستماع في السماء، ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون، وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء، فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة، فضاقت الجن ذرعا بذلك، فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك. واختلف الرواة بعد فقالت فرقة:
جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر، فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله، وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ، وهو يقرأ في صلاة الفجر. وقالت فرقة: بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك، ووفد عليه أهل نصيبين منهم.
قال القاضي أبو محمد: والتحرير في هذا أن النبي ﷺ جاءه جن دون أن يعرف بهم، وهم المتفرقون من أجل الرجم، وهذا هو قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن: ١] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد، وهو المذكور صرفه في هذه الآية. قال قتادة: صرفوا إليه من نينوى، أشعر به قبل وروده.
وقال الحسن: لم يشعر.
واختلف في عددهم اختلافا متباعدا فاختصرته لعدم الصحة في ذلك، أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر كانوا تسعة: فيهم زوبعة، وروي في ذلك أحاديث عن
وقوله: نَفَراً يقتضي أن المصروفين رجالا لا أنثى فيهم. والنفر والرهط: القوم الذين لا أنثى فيهم.
وقوله تعالى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس: «قضي» على بناء الفعل للمفعول.. وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز: «قضى» على بناء الفعل للفاعل، أي قضى محمد القراءة.
وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله: قرأ عليهم سورة [الرحمن] فكان إذا قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: ١٣] قالوا: لا بشيء من آلائك نكذب، ربنا لك الحمد، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن. قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم.
قال القاضي أبو محمد: فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباههم صلى الله على محمد عبده ورسوله.
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)
المعنى: قال هؤلاء المنذرون لما بلغوا قومهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً وهو القرآن العظيم، وخصصوا مُوسى عليه السلام لأحد أمرين: إما لأن هذه الطائفة كانت تدين بدين اليهود، وإما لأنهم
والْحَقِّ و «الطريق المستقيم» هنا بمعنى يتقارب لكن من حيث اختلف اللفظ، وربما كان الْحَقِّ أعم، وكأن أحدهما قد يقع في مواضع لا يقع فيها الآخر حسن التكرار. و: داعِيَ اللَّهِ هو محمد عليه السلام، والضمير في: بِهِ عائد على الله تعالى.
وقوله: يَغْفِرْ معناه: يغفر الله. وَيُجِرْكُمْ معناه: يمنعكم ويجعل دونكم جوار حفظه حتى لا ينالكم عذاب.
وقوله تعالى: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ الآية، يحتمل أن يكون من كلام المنذرين، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى لمحمد عليه السلام، والمراد بها إسماع الكفار وتعلق اللفظ إلى هذا المعنى من قول الجن: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ فلما حكى ذلك قيل ومن لا يفعل هذا فهو بحال كذا، والمعجز الذاهب في الأرض الذي يبدي عجز طالبه ولا يقدر عليه، وروي عن ابن عامر: «وليس لهم من دونه» بزيادة ميم.
وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا الضمير لقريش، وهذه آية مثل واحتجاج، لأنهم قالوا إن الأجساد لا يمكن أن تبعث ولا تعاد، وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض فأقيمت عليهم الحجة من أقوالهم. والرؤية في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا رؤية القلب.
وقرأ جمهور الناس: «ولم يعي» بسكون العين وفتح الياء الأخيرة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يع» بكسر العين وسكون الياء وذلك على حذف.
والباء في قوله: بِقادِرٍ زائدة مؤكدة، ومن حيث تقدم نفي في صدر الكلام حسن التأكيد بالباء وإن لم يكن المنفي ما دخلت على عليه كما هي في قولك: ما زيد بقائم كان بدل أَوَلَمْ يَرَوْا أو ليس الذي خلق.
وقرأ ابن عباس وجمهور الناس: «بقادر» وقرأ الجحدري والأعرج وعيسى وعمرو بن عبيد: «يقدر» بالياء على فعل مستقبل، ورجحها أبو حاتم وغلط قراءة الجمهور لقلق الباء عنده. وفي مصحف عبد الله بن مسعود «بخلقهن قادر».
و: بَلى جواب بعد النفي المتقدم، فهي إيجاب لما نفي، والمعنى: بلى رأوا ذلك أن لو نفعهم ووقع في قلوبهم، ثم استأنف اللفظ الإخبار المؤكد بقوله: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قوله عز وجل:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
فيجيبون: بَلى وَرَبِّنا، وذلك تصديق حيث لا ينفع، وروي عن الحسن أنه قال: إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل، فيقول لهم المحاور من الملائكة عند ذلك فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم.
وقوله تعالى: فَاصْبِرْ الفاء عاطفة هذه الجملة من الوصاة على هذه الجملة من الإخبار عن حال الكفرة في الآخرة، والمعنى بينهما مرتبط، أي هذه حالهم مع الله، فلا تستعجل أنت فيما حملته واصبر له ولا تخف في الله أحدا.
وقوله: مِنَ الرُّسُلِ مِنَ للتبعيض، والمراد من حفظت له مع قومه شدة ومجاهدة كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلى الله عليهم، هذا قول عطاء الخراساني وغيره. وقال ابن زيد ما معناه: إن مِنَ لبيان الجنس. قال: والرسل كلهم أُولُوا الْعَزْمِ، ولكن قوله: كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ يتضمن رسلا وغيرهم، فبين بعد ذلك جنس الرسل خاصة تعظيما لهم، ولتكون القدوة المضروبة لمحمد عليه السلام أشرف، وذكر الثعلبي هذا القول عن علي بن مهدي الطبري. وحكي عن أبي القاسم الحكيم أنه قال: الرسل كلهم أولو عزم إلا يونس عليه السلام وقال الحسن بن الفضل: هم الثمانية عشر المذكورين في سورة الأنعام، لأنه قال بعقب ذكرهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠]. وقال مقاتل هم ستة: نوح صبر على أذى قومه طويلا، وإبراهيم صبر للناس، وإسحاق صبر نفسه للذبح، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: ٨٣]، ويوسف على السجن وفي البئر، وأيوب صبر على البلاء.
قال القاضي أبو محمد: وانظر أن النبي عليه السلام قال في موسى: «يرحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر»، ولا محالة أن لكل نبي ورسول عزما وصبرا.
وقوله: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ معناه لا تستعجل لهم عذابا، فإنهم إليه صائرون، ولا تستطل تعميرهم في هذه النعمة، فإنهم يوم يرون العذاب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة لاحتقارهم ذلك، لأن المنقضي من الزمان إنما يصير عدما، فكثيره الذي ساءت عاقبته كالقليل.
وقرأ أبي بن كعب «ساعة من النهار». وقرأ جمهور القراء والناس: «بلاغ» وذلك يحتمل معاني، أحدها: أن يكون خبر ابتداء، المعنى: هذا بلاغ، وتكون الإشارة بهذا إلى القرآن والشرع، أي هذا إنذار وتبليغ، وإما إلى المدة التي تكون كساعة كأنه قال: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً كانت بلاغهم، وهذا كما تقول: متاع قليل ونحوه من المعنى. والثاني: أن يكون ابتداء والخبر محذوف. والثالث: ما قاله أبو مجلز
وقرأ جمهور الناس:
«فهل يهلك» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ بعضهم فيما حكى هارون: «فهل يهلك» ببناء الفعل للفاعل وكسر اللام، وحكاها أبو عمرو عن الحسن وابن محيصن: «يهلك» بفتح الياء واللام. قال أبو الفتح: وهي مرغوب عنها. وروى زيد بن ثابت عن النبي عليه السلام: «فهل يهلك» بضم الياء وكسر اللام «إلا القوم الفاسقين» بالنصب.
وفي هذه الألفاظ وعيد محض وإنذار بين، وذلك أن الله تعالى جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وأمر بالطاعة ووعد عليها بالجنة، ونهى عن الكفر وأوعد عليه بالنار، فلن يهلك على الله إلا هالك كما قال صلى الله عليه وسلم. قال الثعلبي: يقال إن قوله: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أرجى آية في كتاب الله تعالى للمؤمنين.