ﰡ
سُورَة النَّاس مِثْل " الْفَلَق " لِأَنَّهَا إِحْدَى الْمُعَوِّذَتَيْنِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عُقْبَة بْن عَامِر الْجُهَنِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ آيَات لَمْ يُرَ مِثْلهنَّ :" قُلْ أَعُوذ بِرَبِّ النَّاس " إِلَى آخِر السُّورَة " وَقُلْ أَعُوذ بِرَبِّ الْفَلَق " إِلَى آخِر السُّورَة ).
وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَرَوَاهُ مُسْلِم.
" قُلْ أَعُوذ بِرَبِّ النَّاس " أَيْ مَالِكهمْ وَمُصْلِح أُمُورهمْ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ رَبّ النَّاس، وَإِنْ كَانَ رَبًّا لِجَمِيع الْخَلْق لِأَمْرَيْنِ : أَحَدهمَا : لِأَنَّ النَّاس مُعَظَّمُونَ ; فَأَعْلَمَ بِذِكْرِهِمْ أَنَّهُ رَبّ لَهُمْ وَإِنْ عُظِّمُوا.
الثَّانِي : لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرّهمْ، فَأَعْلَمَ بِذِكْرِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِيذ مِنْهُمْ.
إِنَّمَا قَالَ :" مَلِك النَّاس إِلَه النَّاس " لِأَنَّ فِي النَّاس مُلُوكًا يَذْكُر أَنَّهُ مَلِكهمْ.
وَفِي النَّاس مَنْ يَعْبُد غَيْره، فَذَكَرَ أَنَّهُ إِلَههمْ وَمَعْبُودهمْ، وَأَنَّهُ الَّذِي يَجِب أَنْ يُسْتَعَاذ بِهِ وَيُلْجَأ إِلَيْهِ، دُون الْمُلُوك وَالْعُظَمَاء.
إِنَّمَا قَالَ :" مَلِك النَّاس إِلَه النَّاس " لِأَنَّ فِي النَّاس مُلُوكًا يَذْكُر أَنَّهُ مَلِكهمْ.
وَفِي النَّاس مَنْ يَعْبُد غَيْره، فَذَكَرَ أَنَّهُ إِلَههمْ وَمَعْبُودهمْ، وَأَنَّهُ الَّذِي يَجِب أَنْ يُسْتَعَاذ بِهِ وَيُلْجَأ إِلَيْهِ، دُون الْمُلُوك وَالْعُظَمَاء.
يَعْنِي : مِنْ شَرّ الشَّيْطَان.
وَالْمَعْنَى : مِنْ شَرّ ذِي الْوَسْوَاس ; فَحَذَفَ الْمُضَاف ; قَالَهُ الْفَرَّاء : وَهُوَ ( بِفَتْحِ الْوَاو ) بِمَعْنَى الِاسْم ; أَيْ الْمُوَسْوِس.
و ( بِكَسْرِ الْوَاو ) الْمَصْدَر ; يَعْنِي الْوَسْوَسَة.
وَكَذَا الزَّلْزَال وَالزِّلْزَال.
وَالْوَسْوَسَة : حَدِيث النَّفْس.
يُقَال : وَسْوَسَتْ إِلَيْهِمْ نَفْسه وَسْوَسَة وَوِسْوَسَة ( بِكَسْرِ الْوَاو ).
وَيُقَال لِهَمْسِ الصَّائِد وَالْكِلَاب وَأَصْوَات الْحُلِيّ : وَسْوَاس.
وَقَالَ ذُو الرُّمَّة :
فَبَاتَ يُشْئِزهُ ثَأْد وَيُسْهِرهُ | تَذَوُّب الرِّيح وَالْوَسْوَاس وَالْهِضَب |
تَسْمَع لِلْحَلْي وَسْوَاسًا إِذَا اِنْصَرَفَتْ | كَمَا اِسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرِقٌ زَجِل |
فَجَاءَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : مَا هَذَا [ يَا حَوَّاء ] قَالَتْ : جَاءَ عَدُوّنَا بِهَذَا وَقَالَ لِي : اُكْفُلِيهِ.
فَقَالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تُطِيعِيهِ فِي شَيْء، هُوَ الَّذِي غَرَّنَا حَتَّى وَقَعْنَا فِي الْمَعْصِيَة ؟ وَعَمَدَ إِلَى الْوَلَد فَقَطَعَهُ أَرْبَعَة أَرْبَاع، وَعَلَّقَ كُلّ رُبُع عَلَى شَجَرَة، غَيْظًا لَهُ ; فَجَاءَ إِبْلِيس فَقَالَ : يَا حَوَّاء، أَيْنَ اِبْنِي ؟ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا صَنَعَ بِهِ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : يَا خَنَّاس، فَحَيِيَ فَأَجَابَهُ.
فَجَاءَ بِهِ إِلَى حَوَّاء وَقَالَ : اُكْفُلِيهِ ; فَجَاءَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام فَحَرَقَهُ بِالنَّارِ، وَذَرَّ رَمَاده فِي الْبَحْر ; فَجَاءَ إِبْلِيس [ عَلَيْهِ اللَّعْنَة ] فَقَالَ : يَا حَوَّاء، أَيْنَ اِبْنِي ؟ فَأَخْبَرَتْهُ بِفِعْلِ آدَم إِيَّاهُ ; فَذَهَبَ إِلَى الْبَحْر، فَقَالَ : يَا خَنَّاس، فَحَيِيَ فَأَجَابَهُ.
فَجَاءَ بِهِ إِلَى حَوَّاء الثَّالِثَة، وَقَالَ : اُكْفُلِيهِ.
فَنَظَرَ ; إِلَيْهِ آدَم، فَذَبَحَهُ وَشَوَاهُ، وَأَكَلَاهُ جَمِيعًا.
فَجَاءَ إِبْلِيس فَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ [ حَوَّاء ].
فَقَالَ : يَا خَنَّاس، فَحَيِيَ فَأَجَابَهُ [ فَجَاءَ بِهِ ] مِنْ جَوْف آدَم وَحَوَّاء.
فَقَالَ إِبْلِيس : هَذَا الَّذِي أَرَدْت، وَهَذَا مَسْكَنك فِي صَدْر وَلَد آدَم ; فَهُوَ مُلْتَقِم قَلْب آدَم مَا دَامَ غَافِلًا يُوَسْوِس، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّه لَفَظَ قَلْبه وَانْخَنَسَ.
ذَكَرَ هَذَا الْخَبَر التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي نَوَادِر الْأُصُول بِإِسْنَادٍ عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه.
وَمَا أَظُنّهُ يَصِحّ، وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم.
وَوُصِفَ بِالْخَنَّاسِ لِأَنَّهُ كَثِير الِاخْتِفَاء ; وَمِنْهُ قَوْل تَعَالَى :" فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ " [ التَّكْوِير : ١٥ ] يَعْنِي النُّجُوم، لِاخْتِفَائِهَا بَعْد ظُهُورهَا.
وَقِيلَ : لِأَنَّهُ يَخْنِس إِذَا ذَكَرَ الْعَبْد اللَّه ; أَيْ يَتَأَخَّر.
وَفِي الْخَبَر [ إِنَّ الشَّيْطَان جَاثِم عَلَى قَلْب اِبْن آدَم، فَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ، وَإِذَا ذُكِرَ اللَّه خَنَسَ ] أَيْ تَأَخَّرَ وَأَقْصَرَ.
وَقَالَ قَتَادَة :" الْخَنَّاس " الشَّيْطَان لَهُ خُرْطُوم كَخُرْطُومِ الْكَلْب فِي صَدْر الْإِنْسَان، فَإِذَا غَفَلَ الْإِنْسَان وَسْوَسَ لَهُ، وَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْد رَبّه خَنَسَ.
وَأَخْنَسْتُهُ أَيْضًا.
وَمِنْهُ قَوْل أَبِي الْعَلَاء الْحَضْرَمِيّ - أَنْشَدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وَإِنْ دَحَسُوا بِالشَّرِّ فَاعْفُ تَكَرُّمًا | وَإِنْ خَنَسُوا عَنْكَ الْحَدِيثَ فَلَا تَسَلْ |
وَعَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ إِنَّ الشَّيْطَان وَاضِع خَطْمه عَلَى قَلْب اِبْن آدَم، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّه خَنَسَ، وَإِذَا نُسِيَ اللَّه اِلْتَقَمَ قَلْبه فَوَسْوَسَ ].
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِذَا ذَكَرَ اللَّه الْعَبْد خَنَسَ مِنْ قَلْبه فَذَهَبَ، وَإِذَا غَفَلَ اِلْتَقَمَ قَلْبه فَحَدَّثَهُ وَمَنَّاهُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ : أَوَّل مَا يَبْدُو الْوَسْوَاس مِنْ قِبَل الْوُضُوء.
وَقِيلَ : سُمِّيَ خَنَّاسًا لِأَنَّهُ يَرْجِع إِذَا غَفَلَ الْعَبْد عَنْ ذِكْر اللَّه.
وَالْخَنَس : الرُّجُوع.
وَقَالَ الرَّاجِز :
وَصَاحِبٍ يَمْتَعِسُ اِمْتِعَاسًا | يَزْدَاد إِنْ حَيَّيْته خِنَاسًا |
الثَّانِي : أَنَّهُ الْخَارِج بِالْوَسْوَسَةِ مِنْ الْيَقِين.
قَالَ مُقَاتِل : إِنَّ الشَّيْطَان فِي صُورَة خِنْزِير، يَجْرِي مِنْ اِبْن آدَم مَجْرَى الدَّم فِي الْعُرُوق، سَلَّطَهُ اللَّه عَلَى ذَلِكَ ; فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" الَّذِي يُوَسْوِس فِي صُدُور النَّاس ".
وَفِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ إِنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ اِبْن آدَم مَجْرَى الدَّم ].
وَهَذَا يُصَحِّح مَا قَالَهُ مُقَاتِل.
وَرَوَى شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ أَبِي ثَعْلَبَة الْخُشَنِيّ قَالَ : سَأَلْت اللَّه أَنْ يُرِينِي الشَّيْطَان وَمَكَانه مِنْ اِبْن آدَم فَرَأَيْته، يَدَاهُ فِي يَدَيْهِ، وَرِجْلَاهُ فِي رِجْلَيْهِ، وَمَشَاعِبه فِي جَسَده ; غَيْر أَنَّ لَهُ خَطْمًا كَخَطْمِ الْكَلْب، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّه خَنَسَ وَنَكَسَ، وَإِذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْر اللَّه أَخَذَ بِقَلْبِهِ.
فَعَلَى، مَا وَصَفَ أَبُو ثَعْلَبَة أَنَّهُ مُتَشَعِّب فِي الْجَسَد ; أَيْ فِي كُلّ عُضْو مِنْهُ شُعْبَة.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْأَسْوَد أَوْ غَيْره مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ قَالَ - وَقَدْ كَبِرَ سِنّه - : مَا أَمِنْت الزِّنَى وَمَا يُؤْمِننِي أَنْ يَدْخُل الشَّيْطَان ذِكْره فَيُوتِدهُ ! فَهَذَا الْقَوْل يُنَبِّئك أَنَّهُ مُتَشَعِّب فِي الْجَسَد، وَهَذَا مَعْنَى قَوْل مُقَاتِل.
وَوَسْوَسَته : هُوَ الدُّعَاء لِطَاعَتِهِ بِكَلَامٍ خَفِيّ، يَصِل مَفْهُومه إِلَى الْقَلْب مِنْ غَيْر سَمَاع صَوْت.
أَخْبَرَ أَنَّ الْمُوَسْوِس قَدْ يَكُون مِنْ النَّاس.
قَالَ الْحَسَن : هُمَا شَيْطَانَانِ ; أَمَّا شَيْطَان الْجِنّ فَيُوَسْوِس فِي صُدُور النَّاس، وَأَمَّا شَيْطَان الْإِنْس فَيَأْتِي عَلَانِيَة.
وَقَالَ قَتَادَة : إِنَّ مِنْ الْجِنّ شَيَاطِين، وَإِنَّ مِنْ الْإِنْس شَيَاطِين ; فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ : هَلْ تَعَوَّذْت بِاَللَّهِ مِنْ شَيَاطِين الْإِنْس ؟ فَقَالَ : أَوَمِنْ الْإِنْس شَيَاطِين ؟ قَالَ : نَعَمْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيّ عَدُوًّا شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ " [ الْأَنْعَام : ١١٢ ]... الْآيَة.
وَذَهَبَ قَوْم إِلَى أَنَّ النَّاس هُنَا يُرَاد بِهِ الْجِنّ.
سُمُّوا نَاسًا كَمَا سُمُّوا رَجُلًا فِي قَوْله :" وَأَنَّهُ كَانَ رِجَال مِنْ الْإِنْس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنّ " [ الْجِنّ : ٦ ] - وَقَوْمًا وَنَفَرًا.
فَعَلَى هَذَا يَكُون " وَالنَّاس " عَطْفًا عَلَى " الْجِنَّة "، وَيَكُون التَّكْرِير لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ.
وَذُكِرَ عَنْ بَعْض الْعَرَب أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّث : جَاءَ قَوْم مِنْ الْجِنّ فَوَقَفُوا.
فَقِيلَ : مَنْ أَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : نَاس مِنْ الْجِنّ.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الْفَرَّاء.
وَقِيلَ : الْوَسْوَاس هُوَ الشَّيْطَان.
وَقَوْله :" مِنْ الْجِنَّة " بَيَان أَنَّهُ مِنْ الْجِنّ " وَالنَّاس " مَعْطُوف عَلَى الْوَسْوَاس.
وَالْمَعْنَى : قُلْ أَعُوذ بِرَبِّ النَّاس مِنْ شَرّ الْوَسْوَاس، الَّذِي هُوَ مِنْ الْجِنَّة، وَمِنْ شَرّ النَّاس.
فَعَلَى هَذَا أُمِرَ بِأَنْ يَسْتَعِيذ مِنْ شَرّ الْإِنْس وَالْجِنّ.
وَالْجِنَّة : جَمْع جِنِّيّ ; كَمَا يُقَال : إِنْس وَإِنْسِيّ.
وَالْهَاء لِتَأْنِيثِ الْجَمَاعَة.
وَقِيلَ : إِنَّ إِبْلِيس يُوَسْوِس فِي صُدُور الْجِنّ، كَمَا يُوَسْوِس فِي صُدُور النَّاس.
فَعَلَى هَذَا يَكُون " فِي صُدُور النَّاس " عَامًّا فِي الْجَمِيع.
و " مِنْ الْجِنَّة وَالنَّاس " بَيَان لِمَا يُوَسْوِس فِي صَدْره.
وَقِيلَ : مَعْنَى " مِنْ شَرّ الْوَسْوَاس " أَيْ الْوَسْوَسَة الَّتِي تَكُون مِنْ الْجِنَّة وَالنَّاس، وَهُوَ حَدِيث النَّفْس.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :[ إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا مَا لَمْ تَعْمَل أَوْ تَتَكَلَّم بِهِ ].
رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة، أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
فَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِالْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ