هذه السورة مدنية وآياتها تسع وعشرون. وقد أنزلت كلها في شأن الحديبية بين مكة والمدينة. وهي تتناول في معظم آياتها قصة الحديبية وما حولها من أحداث وأحكام وملابسات وعبر.
على أن السورة مبدوءة بالامتنان من الله على عباده المؤمنين بالفتح المبين وهو صلح الحديبية ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾.
وفي السورة إعلان من الله للبرية أنه أرسل رسوله للعالمين، ليكون شاهدا عليهم يوم القيامة، وليكون مبشرا للمؤمنين بالخير والنجاح والفلاح ونذيرا للعصاة والكافرين، إذ يحذرهم بأس ربهم وشديد عقابه.
وفي السورة إطراء كبير من الله للفئة المؤمنة الثابتة الصابرة مع رسول اللله صلى الله عليه وسلم. أولئك الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الجهاد في سبيل الله وعلى المضي في الدعوة إلى دين الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى النهاية.
وفي السورة تنديد بالأعراب والمنافقين والخائرين من الناس الذين كانوا يصطنعون المعاذير للتخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم. وليس لهم في ذلك من عذر صحيح إلا الجبن و الخور و هوان العزيمة و الإيمان.
وفي السورة إخبار برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبشرهم بأن المؤمنين سيدخلون المسجد الحرام آمنين فاتحين ظاهرين بمشيئة الله وعونه وتوفيقه.
وفي السورة ذكر كريم للمؤمنين، يبين الله فيه حال رسوله والذين آمنوا معه، من الشدة على الكفار، والتراحم والتعاون فيما بينهم. إلى غير ذلك من الأنباء والأخبار والمواعظ.
ﰡ
﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ١ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ٢ وينصرك الله نصرا عزيزا ﴾.
نزلت هذه السورة العظيمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ليقضي عمرته فيه وحالوا بينه وبين ذلك ثم جنحوا بعذ ذلك إلى المصالحة والمهانة وأن يرجع عامة هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك على مضض وتثاقل من جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ). فلما نحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه حيث أحصر ورجع أنزل الله ( عز وجل ) هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحا باعتبار ما فيه من المصلحة وما آل الأمر إليه. وقد روي في ذلك عن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وكذلك ذكر عن جابر ( رضي الله عنه ) قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية.
وروى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم : " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها ﴿ إن فتحنا لك فتحا مبينا ١ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ " ١.
والمراد بالفتح ههنا –على الأظهر- أنه الحديبية، فقد كانوا يقولون : أنتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، وكان الصلح من الفتح. ولقد كان فتح الحديبية آية عظيمة، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم :" بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا ".
وقال الزهري : لقد كان الحديبية أعظم الفتوح. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة. فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف.
قوله :﴿ ويتم نعمته عليك ﴾ وذلك برفع ذكرك في الدنيا والآخرة، والظهور على عدوك ظهورا عاليا مؤزرا. وقيل : بالنبوة والحكمة.
قوله :﴿ ويهديك صراطا مستقيما ﴾ أي ويرشدك إلى الحق والهدى وهو صراطه الثابت المستقيم الذي لا زيغ فيه ولا عوج.
أنزل الله سكينته على رسوله والمؤمنين يوم الحديبية إذ صدهم المشركون عن بلوغ البيت الحرام فأصابهم من الحزن والكآبة والارتباك ما أصابهم. وراودت بعض نفوس المسلمين الشكوك، ورأى المنافقون في ذلك منفذا للطعن وإشاعة الظنون والأراجيف والفوضى. لكن الله بفضله ورحمته قد سلّم، إذ أفاض على المؤمنين بشؤبوب رخيّ مستعذب من الأمن والطمأنين والراحة. وهو قوله :﴿ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ﴾ أنزل الله على المؤمنين السكينة وهي الطمأنينة والرحمة تمس قلوبهم فتسكن وترتاح ويتبدد منها الإحساس بالضيق والكرب والحزن والعنت.
قوله :﴿ ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ﴾ لقد أمرهم الله بتكاليف، واحدا بعد آخر، فآمنوا بكل واحد منها. فقد أمروا بالتوحيد فآمنوا واستقاموا، ثم أمروا بالصلاة والصيام والزكاة والحج والقتال فاستجابوا وأطاعوا، وبذلك ازدادوا بما جدد لهم من الفرائض إيمانا مع إيمانهم. وقيل : ازدادوا إيمانا بالاستدلال والبرهان والنظر مع إيمانهم الفطري الذي جبلوا عليه.
قوله :﴿ ولله جنود السماوات والأرض ﴾ وذلك تهديد من الله يخوف به المشركين ويحذرهم شديد بأسه وعظيم انتقامه، فهو سبحانه بيده القوة والسلطان والجبروت. وعنده جنود السماوات والأرض من الملائكة العظام. لو أراد الله أن يهلك المشركين لأرسل إليهم واحدا من ملائكته فأهلكهم وقطع دابرهم.
قوله :﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ الله عليم بحال عباده ويعلم ما يصلح عليه حالهم. وهو سبحانه حكيم في شرعه وتدبيره وتقديره. فلم يشأ الله أن ينتقم من المشركين بتسخيره الملائكة ليفنوهم ويستأصلوهم استئصالا، ولكن شرع الجهاد ليتميز الصالحون من الخائرين، وليكتب الله الخير وحسن الجزاء للطائعين الصابرين المخلصين، ويبوء الظالمون والمنافقون والعصاة بالخسران المبين وهو
قوله :﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾.
قوله :﴿ وكان عند الله فوزا عظيما ﴾ الإشارة عائدة إلى العدة التي وعد الله المؤمنين بها، من إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار وتكفير السيئات والذنوب عنهم، فإن ذلك هو الفوز العظيم. أي السعادة العظمى والنجاة التي تفوق كل نجاة.
قوله :﴿ الظانّين بالله ظن السّوء ﴾ وذلك وصف للفريقين من أهل النفاق والشرك الذين كان ظنهم أن النبي والذين آمنوا معه لن يرجعوا إلى المدينة بل يستأصلهم المشريكون فلا تبقى منهم باقية. وذلك هو السوء من ظنهم الخبيث الكاذب ﴿ عليهم دائرة السّوء ﴾ و ﴿ السوء ﴾ معناه العذاب والهلاك، أي تحيق بهم دائرة العذاب والهوان والخسران في الدنيا حيث الذل والهزيمة والقهر، وفي الآخرة حيث النار وبئس القرار.
قوله :﴿ وغضب الله عليهم ولعنهم ﴾ لقد نالهم الله بمقته الشديد وأبعدهم من رحمته وفضله ﴿ وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ﴾ أعد الله لهم النار يوم القيامة ليصلوها وساءت لهم منزلا مقاما يصيرون إليه.
ذلك إخبار من الله عن رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم إذ أرسله الله للعالمين ليدعوهم إلى عقيدة التوحيد وإفراد الله بالإلهية والربوبية وليرشدهم إلى صراط الله المستقيم. إلى دين الإسلام الكامل العظيم. لا جرم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خير الأنام وهادي البشرية إلى النجاة والأمان، ومستنقذهم من الباطل والتعثر والتخبط في ديجور الظلام. وكفى به صلى الله عليه وسلم أن يشهد له ربه بمثل هذه الحقيقة، وهو قوله :﴿ إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ﴾ هذه الأسماء الثلاثة، شاهدا ومبشرا ونذيرا، منصوبات على الحال١.
يعني : أرسل الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم شاهدا على الأمة يوم القيامة بما فعلته في الدنيا. وقيل : يشهد للعالمين أنه لا إله إلا الله ﴿ ومبشرا ﴾ أي يبشر المؤمنين المطيعين الذين أخلصوا دينهم لله، بالجنة والرضوان ﴿ نذيرا ﴾ يحذر العصاة والناكبين عن صراط الله، العذاب وسوء المصير.
قوله :﴿ وتسبحوه بكرة وأصيلا ﴾ أي تنزهوه عن كل عيب أو نقيصة.
وقيل : تصلوا له الصلوات بالغدوات والعشيات في أول النهار وآخرة.
٢ المصدر السابق ص٧٣٢.
قوله :﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾ أي نعمة الله عليهم فوق إحسانهم إلى الله. وقيل : نصرة الله إياهم أقوى وأعظم من نصرتهم إياه. وقيل غير ذلك. قوله :﴿ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ﴾ أي فمن نقض العهد بعد البيعة فإنما ينقض على نفسه. يعني ضرر ذلك النكث يرجع على نفسه بحرمانه حسن الجزاء وإلزامه العقاب.
قوله :﴿ ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ﴾ يعني ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الطاعة لله ورسوله والصبر على مجاهدة العدو لنصرة دين الله فسوف يؤتيه الله عظيم الثواب والجزاء.
على أن هذه البيعة، وهي بيعة الرضوان كانت تحت شجرة بالحديبية وكان الصحابة ( رضوان الله عليهم ) الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألفا وأربعمائة على الراجح. وفي ذلك روى البخاري عن جابر ( رضي الله عنه ) قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ١.
يبين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يبديه له المنافقون الأعراب من المصانعة والمداهنة، وهم في الحقيقة يكنون في أنفسهم النفاق والضغينة لرسول الله ولدينه وللمؤمنين. وهم لتحقيق بغيتهم الفاسدة لا يعبأون بحلف الأيمان الفاجرة على سبيل التقية والتكلف بالظهور بمظهر الصادقين الأوفياء، والله يشهد لنبيه وللمؤمنين بأن هؤلاء منافقون مخادعون.
وذلكم هو قوله :﴿ سيقول لك المخلّفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا ﴾ المراد بالأعراب، الذين كانوا حول المدينة، كغفار ومزينة وجهينة وغيرهم. فقد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح بعد أن استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش. وكان عليه الصلام والسلام قد أحرم بعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يبغي من سفره هذا حربا أو قتالا. لكن الأعراب من حول المدينة قد تثاقلوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطنعوا لأنفسهم المعاذير متعللين بها لعدم الخروج وهو قوله :﴿ شغلتنا أموالنا وأهلونا ﴾ تعللوا بانشغالهم في الأهل والأموال زاعمين أنه ليس لهم من يقوم بهم إذا خرجوا من المدينة ﴿ فاستغفر لنا ﴾ يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسغفر لهم الله. وليس ذلك منهم على سبيل الاعتقاد واليقين أو الخوف من الله. بل على سبيل التّقية والمصانعة والنفاق، فهم يخفون في أنفسهم غير ما تبديه ألسنتهم. وهو قوله :﴿ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ﴾ لا جرم أنهم منافقون مخادعون كاذبون، يظهرون خلاف ما يبطنون، والله جلا وعلا عليم بأسرارهم وحقيقة أخبارهم وما تنطوي عليه صدورهم فكشفهم حتى افتضح أمرهم.
قوله :﴿ قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا ﴾ يعني : فمن يمنعكم من الله إن أراد بكم خيرا أو شرا، أو أراد بكم نصرا أو هزيمة. فليس فراركم أو تخلفكم عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمنجّيكم مما هو مكتوب لكم في قدر الله. فليس من أحد بقادر على رد ما أراده الله لكم من حياة أو موت، أو من نجاة أو هلاك.
قوله :﴿ بل كان الله بما تعملون خبيرا ﴾ ذلك رد لما أظهروه من رقيق الكلام ولما تكلفوه من لين الحديث المصطنع، فقد كشف الله حقيقتهم إذ بين لهم أنه يعلم ما تخفيه صدورهم ويعلم حقيقة أمرهم وأفعالهم ومقاصدهم.
قوله :﴿ وزين ذلك في قلوبكم ﴾ الإشارة عائدة إلى نفاقهم وما يخفونه في نفوسهم من الظنون والأماني باستئصال المسلمين. والمعنى : وزين هذا النفاق والظن في قلوبكم، إذ زينه لكم الشيطان فرأيتموه حسنا.
قوله :﴿ وظننتم ظن السّوء ﴾ أي ظننتم أن الله لن ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم، والذين آمنوا معه، وأن المشركين سوف يستأصلون شأفتهم البتة. ﴿ وكنتم قوما بورا ﴾ البور معناه الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. وكذا المرأة البور التي لا خير فيها١، أي كنتم قوما هلكى، أو فاسدين أشرارا لا خير فيكم.
المراد بالمغانم ههنا، مغانم خيبر، لأن الله ( جل وعلا ) قد وعد أهل الحديبية فتح خيبر وانها لهم خاصة سواء فيهم الغائب أو الحاضر. ولم يغب منهم عن خيبر سوى جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر. والمعنى : سيقول لكم المخلفون عند انطلاقكم إلى خيبر لتفتحوها وتأخذوا مغانمها ﴿ ذرونا نتّبعكم ﴾ أي دعونا أو اتركونا نتبعكم ونشهد معكم غزوة خيبر. وكانوا من قبل قد تخلفوا عن الخروج إلى مكة والاستعداد للقاء المشركين.
قوله :﴿ يريدون أن يبدلوا كلام الله ﴾ يعني يريد هؤلاء المخلفون المنافقون أن يغيروا وعد الله الذي وعده أهل الحديبية دون غيرهم. وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم خاصة.
قوله :﴿ قل لن تتبعونا ﴾ وهذا النفي في معنى النهي، فقد منعهم الله من الخروج إلى خيبر، أي : قل لهؤلاء المخلفين لن تتبعونا إلى خيبر إذا ذهبنا لقتالهم ﴿ قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ﴾ أي مثل ذلك القول قال الله لنا من قبل أن نرجع إليكم من الحديبية. وهو أن غنيمة خيبر لمن شهد معنا الحديبية خاصة، ولستم أنتم ممن شهدها.
قوله :﴿ فسيقولون بل تحسدوننا ﴾ أي سيقول المخلفون عن الخروج ليس ذلك بقول الله كما تزعمون. بل ما يمنعكم من الإذن لنا بالخروج معكم إلا حسدكم لنا كيلا يكون لنا معكم في الغنائم نصيب.
قوله :﴿ بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ﴾ وذلك رد لزعمهم الباطل، فهم لا يعلمون من الحقيقة أو من دين الله إلا يسيرا.
يبين الله في آياته هذه أن المسلمين مقبلون على قتال المشركين على اختلاف أهوائهم وضلالالتهم، وأنهم ظاهرون عليهم وعلى الناس جميعا وحينئذ يكون لهم النصر والغلبة. ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمخلفين المنافقين : ستدعون لقتال قوم أشداء أولي قوة وبأس. واختلفوا في المراد بهؤلاء القوم فقد قيل : المراد بهم فارس. وقيل : الروم. وقيل : فارس والروم. والأولى بالصواب أنهم المشركون أو المرتدون من نبي حنيفة وهم أهل اليمامة أصحاب مسيلمة. الذين قاتلهم أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه )، وقد ذكر ذلك عن كثير من المفسرين. فهذا الصنف من الكافرين الذين لا يقبل منهم غير الإسلام أو القتال. وهو قوله :﴿ تقاتلونهم أو يسلمون ﴾ أي يكون أحد الأمرين : إما المقاتلة أو الإسلام. ولا ثالث لهذين.
قوله :﴿ فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ﴾ إن تقبلوا مؤمنين صادقين لقتال هؤلاء القوم أولي البأس الشديد وتكونوا في صف المجاهدين غير مجانبين ولا مخلفين ﴿ يؤتكم الله أجرا حسنا ﴾ يجعل الله لكم في مقابلة ذلك حسن الثواب والجزاء وهي الجنة.
قوله :﴿ وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ﴾ إن أعرضتم عن دعوتنا لكم بالخروج معنا مؤمنين صادقين للقاء المشركين أولي البأس الشديد كما أعرضتم عام الحديبية فسوف يجازيكم الله الجزاء الأليم في الدنيا حيث الخزي لكم والإذلال، وفي الآخرة يصليكم النار.
وفي الآية بيان لثلاثة أصناف من المعذورين وهم : الأعمى، فإنه لا يستطيع مزاولة الجهاد أو الإقدام على العدو ولا يمكنه الاحتراز والحذر.
ثم الأعرج، الذي يعجزه العرج عن مزاولة القتال وما يقتضيه ذلك من قدرة على الحركة والسعي وسرعة التنقل. أما إن كان عرجه هينا بسيطا لا يعجزه عن المجاهدة فلا يعذر في ترك الجهاد. وفي معنى الأعرج، الأقطع وهو المقطوع اليد. وكذلك المقعد وهو أولى بالعذر.
ثم المريض الذي لا يستطيع الكر والفر وسرعة الحركة والتنقل ولا يقدر على ملاقاة العدو بالضرب والطعن ونحوهما لما به من مرض. أما إن كان مرضه هينا كالسعال أو الصداع الخفيف أو نحو ذلك مما لا يعجز صاحبه عن الجهاد فليس بمعذور.
قوله :﴿ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ يرغب الله المؤمنين في قتال المشركين الظالمين الذين يجحدون آيات الله، ويصدون الناس عن دين الإسلام. والمعنى : من يطع الله ورسوله في الدعوة إلى جهاد المشركين وإلى القتال في صفوف المؤمنين دفعا لشرور الظالمين وفتنتهم، وابتغاء مرضاة الله وسعيا لإعلاء كلمة الإسلام، أولئك يجزيهم ربهم خير الجزاء يوم القيامة حيث النعيم المقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار ﴿ ومن يتول يعذبه عذابا أليما ﴾ من يعرض عن طاعة الله ورسوله فيتخلف عن الجهاد مع المؤمنين فلسوف يبوء بعذاب الذل والخزي في الدنيا، وبالعذاب الوجيع في الآخرة٢.
٢ تفسير الطبري جـ ٢٦ ص ٥٠- ٥٣ وتفسير الرازي جـ ٢٨ ص ٩٢- ٩٤ وفتح القدير جـ ٥ ص ٥٠..
ذلك إخبار من الله عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وهي سمرة، بأرض الحديبية وكانوا ألفا وأربعمائة وهي المسماة بيعة الرضوان. وقصتها باقتضاب : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة فهموا به، فمنعه الأحابيش. فلما رجع دعا بعمر ( رضي الله عنه ) ليبعثه فقال : إني أخافهم على نفسي لما من عداوتي إياهم وما بمكة عدو يمنعني. ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني وأحب إليهم عثمان بن عفان. فبعثه فأخبرهم أنه لم يأت بحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته فوقروه وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال : ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبس عندهم فشاعت أراجيف بأنهم قتلوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لانبرح حتى نبرح حتى نناجز القوم " ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة.
قوله :﴿ فعلم ما في قلوبهم ﴾ من الإخلاص والوفاء والصدق والتقوى ﴿ فأنزل السكينة عليهم ﴾ أي نزل في قلوبهم الأمن والطمأنينة.
قوله :﴿ وأثابهم فتحا قريبا ﴾ أي فتح خيبر.
المغانم الكثيرة وعد الله المؤمنين بأخذها هي المغانم التي تكون إلى يوم القيامة. وهو قول ابن عباس.
قوله :﴿ فعجل لكم هذه ﴾ أي عجل لكم فتح خيبر قبل أن تظفروا بفتح مكة. وقيل : المراد صلح الحديبية.
قوله :﴿ وكف أيدي الناس عنكم ﴾ المراد بالناس هنا أهل مكة، فقد كفهم الله عن المسلمين بالصلح. وقيل : كف أيدي المشركين واليهود عن أهليكم وعيالكم الذين خلفتموهم وراء ظهوركم.
قوله :﴿ ولتكون آية للمؤمنين ﴾ أي ليكون كفه أيدي الكافرين عن عيال المسلمين وأهليهم الذين خلفوهم وراء ظهورهم في المدينة، ورعاية الله لهم من كل أذى ومكروه، آية وعبرة للمؤمنين فيوقنوا أن الله هو الذي يدفع عنهم الشرور والمكاره وأنه الذي يحوطهم بكلاءته ورعايته. فهو سبحانه الحافظ لعباده المؤمنين أن تنال منهم مكائد المجرمين من أعداء الله والدين.
قوله :﴿ ويهديكم صراطا مستقيما ﴾ أي ويرشدكم إلى طريق الحق والسداد. طريق الله المستقيم الذي لا زيغ فيه ولا عوج.
واختلفوا في المراد بالمغانم الأخرى التي لم يقدروا عليها. فقيل : ما فتح الله على المسلمين من فتوح كأرض فارس والروم. وجميع ما فتحه المسلمون، وقيل : ما يفتحه المسلمون من البلاد إلى قيام الساعة.
قوله :﴿ وكان الله على كل شيء قديرا ﴾ لا يتعذر على الله أن يفعل ما يشاء لبالغ قدرته وعظيم سلطانه.
ويستفاد من الآية أن الغلبة دائما للمسلمين الصادقين المتقين. وذلكم قضاء إلهي حكم الله فيه أن تكون الدائرة على الكافرين المعتدين، الذين يعتدون على المسلمين الصالحين. فكلما تربص المجرمون بالمسلمين ظلما واضطغانا أو عزموا على النيل منهم وإيذائهم بالباطل والعدوان، رد الله كيدهم في نحورهم وهيأ لهم من أسباب البطش والانتقام ما يدمر عليهم أو يدفع مكائدهم واعتداءاتهم، إلا أن يكون المسلمون لاهين غافلين موغلين في النسيان واللهو وزينة الحياة الدنيا. أو مزقهم الانشقاق والخلافات ما بينهم فكانوا مفرقين أشتاتا. أولئك لا يجد الكافرون المعتدون ما يحول دون الانقضاض عليهم لتدميرهم والقضاء عليهم.
قال ابن جرير الطبري في تأويل الآية : يعني أن الله كف أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية يلتمسون غرتهم ليصيبوا منهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بهم أسرى فخلى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنّ عليهم ولم يقتلهم.
وفي كف المشركين عن المسلمين ودفع أذاهم عنهم روى الإمام أحمد بإسناده عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة بالسلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة١ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم فأخذوا، فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية.
وروى أحمد عن عبد الله بن مغفل المدني ( رضي الله عنهما ) قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) وسهيل بن عمرو بين يديه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ( رضي الله عنه ) : " اكتب بسم الله الرحمان الرحيم " فأخذ سهل بيده. وقال : ما نعرف الرحمان الرحيم. اكتب في قضيتنا ما نعرف. فقال : " اكتب باسمك اللهم ". وكتب : " هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة ". فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال : لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف. فقال : " اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ". فبينا نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله تعالى بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل جئتم في عهد أحد ؟ أو هل جعل لكم أحد أمانا ؟ " فقالوا : لا، فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى الآية.
قوله :﴿ وكان الله بما تعملون بصيرا ﴾ الله عليم بأعمال العباد، لا يخفى عليه منها شيء٢.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ١٩٢ وتفسير الطبري جـ ٢٦ ص ٦٠ وتفسير الرازي جـ ٢٨ ص ٩٧ والكشاف ص ٥٤٦، ٥٤٧..
يبين الله في ذلك ظلم المشركين وشديد لؤمهم وغلظة قلوبهم، إذ تمالأوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وصدوهم عن المسجد الحرام وهم أهله وأحق الناس به وبزيارته. وذلك هو دأب المجرمين الكافرين في كل زمان. أولئك الذين تتقطع قلوبهم تغيظا واضطغانا وكراهية للإسلام والمسلمين.
فقال سبحانه :﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ﴾ يعني هؤلاء كفار قريش الذين جحدوا ربهم وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنعوكم أن تدخلوا المسجد الحرام عام الحديبية إذ أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، ومنعوكم أن تدخلوا المسجد الحرام عام الحديبية إذ أحرم النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه بعمرة.
قوله :﴿ والهدي معكوفا أن يبلغ محله ﴾ الهدي، منصوب بالعطف على الكاف والميم في ﴿ وصدوكم ﴾ و ﴿ معكوفا ﴾ أي محبوسا أو موقوفا، و ﴿ أن يبلغ ﴾، مفعول لأجله والمعنى : صدوكم وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله١. وقد فعلوا ذلك ظلما وعنادا. وكان الهدي سبعين بدنه. وفي ذلك روى البخاري عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه وحلق رأسه - قيل : إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية ابن أبي العيص الخزاعي - وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت له أم سلمة : لو نحرت لنحروا، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، ونحروا بنحره. وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة.
قوله :﴿ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم ﴾ ﴿ رجال ﴾، مرفوع على أنه مبتدأ، ﴿ ونساء ﴾ عطف على ﴿ رجال ﴾ ٢ ﴿ أن تطئوهم ﴾ أن تقتلوهم. بدل اشتمال من ﴿ هم ﴾ أو من ضمير ﴿ تعلموهم ﴾ والمعرة تعني العيب. والمعنى : أنه كان بمكة قوم من المسلمين المختلطين بالمشركين غير متميزين منهم ولا تعرفونهم أنتم. فلولا كراهة أن تقتلوا أناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين فيصيبكم بإهلاكهم عيب ومشقة لما كف الله أيديكم عنهم لقتلهم. والمعرة أو العيب يحتمل وجوب الدية والكفارة بقتل المؤمنين، فضلا عن سوء القالة من المشركين أنهم فعلوا ذلك بأهل دينهم.
قوله :﴿ ليدخل الله في رحمته من يشاء ﴾ وذلك متعلق بمحذوف، أي لولا أن تقتلوهم فتصيبكم بقتلهم معرة من غير علم لأذن الله لكم في دخول مكة. ولكن الله حال بينكم وبين دخولها، ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها.
قوله :﴿ لو تزيّلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ﴾ أي لو تميز المؤمنين في مكة من المشركين المختلطين بهم ففارقوهم أو خرجوا من بين أظهرهم لقتلنا الكافرين منهم بالسيف.
ويستدل من هذه الآية على أن الكافر لا يؤذي إذا كان إيذاؤه يفضي إلى إيذاء المسلم حتما. فحرمه المسلم معتبرة ومقدمة على قتل العدو. وعلى هذا لو أن قوما من المشركين في حصن لهم وفيهم قوم من المسلمين أسارى وقد حصرهم المسلمون جميعا فما يجوز للمسلمين أن يقتلوهم لئلا يفضي ذلك إلى قتل الأسارى المسلمين. وكذلك لو تترس كافر بمسلم فإنه لا يجوز في الكافر، لأن ذلك يفضي إلى إصابة. ولو فعل ذلك أحد فأصاب مسلما كان عليه الدية والكفارة. فإن لم يعلم فلا دية ولا كفارة.
أما إذا كان في قتل الترس مصلحة ضرورية للمسلمين صار قتله جائزا شرعا، لأنه لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. وإذا لم يقتل الترس تمكن الكافرون من المسلمين فاستولوا على بلادهم وأفنوهم جميعا.
٢ نفس المصدر السابق..
قوله :﴿ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ﴾ أنزل الله عليهم الطمأنينة. وقيل : ثبتهم على الرضا والوقار ﴿ وألزمهم كلمة التقوى ﴾ وهي لا إله إلا الله، فهذه الشهادة الكبرى رأس كل تقوى ﴿ وكانوا أحق بها وأهلها ﴾ يعني كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه أحق بكلمة التقوى وهي شهادة أن لا إله إلا الله وكانوا أهل هذه الشهادة دون المشركين.
قوله :﴿ وكان الله بكل شيء عليما ﴾ الله يعلم ما في ضمائر الخلق ويعلم ما تكنه صدور العباد ويعلم ما يصلح عليه حال الناس٢.
٢ تفسير القرطبي جـ ١٦ ص ٢٨٦- ٢٨٨ والكشاف جـ ٣ ص ٥٤٨ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ١٩٤..
كا ن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه أنه يدخل مكة ويطوف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة. فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون وأشاعوا بين الناس الأراجيف والظنون، ووقع في نفس بعض الصحابة من ذلك شيء حتى سأل عمر ابن الخطاب ( رضي الله عنه ) في ذلك فقال له فيما قال : أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟ " قال : لا. قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإنك آتيه ومطوف به " وبهذا أجاب الصديق ( رضي الله عنه ) أيضا. ولهذا أنزل الله قوله :﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ﴾ فأعلمهم الله بذلك أنهم سيدخلون في غير ذلك العام وأن رؤيا نبيه صلى الله عليه وسلم حق.
قوله :﴿ آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين ﴾ هذه الأسماء الثلاثة كلها منصوبات على الحال١ و ﴿ آمنين ﴾، لا تخافون من عدو حال دخولكم، أما دخولهم محلقين رؤوسهم ومقصرين، فذلك من التحليق والتقصير وهو للرجال، والحلق أفضل من التقصير. فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رحم الله المحلقين " قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : " رحم الله المحلقين " قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم " والمقصرين " قوله :﴿ لا تخافون ﴾ الجملة في موضع نصب على الحال. والتقدير : غير خائفين ٢ فقد أثبت الله لهم الأمن حال دخولهم مكة وأذهب عنهم الخوف حال قرارهم فيها فلا يخشون أحدا إلا الله. وقد كان ذلك في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع. ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذي الحجة والمحرم وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه، بعضها عنوة وبعضها صلحا. وخيبر أقليم عظيم الخصب كثير النخل والزروع، فاستخدم النبي صلى الله عليه وسلم من فيها من اليهود عليها على الشطر وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة، جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعري وأصحابه ( رضي الله عنهم ). فلما كان ذو العقدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي، فلبى صلى الله عليه وسلم وسار معه أصحابه يلبون فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم وأنه قد نكث العهد الذي بينه وبينهم من وضع القتال عشر سنين فذهبوا فأخبروا أهل مكة. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش من يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغيته، فبين لهم أنه لم يبغ قتالا بل جاء. معه المؤمنون إلى مكة معتمرين، على الشرط الذي بينه وبينهم. فقال له مبعوث قريش وهو مكرز بن حفص : بهذا عرفناك بالبر والوفاء. ثم خرجت رؤوس المشركين من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه غيظا وحنقا. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه٣.
قوله :﴿ فعلم ما لم تعلموا ﴾ يعني علم الله ما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين الذين لا تعلمونهم أنتم. ولو دخلتم مكة في ذلك العام لوطئتموهم فلقتلتموهم فأصابكم بذلك معرة من غير علم منكم. وقيل : علم الله ما في تأخير الدخول إلى مكة من خير لكم وصلاح لم تعلموه أنتم. ذلك أنهم عقب رجوعهم مضوا إلى خيبر ففتحوها فرجعوا بأموال كثيرة وازدادوا بذلك من القوة والعدة أضعافا، فأقبلوا على مكة بقوة وأهبة أضعاف ما كانوا عليه قبل ذلك.
قوله :﴿ فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ﴾ المراد بالفتح صلح الحديبية في قول أكثر المفسرين. وقيل : فتح خيبر. والأول أولى بالصواب. فإنه ما من فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية. لأنه لما كانت الهدنة بين الفريقين وقد أمن الناس بعضهم بعضا، التقوا فيما بينهم فتناظروا وتبادلوا الحديث والمناظرة. فما من أحد ذي عقل وفطرة سليمة، خوطب بالإسلام إلا دخل فيه. وبذلك دخل في هاتين السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر، فقد كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة. وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان، عشرة آلاف.
٢ المصدر السابق.
٣ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٠١ وتفسير القرطبي جـ ١٦ ص ٢٩٠..
قوله :﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ أي ليعليه على سائر الأديان في الأرض وعلى الأمم والشعوب كافة. والله جل وعلا إنما يريد بذلك للبشرية الخير والأمن والهداية والسعادة. وهذه حقائق كبريات ليس لها وجود حقيقي معاين إلا في ظل الإسلام، فإنه الدين السماوي الوحيد الذي يشيع في الدنيا المن والحق والعدل والرحمة، ليكون الناس جميعا إخوانا مؤتلفين متوادين متعاونين. وذلك بما بني عليه الإسلام من قواعد عظيمة في غاية الكمال والجمال، ترسخ في الأرض كل معاني الخير والصلاح والسعادة، وتثير في النفس البشرية الإحساس الرهيف بالعطف والرأفة والإيثار وحب الآخرين.
والناس في ظل غير الإسلام لا يبرحهم الشقاء والتعس ولا تفارقهم المعضلات النفسية والاجتماعية، الفردية منها والعامة، وما ينشأ عن ذلك من مختلف الآلام والهموم والويلات وألوان المعاناة والأزمات وكل ذلك إنما يقع في معزل عن دين الإسلام. دين المودة والرحمة والبر والتعاون والإيثار. الدين الذي يمحو من النفس الكراهية والغلظة والأثرة ( الأنانية ) والتعصب. من أجل ذلك كتب الله أن يكون الإسلام ظاهرا ومهيمنا على الأديان وعلى الناس أجمعين ليكونوا بذلك سعداء آمنين راغدين غير ظالمين ولا مظلومين، وقد حفتهم من الله الرحمة والبركة والطمأنينة وطيب المقام في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ الباء حرف جر زائد. و ﴿ شهيدا ﴾ منصوب على التمييز أو الحال. والتقدير : كفاكم الله شهيدا ١. والمعنى كفى الله شهيدا لنبيه صلى الله عليه وسلم. وتلك أكرم شهادة له بصحة نبوته وصدق ما جاء به. أو كفى الله شاهدا على أنه مظهر دينه على الأديان كافة٢.
٢ تفسير الطبري جـ ٢٦ ص ٦٨، ٦٩ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٢٠١..
ذلك وصف من الله للمؤمنين الصادقين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم خير قرن في القرون، وأشرف طائفة من الناس في البرايا أقلتهم هذه الأرض وذكرهم التاريخ. ذلكم وصفهم في تلكم الآية الفضلى بكلماتها الموحية الضخمة، وعباراتها الرصينة العذاب. وهو قوله سبحانه :﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ﴾ ﴿ محمد ﴾، مرفوع على أنه مبتدأ. و ﴿ رسول الله ﴾ خبره. أو ﴿ محمد ﴾ مبتدأ و ﴿ رسول الله ﴾ صفته. والذين معه عطف على ﴿ محمد ﴾. و ﴿ أشداء ﴾ خبر عن الجميع. و ﴿ رحماء ﴾ خبر ثان١.
هذا وصف لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من المؤمنين في كل زمان، في حقيقة خلقهم وسلوكهم مناقبهم، فإنهم قساة غلاظ على الكافرين حتى يؤمنوا. فالكافرون بظلمهم وجحودهم وفساد مقاصدهم وسلوكهم واتباعهم للشهوات والأهواء والضلال، وفرط حنقهم على الإسلام والمسلمين لا يستحقون العطف واللين بل الشدة والعنف. وفي مقابل ذلك فإن المؤمنين رحماء بينهم. فهم متوادون متحابون متعاونون لا تخالط قلوبهم أوشاب من أدناس اللؤم والأثرة والحسد والضغينة. وفي الحديث : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " وقال صلى الله عليه وسلم : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبّك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.
قوله :﴿ تراهم ركعا سجدا ﴾ ﴿ ركعا سجدا ﴾ منصوبان على الحال، لأن ذلك من رؤية البصر٢، فقد وصفهم بكثرة الصلاة وهي خير الأعمال ﴿ يبتغون فضلا من الله ورضوانا ﴾ يبتغي المؤمنون بكل ما يفعلونه من صلاة وغيرها من أوجه العبادة ﴿ فضلا من الله ورضوانا ﴾ أي جنته ورضاه. وهذه غاية ما يرتجيه المؤمنون الصادقون المخلصون لله في أعمالهم وعباداتهم.
قوله :﴿ سيماهم في وجوههم من أثر السجود ﴾ ﴿ سيماهم ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿ في وجوههم ﴾ أو خبره ﴿ من أثر السجود ﴾ والسيما، والسيمة والسيماء والسيميا، العلامة. والمراد بها السمة التي تحدث في جبهة الساجدين من كثرة السجود. وفسر ذلك قوله :﴿ من أثر السجود ﴾ أي من التأثير الذي يحدثه السجود في الوجه. وقيل : معناه السمت الحسن. وقيل : المراد، أثر الإسلام يظهر على وجوه المؤمنين المخلصين من خشوع وزهد وسكينة وتواضع وتقوى.
قوله :﴿ ذلك مثلهم في التوراة ﴾ يعني هذه الصفة المذكورة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هي صفتهم في التوراة ﴿ ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه ﴾ الشطء معناه الفراخ. شطأ الزرع أو النبات فراخه. وقد أشطأ الزرع أي خرج فراخه٣ يعني : ووصفهم في الإنجيل كزرع أخرج فراخه. وقد وصفهم بذلك، لأنهم ابتدأوا في دخول الإسلام وهم قلة ثم تزايدوا، إذ دخلوا في دين الله جماعة بعد جماعة حتى كثروا. على أن الراجح أن مثلهم في التوراة غير مثلهم في الإنجيل، وأن الخبر عن مثلهم في التوراة متناه عند قوله :﴿ ذلك مثلهم في التوراة ﴾ فهنا الوقف. ثم يستأنف قوله :﴿ ومثلهم في الإنجيل ﴾.
قال القرطبي : هذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون. فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوي حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه.
قوله :﴿ فآزره ﴾ يعني قواه وأعانه، أي قوّى الزرع شطأه أو فراخه وأعانه. وهو من المؤازرة بمعنى المعاونة ﴿ فاستغلظ ﴾ أي صار الزرع غليظا بعد دقته وضعفه ﴿ فاستوى على سوقه ﴾ جمع ساق. وساق الزرع، عوده الذي يحمله، ويقوم عليه، أي استقام الزرع على أعواده.
قوله :﴿ يعجب الزراع ﴾ يعني : هذا الزرع بإفراخ شطئه واستغلاظه واستوائه على أعواده وحسن منظره، يعجب الزراع الذين زرعوه.
قوله ﴿ ليغيظ بهم الكفار ﴾ أي مثّل الله هذا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى نموا وازدادوا و كثروا واشتد أمرهم وقويت شوكتهم ليغيظ بهم الكفار. قوله :﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾ ذلك وعد من الله للمؤمنين المذعنين لله بالخضوع والطاعة، بأن يستر عليهم ما اجترحوه من السيئات والذنوب وأن يجزيهم الأجر العظيم وهو الجنة. وليست ﴿ منهم ﴾ للبعضية، بل لبيان الجنس، كقوله :﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ﴾ فالمراد، من هذا الجنس، أي جنس الصحابة وسائر الداخلين في دين الإسلام المتمسكين بشريعة الله، المعتصمين بعقيدة الإيمان والتوحيد، المستسلمين لأوامر الله وأحكام دينه٤.
٢ فارغ؟؟؟؟؟؟؟؟.
٣ مختار الصحاح ص ٣٣٧..
٤ تفسير القرطبي جـ ١٦ ص ٢٩٥ وتفسير الطبري جـ ٢٦ ص ٧٠-٧٣ وتفسير الرازي جـ ٢٨ ص ١٠٧ والكشاف جـ ٣ ص ٥٥٠..