ﰡ
قلت: وهذا كلُّه إنما بناه اعتقاداً على أن التعديةَ بالباء تَقتضي مصاحبةَ الفاعلِ للمفعول في ذلك، وقد تقدَّم الردُّ على هذا المذهبِ في أول البقرة في قوله ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ [الآية: ٢٠]. ثم جَوزَّ أن يكونَ» أَسْرى «بمعنى» سَرَى «على حَذْفِ مضافٍ كقولِه: ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧]، يعني فيكون التقدير: الذي أَسْرَى ملائكتُه بعبدِه، والحاملُ له على ذلك ما تقدَّم من اعتقاد المصاحبة.
قوله:» لَيْلاً «منصوب على الظرف. وقد تقدَّم فائدةُ تنكيرِه. و» من المسجد «لابتداء الغاية.
قوله: حولَه» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ على الظرف، وقد تقدَّم
قوله: «لِنُرِيَه» قرأ العامَّة بنونِ العظمة جَرْياً على «بارَكْنا». وفيهما التفاتان: مِنَ الغَيْبة في قوله ﴿الذي أسرى بِعَبْدِهِ﴾ إلى التكلُّم في «بارَكْنا» و «لِنُرِيَه»، ثم التفتَ إلى الغَيْبَة في قولِه «إنه هو» إن أَعَدْنا الضميرَ على اللهِ تعالى وهو الصحيحُ، ففي الكلام التفاتان.
وقرأ الحسن «لِيُرِيَه» بالياء مِنْ تحتُ أي الله تعالى، وعلى هذه القراءةِ يكون في هذه الآية أربعةُ التفاتات: وذلك أنَّه التفت أولاً من الغَيْبة في قوله ﴿الذي أسرى بِعَبْدِهِ﴾ إلى التكلم في قوله «بارَكْنا»، ثم التفت ثانياً من التكلمِ في «بارَكْنا» إلى الغيبة في «لِيُرِيَه» على هذه القراءة، ثم التفت بالياء من هذه الغَيْبة إلى التكلم في «آياتنا»، ثم التفت رابعاً من هذا التكلمِ إلى الغيبة في قوله «إنه هو» على الصحيح في الضميرِ أنَّه لله، وأمَّا على قولٍ نقله أبو البقاء أن الضمير في «إنه هو» للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يجيءُ ذلك، ويكون في قراءة العامَّةِ التفاتٌ واحدٌ، وفي قراءة الحسنِ ثلاثةٌ. وهذا موضعٌ غريبٌ، وأكثرُ ما وَرَدَ الالتفاتُ [فيه] ثلاثُ مرات على ما قال الزمخشري في قولِ امرئ القيس:
ولو ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ فيها خمسةَ التفاتات لاحتاج في دَفْعِه إلى دليلٍ واضحٍ، والخامس: الالتفاتُ مِنْ «إنَّه هو» إلى التكلم في قوله ﴿وَآتَيْنَآ مُوسَى﴾ الآية.
والرؤيةُ هنا بَصَريةٌ. وقيل: قلبية وإليه نحا ابن عطية، فإنه قال: «ويُحْتمل أَنْ يريد: لِنُرِيَ محمداً للناس آيةً، أي: يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيةً في أَنْ يصنعَ اللهُ ببشرٍ هذا الصنعَ» فتكونُ الرؤيةُ قلبيةً على هذا.
والثالث: أنه معطوفٌ على ما في قوله «أسرى» من تقدير الخبر كأنه قال: أَسْرَيْنا بعبدِنا، وأًرَيْناه آياتِنا وآتَيْنا، وهو قريبٌ مِنْ تفسيرِ المعنى لا الإِعراب.
قوله: «وجَعْلَناه» يجوز أن يعودَ ضميرُ النصبِ للكتاب، وهو الظاهرُ، وأَنْ يعودَ لموسى عليه السلام.
قوله: ﴿لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يجوز تعلُّقُه بنفس «هدى» كقوله: ﴿يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ [يونس: ٣٥]، وأَنْ يتعلَّقَ بالجَعْل، أي: جعلناه لأجلِهِم، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ نعتاً ل «هُدى».
قوله: ﴿أَلاَّ تَتَّخِذُواْ﴾ يجوز أَنْ تكون «أَنْ» ناصبةً على حَذْفِ حرفِ العلة، أي: لئلا تتَّخذوا. وقيل: «لا» مزيدةٌ، والتقدير: كراهةَ أَنْ تتخذوا، وأنْ تكونَ المفسرةَ و «لا» ناهيةٌ، فالفعلُ منصوبٌ على الأول مجزومٌ على الثاني، وأَنْ تكونَ مزيدةً عند بعضِهم، والجملةُ التي بعدها معمولةٌ لقولٍ مضمر، أي: مقولاً لهم: لا تتخذوا، أو قلنا لهم: لا تتخذوا، وهذا ظاهرٌ في قراءةِ الخطاب. وهذا مردودٌ بأنه ليس من مواضعِ زيادةِ «أَنْ».
وقرأ أبو عمروٍ ﴿أَنْ لا يتَّخذوا﴾ بياء الغَيْبة جَرْياً على قوله ﴿لبني إسرائيل﴾ والباقون بالخطاب التفاتاً.
الخامس: أنها منصوبةٌ على النداء، أي: يا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا، وخَصُّوا هذا الوجهَ بقراءة الخطاب في «تتَّخذوا» وهو واضحٌ عليها، إلا أنه لا يَلْزَمُ، وإن كان مكيٌّ قد منع منه فإنه قال: «فأمَّا مَنْ قرأ» يتَّخذوا «بالياء فذريَّةَ مفعولٌ لا غيرَ، ويَبْعُدُ النداءُ؛ لأن الياءَ للغَيْبة والنداءَ للخطابِ، فلا يجتمعان إلا على بُعْدٍ». وليس كما زعم، إذ يجوزُ أن يُناديَ الإِنسانَ شخصاً ويُخْبِرَ عن آخرَ فيقول: «يا زيدُ ينطلقٌ بكرٌ وفعلتَ كذا» و «يا زيدُ ليفعلْ عمروٌ كيتَ وكيت».
وقرأت فرقةٌ «ذُرِّيَّةُ» بالرفع، وفيها وجهان، أحدهما: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هو ذريَّةُ، ذكره [أبو] البقاء وليس بواضحٍ. والثاني:
وَرَدَّ عليه الشيخ هذا الإِطلاقَ وقال: «ينبغي التفصيلُ، وهو إن كان بدلَ بعضٍ أو اشتمالٍ جاز، وإن كان كلاًّ مِنْ كل، وأفاد الإِحاطةَ نحو» جئتُمْ كبيرُكم وصغيركم «جَوَّزه الأخفش والكوفيون. قال:» وهو الصحيحُ «. قلت: وتمثيلُ ابنِ عطيةَ بقولِه» ضَرَبْتُكَ زيداً «قد يَدْفع عنه هذا الردَّ.
وقال مكي:» ويجوز الرفعُ في الكلامِ على قراءةِ مَنْ قرأ بالياء على البدلِ من المضمرِ في «يتَّخذوا» ولا يَحْسُنُ ذلك في قراءة التاء؛ لأنَّ المخاطبَ لا يُبْدَلُ منه الغائبُ، ويجوز الخفضُ على البدل من بني إسرائيل «. قلت: أمَّا الرفعُ فقد تقدَّم أنه قرئ به وكأنه ام يَطَّلِعْ عليه، وأمَّا الجرُّ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ ويَرِد عليه في قوله» لأنَّ المخاطب لا يُبْدَلُ منه الغائبُ «ما وَرَدَ على ابن عطية، بل أَوْلَى لأنه لم يذكر مثالاً يبيِّن مرادَه كما فعل ابنُ عطية/.
والعامَّةُ على توحيد «الكتاب» مُراداً به الجنسُ. وابنُ جبير وأبو العالية «في الكُتُب» على الجمع، جاؤوا به نَصَّاً في الجمع.
وقرأ العامَّةُ بضمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مضارعَ «أفسدَ»، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: لَتُفْسِدُنَّ الأديانَ. ويجوزُ أْنْ لا يُقَدَّر مفعولٌ، أي: لتُوقِعُنَّ الفساد. وقرأ ابنُ عباسٍ ونصرُ بن علي وجابر بن زيد «لَتُفْسَدُن» ببنائه
قوله «مَرَّتَيْنِ» منصوبٌ على المصدر، والعاملُ فيه «لتُفْسِدُنَّ» لأنَّ التقديرَ: مرتين من الفساد.
قوله: «عُلُوَّاً» العامَّةُ على ضمِّ العين مصدرَ علا يَعْلُو. وقرأ زيد بن عليٍّ «عِلِيَّاً» بكسرِهما والياءُ، والأصلُ الواو، وإنما اعتلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعُولاً المصدرَ الأكثرُ فيه التصحيحُ نحو: عَتا عُتُوَّاً، والإِعلالُ قليلٌ نحو ﴿أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً﴾ [مريم: ٦٩] على أحدِ الوجهين كما سيأتي، وإنْ كان جمعاً فالكثيرُ الإِعلالُ. نحو: «جِثِيَّاً» وشَذَّ: بَهْوٌ وبُهُوُّ، ونَجْوٌ ونَجَوٌّ، وقاسه الفراء.
قوله: «فجاسُوا» عطفٌ على «بَعَثْنا»، أي: تَرَتَّب على بعثنا إياهم هذا. والجَوْسُ والجُوْس بفتحِ الجيمِ وضمِّها مصدرَ جاسَ يَجُوسُ، أي: فَتَّشَ ونقَّبَ، قاله أبو عبيد. وقال الفراء: «قَتَلُوا» قال حسان:
٣٠٢ - ٥- تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثْمِدِ | ........................ |
٣٠٢ - ٦- ومِنَّا الذي لاقى بسيفِ محمدٍ | فجاسَ به الأعداءُ عَرْضَ العساكرِ |
٣٠٢ - ٧- فَجُسْنا ديارَهُمُ عَنْوَةً | وأُبْنا بساداتِهم مُوْثَقِيْنا |
٣٠٢ - ٨- إليك جُسْنا الفِيلَ بالمَطِيِّ... وقيل: الجَوْسُ: التردُّد. وقيل: طَلَبُ الشيءِ باستقصاء. ويقال: «حاسُوا» بالحاءِ المهملة، وبها قرأ طلحة وأبو السَِّمَّال، وقرئ «فَجَوَّسُوا» بالجيم بزنة نُكِّسُوا.
قوله «عليهم» يجوز تعلُّقه ب «رَدَدْنا»، أو بنفس/ الكَرَّة، لأنه يُقال: كَرَّ عليه فتتعدَّى ب «على» ويجوز أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «الكَرَّة».
قوله: «نَفِيراً» منصوبٌ على التمييز، وفيه أوجهٌ، أحدها: أَنَّه فَعِيْل بمعنى فاعِل، أي: أكثر نافراً، أي: مَنْ يَنْفِرُ معكم. الثاني: أنه جمع نَفْرٍ نحو: عَبْد وعَبيد، قاله الزجاج، وهم الجماعة الصَّائِرون إلى الأعداء. الثالث: أنه مصدرٌ، أي: أكثرُ خروجاً إلى الغَزْو. قال الشاعر:
٣٠٢ - ٩- فَأَكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والدٍ | وحِمْيَرَ أكرِمْ بقومٍ نَفيرا |
٣٠٣ - ٠-...................... | فَخَرَّ صريعاً لليدينِ وللفمِ |
قوله: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة﴾، أي: المرة الآخرة فَحُذِفَت «المرَّة» للدَّلالة عليها، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه: بَعَثْناهم.
وقوله: ﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ متعلقٌ بهذا الجوابِ المقدرِ. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر «لِيَسُوْءَ» بالياءِ المفتوحةِ وهمزةٍ مفتوحةٍ آخرَ الفعل. والفاعلُ: إمَّا اللهُ تعالى، وإمَّا الوعدُ، وإمَّا البعثُ، وإمَّا النفيرُ. والكسائيُّ «لِنَسُوءَ» بنونِ العظمة، أي: لِنَسُوءَ نحن، وهو موافِقٌ لِما قبلَه مِنْ قولِه «بَعَثْنا عباداً لنا» و «رَدَدْنا» و «أَمْدَدْنا»، وما بعده من قوله: «عُدْنا» و «جَعَلْنا».
وقرأ أُبَيٌّ «لِنَسُوْءَنْ» بلامِ الأمرِ ونونِ التوكيدِ الخفيفة ونونِ العظمة، وهذا جوابٌ ل «إذا»، ولكن على حَذْفِ الفاء، أي «فَلِنَسُوْءَنْ، ودخلت لامُ الأمرِ على فعلِ المتكلمِ كقولِه تعالى: ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ [العنكبوت: ١٢].
وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب» لَيَسُوْءَنَّ «و» وَلَنَسوْءَنَّ «بالياء أو النون التي للعظمةِ، ونونِ التوكيدِ الشديدة، واللامِ التي للقسَمِ. وفي مصحف اُبَيّ» لِيَسُوْءُ «بضمِّ الهمزة من غيرِ واوٍ، وهذه القراءةُ تشبه أَنْ تكونَ على لغةِ مَنْ يَجْتَزِئُ عن الواوِ بالضمة، كقوله:
٣٠٣ - ١- فلوْ أنَّ الأطبَّا كانُ حولي | ....................... |
٣٠٣ - ٢- إذا ما الناسُ جاعُ وأَجْدَبُوا | ........................ |
٣٠٣ - ٣- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا | .................. |
٣٠٣ - ٤-........................ | في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِيْنا |
٣٠٣ - ٥-........................ | .......... وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ |
[قوله:] ﴿مَا عَلَوْاْ﴾ يجوز في «ما» أن تكونَ مفعولاً بها، أي: ليُهْلِكُوا
٣٠٣ - ٦- وما الناسُ إلا عاملان فعامِلٌ | يُُتَبِّرُ ما يَبْني وآخرُ رافِعُ |
٣٠٣ - ٧- ومَقامَةٍ غُلْبِ الرجالِ كأنَّهمْ | جِنٌّ لدى بابِ الحصيرِ قيامُ |
قال الشيخ: «فلا يكونُ إذ ذاك داخلاً تحت البشارةِ». قلتُ: قولُ الزمخشريِّ يَحْتمل أمرين، أحدُهما: أن يكونَ قولُه «ويُحتمل أن يكونَ المرادُ: ويُخْبِرُ بأنَّ» أنه من باب الحذف، أي: حَذَف «ويُخْبِرُ» وأبقى معموله، وعلى هذا فيكون «أنَّ الذين» غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة بلا شك، ويحتمل أن يكونَ قصدَه: أنه أُريد بالبِشارة مجرَّدُ الإِخبار سواءً كان بخيرٍ أم بِشَرّ، وهل هو فيهما حقيقةٌ أو في أحدِهما، وحينئذٍ يكون جمعاً بين الحقيقةِ والمجاز، أو استعمالاً للمشترك في معنييه، وفي المسألتين خلافٌ مشهور، وعلى هذا فلا يكون قولُه ﴿وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة، إلا أنَّ الظاهرَ مِنْ حالِ الزمخشري أنه لا يُجيز الجمعَ بين الحقيقةِ والمجازِ ولا استعمالَ المشتركِ في مَعْنَيَيْه.
والثاني: أنهما بمعنى «في» بمعنى أنَّ الإِنسانَ إذا أصابه ضرٌّ دعا وألَحَّ في الدعاءِ واستعجل الفرجَ، مثلَ الدعاءِ الذي كان يحبُّ أَنْ يدعوَه في حالة الخير، وعلى هذا فالمَدْعُوُّ به ليس الشرَّ ولا الخيرَ. وهو بعيدٌ. الثالث: أن تكونَ للسببِ، ذكره أبو البقاء، والمعنى لا يُساعده، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه.
قوله: «مُبْصِرَةً» فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مِنْ الإِسنادِ المجازيِّ، لأنَّ الإِبصارَ فيها لأهلِها، كقولِه: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً﴾ [الإِسراء: ٥٩] لمَّا كانت سبباً للإِبْصار. وقيل: «مُبْصِرة» : مضيئةً، وقيل: هي من بابِ اَفْعَل، والمرادُ به غيرُ مَنْ أُسْنِد الفعلُ إليه كقولهم: «أَضْعَفَ الرجلُ»، أي: ضَعُفَتْ ماشِيتُه، و «أَجْبن» إذا كان أهلُه جبناء، فالمعنى أنَّ أهلَها بُصراء.
وقرأ عليُّ بن الحسين وقتادةُ «مَبْصَرة» بفتح الميم والصاد، وهو مصدرٌ أقيم مُقام الاسمِ، وكَثُر هذا في صفاتِ الأمكنة نحو: «مَذْأَبَة».
قوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنَّه منصوبٌ على الاشتغال، ورُجِّح نصبُه لتقدُّمِ جملةٍ فعلية. وكذلك ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ﴾ [الإِسراء: ١٣]. والثاني: - وهو بعيد - أنه منصوبٌ نَسَقاً على «الحِسابَ»، أي: لتعلموا كلَّ شيءٍ أيضاً، ويكون «فَصَّلْناه» على هذا صفةً.
وقرئ «في عُنْقِه» وهو تخفيفٌ شائعٌ.
ورُوِي عن أبي جعفر: «ويُخْرَجُ» مبنيَّاً للمفعول، «كتاباً» نصبٌ على الحال، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ الطائرِ، وعنه أنَّه رَفَع «كتاباً». وخُرِّج على أنَّه مرفوعٌ بالفعلِ المبنيِّ للمفعول، والأولى قراءة قلقةٌ.
وقرأ الحسن: «ويَخْرُجُ» بفتحِ الياءِ وضمِّ الراءِ مضارعَ «خَرَجَ»، «كتابٌ» فاعلٌ به، وابن محيصن ومجاهد كذلك، إلا أنهما نَصَبا «كتاباً» على الحال، والفاعلُ ضميرُ الطائرِ، أي: ويَخْرُجُ له طائرُه في هذه الحالِ. وقرئ «ويُخْرِجُ» بضمِّ الياء وكسرِ الراء مضارعَ «اَخْرَجَ»، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى، «كتاباً» مفعولٌ.
قوله: «يَلْقَاْه» صفةٌ ل «كتاباً»، و «مَنْشُوراً» حالٌ من هاء «يَلْقاه». وجوَّز الزمخشري والشيخ وأبو البقاء أن يكونَ نعتاً لكتاب. وفيه نظرٌ: من حيث إنه يَلْزَمُ تقدُّم الصفةِ غير الصريحة على الصريحةِ، وقد تقدَّم ما فيه.
وقرأ ابنُ عامر «يُلَقَّاه» بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف، مضارعَ «
قوله/ ﴿كفى بِنَفْسِكَ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍٍ، المشهورُ عند المُعْرِبين: أنَّ «كفى» فعلٌ ماضٍ، والفاعلُ هو المجرورُ بالباء، وهي فيه مزيدةٌ، ويَدُلُّ عليه أنها حُذِفت ارتفع، كقوله:
٣٠٣ - ٨- ويُخْبرني عن غائبٍ المَرْءِ هَدْيُه | كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرا |
٣٠٣ - ٩-......................... | كَفَى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهيا |
قوله: «حَسِيْبا» فيه وجهان، أحدُهما: أنه تمييزٌ. قال الزمخشري: «وهو بمعنى حاسِب، كضَرِيْب القِداح بمعنى ضاربها، وصَرِيْم بمعنى صارِم، ذكرهما سيبويه، و» على «متعلقةٌ به مِنْ قولك: حَسِب عيله كذا، ويجوز أن يكونَ بمعنى الكافي ووُضِع موضعَ الشهيد، فعُدِّي ب» على «لأنَّ الشاهدَ يكفي المُدَّعي ما أهمَّه. فإن قلت: لِمَ ذَكَرَ» حسيباً «؟ قلت: لأنَّه بمنزلةِ الشاهدِ والقاضي والأمين، وهذه الأمور يَتَوَلاَّها الرجالُ فكأنَّه قيل: كفى بنفسِك رجلاً حسيباً، ويجوز أًنْ تُتَأَوَّلَ النفسُ بمعنى الشخصِ، كما يقال: ثلاثة أنفس». قلت: ومنه قولُ الشاعر:
٣٠٤ - ٠- ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ | لقد جارَ الزمانُ على عيالي |
ثم قال: «فإنْ قلت: فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ معناه: أَمَرْناهم بالطاعةِ ففسَقُوا. قلت: لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ، فكيف حَذْفُ ما الدليلُ قائمٌ على نَقِيضِه؟ وذلك أنَّ المأمورَ به إنما حُذِفَ لأنَّ» فَفَسَقُوا «يدلُّ عليه، وهو كلامٌ مستفيضٌ يقال:» أَمَرْتُه فَقام «، و» أَمَرْتُه فَقَرأ «، لا يُفهم منه إلا أنَّ المأمورَ به قيامُ أو قراءةُ، ولو ذَهَبْتَ تُقَدِّر غيرَه رُمْتَ مِنْ مخاطَبِك عِلْمَ الغيبِ، ولا يَلْزَمُ [على] هذا قولُهم: و» أَمَرْتُه فعصاني «أو» فلم يمتثلْ «لأنَّ ذلك منافٍ للأمرِ مناقِضٌ له، ولا يكونُ ما يناقض الأمرَ مأموراً به، فكان محالاً أن يُقْصَدَ أصلاً حتى يُجْعَلَ دالاًّ على المأمورِ به، فكان المأمورُ به في هذا الكلامِ غيرَ مَنْوِيٍّ ولا مُرادٍ؛ لأن مَنْ يتكلمُ بهذا الكلامِ لا يَنْوي لآمرهِ مأموراً به، فكأنه يقول: كان مني أَمْرٌ فكان منه طاعةٌ، كما أنَّ مَنْ يقول: [» فلان] يبأمرُ ويَنْهى ويعطي ويمنع «لا يَقْصِدُ مفعولاً. فإن قلت: هلاَّ كان ثبوتُ العلمِ بأنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفحشاء دليلاً على أنَّ المراد: أَمَرْناهم بالخيرِ، قلت: لأنَّ قوله»
وتَتَبَّعه الشيخُ في هذا فقال: «أمَّا ما ارتكبه من المجاز فبعيدٌ جداً، وأمَّا قولُه:» لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ «فتعليلٌ لا يَصِحُّ فيما نحن بسبيلِه، بل ثَمَّ ما يَدُلُّ على حَذْفِه.
وقوله: «فكيف يُحْذَفُ ما الدليلُ على نقيضِه قائمٌ» إلى «عِلْم/ الغيب» فنقول: حَذْفُ الشيءِ تارةً يكونُ لدلالةِ موافِقِه عليه، ومنه ما مَثَّل به في قولِه «أَمَرْتُه فقامَ»، وتارة يكونُ لدلالةِ خِلافِه أو ضدِّه أو نقيضِه كقولِه تعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار﴾ [الأنعام: ١٣]، أي: ما سَكَنَ وتحرَّك، وقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١]، أي: والبردَ، وقول الشاعر:
٣٠٤ - ١- وما أَدْرِيْ إذا يَمَّمْتُ أرْضاً | أريدُ الخيرَ ايُّهما يَلِينْي |
أالخيرُ الذي أنا أَبْتَغِيْهِ | أم الشرُّ الذي هو يَبْتَغيني |
٣٠٤ - ٢- أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به | ............................... |
واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديثِ فذكره. يقال: أَمَرَ اللهُ المُهْرَة، أي: كَثَّر ولدَها. قال» ومَن أنكر «أمرَ اللهُ القومَ» أي: كَثَّرهم لم يُلتفَتْ إليه لثبوتِ ذلك لغةً «.
ويكون ممَّا لَزِمَ وتعدَّى بالحركةِ المختلفةِ؛ إذ يُقال: أَمِر القومُ كَثُروا، وأَمَرَهم الله كثَّرهم، وهو من بابِ المطاوعة: أَمَرهم الله فَأْتَمَروا كقولِك: شَتَرَ اللهُ عَيْنَه فَشَتِرَتْ، وجَدَعَ اَنْفَه فَجَدِع، وثَلَمَ سِنَّه فَثَلِمَتْ.
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمةُ: «أَمِرْنا» بكسر الميم بمعنى «أَمَرْنا» بالفتح. حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يُقال: «أَمَرَ اللهُ مالَه،
وقرأ عليُّ بن أبي طالب وابنُ أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين «آمَرْنا» بالمَدِّ، ورُوِيَتْ هذه قراءةً عن ابنِ كثير وأبي عمرو وعاصم ونافعٍ، واختارها يعقوبُ، والهمزةُ فيه للتعديةِ؟
وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي: «أمَّرْنا» بالتشديد. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّ التضعيفَ للتعديةِ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين، كأَخْرَجْته وخَرَّجته. والثاني: أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ، واللازمُ من ذلك «أُمِّر». قال الفارسيُّ، «لا وجهَ لكون» أَمَّرْنا «/ من الإِمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلاَّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ، والإِهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة». وقد رُدَّ على الفارسي: بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به. ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق، ثم كذلك كَثُر الفسادُ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم.
قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ﴾ «جَعَلَ» هنا تصييريةٌ.
قوله: «يَصْلاها» الجملةُ حالٌ: إمَّا من الضمير في «له» وإمَّا مِنْ «جهنَّم»، و «مَذْمُوماً» حالٌ مِنْ فاعلِ «يَصْلاها». قيل: وفي الكلامِ حَذْفٌ، وهو حَذْفُ المقابِل؛ إذ الأصل: مَنْ كان يريد العاجلةَ وسَعَى لها سَعْيَها وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه. وقيل: بل الأصل: مَنْ كان يريد العاجلة بعمله للآخرةِ كالمنافِق.
و ﴿مِنْ عَطَآءِ﴾ متعلقٌ ب» نُمِدُّ «. والعطاءُ اسمُ مصدرٍ واقعٌ موقعَ اسم المفعول.
والمَحْظور: الممنوعُ، وأصله مِن الحَظْر وهو: جَمْعُ الشيءِ في حَظيرة، والحَظيرة: ما يُعْمل مِنْ شجرٍ ونحوِه لتَأْوِي الغنم، والمُحْتَظِر: مَنْ يعمل الحظيرة.
٣٠٤ - ٣- لا يُقْنِعُ الجاريةَ الخِضابُ | ولا الوِشاحان ولا الجِلْبابُ |
من دون أن تلتقي الأَرْكابُ | ويَقْعُدَ الأَيْرُ له لُعابُ |
وقرأ الجمهور» قَضَى «فعلاً ماضياً، فقيل: هي على موضوعِها الأصلي: قال ابنُ عطية:» ويكون الضمير في «تَعْبُدوا» للمؤمنين من الناسِ إلى يومِ القيامةِ «وقيل: هي بمعنى أَمَر. وقيل: بمعنى أَوْحَى، وقيل: بمعنى حَكَم، وقيل: بمعنى أَوْجَبَ أو ألزم.
وقرأ بعضُ وَلَد معاذِ بن جَبَل» وقضاء «/ اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء، و ﴿أَلاَّ تعبدوا﴾ خبرُه.
قوله: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ قد تقدَّم نظيرُه في البقرة. وقال الحوفي: الباءُ متعلقةٌ ب» قضى «، ويجوز أن تكونَ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: واَوْصى بالوالدين إحساناً، وإحساناً مصدر، أي: يُحْسِنون بالوالدين إحساناً».
وقال الواحديُّ: «الباءُ مِنْ صلة الإِحسانِ فَقُدِّمَتْ عليه كما تقول: بزيدٍ فانْزِلْ». وقد مَنَعَ الزمخشريُّ هذا الوجهَ قال: «لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه». قلت: والذي ينبغي أن يُقال: إن هذا المصدرَ إنْ عَنَى به أنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ فالأمرُ على ما ذَكَرَ الزمخشريُّ، وإن كان بدلاً مِنَ اللفظ بالفعلِ فالأمرُ على ما قال الواحديُّ، فالجوازُ والمنعُ بهذين الاعتبارين.
٣٠٤ - ٤-.......................... يقولون: لا تَهْلِكْ أَسَىً وتَجَمَّلِ
قلت: وأَحْسَنَ «و» أساء «يتعدِّيان ب إلى وبالباء. قال تعالى: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بي﴾ [يوسف: ١٠٠] وقال كثِّير عَزِّة:
٣٠٤ - ٥- أسِيْئي بنا أو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ | ....................... |
قوله: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ﴾ قرأ الأخَوان «يَبْلُغانِّ» بألفِ التثنيةِ قبل نونِ التوكيدِ المشدَّدةِ المكسورةِ، والباقون دونَ ألفٍ وبفتحِ النون. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها أوجهٌ، أحدها: أن الألفَ ضميرُ الوالدين لتقدُّم ذكرهما، و «أَحَدُهما» بدلٌ منه، و «أو كِلاهما» عطفٌ عليه. وإليه نحا الزمخشريُّ
قلت: هذا معنى قولِ الشيخِ. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أن يقول: مُسَلَّمٌ أنه لم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه، لكنه لا يَضُرُّ لأنه شانُ التأكيد، ولو أفاد زيادةً أخرى غيرَ مفهومةٍ من الأولِ كان تأسيساً لا تأكيداً. وعلى تقدير تسليمِ ذلك فقد يُجابُ عنه بما قال ابنُ عطية فإنه قال بعد ذِكْره هذا الوجهَ «وهو بدلٌ مُقَسَّمٌ كقولِ الشاعرِ:
٣٠٤ - ٥- وكنت كذي رِجْلَيْنِ رجلٍ صحيحةٍ | ورِجْلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ |
الثاني: أن الألفَ ليست ضميراً بل علامةُ تثنيةٍ و» أحدُهما «فاعلٌ بالفعلِ قبلَه، و» أو كلاهما «عطفٌ عليه. وقد رُدَّ هذا الوجهُ: بأن شرطَ الفعلِ المُلْحَقِ به علامة تثنيةٍ أن يكون مسنداً لمثنَّى نحو: قاما أخواك،
٣٠٤ - ٦-....................... | وقد أَسْلماه مُبْعَدٌ وحميم |
الثالث: نُقِل عن الفارسيِّ أنَّ/» كلاهما «توكيدٌ، وهذا لا بدَّ من إصلاحِه بزيادةٍ، وهو أن يُجْعَلَ» أحدُهما «بدلَ بعضٍ من كل، ويُضْمَرَ بعدَه فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية، ويقع» كلاهما «توكيداً لذلك الضميرِ تقديرُه: أو يَبْلُغا كلاهما، إلا أنَّ فيه حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ التوكيد، وفيها خلافٌ، أجازها الخليل وسيبويه نحو:» مررت بزيدٍ ورأيت أخاك أنفسهما «بالرفع والنصب، فالرفعُ على تقديرِ: هما أنفسُهما، والنصبُ على تقدير أَعْنِيهما أنفسَهما، ولكنْ في هذا نظرٌ: من حيث إن المنقولَ عن الفارسيِّ مَنَعَ حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ توكيدِه، فكيف يُخَرَّجُ قولُه على أصلٍ لا يُجيزُه؟
وقد نصَّ الزمخشريُّ على مَنْعِ التوكيدِ فقال: فإنْ قلت: لو قيل:» إمَّا يَبْلُغانِّ كلاهما «كان» كلاهما «توكيداً لا بدلاً، فما لكَ زَعَمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت: لأنَّه معطوفٌ على ما لا يَصِحُّ أن يكون توكيداً للاثنين، فانتظم في حكمِه، فوجَبَ أن يكونَ مثلَه».
قلت: يعني أنَّ «أحدُهما: لا يَصْلُحُ أن يقعَ توكيداً للمثنى ولا لغيرِهما، فكذا ما عُطِفَ عليه لأنه شريكُه.
الرابع: أَنْ يرتفعَ» كلاهما «بفعلٍ مقدَّر تقديرُه: أو يبلغُ كلاهما، ويكون» إحداهما «بدلاً من ألفِ الضمير بدلَ بعضٍ من كل. والمعنى: إمَّا يَبْلُغَنَّ عندك أحدُ الوالدَيْن أو يبلُغُ كلاهما.
وأمَّا القراءةُ الثانية فواضحةٌ، و» إن ما «: هي» إنْ «الشرطية زِيْدَتْ عليها» ما «توكيداً، فَأُدْغِم أحدُ المتقاربين في الآخر بعد ان قُلب إليه، وهو إدغامٌ واجب. قال الزمخشري:» هي إنْ الشرطيةُ زِيْدَتْ عليها «ما» توكيداً لها ولذلك دَخَلَتْ النون، ولو أُفْرِدَتْ «إنْ» لم يَصِحُّ دخولُها، لا تقول: إن تُكْرِمَنَّ زيداً يُكْرِمْكَ، ولكن: إمَّا تُكْرِمنَّه.
وهذا الذي قاله أبو القاسم نصَّ سيبويهِ على خلافِه، قال سيبويه: «وإن شِئْتَ لم تُقْحِمِ النونَ، كما أنك إن شِئْتَ لم تَجِيءْ ب» ما «. قال الشيخ:» يعني مع النون وعَدَمِها «. وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ سيبويه إنما نصَّ على أن نونَ التوكيد لا يجبُ الإِتيانُ بها بعد» أمَّا «، وإن كان أبو إسحاقَ قال
و «عندك» ظرفٌ ل «يَبْلُغَنَّ» و «كِلا» مثنَّاةٌ معنىً من غيرِ خلافٍ، وإنما اختلفوا في تثنيتِها لفظاً: فمذهبُ البصريين أنها مفردةٌ لفظاً، ووزنُها على فِعَل ك «مِعَى» وألفُها منقلبةٌ عن واوٍ بدليل قلبِها تاءً في «كِلْتا» مؤنثَ «كِلا» هذا هو المشهور.
وقيل: ألفُها عن ياء وليس بشيءٍ. وقال الكوفيون - وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله:
٣٠٤ - ٧- في كلتِ رِجْلَيْها سُلامى واحدَه | ....................... |
وحكمها أنها متى أُضيفت إلى مضمرٍ أعْرِبت إعرابَ المثنى، أو إلى ظاهرٍ اُعْرِبَتْ إعرابَ المقصورِ عند جمهورِ العربِ، وبنو كنانةَ يُعْربونها إعرابَ المثنى مطلقاً فيقولون: رأيت كِلَيْ اَخَوَيْك، وكونُها جَرَتْ مَجْرى المثنى مع
ومن أحكامِها: أنها لا تُضاف إلا إلى مثنى لفظاً ومعنى نحو: «كِلا الرجلين»، أو معنىً لا لفظاً نحو: ، «كِلانا»، ولا تُضاف إلى مُفَرِّقَيْنِ بالعطفِ نحو: «كِلا زيد وعمرو» إلا في ضرورةٍ كقوله:
٣٠٤ - ٨- كِلا السيفِ والسَّاقِ الذي ذهبَتْ به | على مَهَلٍ باثنين ألقاه صاحبُهْ |
٣٠٤ - ٩- إنَّ للخير والشرِّ مَدَى | وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ |
٣٠٥ - ٠- كلاهما حينَ جَدَّ الجَرْيُ بينهما | قد أقلعا وكِلا أَنْفَيْهما رابي |
قوله: «أُفٍّ» «أُفّ» اسمُ فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثرَ بابِ أسماء الأفعال أوامرُ، وأقلُّ منه اسمُ الماضي، وأقلُّ منه اسمُ المضارع ك «أُفّ» وأَوَّه، أي: أتوجَّع، ووَيْ، أي: أَعْجَبُ. وكان مِنْ حقِّها أَنْ تُعْرَبَ لوقوعِها موقعَ مُعْرَبٍ، وفيها لغاتٌ كثيرة وصلها الرُّمَّاني إلى تسع وثلاثين، وذكر ابنُ عطية لفظةً، بها تمت الأربعون، وهي اثنان وعشرون مع الهمزةِ المضمومةِ: أُفُّ، أُفَّ، أُفِّ، بالتشديدِ مع التنوين وَعَدَمِه، أُفُ، أُفَ، أُفِ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد، أُفُّه أَفَّه أُفِّه، أفَّا من غير إمالة، وبالإِمالة المحضة، وبالإِمالة بين بين، أُفُّو أُفِّي: بالواو والياء وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزةِ إفَّ إفِّ: بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه، إفُ إفَ إفِ بالتخفيفِ مع التنوينِ وعدمِه، إفَّا بالإِمالة.
وستٌ مع فتح الهمزة: أَفَّ أَفِّ، بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه، أَفْ بالسكون، أفا بالألف. فهذه تسعٌ وثلاثون لغةً، وتمامُ الأربعين «أَفاهْ» بهاء السكت. وفي استخراجها بغيرِ هذا الضابطِ الذي ذكرتُه عُسْرٌ ونَصَبٌ يَحتاج في استخراجِه من كتب اللغة، ومن كلامِ أهلِها، إلى
وقد قُرِئ من هذه اللغاتِ بسبعٍ: ثلاثٍ في المتواتر، وأربعٍ في الشاذ، فقرأ نافعٌ وحفصٌ بالكسر والتنوين، وابنُ كثير وابنُ عامر بالفتحِ دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين، ولا خلافَ بينهم في تشديدِ الفاء. وقرأ نافعٌ في روايةٍ: أُفٌ بالرفع والتنوين، وأبو السَّمَّال بالضمِّ مِنْ غير تنوين، وزيد بن علي بالنصبِ والتنوين، وابنُ عباس: «أفْ» بالسكون.
وقوله: ﴿وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾، أي: لا تَزْجُرْهما، والنَّهْرُ: الزَّجْرُ بِصياحٍ وغِلْظة/ وأصلُه الظهورُ، ومنه «النَّهْر» لظهوره. وقال الزمخشري: «النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ اَخَواتٌ».
٣٠٥ - ١- وغداةِ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقَرَّةٍ | إذ أصبحَتْ بيدِ الشَمال؟ ِ زِمامُها |
ومِنْ طريفِ ما يُحكى: أن أبا تمام لَمَّا نظَم قوله:
٣٠٥ - ٢- لا تَسْقِني ماءَ المَلام فإنني | صَبٌّ قد اسْتَعْذَبْتَ ماء بكائي |
٣٠٥ - ٣- أراشُوا جَناحِيْ ثم بَلُّوه بالنَّدى | فلم أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهم طَيَرانا |
قوله: ﴿مِنَ الرحمة﴾ فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها للتعليل فتتعلق ب» اخفِضْ «، أي: اخفِضْ مِن أجل الرحمة. والثاني: أنها لبيانِ الجنس. قال ابنُ عطية:» أي: إنَّ هذا الخفضَ يكون من الرحمة المستكنَّة في النفس «. الثالث: أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ» جَناح «. الرابع: أنها لابتداءِ الغاية. قوله: ﴿كَمَا رَبَّيَانِي﴾ في هذه الكافِ قولان، أحدهما: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف، فقدَّره الحوفيُّ:» ارْحَمْهما رحمةً مثلَ تربيتِهما لي «. وقدَّره أبو البقاء:» رحمةً مثلَ رحمتِهما «، كأنه جعل التربيةَ رحمةً. الثاني: أنها للتعليل، أي: ارْحَمْهما لأجلِ تربيتِهما كقولِه: ﴿واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨].
٣٠٥ - ٤- ترائبُ يَسْتَضِيءُ الحَلْيُ فيها | كجَمْر النارِ بُذِّرَ بالظَّلامِ |
وفي الردِّ نظرٌ؛ لأنه قد ثبت ذلك، لقولِه تعالى: ﴿فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ﴾ [الضحى: ٩] الآية. لأنَّ «اليتيمَ» وما بعده منصوبان بما بعدَ فاءِ الجوابِ.
الثاني: أنه موضعِ الحالِ مِنْ فاعلِ «تُعْرِضَنَّ».
قوله: «من ربِّك» يجوز أن يكونَ/ صفة ل «رحمةٍ»، وأَنْ يكونَ متعلِّقاً ب «تَرْجُوها»، أي: تَرْجُوها مِنْ جهةِ ربِّك، على المجاز.
قوله: «تَرْجُوها» يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ «تُعْرِضَنَّ»، وأَنْ يكونَ صفةً ل «رحمةٍ».
فأمَّا قراءةُ ابنِ ذكوان فَخَرَّجها الزجَّاج على وجهين: أحدهما: أن يكونَ مصدرٍ مِنْ أَخطأ يُخْطِىء خَطَأً، أي: إخطاءً، إذا لم يُصِبْ. والثاني: أن يكونَ مصدرَ خَطِئَ يَخْطَأُ خَطَأً، إذا لم يُصِبْ أيضاً، وأنشد:
٣٠٥ - ٥- والناسُ يَلْحَوْن الأميرَ إذا هُمُ | خَطِئوا الصوابَ ولا يُلام المُرْشِدُ |
قلت: وخفي عنهم أن يكونَ بمعنى أخطأ، أو أنه يقال: «خَطِئ» إذا لَمْ يُصِبْ.
وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فهي مصدرٌ خاطَأَ يُخاطِئ خِطاءً مثل: قاتَلَ يُقاتِل قِتالاً. قال أبو علي: «هي مصدرُ خاطَأَ يُخاطِئ، وإنْ كنَّا لم نجدْ» خاطَأَ «
٣٠٥ - ٦- تخاطَأَتِ النَّبْلُ أَحْشاءَه | وأخَّر يَوْمِي فلم يَعْجَلِ |
٣٠٥ - ٧- تخاطأَه القَنَّاصُ حتى وَجَدْتُه | وخُرْطُوْمُه في مَنْقَعِ الماءِ راسِبُ |
وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ حتى قال أبو جعفر:» لا أَعْرِفُ لهذه القراءةِ وجهاً «، ولذلك جعلها أبو حاتم غَلَطاً. قلت: قد عَرَفه غيرُهما ولله الحمدُ.
وأمَّا قراءةُ الباقين فخي جيدةٌ واضحةٌ لأنها مِنْ قولهم: خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً، كأَثِمَ يَأثَمُ إثْماً، إذا تَعَمَّد الكذبَ.
وقرأ الحسن:» خَطاء «بفتح الخاء والمدّ وهو اسمُ مصدر» أَخْطَأَ «كالعَطاء اسمٌ للإِعطاء.
وقرأ أيضاً» خَطا «بالقصرِ، وأصلُه» خَطَأ «كقراءةِ ابن ذَكْوان، إلا أنه سَهَّل الهمزةَ بإبدالها ألفاً فَحُذِفت كعَصا.
وأبو رجاءٍ والزُّهْريُّ كذلك، إلا أنهما كسرا الخاء ك» زِنَى «وكلاهما مِنْ خَطِئ في الدِّين، وأَخْطأ في الرأي، وقد يُقام كلٌّ منهما مقامَ الآخرَ.
وقرأ ابنُ وثاب والأعمشُ» تُقَتِّلوا «، و» خِشْية «بكسرِ الخاء.
٣٠٥ - ٨- أبا خالدٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤُه | ومن يَشْرَبِ الخُرْطومَ يُصْبِحْ مُسَكَّراً |
٣٠٥ - ٩- كانت فريضةُ ما تقولُ كما | كان الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْمِ |
قوله: ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ تقدَّم نظيره. قال ابنُ عطيةَ: «وسبيلاً: نصبٌ
قوله: «مَظْلُوماً» حالٌ مِنْ مرفوع «قُتِل».
قوله: ﴿فَلاَ يُسْرِف﴾ [قرأ] الأخَوان بالخطاب، على إرادةِ الوليِّ، وكان الوليُّ [يَقْتُل] الجماعةَ بالواحد، أو السلطانِ رَجَع لمخاطبته بعد أن اتى به غائباً.
والباقون بالغَيْبة، وهي تحتمل ما تقدَّم في قراءةِ الخطاب.
وقرأ أبو مسلم برفعِ الفاءِ على أنه خبرٌ في معنى النهيِ كقولِه: {
قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ﴾، أي: إنَّ الوليَّ، أو إنَّ السلطان، أو إنَّ القاتل، أي: أنه إذا عُوقِب في الدنيا نُصِر في الآخرة، أو إلى المقتولِ، أو إلى الدمِ أو إلى الحق.
٣٠٦ - ٠- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظَامُها | فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ |
٣٠٦ - ١-........... يَحْسِرُ الماءُ تارةً | ......................... |
٣٠٦ - ٢- ومثلُ الدُّمى شُمُّ العَرانينِ ساكنٌ | بهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافيا |
٣٠٦ - ٣- فلا أَرْمي البريْءَ بغيرِ ذنبٍ | ولا أَقْفو الحواصِنَ إن قُفِيْنا |
٣٠٦ - ٤-........................ | مِنْ هَجْوِ زبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ |
قوله: «والفُؤادَ» قرأ الجَرَّاح العقيلي بفتح الفاء وواوٍ خالصة. وتوجيهُها: أنه أبدل الهمزةَ واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدلِ لأنها لغةٌ في الفؤاد، يقال: فُؤَاد وفَآد، وأنكرها أبو حاتمٍ، أعني القراءةَ، وهو معذورٌ.
والباء في «به» متعلقةٌ بما تَعَلَّق به «لك» ولا تتعلَّق ب «عِلْم» لأنه مصدر، إلا عند مَنْ يتوسَّع في الجارِّ.
قوله: «أولئك» إشارة إلى ما تقدَّم من السمعِ والبصر والفؤادِ كقوله:
٣٠٦ - ٥-
ذُمَّ المنازلَ بعد منزلةِ اللَّوَى | والعيشَ بعد أولئك الأيامِ |
- ذمَّ المنازلَ بعد منزلة اللَّوى | والعيشَ بعد أولئكَ الأيامِ |
قوله: ﴿كُلُّ أولئك﴾ مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ» كان «خبرُه، وفي اسمِ» كان «وجهان، أحدُهما: أنه عائدٌ على» كل «باعتبارِ لفظِها، وكذا الضميرُ
والثاني: أنَّ اسمَها ضميرٌ يعود على القافي، وفي «عنه» يعودُ على «كل» وهو من الالتفاتِ؛ إذ لو جَرَى على ما تقدَّم لقيل: كنتَ عنه مسؤولاً. وقال الزمخشريُّ: و «عنه» في موضع الرفع بالفاعلية/، أي: كلُّ واحدٍ كان مسؤولاً عنه، فمسؤول مسندٌ إلى الجارِّ والمجرور كالمغضوبِ في قوله: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾ [الفاتحة: ٧]. انتهى. وفي تسميته مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه فاعلاً خلافُ الاصطلاح.
وقد رَدَّ الشيخ عليه قولَه: بأنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ حكمُه حكمُه، فلا يتقدَّم على رافعِه كأصلِه. وليس لقائلٍ أَنْ يقولَ: يجوزُ على رأيِ الكوفيين فإنَّهم يُجيزون تقديمَ الفاعلِ؛ لأنَّ النحاس حكى الإِجماعَ على عدمِ جوازِ تقديمِ القائمِ مقامَ الفاعل إذا كان جارَّاً ومجروراً، فليس هو نظيرَ قولِه ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾ فحينئذٍ يكون القائمُ مقامَ الفاعلِ الضميرَ المستكنَّ العائدَ على «كل» أو على القافي.
قوله: «طُوْلاً» يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل «تَبْلُغ» أو مِنْ مفعولِه، أو مصدراً مِنْ معنى «تَبْلُغ» أو تمييزاً أو مفعولاً له. وهذان ضعيفان جداً لعدمِ المعنى.
وقرأ أبو الجرَّاح: «لن تَخْرُق» بضمِّ الراءِ، وأنكرها أبو حاتمٍ، وقال «لا نَعْرِفُها لغةً البتةَ».
وأمَّا ما استشكله بعضُهم من أنَّه يصير المعنى: كلُّ ما ذُكِرَ كان سَيِّئةً، ومِنْ جملةِ كلِّ ما ذُكِر: المأمورُ به، فَيَلْزَمُ أن يكونَ فيه سيِّءٌ، فهو استشكالٌ واهٍ؛ لِما ذكرْتُ من تقدير معناه.
وأمَّا قراءةُ الباقين: فتحتمل أن تقعَ الإِشارةُ فيها ب «ذلك» إلى مصدري النَّهْيَيْنِ المتقدِّمَيْن قريباً وهما: قَفْوُ ما ليس به عِلْمٌ، والمَشْيُ في الأرض مَرَحاً. والثاني: أنه أُشيرَ به إلى جميعِ ما تقدَّم مِنَ المناهي. و «سَيِّئَةً» خبرُ كان، وأُنِّثَ حَمْلاً على معنى «كُل»، ثم قال «مَكْروهاً» حَمْلاً على لفظها.
وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً وهو: أنَّ «السيئة في حكمِ الأسماءِ بمنزلةِ الذَّنْبِ والإِثمِ زال عنه حكمُ الصفاتِ، فلا اعتبارَ بتأنيثِه، ولا فرقَ بين مَنْ قرأ» سَيِّئة «ومَنْ قرأ» سَيِّئاً «ألا ترى أنَّك تقولُ: الزِّنَى سيئة، كما تقول: السرقةُ سيئةٌ، فلا تُفَرِّقُ بين إسنادِها إلى مذكر ومؤنث».
وفي نَصْبِ «مكروهاً» أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه خبرٌ ثانٍ ل «كان»، وتعدادُ خبرِها جائزٌ على الصحيح. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ «سيئة». وضعِّف هذا: بأنَّ البدلَ بالمشتقِ قليلٌ. الثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ لوقوعِه صفةً ل «سَيِّئة». الرابع: أنه نعتٌ ل «سيئةٍ»، وإنما ذكِّر لأن تأنيثَ موصوفِه مجازيٌّ. وقد رُدَّ هذا: بأن ذلك إنَّما يجوزُ حيث اُسْنِد إلى المؤنثِ المجازيِّ، أمَّا إذا أُسْنِدَ إلى ضميرِهِ فلا، نحو: «الشمسُ طالعةٌ»، لا يجوز: «طالعٌ» إلا في ضرورةٍ كقوله:
وأمَّا قراءةُ عبدِ الله فهي ممَّا أُخْبر فيها عن الجمعِ إخبارَ الواحدِ لسَدِّ الواحدِ مَسَدَّه كقوله:
٣٠٦ - ٦-....................... | ولا أرض أبقلَ إبقالها |
٣٠٦ - ٧- فإمَّا تَرَيْني ولِيْ لِمَّةٌ | فإنَّ الحوادثَ أَوْدَى بها |
وقرأ عبدُ اللهِ أيضاً «كان سَيِّئاتٍ» بالجمعِ من غير إضافةٍ وهو خبرُ «كان»، وهي تؤيد قراءةَ الحَرَميِّين وأبي عمرو.
قوله: ﴿مِنَ الحكمة﴾ يحوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ حالاً مِنْ عائدِ الموصولِ المحذوف تقديرُهُ: مِن الذي أوحاه حالَ كونِهِ من الحكمة،
قوله: «واتَّخَذَ» يجوز أن يكونَ معطوفاً على «أَصْفاكم» فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار، ويجوز أن تكونَ الواوُ للحالِ، و «قد» مقدرةٌ عند قومٍ. و «اتَّخذ» يجوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لاثنين، فقال أبو البقاء: «إنَّ ثانيَهما محذوفٌ، أي: أولاداً، والمفعولُ الأولُ هو» إناثاً «. وهذا ليس بشيءٍ، بل المفعولُ الثاني هو ﴿مِنَ الملائكة﴾ قُدِّم على الأولِ، ولولا ذلك لَزِمَ أن يُبتدأ بالنكرةِ من غير مسوِّغ، لأنَّ ما صَلُح أن يكونَ مبتدأً صَلُح أن يكونَ مفعولاً أول في هذا الباب، وما لا فلا. ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ كقولِه: ﴿وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾ [البقرة: ١١٦]، و ﴿مِنَ الملائكة﴾ متعلِّقٌ ب» اتَّخذ «أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النكرةِ بعده.
٣٠٦ - ٨-................... | .... يَجْرَحْ في عَراقيبِها نَصْلِيْ |
الثاني: أنَّه محذوفٌ تقديرُه: ولقد صَرَّفْنا أمثالَه ومواعظَه وقصصَه وأخبارَه وأوامره.
وقال الزمخشري في تقدير ذلك: «ويجوز أن يُراد ب» هذا القرآن «إبطالُ إضافتِهم إلى الله البناتِ؛ لأنه ممَّا صرَّفه وكرَّر ذِكْرَه، والمعنى: ولقد صَرَّفْنا القولَ في هذا المعنى، وأوقَعْنا التصريفَ فيه، وجَعَلْناه مكاناً للتكرير، ويجوز أن يريد ب ﴿هذا القرآن﴾ التنزيلَ، ويريد: ولقد صَرَّفناه، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل، فترك الضميرَ لنه معلومٌ». قلت: وهذا التقديرُ الذي قدَّره الزمخشريُّ أحسنُ؛ لأنه مناسِبٌ لما دَلَّتْ عليه الآيةُ وسِيْقَتْ
وقيل: المعنى: لم نُنَزِّلْه مرةً واحدة بل نجوماً، والمعنى: أَكْثَرْنا صَرْفَ جبريلَ إليك، فالمفعولُ جبريل عليه السلام.
وقرأ الحسن بتخفيفِ الراء فقيل: هي بمعنى القراءةِ الأولى، وفَعَل وفَعَّل قد يَشْتركان. وقال ابنُ عطية: «أي: صَرَفْنا الناسَ فيه إلى الهدى».
قوله: «لِيَتَذَّكَّروا» متعلقٌ ب «صَرَّفْنا». وقرأ الأخَوان هنا وفي الفرقان بسكون الذال وضمِّ الكاف مخففةً مضارع «ذكر» من الذِّكر أو الذُّكر، والباقون بفتح الذال والكافُ مشددةٌ، والأصلُ: يتذكَّروا، فأدغم التاءَ في الذال، وهو من الاعتبار والتدبُّر.
قوله: ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ﴾، أي: التصريفُ، و «نُفوراً» مفعولٌ ثانٍ.
فالوجهُ في قراءةِ الغيبِ فيهما أنه: حَمَل الأولَ على قولِهِ: ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾ [الإِسراء: ٤١]، وحَمَل الثاني عليه. وفي الخطاب فيهما أنه حمل الأولَ على معنى: قل لهم يا محمد لو كان معه آلهةٌ كما تقولون، وحَمَل الثاني عليه. وفي قراءة الغيبِ في الأولِ أنَّه حَمَله على قوله «وما يزيدهم» والثاني التفت فيه إلى خطابهم.
قوله: «إذَنْ» حرفُ جوابٍ وجزاءٍ. قال الزمخشري: «وإذن دالَّةٌ على أنَّ ما بعدها وهو» لابتَغَوا «جوابٌ لمقالةِ المشركين وجزاءٌ ل» لو «. وأدغم أبو عمروٍ الشينَ في السين، واستضعفها النحاةُ لقوةِ الشين.
وقال ابن عطية: «ثم أعاد على السماواتِ والأرض ضميرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا أَسْنَدَ إليها فعلَ العاقلِ وهو التسبيحُ»، وهذا بناءً منه على أنَّ «هُنَّ» مختصٌّ بالعاقلات، وليس كما زَعَمَ، وهذا نظيرُ اعتذارِه عن الإِشارة ب «أولئك» في قوله ﴿كُلُّ أولئك﴾ وقد تقدَّم. وقرأ عبدُ الله والأعمشُ «سبَّحَتْ» ماضياً بتاء التأنيث.
والثاني: أنَّه بمعنى فاعِل كقولهم: مَشْؤُوم ومَيْمون بمعنى: شائِم ويامِن، وهذا كما جاء اسمُ الفاعلِ بمعنى مفعول كماء دافِق، وهذا قولُ الأخفش في آخرين.
والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ، وهو قولُ يونس. واعلمْ أنَّ هذه الحالَ بخصوصِها -أعني لفظة» وحده «- إذا وَقَعَتْ بعد فاعلٍ ومفعولٍ نحو: ضَرَبَ زيدٌ عمراً وَحْده» فمذهبُ سيبويه: أنه حالٌ من الفاعل، أي:
قوله: نُفوراً «فيه وجهان: أحدُهما: أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر؛ لأنَّ التولِّيَ والنفور بمعنى. والثاني: أنه حال مِنْ فاعل» وَلَّوا «وهو حينئذ جمع نافرٍ، كقاعِد وقُعود وجالس وجلوس. والضميرُ في» وَلَّوا «الظاهر/ عودُه على الكفارِ. وقيل: يعود على الشياطين، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ.
قوله: «به» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه حالٌ، فيتعلق بمحذوف. قال الزمخشري: «وبه في موضع الحالِ كما [تقول:] يستمعون بالهُزْء، أي: هازئين». الثاني: أنها بمعنى اللامِ، أي: بما يستمعون له. الثالث:
قوله: «إذ يستمعون» فيه وجهان: أحدُهما: أنه معمولٌ ل «أَعْلَمُ». قال الزمخشريُّ: «إذ يستمعون نصبٌ ب» أَعْلَمُ «، أي: اَعْلَمُ وقتَ استماعِهم بما به يستمعون، وبما يتناجَوْن به، إذ هم ذَوُو نجوى». والثاني: أنه منصوبٌ ب «يَستمعون» الأولى. قال ابن عطية: «والعاملُ في» إذ «الأولى وفي المعطوف» يستمعون «الأول. وقال الحوفي:» ف إذ الأولى تتعلق ب «يستمعون» وكذا ﴿وَإِذْ هُمْ نجوى﴾ لأنَّ المعنى: نحن أعلمُ بالذي يستمعون إليك وإلى قراءتِك وكلامِك، إنما يستمعون لسَقْطِك، وتتبُّعِ عيبِك، والتماسِ ما يَطْعنون به عليك، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتَه بالباء و «إلى».
قوله: «نَجْوى» يجوز أن يكونَ مصدراً فيكونَ من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً، أو على حَذْفِ مضاف، أي: ذوو نجوى، كما قاله الزمخشريُّ. ويجوز أَنْ يكونَ جمعَ نَجِيّ كقتيل وقَتْلَى. قاله أبو البقاء.
قوله: «مَسْحوراً» الظاهرُ أنه اسمُ مفعولٌ من «السِّحْر» بكسرِ السين، أي: مَخْبولَ العقلِ أو مخدوعَه. وقال أبو عبيدة: «معناه أن له سَحْراً» أي: رِئة بمعنى أنه لا يَستَغني عن الطعام والشرابِ، فهو بشرٌ مثلُكم.
وتقول العرب للجبان: «قد انتفخ سَحْره» بفتح السين، ولكلِّ مَنْ أكل وشرب: مَسْحُور، ومُسْحَر. فمِنْ الأولِ قولُ امرئ القيس:
٣٠٦ - ٩- أرانا مُوْضَعِيْنَ لأمرِ غَيْبٍ | ونُسْحَرُ بالطعامِ وبالشرَّابِ |
٣٠٧ - ٠- فإنْ تَسْأَلِينا فيمَ نحنُ فإنَّنا | عصافيرُ مِنْ هذا الأَنامِ المُسَحَّرِ |
قوله: «ورُفاتاً» الرُّفات: ما بُوْلِغَ في دَقِّه وتَفْتِيتِه وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيءِ المُفَتَّتِ. وقال الفراء: «هو التراب». ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن «تُرابا وعظاماً». ويقال رََفَتَ الشيءَ يَرْفِت بالكسرِ، أي: كَسرَه. والفُعال يغلب في التفريق كالحُطام والدُّقاق والفُتات.
قوله: «خَلْقاً» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ من معنى الفعلِ لا مِنْ لفظِه، أي: نُبْعَثُ بَعْثاً جديداً. والثاني: أنه في موضع الحالِ، أي: مَخْلوقين.
و ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ ظرفُ زمان ناصبُه «فَطَركم».
قوله: «فسَيُنْغِضُون»، أي: يُحَرِّكونها استهزاءً. يقال: أَنْغَضَ رأسَه يُنْغِضها، أي: حَرَّكها إلى فوقُ، وإلى أسفلَ إنغاضاً، فهو مُنْغِضٌ، قال:
٣٠٧ - ١- أَنَغَضَ نحوي رأسَه وأَقْنَعا | كأنه يطلُبُ شيئاً أَطْمعا |
٣٠٧ - ٢- لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِي الرَّأْسا... وقال أبو الهيثم: «إذا أُخْبِرَ بشيءٍ فَحَرَّك رأسَه إنكاراً له فقد أَنْغَضَ». قال ذو الرمة:
٣٠٧ - ٣- ظَعائِنُ لم يَسْكُنَّ أَكْنافَ قريةٍ | بِسِيْفٍ ولم تَنْغُضْ بهنَّ القَنَاطِرُ |
٣٠٧ - ٤- ونَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أسنانُها... قوله: ﴿عسى أَن يَكُونَ﴾ يجوز أن تكونَ الناقصة، واسمُها مستترٌ فيها يعودُ على البعثِ والحشرِ المدلولِ عليهما بقوة الكلام، أو لتضمُّنِه في قوله «مَبْعوثون»، و «أن يكونَ» خبرُها، ويجوز أن تكونَ التامَّةَ مسندةً إلى «أنَّ» وما في حيِّزها، واسمُ «يكونَ» ضميرُ البعثِ كما تقدَّم.
وفي «قريباً» وجهان، أحدُهما: أنه خبر «كان» وهو وصفٌ على بابِه. والثاني: أنه ظرفٌ، أي: زماناً قريباً، وأن يكونَ «على هذا تامةٌ، أي: عسى أن يقع العَوْد في زمانٍ قريب.
٣٠٧ - ٥-
وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمْ | وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ |
قوله: بحَمْدِه» فيه قولان، أحدُهما: أنها حالٌ، أي: تستجيبون حامِدِين، أي: منقادين طائعين. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «يَدْعوكم» قاله أبو البقاء وفيه قَلَقٌ.
قوله: ﴿إِن لَّبِثْتُمْ﴾ «إنْ» نافيةٌ، وهي معلِّقَةٌ للظنِّ عن العمل، وقلَّ مَنْ يذكرُ «إنْ» النافيةَ، في أدواتِ تعليق هذا الباب. و «قليلاً» يجوز أن يكونَ نعتَ زمانٍ أو مصدرٌ محذوفٌ، أي: إلا زماناً قليلاً، أو إلا لُبْثاً قليلاً.
قوله: ﴿إِنَّ الشيطان يَنزَغُ﴾ يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ اعتراضاً بين المفسَّر والمفسِّر، وذلك أنَّ قولَه: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾ وَقَعَ تفسيراً لقوله ﴿التي هِيَ أَحْسَنُ﴾ وبياناً لها، ويجوز أن لا تكونَ معترِضَةً بل مستأنفةٌ.
قوله: «زَبُورا» قد تقدَّم خلافُ القراءِ فيه، ونكَّره هنا دلالةً على التبعيضِ، أي: زَبُوراً من الزُّبُر، أو زَبُوراً فيه ذِكْرُ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأُطْلِقَ على القطعةِ منه زَبورٌ، كما يُطْلَقُ على بعضِ القرآن، ويجوزُ أَنْ يكونَ «زَبُور» عَلَماً، فإذا دَخَلَتْ عليه أل كقولِه: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور﴾ [الأنبياء: ١٠٥]
ويجوز أن يكونَ المرادُ بالواوِ ما أُريد بأولئك، أي: أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُون ربَّهم أو الناسَ إلى الهدى يَبْتغون، فمفعولُ «يَدْعُون» محذوف.
والثاني: أن الخبرَ نفسُ الموصولِ، و «يَبْتَغُون» على هذا حالٌ مِنْ فاعل «يَدْعُون» أو بدلٌ منه. وقرأ العامَّةُ «يَدْعُون» بالغيبِ، وقد تقدَّم الخلافُ في الواو: هل تعودُ على الأنبياء أو على عابِدِيْهم. وزيد بن علي بالغَيْبة أيضاً، إلا أنه بناه للمفعول. وقتادةُ وابنُ مسعودٍ بتاء الخطاب. وهاتان القراءتان تقويَّان أن الواوَ للمشركين لا للأنبياءِ في قراءة العامَّة.
قوله: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ في «أيُّ» هذه وجهان، أحدُهما: أنها استفهاميةٌ.
وقال أبو البقاء: «أيُّهم» مبتدأ، و «أقربُ» خبرُه وهو استفهامٌ في موضع نصب ب «يدْعُونَ»، ويجوز أن يكونَ «أيُّهم» بمعنى الذي، وهو بدلٌ مِنَ الضميرِ في «يَدْعُوْن».
قال الشيخ: «علًّق» يَدْعُون «وهو ليس فعلاً قلبياً، وفي الثاني فَصَلَ
وقال يونس: يجوز تعليقُ الأفعالِ مطلقاً، القلبيةِ وغيرِها. وأمَّا قولُه «فَصَل بالجملة الحالية» يعني بها «يَبْتَغُون» فَصَل بها بين «يَدْعون» الذي هو صلةُ «الذين» وبين معمولِه وهو ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ لأنه مُعَلَّقٌ عنه كما عَرَفْتَه، إلا أنَّ الشيخَ لم يتقدَّم في كلامِه أعرابُ «يبتغون» حالاً، بل لم يُعْرِبْها إلا خبراً للموصول، وهذا قريب.
وجعل أبو البقاء أيَّاً الموصولة بدلاً من واو «يَدْعُون» ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك، بل كلُّهم يجعلونها مِنْ واو «يَبْتَغون» وهو الظاهر.
وقال الحوفي: «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» ابتداءٌ وخبر، والمعنى: ينظرون أيُّهم أقربُ فيتوسَّلون به، ويجوز أن يكونَ «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» / بدلاً من واو «يَبْتغون». قلت: فقد أضمر فعلاً معلَّقاً وهو «ينظرون»، فإن كان مِنْ نَظَرِ البصَرِ تَعَدَّى ب «إلى»، وإن كان مِنْ نظَرِ الفِكْرِ تعدَّى ب «في»، فعلى التقديرين الجملةُ الاستفهامية في موضعِ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ، وهذا إضمارُ ما لا حاجةَ إليه.
وقال ابن عطية: «وأيُّهم ابتداءٌ، و» أقربُ «خبرُه، والتقدير: نَظَرُهم ووَكْدُهم أيُّهم أقربُ، ومنه قولُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه:» فبات الناس يَدُوكون أيُّهم يُعطاها «، أي: يتبارَوْن في القُرْبِ». قال الشيخ: «
قلت: فقد تحصَّل في الآيةِ الكريمةِ ستةُ أوجهٍ، أربعةٌ حالَ جَعْلِ «أيّ» استفهاماً. الأولُ أنها مُعَلِّقةٌ للوسيلة كما قرَّره الزمخشري. الثاني: أنها مُعَلَّقَةٌ ل «يَدْعُون» كما قاله أبو البقاء. الثالث: أنها مُعَلِّقَةٌ ل «يَنْظرون» مقدَّراً، كما قاله الحوفيُّ. الرابع: أنها مُعَلَّقةٌ ل «نَظَرُهُمْ» كما قدَّره ابن عطية. واثنان حالَ جَعْلِها موصولةً، الأول: البدلُ مِنْ واو «يَدْعُون» كما قاله أبو البقاء. الثاني: أنها بدلٌ مِنْ واو «يَبْتَغون» كما قاله الجمهور.
وخبرُ المبتدأ الجملةُ المحصورةُ مِنْ قولِه: ﴿إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا﴾.
وقَدَّر أبو البقاء مضافاً قبل الفاعلِ فقال: «تقديرُه: إلا إهلاكُ التكذيب، كأنه يعني أنَّ التكذيبَ نفسَه لم يمنعْ من ذلك، وإنما مَنَعَ منه ما يترتَّبُ على التكذيبِ وهو الإِهلاك، ولا حاجةَ إلى ذلك لاستقلالِ المعنى بدونه.
قوله:» مُبْصِرَة «حالٌ، وزيدُ بن علي يرفعُها على إضمارِ مبتدأ، اي: هي، وهو إسنادٌ مجازيٌّ، إذ المرادُ إبصارُ أهلِها، ولكنها لمَّا كانت سبباً في
٣٠٧ - ٦-......... | والكفرُ مَخْبَثَةٌ لنفسِ المُنْعِمِ |
قوله: ﴿إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾ يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً له، وأن يكونَ مصدراً في موضع الحال: إمَّا من الفاعل، أي: مُخَوِّفين أو من المفعولِ، أي: مُخَوِّفاً بها.
وقال ابنُ عطية: «والكافُ في» أَرَأَيْتُكَ «حرفُ خطابٍ لا موضعَ لها من الإِعراب، ومعنى» أَرَأَيْتَ «أتأمَّلْتَ ونحوه، كأنَّ المخاطِبَ يُنَبِّه المخاطَب ليستجمعَ لما يَنُصُّ عليه [بعدُ]. وقال سيبويه:» وهي بمعنى أَخْبِرْني، ومَثَّل بقوله: «أَرَأَيْتك زيداً أبو من هو؟» وقولُ سيبويهِ صحيحٌ، حيث يكون
وقال الفراء:» الكافُ في محلِّ نصب، أي «أَرَأَيْتَ نفسَك كقولك: أَتَدَبَّرْتَ أخرَ أمرِك فإني صانعٌ فيه كذا ثم ابتدأ: هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ».
وقال أبو البقاء: «والمفعولُ الثاني محذوفٌ، تقديرُه: تفضيلَه أو تكريمه». قلت. وهذا لا يجوز لأنَّ المفعول الثاني في هذا البابِ لا يكونَ إلا جملةً مشتملةً على استفهام «.
قال الشيخ:» ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ الجملة القسمية هي المفعولُ الثاني لكانَ حَسَناً «. قلت: يَرُدُّ ذلك التزامُ كونِ المفعولِ الثاني جملةً مشتملةً على استفهامٍ وقد تقرَّر جميعُ ذلك في الأنعام فعليك باعتباره هنا.
قوله: ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ﴾ قرأ ابن كثير بإثباتِ ياءِ المتكلمِ وصلاً ووقفاً، ونافع وأبو عمرو بإثباتِها وَصْلاً وحَذْفِها وقفاً، وهذه قاعدةُ مَنْ ذُكِرَ في الياءاتِ الزائدةِ على الرسم، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، هذا كلُّه في حرفِ هذه
قوله:» لأحْتَنِكَنَّ «جوابُ القسمِ المُوَطَّأ له باللام. ومعنى» لأحْتَنِكَنَّ «لأَسْتَوْلِيَنَّ عليهم استيلاءَ مَنْ جَعَلَ في حَنَكِ الدابَّةِ حَبْلاً يقودُها به فلا تأبى ولا تَشْمُسُ عليه. يقال: حَنَك فلانٌ الدابةَ واحْتَنَكها، أي: فَعَل بها ذلك، واحْتَنَكَ الجرادُ الأرض: أكلَ نباتها قال: واحتنكَتْ أموالَنا وجَلَّفَتْ... وحكى سيبويه:» أحْنَكُ الشاتَيْن، أي: آكَلُهما، أي: أكثرُهما أَكْلاً.
قوله: «جزاؤُكم» يجوز أن يكونَ الخطابُ التغليبَ لأنه تقدَّم غائبٌ ومخاطبٌ في قولِه: ﴿فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ فغلَّب المخاطَب، ويجوز أن يكونَ الخطابُ مراداً به «مَنْ» خاصةً ويكونُ ذلك على سبيل الالتفات.
قوله: «جَزاءً» في نصبِه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ،
و «مَوْفُوراً» اسمُ مفعولٍ مِنْ وَفَرْتُه، ووفَرَ يُستعمل متعدِّياً، ومنه قولُ زهير:
٣٠٧ - ٧- نَشْكُو إليك سَنَةً قد أَجْحَفَتْ | جَهْداً إلى جَهْدٍ بنا فأضعفَتْ |
٣٠٧ - ٨- ومن يَجْعَلِ المعروفَ مِنْ دُوْنِ عِرْضِهِ | يَفِرْه ومَنْ لا يَتَّقِ الشتم يُشْتَمِ |
والاسْتِفْزاز: الاستخفاف، واستفزَّني فلانٌ: استخفَّني حتى خَدَعني لمِا يريده. قال:
٣٠٧ - ٩- يُطيع سَفيهَ القوم إذ يستفزُّه | ويَعْصي حليماً شَيَّبَتْه الهزاهِزُ |
٣٠٨ - ٠- كما استغاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ | خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ |
قوله: «وأَجْلِبْ»، أي: اجْمَعْ عليهم الجموعَ مِنْ جُنْدِك يقال: أَجْلَبَ عليه وجَلَبَ، أي: جَمَعَ عليه الجموعَ. وقيل: أَجْلَبَ عليه: توعَّده بشرٍّ. وقيل: أَجْلَبَ عليه: أعان، وأجلب، أي: صاح صِياحاً شديداً، ومنه الجَلَبَة، أي: الصِّياح.
قوله: «وَرَجِلِك» قرأ حفصٌ بكسرِ الجيمِ، والباقون بسكونها، فقراءة حفصٍ «رَجِل» فيها بمعنى رَجُل بالضم بمعنى راجل يُقال: رَجِلَ يَرْجَلُ إذا صار راجِلاً، فيكون مثل: حَذِر وحَذُر، ونَدِس ونَدُس، وهو مفردٌ أريد به الجمعُ. وقال ابن عطية: هي صفةٌ يقال: فلان يمشي رَجِلاً إذا كان غيرَ راكبٍ، ومنه قولُ الشاعر:
٣٠٨ - ١-................... | ...... رَجِلاً إلا بأصحابي |
وقال الزمخشريُّ: «على أن فَعِلاً بمعنى فاعِل نحو: تَعِب وتاعب، ومعناه: وجَمْعك الرَّجِلُ، وتُضَمُّ جيمُه أيضاً فيكون مثلَ: حَذُر وحَذِر، ونَدُس ونَدِس، وأخواتٍ لهما».
وأما قراءةُ الباقين فتحتملُ أَنْ تكون تخفيفاً مِنْ «رَجِل» بكسر الجيم أو ضمِّها، والمشهورُ: أنه اسمُ جمع لراجِل كرَكْب وصَحْب في راكِب وصاحِب. والأخفش يجعل هذا النحوَ جمعاً صريحاً.
وقرأ عكرمةُ «ورِجالك» جمع رَجِل بمعنى راجِل، أو جمع راجِل كقائم وقيام. وقُرِئ «ورُجَّالك» بضمِّ الراء وتشديد الجيم، وهو جمع راجِل كضارِب وضُرَّاب.
والباء في «بخَيْلِك» يجوز أن تكونَ الحالية، أي: مصاحَباً بخيلك، وأن تكون مزيدةً كقوله:
فما أُقاتلُ عن ديني على فَرَسي | إلا كذا رَجِلاً إلا بأصحابي |
٣٠٨ - ٢-.......................... | .......... لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر |
قوله: ﴿إِلاَّ غُرُوراً﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ وهو نفسُه مصدرٌ، الأصل: إلا وَعْداً غروراً، فيجيء فيه ما في «رجلٌ عَدْلٌ»، أي: إلا وَعْداً ذا غرور، أو على المبالغة أو على: وعداً غارَّاً، ونسب الغرورَ إليه مجازاً. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه، أي: ما يَعِدُهم ممَّا يَعِدُهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغُرور. الثالث: أنه مفعولٌ به على الاتِّساع، أي: ما يَعِدُهم إلا الغرورَ نفسَه.
قوله: ﴿جَانِبَ البر﴾ فيه وجهان أظهرهما: أنه مفعولٌ به كقوله: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض﴾ [القصص: ٨١]. والثاني: أنه منصوبٌ على الظرف. و «بكم» يجوز أن تكونَ حاليةً، أي: مصحوباً بكم، وأَنْ تكونَ للسببية. قيل: ولا يَلْزَمُ مِنْ
قوله: ﴿أَن يَخْسِفَ﴾ «أو يُرْسِلَ» «أن يُعِيْدَكم» فَيُرْسِلَ «» فَيُغرْقكم «قرأ هذه [جميعَها] بنون العظمة ابنُ كثير وأبو عمروٍ، والباقون بالياءِ فيها على الغيبة. فالقراءةُ الأولى على سبيل الالتفاتِ مِن الغائبِ في قولِه ﴿رَّبُّكُمُ﴾ [الإِسراء: ٦٦] إلى آخر، والقراءةُ الثانيةُ على سَنَنِ ما تقدَّم من الغَيْبَةِ المذكورة.
قوله:» حاصِباً «، أي: ريحاً حاصِباً، ولم يؤنِّثْه: إمَّا لأنه مجازيٌّ، أو على النسَبِ، أي: ذاتَ حَصْبٍ. والحَصْبُ: الرميُ بالحَصَى وهي الحجارةُ الصغار. قال الفرزدق:
٣٠٨ - ٣- مُسْتَقْبِلين شَمالَ الشامِ تَضْرِبُهم | حَصْباءُ مثلُ نَدِيْفِ القُطْنِ مَنْثُورِ |
قوله «تارةً» بمعنى مرةً وكَرَّة، فهي مصدرٌ، ويُجمع على تِيَرٍ وتاراتٍ. قال الشاعر:
قوله:» قاصِفاً «القاصِفُ يحتمل أن يكون مِنْ قَصَفَ متعدياً، يقال: قَصَفَتِ الريحُ الشجرَ تَقْصِفها قَصْفاً. قال أبو تمام:
٣٠٨ - ٤- وإنسانُ عيني يَحْسِرُ الماءُ تارةً | فَيَبْدُ وتارات يَجُمُّ فَيَغْرَقُ |
٣٠٨ - ٥- إنَّ الرياحَ إذا ما أَعْصَفتْ قَصَفَتْ | عَيْدانَ نَجْدٍ ولم يَعْبَأْنَ بالرَّتَمِ |
قوله: ﴿بِمَا كَفَرْتُمْ﴾ يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى الذي، والباءُ للسببية، أي: بسببِ كفرِكم، أو بسبب الذي كفَرْتم به، ثم اتُّسِع فيه فَحَذِفت الباءُ فوصل الفعلُ إلى الضميرِ، وإنما احتيج إلى ذلك لاختلافِ المتعلق.
وقرأ أبو جعفرٍ ومجاهد» فَتُغْرِقَكم «بالتاء من فوقُ أُسْند الفعلُ لضمير الريح. وفي كتاب الشيخ» «فتُغْرِقَكم بتاء الخطاب مسنداً إلى»
وقرأ العامَّة «الريحِ» بالإِفراد، وأبو جعفر: «الرياح» بالجمع.
قوله: ﴿بِهِ تَبِيعاً﴾ يجوز في «به» أن يَتَعَلَّق ب «تَجِدوا»، وأن يتعلَّقَ بتبيع، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ تبيع. والتَّبِيْع: المطالِبُ بحقّ، المُلازِمُ، قال الشمَّاخ:
٣٠٨ - ٦-..................... | كما لاذَ الغَريمُ من التَّبيعِ |
الثاني: أنه منصوبٌ على الظرف، والعاملُ فيه اذكر، قاله الحوفيُّ وابنُ عطية. قلت: وهذا سهوٌ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً؟ بل هو مفعولٌ.
الثالث: أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وإنما بُنِيَ لإِضافتِهِ إلى الجملةِ الفعلية، والخبرُ الجملةُ بعده. قال ابنُ عطية في تقريره:» ويَصِحُّ أَنْ يكونَ «يوم» منصوباً على البناء لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكِّن، ويكون موضعُه رفعاً بالابتداء، وخبرُه في التقسيم الذي أتى بعدَه في قوله ﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾ إلى قوله ﴿وَمَن كَانَ﴾. قال الشيخ: «قوله منصوبٌ على البناء» كان ينبغي أن يقول: مبنيَّاً على الفتح، وقوله «لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكن» ليس بجيدٍ؛ لأنَّ المتمكِّنَ وغيرَ المتمكِّنِ إنما يكون في الأسماءِ لا في الأفعالِ، وهذا أُضيفَ إلى فعلٍ مضارع، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ، والكوفيون يُجيزون بناءَه. وقوله: «والخبر في التقسيم» إلى آخره، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملةَ التقسيم بالابتداء «. قلت: الرابطُ محذوفٌ للعلمِ به، أي: فَمَنْ أُوتي كتابَه فيه.
الرابع: أنه منصوبٌ بقولِه» ثم لا تجدوا «قاله الزجَّاج. الخامس: أنه
وقرأ العامَّة» نَدْعو «بنون العظمة، ومجاهدٌ» يَدْعُو «بياء الغيبة، أي: الله تعالى أو المَلَك. و» كلَّ «نصبٌ مفعولاً به على القراءتين.
وقرأ الحسن فيما نقله الدانيُّ عنه» يُدْعَى «مبنياً للمفعول،» كلُّ «مرفوعٌ لقيامِه الفاعلِ، وفيما نقله عنه غيرُه» يُدْعَو «بضمِّ الياء وفتح العين، بعدها واوٌ. وخُرِّجَتْ على وجهين، أحدُهما: أن الأصلَ: يُدْعَوْن فَحُذِفت نونُ الرفعِ كما حُذِفَتْ في قولِه عليه السلام:» لا تَدْخُلوا الجنة حتى تُؤْمنوا، ولا تُؤْمنوا حتى تحابُّوا «
وقوله:
٣٠٨ - ٨-
٣٠٨ - ٧- غَدَوْا وغَدَتْ غِزْلانُهم فكأنَّها | ضوامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهنَّ تَبيعُ |
أَبَيْتُ أَسْرِيْ وتَبِْيْتي تَدْلُكِيْ | وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكي |
والتخريجُ الثاني: أنَّ الأصلَ «يُدْعَى» كما نَقَله عنه الدانيُّ، إلا أنه قَلَبَ الألفَ واواً وَقْفاً، وهي لغةٌ لقومٍ، يقولون: هذه أفْعَوْ وعَصَوْ، يريدون: أَفْعى وعَصا، ثم أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ. و «كلُّ» مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعلِ على هذا ليس إلا.
قوله: «بإمامِهم» يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ متعلقةٌ بالدعاء، أي: باسمِ إمامهم، وأن تكونَ للحالِ فيتعلَّقَ بمحذوف، أي: نَدْعُوهم مصاحبين لكتابهم. والإِمام: مَنْ يُقْتَدَى به. وقال الزمخشري «» ومن بِدَع التفاسير: أن الإِمامَ جمع «أُمّ» وأنَّ الناسَ يُدْعَوْنَ يومَ القيامة بأمهاتهم دونَ آبائهم، وأن الحكمةَ فيه رِعايةُ حقِّ عيسى، وإظهارِ شرفِ الحسن والحسين، وأن لا يُفْضَحَ أولادُ الزِّنى «قال:» وليت شعري أيهما أَبْدَعُ: أصحةُ لفظِه أم بَهاءُ معناه؟ «.
قلت: وهو معذورٌ لأن» أُمّ «لا يُجْمع على» إمام «، وهذا قولُ مَنْ لا يَعْرف الصناعةَ ولا لغةَ العربِ، وأمَّا ما ذكروه من المعنى فإنَّ الله تعالى نادى عيسى باسمِه مضافاً لأمِّه في عدةِ مواضعَ من قوله ﴿ياعيسى ابن مَرْيَمَ﴾ [المائدة: ١١٠]، وأَخْبرعنه كذلك نحو: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ [الصف: ٦]، وفي ذلك
قوله: ﴿فَمَنْ أُوتِيَ﴾ يجوز أن تكونَ شرطيةً، وأن تكونَ موصولةً، والفاءُ لشَبَهه بالشرط. وحُمِل على اللفظِ أولاً في قوله ﴿أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ فَأُفْرِد، وعلى المعنى ثانياً في قولِه:» فأولئك «فَجُمِع.
قلت: كذا قرَّره الفارسيُّ والزمخشري، وقد رُدَّ هذا بأنهم أمالوا ﴿وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ﴾ [المجادلة: ٧] مع التصريح ب «مِنْ» فَلأَنْ يُميلوا «أَعْمى» مقدَّراً معه «مِن» أَوْلَى وأَحْرَى.
وأمَّا «أَعْمى» في طه فأماله الأخَوان وأبو عمرو، ولم يُمِلْه أبو بكر، وإن كان يُمليه هنا، وكأنه جَمَعَ بين الأمرين وهو مقيَّدٌ باتِّباع الأثر. وقد فَرَّق
قوله: ﴿وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ﴾ » إذن «حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ ولهذا تقع أداةُ الشرطِ موقعَها، و» لاتَّخذوك «جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: إذن واللهِ لاتَّخذوك، وهو مستقبلٌ في المعنى، لأنَّ» إذَنْ «تقتضي الاستقبالَ؛ إذ معناها المجازاةُ. وهذا كقولِه: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ﴾ [الروم: ٥١]، أي: ليَظَلُّنَّ. وقولُ الزمخشري:» أي: ولو اتَّبَعْتَ مرادَهم لاتَّخذُوك «تفسيرُ معنى لا إعرابٍ، لا يريد بذلك أنَّ» لاتَّخَذُوك «جوابٌ ل» لو «محذوفةُ إذ لا حاجةَ إليه.
وقوله: «شيئاً» : منصوبٌ على المصدر، وصفتُه محذوفة، أي: شيئاً قليلاً من الرُّكون.
الثاني: أنها متوسطةٌ بين قسمٍ محذوفٍ وجوابِه، فأُلْغِيَتْ لذلك، والتقدير: ووالله إذن لا يلبثون.
الثالث: أنها متوسطةٌ بين مبتدأ محذوفٍ وخبرِه، فأُلْغِيَتْ لذلك، والتقدير: وهم إذن لا يلبثون.
وقرأ اُبَيٌّ بحذفِ النون، فَنَصْبُه بإذن عند الجمهور، وب» أَنْ «مضمرةً بعدها من غيرِهم، وفي مصحف عبد الله» لا يَلْبَثُوا «بحذفِها. ووجهُ النصبِ أنه لم يُجعل الفعلُ معطوفاً على ما تقدَّم ولا جواباً ولا خبراً. قال الزمخشري:» وأمَّا قراءةُ اُبَيّ ففيها الجملةُ برأسها التي هي: إذاً لا يَلْبثوا، عَطَفَ على جملة قوله ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾.
وقرأ عطاء ﴿لاَّ يَلَبَثُونَ﴾ بضمِّ الياء وفتحِ اللام والباء، مشددةً مبنياً للمفعول، مِنْ لَبَّثَه بالتشديد. وقرأها يعقوب كذلك إلا أنه كسرَ الباءَ، جَعَلَه مبنياً للفاعل.
قوله: «خِلافَك» قرأ الأخَوان وابنُ عامر وحفصٌ: «خِلافَك» بكسر الخاء وألفٍ بعد اللام، والباقون بفتح الخاء وسكونِ اللام. والقراءتان بمعنى
٣٠٨ - ٩- عَفَتِ الديارُ خِلافَهم فكأنما | بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهنَّ حََصِيْراً |
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ يجوز أن تكونَ صفةً لمصدرٍ أو لزمانٍ محذوف، أي: لُبْثاً قليلاً، أو إلا زماناً قليلاً.
٣٠٩ - ٠-
فلمَّا تَفَرَّقْنا كأني ومالِكاً | لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معاً |
والدُّلوك: مصدرُ دَلَكت الشمسُ، وفيه ثلاثةُ أقوالٍ، أشهرُها: أنه الزوالُ، وهو نِصْفُ النهار. والثاني: أنه من الزوال إلى الغروب. قال الزمخشري: «واشتقاقُه من الدَّلْكِ؛ لأنَّ الإِنسانَ يَدْلُكُ عينَه عند النظرِ إليها». قلت: وهذا يُفْهِم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقاً من المصدرِ. والثالث: أنه الغروبُ، وأنشد الفراءُ عليه قولَه:
٣٠٩ - ١- هذا مُقامُ قَدَمَيْ رَباحِ | ذَبَّبَ حتى دَلَكَتْ بَِرَاحِ |
قوله: ﴿إلى غَسَقِ اليل﴾ في هذا الجارِّ وجهان، أحدٌهما: أنه متعلِّقٌ ب أَقِمْ» فهي لانتهاءِ غايةِ الإِقامةِ، وكذلك اللامُ في «لِدُلوك» متعلقةٌ به أيضاً. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الصلاة»، أي: أَقِمْها مَمْدودةً إلى غَسَق الليل، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ: من حيث إنه قَدَّر المتعلِّق كوناً مقيداً، إلا أَنْ يريدَ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ.
والغَسَقُ: دخولُ أولِ الليل، قاله ابنُ شميل. وأنشد:
٣٠٩ - ٢- مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودها | نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدوالِكِ |
٣٠٩ - ٣- إنَّ هذا الليلَ قد غَسَقا | واشتكيْتُ الهَمَّ والأرقا |
قوله: ﴿قُرْآنَ الفجر﴾ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه عطفٌ على «الصلاة»، أي: وأَقِمْ قرآنَ الفجرِ، والمرادُ به صلاةُ الصبحِ، عَبَّر عنها ببعضِ أركانِها. والثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراء، أي: وعليك قرآنَ الفجر، كذا قدَّره الأخفشُ وتَبِعه أبو البقاء، وأصولُ البصريين تَأْبَى هذا؛ لأنَّ أسماءَ الأفعالِ لا تعملُ مضمرةً. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ، أي: كَثِّر قرآنَ أو الزَمْ قرآنَ الفجرِ.
قوله «نافِلَةً» فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها مصدرٌ، أي: تَتَنَفَّلُ نافلةً لك على الصلواتِ المفروضةِ. والثاني: أنها منصوبةٌ ب «تَهَجَّدْ» لأنَّه في معنى تَنَفَّلْ، فكأنه قيل: تنفَّل نافلة. والنَّافِلَةُ، مصدرٌ كالعاقِبة والعافِية. الثالث: أنها منصوبةٌ على الحالِ، أي: صلاةَ نافِلَةٍ، قاله أبو البقاء وتكون حالاً من الهاء في «به» إذا جَعَلْتَها عائدةً على القرآن لا على وقتٍ مقدر. الرابع: أنها منصوبةٌ على المفعولِ بها، وهو ظاهرُ قولِ الحوفيِّ فإنه قال: «ويجوز أن ينتصِبَ» نافلةً «بتهجَّدْ، إذا ذَهَبْتَ بذلك على معنى: صَلِّ به نافلةً، أي: صَلِّ نافِلَةً لك».
والتهَجُّدُ: تَرْكُ الهُجُودِ وهو النَّوْمُ، وتَفَعَّل يأتي للسَّلْب نحو: تَحَرَّجَ وتَأَثَّمَ، وفي الحديث: «كان يَتَحَنَّثُ بغارِ حراءٍ» وفي الهُجود خلافٌ بين أهل اللغةِ فقيل: هو النوم. قال:
٣٠٩ - ٥-
٣٠٩ - ٤- ظلَّتْ تجودُ يداها وهي لاهِيَةٌ | حتى إذا هَجَمَ الإِظْلامُ والغَسَقُ |
وبَرْكُ هُجودٍ قد أثارَتْ مَخافتي | .............................. |
٣٠٩ - ٦- ألا طَرَقَتْنا والرِّفاقُ هُجودُ | ................................ |
٣٠٩ - ٧- ألا زارَتْ وأهلُ مِنَىً هُجودُ | وليت خيالَها بمِنَىً يعودُ |
قوله: ﴿عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً﴾ في نصب «مَقاماً» أربعةُ أوجه، أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، أي: يبعثُك في مَقام. الثاني: أن ينتصِبَ بمعنى «يَبْعَثُك» لأنه في معنى يُقيمك، يقال: أُقِيم مِنْ قبرِه وبُعِث منه، بمعنىً فهو نحو: قعد جلوساً. الثالث: أنه منصوبٌ على الحال، أي: يَبْعَثُك ذا مقامٍ محمودٍ. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ، وناصبُه مقدَّرٌ، أي: فيقوم مقاماً.
و «عَسَى» على الأوجهِ الثلاثةِ دونَ الرابع يتعيَّن فيها أن تكونَ
وأمَّا على الوجه الرابع فيجوز أن تكونَ التامَّةَ والناقصةَ بالتقديم والتأخير لعدم المحذورِ؛ لأنَّ «مقاماً» معمولٌ لغير الصلة، وهذا من محاسِنِ صناعة النحو، وتقدَّم لك قريبٌ مِنْ هذا في سورةِ إبراهيم عليه السلام في قولِه تعالى: ﴿أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ﴾ [إبراهيم: ١٠].
ومُدْخَلُ صِدْقٍ ومُخْرَجُ صِدْقٍ من إضافة التبيين، وعند الكوفيين من
قوله: «سُلْطاناً» هو المفعولُ الأول للجَعْلِ، والثاني أحدُ الجارَّيْن المتقدَّمين، والآخرُ متعلِّقٌ باستقراره. و «نصيراً» يجوز أن يكون مُحَوَّلاً مِنْ فاعِل للمبالغةِ، وأن يكونَ بمعنى مفعول.
٣٠٩ - ٨- ولقد شَفَى نَفْسي وأبرَأَ سُقْمَها | إقدامُه بمَزَالَةٍ لم يَزْهَقِ |
الثاني: أنها للتبعيض، وأنكره الحوفي قال: «لأنه يَلْزَمُ أن لا يكونَ بعضُه
الثالث: أنها لابتداءِ الغاية وهو واضح.
والجمهور على رفع «شِفاءٌ/ ورحمةٌ» خبرين ل «هو»، والجملةُ صلةٌ ل «ما» وزيدُ بن علي بنصبهما، وخُرِّجَتْ قراءتُه على نصبِهما على الحال، والصلةُ حينئذٍ «للمؤمنين» وقُدِّمَتْ الحالُ على عاملها المعنويِّ كقولِه ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧] في قراءةِ مَنْ نصب «مَطْوِيَّاتٍ». وقولِ النابغة:
٣٠٩ - ٩- ضَرُوْبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها | ......................... |
٣١٠ - ٠- رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحْقِبي أَدراعَهم | فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذارِ |
٣١٠ - ١- حتى إذا ما التأَمَتْ مَفاصِلُهْ | وناءَ في شِقِّ الشِّمالِ كاهلُهْ |
وأمال الألفَ إمالةً محضةً الأخَوان وأبو بكر عن عاصم، وبينَ بينَ بخلافٍ عنه السوسيُّ، وكذلك في فُصِّلت، إلا أبا بكرٍ فإنه لم يُمِلْه.
وهو من «الشَّكْلِ» وهو المِثْل، يقال: لستَ على شَكْلي ولا شاكلتي. وأمَّا «الشَّكْلُ» بالكسر فهو الهيئة. يقال: جاريةٌ حسنةُ الشَّكْل. وقال امرؤ القيس:
٣١٠ - ٢- حَيِّ الحُمولَ بجانب العَزْلِ | إذ لا يُلائم شَكلُها شَكْلي |
قوله: «أَهْدى» يجوز أن يكونَ مِنْ «اهْتَدى»، على حذفِ الزوائد، وأن يكونَ مِنْ «هَدَى» المتعدِّي. وأن يكونَ مِنْ «هدى» القاصر بمعنى اهتدى. و «سبيلاً» تمييز.
وقرأ عبد الله والأعمش «وما أُوْتُوا» بضمير الغيبة.
٣١٠ - ٣- وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ | يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حِرِمُ |
٣١٠ - ٤-
لئِنْ مُنِيْتَ بنا عن غِبِّ معركةٍ | لا تُلْفِنا مِنْ دماءِ القومِ نَنْتَفِلُ |
وأجاب بعضهم بأنَّ اللامَ في البيت ليست للتوطِئةِ بل مزيدةٌ، وهذا ليس/ بشيء لأنه لا دليلَ عليه. وقال الزمخشري: «ولولا اللامُ الموطِّئة لجاز أن يكونَ جواباً للشرط كقولِه:
٣١٠ - ٥-......................... | يقولُ لا غائبٌ.................. |
قوله: ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ جملةٌ حاليةٌ، وقد تقدَّم تحقيق هذا، وأنه كقولِه عليه السلام» أَعطُوا السائل ولو جاء على فرس «و» لبعضٍ «متعلِّقٌ ب» ظَهير «.
وقرأ الحسن «صَرَفْنا» بتخفيفِ الراء، وقد تقدَّم نظيرُه.
قوله: ﴿إِلاَّ كُفُوراً﴾ مفعولٌ به، وهو استثناءٌ مفرغ لأنه في قوة: لم يَفْعلوا إلا الكُفور.
و «يَنْبوعاً» مفعولٌ به، ووزنُه يَفْعُول لأنَّه مِنْ النَّبْعِ، واليَنْبُوعُ: العَيْنُ تفورُ من الأرض.
قوله: «كِسْفاً» قرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ هنا بفتح السين، وفَعَل ذلك حفصٌ في الشعراء وفي سبأ. والباقون بسكونها في المواضعِ الثلاثةِ. وقرأ ابن ذكوان بسكونها في الروم بلا خلافٍ، وهشامٌ عنه الوجهان، والباقون بفتحها.
فمَنْ فتح السينَ جعله جمعَ كِسْفة نحو: قِطْعَة وقِطَع، وكِسْرة
وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين، أحدُهما: أنه جمعٌ على فَعَل بفتح العينِ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، وهذا لا يجوز لأنَّ الفتحةَ خفيفةٌ يحتملُها حرفُ العلة، حيث يُقَدَّر فيه غيرُها فكيف بالحرف الصحيح؟. قال: «والثاني: أنه فَعْل بمعنى مَفْعول» كالطَّحْن بمعنى مَطْحون، فصار في السكون ثلاثةُ أوجهٍ.
وأصل الكَسْفِ القَطْع. يقال: كَسَفْتُ الثوبَ قطعتُه. وفي الحديثِ في قصة سليمان مع الصافنات الجياد: أنه «كَسَفَ عراقيبَها» أي: قطعها. وقال الزجاج «كَسَفَ الشيء بمعنى غَطَّاه». وقيل: ولا يُعرفُ هذا لغيرِه.
وانتصابُه على الحالِ، فإنْ جَعَلْناه جمعاً كان على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذات كِسَفٍ، وإنْ جعلناه فِعْلاً بمعنى مَفْعول لم يَحْتَج إلى تقدير، وحينئذ فيقال: لِمَ لَمْ يؤنَّث؟ ويجاب: بأنَّ تأنيثَ السماء غيرُ حقيقي، أو بأنها في معنى السقف.
قوله: «كما زَعَمْتَ» نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: إسقاطاً مثلَ
قوله: «قَبِيْلاً» حالٌ من «الله والملائكة» أو مِنْ أحدِهما، والآخرُ محذوفةٌ حالُه، أي: بالله قبيلاً والملائكةِ قبيلاً. كقوله:
٣١٠ - ٦-.............. كنتُ منه ووالدي | بريئاً.................... |
٣١٠ - ٧-..................... | فإنِّي وقَيَّارٌ بها لغريبُ |
وقرأ الأعرج «قِبَلاً» من المقابلة.
٣١٠ - ٨-
أنتَ الذي كلَّفْتني رَقْيَ الدَّرجْ | على الكَلالِ والمَشِيْبِ والعَرَجْ |
قوله: ﴿قُلْ سُبْحَانَ﴾ قرأ ابنُ كثير وابنُ عامر «قال» فعلاً ماضياً إخباراً عن الرسولِ عليه السلام بذلك، والباقون «قُلْ» على الأمر/ أمراً منه تعالى لنبيِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وهي مرسومةٌ في مصاحف المكيين والشاميين: «قال» بألف، وفي مصاحِفِ غيرِهم «قُلْ» بدونها، فكلٌ وافق مصحفَه.
قوله: ﴿إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ «بشراً» خبرَ «كنتُ» و «رسولاً» صفتُه، ويجوز أن يكون «رسولاً» هو الخبر، و «بَشَراً» حالٌ مقدمةٌ عليه.
قوله: ﴿بَشَراً رَّسُولاً﴾ كما تقدَّم مِنَ الوجهين في نظيره، وكذلك قولُه ﴿لَنَزَّلْنَا [عَلَيْهِم] مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً﴾.
وحُمِل على لفظِ «مَنْ» في قولِه «فهو المهتدِ» فَأُفْرِد، وحُمِل على معنى «مَنْ» الثانيةِ في قولِه ﴿وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ﴾. فجُمعَ. ووجهُ المناسبةِ في ذلك -والله أعلم -: أنه لمَّا كان الهَدْي شيئاً واحداً غيرَ متشعبِ السبلِ ناسَبَه التوحيدُ، ولمَّا كان الضلالُ له طرقٌ نحو: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ بإثباتِ ياء «المُهْتدي» وصلاً وحَذْفْها وقفاً، وكذلك في التي تحت هذه السورة، وحَذَفها الباقون في الحالين.
قوله: ﴿على وُجُوهِهِمْ﴾ يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالحشر، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول، أي: كائنين ومَسْحوبين على وجوههم.
قوله: «عُمْياً» يجوز أن تكونَ حالاً ثانية، أو بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ؛ لأنه تَظْهَرُ أنواعُ البدلِ وهي: كلٌّ من كل، ولا بعضٌ من كل، ولا اشتمالٌ، وأن تكونَ حالاً من الضمير المرفوع في الجارِّ لوقوعِهِ حالاً، وأن تكونَ حالاً من الضميرِ المجرورِ في «وجوهِهم».
قوله: ﴿مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ يجوزُ في هذه الجملةِ الاستئنافُ والحاليةُ: إمَّا من الضميرِ المنصوبِ أو المجرورِ.
وخَبَتِ النار تَخْبُو: إذا سكن لهَبُها، فإذا ضَعُفَ جَمْرُها قيل: خَمَدَتْ، فإذا طُفِئَتْ بالجملةِ قيل: هَمَدَت. قال:
٣٠١ - ٩- وَسْطُه كاليَراعِ أو سُرُجِ المِجْ | دَلِ حِيْناً يَخْبُو وحِيناً ينيرُ |
٣١٠ - ٠- لِمَنْ نارٌ قبيل الصُّبْ | حِ عند البيتِ ما تَخْبُو |
إذا ما أُخْمِدَتْ اُلْقِيْ | عليها المَنْدَلُ الرَّطْبُ |
قوله: ﴿لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾ صفةٌ ل «أجَلاً»، أي: أجلاً غيرَ مرتابٍ فيه. فإن أريد به يومُ القيامة فالإِفرادُ واضحٌ، وإن أريد به الموتُ فهو اسم جنسٍ/ إذ لكلِّ إنسان أجلٌ يَخُصه.
قوله: ﴿إَلاَّ كُفُوراً﴾ قد تقدَّم قريباً.
٣١١ - ١-
وإن هو لم يَحْمِلْ على النفس ضَيْمَها | فليس إلى حُسْنِ الثَّناء سبيلُ |
٣١١ - ٢- ولو غيرُ أَخْوالي أرادُوا نَقِيْصَتي | ............................ |
الثاني: أنه مرفوعٌ ب» كان «وقد كَثُر حَذْفُها بعد» لو «والتقدير: لو كنتم تملكون، فَحُذِفَتْ» كان «فانفصل الضمير، و» تملكون «في محلِّ نصبٍ ب» كان «وهو قولُ ابنِ الصائغِ. وقريبٌ منه قولُه:
٣١١ - ٣-
أبا خُراشَةَ أمَّا أنتَ ذا نَفَرٍ | .............................. |
الثالث: أنَّ» أنتم «توكيدٌ لاسمِ» كان «المقدرِ معها، والأصلُ» لو كنتم أنتم تملِكُون «فَحُذِفَتْ» كان «واسمها وبقي المؤكِّد، وهو قولُ ابن فضَّال المجاشعي. وفيه نظرٌ من حيث إنَّا نحذِفُ ما في التوكيد، وإن كان سيبويه يُجيزه.
وإنما أحوجَ هذين القائلَيْن إلى ذلك: كونُ مذهب البصريين في» لو «أنَّه لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً، ولا يجوز عندهم أَنْ يليَها مضمراً مفسِّراً إلى في ضرورةٍ أو ندورٍ كقوله:» لو ذاتَ سِوَارٍ لطمَتْني «. فإن قيل: هذان الوجهان: أيضاً فيهما إضمار فعلٍ. قيل: ليس هو الإِضمارَ المَعْنِيَّ؛ فإنَّ الإِضمارَ الذي أَبَوْه على شريطةِ التفسير في غير» كان «، وأمَّا» كان «فقد كَثُر حَذْفُها بعد» لو «في مواضعَ كثيرةٍ. وقد وقع الاسمُ الصريحُ بعد» لو «غيرَ مذكورٍ بعده فعلٌ، أنشد الفارسي:
قوله: ﴿لأمْسَكْتُمْ﴾ يجوز أن يكونَ لازماً لتضمُّنِه معنى بَخَلْتُمْ، وأن يكونَ متعدِّياً، ومفعولُه محذوفٌ، لأَمْسَكْتُم المال، ويجوز أن يكونَ كقولِه ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨].
قوله: ﴿خَشْيَةَ الإنفاق﴾ فيه وجهان، أظهرهما: أنه مفعولٌ مِنْ أجله.
والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، قاله أبو البقاء، أي: خاشِين الإِنفاقَ. وفيه نظرٌ؛ إذ لا يقع المصدرُ المعرَّفُ موقعَ الحالِ إلا سماعاً نحو:» جَهْدَك «و» طاقتَك «و [كقوله:]
٣١١ - ٤- لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ | كنت كالغصَّانِ بالماءِ اعتصاري |
٣١١ - ٥- وأرسلها العِراك........... | ............................. |
قوله: ﴿إِذْ جَآءَهُمْ﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ معمولاً ل «آتَيْنا»، ويكون قولُه ﴿فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ اعتراضاً. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمار اذكُرْ. والثالث: أنه منصوبٌ ب يُخْبرونك مقدَّراً. الرابع: أنه منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ، إذ التقديرُ: فَقُلْنا له: سَلْ بني إسرائيل حين جاءهم. وقد ذكر هذه الأوجهَ الزمخشريُّ مرتبةً على مقدمةٍ ذكرها قبل ذلك فلنذكُرْها. قال: ﴿فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، أي: فقلنا له: سَلْ بني [إسرائيل]، أي: سَلْهُمْ عن فرعونَ، وقل/ له: أرسلْ معي بني إسرائيل، أو سَلْهُم عن إيمانهم وحالِ دينهم، أو سَلْهُمْ أن يُعاضِدوك، وتَدُلُّ عليه قراءةُ رسول الله «فسال» على لفظ الماضي بغير همزٍ وهي لغةُ قريش.
وقيل: فَسَلْ يا رسول اللهِ المُؤْمِنَ من بني إسرائيل كعبدِ الله بن سلام وأصحابِه عن الآيات ليزدادوا يقيناً وطُمَأنينة كقوله: ﴿وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]. ثم قال: «فإن قلتَ بمَ تعلَّق» إذ جاءهم «؟ قلت: أمَّا على الوجهِ الأولِ فبالقولِ المحذوفِ، أي: فقلنا له: سَلْهُمْ حين جاءهم، أو ب» سال «في القراءة الثانية. وأمَّا على الأخير فب» آتَيْنا «أو بإضمار اذْكُرْ، أو بيُخْبرونك. ومعنى إذ جاءهم: إذ جاء آباءهم». انتهى.
الخامس: أنه مفعولٌ به والعاملُ فيه «فَسَلْ». قال أبو البقاء: «فيه وجهان، أحدُهما: هو مفعولٌ به باسْأَلْ على المعنى لأنَّ المعنى: اذْكرْ لبني إسرائيل [إذ جاءهم] وقيل: التقديرُ اذكر إذ جاءهم وهي غيرُ» اذكر «الذي قَدَّرْتَ به اسْأَلْ». يعني أن اذكرْ المقدرةَ غيرُ «اذكر» الذي فَسَّرْتَ «اسأَلْ» بها، وهذا يؤيد ما ذكرْتُه لك مِنْ أنَّهم إذا قدَّروا «اذكر» جعلوا «إذ» مفعولاً به لا ظرفاً.
إلا أنَّ أبا البقاء ذكر حالَ كونِه ظرفاً ما يقتضي أنْ يعملَ فيه فعلٌ مستقبلٌ فقال: «والثاني: أن يكونَ ظرفاً. وفي العامل فيه أوجهٌ، أحدُها:» آتَيْنا «. والثاني:» قلنا «مضمرة. والثالث:» قُلْ «، تقديرُه قل لخصمِك: سَلْ. والمرادُ به فرعونُ، أي: قُلْ يا موسى، وكان الوجهُ أن يُقال: إذ جئتهم بالفتح، فرجع من الخطاب إلى الغيبة».
قلت: فظاهرُ الوجهِ الثالثِ أنَّ العاملَ فيه «قُلْ» وهو ظرفٌ ماضٍ، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيءٍ؛ إذ يرجع إلى: يا موسى قُلْ لفرعونَ: سَلْ بني إسرائيل، فيعودُ فرعون هو السائلَ لبني إسرائيل، وليس المرادُ ذلك قطعاً، وعلى التقدير الذي قَدَّمْتُه عن الزمخشريِّ - وهو أنَّ
والظاهرُ غيرُ ذلك كلِّه، وأنَّ المأمورَ بالسؤال إنما هو سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه، وبنو إسرائيل كانوا معاصِرِيه.
والضميرُ في ﴿إِذْ جَآءَهُمْ﴾ : إمَّا للآباء، وإمَّا لهم على حَذْفِ مضافٍ، أي: جاء آباءهم.
قوله: «مَسْحُوراً» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه بمعناه الأصلي، أي: إنك سُحِرْتَ، فمِنْ ثَمَّ اختلَّ كلامُك، قال ذلك حين جاءَه بما لا تَهْوَى نفسُه الخبيثةُ. الثاني: أنه بمعنى فاعِل كمَيْمون ومَشْؤوم، أي: أنت ساحرٌ؛ فلذلك تأتي بالأعاجيبِ، يشير لانقلابِ عصاه حيةً وغيرِ ذلك.
قوله: «بَصائر» حالٌ وفي عاملها قولان، أحدُهما: أنه «أَنْزَلَ» هذا
قوله: «مَثْبورا» «مَثْبوراً» مفعولٌ ثانٍ، واعترض بين المفعولين بالنداء. والمَثْبُور: المُهْلَكُ. يقال: ثَبَره اللهُ، أي: أَهْلكه، قال ابن الزَّبْعَرى:
٣١١ - ٦- إذ أُجاريْ الشيطانَ في سَنَنِ الغَيْ | يِ ومَنْ مالَ مَيْلَه مَثْبورُ |
والضمير في «أَنْزَلْناه» الظاهرُ عَوْدُه للقرآن: إمَّا الملفوظِ به في قولِه قبل ذلك ﴿على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن﴾ [الإِسراء: ٨٨]، ويكون ذلك جَرْياً على قاعدةِ أساليب كلامِهِم، وهو أَنْ يستطردَ المتكلمُ في ذِكْر شيءٍ لم يَسْبِقْ له كلامُه أولاً، ثم يعودُ إلى كلامِه الأولِ، وإمَّا للقرآنِ غيرِ الملفوظ أولاً؛ لدلالة الحالِ عليه كقولِه تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: ١] وقيل: يعودُ على موسى كقوله: ﴿وَأَنزْلْنَا الحديد﴾ [الحديد: ٢٥]. وقيل: على الوعد. وقيل: على الآيات التسعِ، وذكَّر الضميرَ وأفرده حملاً على معنى الدليل والبرهان.
قوله: ﴿وبالحق نَزَلَ﴾ فيه الوجهان الأوَّلان دونَ الثالث لعدمِ ضميرٍ آخرَ غيرِ ضمير القرآن. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها للتأكيد، وذلك أنه يُقال: أنزلْتُه فَنَزَل، وأنزلْتُه فلا يَنْزِلْ، فجيْءَ بقولِه ﴿وبالحق نَزَلَ﴾ دَفْعاً لهذا الوهم. وقيل: ليست للتأكيد، والمغايرةُ تَحْصُل بالتغاير بين الحقِّيْنِ، فالحقُّ الأول التوحيد، والثاني الوعدُ والوعيدُ والأمر والنهي. وقال الزمخشري: «وما أَنْزَلْنَا القرآنَ إلا بالحكمةِ المقتضية لإنزاله، وما نَزَلَ إلا ملتبساً بالحق والحكمةِ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خير، أو ما أَنْزَلْنَاه من السماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصْدِ من الملائكةِ، وما نَزَلَ على الرسول إلا محفوظاً
الثالث: أنه منصوبٌ عطفاً على ﴿مُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ قال الفراء: هو منصوبٌ ب» أَرْسَلْناك «، أي: ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً، كما تقول: ورحمة لأنَّ القرآنَ رحمةً». قلت: يعني أنه جُعِل نفسُ القرآن مُراداً به الرحمةُ مبالغةً، ولو ادَّعى ذلك على حَذْفِ مضافٍ كان أقربَ، أي: وذا قرآنٍ. وهذان الوجهان متكلِّفان.
الرابع: أن ينتصِبَ على الاشتغال، أي: وفَرَقْنا قرآناً فرقناه. واعتذر الشيخُ عن ذلك، أي: عن كونِه لا يَصِحُّ الابتداءُ به لو جَعَلْناه مبتدأً لعدم مُسَوِّغٍ؛ لأنه لا يجوزُ الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسمِ الابتداءُ، بأنَّ ثمَّ محذوفةً، تقديرُه: وقرآناً أيَّ قرآنٍ، بمعنى عظيم. و «فَرَقْناه» على
والعامَّةُ «فَرَقْناه» بالتخفيف، أي: بَيَّنَا حلالَه وحرامَه، أو فَرَقْنا فيه بين الحق والباطل. وقرأ علي بن أبي طالب - كرَّم اللهُ وجهَه - واُبَيّ وعبدُ الله وابنُ عباس والشعبي وقتادة وحميد في آخرين بالتشديد. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّ التضعيفَ فيه للتكثير، أي: فَرَّقْنا آياتِه بين أمرٍ ونهي وحِكَمٍ وأحكامٍ ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار ماضيةٍ ومستقبلةٍ. والثاني: أنه دالٌّ على التفريق والتنجيم.
قال الزمخشري: «وعن ابن عباس أنه قرأ مشدَّداً، وقال: لم يَنْزِلْ في يومين ولا في ثلاثةٍ، بل كان بين أولِه وآخره عشرون سنةً، يعني أنَّ» فَرَقَ «بالتخفيف يدلُّ على فصلٍ متقاربٍ».
قال الشيخ: «وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيمَ - لم يَنْزِلْ في يومٍ ولا يومين ولا شهرٍ ولا شَهْرَيْن، ولا سنةٍ ولا سنتين. قال ابنُ عباس: كان بين أوله وآخره عشرون سنة، كذا قال الزمخشريُّ عن ابن عباس». قلت: وظاهرُ/ هذا أنَّ القولَ بالتنجيم ليس مرويَّاً عن ابن عباس ولا سيما وقد فَصَل قولَه «قال ابن عباس» مِنْ قولِه «وقال بعضُ مَنْ اختار ذلك»، ومقصودُه أنه لم يُسْنِده لابن عباس لِيَتِمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ فَعَّل بالتشديد لا يَدُلُّ على التفريق، وقد تقدَّم له معه هذا المبحثُ أولَ هذا الموضوع.
والثاني: أنه بدلٌ مِنْ «على الناس» قاله الحوفيُّ، وهو وهمٌ، لأنَّ قوله «على مُكْثٍ» من صفاتِ القارئ أو المقروء من جهةِ المعنى، لا من صفاتِ الناس حتى يكون بدلاً منهم. الثالث: أنه متعلِّقٌ ب «فَرَقْناه».
وقال الشيخ: «والظاهرُ تَعَلُّق» على مُكْث «بقوله» لتقرأه «، ولا يُبالَى بكونِ الفعلِ يتعلَّق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحدٍ لأنه اختلف معنى الحرفين؛ لأنَّ الأولَ في موضعِ المفعول به، والثاني في موضعِ الحالِ، أي: متمهِّلاً مترسِّلاً».
قلت: قولُه أولاً إنه متعلقٌ بقوله «لتقرأَه» ينافي قولَه في موضع الحال؛ لأنه متى كان حالاً تعلَّق بمحذوف. لا يُقال: أراد التعلق المعنوي لا الصناعي لأنه قال: ولا يُبالَى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرّ من جنسِ [واحد «]، وهذا تفسيرُ إعرابٍ لا تفسيرُ معنى.
والمُكْثُ: التطاولُ في المدة وفيه ثلاثةُ لغاتٍ: الضمُّ والفتحُ - ونقل القراءةَ بهما الحوفي وأبو البقاء - والكسرُ، ولم يُقرأ به فيما علمتُ. وفي فعله الفتحُ والضم وسيأتيان إن شاء الله تعالى في النمل.
٣١١ - ٧-........................... | فخرَّ صريعاً لليدين وللفمِ |
والأَذْقان: جمعُ ذَقَنٍ وهو مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْن. قال الشاعر:
٣١١ - ٨- فَخَرُّوا لأَذْقانِ الوجوه تنوشُهُمْ | سِباعٌ من الطير العوادِي وتَنْتِفُ |
والتنوين في» أَيَّاً «عوضٌ من المضافِ إليه. وفي» ما «قولان، أحدهما: أنها مزيدةٌ للتاكيد. والثاني: أنها شرطيةٌ جُمِعَ بينهما تأكيداً كما جُمِع بين حَرْفَيْ الجرِّ للتاكيد، وحَسَّنه اختلافُ اللفظ كقوله:
٣١١ - ٩- فَأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به | ........................ |
٣١ - ٠-
يا شاةَ مَنْ قنَصَ لِمَنْ حَلَّتْ له | ............................ |
٣١٢ - ١- دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ......... | .............................. |
ووقف الأخوان على» أيّا «بإبدال التنوين ألفاً، ولم يقفا على» ما «تبييناً لانفصالِ،» أيَّ «مِنْ» ما «. ووقف غيرُهما على» ما «لامتزاجها ب» أيّ «، ولهذا فُصِل بها بين» أيّ «وبين ما أُضيفت إليه في قوله تعالى ﴿أَيَّمَا الأجلين﴾ [القصص: ٢٨]. وقيل:» ما «شرطيةٌ عند مَنْ وقف على» أياً «وجعل المعنى: أيَّ الاسمينِ دَعَوْتموه به جاز ثم استأنف ﴿مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى﴾ يعني أنَّ» ما «شرطٌ ثانٍ، و» فله الأسماءُ «جوابُه، وجوابُ الأول مقدِّرٌ. وهذا مردودٌ بأنَّ» ما «لا تُطْلق على آحاد أولي العلم، وبأنَّ الشرطَ يقتضي عموماً، ولا يَصِحُّ هنا، وبأن فيه حَذْفَ الشرط والجزاء معاً.
وقد تقدَّم الفرقُ بين الذُّل والذِّل في أولِ هذه السورة.
والمخافَتَةُ: المُسَارَّةُُ بحيث لا يُسْمَعُ الكلامُ. وضَرَبْتُه حتى خَفَتَ، أي: لم يُسْمَعْ له حِسٌّ.