ﰡ
وقرأ عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «لَمْ يكُن المُشْركُونَ وأهْلُ الكِتابِ منفكين» وهذه قراءة على التفسير.
قال ابن العربي: «وهي جائزة في معرض البيان، لا في معرض التلاوة، فقد قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رواية الصحيح» فَطلِّقُوهُنَّ لقُبُلِ عدَّتهِنَّ «وهو تفسيرٌ، فإن التلاوة هو ما كان في خط المصحف».
وقرئ: «والمُشرِكُون» بالواو نسقاً على «الَّذينَ كَفَرُوا».
قوله: ﴿مُنفَكِّينَ﴾ اسم فاعل من «انفكَ»، وهي هنا التامة، فلذلك لم تحتج إلى خبر.
وزعم بعضهم: أنها هنا ناقصة، وأن الخبر مقدر، تقديره: منفكّين عارفين محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال أبو حيان: وحذف خبر «كَانَ» لا يجوز اقتصاراً، ولا اختصاراً.
٥٢٦٣ - ب -.................................... يَبْغِي جِوَاركَ حَيْثُ لَيْسَ مُجِيرُ
أي: في الدنيا، ضرورة، ووجه من منع من ذلك أنه قال: صار الخبر مطلوباً من جهتين: من جهة كونه مخبراً به، فهو أحد جزئي الإسناد، ومن حيث كونه منصوباً بالفعل، وهذا منتقض بمفعولي ظن، فإن كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران ومع ذلك يحذفان، أو أحدهما اختصاراً، وأما الاقتصار ففيه خلاف وتفصيل وتقدم ذكره.
وقوله: ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ﴾ متعلق ب «لَمْ يَكُنْ» أو ب «مُنفكِّينَ».
فصل
قال الواحديُّ: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً، ولم يبين كيفية الإشكال قال ابن الخطيب: ووجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا إلى أن تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء المنفكّ عنه، والظاهر أن المراد لم ينفكوا عن كفرهم، حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، فانفكوا عنه لأن «حتَّى» لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ يقتضي زيادة كفرهم عند مجيء الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فحينئذ يحصل التناقض، والجواب من وجوه:
أحدها: وهو أحسنها، ما لخصه الزمخشريُّ: أن الأول حكاية ما كانوا يقولونه من أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الموعود به لا ننفك عما نحن عليه من ديننا.
والثاني: إخبار عن الواقع، يعني أنهم كانوا يعدون الاتِّفاق على الحق إذا جاءهم الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، والمعنى أن الذي وقع فيه كان خلافاً لما ادعوا.
وثالثها: المعنى: لم يكونوا منفكين عن كفرهم، وإن جاءتهم بينة، قاله القاضي. إلا أن جعل «حتى» بمعنى «أن» بعيد في اللغة.
ورابعها: المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمناقب والفضائل، حتى أتتهم البينة، والمضارع هنا بمعنى الماضي كقوله تعالى: ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين﴾ [البقرة: ١٠٢]، أي ما تلت أي: ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا، ونظيره ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩].
وخامسها: أنهم كانوا متفقين على الكفر قبل البينة، فلما جاءتهم البينة تفرقوا، وتكفي هذه المغايرة.
فصل في المراد بأهل الكتاب هنا
قال ابن عباس: أهل الكتاب الذين كانوا ب «يثرب»، وهم: قريظة، والنضير، وبنو قينقاع، والمشركون الذين كانوا ب «مكة» وما حولها، و «المدينة»، وهم مشركو قريش، وقوله تعالى: ﴿مُنفَكِّينَ﴾ أي: منتهين من كفرهم ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ البينة﴾ يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: لانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة. وقيل: منفكين زائلين إن لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا، أي ما زلت، وما انفك فلان قائماً، أي: ما زال قائماً.
وأصل الفك للفتح، ومنه: فك الكتاب، وفك الخلخال.
وقيل: «مُنفكِّينَ»، بارحين، أي: لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة.
وقال ابن كيسان: أي: لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويسمونه الأمين في كتابهم حتى بعث فلما بعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حسدوه، وجحدوه، وهو قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩]، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ [البينة: ٤]، وعلى هذا فقوله تعالى: ﴿والمشركين﴾ أي: ما كانوا يسيئون القول في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحينئذ عادوه.
وقال بعض اللغويين: «مُنفكِّينَ»، أي: هالكين، من قولهم: انفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك، والمعنى: لم يكونوا معذّبين، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
فصل في المراد بالمشركين
قال قوم: المراد بالمشركين من أهل الكتاب، فمن اليهود من قال: عزير ابن الله ومن النصارى من قال: عيسى هو الله.
ومنهم من قال: هو ثالث ثلاثة وكذبوا فيما قالوا عن الله تعالى، وأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، ولا ولد له، ولا مثل ولا ضد له، ولا ند له، ولا شبيه له، ولا صاحبة له، ولا زوجة له، ولا وزير له، ولا حاجب له، ولا بواب له، وهو سبحانه وتعالى كما قال في كتابه المنزل على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الاخلاص ١ - ٤].
وقيل: المشركون وصف لأهل الكتاب أيضاً، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد، فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة، والكل شرك، وهو كقولك: جاءني العقلاء والظرفاء، وأنت تريد أقواماً بعينهم تصفهم بالأمرين، قال تعالى: ﴿الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله﴾ [التوبة: ١١٢]، وهذا وصف للطائفة الواحدة، فالمعنى على هنا من أهل الكتاب المشركين.
ٌ [وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيئاهم، والمشركون ولدوا على الفطرة، ثم كفروا حين بلغوا.
وقيل: الكفر هنا هو الكفر بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: لم يكن الذين كفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم، وهم الذين ليس لهم كتاب منفكين.
قال القشيريُّ: وفيه بعد، لأن الظاهر من قوله تعالى: ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ البينة رَسُولٌ مِّنَ الله﴾ أنّ هذا الرسول هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فيبعد أن يقال لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منفكين، حتى يأتيهم محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا أن يقال: أراد لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد كانوا من قبل معظمين له منتهين عن هذا الكفر إلى أن يبعث الله تعالى لهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويبين لهم الآيات، فحينئذٍ يؤمن قوم].
وقرأ الأعمش وإبراهيم: «والمُشْرِكُونَ» رفعاً عطفاً على «الَّذِينَ كَفرُوا».
قال القرطبيُّ: «والقراءة الأولى أبين، لأن الرفع يصير فيه الصنفان، كأنهم من غير أهل الكتاب».
وفي حرف أبيّ: «فما كان الذين من أهل الكتاب والمشركون منفكين».
قال ابن الخطيب: فإن قيل: لم قال الذين كفروا، بلفظ الفعل، وذكر المشركين
قوله: ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ البينة﴾.
قيل: البينة، محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه في نفسه بينة وحُجَّة ولذلك سمَّاه الله - تعالى - سراجاً منيراً.
قوله تعالى: ﴿رَسُولٌ مِّنَ الله﴾، وهو رفع على البدل من «البَيِّنةُ»، ولأن اللام في «البَيِّنةُ» للتعريف أي: هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى، وقد يكون التعريف للتفخيم؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة، وكذا التنكير، وقد جمعهما الله - تعالى - ها هنا - في حق الرسول، أي: هو رسول، وأي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونظيره: قوله تعالى حين أثنى على نفسه، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ذُو العرش المجيد﴾ [البروج: ١٥] ثم قال تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: ١٦] فنكر بعد التعريف.
وقال أبو مسلم: المراد من البينة مطلق الرسل، فقوله تعالى: ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ البينة﴾ أي: تأتيهم رسل من ملائكة الله تعالى، تتلو عليهم صحفاً مطهرة، نظيره: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً﴾ [المدثر: ٥٢].
وقال قتادة وابن زيد: «البَيِّنةُ» هي القرآن، كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى﴾ [طه: ١٣٣].
قوله: «رسُولٌ»، العامة: على رفعه بدلاً من «البينة»، إما بدل اشتمال، وإما بدل كل من كل على سبيل المبالغة، جعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نفس البينة، أو على حذف مضاف، أي: بينة رسول.
وقال الفرَّاء: رفع على خبر ابتداء مضمر، أي: هي رسول، أو هو رسول من الله لأن البينة قد تذكَّر، فيقال: بَيَّنتي فلان.
وقرأ عبد الله وأبيّ: «رسولاً» على الحال من «البينة».
وقال القرطبي: «بالنصب على القطع».
يعني كانت صفة في الأصل للنَّكرة، فلما تقدمت عليها نصبت حالاً.
قوله: «يتلو» يجوز أن يكون صفة ل «رسول» وأن يكون حالاً من الضمير في الجار قبله، إذا جعله صفة ل «رسول». و «يتلو» : أي: يقرأ، يقال: تلا يتلو تلاوة. و «صُحُفاً» جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب.
«مُطهَّرة»، قال ابن عبَّاسٍ: من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة، وقال قتادة: من الباطل.
وقيل: من الكذب والشبهات، والمعنى واحد [أي: يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب بدليل أنه كان يتلو على ظهر قلب لا عن كتاب، ولأنه كان أميًّا لا يقرأ، ولا يكتب، ومطهرة من نعت الصحف كقوله تعالى: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ﴾ [عبس: ١٣، ١٤] فالمطهرة: نعت للصحف في الظاهر، وهو نعت لما في الصحف من القرآن.
وقيل: مطهرة أي: لا يسمُّها إلا المطهرون كما تقدم في سورة «الواقعة».
وقيل: الصحف المطهرة هي التي عند الله - تعالى - في أم الكتاب الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء صلوات الله عليهم من الكتب لقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢١ - ٢٢].
قوله: ﴿فِيهَا كُتُبٌ﴾. يجوز أن تكون جملة صفة ل «صُحُفاً»، أو حالاً من ضمير «مُطهَّرة» وأن يكون الوصف أو الحال الجار والمجرور فقط، و «كتب» فاعل به، وهو الأحسن، والمراد بالكتب: الآيات المكتوبة في الصحف، والقيمةُ: المستقيمة المحكمةُ، من قول العرب: قام يقوم إذا استوى وصح.
وقال صاحب «النَّظم» : الكتب بمعنى الحكم؛ لقوله تعالى: ﴿لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ [المجادلة: ٢١]، ومنه حديث العسيف: «لأقضينَّ بَينكُمَا بِكتابِ اللهِ»، ثم قضى بالرَّجْم، وليس ذكر الرجم مسطُوراً في الكتاب.
وقال أبو مسلم١ : المراد من البينة مطلق الرسل، فقوله تعالى :﴿ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة ﴾ أي : تأتيهم رسل من ملائكة الله تعالى، تتلو عليهم صحفاً مطهرة، نظيره :﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ﴾ [ المدثر : ٥٢ ].
وقال قتادة وابن زيد :«البَيِّنةُ » هي القرآن، كقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى ﴾٢ [ طه : ١٣٣ ].
قوله :«رسُولٌ »، العامة : على رفعه بدلاً من «البينة »، إما بدل اشتمال، وإما بدل كل من كل على سبيل المبالغة، جعل الرسول صلى الله عليه وسلم نفس البينة، أو على حذف مضاف، أي : بينة رسول.
وقال الفرَّاء : رفع على خبر ابتداء مضمر، أي : هي رسول، أو هو رسول من الله ؛ لأن البينة قد تذكَّر، فيقال : بَيَّنتي فلان.
وقرأ عبد الله وأبيّ٣ :«رسولاً » على الحال من «البينة ».
وقال القرطبي٤ :«بالنصب على القطع ».
قوله :«من اللهِ » يجوز تعلُّقه بنفس «رسول »، أو بمحذوف على أنه صفة ل «رسول »، وجوز أبو البقاء ثالثاً، وهو أن يكون حالاً من «صحفاً »، والتقدير : يتلو صحفاً مطهرة منزلة من الله٥ تعالى.
يعني كانت صفة في الأصل للنَّكرة، فلما تقدمت عليها نصبت حالاً.
قوله :«يتلو » يجوز أن يكون صفة ل «رسول »، وأن يكون حالاً من الضمير في الجار قبله، إذا جعله صفة ل «رسول ». و «يتلو » : أي : يقرأ، يقال : تلا يتلو تلاوة. و «صُحُفاً » جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب.
«مُطهَّرة »، قال ابن عبَّاسٍ : من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة٦، وقال قتادة : من الباطل٧.
وقيل : من الكذب والشبهات، والمعنى واحد [ أي : يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب بدليل أنه كان يتلو على ظهر قلب لا عن كتاب، ولأنه كان أميًّا لا يقرأ، ولا يكتب، ومطهرة من نعت الصحف كقوله تعالى :﴿ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ﴾ [ عبس : ١٣، ١٤ ] فالمطهرة : نعت للصحف في الظاهر، وهو نعت لما في الصحف من القرآن.
وقيل : مطهرة أي : لا يمسها إلا المطهرون كما تقدم في سورة «الواقعة ».
وقيل : الصحف المطهرة هي التي عند الله - تعالى - في أم الكتاب الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء صلوات الله عليهم من الكتب لقوله تعالى :﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾٨ [ البروج : ٢١-٢٢ ].
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٥٦)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٤٢)، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٣ ينظر: الكشاف ٤/٧٨٢، والمحرر الوجيز ٥/٥٠٧، والبحر المحيط ٨/٤٩٥، والدر المصون ٦/٥٥٢..
٤ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٩٦..
٥ الإملاء ٢/٢٩١..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٩٦)..
٧ ينظر المصدر السابق..
٨ سقط من: ب..
وقال صاحب «النَّظم »١ : الكتب بمعنى الحكم ؛ لقوله تعالى :﴿ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي ﴾ [ المجادلة : ٢١ ]، ومنه حديث العسيف :«لأقضينَّ بَينكُمَا بِكتابِ اللهِ »٢، ثم قضى بالرَّجْم، وليس ذكر الرجم مسطُوراً في الكتاب.
وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن، سمي كتباً، لأنه يشتمل على أنواع من البيان.
٢ أخرجه البخاري (١٢/١٨٥)، كتاب: الحدود، باب: الإمام يأمر رجلا فيضرب الحد غائبا حديث (٦٨٥٩، ٦٨٦٠)، ومسلم (٣/١٣٢٤)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا حديث (٢٥/١٦٩٧، ١٦٩٨)، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني..
قوله: ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة﴾. أي: أتتهم البينة الواضحة، والمعني به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي القرآن موافقاً لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته، وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا، فمنهم من كفر، بغياً وحسداً، ومنهم من آمن، كقوله تعالى: ﴿وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: ١٤] وقيل: البينة البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل.
قال العلماء: من أول السورة، إلى قوله: «قَيِّمة» حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين، وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ﴾ حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحُججِ.
قوله: ﴿وَمَآ أمروا﴾. يعني هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله﴾ أي: يوحدوه، واللام في ﴿لِيَعْبُدُواْ﴾ بمعنى «أنْ» كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦]، أي: أن يبين، و ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله﴾ [الصف: ٨].
قوله: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾. العامة: على كسر اللام، اسم فاعل، وانتصب به الدين.
والحسن: بفتحها، على أنهم يخلصون هم أنفسهم في شأنهم.
وانتصب «الدِّينَ» على أحد وجهين: إما إسقاط الخافض، أي: «في الدين»، وإما على المصدر من معنى «ليعبدوا»، وكأنه قيل: ليدينوا الدين، أو ليعبدوا العبادة. [فالتجوز إما في الفعل، وإما في المصدر، وانتصاب مخلصين على الحال من فاعل «يعبدون» ].
قوله: «حنفاء» حال ثانية، أو حال من الحال قبلها، أي: من الضمير المستكن فيها.
[قوله: ﴿وَمَآ أمروا﴾ أي: وما أمروا بما أمروا به إلا لكذا، وقرأ عبد الله: وما
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: المعنى، وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله﴾، أي: ليوحدوه، واللام بمعنى «أنْ» كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦]، ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين﴾ [الزمر: ١١] أي: العبادة، وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات، فإن الإخلاص عمل القلب، وهو أن يراد به وجه الله لا غيره، وقوله تعالى: ﴿حُنَفَآءَ﴾، أي: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وكان ابن عباس يقول: حنفاء: على دين إبراهيم عليه السَّلام.
وقيل: الحنيف: من اختتن وحجّ، قاله سعيد بن جبير.
وقال أهل اللغة: وأصله أنه تحنف إلى الإسلام، أي: مال إليه.
قوله: ﴿وَيُقِيمُواْ الصلاة﴾، أي يصلُّوها في أوقاتها ﴿وَيُؤْتُواْ الزكاة﴾، أي: يعطوها عند محلها، وقوله: ﴿وَذَلِكَ دِينُ القيمة﴾ أي: ذلك الدين الذي أمروا به دين القيمة، أي: الدين المستقيم، وقال الزجاج أي: ذلك دين الملة المستقيمة، و «القَيِّمَةِ» نعت لموصوف محذوف، وقيل: «ذلك» إشارة إلى الدين، أي ذلك الدين الذي أمروا به أي الدين المستقيم أي ذلك دين الأمة القيمة.
وقال محمد بن الأشعث الطالقاني: الكتب القيمة، لأنها قد تقدمت في الذكر، قال تعالى: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ فلما أعادها مع «أل» العهدية، كقوله تعالى: ﴿فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [المزمل: ١٦]، وهو حسن.
وقرأ الحسن، وعبد الله: «وذلك الدين القيمة»، والتأنيث حينئذٍ، إما على تأويل الدين بالملة، كقوله: [البسيط]
٥٢٦٤ -.................................... سَائِلْ بَنِي أسدٍ مَا هَذهِ الصَّوتُ
وقال الخليل: القيمة جمع القيم، والقيم والقيمة واحد بتأويل: الصيحة، وإما على أنها تاء المبالغة: ك «علامة».
وقال الفراء: أضاف الدين إلى «القيمة» وهو نعته، لاختلاف اللفظين، وعنه أيضاً: هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، ودخلت الهاء للمدح.
قوله :﴿ مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾. العامة : على كسر اللام، اسم فاعل، وانتصب به الدين.
والحسن١ : بفتحها، على أنهم يخلصون هم أنفسهم في شأنهم.
وانتصب «الدِّينَ » على أحد وجهين : إما إسقاط الخافض، أي :«في الدين »، وإما على المصدر من معنى «ليعبدوا »، وكأنه قيل : ليدينوا الدين، أو ليعبدوا العبادة. [ فالتجوز إما في الفعل، وإما في المصدر، وانتصاب مخلصين على الحال من فاعل «يعبدون » ]٢.
قوله :«حنفاء » حال ثانية، أو حال من الحال قبلها، أي : من الضمير المستكن فيها.
[ قوله :﴿ وَمَآ أمروا ﴾ أي : وما أمروا بما أمروا به إلا لكذا، وقرأ عبد الله٣ : وما أمروا إلا أن يعبدوا، أي بأن يعبدوا، وتقديم تحرير مثله عند قوله تعالى :﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين ﴾ في سورة الأنعام :[ آية : ٧١ ] ] ٤.
فصل في معنى الآية
قال المفسرون : المعنى، وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل ﴿ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله ﴾، أي : ليوحدوه، واللام بمعنى «أنْ » كقوله تعالى :﴿ يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٦ ]، ومنه قوله تعالى :﴿ قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين ﴾ [ الزمر : ١١ ] أي : العبادة، وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات، فإن الإخلاص عمل القلب، وهو أن يراد به وجه الله لا غيره، وقوله تعالى :﴿ حُنَفَآءَ ﴾، أي : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وكان ابن عباس يقول : حنفاء : على دين إبراهيم عليه السَّلام٥.
وقيل : الحنيف : من اختتن وحجّ، قاله سعيد بن جبير.
وقال أهل اللغة : وأصله أنه تحنف إلى الإسلام، أي : مال إليه.
قوله :﴿ وَيُقِيمُواْ الصلاة ﴾، أي يصلُّوها في أوقاتها ﴿ وَيُؤْتُواْ الزكاة ﴾، أي : يعطوها عند محلها، وقوله :﴿ وَذَلِكَ دِينُ القيمة ﴾ أي : ذلك الدين الذي أمروا به دين القيمة، أي : الدين المستقيم، وقال الزجاج أي : ذلك دين الملة المستقيمة، و«القَيِّمَةِ » نعت لموصوف محذوف، وقيل :«ذلك » إشارة إلى الدين، أي ذلك الدين الذي أمروا به، أي الدين المستقيم، أي ذلك دين الأمة القيمة.
وقال محمد بن الأشعث الطالقاني : الكتب القيمة ؛ لأنها قد تقدمت في الذكر، قال تعالى :﴿ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾ فلما أعادها مع «أل » العهدية، كقوله تعالى :﴿ فعصى فِرْعَوْنُ الرسول ﴾ [ المزمل : ١٦ ]، وهو حسن.
وقرأ الحسن، وعبد الله٦ :«وذلك الدين القيمة »، والتأنيث حينئذٍ، إما على تأويل الدين بالملة، كقوله :[ البسيط ]
٥٢٦٤-. . . *** سَائِلْ بَنِي أسدٍ مَا هَذهِ الصَّوتُ٧
وقال الخليل : القيمة جمع القيم، والقيم والقيمة واحد، بتأويل : الصيحة، وإما على أنها تاء المبالغة : ك «علامة ».
وقال الفراء : أضاف الدين إلى «القيمة » وهو نعته، لاختلاف اللفظين، وعنه أيضاً : هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، ودخلت الهاء للمدح.
٢ سقط من: ب..
٣ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٩٧..
٤ سقط من: ب..
٥ ينظر القرطبي (٢٠/٩٦)..
٦ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٩٥، والدر المصون ٦/٥٥٢..
٧ تقدم..
قوله: ﴿أولئك هُمْ شَرُّ البرية﴾.
وقرأ نافع وابن ذكوان: «البريئة» بالهمز في الحرفين، والباقون: بياء مشددة.
واختلف في ذلك الهمز، فقيل: هو الأصل من برأ الله الخلق، ابتدأه واخترعه، قال تعالى: ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ﴾ [الحديد: ٢٢]، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، وإنما خففت والتزم تخفيفها عند عامة العرب.
وقد تقدم أن العرب التزمت غالباً تخفيف ألفاظ منها: النبي، والجاثية، والذرية.
قال القرطبي: «وتشديد الياء عوض من الهمزة».
وقيل: «البريَّة» دون همز مشتقة من «البرى» وهو التراب، فهي أصل بنفسها، والقراءتان مختلفتا الأصل متّفقتا المعنى. إلا أن عطية ضعف هذا، فقال: «وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ، وهو اشتقاق غير مُرْض» انتهى.
يعني أنه إذا قيل: إنها مشتقة من «البرى» وهو التراب، فمن أين تجيء الهمزة في القراءة الأخرى.
قال شهاب الدين: «هذا غير لازم، لأنهما قراءتان مشتقتان، لكل منهما أصل مستقل، فتلك من» برأ «، أي: خلق، وهذه من» البرى «لأنهم خلقوا منه، والمعني بالقراءتين شيء واحد وهو جميع الخلق، ولا يلتفت إلى من ضعف الهمز من النحاة لثبوته متواتراً».
قال القشيريُّ: «ومن قال: البرية من البرى، وهو التراب، قال: لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة».
وقيل: البرية: من بريت القلم، أي قدرته، فتدخل فيه الملائكة، ولكنه قول ضعيف؛ لأنه يجب فيه تخطئةُ من همز.
وقال قوم: أي هم شرُّ البرية الذين كانوا في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كقوله تعالى: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين﴾ [البقرة: ٤٧]، أي: على عالمي زمانكم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هو شرّ منهم، مثل: فرعون، وعاقر ناقة صالح، وكذا قوله: ﴿خَيْرُ البرية﴾ إما على التعميم، أو خير برية عصرهم، وقد استدل بقراءة الهمزة من فضل بني آدم على الملائكة.
وقال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المؤمن أكرم على الله - عزَّ وجلَّ - من بعض الملائكة الذين عنده.
وقرأ العامة: ﴿خَيْرُ البرية﴾ مقابلاً ل «شرّ».
وقرأ عامر بن عبد الواحد: «خِيارُ البريَّةِ» وهو جمع «خير» نحو: جِيَاد، وطِيَاب، في جمع جيد وطيب؛ قاله الزمخشريُّ. قال ابن الخطيب: وقدم الوعيد على الوعد، لأنه كالداء، والوعد: كالغذاء والدَّواء، فإذا بقي البدن استعمل الغذاء، فينتفع به البدن، لأن الإنسان إذا وقع في شدة رجع إلى الله تعالى، فإذا نال الدنيا أعرض.
قوله: ﴿جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾. أي: ثوابهم عند خالقهم ومالكهم ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾.
قال ابن الخطيب: قال بعض الفقهاء: من قال: لا شيء لي على فلان انتفى الدين، وله أن يدعي الوديعة، وإن قال: لا شيء لي عنده انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولإن قال: لا شيء لي قبلهُ انصرف إليهماً معاً، فقوله تعالى: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ يفيد أنها أعيان مودعة عنده، والعين أشرف من الدين، والضمان إنما يرغب فيه خوف الهلاك، وهو محال في حقه تعالى. وتقدم الكلام على نظيره.
قوله: ﴿تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار﴾، الجنات: البساتين، والعدن: الإقامة، يقال: عدن بالمكان يعدن عدناً وعدوناً، أي: أقام. ومعدن الشيء: مركزه ومستقره، وقيل: «عدن» : بطنان الجنة ووسطها.
قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ﴾، حال عامله محذوف، تقديره: ادخلوها خالدين، أو أعطوها، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير المجرور في «جزَاؤهُم» لئلا يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي، على أنَّ بعضهم: أجازه من «هم» واعتذر هنا بأن المصدر غير مقدر بحرف مصدري.
قوله: ﴿رِّضِىَ الله عَنْهُمْ﴾، يجوز أن يكون دعاء مستأنفاً، وأن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً ثانياً بإضمار «قَد» عند من يلزم ذلك.
قال ابن عباس: «رضي اللهُ عنهُمْ ورَضُوا عنه» أي: رضوا بثواب الله تعالى.
قوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ أي: ذلك المذكور من استقرار الجنة مع الخلود.
أي: خاف ربه، فتناهى عن المعاصي.
روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأبيِّ بن كعب: إن الله تَعالَى أمَرنِي أنْ أقْرَأ عليْكَ: ﴿لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ﴾، قال: وسمَّاني لك؟ قال - عليه الصَّلاة والسلام -:» نَعم «فبكى» خرجه البخاري ومسلم.
قال القرطبيُّ: «من الفقه قراءة العالم على المتعلم».
قال بعضهم: إنما قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أبيٍّ، ليعلم الناس التواضع لئلا يأنف أحد من التعليم والقراءة على من دونه من المنزلة.
وقيل: إن أبياً كان أسرع آخذاً لألفاظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويعلم غيره، فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وعن بقية الصحابة أجمعين إذ أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقرأ عليه. والله أعلم.
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - : المؤمن أكرم على الله - عزَّ وجلَّ - من بعض الملائكة الذين عنده٥. وقرأ العامة :﴿ خَيْرُ البرية ﴾ مقابلاً ل «شرّ ».
وقرأ عامر بن١ عبد الواحد :«خِيارُ البريَّةِ » وهو جمع «خير » نحو : جِيَاد، وطِيَاب، في جمع جيد وطيب ؛ قاله الزمخشريُّ٢. قال ابن الخطيب٣ : وقدم الوعيد على الوعد، لأنه كالداء، والوعد : كالغذاء والدَّواء، فإذا بقي البدن استعمل الغذاء، فينتفع به البدن ؛ لأن الإنسان إذا وقع في شدة رجع إلى الله تعالى، فإذا نال الدنيا أعرض.
٢ ينظر: الكشاف ٤/٧٨٣..
٣ الفخر الرازي ٣٢/٤٨..
قال ابن الخطيب١ : قال بعض الفقهاء : من قال : لا شيء لي على فلان انتفى الدين، وله أن يدعي الوديعة، وإن قال : لا شيء لي عنده انصرف إلى الوديعة دون الدين، وإن قال : لا شيء لي قبلهُ انصرف إليهماً معاً، فقوله تعالى :﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ يفيد أنها أعيان مودعة عنده، والعين أشرف من الدين، والضمان إنما يرغب فيه خوف الهلاك، وهو محال في حقه تعالى. وتقدم الكلام على نظيره.
قوله :﴿ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار ﴾، الجنات : البساتين، والعدن : الإقامة، يقال : عدن بالمكان يعدن عدناً وعدوناً، أي : أقام. ومعدن الشيء : مركزه ومستقره، وقيل :«عدن » : بطنان الجنة ووسطها.
قوله :﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ ﴾، حال عامله محذوف، تقديره : ادخلوها خالدين، أو أعطوها، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير المجرور في «جزَاؤهُم » لئلا يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي، على أنَّ بعضهم : أجازه من «هم »، واعتذر هنا بأن المصدر غير مقدر بحرف مصدري.
قال أبو البقاء٢ : وهو بعيد، وأما «عِند ربِّهِمْ » فيجوز أن يكون حالاً من «جَزاؤهُمْ »، وأن يكون ظرفاً له، و«أبَداً » ظرف مكان منصُوب ب «خالدِيْنَ ». أي لا يظعنون ولا يموتون.
قوله :﴿ رِّضِىَ الله عَنْهُمْ ﴾، يجوز أن يكون دعاء مستأنفاً، وأن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً ثانياً بإضمار «قَد » عند من يلزم ذلك.
قال ابن عباس :«رضي اللهُ عنهُمْ ورَضُوا عنه » أي : رضوا بثواب الله تعالى٣.
قوله :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ أي : ذلك المذكور من استقرار الجنة مع الخلود.
أي : خاف ربه، فتناهى عن المعاصي.
٢ ينظر: الإملاء ٢/٢٩١..
٣ ينظر تفسير القرطبي (٢٠/٩٩)..