ﰡ
قوله تعالى في شأن المنافقين وإظهارهم الإيمان مع إضمار الكفر «١» وعدم الأمر بقتلهم يدل على جواز استتابة الزنديق، فإنه تعالى ما أمر بقتلهم.
قوله تعالى: (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٩).
هو مجاز في حق الله تعالى، فإن الخديعة إخفاء الشيء. ولا يخفى على الله شيء. والقوم إن لم يعرفوا الله تعالى فلا يصح أن يقصدوه بالخداع، وكذلك إن عرفوه، ولكنهم عملوا عمل المخادع، ووباله «٢» رجع إليهم، وكأنهم إنما يخادعون أنفسهم.
أو يقال: يخادعون رسول الله...
وقوله تعالى: (يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (١٥).
يجوز أن يكون مقابلة الكلام بمثله، كقوله: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) «٣»، وكذلك (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) «٤» الآية..
(٢) أي نتيجة خداعهم.
(٣) سورة الشورى آية ٤٠.
(٤) سورة البقرة آية ١٩٤ ونص الآية: (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)..
ولما كانت جريمتهم أضر على المسلمين، أخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار، ودل على أن العقوبات في الدنيا ليست على أقدار الجرائم، وإنما هي على قدر مصالح الدنيا «١»، وجائز أن لا تشرع العقوبة في الدنيا أصلا وإنما تشرع في الآخرة.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مأمورا في ابتداء الإسلام بالصفح «٢» عنهم، والدفع بالتي هي أحسن، وفرض القتال بعد ذلك للمصلحة.
فيجوز أن يقتل من يظهر الكفر دون من يسر للمصلحة، ويجوز خلافه.
ويجوز أن يرد الشرع بقتل النسوان «٣» وأن يرد بخلافه، والعقل لا يمنع من ذلك.
قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) (٢٢).
إبانة للقدرة بأن جعلها على مثال الفراش، وليس ذلك لحكم الإطلاق فإنه لو حلف أن لا يبيت على فراش، فبات على الأرض لم يحنث، ولو قال: لا أقعد في السراج فقعد في الشمس لم يحنث، لأن الإطلاق لا ينصرف إليه... وكذلك في قوله: (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) «٤».. فأفهم الفرق بين العرف الشرعي واللغوي، والمذكور على وجه التقييد..
قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢٩) :
(٢) أي عن الكفار لا عن المنافقين كما يفهم من سياق كلام المؤلف.
(٣) ولكنه لم يرد الا بالنهي الا إذا قاتلن كما في الصحيح.
(٤) سورة النبإ آية ٧.
ودل قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً)، إلى قوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (٢٤). على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
وقال: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢٥) : وهو دليل على أنه أول مبلغ إليهم..
وقال العلماء: إذا قال أي عبد بشرني بولادة فلان فهو حر، أن الأول من المبشرين يعتق دون الثاني، لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره، وهو ما يحصل به الاستبشار ويأتي «٢» على بشرة الوجه.
ولو قال: أي عبد أخبرني بولادتها عتق الثاني مثل الأول، ولذلك يقال: ظهرت تباشير الأمر لأوائله، ولا تطلق البشارة في الشر إلا مجازا..
وقيل: هو عام فيما سر وغم، لأن أصله فيما يظهر أولا في بشرة الوجه من سرور أو غم، إلا أنه كثر فيما يسر فصار الإطلاق أخص به منه بالشر..
قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) (٤١).
يدل على أن الكفر وإن كان قبيحا، فالأول من السابق أشد قبحا، وأعظم لمأتمه وجرمه، لقوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) «٣».. الآية
(٢) أي ويظهر.. [.....]
(٣) سورة العنكبوت آية ١٣: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ).
وقال: «من سن سنة حسنة» «٤» الحديث.
وقوله: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٤٣).
يجوز أن يرجع إلى صلاة معهودة، متقدمة، ويجوز أن يكون مجملا موقوفا على بيان متأخر عند من يجوز ذلك.
(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) :
لعله ذكره لأن صلاة أهل الكتابين لا ركوع فيها، فأراد أن يخصص الركوع ليعلم به تميز صلاتنا عن صلاتهم..
قوله تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) (٥٩).
يدل على أنه لا يجوز تغيير الأقوال المنصوص عليها، وأنه يتعين اتباعها.
(٢) سورة المائدة آية ٣٢.
(٣) رواه البخاري، ج ٤، ص ١٠٦، ج ٩، ص ٣- ٤، ومسلم ج ١١، ص ١٦٦ نووي، والترمذي ج ٧ ص ٤٣٦ تحفة الأحوذى، وابن ماجة رقم ٢٦١٦، ومسند أحمد ج ٣ ص ٣٨٣ والنسائي كتاب التحريم، وهو هنا بالمعنى..
(٤) رواه مسلم، ج ١٦ ص ٢٢٦، والترمذي ج ٤ ص ١٤٩، وقال حسن صحيح، وأحمد ج ١ ص ١٩٢، وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وهو في الموطأ ص ١٥٢ ط: الشعب.
هو مقدم في التلاوة.
وقوله: (قَتَلْتُمْ نَفْساً) «١» (٧٢) مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة «٢».
ويجوز أن يكون في النزول مقدما وفي التلاوة مؤخرا..
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها، على حسب ترتيب تلاوتها، فكان الله تعالى أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها، ثم وقع ما وقع من أمر القتيل، فأمروا أن يضربوه ببعضها «٣»..
ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب ترتيب تلاوتها وإن كان مقدما في المعنى، لأن الواو لا توجب الترتيب، كقول القائل: أذكر إذ أعطيت زيدا ألف درهم إذ بنى داري، والبناء متقدم العطية. ونظيره في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله:
(قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ- إلى قوله- إِلَّا قَلِيلٌ) «٤»..
فذكر إهلاك من أهلك منهم، ثم عطف عليه بقوله:
(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها) «٥».
(٢) أي لأن الأمر بذبح البقرة إنما كان سببه قتل النفس كما في الجصاص.
(٣) قال الألوسي: والمشهور خلافه.
(٤) سورة هود آية ٤٠.
(٥) سورة هود آية ٤١.
وقد قيل: إنه كان عموما وكان ما ورد بعده نسخا..
فقيل له فهو نسخ قبل مجيء وقته.
فأجابوا: بأنه قد جاء وقته وقصروا في الأداء.
وقد قيل فهلا أنكر عليهم في أول المراجعة؟
فأجابوا: بأن التغليظ ضرب من الكبر.
ودل عليه قوله: (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٧١).
وقوله: (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (٦٨).
لا يعلم إلا بالاجتهاد، فهو دليل على جواز الاجتهاد، ودليل على اتباع الظواهر مع جواز أن يكون الباطن على خلافه.
وقوله: (مُسَلَّمَةٌ) (٧١) :
يعني من العيوب، وذلك لا يعلم حقيقة وإنما يعلم ظاهرا..
قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ... الآية) (٧٥).
دليل على أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد عن الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم يثنه ذلك عن عناده..
قوله تعالى: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (٨٠)، فيه رد على أبي حنيفة في استدلاله بقوله عليه السلام: «دعي الصلاة أيام حيضتك» «١».. في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة
فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) «١» وعنى به جميع الشهر، وقال: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) وعنى به أربعين يوما، وإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد.
ولعله «٢» أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع «٣».
قوله تعالى: (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) (٨١).
فيه دليل على أن المعلق من اليمين على شرطين لا يتنجز بأحدهما «٤» ومثله قوله تعالى:
(.. الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) «٥»..
قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (٨٣).
يجوز أن يكون مخصوصا بالمسلمين.
ويجوز أن يكون قد نسخه الأمر بقتال المشركين ولعنهم.
(٢) أي النبي صلّى الله عليه وسلم.
(٣) وهي المدة العادية للحيض. [.....]
(٤) حيث علق الجزاء وهو الخلود في النار بوجود الشرطين لأن الخطيئة لا تحيط الا بالكافر..
(٥) سورة فصلت آية ٣٠، وسورة الأحقاف آية ١٣.
قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها) (١١٤) :
قوله «منع» : نزل في شأن المشركين حين منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام، وسعيهم في خرابه بمنعهم من عمارته بذكر الله وطاعته.
وقوله: (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) (١١٤).
يدل على أن للمسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها، لولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها.
ويدل على مثل ذلك قوله تعالى: (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ) «٢» :
وعمارتها تكون ببنائها وإصلاحها، والثاني: حضورها ولزومها..
كما يقال: فلان يعمر مسجد فلان، أي يحضره ويلزمه..
قوله عز وجل: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) (١١٥).
يدل على جواز التوجه إلى الجهات في، النوافل، وللمجتهد جواز التعبد بالجميع..
وقوله: (وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) الآية (١١٦) :
(٢) سورة التوبة آية ١٧.
قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)، الآية (١٢٤).
دلت على أن التنظف ونفي الأوساخ والأقذار عن الثياب والبدن مأمور به، وقد قال سليمان بن فرج أبو واصل: أتيت أبا أيوب فصافحته فرأى في أظفاري طولا، فقال:
جاء رجل إلى النبي عليه السّلام يسأل عن أخبار السماء، فقال:
يجيء أحدكم فيسأل عن أخبار السماء وأظفاره كأنها أظفار الطير يجتمع فيها الوسخ والنفث؟
وقالت عائشة رضي الله عنها:
«خمس لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم: يدعهن في سفر ولا حضر:
المرآة، والكحل، والمشط، والمدري، والسواك» «٣».
قوله تعالى: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (١٢٤).
(٢) والحديث في مسلم: كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
(٣) قال العراقي في تخريج الأحياء: رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في سننه، والخرائطي في مكارم الأخلاق واللفظ له، وطرقه كلها ضعيفة.
أخبر الله تعالى إبراهيم أنه جاعله للناس إماما، وسأل إبراهيم ربه أن يجعل من ذريته أئمة، فقال تعالى:
(لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١٢٤).
ودل قول الله تعالى: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على أن الإجابة قد وقعت له في أن من ذريته أئمة، ولكن لا إمامة لظالم حتى لا يقتدى به، ولا يجب على الناس قبول قوله في أمر الدين.
نعم: كان يجوز أن تظهر المعجزة على يد فاسق ظالم، ويجب قبول قوله لوجود الدليل، وإن لم يجب قبول قول الفاسق، لعدم ظهور الصدق الذي هو دليل قبول قوله، فأما دليل المعجزة فلا يختلف بالظلم وعدمه عقلا، غير أن العصمة وجبت للأنبياء سمعا.
ويجوز عقلا وجوب قبول قول الفاسق، ولكن دلت هذه الآية على أن عهد الله تعالى لا ينال الظالمين.
فيحتمل أن يكون ذلك النبوة، ويحتمل أن يكون ما أودعهم من أمر دينه، وأجاز قولهم فيه، وأمر الناس بقبوله منهم.
ويطلق العهد على الأمر، قال الله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا) «١»، يعني أمرنا، وقال:
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) «٢». يعني: ألم أقدم إليكم الأمر به.
(٢) سورة يس آية ٦٠.
قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً «١» لِلنَّاسِ وَأَمْناً)، يحتج به في كون الحرم مأمنا، ويحتمل أن يكون معناه جميع الحرم، كقوله:
(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) «٢». وقوله: (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) «٣». إلا أن معناه أنه مأمن عن النهب والغارات، ولذلك قال النبي عليه السّلام في خطبته يوم فتح مكة:
«إن الله حبس عن مكة الفيل، وملك عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» «٤».
نعم، قد روى أبو شريح الكعبي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
«إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يسفكن فيها دم، وإن الله تعالى حلها لي ساعة ولم يحلها للناس» «٥».
(٢) سورة البقرة آية ١٩١.
(٣) سورة التوبة آية ٢٨.
(٤) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب تحريم مكة وتحريم صيدها.
(٥) أخرجه البخاري بنحوه في الحج، ومسلم في صحيحه ج ٩ ص ١٢٦ نووي.. [.....]
وقوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (١٢٥).
يدل على ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات.
وقوله: (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١٢٥).
يدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، والصلاة للمقيمين والعاكفين بها أفضل..
ويدل على اشتراط الطهارة للطواف، ويدل على جواز الصلاة في نفس الكعبة ردا على مالك في منع الصلاة المفروضة في الكعبة «١». دون النفل.
وأمره بتطهير نفس البيت يدل على الصلاة- التي شرعت الطهارة فيها- في نفس البيت.
ودل أيضا قوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) «٢» على جواز الصلاة «٣»، إذ الشطى الناحية، والمصلّى في البيت متوجه إلى ناحية منه.
(٢) سورة البقرة آية ١٤٤.
(٣) أي فهي البيت.
يعني من القحط والغارة لا على ما ظنه بعض الجهال أنه يمنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل. فإن ذلك يبعد كونه مقصودا لإبراهيم عليه السّلام حتى يقال: إنه طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم ممن حرم الله تعالى عليه دخول الحرم والمقام فيه وأمره بالخروج ومنع من معاملته. وتعزيره على ظلمه دون أن يكون مراده منه رفع القبّر؟؟؟ «١» والغارات والنهوب والقتال خاصة إذا قيل: يجوز قطع الأيدي في السرقة وإقامة الجلدات في الجرائم الموجبة لها. وكيف يحصل معنى الأمن مع هذا؟
ودل سياق الآية على ذلك. فإنه تعالى قال:
(وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) «٢».
وقال: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) «٣».
ومنع الله تعالى من اصطلام «٤» أهلها ومنع من الخسف والغرق الذي لجوّ غيرها وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار أهلها متميزين بالأمن عن غيرهم من أهل القرى.
قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) «٥»، يوجب الطواف
(٢) سورة ابراهيم آية ٣٧.
(٣) سورة ابراهيم آية ٣٧.
(٤) الاصطلام: الاستئصال واصطلم القوم أبيدوا.
(٥) سورة الحج آية ٢٩.
قوله: (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) (١٢٧).
معناه: يقولان ربنا كما قال تعالى:
(وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) «٢» معناه: يقولون: أخرجوا أنفسكم.
قوله تعالى: (أَرِنا مَناسِكَنا) (١٢٨).
يقال أن أصل النسك في اللغة الغسل يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله وهو في الشرع اسم للعبادة يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا.
وقال البراء ابن عازب:
خرج النبي عليه السّلام يوم الأضحى فقال:
«إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح» «٣».
وقال عز وجل: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) «٤» يعني ذبح شاة.
ومناسك الحج: ما يقتضيه من الذبح وسائر أفعاله.
وقال عليه السّلام حين دخل مكة محرما:
«خذوا عني مناسككم» «٥».
(٢) سورة الأنعام آية ٩٣.
(٣) أخرجه أبو داود الطيالسي ووهب بن جرير عن شعبة عن زبيد اليامى عن الشعبي عن البراء بن عازب. انظر شرح معاني الآثار للطحاوي ج ٤ ص ١٧٣ وهو في البخاري كتاب العيدين بنحوه.
(٤) سورة البقرة آية ١٩٦.
(٥) الحديث رواه الامام مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي.
يدل على لزوم اتباع إبراهيم في شرائعه فيما لم يثبت نسخه.
وقوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢).
يدل على جواز النسخ: لقوله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ومعناه: أن الجهات لا تقتضي التوجه في الصلاة إليها لذواتها وإنما وجود التوجه إليها بإيجاب الله تعالى.
وقد دلت الآية أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن «١» لأن النبي عليه السّلام كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس- وليس في القرآن ذكر ذلك- ثم نسخ.
ومن يأبى ذلك يقول: قد ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى:
(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) «٢». وكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة.
ولما نسخت القبلة إلى بيت المقدس وصل الخبر إلى أهل قباء في صلاتهم فاستداروا ففهم منه أن الأمة إذا عتقت وهي في الصلاة أنها تأخذ قناعها وتبني وهذا أصل في قبول خبر الواحد في أمر الدين.
ويدل على جواز ثبوت نسخ بقاء الحكم بعد الأمر الأول بقول الواحد.
وأن الدليل الموجب للعلم بثبوت الحكم غير الدليل المبقي ولذلك
(٢) سورة البقرة آية ١١٥.
ويمكن أن يفهم منه أن المتيمم إذا رأى الماء في خلال الفلاة يتوضأ ويبنى.
وقوله تعالى: (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١٤٤) «١» :
خطاب لمن كان معاينا للكعبة ولمن كان غائبا عنها.
والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها ومن كان غائبا عنها ولا يمكنه إصابة عينها فلا يكلف ما لا يطيق وإنما سبيله الاجتهاد فهو دليل على استعمال الأدلة وهو سبيل القياس في الحوادث أيضا.
ويدل على أن الأشبه من الحوادث حقيقة مطلوبة بالاجتهاد ولذلك صح تكليف طلب القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة ولو لم يكن هناك قبلة رأسا لما صح تكليفنا طلبها.
قوله: َ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
«٢» وَمُوَلِّيها) (١٤٨) :
يفيد أن لكل قوم من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق إلى جهات الكعبة وراءها وقدامها وعن يمينها أو شمالها كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها.
(٢) والوجهة هيئة التوجه وتطلق على المكان المتوجه اليه والمراد أن لكل حالة في التوجه الى القبلة مكان يتوجه اليه.
(١٤٨) :
يدل على أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها.
قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (١٥٠).
من الناس من يحتج به في جواز الاستثناء من غير جنسه وقد قال قوم: هو استثناء منقطع «١» ومعناه: لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضيعون موضع الحجة وهو مثل قوله:
(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) «٢». معناه: لكن اتباع الظن.
وقال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم | بهنّ فلول من قراع الكتائب |
وقيل: أراد بالحجة المحاجة والمجادلة ومعناه: لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلّا الذين ظلموا منهم يحاجونكم بالباطل.
قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (١٥٢).
يحتمل التفكر في دلائله.
ومثله قوله: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) «٣».
(٢) سورة النساء آية ١٥٧.
(٣) سورة الرعد آية ٢٨.
عقب قوله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).
يدل على أن الصبر وفعل الصلاة معونة في التمسك بأدلة العقول الدالة على وحدانيته.
وهو مثل قوله: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) «١» أخبر أن فعل الصلاة لطف في ترك الفحشاء والمنكر ثم عقبه بقوله:
(وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ).
يعني أن ذكر الله تعالى بالقلب في دلائله أكبر من فعل الصلاة وأن فعل الصلاة معونة في التمسك بهذا الذكر ولطف في إدامته.
قوله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ) الآية (١٥٤) :
قيل دليل على إحياء الله الشهداء بعد موتهم لا حياة القيامة فإنه قال: «ولكن لا تشعرون».
وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم وفيه دليل على عذاب القبر.
قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (١٥٥) :
فقدم ذكر ما علم أنه يصيبهم ليوطنوا أنفسهم عليه فيكون أبعد لهم من الجزع ويكونوا مستعدين له فلا يكون كالهاجم عليهم.
قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) (١٥٦) :
يعني إقرارهم بالعبودية في تلك الحالة بتفويض الأمور إليه والرضا بقضائه فيما يبتليهم به وأنه لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى:
(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) «١».
وقوله: (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار بالبعث وأن الله تعالى يجزي الصابرين على قدر استحقاقهم.
ثم الصبر على جهات مختلفة:
فما كان على فعل الله تعالى فهو بالتسليم والرضا وما كان من فعل العدو فهو بالصبر على جهادهم والثبات على دين الله تعالى لما يصيبهم من ذلك.
ونبهت الآية على فرح الصابرين وما في الصبر من تسلية عن الهم ونفي الجزع وفيه صبر على أن الفرائض لا يثنيه عنها مصاعب الدنيا وشدائدها..
وفي التلفظ بقوله تعالى: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) غيظ الأعداء لعلمهم بجده واجتهاده ويقتدي به غيره إذا سمعه وربما ترقى الأمر بالصابر المفكر في الدنيا إلى أن- لا يحب- البقاء فيها وهو الزهد في الدنيا والرضا بفعل الله تعالى عالما بأنه صدر من عند من لا يتهم عدله
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) (١٥٩) مع أمثاله في القرآن:
يدل على وجوب إظهار علوم الدين وتبيينها للناس وعم ذلك المنصوص عليه والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع.
وفيه دليل على وجوب قبول قول الواحد لأنه لا يجب البيان عليه إلا وقد وجب قبول قوله..
وقال: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) (١٦٠). فحكم بوجوب البيان بخبرهم.
فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر بهم الخبر..
قلنا: هذا غلط لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه.
ومتى جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ في النقل فلا يكون خبرهم موجبا للعلم.
ودلت الآية أيضا على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه ومنع أخذ الأجرة عليه إذ لا تستحق الأجرة على ما عليه فعله كما لا يستحق الأجرة على الإسلام.
وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) «١».
(وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) مانع من أخذ البدل عليه من سائر الوجوه إذ كان الثمن في اللغة هو البدل.
وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) (١٦٠) :
يدل على أن التوبة من الكتمان إنما تكون بإظهار البيان وأنه لا يكتفي في صحة التوبة بالندم على الكتمان فيما سلف دون البيان فيما يستقبل..
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ) (١٦٠).
فيه دليل على أن على المسلمين لعن من مات كافرا وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنه مذمة لعن المسلمين وكذلك إذا جن الكافر وأنه ليس لعنتنا له بطريق الزجر عن الكفر بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره..
وقد قال قول من السلف إنه لا فائدة في لعن من مات أو جن منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر فإنه لا يتأثر به..
والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر به ويتألم قلبه ويكون ذلك جزاء على كفره كما قال تعالى:
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) «١»..
ويدل على صحة هذا القول أن الآية دالة على الإخبار من الله تعالى بلعنهم لا على الأمر..
دل على الاتحاد في الذات والصفات واستحالة المثل والاتحاد في الوجوه منفردا بالقدم فانتظم وصفه لنفسه بأنه واحد هذه المعاني..
وقوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١٦٤) :
بيان توحده في أفعاله وأمر لنا بالاستدلال بها ردا على من نفى حجج العقول..
واعلم أن الدلالة الأصلية على الصانع إثبات حدوث الأجسام والجواهر أما قوله تعالى على التفصيل: (إِنَّ فِي خَلْقِ «١» السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو من جهة وقوف السماء على غير عمد ودلالة ذلك من جهة السكون أو الحركة..
وفيه شيء آخر وهو أن وقوف الثقيل بلا مساك «٢» يقله تتعجب منه العامة مع أن الثقل لا معنى له إلا اعتمادات يخلقها الله تعالى وليس يجب هوى الجرم وذهابه في جهة دون جهة من جهة كثرة الأجزاء وقلتها غير أن وقوف العظيم غير هاو متعجّب منه عند من لا يعرف السبب فيه..
ولا سبب للسكون إلا خلق الله تعالى السكون فيه ولا يقف حجر في الهواء من غير علاقة «٣» ودل ذلك على القدرة وخرق العادة:
ولو جاء نبي وتحدى بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا..
(٢) أي بلا شيء يمسك به يستطيع حمله.
(٣) بكسر العين ما يحمل به.
ودل اتساق هذه الأفعال وحركات الفلك على أن لها صانعا عالما قادرا يدبرها ويديرها.
ودلالة الفلك من جهة أن الجسم السيال كيف يحمل الثقل العظيم وكيف صار الفلك على عظمه وثقل ما فيه مسخرا للرياح وذلك يقتضي مسخرا يسخر الفلك والماء والرياح.
والماء المنزل من السماء فيه دليل من جهة أن الماء شابه السيلان فارتفاعه عجب ثم إمساكه في السحاب غير سائل منه حتى ينقله إلى الموضع الذي يريده بالسحاب المسخرة لنقله فيه فجعل السحاب مركبا للماء والرياح مركبا للسحاب حتى يسوقه من موضع إلى موضع ليعم نفعه سائر خلقه كما قال الله تعالى:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) «١». ثم أنزل ذلك الماء قطرة قطرة لا تلتقي واحد مع صاحبتها في الجو مع تحويل الرياح لها حتى تنزل كل قطرة على حيالها إلى موضعها من الأرض فلولا أن مدبرا دبره على هذا الوجه كيف كان يجوز أن ينزل الماء من السحاب مع كثرته وهو الذي تسيل منه السيول العظام على هذا الترتيب والنظام فلو اجتمع القطر وائتلف في الجو لقد كان يكون نزولها مثل السيول المجتمعة منها عند نزولها إلى الأرض فيؤدي ذلك إلى هلاك الحرث والنسل.
واعلم أن من عرف حدوث العالم لأمر مرّ يعلم أن فعل الله تعالى
ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما أعطوا بل جعل لهم قوتا معلوما في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا ويكونوا مستشعرين بالافتقار إليه في كل حال.
ووكل إليهم بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة ليشعرهم أن للأعمال ثمرات من الخير والشر فيكون ذلك باعثا لهم إلى فعل الخير ليجتنوا ثمرته واجتناب الشر ليسلموا من مغبته فيتولى من الأسباب ما لا يتأتى للخلق تحصيله.
ثم جعل تلك الأسباب داعية لهم إلى الكسب والتبذل في الأعمال الشاقة لئلا يبطروا وجعل أخلاقهم متفاوتة ليختلف بذلك صناعاتهم ويختلف درجاتهم في المهن والأعمال وأنزل ما أنزل إلى الأرض بمقدار الحاجة ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت نزوله حتى جعل للماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيها ذلك الماء فيخزن أولا فأولا على مقدار الحاجة كما قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ)
«١» وقال:
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) «٢»..
ولو كان اقتصر على ما ينزل من السماء من غير حبس له في الأرض إلى وقت الحاجة لكان قد سال كله وكان في ذلك هلاك الحيوانات كلها فجعل الأرض بمثابة بيت يأوي إليه الإنسان والسماء بمنزلة السقف وجعل ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان والملابس والمطاعم بمنزلة ما ينقله الإنسان إلى بيته لمصالحه.
ثم سخر هذه الأرض لنا وذللها للمشي عليها وسلوك طرقها ومكننا من الانتفاع بها في بناء الدور والبيوت للسكن من المطر والحر والبرد وتحصينا من الأعداء ولم يحوجنا إلى غيرها وأي موضع أردنا منها بالانتفاع بها «٣». في إنشاء الأبنية مما هو موجود فيها من الحجارة والجص والطين ومما يخرج منها من الخشب والحطب أمكننا ذلك.
وسهل علينا سوى ما أودعها من الجواهر التي عقد بها منافعها من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك كما قال تعالى: (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) «٤»..
فهذه كلها وما يكثر تعداده ولا يحيط به علمنا من بركات الأرض ومنافعها..
ثم لما كانت مدة أعمارنا وسائر الحيوان لا بد أن تكون متناهية جعلها كفاتا لنا بعد الموت كما جعلها في الحياة فقال:
(٢) سورة المؤمنون آية ١٨.
(٣) في الجصاص: فأي موضع منها أردنا الانتفاع به في إنشاء الأبنية.
(٤) سورة فصلت آية ١٠.
(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) «٢» الآية..
ثم لم يقتصر فيما خلق من النبات والحيوان على الملذ دون المؤلم، ولا على الغذاء دون السم، ولا على الحلو دون المر، بل مزج ذلك كله ليشعرنا أنه غير مريد منا الركون إلى هذه الدار، لئلا تطمئن نفوسنا إليها فنشتغل بها عن الدار الآخرة التي خلقنا لها، فكان النفع في خلق الدواب المؤذية كالنفع في اللذة السارة، ليشعرنا في هذه الدار كيفية الآلام، ليتضح الوعيد بألم الآخرة، وينزجر عن القبائح، فإذا رأى حرّا مفرطا تذكر نار جهنم فيتعوذ بالله منها، وإذا رأى بردا مفرطا تذكر برد الزمهرير فيتعوذ منه، واستدل بالقليل الفاني على الكثير الباقي، وانزجر عن القبائح طلبا لنعيم محض لا يشوبه كدر.
وفي قوله تعالى: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) (١٦٤) دلالة على إباحة ركوب البحر تاجرا وغازيا، وطالبا صنوف المآرب.
وقال في موضع آخر:
«هو الّذي يسيّركم في البرّ والبحر» «٣». وقال:
«ربكم الّذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله» «٤»..
(٢) سورة الكهف آية ٧، ٨ وتمام الآية (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً).
(٣) سورة يونس آية ٢٢.
(٤) سورة الأسراء آية ٦٦.
(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) «٢».
(أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) «٣».
قوله تعالى: (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) (١٧٣) عموم في السمك والجراد وغيرهما.
وللناس كلام في جواز تخصيص عموم كلام الله تعالى بالسنة، وقد روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالطحال والكبد».
وقد روى عمرو بن دينار عن جابر في قصة جيش الخبط «٤» :
فإن البحر ألقى إليهم حوتا أكلوا منه نصف شهر، فلما رجعوا إلى النبي عليه السلام فأخبروه، فقال: هل عندكم منه شيء تطعموني؟
وبالجملة: الخبر عام، وأيضا الكتاب عام، فإذا وقع التنازع في الطافي «٥»، لم يصح الاستدلال بعموم الخبر على عموم الكتاب..
ومنهم من يستدل على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى:
(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ) «٦».
(٢) سورة الجمعة آية ١٠.
(٣) سورة البقرة آية ١٩٨ وأولها: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ).
(٤) الخبط بفتح المعجمة والموحدة: ورق السلم، نوع من الأشجار.
(٥) أي السمك الطافي وهو الذي يموت حتف أنفه.
(٦) سورة المائدة آية ٩٦. [.....]
واستدلوا عليه بقول النبي عليه السلام أنه قال في حديث صفوان بن سليمان الزرقي. عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة (عن أبي هريرة) عن النبي عليه السلام أنه قال في البحر:
«هو الطهور ماؤه، الحل ميتته»..
وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالتبت، وقد خالفه في سنده يحيى ابن سعيد الأنصاري فرواه عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبيه، عن رسول الله عليه السلام، ومثل هذا الاضطراب في السند يوجب اضطراب الحديث، وغير جائز تخصيص آية محكمة به.
وقد روى زياد بن عبد الله البكائي قال: حدثنا سليمان الأعمش، قال: حدثنا أصحابنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«البحر الذكي صيده، والطهور ماؤه»..
وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول.
وقد روي فيه حديث آخر، وهو ما رواه يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن أبي معاوية العلوي، عن مسلم بن إبراهيم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له في البحر:
«هو الطهور ماؤه الحل ميتته»..
قال أبو بكر الرازي، وهو الذي روى هذه الأخبار:
وحدثنا عبد الباقي بن قانع، قال أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: أخبرنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال:
أحكام القرآن ج ١ م ٣
وأما أبو عيسى الترمذي فإنه يروي حديث سعيد بن سلمة في صحيحه، ويقول: إنه من آل ابن الأزرق، ويقول: إن المغيرة بن أبي بردة- وهو من بني عبد الدار- أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول:
«سأل رجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من البحر؟..
فقال عليه السلام: «البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته».
قال أبو عيسى: وفي الباب عن جابر والفراسي، ثم قال وهذا حديث حسن صحيح..
وروى الرازي عن علي أنه قال:
«ما طفا من صيد البحر فلا تأكله» «١».
وروى أيضا عن جابر وابن عباس كراهة الطافي.
وروى عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب إباحة الطافي من السمك..
وروى الرازي في أحكام القرآن- بإسناد له متصل عن جابر- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«ما ألقى البحر أو جزر «٢» عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه»..
(٢) جزر: نضب وبابه ضرب ونصر.
«ما جزر البحر عنه فكل «١»، وما ألقي فكل، وما وجدته طافيا فوق الماء فلا تأكل».
وروي بإسناد آخر عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«إذا صدتموه (وهو حي) فكلوه، وما ألقى البحر (حيا) فمات فكلوه وما وجدتموه ميتا طافيا فلا تأكلوه»..
وروي بإسناد آخر عن جابر:
«ما وجدتموه وهو حي (فمات) فكلوه، وما ألقى البحر طافيا ميتا فلا تأكلوه»..
وروى «٢» سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير موقوفا على جابر..
وبالجملة: هذه الأخبار لا نعرف صحتها على ما يجب، ولكن الإشكال في عموم كتاب الله تعالى، ويقابله أن عموم كتاب الله تعالى أنفقت الأمة على تطرق التخصيص إليه في غير الطافي من ميتات السمك فلم يبق وجه العموم معمولا به، وصار الحديث المتفق على صحته واستعماله في غير الطافي معمولا به في الطافي..
وروى أصحابنا عن سعيد بن بشير، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قال:
(٢) أي روى هذا الحديث كما في الجصاص.
وأبان بن أبي عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته.
وقال شعبة: لأن أزني سبعين زنية أحب إليّ من أن أروى عن ابان ابن أبي عياش..
وقد أباح أبو حنيفة الميتة من الجراد «١»، ومستنده قوله عليه السلام:
«أحلت لنا ميتتان» «٢»، وقضى بذلك على عموم الكتاب في تحريم الميتة، مع أن مالكا يقول في الجراد أنه إذا أخذ حيا وقطع رأسه وشوي أكل، وما أخذ منه حيا فغفل عنه حتى مات لم يؤكل، إنما هو بمنزلة ما وجد ميتا قبل أن يصاد فلا يؤكل عنده، وهو قول الزهري وربيعة..
وقال مالك: ما قتله مجوسي فلا يؤكل..
وقال الليث بن سعد: أكره الجراد ميتا، فأما إذا أخذته وهو حي فلا بأس به وقال النبي عليه السلام في الجراد:
«أكثر جنود الله: لا آكله ولا أحرمه» «٣» ولم يفصل بين ما مات وبين ما قتله آخذه..
وقال عطاء عن جابر: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأصبنا جرادا فأكلناه..
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) رواه أبو داود عن سلمان، ورواه ابن عدى عن ابن عمر.
«غزوت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبع غزوات فنأكل الجراد ولا نأكل غيره» «١»..
وكانت عائشة تأكل الجراد وتقول: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأكله»..
وهذه الأخبار مستعملة بالإجماع في تخصيص بعض ما تناوله عموم الكتاب في السمك والجراد، وذلك يدل على بطلان مذهب مالك في الجراد، ومذهب أبي حنيفة في الطافي..
ولأن إسالة الدم إذا لم تعتبر فأي معنى لاشتراط الذكاة في النوعين، وأي أثر للآدمي واصطياده؟..
ودل ظاهر تحريم الميتة والمنخنقة على تحريم الأجنة كما قاله أبو حنيفة، وخالفه فيه صاحباه مع الشافعي..
ومالك يقول: إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا لم يؤكل «٢» :
وهو قول سعيد بن المسيب، لأنه عند تمام خلقه تحصل فيه الحياة والذكاة، وقبل ذلك لا حياة، فيبقى على عموم تحريم الميتة.
وذلك ضعيف، فإنه إن لم يكن حيا فلا يكون ميتة، فالميتة ما زايلتها الحياة..
وقد وردت أخبار في أن ذكاة الجنين ذكاة أمه، وبعد حملها على
(٢) راجع الموطأ كتاب الذبائح باب ذكاة ما في بطن الذبيحة.
وقد روى مجالد عن أبي الوداك، عن أبي سعيد أن النبي عليه السلام سئل عن الجنين يخرج ميتا فقال:
«إن شئتم فكلوه، فإن ذكاته ذكاة أمه» «١».
وأما مالك فإنه ذهب إلى ما روى في حديث سليمان بن عمران عن ابن البراء، عن أبيه، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضى في أجنة الأنعام بأن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت.
وروى الزهري عن ابن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقولون:
(إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه»..
والشافعي يقول: «نحن نقول بهما جميعا، إلا أن ذكر الإشعار كان تنبيها على مثله في الذي هو أولى بكونه جزءا من الأم».
واقتضى عموم تحريم الميتة المنع من دبغ جلدها، لولا الخبر المخصّص «٢» واقتضى ظاهر الآية أيضا تحريم الانتفاع بدهن الميتة، وروى فيه محمد ابن إسحاق، عن عطاء، عن جابر قال:
(٢) روى مالك بسنده عن عبد الله بن عباس أنه قال: «مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشاة ميتة كان أعطاها مولاة لميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: أفلا انتفعتم بجلدها؟ فقالوا: يا رسول الله، انها ميتة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
انما حرم أكلها» ورواه البخاري في الزكاة ومسلم وشرح النووي (كتاب الحيض) وفي رواية لمسلم: إذا دبغ الإهاب فقد طهر.
«لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها» «٢» فبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أن الله تعالى إذا حرم شيئا حرمه على الإطلاق، ودخل تحته تحريم البيع..
وذكر عن عطاء أنه قال: يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، وهذا قول شاذ، فظن أصحاب أبي حنيفة ان تحريم الله تعالى عين الميتة منع الانتفاع بالميتة من الوجوه كلها، ومنع بيعها، ويجوز بيع الأعيان النجسة غير الميتة، إذ التحريم فيها ليس مضافا إلى العين.
قال الشافعي رحمه الله: ينبغي من قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) تحريم لبنها، وأبو حنيفة حكم بطهارة أنفحتها وألبانها، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجيس ما جاوره بما حدث فيه خلقة، قال:
ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق بمع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير غسل ولا تطهير لها، فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه، ويلزمه على مساق هذا الحكم بطهارة ودك الميتة، فإن الموت لا يحله أصلا، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها..
وله أن يقول: إن الودك في حكم الجزء الباقي معه، واللبن خلق خلقا ينفصل عن الأصل فيحتلب ويستخرج منه، ولو انفصل الودك من الجملة في حياة الجملة كان نجسا بخلاف اللبن، فإذا لم ينجس اللبن
(٢) رواه ابن ماجة.
والشعر والعظم من جملة الميتة، فعموم التحريم يشملهما.
قوله تعالى: «وَالدَّمَ» أوجب تحريم الدم مطلقا، وقال في موضع آخر:
(أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) «١»، فلعل التقييد بالسفح تنبيه على ما يمكن سفحه ليخرج منه الكبد والطحال «٢»، أو لئلا تتبع العروق وما فيها من الدم في اللحم «٣»..
وقال تعالى: (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) بعد قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) «٤»، وقال: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) - إلى قوله- (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ)، فخص اللحم بالذكر، ولم يقل «حرمت الخنزير» كما قال: «حرمت الميتة» لأنه معظم ما يقصد منه، وفيه مراغمة للكفار الذين يتدينون بأكل لحمه، ومثله تحريم قتل الصيد
(٢) قال ابن العربي: والصحيح أنه لم يخصص وأن الكبد والطحال لحم، يشهد بذلك العيان الذي لا يعارضه بيان ولا يفتقر الى برهان.. ويمكن أن يرد عليه بما ورد «أحلت لنا ميتتان ودمان..».
(٣) وفي الجصاص: روى القاسم بن محمد عن عائشة أنها سئلت عن الدم يكون في اللحم والمذبح، قالت: انما نهى الله عن الدم المسفوح، ولا خلاف بين الفقهاء في جواز أكل اللحم مع بقاء أجزاء الدم في العروق لأنه غير مسفوح، ألا ترى أنه متى صب عليه الماء ظهرت تلك الأجزاء فيه..
(٤) سورة المائدة آية ٣.
فقيل لهم: فلم لا يخص كجسم الميتة تنبيها على الإجزاء؟..
فأجابوا بأنه أريد به مراغمة الكفار في تخصيص اللحم الذي هو أعظم مقاصدهم من الخنزير بالتحريم..
قوله تعالى: (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) (١٧٣)، ولا يرى ذلك أصحابنا محرما إلا من جهة الإعتقاد، ومقتضاه أن النصراني إذا سمى المسيح على الذبح يحل، وهو ظاهر مذهب الشافعي ومذهب عطاء ومكحول والحسن وسعيد بن المسيب، والمشرك وإن ذبح على اسم الله تعالى لا يحل.
ونقل عن الشافعي خلاف ذلك في النصراني يذبح على اسم المسيح، وليس بصحيح، فإن الله تعالى أباح لنا أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح، وأن النصراني إذا سمى الله عز وجل ثالث ثلاثة فإنما يريد بمطلقه المسيح، وذلك معلوم من اعتقاده، وبه كفرناه، وليس كالمنافق الذي ليس يحكم بكفره ظاهرا بما يعتقده، والنصراني حكم بكفره لما يعتقده من الشرك فلا يغيره بالتسمية مع الإعتقاد القبيح «١».
قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (١٧٣) يحتمل غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل، ويحتمل العدوان بالسفر، فلا جرم اختلف قول الشافعي في إباحة أكل الميتة للمضطر العاصي بسفره.
ويشهد لأحد القولين قوله تعالى: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) «٢»، فإنه عام.
ويشهد للقول الآخر قوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) «٣»...
(٢) سورة المائدة آية ١١٩.
(٣) سورة النساء آية ٢٩.
وليس تناول الميتة من رخص السفر، أو متعلقا بالسفر، بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء، وهو الصحيح عندنا..
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ «١» فِي الْقَتْلى) الآية: (١٧٨) ظن ظانون أن أول الكلام تام في نفسه، وأن الخصوص بعده في قوله: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) لا يمنع من التعلق بعموم أوله، وهذا غلط منهم، لأن الثاني ليس مستقلا دون البناء على الأول، إذ قول القائل: «الحر بالحر والعبد بالعبد» لا يفيد حكم القصاص إلا على وجه البناء على الأول، فإن الثاني ليس الأول، وتقديره: كتب عليكم القصاص وهو الحر بالحر قصاصا، والعبد بالعبد قصاصا، فوجب بناء الكلام عليه.
قالوا: أمكن أن يقال: كتب عليكم القصاص مطلقا، وقوله:
(الْحُرُّ بِالْحُرِّ) لنفي قتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام:
«إن من أعنى الناس على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: رجل قتل غير
والذي قالوه ممكن، إلا أن الأظهر ما قلناه من جعل القصاص على هذا الوجه، فتقديره: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) وكيفيته (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) الآية..
فمن هذا صار الشافعي إلى أن الحر لا يقتل بالعبد.
ونفى أبو حنيفة القصاص بين الأحرار والعبيد مطلقا من الجانبين إلا في النفس.
وأجرى ابن أبي ليلى القصاص بينهم في جميع الجراحات التي يستطاع فيها القصاص..
وقال الليث بن سعد: إذا كان العبد هو الجاني اقتص منه في الأطراف والنفس، ولا يقتص من الحر بالعبد.
وقال: إذا قتل العبد الحر فلولي القتيل أن يأخذ نفس العبد القاتل فيكون له، وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء..
وقال قائلون من علماء السلف: يقتل السيد بعبده.
وكل ذلك من حيث التعلق بعمومات وردت في القصاص.. ، ورووا عن سمرة بن جندب، عن النبي عليه السلام أنه قال:
والذي ينفيه يقول: إنما جعل الله تعالى للولي السلطان في القصاص «٢»، وولي العبد سيده، فلا يستحق القصاص على نفسه، إذ ليس يستحق السيد القصاص على وجه الإرث انتقالا من العبد إليه، فلا ملك للعبد، وإنما يستوفي الإمام نيابة عن المسلمين إذا كان القصاص ثابتا للمسلمين إرثا، ولا يمكن ذلك في حق العبد.
ولا خلاف أنه لو قتل السيد عبده فلا خطأ فلا تؤخذ قيمته منه لبيت مال المسلمين.
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي عليه السلام، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين.
ولم يقده به» «٣».
ويحمل خبر سمرة على أنه كان بعد عتقه ثم قتله أو جدعه، فسماه عبدا استصحابا للاسم السابق..
ولهم أن يقولوا: وخبركم حكاية حال، فيحمل على أنه كان كافرا، أو أباح العبد له دم نفسه..
وقال الشافعي: يجري القصاص بين الرجال والنساء في النفس وما دونها من الأطراف، وهو قول مالك وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي،
(٢) حيث قال: «ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا» سورة الإسراء آية ٣٣.
(٣) رواه ابن ماجة ولفظه: قتل رجل عبده عمدا متعمدا، فجلده رسول الله صلّى الله عليه وسلم مائة، ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين.
وقال عثمان البتي «١» : إذا قتلت امرأة رجلا قتلت، وأخذ من مالها نصف الدية، وكذلك فيما دون النفس، وإن قتلها الرجل فعليه القود ولا يرد عليها شيء..
وعمدة من أوجب القصاص التعلق بالعمومات»
ولا مخصص، وليس في شيء منها ضم الدية إلى القصاص..
وقال عليه السلام: من قتل قتيلا فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية» «٣»، ولم يذكر التخيير.
وترك الشافعي العمومات في قتل المسلم بالكافر لأنها منقسمة، فمنها قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى).. ومساق ذلك يدل على الإختصاص بالمسلم، فإنه قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، ولا يكون الكافر أخا للمسلم، وقال: (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).
وأما قوله: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) «٤». فلا حجة فيه، فإنا نجعل له سلطانا وهو طلب الدية.
وأما قوله: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) «٥». فإخبار عن شريعة
(٢) مثل: «كتب عليكم القصاص في القتلى» وغيرها..
(٣) رواه البخاري، كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، وأبو داود، ورواه ابن ماجة رقم ٢٦٢٤. [.....]
(٤) سورة الإسراء آية ٣٣.
(٥) سورة المائدة آية ٤٥.
وروى البيلماني ومحمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام أنه أفاد مسلما بكافر، وقال: «أنا آخر من وفى بذمته» «١»، وهما مرسلان لم يلقيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم..
وتأول من أوجب قتل المسلم بالكافر ما روي أنه عليه السلام قال:
«ألا لا يقتل مؤمن بكافر» «٢» على أنه ذكره في خطبته يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل الجاهلية، فقال عليه السلام: «ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» «٣»، فكان ذلك تفسيرا لقوله عليه السلام: «كل دم كان في الجاهلية تحت قدمي هاتين».
لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وذكر أهل المغازي أن عقد الذمة على الجزية كان بعد فتح مكة، وأنه كان قبل ذلك بين النبي صلّى الله عليه وسلم والمشركين عهود إلى مدد، على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه، وكان قوله يوم فتح مكة: «لا يقتل مؤمن بكافر» منصرف إلى المعاهد إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه..
(٢) البخاري بنحوه (باب كتابة العلم)، وباب لا يقتل المسلم بالكافر من كتاب الديات، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجة رقم ٢٦٦٠ ولفظه: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بعهده، وأبو داود باب أيقاد المسلم بالكافر؟
(٣) رواه أبو داود وابن ماجة وله طرق حسنة.
وكان المشركون حينئذ ضربين:
أحدهما: أهل الحرب، والآخر: أهل العهد، ولم يكن هناك أهل ذمة، فانصرف الكلام إلى الضربين «٣».
وورود هذا الحديث في خطبة الوداع يبطل هذا التأويل جملة.. «٤»
وقال عثمان البتي: يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص، وروى مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن، وتلك الأخبار منها ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
«لا يقتل والد بولده» «٥».
(٢) سورة التوبة آية ٢.
(٣) قال ابن السمعاني: وأما حملهم الحديث على المستأمن فلا يصح لأن العبرة بعموم اللفظ- أي في قوله: «ولا يقتل مؤمن بكافر» - حتى يقوم دليل على التخصيص، فتح الباري، ج ١، ص ٢٨٦.
(٤) لأنه قرر حكما عاما بعد انتهاء مدة العهد، ولم يكن مرتبطا بظروف خاصة كما كان القول عند فتح مكة.
(٥) قال ابن العربي حديث باطل، وهو في سنن ابن ماجة رقم ٢٦٦١، ٢٦٦٢.
وقال الجصاص: هذا خبر مستفيض مشهور، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه. ورواه أحمد والنسائي كما في زاد المعاد.
«لا وصية لوارث» في الاشتهار..
وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل الأول «١».
وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقاد الوالد بالولد»..
ومنهم الذين نفوا القول من قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) «٢». الآية، أنه لا يقتل الوالد بمن وليه ابنه إذا قتله الأب، فإذا لم يقتل به فلا يقتل بالابن، لأن حق القصاص له في الحالتين جميعا، وبنوا عليه أنه لا يقتل به إذا كان مشركا..
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه، وكان مشركا محاربا لله ورسوله، وكان مع قريش يقاتل النبي عليه السلام يوم أحد، ولذلك لو قذفه لم يحد على هذا القول..
أما إذا اشترك رجلان أو رجال في قتل رجل ظلما فلا شك أن وعيد القتل يلزمهم، ولا يمكن إخراجهم من كونهم قاتلين، فيجعل الكل كشخص واحد.
وإذا قدر ذلك تعظيما للقتل، فإذا قتل أحدهما عمدا والآخر خطأ فالمخطئ في حكم آخذ جميع النفس، فيثبت لجميعها حكم الخطأ، وانتفى منها حكم العمد، إذ لا يجوز ثبوت حكم الخطأ للجميع،
لا يقاد الأب بابنه.
(٢) سورة العنكبوت آية ٨.
ولا خلاف أنه لا يجمع بين دية كاملة وقود، فوجب لذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يجب معه قود على أحد، فإن وجوب القود يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع، وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأرش «١» لشيء منها..
وبنى أبو حنيفة عليه أنه لو كان أحدهما أبا فلا قصاص على الأجنبي، فإن المحل متى كان واحدا وخرج فعل الأب عن كونه موجبا «٢» لأنه لم يصادف المحل، صار أيضا الفعل الذي لا يوجب لجميع المحل.
وخروج الروح به شبهة في المحل، ومتى حصل في المحل شبهة امتنع ثبوت الحكم في هذا المحل بفعل الثاني لاتحاد المحل، وكل «٣» ذلك لحصول مثل الخطاء للنفس المتلفة، ولا جائز أن يكون خطأ عمدا موجبا للمال والقود في حالة واحدة «٤»، فكل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها، فوجب بذلك قسط من الدية على من لم يجب عليه القود، فيصير حينئذ محكوما للجميع بحكم الخطأ، ولا جائز مع ذلك أن يحكم لها بحكم العمد.
وبنوا عليه أنه لو اشترك رجلان في سرقة مال ابن أحدهما، فلا قطع على واحد منهما..
(٢) أي للقود. [.....]
(٣) لعلها: وكان.
(٤) إذ نفس المقتول واحدة لا تتبعض، ولا يجوز ان يكون بعضها متلفا وبعضها حيا، لأن ذلك يوجب أن يكون الإنسان حيا ميتا في حال واحدة.
أحكام القرآن ج ١ م ٤
قيل: ولكنه لما وجب بفعله قسط من الدية على العاقلة، والدية وجبت في مقابلة المحل لخفة في جريمته صارت حرمة المحل الواحد واهية بالإضافة إلى الخاطئ، وانتفى عنه حكم العمد المحض، فيورث ذلك في حكم الآخر شبهة لاتحاد المحل المجنى عليه، واستحاله تبعضه، فصار الجميع في حكم ما لا قود فيه.
ولما كان الواجب على الشريك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دون جميعها، ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطأ، لولا ذلك لوجب جميع الدية، ألا ترى أنهم لو كانوا من أهل القود لأقدنا منهم جميعا؟
فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه قسط من الدية قسط، ودل ذلك على «١» سقوط القود، وأن النفس قد صارت في حكم الخطأ، فلذلك توزعت الدية عليهم..
قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى).
وقال تعالى: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) «٢» وقال تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) «٣» الآية.. ، وذلك يدل لأحد قولي الشافعي على الآخر، وهو أنه يتعين القود في العمد، لأنه تعالى قال: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)، وحيث يتخير فالواجب أحد أمرين، فلا يجوز أن يقال إن القصاص واجب بالقول «٤» المطلق، بل الواجب أحد الأمرين..
(٢) سورة المائدة آية ٤٥.
(٣) سورة الإسراء آية ٣٣.
(٤) لعلها بالقتل.
فإذا لم يكن المال واجبا بالقتل وجب القود على الخصوم.
وروي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من قتل في رمياء أو عمياء تكون بينهم بحجر أو بسوط أو بعصا فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمدا فقود يده، ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين «١» ».
ولو كان الواجب أحدهما لما اقتصر على ذكر القود دونهما، لأنه غير جائز أن يكون له أحد أمرين فيقتصر النبي عليه السلام بالبيان على أحدهما دون الآخر..
وعلى القول الآخر يحتج بقوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ).. الآية، وهذا يحتمل معاني:
أحدها: أن العفو ما سهل، قال الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ) «٢» يعني ما سهل من الأخلاق، وقال صلّى الله عليه وسلم: «أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله» «٣» يعني تسهيل الله على عباده.
وقال تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يعني الولي إذا أعطى شيئا من المال فليقبله وليتبعه بالمعروف وليؤد القاتل إليه بإحسان،
(٢) سورة الأعراف آية ١٩٩ وأصل العفو في اللغة البذل.
(٣) رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي في الخلافيات.
وهذا خلاف الظاهر من وجهين:
أحدهما: أن العفو بعد القصاص يقتضي العفو عنه من مستحقه بإسقاطه.
والثاني: أن الضمير في «له» يجب أن ينصرف إلى من عليه القصاص، لأنه الذي تقدم ذكره في قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ)، والولي لا ذكر له فيما تقدم حتى ينصرف الضمير إليه، إلا أنه يستظهر بظاهر قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) وذلك يدل على أن القصاص هو المكتوب دون غيره..
التأويل الثاني: ما قاله ابن عباس قال: كان القصاص في بني إسرائيل ولم يكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) إلى قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)..
قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الدية في العمد، (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) قال: على هذا أن يتبع بالمعروف، وعلى هذا أن يؤدي بإحسان، (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) فيما
ولو كان الأمر على ما ادعاه مخالفنا من إيجاب التخيير لما قال:
فالعفو بأن يقبل الدية، لأن القبول لا يطلق إلا فيما بذل له غيره، ولو لم يكن أراد ذلك لقال: إذا اختار الولي.
وكان المقصود بذلك أن الذي قاله الله تعالى أنه كتب لم يعن به أنه كتب على وجه لا يمكن إسقاطه برضا من كتب له مثل ما كان على بني إسرائيل، بل يجوز إسقاطه، فإذا جاز إسقاطه رغب في إسقاطه من جهة من عليه القصاص بالمال، فهذان معنيان..
المعنى الثالث للآية ما رواه سفيان بن حسين عن ابن أشوع عن الشعبي قال: كان بين حيّين من العرب قتال، فقتل من هذا ومن هذا، فقال أحد الحيين: لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل، وبالرجل الرجلين، وارتفعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: القتلى بواء- أي سواء- فاصطلحوا على الديات، ففضل لأحد الحيين على الآخر، فهو قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ).. إلى قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)..
قال سفيان بن حسين: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يعني فمن فضل له على أخيه شيء فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان أن العفو ها هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ، قال الله تعالى: (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى)
«١». يعني حتى كبروا فسمنوا، وقال صلّى الله عليه وسلم:
«أعفوا اللحى»، فتقدير الآية: فمن فضل له على أخيه شيء من الديات التي وقع الإصطلاح عليها فليتبعه مستحقه بالمعروف، وليؤد إليه بإحسان..
المعنى الرابع: أنهم قالوا في الدم بين جماعة إذا عفا عنهم تحول أنصباء الآخرين مالا، وقوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يدل على وقوع العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه، فيتحول نصيب الشركاء مالا، فعليهم اتباع القائل بالمعروف، وعليه أداؤه إليهم بإحسان..
والإتباع بالمعروف أن لا يكون بتشدد وإيذاء، وعلى المطلوب منه الأداء بإحسان، وهو ترك المطل والتسويف، (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) أي جواز العفو على مال تخفيف، ولم يكن ذلك إلا لهذه الأمة، (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي قتل القاتل بعد أخذ الدية، (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).
المعنى الخامس: أخذ ولي الدم المال بغير رضا القاتل، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله، فقيل لهؤلاء: العفو لا يكون مع أخذه، ألا ترى أن النبي عليه السلام قال: «العمد قود إلا أن يعفو الأولياء» «٢» فأثبت له أحد السببين من قتل أو عفو، ولم يثبت له مالا، فلئن قيل:
إنه إذا عفا عن الدم ليأخذ المال كان عافيا وتناوله لفظ الآية، قيل له: لو كان الواجب أحد سببين لجاز أيضا أن يكون عافيا بتركه المال،
(٢) روى الطبراني عن عمرو بن حزم: العمد قود والخطأ دية، قال الهيثمي: وفيه عمران بن أبي الفضل وهو ضعيف (مناوى).
ويجاب عنه بأن يقال: عفا لسقوط أثر المال في حق من عليه القود بالإضافة إلى القتل، وإذا عدل عن المال إلى القتل لم يظهر لإسقاط المال وقع، فلا يقال: عفا، فإن العفو يؤذن بتخفيف وترفيه عرفا، وإن كان العدول عن أحدهما إلى الآخر عفوا عن المعدول عنه، وإسقاطا له.
فقيل لهم: فهذا ينفيه الظاهر من وجه آخر، وهو أنه إذا كان الولي هو العافي بتركه القود وأخذه المال، فإنه لا يقال عفا له- وإنما يقال عفا عنه- إلا بتعسف، فيقيم اللام مقام عن، أو بحمله على أنه عفا له عن الدم، فيضم حرفا غير مذكور.
وعلى تأويل من يخالفه: العفو بمعنى التسهيل، وهو أن يسهل له القاتل إعطاء الأموال، كما يقال: سهل الله لك كذا ويسر لك، فيكون العفو بمعنى التسهيل من جهة القاتل بإعطائه المال، ولأن قوله: (مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يقتضي التبعيض.
وعلى أحد قولي الشافعي هو عفو عن جميع الدم لا عن شيء منه، فمتى حمل على الجميع كان مخالفا مقتضى الكلام، وفي الحمل على كل محمل حيد عن الظاهر من بعض الوجوه، فلا يبعد أن يكون الجميع مرادا، فإن اختيار الدية يوجب إسقاط القصاص، حتى لو أراد العدول إليه بعده لا يجوز.
وشهد لأحد القولين قوله تعالى: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية، وقوله صلّى الله عليه وسلم في قصة الربيع
وقوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) محتمل للمعاني والمتشابه يجب رده إلى المحكم.
وقوله تعالى (عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) يدل على أن دية العمد على القاتل.
وقال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١٧٩) وذلك تنبيه على الحكمة في شرع القصاص، وإبانة الغرض منه، وخص أولي الألباب مع وجود المعنى في غيرهم لأنهم المنتفعون به، كما قال: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) «١». وقال: (نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) «٢»، فأبان أنه منذر الجميع، ولكنه خص في موضع «من يخشاها» لأنهم المنتفعون بإنذاره، وقال: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) مع قوله في موضع آخر (هُدىً لِلنَّاسِ) لأن المتقين هم الذين ينتفعون به.. وقال في قصة مريم: (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)
«٣»، لأن المتقي هو الذي يعيذ من استعاذ بالله تعالى.
وقوله: (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) «٤» يدل على مراعاة المماثلة في الجراح، على ما قاله الشافعي رحمه الله، وأن يفعل بالقاتل مثل ما فعله، فإن لم يمت وجب قتله، فإن القتل لا بد منه قصاصا لأخذ النفس بالنفس فجمعنا بين قوله تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) وبين قوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وهذا أولى من طرح أحدهما..
(٢) سورة مريم آية ١٨.
(٣) سورة سبأ آية ٤٦.
(٤) سورة المائدة آية ٤٥.
الآية (١٨٠) :
فقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) يدل على وجوب الوصية «١»، وقوله (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالعدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير، كقوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) «٢»، (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) «٣».
وقوله (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يؤكد الوجوب...
ووردت أخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تدل على وجوب الوصية، فمنها ما رواه نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
«ما حق امرئ مسلم له مال يوصي فيه، يمر عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة» «٤».
ثم اختلف الناس في وجوبها أولا:
فمنهم من قال: كان ذلك ندبا.
والصحيح أن ذلك كان واجبا.
وقال ابن عباس في قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ).. الآية. إنه منسوخ بقوله: (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) «٥» الآية، ورووا بطرق أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لا وصية لوارث».
(٢) سورة البقرة آية ٢٣٣.
(٣) سورة النساء آية ١٩.
(٤) رواه مالك وأحمد والستة عن ابن عمر.
(٥) سورة النساء آية ٧- ٣٢.
فأجابوا: بأن ذلك لا يمتنع من طريق النظر في الأصول، فإن بقاء الحكم مظنون فيجوز أن ينسخ بمثله، وشرح ذلك في الأصول.
وقد قيل: إن الإجماع انعقد على تلقي هذا الخبر بالقبول، ومثل ذلك يجوز أن ينسخ به الكتاب.
وليس في إيجاب الميراث للورثة ما ينافي جواز الوصية لهم، لإمكان أن يجتمع الحقان للورثة بالطريقين، وإنما ينسخ الشيء ما ينافيه، والله تعالى لما جعل الميراث بعد الوصية فمن الذي يمنع من أن يعطي الوارث قسطه من الوصية، ثم يعطى الميراث بعدها؟.
وقال الشافعي في كتاب الرسالة: يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية، ويحتمل أن تكون ثابتة معها، ثم قال: فلما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم من طريق مجاهد- وهو منقطع- أنه قال: «لا وصية لوارث» «١»، استدللنا بما روي عنه عليه السلام في ذلك أن المواريث ناسخة للوصايا بالوالدين والأقربين مع الخبر المنقطع.
أما قول الشافعي: يحتمل أن تكون المواريث ناسخة، فوجه الاحتمال أن الوصية إنما كانت واجبة لتعطي كل ذي حق حقه، من ماله بعد موته، فكان إثبات الحق للوارث في ماله لمكان القرابة، ثم كان يميل الموصي بقلبه إلى بعض الورثة ويقصر في حق بعض الورثة، فعلم الله تعالى ذلك منهم، فأعطى كل ذي حق حقه، ولهذا قال النبي عليه السلام:
«إن الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرب» الحديث.. إلى أن
والذي ذكره الشافعي رحمه الله من أن ناسخه الخبر يعترض عليه من وجهين:
أحدهما: أنه منقطع وهو لا يقبل المراسيل.
الثاني أنه لو كان متصلا كان نسخ القرآن بالسنة وعنده أن ذلك غير جائز.
ثم قال الشافعي: قوله عليه السلام: «ألا لا وصية لوارث» لا ينفي الوصية أصلا للأقربين الذين لا يرثون ودل لفظ الكتاب عليهم ولم يرد ما يوجب نسخه.
وقال الشافعي: حكم النبي عليه السلام في ستة مملوكين أعتقهم رجل ولا مال له غيرهم، فجزّأهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، فأعتق إثنين وأرق أربعة، والذي أعتقهم رجل من العرب، والعرب إنما تملك من لا قرابة بينهم وبينه من العجم، فأجاز لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوصية، فالوصية لو كانت تبطل لغير قرابته بطلت للعبيد المعتقين لأنهم ليسوا بقرابة للميت وبطلت الوصية للوالدين..
ويعترض على هذا بأنه يجوز أن يكون أمه أعجمية فيكونوا أقرباء من قبل أمه عجما فيكون العتق وصية لأقربائه، ولأن فيه نسخ القرآن بالسنة.
والذي يقال في ذلك: أن قوله (وَالْأَقْرَبِينَ) ليس نصا في حق غير الوارث بل يجوز أن يكون قد عنى بالأقربين الوارثين منهم، فغاية ما في ذلك تخصيص العموم لا النسخ.
واستدل محمد بن الحسن على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين بهذه الآية، ولا خفاء لما فيه من الضعف..
قوله تعالى: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) (١٨١) :
يدل على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية وإن أثم التبديل لا يلحقه.
ويدل أيضا على أن من كان عليه دين وأوصى بقضائه أنه قد سلم من تبعته في الآخرة، وإن ترك المعاصي والوارث قضاءه لا تلحقه تبعته.
قوله تعالى: (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً «١» أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) (١٨٢).
يحتمل أن يكون معناه أن يعلم من الموصي جنفا أو غيظا على بعض الورثة، وأن ذلك ربما يحمله عن زي «٢» الميراث عن الوارث، فعلى من خاف ذلك منه أن يرده إلى العدم ويخوفه عاقبة الجور، ويدخل بين الموصى له والورثة على وجه الإصلاح لئلا يقطع عنه الميراث بوصيته، أو يرجع عن وصية كانت منه إلى غير أهلها قاصدا قطع الميراث،
(٢) المراد يحمله على منع الميراث وزوى قبض وضم زيا.
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) «١»..
الضمير في قوله (بَيْنَهُمْ) يجوز أن يكون يرجع إلى الموصى له والورثة إذا تنازعوا، ويجوز أن يرجع إلى الموصي والورثة، فأفاد بهذه الآية أن على الوصي والحاكم والوارث، وكل من وقف على جور في الوصية من جهة الخطأ والعمد ردها إلى العدل.
ودل على أن قوله: (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) خاص في الوصية العادلة دون الجائرة.
وفيها الدلالة على جواز اجتهاد الرأي، والعمل على غالب الظن، لأن الخوف من الميل يكون في غالب ظن الخائف.
وفيها رخصة في الدخول بينهم على وجه الإصلاح مع ما فيه من زيادة أو نقصان عن الحق بعد أن يكون ذلك بتراضيهم..
فرض الصيام في
قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «٢» كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١٨٣).
وقوله: (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يحتمل ثلاثة معاني كلها منقوله عن أهل التفسير.:
(٢) الصيام في اللغة الإمساك، وفي الشرع: اسم للكف عن الأكل والشرب وما في معناه وعن الجماع في نهار الصوم مع نية القربة.
وقال ابن عباس: كان الصوم من العتمة إلى العتمة ولا يحل بعد النوم أن يأكل ويشرب وينكح، ثم نسخ فكان ذلك صوما بالليل لا تشبها بالصائمين ولا عقوبة على أكل حرام بل كان عبادة...
وقال آخرون: معناه أنه كتب علينا صيام أيام، ولا دلالة فيه على مساواته في المقدار، بل جائز فيه الزيادة والنقصان..
وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: أحيل الصيام ثلاثة أحوال، قدم أولا رسول الله ﷺ المدينة فجعل يصوم كل شهر ثلاثة أيام، وصيام عاشوراء، ثم إن الله تعالى فرض الصيام فقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ). وذكر نحو قول ابن عباس الذي ذكرناه وقدمناه، وليس في قوله: (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) دلالة على المراد في العدد في أو صفة الصوم أو في الوقت فكان اللفظ مجملا..
وقوله تعالى: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) (١٨٤) يقتضي تعليق جواز الإفطار على اسم المرض والسفر، إلا أن المريض الذي لا يضره الصوم مخصوص إجماعا، ولا يعرف له مأخذ أقوى من الإجماع.
وأطلق السفر ولم يذكر له حدا، والمسافة القريبة لا تسمى سفرا في العرف، فلا جرم اختلف العلماء في تحديده، فحده أبو حنيفة بثلاثة أيام والشافعي بستة عشر فرسخا، ولكل مأخذ..
قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) (١٨٤) :
وكانت عائشة تقرأ: «وعلى الذين يطوقونه فدية» وذلك في الشيخ الهرم «١».
والذي قاله علي- رضي الله عنه- فيه نظر، فإن قوله: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) يتبع «٢» دلالة قوله بعد ذلك:
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) على المسافر والمريض، لأن ما عطف على الشيء غيره لا «٣» محالة، وليس يظهر أيضا حمله على الشيخ الكبير، فإنه ليس مطيقا، بل كان مطيقا ثم عجز، فعلى هذا قال مالك وربيعة في حق الشيخ الكبير: لا أرى عليه إطعاما فإن فعل فحسن، ولم يروا الفدية قائمة مقام الصوم الذي هو عبادة بدنية، ولا أن تكليف الصوم لاقاه، وهم يقولون: الذي نسخ كان ترك الصوم إلى الإطعام لا قضاء الصوم مع الإطعام، وقد سمى الله تعالى ذلك فدية، والفدية ما يقوم مقام ما يفدى عنه، فالجمع بين الفدية والقضاء لا وجه له، وكان الواجب في الأصل أحد سببين من فدية أو صيام لا على وجه
(٢) لعلها يمنع.
(٣) فغير جائز- كما قال الجصاص- أن يكون هؤلاء (الذين يطيقونه) هم المرضى والمسافرون إذ تقدم ذكر حكمهما وبيان فرضهما بالاسم الخاص لهما فغير جائز أن يعطف عليهما بكناية عنهما مع تقديمه ذكرهما منصوصا معينا.
نعم قال ابن عباس في الحامل والمرضع عليهما الفدية ولا قضاء عليهما، فله حجة في ظاهر القرآن في اقتصاره على إيجاب الفدية دون القضاء، فكانت الآية دالة في الأصل على التخيير بين الفدية والصوم، فلا يجوز أن يتناول الحامل والمرضع لأنهما غير مخيرين، لأنهما إما أن يخافا فعليهما الإفطار بلا تخيير، أو لا يخافا فعليهما الصيام بلا تخيير، ولا يجوز أن تتناول الآية فريقين: تقتضي بظاهرها إيجاب الفدية، ويكون المراد في أحد الفريقين التخيير بين الإطعام والصيام، وفي الفريق الآخر إما الصيام على وجه الإيجاب بلا تخيير أو الفدية بلا تخيير، وقد تناولهما لفظ الآية من وجه واحد، فثبت بذلك أن الآية لم تتناول الحامل أو المرضع.
قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) (١٨٥) يحتمل معاني، منها:
من كان شاهدا لمعني مقيما غير مسافر، كما يقال الشاهد والغائب، فمقتضاه أن لا يجب على المسافر، لكنه لما قال: (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (١٨٥) بين حكم المرضى والمسافرين في الإيجاب.
ويحتمل أن يكون قوله (شَهِدَ... الشَّهْرَ) أي علمه، وذلك يدل على أن من أفاق من الجنون بعد مضي شهر رمضان فلا قضاء عليه، خلافا لمالك فإنه قال فيمن بلغ وهو مجنون، فمكث سنين ثم أفاق، فإنه يقضي صيام تلك السنين ولا تقضى الصلاة، ومالك يحمل قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) على شهوده بالإقامة وترك السفر دون ما ذكره غيره من شهوده بالتكليف.
وأبو حنيفة يقول: قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) لا يمكن أن يراد به شهود جميع الشهر لأنه لا يكون شاهدا لجميع الشهر إلا بعد مضيه كله، ويستحيل أن يكون مضيه شرطا للزوم صومه كله، لأن الماضي من الوقت يستحيل فعل الصوم فيه، فعلم أنه لم يرد شهود جميعه، فتقدير الكلام عنده: فمن شهد منكم بعض الشهر فليصم ما لم يشهده منه، وهذا بعيد جدا..
ومالك يقول: شهد أي أدرك، كما يقال: شهد زمان النبي عليه السلام أي أدرك، والمجنون قد أدرك ذلك الزمان فلزمه الصوم لزوما في الذمة..
قوله تعالى: (فَلْيَصُمْهُ) :
والصوم في اللغة: الإمساك المطلق، غير مختص بالإمساك عن الأكل والشرب دون غيرهما، بل كل إمساك فهو مسمى في لغة صوما، غير أن الله تعالى أحل الأكل والشرب والجماع إلى أن يصبح، ثم أمر بإتمام الصوم إلى الليل، ففحوى الكلام تحريم أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل، ولهذا ساغ الإختلاف فيه واختلف فيه علماء السلف.
وأما الحيض والاستقاء فلمنافاتهما للصوم، فلا يعلل «١» أصلا، فقاس قوم الجنابة على الحيض، وقاس قوم الحجامة على الاستقاء، لأنهما استخراج الفضلة من البدن..
قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يدل على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا، فإنه ذكر الأيام منكرة، فإذا فرق فقد أتى بما اقتضاه الأمر، وفهمنا أن تتابع صوم رمضان للشهر لا لنفس الصوم، ولذلك لم يكن إفساد يوم منه مانعا صوم الباقي، وقد قال الله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فدل على جواز التأخير من غير أن يتحدد بوقت، وهو كالأمر المطلق الذي لا يتقيد بوقت، ويجوز مفرقا ومجموعا..
والشافعي رأى تقييد القضاء بالسنة قبل دخول رمضان آخر وقال:
إذا دخل رمضان آخر فدى عن كل يوم بمد، ورواه عن ابن عباس وابن عمر.
فأما ما روي عن ابن عباس أن رجلا جاء إليه فقال: مرضت رمضانين، فقال ابن عباس: استمر بك المرض أو صححت فيما بينهما؟..
قال: بل صححت، قال: صم رمضانين، واطعم ستين مسكينا..
وعن ابن عمر: أنه سئل عمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر؟.. قال: يصوم الذي أدركه ويطعم عن الأول كل يوم مدا من تمر ولا قضاء عليه، وهذا يشبه مذهبه في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها..
فقيل لهم فالقضاء بعد الصوم الآخر مأخوذ من قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). واللفظ قد تناول الأوقات فلا يجوز أن يكون قد
وذكر داود الأصفهاني «١» أن قضاء رمضان يجب على الفور، وأنه إذا لم يصم اليوم الثاني من شوال أثم لأنه لو مات عصى، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة، فوجد رقبة تباع بثمن، فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها، لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها، ولو كان عنده رقبة فلا يجوز أن يشتري غيرها، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره، وذلك يفسد قوله..
وقد قال بعض الأصوليين: إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصى على شرط العزم.
وقال الرازي أبو بكر إنه لا يعصى إلى السنة القابلة، فإن آخر الوقت معلوم، فبنى عليه أنه لو مات في خلال السنة لا يعصى، فقدر القضاء بالسنة، وذلك خلاف قول الجماعة، وجعله كوقت الصلاة لما كان التأخير موسعا عليه إلى آخره، لم يكن مفرطا بتأخيره إلى أن مات قبل مضي الوقت، فكذلك قضاء رمضان.
وأجمعوا على وجوب الفدية إذا مات قبل مضي السنة لا لكونه
قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» :
استدل به قوم على أن المسافر لا صوم عليه، لأن قوله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يدل على أن الصوم المسافر في الأيام الأخر، ولم يقدروا الإضمار مثل قول أكثر العلماء: فأفطر فعدة من أيام أخر، وهذا مذهب يروى عن أبي هريرة وقال به داود إلا أنه صح أن رسول الله صام في السفر.
وعن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟.. فقال: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» «١»..
وروى أبو سعيد الخدري وابن عباس وأنس وجابر وأبو الدرداء وسلمة ابن المحبق صيام النبي عليه السلام في السفر، ومن خالف في هذا يدفع بظاهر قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). من غير فصل بين المفطر وبين الصائم..
ورووا عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ليس من البر الصوم في السفر» «٢»..
ورووا عن الزهري عن أبي سلمة عن أبيه قال: قال
(٢) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر، وابن ماجة عن ابن عمر، وعده السيوطي في المتواتر.
وبحديث أنس عن النبي عليه السلام: «إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم، وعن الحامل والمرضع» «٢»..
ومن يخالف هؤلاء يقول: روى جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يظلل عليه والزحام عليه فقال: «ليس من البر الصيام في السفر» فجائز أن يكون كل من روى ذلك، فإنما حكى ما ذكره النبي عليه السلام في تلك الحال، وساق بعضهم ذكر السبب وحذفه بعضهم.
وذكر أبو سعيد الخدري، أنهم صاموا مع النبي صلّى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان، ثم إنه قال لهم: «إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا»، فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو سعيد الخدري:
لقد رأيتني مع النبي عليه السلام أصوم قبل ذلك وبعده «٣»، فيجوز أن يكون الخبر ورد على سبب، وهو حال لزوم القتال مع العلم بالعجز عنه مع فعل الصوم. ولأن قوله: «وأن تصوموا خير لكم» معطوف على كل من تقدم وبينهم المسافر والمريض..
ثم إنه إذا صام أهل بلد تسعة وعشرين يوما للرؤية، وفي البلد رجل مريض لم يصم، فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما.
وقال قوم منهم الحسن بن صالح: إنه يقضي شهرا بشهر من غير
(٢) رواه أحمد والأربعة.
(٣) رواه مسلم بنحوه.
وقوله: (فَعِدَّةٌ) يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه، ولا شك في أنه لو أفطر بعض رمضان، وجب قضاء ما أفطر بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطار جميعه في اعتبار العدد...
وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلدة ثلاثين للرؤية وأهل بلدة أخرى تسعة وعشرين، أن على الذين صاموا تسعة وعشرين قضاء يوم، وأصحاب الشافعي رحمه الله لا يرون ذلك، إذا كانت المطالع في البلدتين يجوز أن تختلف.
وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها، ومخالفهم يحتج بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «صوموا لرؤيته..
الحديث»، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم..
وروى الشافعي بإسناده عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، فاستهل رمضان وأنا بالشام. فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟
فقلت: ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟.. فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصومه حتى يكمل الثلاثين أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟. قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله ﷺ «١»،
قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ، الآية) (١٨٧).
الرفث يقع على الجماع ويقع على الكلام الفاحش، والمراد به الجماع ها هنا لأنه الذي يمكن أن يقال فيه: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)، ولا خلاف فيه.
وقوله: (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) يعني كاللباس لكم في إباحة المباشرة وملابسة كل واحد منهما لصاحبه.
ويحتمل أن يراد باللباس الستر، لأن اللباس هو ما يستره، وقد سمى الله تعالى الليل لباسا لأنه يستر كل شيء يشتمل عليه بظلامه، فالمراد بالآية أن كل واحد منهما يستر صاحبه عن التخطي إلى ما يهتكه، ويكون كل واحد منهما متعففا بالآخر مستترا به.
قوله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ).
أي يساتر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع، والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى: (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) «١» يعني: يقتل بعضكم بعضا.
ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وكان خائنا لنفسه من حيث كان صرره عائدا إليه.
ويحتمل أن يريد به أنه يعمل عمل المساتر له، فهو يعامل نفسه بعمل الخائن لها، والخيانة انتقاص الحق على وجه المساترة.
أحدهما: قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم.
والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) «١».
(وَعَفا عَنْكُمْ) : يعني خفف عنكم.
وذكر عقيب قتل الخطأ: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) «٢» يعني تخفيفا، لأن قاتل الخطأ لم يفعل شيئا يلزمه التوبة منه.
وقال الله تعالى: (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) «٣»، وإن لم يكن من النبي عليه السلام ما يوجب التوبة منه..
وقوله: (وَعَفا عَنْكُمْ).
يحتمل العفو عن المذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل كقول النبي عليه السلام: «أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله» «٤»، يعني تسهيله وتوسعته..
قوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (١٨٧)، كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه خيطا أبيض وخيطا أسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا، قال:
فذكر سهل بن سعد الساعدي- وهو راوي الحديث- أنهم كانوا على
(٢) سورة النساء آية ٩٢. [.....]
(٣) سورة التوبة آية ١١٧.
(٤) تقدم تخريجه، وليس بثابت.
ويجوز أن يكون التجوز بالخيط الأبيض عن الفجر سائغا في لغة قريش دون غيرها من اللغات، فأشكل على قوم آخرين، حتى تبين لهم بقوله من الفجر، ولا يجب أن يكون البيان بلغة يشترك في معرفتها جميع الناس قبل أن يتبين لهم بلغة من كان بيانا في لغتهم..
ويجوز أن يكون قد قال: (مِنَ الْفَجْرِ) أولا، لكن قوله (مِنَ الْفَجْرِ) يحتمل أن يكون تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، على معنى أنه يتبين الخيطان من أجل الفجر، ويحتمل أن يكون المستبان في نفسه هو الفجر..
فإن قيل: كيف يشبه الليل بالخيط الأسود وهو يشتمل على جميع العالم، وقد علمنا أن الصبح إنما شبه بخيط مستطيل أو معترض في الأفق، أما الليل فليس بينه وبين الخيط مشاكلة؟..
الجواب: أن الخيط الأسود هو السواد الذي في المواضع «١» قبل ظهور الخيط الأبيض فيه، وهو في ذلك الموضع مساو للخيط الأبيض الذي يظهر بعده، فلأجل ذلك سمي الخيط الأسود، وإذا أباح الله الأكل والشرب إلى أن يتبين، فيدل ذلك على جواز الأكل قبل التبين حالة الشك.
وفيه الدلالة على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم، لما فيه من إباحة الجماع من أول الليل إلى آخره، مع العلم بأن المجامع من الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر، أنه يصبح جنبا، ثم حكم مع ذلك بصحة صيامه بقوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).
والذي يخالف هذا يقول، إنما أبيح الأكل إلى الفجر لا الجماع، فإنه لم يقل: «وباشروهن إلى أن يتبين».
وفيه دليل على أن البياض بعد تبين الفجر من النهار، بخلاف البياض بعد غروب الشمس.
وظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر، فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع، فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل، فلا قضاء عليه، كذلك قاله مجاهد وجابر بن زيد، ولا خلاف في وجوب القضاء، إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان، إذا أكل ثم بان أنه من رمضان، والذي نحن فيه مثله، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه..
قوله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) (١٨٧).
ظاهر ذلك يقتضي تحريم المباشرة مطلقا لشهوة وغير شهوة، والمباشرة أن تتصل بشرته ببشرتها، إلا أن عائشة كانت ترجل شعر رسول الله وهو «١» معتكف، فكانت لا محالة تمس بدن الرسول عليه السلام بيدها،
وزعم قوم أن الآية لا تدل على المباشرة بالشهوة أيضا، بعد أن اتفق الناس على أن الجماع مراد به، لأن الكناية بها عن الجماع مجاز، وإذا حمل اللفظ على المجاز فلا يحمل بعينه هو على الحقيقة.
وهذا ليس بصحيح، فإن لفظ المباشرة عموم في الجماع، لا بطريق المجاز، بل من حيث أن الجماع مباشرة، إذ المباشرة هي الإفضاء ببشرته إلى بشرة صاحبه، فإذا كانت حقيقة المباشرة- لا من حيث المجاز- إلصاق البشرة بالبشرة فهي عامة في الجماع وغيرها، فدلالتها على الجماع من حيث الحقيقة لا من حيث المجاز..
قوله: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) يقتضي أن يكون الحظر مختصا بالمسجد، حتى لو جامع عند الخروج لا يبطل اعتكافه:
ويحتمل أن يقال: قوله: (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) معناه: لا تباشروهن حال ما يقال لكم إنكم عاكفون في المساجد، والرجل وإن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فهو عاكف، واعتكافه باق.
وأمكن أن يقال: لا يقال له عاكف في المسجد بل يقال: لم يبطل تتابع اعتكافه، فأما أن يكون عاكفا في المسجد لفظا وإطلاقا وهو خارج منه فلا.
ولما كان الرجل باعتبار قعوده في المسجد، لا يقال له عاكف، إذا كان يخرج ويرجع على ما جرت به العادة، وإنما يقال عاكف للمواظب، فيقتضي ذلك زوال اسم العاكف عنه، إذا كان يتردد في حاجاته، ويخرج لأشغاله، إلا ما لا بد له منه.
قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) «١» (١٨٩).
سماه على وحدته أهلة إذ الأهلة ليست اسما للقمر، وإنما سمي الهلال هلالا في أول ما يرى، وما قرب منه لظهوره في ذلك بعد خفائه، ومنه الإهلال بالحج وهو إظهار التلبية، واستهلال الصبى ظهور حياته بصوت أو حركة، ويقولون تهلل وجهه إذا ظهر فيه البشر والسرور، وليس هناك صوت مرفوع حتى يقال: الإهلال رفع الصوت وإن إهلال الهلال من ذلك لرفع الصوت عند رؤيته، قال تأبط شرا:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه | برقت كبرق العارض المتهلل |
فقيل لهم: فقد قال: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) «٢»، فأجابوا بأنه لا بد في الكلام من ضمير ولا بيان فيه دونه، فإن الحج فعل الحاج، وفعل الحاج لا يكون أشهرا، فلا بد أن يكون المراد به أفعال الحج
(٢) سورة البقرة آية ١٩٧.
وهذا غلط، فإنه إذا قال: «أشهر معلومات» فيجب أن يقع في الأشهر، فيكون الأشهر المعلومات ظرفا، ويكون الفعل واقعا في جميعه، كالإحرام يقع في الأشهر ويبقى في الأشهر، فيقال هو في الأشهر محرم.
ولا يجوز أن يكون الفعل الذي هو السعي يقع في الأشهر، وإنما يقع في ساعة من يوم، ولا يجوز أن يكون المراد به بقاء الإحرام كما قالوه، فإنهم قالوا: إذا أحرم بالحج في أشهر الحج أو في غيرها، فإذا فاته الوقوف بعرفة فاته الإحرام، فقول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) يعني: دوام الحج وبقاؤه أشهر، وهذا باطل، فإن الذي ذكروه من بقاء الإحرام، ليس يتحدد له أشهر معلومات، فإنه لو أحرم من وقت الفوات، دام الإحرام والحج إلى مثل ذلك الوقت من العام القابل، والحج لا يتعين له أشهر، بل أشهره جميع السنة، وإنما يفوت في وقت خاص، ولا يبقى أكثر من سنة قط، فإذا بطلت تأويلاتهم، بقي تأويل الآية التي تعلقوا بها، ووجه ذلك أن قوله: (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) معناه: «قل هي مواقيت للناس في الحج»، فيحصل في الأهلة المعنيان من غير تفصيل، فلا دلالة في الآية على أن الأهلة يجب أن تكون مواقيت للحج..
نعم الأهلة كلها مواقيت للناس لا مفهوما من هذا اللفظ، فإن المفهوم من هذا اللفظ بيان فائدة الأهلة، والفائدة حصلت بما قلناه من غير
قوله: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) (١٨٩)، هو تنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا يشير به إلى أن تأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه، وفيه بيان أن ما لم يشرعه الله تعالى قربة، ولا ندب إليه لا يصير قربة، بأن يتقرب به متقرب، ومثله تحريم الوصال الذي يتقرب به ولا تقرب فيه. والرهبانية التي يتقرب بها ولا تقرب فيها..
فرض الجهاد:
قال الله عز وجل: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) (١٩٠) الآية..
ولا خلاف بين العلماء في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله:
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) «١»، إلى قوله: (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، وقوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) «٢»، وقوله: (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) «٣»، (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) «٤».
(٢) سورة المائدة آية ١٣.
(٣) سورة النحل آية ١٢٥.
(٤) سورة العنكبوت آية ٤٦.
وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن ابن عوف وأصحابا له كانت أموالهم بمكة، فقالوا: يا رسول الله، كنا في عز ومنعة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلاء، فقال: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم»، فلما حوله إلى المدينة انكفوا، فأنزل الله تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الآية «٢»..
وعن ابن عباس في قوله تعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) «٣» وقوله: (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) «٤»، وقوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) «٥»، وقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) «٦» قال:
نسخ هذا كله قوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) «٧»، وقوله: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) «٨».. الآية..
واختلف السلف في أول آية نزلت في القتال، فروي عن الربيع ابن أنس وغيره أن قوله تعالى: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ)
(٢) سورة النساء آية ٧٧ أما سبب النزول هذا فرواه ابن أبي حاتم والنسائي والحاكم
(٣) سورة الغاشية آية ٢٢.
(٤) سورة ق آية ٤٥. [.....]
(٥) سورة المائدة آية ١٣.
(٦) سورة الجاثية آية ١٤.
(٧) سورة التوبة آية ٥.
(٨) سورة التوبة آية ٢٩.
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أول آية نزلت في القتال قوله تعالى:
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) الآية «١»..
وقال آخرون: قوله تعالى: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أول آية نزلت في إباحة قتال من قاتلهم، والثانية نزلت في الإذن بالقتال عامة لمن قاتلهم، ومن لم يقاتلهم من المشركين «٢».
فقال الربيع بن أنس: أول آية نزلت في الإذن بالقتال في المدينة قوله تعالى: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ)، فكان النبي عليه السلام بعد ذلك يقاتل من قاتله من المشركين ويكف عمن كف عنه إلى أن أمر بقتال الجميع، وهو مثل قوله تعالى:
(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) «٣»..
ويحتمل أن يقال إن قوله: (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) لم يرد به حقيقة القتال، فإن جواز دفع المقاتل عن نفسه ما كان محرما قط، حتى يقال إنه أذن فيه بعد التحريم، وإنما المراد به الذين يقاتلونكم دينا، ويرون ذلك جائزا اعتقادا، ولم يرد به حقيقة القتال.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، فإنه ﷺ لما انصرف من صلح الحديبية إلى المدينة، حين صده المشركون
(٢) في الجصاص: وقد اختلف في معنى قوله تعالى: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) فقال الربيع.. إلخ.
(٣) سورة البقرة آية ١٩٤.
(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) «١» يعني قريشا الذين صالحوهم، (وَلا تَعْتَدُوا) فنبذوا في الحرم بالقتال، ودل عليه ظاهر ما بعده وهو قوله:
(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) «٢» يعني أن شركهم بالله عز وجل، أعظم من قتلكم إياهم في الحرم، والذي كان منهم من تعذيب من أسلم وظفروا به، ليفتنوهم عن الدين، أعظم من قتالكم إياهم في الشهر الحرام.
وقال: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) «٣». معناه حتى لا يكون الشرك الذي هو باعث على الفتنة، ويكون الدين كله لله، ولذلك لم يقبل العلماء الجزية من وثنيي العرب، فإن الله تعالى قال في حقهم:
(٢) سورة البقرة آية ١٩١.
(٣) سورة البقرة آية ١٩٣.
فأمر الله تعالى بقتالهم، حتى لا يكون الشرك ويكون الدين كله لله «٢».
وروي عن أبي بكر أنه أمر بقتال الشماسنة، لأنهم يشهدون القتال ويرون ذلك رأيا، وأن الرهبان من رأيهم أن لا يقاتلوا، فأمر أبو بكر أن لا يقتلوا، ثم قال: قد قال الله سبحانه: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) «٣».. وحمل ذلك أبو بكر رضي الله عنه على المقاتلة دينا واعتقادا، فالآية على هذا ثابتة الحكم لا نسخ فيها.
وعلى قول الربيع بن أنس، أن النبي عليه السلام والمسلمين، كانوا مأمورين- بعد نزول الآية- بقتال من قاتل دون من كف عنهم، سواء كان ممن يتدين بالقتال أو لا يتدين «٤» وليس بصحيح.
وروي عن عمر بن عبد العزيز في قوله: (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) قال: ذلك في النساء والذرية، فعلى هذا لا نسخ في الآية.
ويحتمل أن يقال: إن قوله تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) «٥»، عام في الرجال والنساء والصبيان، وهم يقتلون إذا كانت المصلحة في قتلهم، على ما عرف من مذهب الشافعي رحمه الله فيه.
(٢) أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، سورة البقرة.
(٣) سورة البقرة آية ١٩٠.
(٤) الأولى أم لا يتدين. [.....]
(٥) سورة النساء آية ٨٩.
قوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)، يعني كفرهم وتعذيبهم للمؤمنين، في البلد الحرام والشهر الحرام، أعظم مأثما من القتل في الشهر الحرام «١»، وأنه إذا كان يتوقع منهم مثل ذلك، وجب قتلهم في البلد الحرام وفي الشهر الحرام، وكذلك معنى قوله: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)، فعلل القتال والقتل بهذا المعنى، وهذا يستوي فيه الحرم وغيره، والشهر الحرام وغيره.
وكذلك قاله الربيع بن أنس فإنه قال:
قوله تعالى: (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
منسوخ بقوله تعالى: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ).
وقال قتادة: هو منسوخ بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). ، وقد نزل قوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) «٢» في سورة براءة (التوبة) بعد سورة البقرة، والذي كان من خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح، وقوله فيها: «إن الله تعالى حرم مكة» الحديث «٣»، نسخه ما بعده، وسورة براءة فإنها
(٢) سورة التوبة آية ٥.
(٣) الحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحهما ولفظه: عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ خطب يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وأنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم عادت حراما الى يوم القيامة».
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: الفتنة في قوله: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، الشرك بالله.
وقيل: إنما سمي الكفر فتنة لأنه يؤدي إلى الهلاك كما تؤدي إليه الفتنة..
قوله تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ «٢» وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (١٩١) :
صفة مشركي قريش، فلم يدخل أهل الكتاب في هذا الحكم، فلا جرم لا تقبل الجزية من المشركين لقوله تعالى: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) - يعني كفر- (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).
فمد القتال في حقهم إلى غاية وجود الإسلام، وفي حق أهل الكتاب إلى غاية وجود الجزية في قوله: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) «٣» لأنهم إذا أعطوا الجزية حصلت منفعة المسلمين، إلا في حق من لا يقنع منه بالجزية لعظم جريمته.
وبنى الشافعي رحمه الله على ذلك جواز قتل النساء المرتدات، لعظم جرائمهن وكبر ذنوبهن، وأن ذلك لا يندفع بالاسترقاق ومنفعته، كما لا يندفع بالجزية، وليس إذا عدم القتال منهن فلا مصلحة في قتلهن، بل في قتلهن مصالح منها:
(٢) ثقف الرجل: إذا ظفر به قال تعالى: «فاما تثقفنهم في الحرب» ورجل ثقيف إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور. انظر القاموس المحيط مادة: ثقف ولسان العرب، ومختار الصحاح.
(٣) سورة التوبة الآية ٢٩.
ففي قتلهن على هذا الوجه مصالح عظيمة، وهل يقاتل أكثر الناس إلا ذبا عن النساء؟
غير أنهن إذا حصلن في السبي، فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وبعد فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
وليس يتوقع من القتال إلا أذية المسلمين، وذلك يحصل للمسلمين بما يصدر منهن وإن لم يباشرن القتال، ولم تكن فتنة فني بها خلق في الأكثر، إلا كان سببه أمور النساء، والذي كان من شؤم البسوس «١» ورعيف حولا وغيرهما، مما نتج الحروب العظيمة وهيج الفتن الهائلة مشهور معروف..
قوله تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) «٢» الآية. (١٩٤)
روي عن الحسن أن مشركي العرب قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟.. قال: نعم، فأراد المشركين أن يغتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية «٣»..
(٢) قال الزجاج: «أعلم الله المسلمين أنه ليس لهم أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص» أهـ.
(٣) انظر تفسير القرطبي ج ٢ ص ٣٥٤، زاد المسير لابن الجوزي ج ١ ص ٢٠١.
- يغتروه: يأتوه على حين غرة.
وروي عن ابن عباس والربيع بن أنس والضحاك، أن قريشا لما ردت رسول الله عام الحديبية- محرما في ذي القعدة- عن البلد الحرام فأعاده الله إليه في مثل ذلك الوقت فقضى عمرته، وأقصه لما حيل بينه وبينه في يوم الحديبية «١»، فيكون على هذا التقدير إخبارا بما أقصه الله تعالى من الشهر الحرام، الذي صده المشركون فيه عن البيت بشهر مثله في العام القابل، ويتضمن مع ذلك أمرا بالقتال.
فإن قيل: إنه إذا حمل اللفظ على حقيقة الجزاء انتفى كونه أمرا، فيقال:
يجوز أن يكون الإخبار حاصلا في تعويض الله تعالى نبيه من فوات العمرة في الشهر الحرام، الذي صده فيه المشركون عن البيت، بشهر مثله في العام القابل، وكانت حرمة الشهر الذي أبدل كحرمة الشهر الذي فات، فلذلك قال: (وَالْحُرُماتُ «٢» قِصاصٌ)، ثم عقب ذلك بقوله:
(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١٩٤).
فأبان أنهم إذا قاتلوهم في الشهر الحرام، فعليهم أن يقاتلوهم فيه، وإن لم يجز الابتداء..
ويحتمل أن يكون الابتداء جزاء على ما كان من سابق فعلهم في
مكنه من القصاص.
(٢) الحرمات جمع حرمة، وهي: ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك. والقصاص: المساواة بأن يعامل غيره بمثل ما يعامله به في هذا المجال.
فمن اعتدى في الماضي بهتك حرماتكم في الشهر الحرام في البلد الحرام فاعتدوا عليه الآن بمثل ما اعتدى عليكم في الماضي، فيكون ذلك إباحة للقتال مطلقا في كل موضع وفي كل وقت، ويحتج بذلك في مراعاة المماثلة في القصاص على ما يقوله الشافعي رحمه الله..
قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) «١» الآية ١٩٥، روى يزيد بن حبيب عن أسلم بن أبي عمران أنه قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس:
مه مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: سبحان الله، أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، لما نصر الله تعالى نبيه، وأظهر دينه. قلنا هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى:
(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد..
قال الراوي: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة، هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك..
التهلكة: الهلاك، وقيل: كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك.
وروي عن البراء بن عازب، أن الإلقاء باليد إلى التهلكة، هو اليأس من الرحمة بارتكاب المعاصي.
وقيل: هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما ينفق فيتلف.
وقيل: هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو.
وقال محمد بن الحسن في السير الكبير: لو حمل رجل واحد على ألف من المشركين وهو وحده، لم يكن به بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل ما صنعه، فلا يبعد جوازه، لأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو، ليعلم العدو صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فيتلف نفسه لإعزاز الدين وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله:
(اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) الآية «١».. ، إلى غيرها من آيات مدح الله بها من يذل نفسه لله عز وجل.
وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل، كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى:
وقد روي عكرمة عن ابن عباس عن النبي عليه السلام أنه قال:
«أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله» «٢».
وروي أبو سعيد الخدري عن النبي عليه السلام أنه قال: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
وروى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «شر ما في رجل شحّ هالع، وجبن خالع».
وقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (١٩٦).
فالمنقول عن عمر وعلي وسعيد بن جبير وطاوس، أن الإتمام فيهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك..
وقال مجاهد: إتمامهما بلوغ آخرهما بعد الدخول فيهما، وذلك أشبه بالظاهر، ودل عليه ما بعده فإنه قال: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ)، والإحصار إنما يمنع الإتمام بعد الشروع، ويوجب ما استيسر من الهدى عند ذلك قد وجب الإتمام إجماعا، ويظهر أن مأخذ وجوبه هذه الآية، ولا فصل فيه بين الحج الأول والثاني، والعمرة الأولى والثانية.
(٢) رواه الحاكم وصححه، وقال الذهبي: فيه حفيد الصفار لا يدري من هو، ورواه الطبراني بأسانيد فيها ضعف.
فإذا كان كذلك، فالعدو إذا كان بعيدا منه على الطريق، فهذا هو التعريض للحصر، وهو متعرض به لأن ينحصر، وليس بمحصور في الحال ولا محبوسا، ولكنه معرض لذلك، فتقدير الآية:
فإن عرضتم للحبس والمنع، وإن لم يلحقكم في الحال حصر ولا منع، وذلك إنما يكون بالعدو، أما المريض فقد احتبس عليه المضي في الحال، فليس هو معرضا بل هو محصور في الحال، وقد حصره المرض ولذلك قال ابن عباس «٣» ذهب الحصر الآن.
وكذلك نزلت هذه الآية في شأن الحديبية، وما كان من حصر إلا العدو ولا يجوز أن لا يذكر سبب النزول ويذكر غيره، مما يدل على العدو بطريق الاستنباط والدلالة..
(٢) يقول الفراء: العرب تقول للذي يمنعه خوف أو مرض من الوصول الى تمام حجته أو عمرته: قد أحصر، وفي الحبس إذا حبسه سلطان أو قاهر مانع: قد حصر.
وقال الأزهري وأبو عبيدة «حصر الرجل في الحبس، وأحصر في السفر من مرض أو انقطاع به».
(٣) روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لأحصر الا حصر العدو، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء (تفسير ابن كثير).
ولا يجوز أن يكون المرض ها هنا هوام الرأس، فإنه ذكر ذلك بعد المرض فقال: (مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ).
ولهم أن يقولوا: لعله أباح ذلك قبل أن يبلغ الهدى محله، إذا حلق للأذى والمرض، أو عنى به مرضا لا يمنعه من الوصول إلى البيت، وإلا فأي معنى لذكر المرض عند ذكر الإحلال، وحكمه عند عدم الإحلام يثبت؟
ويحتمل على موجب مذهب أبي حنيفة أن قوله: فمن كان منكم مريضا، عائدا إلى أول الخطاب، كما عاد إليه حكم الإحصار وهو قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)، ثم عطف عليه قوله: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أي صددتم عن الإتمام، ثم عقب بقوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ). يعني أيها المحرمون بالحج والعمرة، ليكون على هذا الرأي مثبتا حكم المريض، إذا صد عن الإتمام أن الذي يجب عليه ما استيسر من الهدي، وأنه إن لم يكن المريض ممنوعا من الإتمام، فحكمه كذلك، ليكون قد بين حكم المرض دون الإحصار، والمرض عند الإحصار..
فقيل لهم: فقد قال: (فَإِذا أَمِنْتُمْ)، وذلك إنما يطلق على العدو لأن الأمن نقيض الخوف، ويقال في نقيض المرض الشفاء.
وحكي عن ابن الزبير، أنه لا يتحلل بالعدو والمرض إلا بأن يلقى البيت ويطوف «١»..
وقال ابن سيرين: الإحصار يكون من الحج دون العمرة، وذهب إلى أن العمرة غير مؤقتة وأنه لا يخشى الفوات..
والمذهبان مختلفان لنص الخبر عام الحديبية، فإنه عليه السلام تحلل من عمرته وكان محرما بها..
قوله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الآية (١٩٦) :
زعموا أن مطلق المحل هو الحرم، لقوله عز وجل: (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) «٢».
وقال في موضع آخر: (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) «٣» فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي، كما يجعل التتابع من صفات الصوم ولا خفاء بوجه الجواب عن هذا «٤».
فقيل لهم: فقد قال الله تعالى: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ)
(٢) سورة الحج آية ٣٣ ومعنى محلها أي مكان حل نحرها.
(٣) سورة المائدة الآية ٩٥.
(٤) ووجه الجواب أن المراد ببلوغ الهدي محله، ذبحه حيث يحل ذبحه في المحل، حلا كان أو حرما.
فقيل لهم: هو كذلك في غير المحصر وهو الأصل، فالإحصار عذر نادر، ودل قوله تعالى: (مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحلل بذبح وقع في الحل.
فأجابوا بأن النبي عليه السلام ذبح في الحرم، ولكن لما حصل أدنى منع، جاز أن يقال: إنهم منعوا لمنعهم الهدي بديا قبل الصلح، كما وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام، وإن كانوا أطلقوا بعد ذلك، وقال سبحانه: (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) «٢»، وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر.
وقد جوز مالك والشافعي وأبو حنيفة، ذبح هدي الإحصار في الحج متى شاء.
وأبو يوسف ومحمد والثوري لا يرون الذبح قبل يوم النحر، فكأنهم يقيسون الزمان على المكان، ويستدلون بقوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، والمحل يقع على الوقت والمكان جميعا فكان عموما.
ولا شك أن الله تعالى ذكر العمرة أيضا، ووردت الآية في صلح الحديبية، وهدي العمرة لا يتأقت بزمان بالاتفاق.
ولهم أن يقولوا: في الآية ذكر الحج والعمرة، وذكر محل الهدي فهو عموم إلا ما خصه دليل الإجماع.
ونقول من طريق النظر: إن الإختصاص بمكان التحلل، يدل على
(٢) سورة يوسف آية ٦٣.
ولما قال تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، ظهر منه أنه إذا بلغ الهدي محله جاز الحلق، وليس فيه دليل على وجوبه، بل يجوز أن يكون استباحة المحظور الذي كان، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد.
وأبو يوسف يوجبه في رواية.
والذي لا يوجب الحلق يقول: إنه لما سقط عنه سائر المناسك التي لم يتعذر فعلها، مثل الوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، ولم يمكنه الوصول إلى البيت، ولا الوقوف بعرفة، فلا يلزمه الوقوف بالمزدلفة، ولا رمي الجمار مع إمكانهما، لأنهما مرتبان على مناسك تتقدمهما، كذلك الحلق مرتب على أفعال أخر، لم يكن فعله قبلها نسكا.
وحجة أبي يوسف أنه صلى الله عليه وسلم: أمر بالحلق وترحم على المحلقين ثلاثا.
ويجاب عنه بأنه أمر وأعاد القول، لأنه أراد أن يتحللوا ويرجعوا وما كانوا يفعلون، لأنهم كانوا ينتظرون نزول القضاء، بأمر يمكنهم به الوصول إلى العمرة، ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلم بدأ فنحر هديه وحلق رأسه، فلما رأوه كذلك، حلق بعضهم وقصر بعضهم، فدعا للمحلقين ثلاثا لمبالغتهم في متابعة رسول الله، ومسارعتهم إلى أمره..
ولما قيل له: يا رسول الله، دعوت للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة؟
قوله: (فَإِذا أَمِنْتُمْ «١» فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ).
الآية (١٩٦).
ذكر ذلك بعد ما ذكر شأن المحصر، فقال ابن عباس وابن مسعود:
على المحصر بعد زوال الإحصار حجة وعمرة، فإن جمع بينهما في أشهر الحج، فهو متمتع وعليه دم، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه. وهو قول علقمة، والحسن، وإبراهيم، والقاسم، وسالم، ومحمد بن سيرين، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه.
وإنما يوجب عليه أبو حنيفة حجة وعمرة، إذا حل بالدم ولم يحج من عامه ذلك، ولو أنه حل من إحرامه قبل يوم النحر، ثم زال الإحصار فأحرم بالحج، ثم حج من علمه لم يكن عليه عمرة، لأنه رأى أن هذه العمرة إنما هي العمرة التي تلزم بالفوات، لأن من فاته الحج فعليه التحلل لعمل العمرة، فلما حصل حجه فائتا كان عليه عمرة للفوات.
والدم الذي عليه في الإحصار، إنما هو لتعجل إحلاله، لا لقيام الدم مقام الأعمال التي تلزم بالفوات، إذ الدم لا يقوم مقام تلك الأعمال «٢»، ويدل على ذلك: أن الدم لو قام مقام الأعمال، ما جاز الدم قبل الفوات، كما لا يجوز فعل العمرة التي لا تلزم بالفوات قبل الفوات، لعدم وقتها
(٢) في أحكام القرآن للجصاص العمرة بدل الأعمال في الموضعين.
وهذا من أبي حنيفة دليل دال، على أنه يجعل أعمال من فاته الحج، أعمال العمرة وهذا بعيد، فإنه لم ينو إلا الحج وما لزمه غيره، غير أنه إذا فاته من أعمال الحج ما يتأقت، وهو الوقوف، وجب أن يأتي منها بما لا يتأقت، فالمؤدي أعمال الحج لا غير، إلا أنه رخص في المحصر أن يتحلل، ولا يأتي بأفعال الحج، لا أن عليه مع الحج عمرة حتى يقضي الحج ويتداركه مع العمرة، ولو أمكن تدارك الوقوف دون غيره لفعل، ولكنه غير ممكن، فلا بيان لقوله في إيجاب العمرة مع الحج.
وإذا لم يحل المحصر حتى فاته الحج، ووصل إلى البيت، فعليه أن يتحلل بعمل عمرة.
وقال مالك: يجوز له أن يبقى محرما حتى يحج في السنة الآتية.
وقال: وإن شاء تحلل لعمل عمرة، ولا يجوز ذلك لفائت الحج لتقصيره، وكأنه يقول: جاز له التحلل نظرا له، فإذا اختار الضرر فله ذلك، وهذا بعيد. فإنه لو جاز له استبقاء الإحرام، لما جاز التحلل كما لا يجوز له التحلل في السنة الأولى، حين أمكن فعل الحج به، ولقوله وجه على كل حال..
(٢) صاحب أبي حنيفة رضي الله عنه.
وأبو حنيفة يحتج بأن آية الإحصار، نزلت في عام الحديبية، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم، معتمر، وكان قد اعتمر من قبل الهجرة مرارا، وقضى العمرة في القابل، وسميت عمرة القضاء «١»..
وعندنا يجوز أن يقضي وإنما الكلام في الوجوب..
ولما قال تعالى في المحصر: (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، قال أبو حنيفة: إذا لم يجد المحصر هديا، لا يحل حتى يجد هديا ويذبح عنه.
وقال الشافعي في قول: يحل ويذبح إذا قدر.
وقيل: إن لم يقدر على دم أجزأه، وعليه الطعام، أو الصيام إن لم يجد «٢» ولم يقدر، وقاسه على دم المتمتع.
واحتج محمد بن الحسن، بأن هدي المتمتع منصوص عليه، وهدي المحصر كذلك، فلا يقاس المنصوصات بعضها على بعض.
وذكر غيره أن الكفارات بالقياس لا يجوز إثباته، ووجه الجواب عنه بين.
قوله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) إلى قوله: (فَفِدْيَةٌ)
(٢) أي لم يجد الطعام.
فعلى هذا إن قال قائل: (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) معناه: فحلق، ففدية قبل الحلق «٢»، وهو غير مذكور وإن كان مرادا، وكذلك اللبس وتغطية الرأس، كل ذلك غير مذكور وهو مراد، لأن المعنى فيه استباحة ما يحظره الإحرام للعذر، وكذلك لو لم يكن مريضا وكان به أذى في بدنه، يحتاج معه إلى حلق الشعر، كان في حكم الرأس في باب الفدية، إذ كان المعنى معقولا وهو استباحة ما يحرمه الإحرام في حالة العذر.
وصيام الجبرانات «٣» ثلاثة أيام في خبر كعب بن عجرة، ويحكى فيه خلاف ذلك عن الحسن وعكرمة، وأن الصيام لها عشرة أيام كصيام المتمتع.
وأما النسك فأقله شاة.
والفدية بالصدقة، أن يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع من تمر أو
(٢) في الجصاص قيل: الحلق غير مذكور....
(٣) ما ينجبر به الفعل ويذهب أثر النقص فيه بسببه.
والشافعي يرى أن وجوب الذبح متى كان في الحرم، أوجب اختصاص التصدق باللحم بالحرم أيضا، وهذا أيضا مذكور في علم الخلاف..
قوله تعالى: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الآية.. ،
والتمتع كرهه عمر، لأنه أحب عمارة البيت بكثرة الزوار له في غير الموسم، وأراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم، تحقيقا لدعوة إبراهيم عليه السلام بقوله:
(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) «١».
ورخص الشرع في ذلك نظرا لأرباب الدور البعيدة «٢»، وليجمعوا بين النسكين في أيام الحج، مراغمة لأهل الجاهلية، في جعلهم العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وأكبر الكبائر.
وسماه الله تعالى تمتعا، لأنه تمتع بربح سفر العمرة.
ولزمه الدم لذلك، ولم يجب على حاضري المسجد الحرام، لأنهم لم يربحوا سفرا.
وأبو حنيفة يقول: لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، فإن قرن منهم قارن أو تمتع، فهو مخطئ، وعليه دم لا يأكل منه، لأنه ليس هو بدم متعة، إنما هو دم جناية.
(٢) تيسيرا لهم: رحمة بهم وشفقة عليهم.
واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى: (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ «١» حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). فانصرف ظاهره إلى القرآن والمتعة، أي: ليس للحاضرين ذلك، ولو كان المراد به الدم لقال: «ذلك على من لم يكن».
والشافعي يقول: لهم، بمعنى عليهم، وإلا فالنسك لا يختلف في متعة أهل مكة من القرآن.
والتمتع دليل على أن القرآن رخصة، لكنه رآها لأرباب المسافة البعيدة، وذلك يقتضي كون الإقران أفضل، لأن الرخصة لا تكون أفضل، بل هي لمكان الحاجة، وكونه رخصة، يقتضي كون الدم دم جبر، حتى لا يؤكل منه خلافا لأبي حنيفة.
ثم اعتقد أبو حنيفة أن استثناء أهل مكة، إنما كان لإلمامهم بالأهل، فالإلمام بالأهل بين العمرة والحج في حق الآفاقي، يمنع كونه متمتعا، ولم ينظر إلى صورة السفر، وقال: إذا خرج من مكة حتى جاوز الميقات، فهو متمتع، إن حج من عامه ذلك، إذا لم يلم بأهله بعد العمرة.
وقال أبو يوسف: إنه ليس بمتمتع، لأن ميقاته الآن في الحج ميقات أهل بلده، لأن الميقات صار بينه وبين مكة، فكان بمنزلة عوده إلى أهله، وزعموا أنه لو أحرم بالعمرة في رمضان، واعتمر في شوال، وحج من عامه، كان متمتعا، وإن وقع الإحرام في غير أشهر الحج،
وشيء من ذلك لا يعتبر عندنا..
وأما حاضري المسجد الحرام، فهم من كان دون مسافة القصر عند الشافعي، ودون الميقات عند أبي حنيفة، ويبعد جعل أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام، وبينهم وبين مكة مسيرة عشرة أيام.
وذكر عبد الله بن الزبير، وعروة بن الزبير متعة أخرى: وهو أن يحصر الحاج المفرد بمرض أو أمر يحبسه فيقدم فيجعلها عمرة، ويتمتع بحجه إلى العام القابل ويحج، فهدا المتمتع بالعمرة إلى الحج، فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل، ولكنه يبقى على إحرامه، حتى ينحر عنه الهدي يوم النحر، ثم يحلق ويبقي على إحرامه، حتى يقدم مكة فيتحلل بعمل عمرة من حجه..
والذي ذكره ابن الزبير بخلاف عموم قوله: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) بعد قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، ولم يفصل في حكم الإحصار بين الحج والعمرة، والنبي عليه السلام وأصحابه، حين حصروا بالحديبية، حلق وحل وأمرهم بالإحلال، وعلى أن الذي يلزم بالفوات، ليس بعمرة، وإنما هو مثل عمل عمرة، وهي من أعمال الحج.
والله عز وجل يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). فجعل الهدي معلقا بفعل العمرة والحج،
نعم إذا بان أنه ليس بعمرة، فالذي قاله أبو حنيفة، من وجوب قضاء الحج والعمرة على المحصر بعد التحلل ليس بصحيح.
المتعة الأخرى: وهي فسخ الحج، إذا طاف له قبل يوم النحر، وهذا الحكم غير ثابت، إلا على قول ابن عباس، فإنه كان يراه على ما رواه عطاء عنه، وأنه كان يقول: لا يطوف أحد بالبيت قبل يوم النحر إلا حل من حجه، فقيل له: من أين قلت ذلك؟..
فقال: من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأمره الناس في حجة الوداع أن يحلوا، ومن قول الله تعالى: (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، وتظاهرت الأخبار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر أصحابه بفسخ الحج، من لم يكن معه منهم هدي، ولم يحل هو عليه السلام وقال:
«إني سقت الهدى فلا أحل إلى يوم النحر»، ثم أمرهم فأحرموا بالحج يوم التروية، حين أرادوا الخروج إلى منى، وهي إحدى المتعتين اللتين قال عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنهما وأضرب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج.
وروي عن بلال بن الحارث «١» المزني أنه قال: قلت: يا رسول
وتوفى بلال سنة ستين آخر أيام معاوية وهو ابن ثمانين سنة انظر أسد الغابة ج ١ ص ٢٤٤ وله ترجمة في الاستيعاب.
فقال: لا، بل لنا خاصة.
وقال أبو ذر «١» : لم يكن فسخ الحج بعمرة، إلا لأصحاب رسول الله..
وقال قوم: إن أمر النبي ﷺ أصحابه بالإحلال، كان على وجه آخر، وذكر مجاهد ذلك الوجه، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كانوا فرضوا الحج أولا، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا، وينتظرون ما يؤمرون به، وكذلك أهل على اليمن، وكذلك كان إحرام النبي عليه السلام، ويدل عليه قوله عليه السلام:
«لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».
وكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به، وبه أمر أصحابه، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
«أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك- وهو بوادي العقيق- فقال: صل بهذا الوادي وقل حجة في عمرة».
وكان أبو ذر من كبار الصحابة وفضلائهم، قديم الإسلام، توفي بالربذة سنة احدى وثلاثين، أو اثنين وثلاثين وصلى عليه عبد الله بن مسعود ثم مات بعده في ذلك العام.
ولأن المقصود إبانة حكم مفسوخ، وفي وقتنا هذا تمام العمرة، إذا صرف إلى أحد النسكين، تعين فلا يقبل الفسخ..
والصحيح في ذلك ما ذكرته عائشة، وقد أنكرت أن يكون النبي عليه السلام، أمر بفسخ الحج على حال، وقالت:
«خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمنا من أهلّ بالحج، ومنا من أهلّ بالعمرة، ومنا من قرن»، فمن أهل بحج مفرد أو قرن، لم يحل حتى يقضي مناسك الحج، ومن أهل بعمرة وطاف وسعى، حل من إحرامه حتى يستقبل حجا..
وروي عن أصحاب أبي حنيفة، بناء على الأقوال الأولى، أن هدي المتعة لا يجزئ قبل يوم النحر، لأن النبي عليه السلام قال:
«لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».
وقد كان النبي عليه السلام قارنا وقد ساق الهدي، وقال لعلي:
«إني سقت الهدي فلا أحل قبل يوم النحر» «١»، فدل على امتناع جواز ذبح الهدى للمتعة قبل يوم النحر.
وكانت عائشة وافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالت:
أكل نسائك ينصرفن بنسكين وأنا أنصرف بنسك واحد؟ فأمر رسول الله ﷺ عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم، فاعتمرت وانصرفت بنسكين.
وقوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) الآية (١٩٦). يدل على أن صيام الثلاثة الأيام يجب أن يقع في الحج، لا كما قال أبو حنيفة، إنه يجوز ذلك بعد الإحرام بالعمرة، قبل الإحرام بالحج..
وقوله تعالى: (فِي الْحَجِّ) : إما أن يكون المراد به: في الإحرام بالحج، أو في أشهر الحج، وأحد المعنيين خلاف الإجماع فتعين الثاني..
وكيف يجوز أن يعلق البدل على عدم الأصل، ثم يجوز البدل في غير وقت جواز الأصل؟
وإن زعموا أن رسول الله ﷺ قال:
«إني سقت الهدي فلا أحل قبل يوم النحر»، فهذا هو التحلل من الحج لا غيره.
ولكن سبب البدل يكون بسبب الأصل لا محالة، فأما أن يمتنع الأصل، ولا يمتنع البدل فلا وجه له، وبه يعلم أن لا سبب قبل الإحرام بالحج، فإنه إنما يمتنع بإخلاء بعض وقت الحج عن الإحرام بالحج وشغله بغيره، فلا يظهر ذلك ولا يتحقق، قبل الإحرام بالحج.
ولأجل بناء البدل على الأصل قلنا: إن لم يصم المتمتع قبل يوم النحر، صام الثلاث بعد أيام التشريق.:
وقال أبو حنيفة: لا يصوم بعد أيام الحج، ويصوم قبل الإحرام بالحج وأيامه، وهذا تناقض بين، وقصارى قوله تعالى: (فِي الْحَجِّ) بيان وقت الجواز، وأنه يتهيأ له في تلك الحالة، لأنه يكون على صورة المقيمين، وإلا فصيام الثلاثة والسبعة والهدى ميقاتها واحد، ويجوز تأخيرها عندنا بعذر السفر، وهو كأداء الكفارات بعد وجوبها من غير فرق.
وسوى أصحاب الشافعي بين الأصل والبدل، وصيام السبعة والثلاثة في أن جميعها شيء واحد.
وفرق أبو حنيفة وأصحابه بينهما وقالوا: إذا وجد الهدي بعد دخوله في الصوم قبل أن يحل، فعليه الهدي ويبطل حكم الصوم.
وعند الشافعي: كما لا يبطل صوم السبعة بوجود الهدى بعد الثلاثة، فكذلك بعد الصوم في أول اليوم أو في ثانيه، لأن الله تعالى قال: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) (١٩٦) فجعل الجميع بدلا.
(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).
فمن لم يحل حتى وجد الهدي، فعليه الهدي، لأن الله عز وجل لم يفرق في إيجابه الهدي بين حاله قبل دخوله في الصوم أو بعده، وهذا غلط، ولو كان وجوب الهدي لمكان التوصل به إلى الإحلال، ما ثبت وجوبه إلا على هذا الوصف، ويسقط بالإحلال دون الهدي، إذا لم يجد الهدي ولم يصم الثلاثة، وهذا خلاف الإجماع. ولأنه أوجب الهدى على المتمتع، فكان ذلك مضافا إلى تمتعه لا إلى غيره، وذلك لا يستدعي وصف الإحلال، ولو كان لوصف الإحلال، لما شرع صوم السبعة بدلا عن الهدي بعد الإحلال، لأن البدل يقصد به ما قصد بالأصل، ولا يجوز أن يشرع بعض البدل لمقصود، وبعضه لمقصود آخر..
نعم أوجب الله تعالى عليه الهدي أولا جزاء على تمتعه، فإذا لم يجد أوجب الصوم، فإذا ابتدأ الصوم ها هنا أو صوم الظهار، فقد صح الصوم، ومتى صح الصوم، سقط عنه فرض الرقبة والهدي لصحة الجزاء المفعول عنه، ولذلك قالوا في المتيمم إذا رأى الماء في خلال صلاته، إن فرض الطهارة بالماء يسقط عنه لهذه الصلاة، فخرج الوضوء عن كونه شرطا في حق هذه الصلاة، وليس يمكن أن يقال إن الصلاة أو الصوم موقوفان لا يحكم بصحتهما، فإن الوقف إنما يكون إذا لم تكمل شرائط الصحة، فأما إذا كملت الشرائط، فلا يمكن أن يجعل موقوفا، ولو بطلت العبادة، فليس بطلانها نظرا إلى الحال، بل لمكان
قوله تعالى: (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ)، يحتمل الرجوع إلى أهله ويحتمل الصوم في الطريق في حالة الرجوع من منى.
وقوله (كامِلَةٌ)، يحتمل أنها كاملة في قيامها مقام الهدي.
ويحتمل أن يزيل به خيال تأويل مستكره، وهو أن الواو ربما تذكر بمعنى أو، فأزال هذا الاحتمال بقوله: كاملة.
وجعل الشافعي هذا من البيان الأول، فقيل له: قوله: ثلاثة وسبعة، غير مفتقر إلى البيان، فكيف يعده من أقسام البيان؟..
فأجاب بأنه لا يحتاج إلى بيان ليخرج به عن حد الإشكال، ولكنه يخرج به عن حد الاحتمال البعيد الضعيف، فجعلناه في أول أقسام البيان، لأن معناه تجلى على وجه لا مرتقى بعده في درجات البيان..
قوله:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (١٩٧).
اختلف الناس في أشهر الحج ما هي؟..
فقال ابن عباس وابن عمر: إنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة «١».
وعن ابن مسعود: أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة «٢».
وعن ابن عباس وابن عمر في رواية أخرى مثله، وكذلك روي عن طاوس ومجاهد..
(٢) والى هذا القول ذهب أيضا (عطاء)، ومجاهد، وابن عمر في رواية. والامام مالك في رواية أيضا.
ويقال: حجبت عام كذا، وإنما حج في بعضه، ولقيت فلانا في سنة كذا، وإنما كان لقاؤه في بعضها، وكلمته يوم الجمعة وإنما المراد به البعض.. هذا في فعل لا يستغرق كل الوقت..
ويحتمل وجها آخر: وهو أن الجاهلية كانوا ينسئون الشهور، فيجعلون صفر المحرم، ويستحلون المحرم على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون بها القتال، فأبطل الله تعالى النسيء، وأقر وقت الحج على ما كان عليه ابتداؤه يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة إثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان، فقال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)، يعني بها هذه الأشهر، التي ثبت وقت الحج فيها، دون ما كان عليه أهل الجاهلية من تبديل الشهور وتقديم الحج وتأخيره، وقد كان الحج عندهم معلقا بأشهر الحج، التي هي الأشهر الحرم الثلاثة التي يأمنون فيها صادرين وواردين، فذكر الله تعالى هذه الأشهر، وأخبر باستقرار أمر الحج فيها، وحظر عليهم تغييرها وتبديلها إلى غيرها.
ويحتمل أيضا أن الله تعالى لما قدم ذكر التمتع إلى الحج، ورخص فيه وأبطل به ما كانت العرب تعتقده من حظر العمرة في هذه الأشهر،
قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ «١» قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (١٨٩) :
فاستدل بعض الحنفية، على كون جميع شهور السنة مواقيت للحج، كما كانت بأسرها مواقيت للناس، ولزمهم من هذا أن يكون الحج المطلق، عبارة عن الإحرام فقط، دون سائر الأفعال، مع أن الإحرام عندهم، ليس من الحج، بل هو شرط الحج، والذي هو الحج من طواف القدوم في غير أشهر الحج، وسعى، لم يجز إجماعا، فإذا علم ذلك، فحمل اللفظ على بعض الشهور، أولى من حمل الحج المطلق على الإحرام، الذي ليس من الحج، وإنما هو طريق إليه وشرط له، ولأن الله تعالى لم يرد جعل الأهلة ميقاتا للحج، باعتبار كونها أهلة، فإن الإحرام ليس يتعين له أول الشهر، ولا المواقيت أيضا، وإنما الأهلة عبارة عن جملة الشهر، فإن السائل سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما أجمع عليه أهل التفسير وقال: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو مستدقا، ثم ينمو حتى يتكامل ثم ينقص.
وكان السؤال من معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن زيادة القمر ونقصانه، فأخبر الله تعالى أن الحكمة في زيادته ونقصانه، زوال الالتباس
ولا شك أن الوقت في الوقوف متعلق بالهلال، فالهلال ميقات له، لأنه به يعرف، وكذلك الطواف، فلا يتضمن ما قلناه، إطلاق اسم الحج على شرط الحج، دون نفس الحج.
فإن قيل: فعلى قولكم أيضا قد قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) والأفعال كالوقوف، وسائر الأفعال إنما تقع في غير الأهلة، بل في وسط الشهر لا في الأشهر، فليس في شوال من أفعال الحج شيء، فقد أخرجتم الحج عن أن يكون اسمه متناولا لشيء من الأفعال سوى الإحرام.
قلنا في جواب ذلك: إن الإحرام ركن الحج عندنا، فقوله:
(الحجّ أشهر)، يعني عقد الحج وإنشاؤه في أشهر معلومات..
قالوا: احتمل أن يكون المراد به غالب أحوال الناس، وكأنه قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) في تعارف الناس، فمن فرض في هذه الأشهر الحج، فلا يخلن بحقه، وليرفض الفسوق والرفث والجدال كما قال الله تعالى في صوم رمضان: (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)، والمقصود به تهوين الأمر عليهم دعاء إلى فعله، لا سيما وليس في قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) صنفة الأمر، فيجوز أن يكون إخبارا عن متعارف أحوال الناس، في إيقاع الإحرام بالحج في هذه الأشهر، وهذا لأنا لا ننكر احتمال اللفظ له، إلا أن الظاهر ما قلناه.
ومما سألوه أن من فروض الحج، ما يفعل بعد أشهر الحج، ويكون مفعولا في وقته، وهو طواف الزيارة، ولم يجز شيئا من فروض الصلاة
والجواب عنه، أنه وقت لأعمال حج، لا يتصور بقاء الإحرام به، فإن الطواف في هذا اليوم، إنما يكون لحج يقدم الإحرام به قبل يوم النحر، وذلك الحج بالاتفاق، لا يتصور بقاؤه في هذا الوقت، والذي ينعقد من الإحرام في هذا الوقت، لا يتصور أن يكون هذا الوقت وقتا لأعماله، فكيف يجوز الاستدلال به؟
بل يقال إن فواته يدل على أن الوقت الذي لا يبقي فيه الإحرام، لا يجوز أن يكون وقتا لابتداء مثله، وهذا أقرب في الاستدلال.
قوله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ «١» الْحَجَّ) (١٩٧) أي أوجبه على نفسه فيه.
وظن بعض الناس أنه لا بد من شيء يصح القصد إليه، ويصح فرضه، يعني إيجابه، وهو التلبية، وهو مذهب أبي حنيفة.
والشافعي يقول: أوجب فيه على نفسه فعل الحج، وهو منقسم
قوله: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) «٢» الآية (١٩٧) :
قال ابن عمر: الرفث الجماع.
وعن ابن عباس مثل ذلك.
وروي عنه أنه التعريض بالنساء.
والأصل في الرفث الإفحاش في القول، وبالفرج الجماع، وباليد الغمز للجماع، هذا أصل اللغة.
فدلت الآية، على النهي عن الرفث في هذه الوجوه كلها، ومن أجله حرم العلماء ما دون الجماع في الإحرام، وأوجبوا في القبلة الدم.
وأما الفسوق فالسباب «٣»، والجدال والمراء، وقيل: هو أن تجادل صاحبك حتى تغضبه، والفسوق المعاصي، فدلت الآية على تحريم أشياء لأجل الإحرام، وعلى تأكيد التحريم، في أشياء محرمة في غير الإحرام، تعظيما للإحرام، ومثله قوله:
«إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن جهل عليه
(٢) الرفث: الفحش بالكلام، وكل ما يتعلق بذكر الجماع ودواعيه، والفسوق الخروج عن طاعة الله سبحانه، يقول تعالى عن إبليس «ففسق عن أمر ربه». والجدال الخصام، والمراء، والمماراة، والأصل في تحريم هذه قوله تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) وقوله صلّى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) أخرجه البخاري عن أبي هريرة.
(٣) وقد ورد في الحديث الصحيح: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
أحكام القرآن ج ١ م ٨
قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا) «٢» في هذا المقام، يعطي التزود للحج حتى لا يتكلوا على الناس وسؤالهم، وقوله في مساق ذكر الحج:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ «٣» أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (١٩٨).
يدل على جواز التجارة في الحج، حتى لا يتوهم متوهم أن ذلك لا يجوز، حتى لا يصرفه عن إكمال الحج، كما لا يجوز «٤» الاصطياد.
قوله تعالى: (فَإِذا أَفَضْتُمْ «٥» مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) (١٩٨) :
(٢) الزاد: ما يتزود به الإنسان من طعام وشراب لسفره، والمراد به التزود للآخرة بالأعمال الصالحة وصدق من قال:
تزود من التقوى فإنك راحل... وبادر فان الموت لا شك حاصل
فخير لباس المرء طاعة ربه... ولا خير فيمن كان لله عاصيا
(٣) الجناح: الحرج والإثم.
(٤) انظر البخاري، كتاب الحج باب التجارة أيام الموسم.
(٥) قال الراغب: فاض الماء إذا سال منصبا، والفيض: الماء الكثير، ويقال غيض من فيض، أي قليل من كثير، وقوله تعالى: (أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) أي دفعتم منها بكثرة تشبيها بفيض الماء أهـ.
وقال الزمخشري: (أفضتم دفعتم بكثرة، وهو من افاضة الماء وهو صبه بكثرة) أهـ وعرفات: اسم علم للموقف الذي يقف فيه الحجاج، سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها. انظر الآلوسي والقرطبي ومفردات الراغب، وتفسير الكشاف ج ١ ص ١٨٥.
والمشعر الحرام: هو جبل المزدلفة وسمى مشعرا لأنه معلم العبادة. ووصف بالحرام لحرمته. الفخر الرازي. ومفردات الراغب.
ونقل الفخر عن الواحدي في (البسيط) : أن المشعر الحرام هو المزدلفة، سماها الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به، والدعاء عنده، ثم قال: لأن الفاء في قوله:
(فَاذْكُرُوا اللَّهَ... إلخ) تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الافاضة من عرفات، وما ذاك الا بالبيتوتة بالمزدلفة أهـ.
وقوله:
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) (١٩٩)..
قيل: معناه أنه خطاب للحمس وهم قريش، فإنهم كانوا يقفون بالمزدلفة، ويقف سائر الناس بعرفات، فلما جاء الإسلام، أمرت قريش بأن تفيض من حيث أفاض الناس ويقفوا منهم «١»..
وقال الضحاك: إنه أراد به الوقوف بالمزدلفة، وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام، وسماه الناس، كما سماه أمة، لأنه بوحدته «٢» أمة كالناس، وأكثر الناس على القول الأول، إلا أن قول الضحاك أقوى من حيث دلالة النظم، فإن الله تعالى قال: (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ)، فذكر الإفاضة من عرفات، ثم أردف ذلك بقوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)، وثم تقتضي الترتيب لا محالة، فعلمنا أن هذه الإفاضة، هي بعد الإفاضة من عرفات، وليس بعدها إفاضة، إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام، فكان حمله
(٢) كذا في الأصل ولعلها وحده، قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: «أن ابراهيم كان أمة» أنه كان مؤمنا وحده، والناس كلهم كفار فلهذا المعنى كان أمة وحده (حاشية الجمل). [.....]
ويبعد أن يقول: (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ) بعد الإفاضة من المشعر الحرام، ثم أفيضوا من عرفات.
وغاية ما قيل في القول الآخر: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)، عائد إلى الكلام الأول، وهو الخطاب بذكر الحج ومناسكه، ثم قال: أيها المأمورون بالحج من قريش- بعد ما تقدم ذكرنا له- أفيضوا من حيث أفاض الناس، فيكون ذلك راجعا إلى صلة خطاب المأمورين، وهو كقوله تعالى:
(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) «١».
والمعنى: ثم بعد ما ذكرنا لكم، أخبركم أنا أتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن.
ويعترض عليه، أن ذكر الإفاضة إذا تقدم وعقب بعده بنسك آخر، يقتضي الإفاضة، فلا يحسن أن يذكر بكلمة ثم ما يرجع على الإفاضة من الذي تقدم، دون أن يرجع إلى ما يليه.
وقد قيل: إن ثم بمعنى الواو، ولا يبعد أن يقول: (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ)، (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)، مثل قوله تعالى: (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) «٢».. ومعناه: وكان من الذين آمنوا، (ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ) «٣» ومعناه «والله شهيد».
(٢) سورة البلد آية ١٧.
(٣) سورة يونس من الآية ٤٦.
فأجابوا: بأن فائدته أن يعلم أنه ليس خطابا لمن كان يقف بها من قبل، دون من لم يكن يرى الوقوف بها، فيكون التاركون للوقوف على ملة إبراهيم في الوقوف بالمزدلفة دون عرفات، فأبطل ظان «١» الظان لذلك بقوله: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)..
أما كون الوقوف ركنا لا يصح الحج بدونه، فإنما علم بالإجماع وفيه إخبار أيضا، فمنه ما رواه عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال:
سئل النبي عليه السلام: كيف الحج؟ قال: «يوم عرفة، من جاء عرفة ليلة جمع قبل الفجر فقدتم حجه»..
وروى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي، أن النبي عليه السلام قال بالمزدلفة:
«من صلّى معنا هذه الصلاة، ووقف معنا هذا الموقف، ووقف بعرفة ليلا أو نهارا، فقد تم حجه وقضى تفثه» «٢».
وليس وجوب الوقوف والاعتداد به مخصوصا بالليل أو النهار، فالوقوف نهارا غير مفروض، وإنما هو مسنون، وقد دل ما رويناه من الخبر ومطلق قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا)، على عدم اختصاصه بليل أو نهار، ولا يعرف لمذهب مالك وجه، إلا أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها، إذا صارت الشمس على رؤوس الجبال، كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنما كانوا يدفعون من المزدلفة، بعد طلوع
(٢) أخرجه الترمذي في سننه ج ٣، ص ٢٢٩.
والذي قالوه، لا يقتضي أن يكون فرضا، بل يجوز أن يكون ندبا، فإثبات الوجوب على هذا المعنى لا وجه له.
وقوله تعالى: (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ)، ولم يختلف العلماء في أن المشعر الحرام هو المزدلفة، ويسمى جمعا أيضا، والذكر الثاني في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ)، هذا الذكر المفعول عند المزدلفة غداة جمع، فيكون الذكر الأول غير الثاني، والصلاة تسمى ذكرا لقوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) «١».
فيجوز أن يفهم منه تأخير صلاة المغرب، إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة، وتواترت الأخبار في جمع النبي عليه السلام بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
واختلف فيمن صلّى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة، فالشافعي وأبو يوسف يجوزان، وأبو حنيفة ومحمد لا يجوزان.
فأما الوقوف بالمزدلفة فليس بركن عند أكثر العلماء، وقال الأصم وابن علية: إنه ركن، وقوله عليه السلام: الحج عرفة.
ومن وقف بعرفة قبل أن يطلع الفجر، فقدتم حجه بإدراك عرفة، ولم يشترط معه الوقوف بجمع.
قوله تعالى:
(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (٢٠٠) :
قضاء المناسك أداؤها على التمام مثل قوله تعالى:
(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً) «١».
وقال صلّى الله عليه وسلم: «فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» «٢» يعني: فافعلوا على تمام.
وقوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) : فيه معنيان محتملان:
أحدهما: الأذكار المفعولة في خلال المناسك كقوله:
(إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) «٣».
وهو مأمور به قبل الطلاق على مجرى قولهم: إذا حججت فطف بالبيت، وإذا صليت فتوضأ، وإذا أحرمت فاغتسل.
قوله تعالى: (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ)،
(٢) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد في مسنده ولفظه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا».
(٣) سورة الطلاق آية ١.
«إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها للآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ثم تلا:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) إلى قوله (عَلِيمٌ خَبِيرٌ) «٢».
قوله تعالى:
(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (٢٠٣).
وقال في موضع آخر: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) «٣».
فرأى الشافعي: أن «المعلومات» : العشر الأول من ذي الحية، وآخرها يوم النحر.
وروي عن علي رضي الله عنه، أن «المعلومات» يوم النحر ويومان بعده، في أيهما شئت.
وروى الطحاوي عن أبي يوسف، أنه قال في جواب مسألة أبي العباس الطوسي، عن الأيام المعلومات، إنها أيام النحر، وقال: روي
(٢) سورة الحجرات آية ١٣.
(٣) سورة الحج آية ٢٨.
(عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ).
وحكى الكرخي عن محمد، أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاث:
يوم الأضحى ويومان بعده.
وعن أبي حنيفة: المعلومات: العشر، ولم يختلف قول أبي حنيفة في ذلك كما لم يختلف قول الشافعي.
واحتجاج من احتج على أن المعلومات، أيام النحر، بقوله تعالى:
(عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)، لا يصح، لأن في العشر يوم النحر، وفيه الذبح، فعلى قول أبي يوسف ومحمد، لا فرق بين المعلومات والمعدودات، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق فلا خلاف، ولا يشك أحد في أن المعدودات لا تتناول أيام العشر، فإن الله تعالى يقول: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثالث.
وروي عن ابن عباس أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق، وهو قول الجمهور، وليس في الأدلة ما يقتضي افتراقهما.
ودلالة المعدودات على أيام التشريق بينة من جهة ما بعدها، فأما دلالة المعلومات على العشر، فليست ظاهرة من جنب الآية.
ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة بعد يوم النحر، وأن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني منها، إذا رمى الجمار وينفر، وأن له أن يتأخر إلى اليوم الثالث، حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر.
قوله:
(يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ»
وَالْأَقْرَبِينَ) (٢١٥) :
يبعد حمله على الواجب الثابت في الحال، فإنه لا يجب الإنفاق على اليتامى والمساكين والذي يجب لهم الزكاة، وذلك لا ينصرف إلى الوالدين والأقربين، إلا أنه يحمل على صدقة التطوع.
ويجوز أن يريد به الصدقة المتطوع بها.
ويجوز أن يزيد به إبانة مصارف المال التي يستحق بها الثواب.
وقد قيل: قد انتسخت بآية الزكاة.. هذا على تقدير كون المراد بالآية الزكاة، فإنها تجب لليتامى والمساكين «٤»..
ويبعد أن يقال: إن المراد في البعض التطوع، وفي البعض الفرض، واللفظ واحد...
(٢) سورة المنافقون آية ١. [.....]
(٣) السؤال واقع عن مقدار ما ينفق، والجواب صدر عن القليل والكثير في قوله:
(مِنْ خَيْرٍ) مع بيان من تصرف اليه النفقة (جصاص).
(٤) فان الزكاة- كما قال ابن العربي- كانت موضوعة أولا في الأقربين ثم بين الله مصرفها في الأصناف الثمانية.
وذلك إما أن يكون مجملا موقوفا على بيان يرد ما بعده من البيان، لامتناع قتال الناس كلهم، وإما أن يكون مبنيا على معهود متقدم، ولا يعقل دون هذين.
قوله: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) الآية (٢١٧) :
وقال عطاء: لم ينسخ ذلك وكان يحلف عليه.
وقال آخرون: هي منسوخة بقوله تعالى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) «٢».
ولا شك أن عموم ذلك، يرفع خصوص ما قبله عند الشافعي، وإن خالفه بعض الأصوليين في انتساخ القيد بالمطلق بعده، ورأوا نسخ «٣» القتال في البلد الحرام، بعموم قوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) «٤»، وهذا أيضا من قبيل الأول.
نعم صح ورود العمومين بعد المقيدين.
وذكر الحسن وغيره، أن الكفار سألوا النبي عليه السلام عن ذلك على جهة التعنيت للمسلمين، باستحلالهم القتال في الشهر الحرام.
«الكره بالضم ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح: ما أكرهك غيرك عليه».
(٢) سورة التوبة آية ٢٩.
(٣) أي نسخ تحريم القتال فلعل هنا سقطا وتحريم مكة ثابت بالأحاديث الصحيحة.
(٤) سورة التوبة آية.
وقيل: إنها نزلت على سبب، وهو قتل واقد بن عبد الله الحضرمي مشركا، فقال المشركون: قد استحل محمد القتال في الشهر الحرام، ورأى المشركون مناقضة قولهم بإقامتهم على الكفر، مع استعظامهم القتل في الأشهر الحرام، مع أن الكفر أعظم الإجرام.
فإن وردت الآية العامة على هذا السبب، فلا شك في النسخ، فإن اللفظ العام في موضع السبب نص.
وفيه أيضا شيء آخر وهو: أن الله تعالى نبه على العلة فقال: إنهم استعظموا القتل في الشهر الحرام، فالذي كان منهم أعظم، وإنما سقطت حرمتهم في الشهر الحرام، لعظم جرائمهم، وهو الكفر بالله في الشهر الحرام.
قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ «١» وَالْمَيْسِرِ» ) الآية (٢١٩)...
فأما تحريم الخمر، فيمكن أن يوجد من هذا، لأن قوله عز وجل:
ويقول ابن الأنباري: سميت خمرا لأنها تخامر العقل، أي تخالطه، يقال: خامره الداء أذا خالطه.
والميسر: القمار، قال الأزهري: الميسر الجزور الذي كانوا يقامرون عليه. وفي الصحاح: يسر القوم الجزور إذا اقتسموا أعضاءها.
ويمكن أن يقال: إن المفسدة في السكر، وليس في ذلك بيان تحريم القليل الذي لا يسكر.
ويمكن أن يقال لا، بل في شرب الخمر مفسدة عظيمة، لإفضاء قليل الشرب إلى كثيره، وذلك يحتمل أيضا وليس بنص.
وأما الميسر فهو في اللغة من التجزئة، وكل ما جزأته ففد يسرته، ويقال للجازئ ياسر لأنه يجزر الجزور، والميسر: الجزور نفسه إذا جزئ، وكانوا ينحرون جزورا، ويجعلونه أقساما، يتقامرون عليها بالقداح على عادتهم في ذلك، فكل من خرج له قدح، نظر إلى ما عليه من التسمية، فيحكمون له بما يقتضيه من أسماء القداح، فسمي على هذا سائر ضروب القمار ميسرا.
وقال ابن عباس: «الميسر: القمار».
وقال عطاء: «حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز».
وكانت المخاطرة في أول الإسلام مباحة، حتى خاطر أبو بكر المشركين، حتى نزلت (الم، غُلِبَتِ الرُّومُ) «٢». فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «زد في المخاطرة وامدد في الأجل» «٣»، ثم حظر ذلك
(٢) سورة الروم آية ١- ٢.
(٣) رواه ابن جرير وأصله عند الترمذي وحسنه والنسائي، ورواه ابن أبي حاتم عن البراء (راجع تفسير ابن كثير).
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) «٢» يقتضي جواز السبق بها، لما فيه من القوة على العدو، وكذلك الرمي.
وظاهر تحريم الميسر- وهو القمار- يمنع مخاطرة، يتوهم فيها إخفاق البعض وإنجاح البعض، وهو معنى القمار بعينه «٣»، وظاهره يمنع القرعة في العبيد، يعتقهم المريض ثم يموت، لما فيه من القمار في إنجاح البعض وإخفاق البعض، لولا ما فيه من الخبر الصحيح، الذي خص هذا العموم لأجله..
قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (٢٢٠) :
واليتيم: هو المنفرد عن أحد أبويه، فقد يكون يتيما من جهة الأم مع بقاء أبيه، وقد يكون يتيما من جهة الأب مع بقاء الأم، والإطلاق أظهر في اليتم من قبل الأب.
وظواهر القرآن في أحكام اليتامى، محمولة على الفاقدين لآبائهم وهم صغار.
(٢) سورة الأنفال آية ٦٠.
(٣) عن ابن سيرين «كل شيء فيه خطر فهو من الميسر» انظر الكشاف للزمخشري.
إن القبور تنكح الأيامى | النسوة الأرامل اليتامى |
ويقولون: الدرة اليتيمة لأنها كانت مفردة لا نظير لها.
قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)، كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم، وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء فنزل قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ)..
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي أخرجكم وضيق عليكم، ولكن وسع ويسر فقال: (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ).
وقال عليه السلام: «ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة» «١».
وتوفرت الأخبار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة به.
وقد جوزت الآية ضروبا من الأحكام:
فإذا ثبت ذلك، فقد اختلف العلماء في أفراد تصرفات في مال اليتيم ونفسه، ومتعلق كل واحد منهم في تجويز ما جوزه ظاهر القرآن في ابتغاء المصلحة.
وقال أبو حنيفة: لولي الطفل أن يشتري ماله لنفسه بأكثر من ثمن مثله، لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن، والذي لا يجوز يقول: لم يذكر فيه المصرف بل قال: (إِصْلاحٌ لَهُمْ) من غير أن يذكر فيه الذي يجوز له النظر، وعندنا الجد يجوز له ذلك، والأب في حق ولده الذي ماتت والدته، يتصرف على هذا الوجه، ولا متعلق في الآية من، حيث العموم أصلا، إذ ليس للمصرف ذكر يعم أو يحصر.
ويقول أبو حنيفة: إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه.
والشافعي لا يرى التزويج أصلا، إلا من جهة دفع الحاجة، ولا حاجة قبل البلوغ.
وأحمد يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح، ووجه قول الشافعي ما ذكرناه، والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي لا بحكم هذه الآية.
وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن، فهذه المذاهب نشأت من هذه الآية..
نعم، ليس في ظاهر الآية ذكر من يجوز له التصرف ولا يجوز، ويجوز أن يكون معنى قوله: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى)، أي يسألك القوام عن اليتامى الكافلين لهم، وذلك مجمل لا يعلم منه غير الكافل والقيم، وما يشترط فيه من الأوصاف..
قوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) (٢٢١) :
وقد روي عن ابن عمر، أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال: «إن الله تعالى حرم المشركات على المسلمين ولا أعلم شيئا من الشرك أكثر من أن يقول: «عيسى ربنا» «١»..
وأما الباقون فإنهم جوزوه تعلقا بقوله تعالى: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) «٢».
ولا تعارض بين هذا وبين قوله: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ» «٣»، فإن ظاهر لفظ المشرك لا يتناول أهل «٤» الكتاب، لقوله تعالى: (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ)
(٢) سورة المائدة آية ٥.
(٣) سورة البقرة آية ٢٢١.
(٤) كما هو مذهب الجمهور وعليه الأئمة الأربعة أيضا.
وقال: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) «٢» ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، إلا بدليل يقتضي الإفراد تعظيما على خلاف ظاهر اللفظ، كقوله:
(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) «٣».
(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) «٤» إلا أن ذلك خلاف الوضع الأصلي، ولأن اسم الشرك عموم وليس بنص. وقوله: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بعد قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما ليس بمحتمل.
وليس من التأويل قول القائل: أراد بقوله:
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
أي أوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا.
وكقوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ)
(٢) سورة البينة آية ١.
(٣) سورة البقرة آية ٩٨.
(٤) سورة الأحزاب آية ٧.
وقوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) «٢» الآية.
فإن الله تعالى قال: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ)، ثم قال:
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
والقسم الثاني على هذا الرأي هو القسم الأول بعينه.
ولأنه لا يشكل على أحد جواز التزوج بمن أسلمت وصارت من أعيان المسلمين.
قالوا: فقد قال الله تعالى: (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، (٢٢١) فجعل العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار.
والجواب عنه أن ذلك علة لقوله تعالى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)، لأن المشرك يدعو إلى النار.
وهذه العلة تطرد عندنا في جميع الكفار، فإن المسلم خير من الكافر مطلقا، وهذا بين.
فإن زعموا أن قوله تعالى:
(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) «٣».
وقوله: (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا) «٤».
(٢) سورة آل عمران آية ١١٣.
(٣) سورة المجادلة آية ٢٢.
(٤) سورة آل عمران آية ١١٨.
صريح في تحريم النكاح، الذي هو سبب الاتحاد والوصلة والسكن والرحمة، وكيف يجوز أن يحصل لنا مع الكفار ما قاله الله تعالى:
(خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) «٢» ؟
والجواب: أن ذلك منع من موادة ومخالطة، ترجع إلى المحاباة في أمر الدين، وما أوجب الله على المسلمين من قتالهم والتغليظ عليهم دون التودد إليهم، في حفظ ذمتهم وعصمتهم، ومبايعتهم ومشاراتهم والإنفاق عليهم، إذا كانوا مملوكين، إلى غير ذلك مما يخالف الشرع، ويورث المودة.
وقد قيل: إن الآية نزلت «٣» في مشركي العرب المحاربين، الذين كانوا لرسول الله أعداء وللمؤمنين، فنهوا عن نكاحهن، حتى لا يملن بهم إلى مودة أهاليهن من المشركين، فيؤدي ذلك إلى التقصير منهم في قتالهم دون أهل الذمة.
والمراد به غير الذين أمرنا بترك قتالهم، إلا أن أصحاب الشافعي يتعلقون بقوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ)، في تحريم الأمة الكتابية مطلقا، في حالتي وجود طول الحرة وعدمها.
فقيل لهم: فقد قال: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، وذلك يعارض هذا؟
(٢) سورة الروم آية ٢١. [.....]
(٣) الآية هي قوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ..).
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) «١».
ثم قال: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) «٢».
وكل ذلك مخصوص بالحرة، غير متصور في الأمة بحال.
ولأنه تعالى قال بعده: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا»
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) «٤».
فلو كان اسم المحصنات يتناول الإماء لما قال:
(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)، فدل أن المحصنة المذكورة ها هنا هي الحرة، فلا تعلق للمخالف بالآية.
ولهم أن يقولوا على ما تعلقنا به من عموم لفظ المشركة: إن الآية ظاهرها الحرة، فإنه تعالى قال: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) ولو كانت المشركة عامة في الجميع، لما صح هذا القول.
(٢) سورة النساء آية ٢٤.
(٣) الطول- كما يقول الراغب- خص به الفضل والمن قال: «ومن لم يستطع منكم طولا» كناية عما يصرف الى المهر والنفقة أهـ.
(٤) سورة النساء آية ٢٥.
وظن قوم أن قوله تعالى: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)، يدل على جواز نكاح الأمة مع وجود الطول، لأن الله تعال أمر المؤمنين بتزويج «١» الأمة المؤمنة، بدلا من الحرة المشركة التي تعجبهم لوجدان الطول إليها، وواجد الطول إلى الحرة المشركة، هو واحده إلى الحرة المسلمة.
وهذا غلط من الكلام فإنه ليس في قوله: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) ذكر نكاح الإماء في تلك الحال، وأنه لا خلاف في أن نكاح الإماء مكروه مع القدرة على طول الحرة، وإنما ذلك تنفير عن نكاح الحرة المشركة، فإن العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح الإماء، فقال: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)، فإذا نفرتم عن نكاح الأمة المسلمة فإن المشركة أولى بأن تكرهوا نكاحها.
قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) الآية (٢٢٢) :
قد يكون اسما للحيض نفسه.
ويجوز أيضا أن يكون موضع الحيض كالمقيل والمبيت، وهو موضع القيلولة والبيتوتة «٢».
ودل اللفظ على أن المراد بالمحيض ها هنا الحيض، لأن الجواب ورد
(٢) يقول الراغب الأصفهاني: «الحيض الدم الخارج من الرحم على وصف مخصوص في وقت مخصوص. والمحيض الحيض، ووقت الحيض ومواضعه، على أن المصدر في هذا النحو من الفعل يجيء على مفعل نحو معاش ومعاد» أهـ.
ويحتمل أن يقال: قوله (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ)، هو موضع الحيض، لأن الاعتزال في المحيض لا يتحقق له معنى إذا أراد به نفس الدم.
وقد كان اليهود يتجنبون مؤاكلة النساء ومشاربتهن ومجالستهن في الحيض، فنسخ الإسلام ذلك، فسأل المسلمون عن الوطء، وقالوا:
ألا نطأهن يا رسول الله؟ يعني أنه إذا لم نجتنب سائر الأعضاء منهن، فلا نجتنب موضع الحيض؟
فاستثنى الله تعالى موضع الحيض بقوله: (قُلْ هُوَ أَذىً) «١»، أي موضع الأذى، وإلا فنفس الدم مجتنب ولا يقرب، وقد عرفوا نجاسته، فإن النجاسة مجتنبة، وذلك يقتضي كون التحريم مختصا بموضع الأذى، وهو الصحيح من مذهب الشافعي.
وعبر عن الموضع بالأذى، مع أن الأذى ليس عبارة عن نفس النجاسة، بل هو كناية عن العيافة «٢» في حق متوخي النظافة.
وأبو حنيفة يحرم ما تحت الإزار، ويحتج بأن قوله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ)، دال على حظر ما فوق الإزار وما تحته، غير أنه قام الدليل فيما فوق الإزار في الإباحة، وبقي ما دونه على حكم العموم.
ويقول الطبري: «وسمى الحيض أذى: لنتن ريحه وقذره ونجاسته» أهـ.
(٢) العيافة كالكتابة: الكراهة.
وإنما معنى الآية: قل هو أذى فاعتزلوا إتيان النساء في المحيض، أو وطء النساء في المحيض، فهو مضمر محذوف دل عليه ما بعده وهو قوله تعالى:
(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ).
فمد التحريم إلى غاية التحليل، فذكر بعد الغاية الإتيان، فدل أن المحرم قبله هو الإتيان فقط.
ويدل عليه حديث حماد بن سلمة عن ثابت بن أنس، أن اليهود كانوا يخرجون الحائض من البيت، ولا يؤاكلونها ولا يجامعونها في بيت، فسئل النبي عليه السلام عن ذلك، فأنزل الله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً)، فقال صلى الله عليه وسلم: «جامعوهن في البيوت وافعلوا كل شيء إلا النكاح» «١»..
وروي عن عائشة أن النبي عليه السلام قال لها: «ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض، فقال: ليست حيضتك في يدك» «٢»..
وذلك يدل على حل كل عضو ليس فيه حيض، فهذا يدل على معنى الآية..
(٢) أخرجه ابن ماجة في سننه عن عائشة رضي الله عنها، والخمرة ما توضع عليه الجبهة من حصير أو ثوب في السجود، وهو في مسلم في كتاب الحيض.
تنازع أهل العلم في معناه:
فقال قوم: هو انقطاع الدم، فيجوز وطؤها بعد انقطاع الدم، من غير فرق بين أقل الحيض وأكثره.
ومنهم من حرم قبل الغسل، من غير فرق بين أقل الحيض أو أكثره، وهو قول الشافعي.
وأبو حنيفة أباحه قبل الغسل، إذا انقطع الدم على الأكثر، وحرم إذا انقطع على ما دون الأكثر، مع وجوب الغسل عليها، مع الحكم بطهارتها.
أما من أتاح الوطء مطلقا، فإنه يتعلق بقوله تعالى: (حَتَّى يَطْهُرْنَ)، ومعلوم أنها طاهرة وإنما أراد به: حتى يطهرن من العارض وهو الحيض.
ويقال: طهرت من الحيض والنفاس «إذا زال الحيض والنفاس، ولذلك يقال زمان الطهر وزمان الحيض» «١»، وإنما هو زمان طهر المرأة وإن لم تغتسل للأكثر.
وإذا لم تكن حائضا فهي طاهرة، وليس بين كونها حائضا وطاهرة درجة ثالثة، فقد طهرت إذا.
فهذا قول ظاهر إلا أن قوله: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ)، يخالف هذا المذهب ظاهره،
وفيه احتمال. وهو أن يكون معنى قوله: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ)، أي إذا حل لهن التطهر بالماء والتيمم، كما قال صلّى الله عليه وسلم:
«إذا غابت الشمس أفطر الصائم» أي حل له أن يفطر.
وقال: «من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل» «١»، أي حل له أن يحل.
ويقال للمطلقة إذا انقضت عدتها، إنها قد حلت للأزواج، ومعناه:
أنه حل لها أن تتزوج.
وقال النبي عليه السلام لفاطمة بنت قيس: «إذا حللت فآذنيني» «٢» وإذا احتمل ذلك، لم تزل الغاية عن حقيقتها بحظر الوطء بعدها فهذا أمر محتمل.
إلا أن الذي ينصر مذهب الشافعي يقول: إن الله تعالى قال:
(قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
فيقتضي ذلك حتى يطهرن من الأذى وهو العيافة، وذلك لا يحصل بنفس انقطاع الدم قبل الاغتسال، ولذلك يسن لها أن تتبع بفرصة من مسك أثر الدم لإزالة بقية العيافة.
(٢) جزء من حديث أخرجه ابن ماجة، انظر الحديث رقم ١٨٦٩ ج ٢ ص ٦٠١. [.....]
(فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) قال:
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، وذلك يدل دلالة ظاهرة على تعلق قوله: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) بقوله: (يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).
وإنما يحب الله تعالى المتطهرين باختيارهم لا غير، فليكن قوله:
(فَإِذا تَطَهَّرْنَ) محمولا على التطهر بالاختيار وهو فعل، ويكون قوله أخيرا، بيانا لما تقدم، وهذا على مذهب الشافعي، فأما أبو حنيفة، فإن بعض الأصوليين من أصحابه يقول:
إنا نعمل بالقراءتين، فنحمل القراءة المشددة في قوله: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) على انقطاع الدم على ما دون الأكثر، فإن عند ذلك لا يحل الوطء قبل الغسل، والقراءة المخففة في قوله (حَتَّى يَطْهُرْنَ) على انقطاع الدم على الأكثر.
وهذا قول بعيد، وأقل ما فيه إخراج قوله تعالى: (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) عن كونه حقيقة في الاغتسال، إذا حمل على انقطاع الدم على الأكثر، وحمله على حقيقته في الاغتسال، إذا كان انقطاع الدم على ما دون الأكثر، وذلك بعيد جدا.
ولأن الآية لو كانت متناولة للحالتين، كان تقدير الكلام: «حتى يغتسلن» في آية «ولا يغتسلن» في آية أخرى، أو قراءة أخرى، ويكون ذكر المحيط متناولا لهما جميعا، ولا يكون فيه بيان المقصود، فيكون مجملا غير مفيد للبيان.
«إذا دخل وقت الصلاة وإن لم تغتسل حل للزوج وطؤها».
فجعلوا وجوب الصلاة والصوم مجوزا للوطء، ولم يجعلوا وجوب الغسل مجوزا.
فإن حملوا قراءة التشديد على الغسل، لزمهم أن يوقفوا الحل على الغسل، فلا هم عملوا بقراءة التخفيف ولا بقراءة التشديد، وإن موهوا باعتذارات في وجوب الصلاة، فلا أثر لها في إخراج قراءة التشديد عن كونها حقيقة، ومقصودهم مراعاة القراءتين، في إلحاق إحداهما بالحقيقة والأخرى بالمجاز..
قوله تعالى (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ «١» لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (٢٢٣) :
فالحرث المزدرع، وهو في هذا الموضع كناية عن الجماع، وتسمى النساء حرثا لأنهن مزدرع الأولاد «٢».
وقال أكثر الفقهاء: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)، يدل على أن المراد به موضع الحرث.
(٢) على سبيل التشبيه ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج
وقوله (أَنَّى شِئْتُمْ) يحتمل كيف شئتم، ويحتمل أين شئتم «٢» فلفظ (أَنَّى) يحتملهما جميعا.
وروي عن جابر أن اليهود قالوا للمسلمين: «من أتى امرأته وهي مدبرة جاء ولده أحول» «٣»، فأنزل الله تعالى: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مقبلة ومدبرة ما كان في الفرج».
ومالك يحتج بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) «٤»، وأن عموم ذلك يقتضي إباحة وطئهن في الموضع الذي جوزنا وطأهن فيه.
قيل قوله: (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) دال على الإباحة المطلقة لا على موضع الإباحة، كما لم يدل على وقت الإباحة في الحائض وغيرها.
ومما تعلق به من حرم الوطء أن قوله تعالى: (قُلْ هُوَ أَذىً)، تعليل تحريم وطء الحائض، بما يقتضي تحريم الوطء في الذي ينازعنا فيه فإنه موضع الأذى.
(٢) قال الطبري: وقال ابن عباس: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي ائتها أني شئت مقبلة ومدبرة، ما لم تأتها في الدبر والمحيض، وعن عكرمة «يأتيها كيف شاء ما لم يعمل عمل قوم لوط».
(٣) رواه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، باب نساؤكم حرث لكم. ورواه مسلم في صحيحه أيضا كتاب النكاح، والترمذي، وأبو داود عن جابر رضي الله عنه.
(٤) سورة المؤمنون آية ٥- ٦.
ومعنى الأذى ليس يستقل بتحريم الوطء، لولا إيماء الشرع إليه.
فإذا عرفت ذلك فاعلم أن قولنا: «ليس هذا موضع الحرث»، لا يظهر دلالته على تحريم الوطء فيه، كالوطء فيما دون الفرج، ولكن دليل التحريم مأخوذ من غير ذلك في قوله تعالى:
(فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) مع قوله تعالى: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ).
إذ يدل على أن في المأتي اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد.
وروي عن محمد بن كعب القرظي، أنه كان لا يرى بذلك بأسا ويتأول فيه قوله تعالى:
(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) «١». ولو لم يبح مثله من الأزواج، لما صح ذلك.
وليس المباح من الموضع الآخر مثاله، حتى يقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح.
وهذا فيه نظر، إذ معناه: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتكم، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى.
أحدهما: أن يتخذ يمينه حجة مانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فإذا طلبت منه المعاونة على البر والتقوى والإصلاح قال: قد حلفت. فيجعل اليمين معترضة بينه وبين ما ندب إلى فعله، أو أمر به من البر والتقوى والإصلاح، فلا جرم قال الشافعي:
الأيمان لا تحرم ما أحل الله، ولا تحل ما حرمه الله عن فعل، وإن الذي حل لكونه صلاحا، لا يصير حراما باليمين، فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك، فليفعل وليدع يمينه.
ودل عليه قوله تعالى:
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) إلى قوله: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) «١».
قال ابن سيرين: حلف أبو بكر رضي الله عنه، في يتيمين كانا في حجره، وكانا فيمن خاض في أمر عائشة، أحدهما مسطح وقد شهد بدرا، وقد أشهد الله تعالى أن لا يصلهما ولا يصيبان منه خيرا، فنزلت هذه الآية.:
وفي الخبر: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير» «٢».
(٢) أخرجه ابن ماجة في سننه عن تميم بن طرفة، عن عدي بن حاتم، وتمامه:
(وليكفر عن يمينه) أهـ رقم ٢١٠٨ ص ٦٨١ ج ١.
والوجه الثاني في التأويل: أن يكون معنى قوله: (عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ)، يريد به كثرة الحلف، وهو نوع من الجرأة على الله تعالى، والابتذال لاسمه في كل حق وباطل، ومن أكثر من ذكر شيء، فقد جعله عرضة، كقول القائل:
«قد جعلتني عرضة للومك».
وذم الله تعالى مكثر الحلف بقوله تعالى:
(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) «١».
والمعنى: لا تعرضوا اسم الله تعالى، ولا تبتذلوه في كل شيء، لأن تبروا إذا حلفتم، وتتقوا المأثم فيها، إذا قلت أيمانكم، لأن كثرتها تبعد عن البر والتقوى، وتقرب من المأثم والجرأة على الله تعالى، وكأن المعنى: إن الله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة عليها، لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فكونوا بررة أتقياء، كقوله تعالى:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) «٢».
فأفادت الآية المعنيين، ومتضمنهما النهي عن ابتذال اسم الله سبحانه واعتراضه باليمين في كل شيء، حقا كان أو باطلا، والنهي أيضا عن جعل اليمين مانعة من البر والتقوى والإصلاح.
ودل ذلك على أن اليمين يجوز أن يجعل سببا للكفارة كما قاله الشافعي لأن اسم الله المعظم، صار متعرضا للابتذال بوصف الحنث، ووصف
(٢) سورة آل عمران آية ١١٠.
فإن الإكثار من العبادات مندوب إليه، والإكثار من اليمين منهى عنه.
والإكثار من العبادات تعظيم الله تعالى، والإكثار من اليمين تعريض الإسم للابتذال.
فصح على هذا المعنى جعل اليمين سببا، على خلاف ما رآه أبو حنيفة، وجاز لأجله تقديم الكفارة على الحنث، وجاز لأجله فهم إيجاب الكفارة في اليمين، على فعل الغير وعلى فعل نفسه، وعلى ما يجب فعله، وعلى ما لا يجب، وهو أصل الشافعي في الأيمان..
قوله تعالى: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ «١» فِي أَيْمانِكُمْ) (٢٢٥) :
اعلم أن اللغو مذكور في القرآن على وجوه، والمراد به معاني مختلفة على حسب اختلاف الأحوال التي خرج الكلام عليها.
فقال الله تعالى: (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) «٢» يعني كلمة فاحشة قبيحة.
و (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) «٣» على هذا المعنى، وقال:
ويقول الفخر الرازي: (اللغو: الساقط الذي لا يعتد به، سواء كان كلاما أو غيره، ولغو الطائر تصويته، ويقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل لغو» أهـ ج ٦ ص ٨١.
(٢) سورة الغاشية آية ١١.
(٣) سورة الواقعة آية ٢٥. [.....]
وقال: (وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) «٢». يعني الكلام الذي لا يفيد شيئا ليشتغل السامعون عنه بذلك، وقال:
(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) «٣». يعني بالباطل.
ويقال: لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه.
وقد روي في لغو اليمين معان عن السلف:
فروي عن ابن عباس أنه: هو في الرجل يحلف على الشيء يراه كذلك، ولا يكون كذلك.
وروي عن مجاهد وإبراهيم، قال مجاهد في قوله تعالى: (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ).
أنه يحلف على الشيء وأنه يعلم، وهذا في معنى قوله: (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).
وقالت عائشة: «هو قول الرجل: لا والله، بلى والله» «٤».
وكثرت أقاويل السلف فيه، وأقربها قول سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف «٥» على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه.
(٢) سورة فصلت آية ٢٦ ونص الآية: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).
(٣) سورة الفرقان آية ٧٢.
(٤) أخرجه الامام البخاري في صحيحه، ورواه أيضا الامام مالك عن عائشة رضي الله عنها.
(٥) سقط من قوله فجعلوا وجوب الصلاة والصوم الى هنا من نسخة رقم ١٤٤ بدار الكتب.
وقد ظن قوم أن المراد به، المؤاخذة في الآخرة، فتجب الكفارة في الدنيا، وليس على ما ظنوه، فإنه تعالى قال في موضع آخر:
(لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ) «١».
فذلك يدل على أن المؤاخذة المذكورة في القسم الثاني، هي المتيقنة في القسم الأول.
وظن أبو حنيفة، أن قوله عقدتم، يدل على ما يتصور عقد العزم عليه من الأفعال، حتى يخرج منه اليمين على الماضي، وذلك إن صح له، فيخرج منه الأيمان على فعل الغير، وحنث النسيان وغيرهما، فالأقرب في معانيه، ما قالته عائشة وهو مذهب الشافعي..
قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ «٢» مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ «٣» أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) (٢٢٦) :
ليس في نظم القرآن ما يدل على الجماع، ولا على الحلف على مدة معلومة، وإنما قال:
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ | تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ). |
(٢) الإيلاء لغة كما يقول الراغب: الحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر المحلوف فيه من قوله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ)، وفي الشرع عبارة عن الحلف المانع عن جماع المرأة: «آلوسي» فمعنى يؤلون: يحلفون على ترك جماع نسائهم.
(٣) التربص: الانتظار ومنه قوله تعالى: (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)، أي انتظروا فانا من المنتظرين معكم، ومعنى الآية: فان رجعوا عما حلفوا عليه من ترك معاشرة نسائهم فان الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين على الظلم.
فمنهم من جرى على العموم، ومنهم من خص.
فممن خص ذلك علي وابن عباس، صارا إلى أنه لو حلف لا يقربها لأجل الرضاع، لم يكن مؤليا، وإنما يكون مؤليا إذا كان على وجه الغضب.
ومنهم من لم يفصل «١» بين اليمين المانعة من الجماع، والكلام والاتفاق، ولا بين الرضا والغضب، وهو قول ابن سيرين.
والأكثرون على أنه لا يعتبر قصد المضارة، حتى لو آلى في حالة رضاها، كان به مؤليا.
والأولون يقولون: ما قصد حقها ولا مضارتها.
وفي قوله: (غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ما يدل على اعتبار قصد الإضرار.
فالأكثرون اعتبروا اليمين على ترك الجماع.
وقال الشافعي: إذا آلى أربعة أشهر ومضت المدة لم يكن مؤليا «٢».
وأبو حنيفة يوقع به الطلاق، وإن لم يبق الإيلاء بعده، لأنه رأى أن قوله تعالى: (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) يدل على ما قاله.
ولكن الشافعي يقول: قوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ... تَرَبُّصُ)، يدل على أن مدة الأربعة أشهر حق له خالص، فلا يفوت به حق له، ولا يتوجه عليه مطالبة، أنه أجل مضروب له.
(٢) لأن الإيلاء عندهم لا يكون الا في أكثر من أربعة أشهر.
والفيء في اللغة الرجوع، قال الله تعالى:
(حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) «١».
أي ترجع إلى أمر الله.
وعند ذلك قد يظن الظان: أن ظاهر اللفظ، يدل على أنه إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار، ثم قال: قد فئت إليك، وقد أعرضت عما عزمت عليه من هجران فراشك باليمين، أن يكون قد فاء إليها، سواء كان قادرا على الجماع أو عاجزا.
وقد اتفق أهل العلم على أنه إذا أمكنه الوصول إليها، لم يكن فيؤه إلا الجماع.
وأبو حنيفة يقول فيمن آلى وهو مريض، أو بينه وبين زوجته المؤلي منها، مسيرة أربعة أشهر وهي رتقاء «٢» أو صغيرة، أو هو مجبوب «٣» أنه إذا فاء إليها بلسانه، ومضت المدة والعذر قائم، فذلك في صحيح.
والشافعي يخالفه على أحد مذهبيه، ووجه قوله: أنه إذا قال القائل:
والله لا أجامع فلانة، فلا يكون حانثا بقوله أجامعك، وإنما يكون حانثا
(٢) الرتق: الضم والالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى في سورة الأنبياء الآية ٣٠: (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) أي منضمتين، والرتقاء: الجارية المنضمة الشفرتين، وفلان راتق وفاتق في كذا أي هو عاقد وحال، أنظر الراغب.
(٣) المجبوب: مقطوع الذكر من أصله.
نعم اختلف قول الشافعي في المجبوب إذا آلى.
ففي قول: لا إيلاء له.
وفي قول: يصح إيلاؤه ويفيء باللسان.
والأول أصح «٣» وأقرب إلى مقتضى الكتاب، فإن الفيء هو الذي يسقط اليمين. والفيء بالقول لا يسقطه. فإذا بقيت اليمين المانعة من الحنث، بقي حكم الإيلاء.
قوله عز وجل: (وَإِنْ عَزَمُوا «٤» الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٢٧) :
وذلك يقتضي أن لا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة على ما قاله قوم، لأن مضي المدة لا يكون عزيمة على الطلاق، وإنما عزيمة الطلاق ما يتوقف على قصده.
فأما حكم الله تعالى الحاصل بمضي المدة، فلا يصح العزم عليه، فلا يقال: عزموا على مضي الشهر، أو غروب الشمس، أو طلوعها.
(٢) أي يعد مخالفا بما يقع به الحنث من الفعل.
(٣) إذ أن الإيلاء لا يتحقق الا بالفعل والمجبوب لا يتصور منه ذلك.
(٤) أي وقع العزم منهم عليه والقصد له، ويقول الراغب: العزم والعزيمة عقد القلب على إمضاء الأمر، يقال عزمت الأمر وعزمت عليه واعتزمت، قال تعالى: (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ).
وأبو حنيفة يقول: لا يصح من الكافر ما كان بالتزام صدقة أو حج، ويصح ما كان بطلاق، أو عتاق، أو حلف بالله، وإن لم يلزمه بالحلف بالله عز وجل شيء، وصحح الإيلاء ممن لا يلتزم بالوقاع شيئا، يتوقى الوقاع لأجل ذلك الأمر، مع أنه لو آلى بطلاق زوجته، أو عتاق عبده، فمات العبد قبل مضي المدة، بطل الإيلاء، لأنه لا يخشى التزاما، فكذلك قياس قوله أن لا يصح منه الإيلاء إذا حلف بالله، لأنه لا كفارة عليه بالمخالفة.
واحتج محمد بن الحسن على امتناع جواز الكفارة قبل الحنث، بأن قال:
إنه لما حكم الله تعالى للمولى بأحد حكمين، من فيء أو عزيمة للطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث، لبطل الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق، لأنه إن حنث فلا يلزمه بالحنث شيء، ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء، لم يكن مؤليا، وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكره الله تعالى، وذلك خلاف الكتاب.
وهذا غير صحيح لأن الله تعالى إنما أبقى «١» حكم الإيلاء إذا بقيت المضارة، وإنما تبقى المضارة إذا كان يتوقع التزام أمر بالوقاع، فشرط بقاء الإيلاء بقاء حكمه، فإذا قدمه زال هذا المعنى، كما يزول بموت العبد المحلوف على عتقه، أو المرأة المحلوف على طلاقها، وليس يقتضي ذلك مخالفة الكتاب بل يطابق معناه إذا تأمل..
واختلف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلماء السلف في الثلاثة:
فقال قوم: الثلاثة من الحيض، فما لم تغتسل المرأة من الحيض فزوجها أحق بها.
وقالت عائشة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها.
فالثلاثة إذا من الأطهار.
وأما اسم الأقراء فيتناول الحيض والطهر جميعا.
واختلفوا في كونه حقيقة فيهما، أو مشتركا اشتراكا لا يظهر رجحان أحد المعنيين على الآخر.
وقال قوم: هو حقيقة في الحيض ومجاز في الطهر، وذلك بحسب النظر في موضع الاشتقاق، واختلف فيه:
فمنهم من قال: القرء من الوقت، وعلى ذلك شواهد من اللغة.
وقال آخرون: هو من الجمع والتأليف، وعلى ذلك شواهد.
فإن كانت حقيقته الوقت، فقد ظن بعض أصحاب أبي حنيفة أن الحيض أولى به، لأن الوقت في الأصل إنما كان وقتا لما يحدث فيه،
(٢) وفي القاموس المحيط: «والقرء بالفتح وبضم: الحيض والطهر والوقت، وأقرأت حاضت وطهرت، وجمع الطهر قروء وجمع الحيض اقراء» وقال الأخفش: (أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض فإذا حاضت قلت: قرأت».
وهذا غير صحيح، فإن الحيض والطهر وصفان يعتوران «١» على المرأة، ولكل واحد منهما وقت معلوم أقله وأكثره.
وهم يقولون: لكن الطهر إنما يعلم بغيره لا بنفسه، فإن الطهر لا نهاية لأكثره إذ هو عدم الحيض، وإنما يعلم بوجود الحيض.
قالوا: وإن كان القرء اسما للضم والجمع، فهو أولى بالدم المجتمع.
ولا يتيقن كونه حالة الطهر، إذ لا يتعلق به حكم، وليس يبين لنا أن الدم يجتمع في حالة الطهر، بل يجوز أن يجتمع في حالة الحيض ويسيل فيه، فلا مستند لهذا القول.
وزعموا أن حد الحقيقة وجد في الحيض، لأن اسم القرء لا ينتفي عنه أصلا، ولا يتحقق ذلك في الطهر، لأنه يوجد الطهر ولا يسمى قرءا بحال مثل طهر الآيسة والصغيرة، فيظهر أن الطهر سمي قرءا لمجاورته للحيض، فالحيض بذلك أولى.
وادعوا تطرق المجاز إلى قولنا من حيث اللغة من وجهين، ومن وجه ثالث، وهو أن مقتضى قولنا الاكتفاء بقرءين وبعض الثالث، وإطلاق اسم الجمع على شيئين وبعض الثالث مجاز على خلاف الحقيقة، وإنما يعلم ذلك بدليل مثل حمل أشهر الحج على شهرين وبعض الثالث،
والذي توجه لأصحاب الشافعي على هذه الكلمات: أن الذي ذكره هؤلاء من مواضع الاشتقاق، لا يصح التعويل عليه في هذا الباب، فإنه لو قدر التصريح بمحال الاشتقاق على ما قالوه، لم ينتظم الكلام.
وإذا كان الإسم مشتقا من شيء، فيجب أن يكون بحيث لو صرح بموضع الاشتقاق يستقيم معنى الكلام، مثل قول القائل في قوله تعالى:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي). «١»
والزاني مشتق من الزنا، فلو ذكر موضع الاشتقاق وعلق عليه الحد، يستقيم معنى الكلام.
وها هنا: إن كان اشتقاق القرء من الوقت، فإذا ذكر الوقت في نفسه، أو الضم بلفظ الثلاث، لم يكن الكلام مستقيم النظم، فإنه لو قال:
«والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أوقات، أو ثلاثة اجتماعات»، ولم يضف الوقت إلى شيء، والاجتماع إلى شيء، لم يصح معنى الكلام في إرادة الحيض والطهر جميعا..
نعم إنما يستقيم النظر إلى موضع الاشتقاق من وجه آخر، وهو أن يجعل القرء مشتقا من الانتقال من حال إلى حال، فعل هذا يستقيم الكلام، إذا ذكر موضع الاشتقاق، فإنه إذا قيل: معنى الكلام:
فتارة تنتقل من طهر إلى حيض.
وتارة تنتقل من حيض إلى طهر.
فيستقيم معنى الكلام في دلالته على الحيض والطهر جميعا، فيصير الإسم مشتركا.
أو يقال: إذا ثبت أن القرء هو الانتقال، فخروجها من حيض إلى طهر غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض طلاقا سنيا «١» مأمورا به.
وقيل: إنه ليس طلاقا على الوجه المأمور به، وهو الطلاق للعدة، فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال.
فإذا كان الطلاق في الطهر سببا، فتقدير الكلام عدتهن ثلاثة انتقالات، فأولها:
هي الانتقال من الطهر الذي وقع فيه الطلاق، والذي هو الانتقال من حيض إلى طهر لم يجعل قرءا، لأن اللغة لا تدل عليه، لكن عرفنا بدليل آخر، أن الله تعالى لم يرد من حيض إلى طهر، واللفظ دل على الانتقال، والانتقال محصور في الحيض والطهر، فإذا خرج أحدهما عن كونه مرادا، بقي الآخر، وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض مرادا، فعلى هذا عدتها ثلاثة انتقالات: أولها: الطهر، وعلى هذا يمكن استيفاء
وأكثر ما يرد على هذا الكلام وجوه:
منها: أن ذلك خلاف ما قالته عامة العلماء، من أن القرء طهر أو حيض، وذلك إحداث قول ثالث.
وهذا لا وجه له، فإن القرء حقيقة في الانتقال، ثم اختلف العلماء في المراد من الانتقال: فإنه متردد في اللغة بين الحيض والطهر، فأما أن يكون القرء اسما لنفس الطهر، أو اسما لنفس الحيض حقيقة فلا، والدليل على موضع الاشتقاق قولهم: قرأ النجم: إذا طلع، وقرأ النجم إذا أفل، بمعنى تبدل الأحوال عليه.
نعم وضع اللغة يقضي أن يكون انتقالها من الطهر إلى الحيض قرءا ومن الحيض إلى الطهر قرءا ثانيا، ومن الطهر الثاني إلى الحيض الثاني قرءا ثالثا، وتنقضي عدتها بدخولها في الحيضة الثالثة، غير أن تحريم الطلاق في خاصة الحيض دل على أن ذلك الانتقال- وهو من الحيض إلى الطهر- ليس مرادا بالآية.
ويمكن أن يذكر في ذلك شيء لا يبعد فهمه من دقائق حكم الشريعة، وهو أن الانتقال من الطهر إلى الحيض، إنما جعل قرءا لدلالته على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب، فحيضتها علم على براءة رحمها، والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فإن الحائض يجوز أن تحبل من أعقاب حيضتها، وإذا تمادى أمد الحمل، وقوي الولد انقطع دمها، ولذلك تمدح العرب بحبل نسائهم في حالة الطهر، ومدحت عائشة رسول الله بقول تأبط شرا:
ومبرأ من كل غبر «١» حيضة | وفساد مرضعة وداء مغيل |
ومن أجل ذلك كان الاستبراء بحيضة، لأن المسبية لا تعرف حبلها فتستبرئ بحيضة، فإذا حاضت علمت براءة رحمها، إلا أن الاحتياط في العدة أكثر، فلم يكتف بدلالة واحدة دون الدلالات الثالثة، فيحصل من مجموعها ما يقرب من اليقين، أو ما يتضاعف به الظن ويقوى، وإذا تقرر أن الأمر كذلك فالانتقال من الطهر إلى الحيض، جعل قرءا معتبرا لهذا المعنى.
فإن قالوا: فإذا كان الانتقال من الطهر إلى الحيض جعل قرءا، لدلالة ذلك الانتقال على براءة الرحم، فذلك الانتقال لم يدل على براءة الرحم لأجل الطهر، وإنما دلالته للحيض، فالحيض هو الأصل في الدلالة ومتى كان هو الأصل في البراءة والدلالة عليها، فهو أولى بأن يجعل أصلا في العدة من الطهر، فإن الطهر يقارن الحمل، فكيف يقع به الاستبراء؟ وإنما يقع الاستبراء بما ينافيه وهو الحيض، فيكون دلالة على براءة رحمها من الحمل.
وربما قرروا ذلك فقالوا: إن الحيضة الثانية اعتبرت احتياطا، لأن في التكرار زيادة دلالة على البراءة.
فلا جرم؟ قيل إن الاستبراء «٢» يكتفي فيه بحيضة واحدة، ويعتبر في العدة الكاملة زيادة عدد، لزيادة الدلالة على قدر رتبة العدة، فإذا
(٢) أي براءة الرحم.
وربما قالوا: الحمل إذا ظهر كان أولى من الحيض، لأن الوضع أقوى «١» من الحيض، فتفاوت ما بين الحيض والطهر، كتفاوت ما بين الحيض والحمل، ثم الحمل أصلا فليكن الحيض أصلا.
الجواب: أن الذي قالوه ليس كلاما في مقتضى اللفظ، وإنما هو قياس في معاني الفقه، وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في اللفظ، وهو أن الله تعالى إذا قال: يتربصن ثلاثة انتقالات، وعرفنا أنه لم يرد به الانتقالات كلها من الحيض إلى الطهر، ومن الطهر إلى الحيض، فإن ذلك يزيد على الثلاثة، فعرفنا أنه إنما عنى به الانتقال الذي هو من الطهر إلى الحيض.
فهذا ما فهمناه من اللفظ، وجاز مع ذلك أن يقترن بالعدة قصدان وراء براءة الرحم، كالاختلاف بالحرية والرق، ووجوبها إلى سن اليأس، في حق التي انقطع حيضها لعلة، وغير ذلك من المسائل، فإذا ثبت ذلك لم يرد عليه كل ما قالوه.
ودل على ما قلناه، أن الله تعالى قال: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) «٢»
(٢) سورة الطلاق آية ١.
وذلك إشارة إلى الطهر فدل أن العدة «١» الطهر، وأمر بإحصاء العدة عقيب الطهر، فليكن المحصي بقية الطهر.
وأبو حنيفة لا يرى ذلك أصلا، ولا يحصي عقيب الطلاق شيئا.
وقوله تعالى: (لِعِدَّتِهِنَّ) لا يجوز أن يريد به عدة ماضية قبل الطلاق، كما يقال: «صوموا لرؤيته» «٢» أي لرؤية ماضية...
فإن قيل: الطلاق ليس بعدة بالاتفاق، ولا يخطر ببال عاقل أن يقول: قوله عليه السلام لعمر: «حتى تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق فتلك العدة»، معناه: فتلك العدة الماضية، أعني الحيضة الماضية، أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء، فإذا كان الطلاق في الطهر والانتقال منه إلى الحيض، فتقدير الكلام:
إذا طلقتم النساء يتربصن بعد الطلاق السنى البدعي «٣» ثلاثة انتقالات:
أولها: الانتقال مما سن الطلاق فيه، وذلك لا يكون إلا الطهر، وهذا بين ظاهر في تحقيق مذهب الشافعي من معنى الآية.
فإن قيل: العدة وأحكامها ثابتة في حالتي الطهر والحيض، فما معنى قوله تعالى لعدتهن؟
(٢) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي.
(٣) لعل «البدعي» زائدة.
قالوا: فالمرأة قبل الدخول يجوز طلاقها في الحيض، فكيف يصح مطلق الآية على هذا التأويل؟
الجواب: أن معنى الكلام: إذا طلقتم النساء ذوات العدة، فطلقوهن لعدتهن.
قالوا: فإذا طلقها في طهر جامعها فيه، فبقية الطهر محسوبة، وإن لم يكن الطلاق سنيا.
الجواب: أن ذلك مخصوص من هذا العموم بدليل، وذلك لا ينافي دلالة اللفظ على ما تعلقنا به، وعلى أن في حق التي جومعت في طهرها، وإنما خرج الطلاق عن كونه سببا لوجود ما يحتمل خروج الطهر به، عن أن يكون عدة تحصى بأن يبين حملها، حتى لو كانت آيسة «١» لم يحرم طلاقها في طهر جامعها فيه.
ثم قوله تعالى: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)، وإن كان عاما في حق المنكوحة الحرة، والمنكوحة الأمة، ولكن الإجماع انعقد على أن عدة الأمة المنكوحة على النصف فتركناه لذلك.
قوله تعالى: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) (٢٢٨) :
قال قائلون: لما وعظها بترك الكتمان، دل على وجوب قبول قولها
وهذا عندنا لا يقوى، فإنه ليس النهي عن الكتمان دالا على أن قولها حجة على الزوج في قطع نكاحها، كما لا يدل على وقوع الطلاق على ضرتها، كيف وقوله تعالى: (يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) ليس يظهر في معنى الحيض لأن الدم إنما يكون حيضا إذا سال، ولا يكون حيضا في الرحم، لأن الحيض حكم يتعلق بالدم الخارج، فما دام في الرحم فلا حكم له.
نعم يجوز أن يقال: إن كل دم سائل لا يكون حيضا، وإنما يكون حيضا بالعادة والوقت وبراءة الرحم من الحمل، فهي إذا قالت: حضت ثلاث حيض، وهذه الأمور التي يقف عليها الحيض من قبلها، فالقول قولها: وإنما التصديق متعلق بحيض قد وجد ودم قد سال.
وبالجملة قوله: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ)، ليس يظهر في الحيض، وإنما تظهر دلالته على الحمل، وهو مما يعرف بغير قولها، وإذا علق الطلاق على حملها فقالت: أنا حامل، يقع الطلاق ما لم تستبرئ ويظهر حملها، ويجوز أن يكون معنى ذلك منعها من التزوج، ومنعها من إهلاك الولد وإجهاض الجنين، وهذا لا يبعد فهمه من الآية، فالمعتمد فيه الإجماع.
وقوله تعالى: (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٢٢٨) :
وليس ذلك شرطا في النهي عن الكتمان، وإنما هو على وجه التأكيد وهو كقوله تعالى:
وقول مريم عليها السلام: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)
«٢».
قوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) الآية (٢٢٨) :
اعلم أن الله تعالى سماه بعلا، وذلك يدل على بقاء الزوجية، ولكن قال بردهن، وذلك يدل على وجود سبب يزول به النكاح.
ولا يبعد أن يقال: زال النكاح، وله الإستدراك، كما يزول الملك في زمن الخيار على قول، وله الإستدراك.
ودلت هذه الآية على جواز إطلاق العموم في المسميات، ثم يعطف عليه بحكم يختص به بعض ما انتظمه العموم، فلا يمنع ذلك اعتبار عموم «٣» فيما شمله، في غير ما يختص به المعطوف، لأن قوله:
(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ)، عام في المطلقات ثلاثا، وفيما دونها لا خلاف فيه.
ثم قوله: وبعولتهن «٤» : حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث، ولم يوجب ذلك الاقتصار بحكم قوله: (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)، على ما دون الثلاث.. ونظيره من القرآن.
(٢) سورة مريم آية ١٨.
(٣) أي عموم اللفظ فيما يشمله.
(٤) جمع بعل بمعنى الزوج، قال الله تعالى: (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) والمرأة بعلة، ويقال لها: بعل أيضا كما قال صاحب القاموس.
وأصل البعل: السيد المالك يقال: من بعل هذه الناقة؟ أي من ربها وسيدها؟
أنظر روائع البيان للصابوني.
يقتضي وجوب حقوق لها في التحصن والنفقة والمهر.
وقوله: (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) يقتضي أنه مفضل عليها وذكر الله تعالى بيان ذلك في قوله: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) «١».
فأخبر أنه جعل قيما عليها بما أنفق من ماله، وفيه دليل على أنه:
إذا أعسر بالنفقة لم يكن قيما عليها، وإذا لم يكن قيما عليها فهي كلحم على وضم «٢» فلا بد لها من قوّام، ولم يشرع النكاح إلا لتحصينها وحاجتها إلى القوام، فإذا زال هذا المعنى، فالأصل أن لا يثبت الرق على الحرة.
والشافعي يقول: لكونه قواما عليها، يمنعها من الحج وصوم التطوع.
واعلم أن قوله تعالى: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) تطرق إليه التخصيص في مواضع: منها في الأمة، ومنها في الآيسة والصغيرة، ومنها في الحامل في قوله:
(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) «٣»، (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ... الآية «٤» ).
ومنه ما قبل الدخول بقوله تعالى: (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ)
(٢) الوضم: كل شيء يوضع عليه اللحم من خشب ونحوه يوقى به من الأرض أي مهلة تحتاج الى من يعنى بها.
(٣) سورة الطلاق آية ٤.
(٤) سورة الطلاق آية ٤.
وقوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) «٢» خص منه ما قبل الدخول، وخص منه المطلق ثلاثا.
قوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) (٢٢٩) :
فرأى الشافعي أنه بيان لما يبقى معه الرجعة من الطلاق، ويدل عليه ما ذكره عقيبه من قوله:
(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).
وظن قوم ممن يرى جمع الطلقات في قرء واحد بدعة، أن قوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)، يقتضي التفريق، لأنه لو طلق إثنتين معا، لما جاز أن يقال: طلقها مرتين، وأن من دفع إلى رجل درهمين، فلا يقال إنه أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع.
ويقال لهذا القائل: لو كان المراد به بيان ما ذكره، لم يكن هذا النظم المذكور دالا، لأنه ليس التبديع عنده من جهة جمع فعل الطلاق، فإنه إن طلقها مرتين في قرء واحد عنده فهو حرام، وإن كان قد طلق مرتين حقيقة، فيحرم عنده أعداد الطلقات في قرء واحد، تعدد الإيقاع أو اتحد، وليس في قوله: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ما ينبئ عن ميقات تحريم المرات وحلها، فليس في اللفظ بيان ما ذكروه.
نعم، إذا كان الطلاق الواحد يدل على إسقاط الملك ولا يسقط به، فيحسن أن يقال: إنما يسقط لمرتين، إذا كان يسقط بعدد منه، وليس كإعطاء درهمين معا، فإن الدراهم الثاني لا يتعلق بالأول في رجوعهما
(٢) سورة البقرة آية ٢٢٨.
(نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) «١».
لا أن ذلك في حالتين منفصلتين، بعد تخلل فاصل بين الآخر «٢» الأول والثاني، فإن نعيم الآخرة متصل، لا انقطاع له ولا انفصال فيه.
ويحتمل أن الله تعالى ذكر بيان الرخصة على خلاف القياس، فقال:
(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أي: لكم أن تطلقوا مرتين وتراجعوا بعدهما، فإن طلقتم الثالثة فلا رجعة، إلا أن تنكح زوجا غيره، وهذا لا يقتضي كون مخالفة الرخصة بدعة، ولما كانت هذه الرخصة في إثبات الرجعة مع صريح إسقاط الملك فيما غلب فيه التحريم، وجعل مبعضه مكملا، وفاسده صحيحا، فصحيحه وصريحه في إسقاط الرجعة، كيف لا يكون باتا للملك، وقاطعا للرجعة، بديهة في قياس الطلاق؟
نعم كرر الله تعالى الرجعة في مواضع فقال:
(فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) إلى قوله:
(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) «٣».
وليس في هذا دليل على أنه إذا أخذ بما هو الأصل في إسقاط ملك هو له أن لا يجوز.
(٢) الآخر لعلها زائدة.
(٣) سورة الطلاق آية ١.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) «١».
وظاهره يقتضي تحريم الثلاث، لما فيه من تحريم ما أحل الله لنا من الطيبات.
وهذا جهل، فإن الله تعالى إنما نهانا عن تحريم طيبات أحلها لنا، مع بقاء سبب الحل، كما كانت العادة جارية به في الجاهلية، من البحيرة والسائبة، والوصيلة، والحام «٢».
فأما إذا كان الحل عارضا لأجل الملك، فما دام الملك قائما فله الحل، فإذا زال الملك، زال الحل، كما يزول الانتفاع بالبيع في العبد والجارية والثوب.
كيف والحل في حق الأجنبية، مع أن الأصل في الأبضاع التحريم عجب، فأما رفع ملك ثبت له، وحصول تحريم في ضمن ذلك، بالرجوع إلى الأصل في تحريم الأجنبيات، حيث لا ملك، فلا تتناوله هذه الآية.
(٢) البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيث، فلا يحتلبها أحد من الناس.
وأما السائبة: فهي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم. وقيل: البحيرة لغة هي الناقة المشقوقة الأذن، يقال: بحرت أذن الناقة، أي شققتها شقا واسعا، والناقة بحيرة ومبحورة.
وأما الوصيلة والحام: فإن الوصيلة من الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها.
والحام: من الإبل، كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه..
يقول سبحانه في سورة لمائدة الآية ١٠٣، ناهيا عن هذه: (ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ).
وما ذكره مالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، والليث ابن سعد، والحسن بن صالح، أن طلاق العدة السني، أن يطلقها واحدة، ولا يطلقها في تلك العدة أخرى، فإنه لا حاجة إليها في قطع النكاح، إنما الحاجة إلى الطلقة الأولى، وهي تبين عند انقضاء العدة من غير حاجة إلى الثانية، فأي معنى للثالثة؟
وهذا لازم على أبي حنيفة، إذا سلك مسلك النظر في مراعاة الحاجة إلى قطع النكاح.
نعم إذا راجعها فله أن يطلقها الثانية، أما الطلاق الثاني في القرء الثاني في عدم الحاجة، كالطلاق الثاني في القرء الأول. هذا حسن على قياس أصولهم.
فإن قال من يذب عن أبي حنيفة: إن ظاهر قوله مرتين، يبيح في القرءين، فيبيح في القرء الواحد، فاعتبار الأقراء من أي أصل تلقوه وليس في إيقاع الثانية في القرء الثاني فائدة أصلا، فلا هو يقطع النفقة ولا أنه يقطع سببا من الأسباب، إلا أن يقول جاهل إنه يقطع الميراث، إن كان في حالة الصحة ومات فجأة، وهذا جهل عظيم في إباحة اعتقاد الطلاق لهذا القدر من الغرم، وجوزوا الطلاق الأول من غير حاجة في حق غير المدخول بها، وفيه قطع للنكاح، ولم يجوزوا الطلقتين، مع أن الثانية لا حاجة إليها في قطع هذا النكاح، وليس في إيقاعها إلا توقع التدرج به إلى منع التزوج بها ابتداء، فإذا لم يحرم قطع هذا النكاح من غير حاجة، فالنكاح الآخر لأن لا يحرم قطعه أولى، والنكاح الآخر يجوز قطعه بالطلاق الثالث في القرء الثالث من غير حاجة إليه، فأي مستند
القصة.. إلى أن قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء.
وهذا الذي قالوه فيه نظر، فإنه روي في بعض الأخبار عن سعيد ابن جبير وزيد بن أسلم، عن ابن عمر، أن النبي عليه السلام، أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم قال: إن شاء طلق وإن شاء أمسك. من غير ذكر هذه الزيادة.
ويجوز أن يقال: إن الزيادة من الثقة مقبولة، مع أنه قيل: إذا لم تنقل الزيادة نقل الأصل، فذلك يوجب ضعفا ووهيا...
وأحسن الأحوال للمخالف أن يقبل منهم هذه الزيادة، وهي موافقة لأصلنا، فإنا نقول على مذهب لنا صحيح، إنه إذا طلق امرأته في الحيض.
وندبناه إلى الرجعة فراجعها، فإذا طهرت بعد ذلك، فيكره له طلاقها، لأن ذلك يوجب أن يكون قد راجع للطلاق فقط، لا لغرض آخر، ويكره أن تكون الرجعة للطلاق فقط فلا جرم قيل يمسكها إلى أن تحيض مرة أخرى وتطهر، وهذا وفق مذهبنا ومقتضى قولنا.
ومستند أبي حنيفة في إيجاب الفصل بين تطليقتين، هو هذا الخبر الذي يروونه وبينا وجه الكلام عليه، مع أنه نقل عن أبي حنيفة، أنه إذا طلقها ثم راجعها في ذلك الطهر، جاز له إيقاع طلقة أخرى في ذلك الطهر بعينه، يقدر كأن الطلاق لاقاها في الحيض، فإذا طهرت لم لا يجوز أن يطلقها طلقة أخرى وقد تحللت الرجعة؟.
قال الرازي: وهذا هو الصحيح عندنا، والرواية الأخرى غير معمول بها.
ومما جعلوه مستندا لقولهم في اعتبار الأقراء ما رواه عطاء الخراساني عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، ثم إنه أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرئين الباقيين، فبلغ ذلك النبي عليه السلام فقال لابن عمر:
«ما هكذا أمرك الله تعالى، إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء». وأمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فراجعتها وقال: إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك، فقلت:
يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها؟
«قال لا: كانت تبين فتكون معصية»، وهذا يرويه عطاء الخراساني وهو ضعيف جدا، ، نعم تواترت الأخبار في سائر أخبار ابن عمر، حين ذكر الطهر الذي هو وقت لإيقاع طلاق السنة: «ثم طلقها إن شئت»، ولم يخصص ثلاثا مما دونها كان ذلك طلاقها الإثنين أو الثلاث معا، وليس لهم أن يقولوا: إن مطلق قوله «طلق» مخصوص بالأقل، كلفظه لوكيله:
طلق، لأن ذلك إنما يكون حيث لا تكون الطلقات مملوكة له، فأما إذا كانت مملوكة له، فمطلق اللفظ يتناول الجنس الذي يملكه.
وقوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) خص منه الزوجان إذا كانا مملوكين، واختلفوا فيما إذا رق أحدهما:
وأبو حنيفة يعتبر عدده بالنساء.
والبتي يقول: من أي جانب جاء الرق انتقص عدد الطلاق.
وذكر بعض الروافض، أن الثلاث لا يقعن إذا جمع بينهن، وإنما يرد إلى واحد.
والحجاج بن أرطأة كان على هذا المذهب فيما نقله أبو يوسف عنه.
وقال محمد بن إسحاق بن محمد: ترد إلى واحدة.
وزعموا أن قول الله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) لبيان الطلاق المشروع، وحصر المشروع في المذكور وقال:
(إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) فإن الطلاق لا يقع إلا على هذا الوجه، ورأوا أن هذه التصرف البديع في التصرفات لما شرع على وجه، لم يثبت إلا على ما شرع، ولم يشرع إلا مفرقا، فلا يثبت إلا مفرقا، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم لابن عمر لما قال:
أرأيت لو طلقتها ثلاثا؟.. إذا عصيت ربك وبانت امرأتك يقضي على هذا الكلام ويستأصله.
ولأن الطلقات مملوكة له جميعا فإن سبب الملك النكاح، والنكاح بالإضافة إلى الثاني والثالث واحد.
وكيف لا، والأصل أن يزول بدفعه، ولكن حكم بالعدد منه نظرا للمالك ورخصة، فإذا جمع عاد إلى الأصل فوقع.
وصح أن ركانة طلق امرأته البتة، فأتى رسول الله صلّى الله عليه
واحتج من معنى وقوع الثلاث بما رواه عكرمة عن ابن عباس قال:
«طلق ركانة بن عبد ربه امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله: كيف طلقتها؟ أطلقتها ثلاثا في مجلس واحد؟
قال: نعم، قال: إنما تلك واحدة فارتجعها إن شئت.. قال: فراجعها..
وروي ابن جريج عن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس:
«ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبى بكر، وصدر من خلافة عمر ترد إلى الواحدة؟.. قال نعم».
وذكر علماء الحديث أن هذين الحديثين منكران.
وذكروا عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة:
أي أنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة، هذا الذي يطلقون ثلاثا، أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة.
قوله تعالى: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (٢٢٩) :
وظاهر الفاء الدال على التعقيب أن يكون الإمساك عقيب الطلاق، والإمساك إنما هو الرجعة لأنها ضد حكم الطلاق، لأن حكم الطلاق
وإنما أباح الله تعالى إمساكا على وصف، وهو أن يكون بمعروف، وهو وقوعه على وجه يحسن ويجمل، ولا يقصد به الإضرار بها على ما ذكره في قوله:
(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) «١».
فإنه إنما أباح له الرجعة على هذه الشريطة، ومتى راجع بغير معروف، كان عاصيا، والرجعة صحيحة.
وظن ظانون أن قوله تعالى: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ)، يتناول ما يكون متمسكا به، والجماع أقوى مقاصد النكاح، فكان إمساكا بالمعروف فتحصل به الرجعة وهذا الظن غلط فإن قوله: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ)، ما كان بالقول، فإن قابله بقوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)، ولا طلاق إلا بالقول، وكذلك لا إمساك إلا بالقول، ويدل عليه أنه قال في موضع آخر:
(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) «٢».
ولا يقول عاقل إنه يتناول الجماع، ليشهد عليه ذوي عدل، إلا أن يقر بالوطء، ويشهد على الإقرار، وذلك خلاف المشروع، لأن المشروع الشهادة على نفس الرجعة، لا على الإقرار بها.
(٢) سورة الطلاق آية ٢.
أن المراد به «١» الثالثة..
ورووا عن أبي رزين أنه قال رجل: يا رسول الله، أسمع الله تعالى يقول: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) فأين الثالثة؟
فقال: أو تسريح بإحسان، وهذا الخبر غير ثابت من طريق النقل..
وقال الضحاك والسدي إنه بتركها «٢» حتى تنقضي عدتها، ويظهر هذا المعنى في موضع آخر في قوله:
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (٢٣١).
والمراد التسريح بترك الرجعة إذ يبعد أن يقول: طلقوا واحدة أخرى وقال:
(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).
ولم يرد به إيقاعا مستقبلا، وإنما أراد به تركها حتى تنقضي عدتها..
نعم، الثالثة مذكورة في مساق الخطاب في قوله تعالى:
(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢٣٠).
فالثالثة مذكورة في صلة «٣» هذا الخطاب، مفيدة للبينونة الموجبة
(٢) في الجصاص: تركها.
(٣) عند الجصاص: صدر.
وعلى أن المقصد من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم، ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور، فلو كان قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) هو الثالثة، لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث، إذ لو اقتصر عليه، لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها، إلا بعد زوج، وإنما علم التحريم بقوله: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)
، فوجب أن لا يكون معنى قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) الثالثة، ولو كان قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بمعنى الثالثة، كان قوله عقيب ذلك: (فَإِنْ طَلَّقَها) الرابعة، لأن الفاء للتعقيب، قد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره.
فثبت بذلك أن قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)، وهو تركها حتى تنقضي عدتها.
وهذا صحيح عندنا، إلا أنه إذا لم يكن التسريح المذكور في القرآن بمعنى الطلاق، فلا يكون فيه دلالة على كون لفظ السراح صريحا على ما قاله أصحابنا، لأن الله تعالى ما أراد به بيان اللفظ، وإنما أراد به تخلية سبيلها، حتى تبين بالطلاق المتقدم بعد انقضاء العدة، من غير
(٢) في الأصل وهو وما هنا أصح.
(٣) عند الجصاص: بعد.
قوله تعالى: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)، تبعد دلالته على الوطء مضافا إليها حتى يقال: إن المراد به حتى تطأ زوجا غيره.
وإنما المراد به حتى تجتمع بزوج غيره، والاجتماع يحتمل الوطء، ويحتمل غيره، ودل خبر رفاعة «١» على اعتبار الوطء، ولم يخالف فيه غير سعيد بن المسيب، فإنه قال: يكفي النكاح.
ولئن قيل: ترك دلالة الغاية المذكورة لمجرد خبر رفاعة بعيد.
فيقال: وما بين الله تفصيل الغاية، فإنه قال:
(فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). فذكر الوطء شرطا، ويجوز أن يكون وراء هذا الشرط شرط آخر، ويجوز أن لا يكون، مثل قوله:
(وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) «٢».
ويجوز أن تغتسل وتتوقف الاستباحة على شرط آخر.
وذكر شرط وبيان توقف الحكم عليه، لا يمنع اعتبار شرط آخر،
(٢) سورة النساء آية ٤٣. [.....]
قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ. الآية) (٢٢٩).
وقد قال تعالى في آية أخرى.
(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) «١».
فهذا يمنع أخذ شيء منه دون رضاها، إذا كان النشوز منه..
وقال في آية أخرى:
(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) «٢» فقيد بحالة خوف الشقاق..
وقال في موضع آخر:
(لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ «٣» )
(٢) سورة البقرة آية ٢٢٩.
(٣) العضل: المنع والتضييق، يقال: أعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل، وداء عضال أي شديد عسير البرء أعيا الأطباء، وكل مشكل عند العرب فهو معضل، قال الأزهري: «أصل العضل من قولهم: عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج» أنظر الصحاح والقاموس، وروائع البيان للصابوني.
ومعنى الفاحشة، يحتمل أن يكون نشوزا من قبلها، أو زنا يخرج صدره، ويحمله على المخاصمة.
وذكر الله تعالى في موضع آخر، إباحة أخذ المهر في قوله تعالى:
(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ «٢» نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) «٣».
وقال تعالى:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) «٤».
(٢) صدقاتهن: يعنى مهورهن، جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال، وهي كالصداق بمعنى المهر، قال ابن قتيبة: وفيها لغة أخرى: صدقة بضم الصاد.
نحلة: النحلة: الهبة والعطية عن طيب نفس، أي لا تعضلوهن مهورهن وأنتم كارهون، قاله أبو عبيدة، وفسر بعضهم النحلة بمعنى الفريضة. والمعنى: وأعطوا النساء مهورهن فريضة من الله محتومة أنظر روائع البيان.
(٣) سورة النساء آية ٤، وهنيئا مريئا: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا انساغ وانحدر الى المعدة بدون ضرر، وكان سائغا لا تنغيص فيه. وقيل الهنيء ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة، والمريء حميد المغبة، وهما عبارة عن التحليل والمبالغة في الاباحة وازالة التبعة لأنهن كالرجال في التصرفات والتبرعات.
(٤) سورة البقرة آية ٢٣٧، معنى تمسوهن: المس أمساك الشيء باليد، ومثله المساس والمسيس، يقول الراغب: المس كاللمس، ويقال لما يكون إدراكه بحاسة اللمس. وكنى به عن الجماع فقيل: مسها وماسها، قال تعالى: لم يمسسني بشر.
ومعنى فريضة في الأصل ما فرضه الله على العباد، والمراد بها هنا المهر لأنه مفروض بأمر الله.
ومعنى يَعْفُونَ: (يتركن ويصفحن) والمراد أن تسقط المرأة حقها من المهر.
ومعنى عقدة النكاح: العقدة من العقد وهو الشد، قال الراغب: العقدة اسم لما يعقد من نكاح، أو يمين، أو غيرهما.
وقال بعض السلف: إنه لا يجوز إلا في حالة الضرورة وخوف الشقاق وهو باطل، فإن الغرض من ذكر حال الشقاق، بيان الخلع في غالب الحال، وإلا فعموم قوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً)، مع ظهور العلة فيه، وهو كون المبذول حقا لها، ولها أن تهب من شاءت أولى بالاعتبار.
وكذلك يشهد له قوله عليه السلام:
«لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه».
واختلف العلماء في الخلع هل هو فسخ أم طلاق؟
فالذي لا يراه طلاقا يقول:
قد قال تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ).
ثم قال: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ).
ثم قال بعد ذلك: (فَإِنْ طَلَّقَها)، فلو كان الخلع طلاقا، لكان
وهذا غلط، فإن قوله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)، أفاد حكم الاثنتين إذا أوقعهما على غير «١» وجه الخلع، وأثبت معهما الرجعة بقوله:
(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ)، ثم ذكر حكمهما إذا كان على وجه الخلع، فعاد الخلع إلى الثنتين المقدم ذكرهما.
أو المراد بذلك بيان الطلاق المطلق، والطلاق بعوض، والطلاق الثلاث بعوض كان أو بغير عوض، فإنه يقطع الحل إلا بعد زوج.
وظن ظانون أن في الآية ما يدل على أن المختلعة يلحقها الطلاق، فإنه قال: (فَإِنْ خِفْتُمْ)، وذلك بيان الطلاق المقدم ذكره بعوض، ثم قال:
(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).
فتكون الثالثة حاصلة بعد «٢» الخلع.
ويدل على أنّ الثالثة بعد الخلع قوله تعالى في نسق التلاوة:
(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) (٢٣٠)، عطفا على ما تقدم ذكره في قوله:
(٢) وقد حكم الله بصحة وقوعها وحرمة المرأة عليه أبدا الا بعد زوج، فدل ذلك على أن المختلفة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة (راجع الأحكام للجصاص).
فأباح لهما التراجع بعد التطليقة الثالثة، بشريطة زوال ما كانا عليه من الخوف، لترك إقامة حدود الله تعالى، لأنه جائز أن يندما بعد الفرقة ويحب كل واحد منهما أن يعود إلى الألفة.
فدل ذلك على أن هذه الثالثة مذكورة بعد الخلع.
وزعموا أن قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ)، يبعد أن يرجع إلى قوله: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)، لأن الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله: (فَإِنْ طَلَّقَها)، على قوله: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)، بل الأقرب عوده إلى ما يليه كما في الاستثناء، بلفظ التخصيص أنه عائد إلى ما يليه ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة، كما أن قوله تعالى:
(وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) «١».
صار مقصورا على ما يليه، غير عائد إلى ما تقدمه، حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء.
وذكروا أن هذا أبعد من ذلك، فإن عطفه على ما يليه وما تقدمه، أقرب من إخراج ما يليه بالكلية وترك العطف عليه «٢».
وهذا الذي توهمه هؤلاء باطل، فإن قوله: (فَإِنْ طَلَّقَها)، ليس يدل على الثالث، إلا بتقدير عطفه على عدد مذكور قبله.
(٢) راجع الأحكام للجصاص.
وقوله تعالى: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، مسوق لبيان جواز بذل العوض، لا لبيان عدد الطلاق والمقابل للعوض.
وقوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) يدل على عدد الطلاق الذي يثبت فيه حق الرجعة.
وقوله (فَإِنْ طَلَّقَها)، بيان تمام ذلك العدد، الذي لا يقترن به الاستدراك.
ثم جواز الافتداء يستوي فيه الواحد والعدد، وذلك بين بأول الخاطر، وليس فيه شبهة على متأمل.
قوله تعالى: (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الآية (٢٣١) :
أجمع العلماء على أن المراد ببلوغ الأجل مقاربة البلوغ، ولذكر بلوغ الأجل- والمراد به مقاربته دون انقضائه- نظائر كثيرة من القرآن واللغة، قال الله تعالى: (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) «١» ومعناه: إذا أردتم الطلاق وقاربتم أن تطلقوا فطلقوا للعدة.
وقال تعالى:
(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) «٢».
(٢) سورة النحل آية ٩٨ وتمامها: (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ). [.....]
وقال: (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)
«١».
وليس المراد به العدل بعد القول، لكن قبله يعزم على أن لا يقول إلا عدلا. فعلى هذا ذكر بلوغ الأجل، والمراد به مقاربته دون وجود نهايته.
وإنما ذكر مقاربته البلوغ عند الأمر بالإمساك بالمعروف- وإن كان ذلك عليه في سائر أحوال بقاء النكاح- لأنه وصل به التسريح وهو انقضاء العدة وجمعهما في الأمر، ومعلوم أن التسريح له حالة واحدة لا تدوم، فخص حالة بلوغ الأجل بذلك، لينتظم المعروف الأمرين جميعا.
وقوله: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) : إباحة الإمساك بمعروف، فهو القيام بما يجب لها من حق على زوجها «٢».
والتسريح بالإحسان أن لا يقصد مضارتها لتطويل العدة عليها بالمراجعة، وتبين ذلك بقوله عقيب ذلك:
(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (٢٣١).
ويجوز أن يكون من الفراق بالمعروف أن يمتعها عند الفرقة.
فإذا ثبت ذلك فالشافعي يقول:
«إن عجز عن نفقة امرأته فليس يمسكها بمعروف، فيجب عليه أن
(٢) راجع احكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٦٨.
فظن بعض الجهلة، أن العاجز ممسك بمعروف، إذ لم يكلف الانفاق في هذه الحالة، وهذا جهل وحمق، فإن العاجز إنما لم يكلف ما عجز عنه، ونحن لا نكلفه النفقة، إلا أنا نقول:
إذا عجز عن الإمساك بالمعروف، فالتسريح بالإحسان مقدور.
نعم إذا قدر على نفقة المعسرين فلينفق مما آتاه الله.
ويدل عليه أن العلماء قالوا: إذا عجز عن الانفاق على عبده أو أمته يقال له: بع عندك أو أمتك، لا على معنى أنا نكلف العاجز، ولكن إن عجز عن النفقة، فلم يعجز عن البيع.
وإمساك العبد بالمعروف ليس منصوصا عليه، وإنما هو مفهوم من النكاح، فالنكاح بذلك أولى.
قوله: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً).
بيان النهي عن تطويل العدة عليها بالمراجعة، إذا قارب انقضاء العدة راجعها، فأمر الله تعالى بالإمساك بالمعروف، ونهاه عن مضارتها بتطويل العدة عليها.
وقوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) «١» (٢٣١).
يدل على أن الرجعة تنعقد «٢» على هذا الوجه، ويكون بذلك ظالما، ولو لم يثبت التطويل به ما كان ظالما، وكانت رجعته لغوا لا حكم لها.
وقوله تعالى: (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً) «٣» (٢٣١).
(٢) في الأصل تتعد وعند الجصاص: دل على وقوع الرجعة.
(٣) أي مهزوا بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة عليها.
كنت لاغيا، ويعتق، ويرجع، ويقول: كنت لاغيا، فأنزل الله تعالى:
(وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً).
وروى عن أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«ثلاث جدهن جد وهولهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة».
وإنما ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفسيرا لكتاب الله تعالى:
قوله: (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) (٢٣٢).
فذكر أصحاب الشافعي أن بلوغ الأجل ها هنا حقيقة الانفصال.
وقوله: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) «١»، خطاب للأولياء، ونهيهم عن الامتناع من تزويجها.
وذكر أصحاب أبي حنيفة، أن معنى هذه الآية لا يتحقق عندكم، فإن الولي، إذا كان هو المزوج والمتصرف فلا يقال: لا تمنعوا فلانا من أن يبيع وأنتم البائعون، فلو لم يكن إلى المرأة النكاح لما صح أن يقول:
«فلا تمنعوهنّ من النّكاح أن ينكحن»، وهو لا يمنعها إنما يمنع نفسه.
وقوله (يَنْكِحْنَ) فعل مضاف إليهن، وإذا نهاه عن البيع، وجب
ومما استشهدوا به أيضا قوله تعالى:
(فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) «١» ولم يذكر الولي.
والذي ذكره هؤلاء غلط، وذلك أن الله سبحانه إنما قال:
(حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).
وقوله: (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ)، بناء على العادة الجميلة المندوب إليها في الشرع، وهي تفويضهن النكاح إلى الأولياء، بعد الرضا بالأزواج، واختيارهم، لا مباشرة المرأة عقد النكاح دون الأولياء، فإن ذلك خرم للمروءة، وهتك للستر، وفتح لأبواب التهمة، وشناعة في العرف.
وذكر آخرون أن الآية بنظمها، دالة على أن الولي غير مراد بالآية، فإنه قال في أول الآية:
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ).
وقوله: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) خطاب لمن طلق، فمعنى ذلك عضلها عن الأزواج بتطويل العدة عليها.
وغاية ما يرد على هذا: أن ذلك يخرج قوله (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) عن البلوغ حقيقة.
أما قول القائل: (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) يا أولياء، فيقطع نظام الكلام، ويضمر ما لم يجر له ذكر بوجه، فهو ركيك من الكلام، مستكره في التأويل.
فقيل لهم: إن الذي قلتموه فهمناه من قوله قبل هذا:
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا). فكيف يعيد عين ذلك بلفظ هو كناية عن القرب من ذكره باللفظ الصريح من غير فائدة، وهذا بين جدا.
ويدلك على ذلك ما رواه شريك عن سماك، عن ابن أخي معقل ابن يسار، عن معقل، أن أخت معقل كانت تحت رجل فطلقها، ثم أراد أن يراجعها، فأبى عليه معقل فنزلت هذه الآية.
وروى عن الحسن هذه القصة، وأن الآية نزلت فيها، وأن النبي عليه السلام دعا معقلا وأمره بتزويجها إياه.
وهذا الحديث غير ثابت على مذهب أهل النقل، لما في سنده من الرجل المجهول الذي يروى عنه سماك، وحديث الحسن مرسل، ولكنه مشهور، والمرسل عندهم حجة.
والقاضي إسماعيل بن إسحاق يرويه في أحكام القرآن عن الحسن قال: «حدثني معقل بن يسار، الحديث.» ثم يقول: «ثم تركها حتى انقضت عدتها». ويروى ذلك بأسانيد شتى..
إلى قوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (٢٣٣).
وذلك يدل على جواز استئجار الأم على إرضاع ولدها، سواء كانت مطلقة أو مزوجة.
وعندنا الأم إذا امتنعت من إرضاع ولدها إلا بأجرة ومؤونة، فيجوز لها ذلك، والأب يستأجرها.
وإذا رضيت الأم بما ترضى به الأجنبية، فلا تضار والدة بولدها في انتزاعه منها، فلا يكون للزوج انتزاع الولد منها، إذا رضيت بأن ترضعه بأجرة مثلها، وهي الرزق والكسوة بالمعروف، وإن لم يرض.
ولما قال: (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) جعلن أحق بحضانة الولد، وذلك يدل على أن الأصل في الحضانة الأم، لأن حاجة الولد بعد الرضاع إلى من يحضنه، كحاجته إلى من يرضعه، فإذا كانت في حالة الرضاع أحق به، وإن كانت المرضعة غيرها، علمنا أن في كونه عند الأم حقا لها وللولد جميعا، وهو أن الأم أرفق وأحنى عليه، فإذا بلغ سن التمييز- وهو السن الذي يؤمر بالصلاة فيه، وذلك يدل على التمييز
وقال في البحر: (وكان القياس أن يقال والد، لكن قد أطلق على الأب والد فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي.
حولين: قال الراغب «والحول السنة اعتبارا بانقلابها ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها» ص ١١؟؟.
قوله تعالى: (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) (٢٣٣).
وظن ظانون أن قوله: (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) من النفقة، فإنها على الوارث.
وليس ذلك مذهبا لأبي حنيفة، فإنه لا يعلقها على الإرث، وإنما يعلقها على الرحم والمحرمية مع الإرث، ولا نعلم في العلماء من يعلق على الإرث، سوى ما ذكر عن أحمد، فإنه طرد ظاهر الإرث حتى قال:
الجد من قبل الأم لا نفقة عليه مع وجود ابن العم، وطرد ذلك في النساء والرجال والحجب بالأشخاص والأوصاف.
وذلك في غاية البعد عن الأوضاع الشرعية، ومع هذا فلا دلالة للقرآن عليه، فإن قوله تعالى: (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ)، يمكن أن يحمل على أقرب مذكور، وهو نفي المضارة.
وعن ابن عباس والشعبي: وعلى الوارث أن لا يضار في تفسير هذه الآية.
وقال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق رحمه الله في كتاب «معاني القرآن» :
أما أبو حنيفة فإنه قال: تجب نفقة الصغير ورضاعه على كل ذي رحم محرم، مثل أن يكون رجل له ابن أخت صغير محتاج، وابن عم صغير محتاج وهو وارثه، أن النفقة تجب على الحال لابن أخته الذي لا يرثه، وتسقط عن ابن العم لابن عمه الوارث، ثم قال:
وقالوا قولا ليس في كتاب الله تعالى، ولا نعلم أحدا قاله، ثم قال هذا الرجل: وإذا ولد الولد وأبوه ميت، فعلى أمه أن ترضعه لأن الله تعالى جعلها المرضعة، فلا يسقط عن الأم ما كان واجبا عليها بسقوطه عن الأب بالموت.
فلم ير هذا الرجل ما وجب عليها بإزاء ما وجب لها، فإذا لم يكن ما وجب لهم، لم يجب ما يقابله.
ولا خلاف أنه إذا انقطع لبنها بمرض أو غيره، فلا شيء عليها، وإن أمكنها أن تسترضع، ولا عليها نفقة بعد الرضاع، وكذلك قبله لا فرق.
ومالك لا يوجب النفقة إلا على الأب للابن، وعلى الابن للأب، ولا يوجبها للجد على ابن الابن..
قوله تعالى: (فَإِنْ أَرادا فِصالًا «١» عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) (٢٣٣)،
وإذا ثبت ذلك، فتخصيص تحريم الرضاع بمدة الحولين، لا بد من تأصل مستنده، مع أن الليث بن سعد صار إلى أن إرضاع الكبير، يوجب تحريم الرضاع، وانفرد به من بين العلماء.
وروي عن عائشة مثل ذلك.
وكانت تروي في ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة أن النبي عليه السلام قال لسهلة بنت سهيل- وهي امرأة أبي حذيفة-:
«أرضعيه خمس رضعات ثم يدخل عليك».
وتمام هذا الحديث، أن سهلة بنت سهيل قالت: «يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة «١» من دخول سالم علي»، فقال النبي عليه السلام:
«أرضعيه».
وقد روى مسروق في مقابلته عن عائشة، أن رسول الله دخل عليها وعندها رجل فقالت: يا رسول الله، إنه أخي من الرضاعة، فقال عليه السلام:
«انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة» «٢».
وهذا يقتضي اختصاص الرضاع بالحالة التي يسد اللبن مجاعته، ويكتفي في غذائه به.
(٢) أنظر سنن ابن ماجة، ج ١ ص ٦٢٦ رقم ١٩٤٥.
«إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللجم والعظم»، فقال أبو موسى الأشعري: لا تسألوني ما دام هذا بين أظهركم.
وقوله: «لا تسألوني»، يدل على أنه رجع عن ذلك.
وروى جابر عن رسول الله أنه قال: «لا يتم بعد حلم ولا رضاع بعد فصال».
وفي حديث آخر: «الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم».
فإذا ثبت أن رضاع الكبير لا يحرم، فالشافعي يقدر أثر الرضاع بالحولين.
وأبو حنيفة يزيد ستة أشهر ويقول: ما يحرم بعد الحولين يحرم- فطم أو لم يفطم، إلى ستة أشهر.
وقال زفر: ما دام يجتزى باللبن ولم يفطم، فهو رضاع، وإن أتى عليه ثلاث سنين.
فأما الشافعي فإنه يرى: كأن التقدير بستة أشهر، كالتقدير بسنة، والتقدير بشهر، وذلك تحكم لا مستند له، وهو مثل تقدير أبي حنيفة في بلوغ الغلام بثمان عشرة سنة، وقوله:
لا يدفع المال إلى الذي لم يؤنس رشده، إلا بعد خمس وعشرين سنة، وكل ذلك تحكم.
ولا مستند في مثل ذلك إلا التوقيف، والتوقيف قوله تعالى:
(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ).
ونص على أن الحولين إتمام الرضاعة، ولفظ الإتمام، يمنع إمكان الزيادة عليه في الحكم المتعلق بما قبل التمام.
نعم، قد قال صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك عرفة فقد تم حجه».
ومعناه تمام الإدراك الذي لا يلحقه إمكان فوت.
وهذا المعنى متعلق بالوقوف، فإذا ظهر لنا هذا المستند، فالتقدير لستة أشهر بعده، لا وجه له.
وقد روى جابر أن النبي عليه السلام قال:
«لا رضاع بعد الحولين».
وفي رواية: «لا رضاع بعد فصال»، والأصل كتاب الله تعالى الدال على تمام الرضاع في الحولين.
وقوله تعالى: (فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) يدل على فوائد، منها:
وفيه دليل على أن الفطام في مدة الرضاع موقوف على تراضيهما، وأنه ليس لأحدهما أن يفطمه دون الآخر، لقوله: (فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما).
وروي عن قتادة قال: كان الرضاع واجبا في الحولين، وكان يحرم الفطام قبله، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من هذه المدة، بقوله تعالى:
(فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما).
أن يفطما قبل الحولين وبعدهما..
قوله تعالى: (يَتَرَبَّصْنَ «١» بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (٢٣٤) :
نسخ ذلك قوله تعالى: (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) «٢»، وفي ذلك الوقت، كانت الوصية للأزواج واجبة، وهي النفقة إلى الحول، ثم أبدلت الوصية بالميراث، إما ربعا في حالة، أو ثمنا في حالة.
وقوله: (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) نسختها العدة أربعة أشهر وعشرا.
ولا خلاف أن هذه الآية خاصة في غير الحامل.
(٢) سورة البقرة آية ٢٤٠. [.....]
فقال علي رضي الله عنه، وإحدى الروايتين عن ابن عباس: عدتها آخر الأجلين «١».
وقال عمر وابنه، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة في آخرين: عدتها أن تضع حملها.
وقال الحسن: عدتها أن تضع حملها، وتطهر من نفاسها، ولا تتزوج وهي ترى الدم.
فأما علي رضي الله عنه: فإنه ذهب إلى أن قوله: (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) يوجب الشهور.
وقوله: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) «٢»، يوجب انقضاء العدة بوضع الحمل.
فجمع بين الآيتين في إثبات حكمهما في المتوفي عنها زوجها، وجعل انقضاء عدتها آخر الأجلين، من وضع الحمل أو مضي الشهور.
وقال ابن مسعود «٣» : من شاء باهلته، إن قوله تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) نزلت بعد قوله: (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).
(٢) سورة الطلاق آية ٤.
(٣) انظر تفصيل القول في هذه المسألة في الجصاص ج ٢ ص ١١٨. والمباهلة:
الملاعنة أي يدعو كلا الطرفين بوقوع الهلاك على من يخالف الحق.
قالوا جميعا: إن مضي الشهور لا تنقضي به عدتها إذا كانت حاملا، حتى تضع حملها، فلا تعتبر الشهور معه، ولم يختلفوا في أن عدة الطلاق تنقضي بوضع الحمل، من غير ضم الأقراء إليها، وقد كان جائزا أن يكون الحمل والأقراء مجموعين عدة لها، بأن لا تنقضي عدتها بوضع الحمل، حتى تحيض ثلاث حيض، فكذلك يجب أن تكون عدة الحامل المتوفي عنها زوجها في الحمل، غير مضموم اليه الشهور.
وقال الأصم: إن الآيات في عدة الوفاة والطلاق بالأشهر والأقراء عامة في حق المرأة والأمة، فعدة الحرة والأمة سواء.
وهذا مذهب له وجه من حيث التوقيف، فإن العمومات لا فصل فيها بين الحرة والأمة، وقد استوت الحرة والأمة في النكاح، إلا أن الذي نصف، تلقاه من وجوب العدة باعتبار الحرمة، وحرمة الأمة دون حرمة الجرة، وهذا فيه ضعف، لاستواء المسلمة والكافرة الحرة في العدة، ولأن العدة وجبت لحق الزوج، وحق الزوج بالإضافة إلى الحرة والأمة واحد، وهذا بين، فإن صح الخبر في قوله صلّى الله عليه وسلم:
«طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان فهو متعلق، وإلا فالمتعلق ضعيف.
واختلف السلف في المتوفي عنها زوجها إذا لم تعلم بموته وبلغها الخبر.
فقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء وجابر بن زيد: إن عدتها من يوم
وقال علي رضي الله عنه والحسن البصري:
يوم يأتيها الخبر في الموت، وفي الطلاق من يوم طلق.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) «١» يدل على أنه يتعلق بالموت، وكذلك قوله: (وَالْمُطَلَّقاتُ) يدل على أن العدة متعلقة بالطلاق.
والذي ذهب اليه من اعتبر بلوغ الخبر، أن عدة الوفاة قضاء لحق الزوج، وإنما يتحقق ذلك إذا علمت واعتزلت وتركت الزينة عن اختيار، فإذا لم تعلم، فلا يتحقق هذا المعنى، وهذا بين، إلا أنها لو علمت موت الزوج، فلم تجتنب الزينة، انقضت عدتها، فعلم أن المعتبر في ذلك تقضي الوقت.
فأما السكنى فللمطلقة لقوله تعالى:
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) «٢».
والمتوفى عنها زوجها لم يذكر في القرآن سكناها.
وقد اختلف قول الشافعي، فيما إذا مات عنها زوجها وهي في منزل: فالذي عليه الأكثرون أنها لا تخرج.
ونقل عن الشافعي أنه قال: تخرج وتسكن أي منزل شاءت، إنما الإحداد في الزينة «٣».
وقد ورد في الخبر عن أخت أبي سعيد الخدري، أنها استأذنت رسول
(٢) سورة الطلاق آية ٦.
(٣) راجع تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٨٦.
«امكثي حتى يبلغ الكتاب أجله».
وليس في لفظ العدة في كتاب الله ما يدل على الإحداد، إلا أن الإحداد وجب بالسنة..
قوله تعالى: (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ «١» النِّساءِ) :
فأباح التعريض بالخطبة وإضمار نكاحها، من غير إفصاح به.
وفيه دليل على نفي الحد بالتعريض بالقذف، فإن الله تعالى لم يجعل التعريض في هذا الموضع بمنزلة التصريح، فكذلك لا يحصل التعريض بالقذف كالتصريح، وإذا خالف الله تعالى بين حكمهما، بأن به تفاوت ذنبه ما بين التعريض والتصريح، والحدود مما يسقط بالشبهات، فهي في حكم السقوط والنفي آكد من النكاح، فإذا لم يساو التعريض في النكاح والتصريح، وهو آكد في باب الثبوت من الحد، كان أولى أن لا يثبت بالتعريض من حيث دل على أنه لو خطبها بعد انقضاء العدة بلفظ التعريض، لم يقع بينهما عقد النكاح، وكان تعريضه بالعقد مخالفا للتصريح، فالحد أولى أن لا يثبت به، ومعلوم أن المراد بالتعريض قد يحصل في الخطبة، ولكنه دون التصريح فافترقا «٢»، وكذلك في القذف،
(٢) قال في اللسان: «وعرض بالشيء: لم يبينه، والتعريض خلاف التصريح والمعاريض: التورية بالشيء عن الشيء، وفي الحديث: «أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب»، والتعريض في خطبة المرأة: أن يتكلم بكلام يشبه خطبتها ولا يصرح به كأن يقول: انك لجميلة، وانك لنافقة، وانك الى خير، كما يقول المحتاج للمعونة: «جئت لأسلم عليك، ولأنظر الى وجهك الكريم» أهـ.
لسان العرب لابن منظور والقاموس المحيط ومختار الصحاح وراجع البخاري في تفسير الآية من كتاب النكاح.
وعرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخطبة فاطمة بنت قيس وهي في العدة وقال:
«لا تفوتينا نفسك» وإنما كان يريد خطبتها لأسامة بن زيد، وفي ذلك رد على مالك في إيجابه الحد بالتعريض بالقذف، والاحتجاج بالتعريض بالخطبة على مالك، وهو لطيف..
وفي قوله تعالى: (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ «١» النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) (٢٣٥).
دليل على تحريم نكاح المعتدة.
وقوله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) (٢٣٥).
يعني بالتزويج، لرغبتكم فيهن، ولخوف أن لا يسبقكم إليهن غيركم، فأباح لهم التوصل إلى المراد بذلك التعريض دون الإفصاح.
وذلك يدل على جواز التوصل إلى الأشياء من الوجوه المباحة، وإن كانت محظورة من وجوه أخر، نحو ما أشار الله تعالى إليه في ثمر خيبر، على ما بينه الفقهاء في كتبهم.
وبلغ عمر، أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف وهي في عدتها، فأرسل إليهما وفرق بينهما وعاقبهما وقال: لا تنكحها أبدا، وجعل الصداق في بيت المال، وفشا ذلك في الناس، فبلغ عليا رضي الله عنه ذلك فقال: «يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق في بيت المال، إنهما إن جهلا فيجب على الإمام أن يردهما إلى السنة»، فقيل له: «فما تقول فيه أنت».. فقال: «لها الصداق بما استحل به من فرجها، ويفرق بينهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تكمل عدتها من الآخر، ثم يكون خاطبا». فبلغ ذلك عمر فخطب الناس فقال:
«يا أيها الناس، ردوا الجهالات إلى السنة» «١».
وقال مالك والأوزاعي والليث بن سعد: لا تحل له أبدا.
قال مالك والليث: ولا بملك اليمين، مع أنهم جوزوا التزويج بالمزني بها.
وفي اتفاق عمر وعلي رضي الله عنهما على انتفاء الحد، دليل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد، إلا أنه مع الجهل بالتحريم، متفق عليه، ومع العلم به، مختلف فيه..
قوله تعالى: (لا جُناحَ «٢» عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ)
(٢) لا حرج ولا ضيق عليكم أيها الرجال.
تقدير الآية: ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة «٣».
وقد نزلت الآية في رجل من الأنصار، تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا، وطلقها قبل أن يمسها.
وكما دل على ذلك سبب النزول دل السياق عليه، فإنه تعالى قال معطوفا عليه:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ «٤» فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) (٢٣٧) :
فلو كان الأول بمعنى ما لم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا، لما عطف عليها المفروض لها، فعلم أن معناه: ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة، فيكون أو بمعنى الواو.
وقال تعالى في مثله:
(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) «٥».
وقال أبو مسلم: «وانما كنى تعالى بقوله (تَمَسُّوهُنَّ) عن المجامعة، تأديبا للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به» أهـ.
(٢) الفريضة: ما فرضه الله على العباد، والمراد بها هنا المهر، لأن الله فرضه بأمره.
(٣) أي بأن كانت مطلقة غير مدخول بها، ولا مسمى لها المهر. [.....]
(٤) أي بأن كانت مطلقة غير مدخول بها وقد فرض لها المهر.
(٥) سورة الإنسان آية ٢٤، ومعناه كما في الجصاص: (ولا تطع منهم آثما ولا كفورا).
معناه: وجاء أحد منكم من الغائط وكنتم مرضى أو مسافرين.
وهذا موجود في اللغة، وهو في النفي أظهر من دخولها عليه بمعنى الواو «٢»، مثل ما قدمناه من قوله:
(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً).
وقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) «٣»، «أو» في هذه المواضع هي بمعنى الواو..
وقوله تعالى: (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً). لما دخلت «٤» على المنفي كانت بمعنى الواو. فيشترط وجود المعنيين، لوجوب المتعة على هذا التقدير.
وفي عموم قوله: (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)، دليل على جواز الطلاق في حالة الحيض قبل الدخول «٥».
(٢) في الجصاص: فهذا موجود في اللغة وهي في النفي أظهر في دخولها عليه أنها بمعنى الواو.
(٣) سورة الأنعام آية ١٤٦.
(٤) أي أو.
(٥) وهذه الآية تدل على أن للرجل أن يطلق امرأته قبل الدخول بها في الحيض، وأنها ليست كالمدخول بها لإطلاق إباحة الطلاق من غير تفصيل منه بحال الطهر دون الحيض، قاله الجصاص في الأحكام ج ٢ ص ١٣٦.
ولا شك أن عموم الأمر بالإمتاع في قوله: (وَمَتِّعُوهُنَّ).
وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله: (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) يظهر في الوجوب، وقوله (عَلَى الْمُتَّقِينَ) تأكيد لإيجابها، لأن كل أحد يجب عليه أن يتقي الله تعالى في الإشراك به ومعاصيه، وقد قال الله تعالى في القرآن: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).
ومالك يقول: إن الأصل أن لا يجب للمطلقة شيء، إذا عاد البضع سليما إليها، كما لا يجب للبائع شيء، إذا رجع المبيع سليما اليه.
فقياس ذلك نفي المتعة. وهذا ضعيف، فإن هذا القياس، كان لمنع وجوب عوض البضع وهو المهر للمفوضة، وليس فيه ما ينفي المتعة التي وجبت في مقابلة الأذى الحاصل بالطلاق، وليس في قياس الأصول ما يدفع ذلك بوجه، وهذا يقتضي أن لا يكون للمملوكة متعة، إذا طلقت قبل الفرض والمس، لأن المتعة تكون للسيد، وهو لا يستحق مالا في مقابلة تأذي مملوكته بالطلاق، ولا أعلم أحدا قال ذلك سوى الأوزاعي والثوري، فإنهما زعما أن لا متعة في هذه الحالة.
وذكر أصحاب أبي حنيفة، أن مهر المثل مستحق بالعقد، والمتعة هي بعض مهر المثل، فتجب لها، كما يجب نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول.
وذلك بعيد، مع الاتفاق على سقوط مهر المثل بالطلاق قبل الدخول «١» وليست المتعة بدلا عن البضع، فإن المعتبر به حال الرجل بنص كتاب الله تعالى:
(عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) (٢٣٦).
فدل ذلك على أنها ليست بدلا عن البضع.
كيف؟ والمتعة وجبت في حالة سقوط حقه عن بضعها، والمهر في مقابلة استحقاقه بعضها، فبينهما تضاد في الحقيقة، لأن أحدهما يدل لاجتماعهما، والآخر لافتراقهما.
وسبب المتعة أذية حصلت بالطلاق، وهو أيضا في طريق النظر مشكل، فإن الزوج إذا جاز له أن يطلقها فإنما أسقط حقا لنفسه، فمن أين يجب عليه مال لها من جهة أنها لا تريد فراقه؟
ولو وجب لها شيء، فإنما يجب لأنه فوت عليها حقها، وذلك يمنع كون الطلاق مباحا.
وعلى أنه لو كانت المتعة صداقا، أو عوضا عن صداق، لما صح الترغيب في المتعة التي تستحق المهر بالمسيس، والترغيب في الأحوال كلها في الامتاع واحد.
وذلك يؤكد قول مالك في أن محل المتع كلها واحد، كما أن محل الصداق واحد، فالمتعة في الأحوال كلها بعد الفراق، والصداق قبله،
نعم، لا خلاف أن المطلقة قبل الدخول، لا تستحق المتعة على وجه الوجوب، إذا وجب لها نصف المهر المسمى، فذلك يوهم كون المتعة قائمة مقام المهر، لأنها وجبت حيث لا فرض، ولم تجب عند من أوجبها، حيث ثبت نصف المفروض.
ويجاب عنه، بأن العلة فيه، أنه لما رجع البضع إليها مع نصف المفروض، حصل به التسلي، فزال معنى التأذي بالفراق. فلم تجب المتعة لعدم سببها، وهو التأذي بالفراق.
وأما قوله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) عام في حق المطلقات.
واختلف قول الشافعي رحمه الله في حق المطلقة للدخول بها، وظاهر العموم لا يقتضي التردد، إلا أنه ربما قيل: إن المطلقة بعد المس، استحقت المهر في مقابلة وطء تقدم، فلم يرجع البضع إليها سليما، حتى يكون ذلك مانعا من التأذي بالفراق الذي هو سبب المتعة.
ويقال في معارضة ذلك: إن المهر كان في مقابلة وطئات العمر، وقد عاد إليها ذلك مع كمال المهر، فيتردد ويتفاوت النظر، فلا جرم، اختلف قول الشافعي فيه.
فأما تقدير المتعة فإن الله تعالى يقول: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ «١» قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ).
وذكر بعض علمائنا، أن حالها معتبر مع ذلك أيضا، ولو اعتبرنا حال الرجل وحده، لزم منه أنه لو تزوج بامرأتين، إحداهما شريفة والأخرى دنية، ثم طلقهما قبل الدخول ولم يسم لهما، أن يكونا متساويين في المتعة، فيجب للشريفة مثل ما يجب للدنية، والله تعالى يقول:
(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) وليس ذلك من المعروف، بل هو في العرف منكر.
ويلزم منه: أن الموسر العظيم اليسار، إذا تزوج امرأة دنية فهو مثلها، وبيانه: أنه لو دخل بها، وجب لها مهر مثلها إن لم يسم لها شيئا، ولو طلقها قبل الدخول، لزمته المتعة على قدر حاله، فيكون ذلك أضعاف مهر مثلها، فتستحق قبل الدخول «١» أضعاف ما تستحقه بعد الدخول، وذلك يقتضي أن لا يزاد على قدر المهر الواجب بأعلى غايات الابتذال وهو الوطء.
ثم قوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً). (٢٣٧)
المراد بالفرض ها هنا، تقدير المهر وتسميته في العقد، وإنما فهم منه الفرض في العقد، لأنه ذكر المطلقة التي لم يسم لها فرضا بقوله تعالى:
(إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)،
فأما المفروض لها بعد العقد، إذا طلقت قبل الدخول:
فقال أبو حنيفة: ليس لها مهر مثلها.
ومالك والشافعي وأبو يوسف: يجعلون لها نصف الفرض.
ويجعل أبو حنيفة المفروض بعد العقد، كالذي لم يفرض، ويوجب المتعة، وليس له في ذلك مستند ومرجع، فإن المفروض بعد العقد، إذا ألحق بالعقد، فلم لا يلحقه في حكم التشطير؟ واختلاف زمان الفرض لا يغير حقيقة المفروض.
وقوله تعالى: (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) يتناول- بطريق العموم- ما بعد العقد.
ولو توهم متوهم، أن فيما قبله ما يمنع من هذا العموم، فليس كذلك، فإن ما قبله عدم الفرض مطلقا، وما بعده إثبات الفرض، وإثبات الفرض يعم الأحوال.
ولو كان النص على المفروض عند العقد، كنا نلحق به المفروض بعد العقد بطريق الاعتبار، مثل إلحاق الشيء، بمثل ما في معناه..
قوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً)، يقوي أحد قولي الشافعي، وأن مجرد الخلوة لا تقرر المهر..
وقد يكون الصداق عقارا وعينا معينة، فلا يصح العفو فيه، ولكن معنى العفو، هو تركها الصداق عليه على الوجه الجائز في عقود التمليكات، بأن تملكه إياه بغير عوض.
والعفو التسهيل: يقال: جاء الأمر عفوا، أي سهلا سمحا من غير تعويق.
فقال الشافعي: «في هذا دلالة على جواز هبة المشاع فيما ينقسم وفيما لا ينقسم، لإباحة الله تعالى تمليك نصف المفروض الثابت بعد الطلاق».
ولم يفرق بين ما كان منها عينا أو دينا، وما يحتمل القسمة وما لا يحتملها، فوجب اتباع موجب الآية في جواز هبة المشاع.
نعم: العفو كناية عن التمليك فتقديره: إلا أن يهبن نصف المهر ويتركنه على الأزواج، فكان اللفظ عاما في جميع ما كان صداقا.
نعم يجوز أن يقال إنه لم يتعرض الشرع لشروط الهبة كالقبض وغيره، فإن ذلك ليس مقصودا بالذكر، وإنما المقصود منه أن كل ما دخل تحت الصداق يصح منه هبة نصفه وتركه على الزوج، فلئن لم يتعرض كتاب الله تعالى لشروط العفو، فدلالته على أن ما دخل تحت الصداق يجب أن يدخل تحت العفو قائمة.
قوله: (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (٢٣٧) فقد اختلف السلف فيه.
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأصح قولي الشافعي.
وقال مالك «١» : هو الأب في حق البكر، وهو رواية عن ابن عباس.
ولا شك بأن قوله: (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)، محتمل للوجهين اللذين تأولهما السلف عليهما، فينظر في أقرب الوجهين إلى معاني الشرع والأصول المحكمة، التي ترد المتشابهات إليها، وقد قال تعالى:
(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) «٢».
فذكر تركه الصداق عليها، وتركها الصداق عليه.
فاللائق بالبيان ها هنا أيضا: أنه إذا ذكر العفو من أحد الزوجين، ذكر من الزوج الآخر، وقال تعالى:
(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) «٣».
وقال: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) «٤».
وكل ذلك منع للزوج من انتزاع شيء منها، إلا أن تترك هي عليه، أو يترك هو عليها، ما استحق استرجاعه منها قبل الدخول.
(٢) سورة النساء آية ٤.
(٣) سورة النساء آية ٢٠. [.....]
(٤) سورة البقرة آية ٢٢٩.
نعم بعد الطلاق، ليس العقد الذي كان بيد الزوج في الحال، ولكنه كان بيد الزوج، والذي كان من العقد ليس هو بيد الزوج، ولكنه كان عند وجوده بيد الزوج، ولأنه قال:
(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (٢٣٧) فندب إلى الفضل.
وقال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢٣٧)، وليس في هبة مال الغير إفضال منه إلى غيره.
والمرأة لم يكن منها إفضال ولا تقوى، في هبة مال الغير بغير إذن مالكه..
ولأن الصداق تارة يكون عينا، وتارة يكون دينا، وليس للولي في هبة مالها المعين المشار اليه دخل.
فهذه الأنواع تدل على صحة قولنا: إن المراد به الزوج، هذا ما يتعلق باللفظ.
وأما ما يتعلق بقياس الأصول فبين، غير أن أقوى ما يرد عليه، أنا إذا تنازعنا معنى اللفظ، وقوله (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)، يبعد أن يراد به الزوج وقد طلق قبل المس، وإنما يظهر ذلك في الولي الذي بيده أن يعقد النكاح، وقال تعالى:
(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) (٢٣٥).
ويجاب عنه بأن قوله: (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)، يبعد فهم الولي
نعم هو أولى بالزوج، لأن الله تعالى أراد أن يميز المرأة عن الزوج بوصف يختص به الزوج، وهو أن بيده عقدة النكاح، فكان ذلك كناية عن الأزواج على وجه مستحسن، وكان المعنى فيه: أن الله تعالى رغب الزوجة في العفو، لأن الزوج لم ينل منها شيئا يقوم مقام ما أوجبه على نفسه، فذكر ما يتعلق بأحد النصفين، ثم عاد وذكر النصف الآخر فقال:
(أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).
رغب الزوج في أن يثبت على ما ساقه إليها وقد ابتذلها بالطلاق، وقطع طمعها في وصلته، ولذلك قال:
(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) (٢٢٩) فإن قيل: فقد قال الله تعالى:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية.
وذلك بيان الحكم في الأزواج، ثم قال:
وقد ذكر بلفظ المغايبة عادلا عن المخاطبة، ولو كان المراد به الزوج، لقال: إلا أن تعفون أو يعفو، ليكون جاريا على نسق التلاوة، وموجب سابق الخطاب.
ويجاب عنه: بأن الله تعالى أراد أن يبين بطريق الكناية، صفة تتميز بها المرأة عن الرجل، فعدل عن المخاطبة إلى قوله: (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).
فإن قيل: لما قال تعالى: (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا)، اقتضى ذلك من حيث الظاهر، أن يكون عفوهن وعفو الذي بيده عقدة النكاح، راجعا إلى النصف المذكور، وهذا يدل على بعد حمل المطلق على الزوج.
ويجاب عنه: بأن قوله: (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ)، تعرض لأحد النصفين، فلا يبعد أن يتعرض للنصف الآخر، ليكون حكم العفو في جميع الصداق مذكورا.
فإن قيل قوله (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يرجع إلى حق وجب لها عليه، فيصح منها العفو عن ذلك بأن تتركه عليه، فأما إذا سقط النصف الآخر، فلم يجب له عليها حق حتى يعفو عنه.
نعم له أن يهب لها شيئا من ماله، وذلك الذي يهبه ليس صداقا ولا من جملته، فلا يتحقق معنى العفو فيه، وإنما هو على معنى الهبة، والعفو إنما يتحقق في شيء مستحق لها عليه.
فيجاب عنه: بأنه يتحقق معنى العفو، بأن يكون قد سلم الصداق
وقد بينا أن الصداق تارة يكون عينا، وتارة يكون دينا، ولا يتحقق معنى العفو فيه، إلا أن يجعل العفو كناية عن الهبة بضرب من المجاز.
وأقوى كلام لمن يحمل على الولي، أن العفو منهما يجب أن يرجع إلى النصف المذكور، لا إلى النصف الذي لم يجر له ذكر، وقد ذكرنا الكلام عليه.
والذي وجه عليهم من قوله تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢٣٧)، وأن ذلك إنما يتحقق في الذي يسقط حق نفسه لا حق غيره، فهو أقوى كلام عليهم، في أن المراد به الزوج.
ولكن ربما يقولون: عنى به الذي بيده عقدة النكاح والنساء، ولأن الذي بيده عقدة النكاح أفرد ذكره، ولو كان هو المعنى لقال: «وأن تعفوا أنتم أقرب للتقوى».
ولو عنى به جميع النساء لقال: وأن تعفون، فلما قال: (وَأَنْ تَعْفُوا) جمع بينهما. وإذا جمع النساء مع الرجال، كان جمعهم على التذكير.
وهذا غلط عظيم، فإنه إذا ذكر الجميع وغلب لفظ التذكير لأجل إرادة الولي، لزم منه أن يكون العفو أقرب للتقوى في حق الولي، كما كان أقرب للتقوى في حق الزوج والمرأة، وذلك محال.
قوله تعالى: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٢٣٧) :
يدل على تأكيد الأمر في الصلاة الوسطى.
فأما الوسطى، فلا تبين إلا إذا بانت الأولى والأخرى.
وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: هي الظهر، لأنه عليه السلام، كان يصلي في الهجير، فلا يكون وراءه إلا القليل، وذلك أن الناس في قائلتهم وفي تجارتهم، فلما كانت أثقل الصلوات على الصحابة أنزل الله ذلك.
وقال زيد بن ثابت: إنما سماها الله الوسطى، لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.
ولا شك أن ما من صلاة من الصلوات الخمس بعينها، إلا وقبلها صلاتان وبعدها صلاتان.
وقال عمر وابن عباس: هي العصر، وفي بعض مصاحف الصحابة:
تعبير العصر «١» : إما تفسيرا، وإما قراءة منسوخة.
وفي بعض الأخبار عن علي رضي الله عنه أنه قال: قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن صلاة العصر حتى قربت الشمس أن تغيب، فقال النبي عليه السلام:
«اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا».
وقال علي رضي الله عنه: «كنا نرى أنها صلاة الفجر».
وعن ابن عباس عن النبي عليه السلام مثل ذلك.
وقيل: إن أول الصلوات كان وجوب الفجر، وآخرها العشاء، فكانت العصر هي الوسطى في الوجوب.
ومن قال الوسطى هي الظهر، قال: لأنها وسطى صلاة النهار من الفجر والعصر.
ومن قال الصبح، فقد قال ابن عباس: لأنها تصلي في سواد من الليل، وبياض من النهار، فجعلها وسطى في الوقت.
والرواية عن ابن عباس في ذلك صحيحة، لم يختلف الثقاة فيها، فلذلك اختار الشافعي أن الوسطى هي صلاة الصبح، وإفرادها مبين، في قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ) - إلى قوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) «١».
واعلم أن الوسطى إنما تقدر في العدد الوتر، فإنك إذا أخذت واحدة بقيت أربعة: اثنتان قبلها واثنتان بعدها، وذلك يقتضي إخراج الوتر من الواجبات، لأنها تكون ستا مع الوتر، فلا تكون الواحدة منها وسطى في الإيجاب، إلا أن يقال إنها الظهر، لأنها بين صلاتي نهار، الفجر والعصر، فيقدر العدد الوتر لصلوات النهار، وذلك ضعيف جدا.
فإن قوله: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) انصرف إلى الصلوات الخمس المعهودة بجملتها، فتبعيضها خلاف المفروض قطعا.
وقد قيل إنها وسطى الصلوات المكتوبات، وليس الوتر من المكتوبات
وأقرب ما قيل في دفع ذلك: أن وجوب الوتر زيادة وردت بعد فرض المكتوبات، لقوله صلّى الله عليه وسلم:
«إن الله زادكم صلاة وهي الوتر».
وإنما سميت وسطى بعد الوتر، وهذا لأنه «١» ادعاء نسخ للذي ورد في القرآن من معنى الوسطى، بالاحتمال المجرد، وذلك لا وجه له.
قوله: (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) «٢».
اعلم أن القنوت في أصل اللغة هو الدوام على الشيء، قال ابن عباس:
قوموا لله قانتين: أي مطيعين.
وقال ابن عمر: القنوت هو طول القيام، وقرأ (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) «٣» وقال صلّى الله عليه وسلم:
«أفضل الصلاة طول القنوت» «٤» يعني القيام.
وقال مجاهد: القنوت هو السكوت، والقنوت الطاعة، ومن حيث
(٢) يقول الراغب: «قنت: القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، ويقول صاحب محاسن التأويل: «قانتين» خاشعين ساكتين».
(٣) سورة الزمر آية ٩.
(٤) أي أفضل الصلاة صلاة فيها طول القنوت، أو أفضل أحوال الصلاة طول القيام، لأنه محل القراءة المفروضة.
وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة، أو أطال الخنوع والسكوت، كل هؤلاء فاعلون للقنوت..
وروي أن النبي عليه السلام قنت شهرا، يدعو فيه على حي من أحياء العرب- أراد به إطالة قيام الدعاء.
وروي عن أبي عمرو الشيباني قال:
«كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى:
(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت».
فأبان أن ذلك يقتضي النهي عن الكلام في الصلاة، وكذلك قال زيد ابن أرقم.
وقد ورد القنوت في القرآن لا بمعنى السكوت في قوله:
(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) «١» والمراد به الخشوع والطاعة.
وقال في موضع آخر: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) «٢».
وقال في قصة مريم: (اقْنُتِي لِرَبِّكِ) «٣».
ورد في التفسير عن مجاهد، أنها كانت تقوم حتى تتورم قدماها.
والشافعي يرى أن الأمر بالسكوت إنما يتناول العالم بالصلاة، فأما الساهي عن الشيء، فلا يتناوله الأمر، وهذا مما لا يشك فيه محصل.
(٢) سورة الأحزاب آية ٣٣.
(٣) سورة آل عمران آية ٤٣.
وتحريم الكلام في الصلاة كان بمكة، لأن ابن مسعود لما قدم من أرض الحبشة، كان الكلام محرما، لأنه سلم على النبي عليه السلام فلم يرد عليه، وأخبره بنسخ الكلام في الصلاة.
فإن قال قائل: قد جرى الكلام في الصلاة والسهو أيضا، وقد كان قال صلّى الله عليه وسلم:
«التسبيح للرجال والتصفيق للنساء» فلم لم يسبحوا؟
فيقال: لعله في ذلك الوقت لم يكن أمرهم بذلك، ولأنه ورد في الخبر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، صلى ركعتين، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يديه عليها، إحداهما على الأخرى، يعرف الغضب في وجهه، وخرج سرعان الناس فقالوا:
أقصرت الصلاة؟
فقام رجل طويل اليدين- كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسميه ذا اليدين- فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟
فأقبل على القوم فقال: أصدق ذو اليدين؟.. فقالوا: نعم. فجاء فصلى بنا الركعتين الباقيتين وسلم وسجد سجدتي السهو» «١».
فأخبر أبو هريرة بما كان منه ومنهم من الكلام، ولم يمنعه ذلك من البناء، ولم يسبحوا، لأنهم توهموا أن الصلاة قصرت.
وهذا بعيد، فإنه لا يجوز أن يقول «صلى بنا»، وهو إذ ذاك كافرا ليس أهلا للصلاة، ويكون ذلك كذبا، وفي حديث البراء هو كان في جملة القوم، وسمع من رسول الله ما سمع.
قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا «٢» أَوْ رُكْباناً) «٣» (٢٣٩) :
لما ذكر الله تعالى وجوب الصلاة بشروطها وحدودها، وأمر بالقنوت والصمت وملازمة الخشوع وترك العمل، قال:
(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً)، أرخص في جواز ترك بعض الشروط، تعظيما لأمرها، وتأكيدا لوجوبها.
وقد روي عن ابن عمر في صلاة الخوف أنه قال:
إن كان خوفا أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.
(٢) أي: فصلوا راجلين، أي ماشين على الأقدام، يقال: رجل كفرح، فهو راجل، ورجل بضم الجيم ورجل بكسرها، ورجل بفتحها، ورجيل ورجلان إذا لم يكن له ظهر في سفر يركبه فمشى على قدميه، والجمع رجال ورجاله ورجال كرمان. [.....]
(٣) أي: راكبين، فيعفى عن كثرة الأفعال وإتمام الركوع والسجود واستقبال القبلة، وهذا من رخص الله تعالى التي رخص لعباده، ووضعه الآصار والأغلال عنهم، كما قال صاحب محاسن التأويل.
وإذا ثبت جواز ترك الشروط، ففيه دليل على أن الصلاة لا تفسد، خلافا لأبي حنيفة.
وفي الآية أيضا دليل على أن الماشي يصلي في القتال على حسب حاله، لأنه تعالى قال: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً).
ومالك يقول: الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطل الصلاة، والأمر بالقنوت لا فرق فيه بين كلام وكلام..
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الآية (٢٤٣) :
قد قيل إنهم فروا من الطاعون «٢».
وقيل إنهم فروا من القتال.
وقد كره قوم الفرار من الطاعون والوباء والأراضي السقيمة.
وقصة عمر في خروجه إلى الشام مع أبي عبيدة معروفة، وفيها أنه رجع، وروى عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم أن الطاعون في أرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه». فحمد عمر الله تعالى وانصرف.
وبالجملة، الفرار منه يجوز أن يكره، لما فيه من تخلية البلاد، ولا
(٢) والطاعون: الوباء، وقيل المرض العام الذي يفسد له الهواء وتفسد به الأمزجة والأبدان، وقال النووي: هو بثر وورم مؤلم جدا يخرج مع لهب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة حمرة شديدة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان وقيء (فتح الباري).
وإذا كان الوباء بأرض فلا يدخلها، لئلا يلحقه الغموم والكرب في المقام، مع الوجل الذي لا يخلو منه الإنسان، وذلك يشغله عن مهمات دينه ودنياه.
ولما عزم عمر على الرجوع فقال له أبو عبيدة:
أفرارا من قدر الله؟.. فقال له عمر:
لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان، إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيتها الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيتها الجدبة رعيتها بقدر الله؟..
ولا نعلم خلافا، في أن الكفار أو قطاع الطريق، إذا قصدوا بلدة ضعيفة لا طاقة لأهلها بالقاصدين، فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص...
قوله تعالى: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٤٤) :
من قبيل ما تأخر بيانه إلى وقت الحاجة، لأن السبيل مجمل، وقد بينه في مواضع عدة..
ترغيب في أعمال البر والإنفاق في سبيل الخير، بألطف كلام وأبلغه.
وسماه قرضا تأكيدا لاستحقاق الثواب به، إذ لا يكون قرضا إلا والعوض مستحق به، فكأنه قال: أوجبت لكم عبادي العوض.
فجهلت اليهود أو تجاهلت «٢» وقالت:
«إن الله يستقرض منا فنحن إذا أغنياء وهو فقير إلينا).
وعرف المسلمون معنى الكلام، ووثقوا بوعد الله وثوابه، فبادروا إلى الصدقات، فكان ذلك في التلطف والترغيب، بمثابة الرأفة والرحمة، وإن كانت الرحمة منا تدل على رقة وتحزن وتأثر يلحقه.
وكذلك القول في الغضب المضاف إلى الله تعالى.
والعجب من الجهال كيف لم يفهموا هذه الكنايات.
قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) الآية (٢٤٧) :
يدل على أن الزعامة والإمامة ليست وراثة متعلقة بأهل بيت النبوة ولا الملك، وأن ذلك مستحق بالعلم والقوة لا بالنسب، ولا حظ للنسب مع العلم وفضائل النفس، وأنها مقدمة عليه.
(٢) أي لما نزلت هذه الآية.
قوله: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ «١» غُرْفَةً بِيَدِهِ) (٢٤٩).
وذكر أبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة في أحكام القرآن: أن ذلك يدل على أن الشرب من النهر، إنما يكون بالكرع فيه، ووضع الشفة عليه، لأنه كان حظر الشرب منه إلا لمن اغترف غرفة بيده، وهذا يدل على أن الاغتراف منه ليس بشرب، وهو تصحيح لقول أبي حنيفة فيمن قال:
«إن شربت من ماء الفرات فعبدي حر»، أنه محمول على أن يكرع فيه، فأما إذا اغترف منه أو شرب بإناء لم يحنث».
وهذا بعيد، فإن الله تعالى أراد ابتلاءهم بالنهر، ليتبين المحقق بنيته في الجهاد من المعذر، فمن شرب منه- أي من مائة- فأكثر، فقد عصى الله تعالى، ومن اغترف غرفة بيده أقنعته.
فهجموا على النهر بعد عطش شديد، فوقع أكثرهم في النهر، وأكثروا الشرب، فإن بذلك ضعف نيتهم في أنهم يجبنون عن لقاء العدو،
وليس حكم اليمين مأخوذا من هذا الجنس، بل هو مأخوذ من دلالة اللفظ، يدل عليه أن الآية حجة عليهم من وجه آخر، فإنه قال: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)، فاستثنى المغترف من الشارب، ولو لم يكن اللفظ الأول دالا عليه، لما صح الاستثناء منه إلا بتقدير، كونه استثناء منقطعا، وظاهر الاستثناء يدل على خلافه.
قوله تعالى: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (٢٥٦) :
قال كثير من المفسرين: هو منسوخ بآية القتال «١».
وروي عن الحسن وقتادة، أنها خاصة في أهل الكتاب الذين يقرون على الجزية، دون مشركي العرب، فإنهم لا يقرون على الجزية، ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف «٢».
وكل ذلك محتمل، يجوز أن يكون قد نزل قبل الأمر بالقتال، فلما لاح عنادهم، أمر المسلمون بقتالهم..
نعم، مشركو العرب والعجم، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وكذلك المرتد..
فإن قال قائل: فما معنى إكراههم على الإسلام، وأن لا يقبل منهم
(٢) ذكره الجصاص ج ٢ ص ١٦٨.
والجواب: أن الكفار أكرهوا على إظهار الإسلام، لا على الاعتقاد الذي لا يصح الإكراه عليه.
نعم، الدليل منصوب على تبديل الباطل بالحق، اعتقادا بالقلب وإظهارا باللسان.
لأن تلك الدلائل من حيث ألزمتهم اعتقاد الإسلام، اقتضت منهم إظهاره، والقتال لإظهار الإسلام، وكانت الحكمة في ذلك «١» أن مجالسته المسلمين، وسماعه للقرآن، ومشاهدته لدلائل الرسول عليه السلام، مع ترادفها عليه تدعوه إلى الإسلام، وتوضح عنده فساد اعتقاده.
والحكمة الثانية، أن في نسلهم من يعتقد التوحيد، فلم يجز أن يقتلوا، مع العلم بأنه سيكون من أولادهم من يعتقد الإسلام والإيمان.
ولما أعلم الله تعالى نوحا، أن قومه لا يلدون إلا فاجرا كفارا، لا جرم دعا عليهم بالهلاك والاستئصال.
ويجوز أن يكون اختلاف أحوال أهل الشرك، وأهل الكتاب في ذلك، أن الكتابي إذا خالطنا، ورأى توافق ما بين الشرائع، وصدق الإعلام والآيات، كان ذلك أدعى إلى إيمانه، فإن كتب الله يصدق
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ «١» إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ «٢» أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) (٢٥٨) :
يدل على تسمية الكافر ملكا، إذا آتاه الله الملك والعز والرفعة في الدنيا.
ويدل على جواز المحاجة في الدين، وأن لا فرق بين الحق والباطل، إلا بظهور حجة الحق ودحض الباطل.
قوله: (كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) (٢٥٩) :
يدل على أن قول هذا القائل، لم يكن كذبا، لأنه أخبر عما عنده، فكأنه قال: عندي أني لبثت يوما أو بعض يوم.
ومثله قول أصحاب الكهف: (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) «٣»، وإنما لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين، ولم يكونوا كاذبين، لأنهم أخبروا بما
(٢) أي كيف أخرجه الطاغوت من نور نسبة الأحياء والإماتة الى ربه، الى ظلمات نسبتهما الى نفسه، قاله القاسمي.
(٣) سورة الكهف آية ١٩.
ونظيره قول النبي عليه السلام في قصة ذي اليدين: لم أقصر ولم أنس.
وفي الناس من يقول: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب منه، ولكن لا نؤاخذه به، وإلا فالكذب هو الإخبار عن الشيء، على خلاف ما هو به، وذلك لا يختلف بالعلم والجهل، وهذا بين في نظر الأصول، فعلى هذا يجوز أن يقال:
إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، إذا لم يكن عن قصد، كما لا يعصمون عن السهو والنسيان، فهذا ما يتعلق بهذه الآية..
قوله تعالى: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) (٢٦٧) :
يعم الفرض والنفل، من طريق الندب والوجوب، وإن كان الأمر أظهر في جهة الوجوب، إلا أن تقوم دلالة الندب.
فمن هذا الوجه يظهر أن يقال: هو أولى بالواجب.
ومن جهة أخرى، وهو أن في النفل أداء القليل والكثير والجيد والرديء.
وقوله: (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ)، يؤكد الاختصاص بالواجب، فإن هذا الكلام، إنما يذكر في الديون إذا اقتضاها طالبها، ولا يتسامح بالرديء عن الجيد، إلا على إغماض وتساهل «١».
وقد احتج قوم لأبي حنيفة بقوله: (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) (٢٦٧) أن ذلك عموم في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره، وفي سائر الأصناف، ورأوا ظاهر الأمر للوجوب، وهذا بعيد.
فإن المراد به، بيان الجهات التي تعلق حق الله تعالى بها، وليس ذكر مقدار ما وجب فيه الحق مقصودا، ولا بيان مالا زكاة فيه، ولذلك لم يتعرض للنصاب في كل ما يعتبر فيه النصاب شرعا، ولم يذكر من جنس ما يكتسب ما تتعلق الزكاة به، وإن لم تتعلق الزكاة بكل ما يكتسب، وهذا بين في خروج الآية عن الدلالة على مقصودهم.
قوله: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢٧١) :
فيه دلالة على أن إخفاء الصدقات مطلقا أولى. وأنها حق الفقير، وأنه يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه، على ما هو أحد قولي الشافعي.
وعلى القول الآخر، ذكروا أن المراد بالصدقات ها هنا، هو التطوع بعد الفرض الذي إظهاره أولى، لئلا تلحقه تهمة، ولأجل ذلك قيل: صلاة النفل فرادى أفضل، والجماعة في الفرض أولى، لأن إظهار الفرض أبعد عن التهمة.
قال الله تعالى:
(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢٧٢)
وذكر بعد قوله (مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) (٢٧٢)، فدل المساق والمتقدم، على أن المراد به الصدقة عليهم، وإن لم يكونوا على دين الإسلام.
وروى سعيد بن جبير مرسلا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم.
وقال عليه السلام: تصدقوا على أهل الأديان.
وكره الناس أن يتصدقوا على المشركين، فأنزل الله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ).
ونظير ذلك قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً، وَيَتِيماً وَأَسِيراً) «١».
والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا.
ونظيره قوله: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) «٢».
وظواهر هذه الآيات تقتضي جواز صرف الصدقات إليهم جملة، إلا أن النبي عليه السلام، خص من ذلك الزكوات المفروضة.
واتفق العلماء أن زكوات الأموال، لا تصرف إليهم، لقوله ﷺ لمعاذ:
(٢) سورة الممتحنة، آية ٨.
ورأى أبو حنيفة، أن غير زكاة المال يجوز صرفها إليهم، مثل صدقة الفطر، نظرا إلى عموم الآية، في البر وإطعام الطعام وإطلاق الصدقات.
ورأى الشافعي أن الصدقات الواجبة بجملتها مخصوصة منها، لقوله عليه السلام في صدقة الفطر:
«اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم».
وظاهر أن ذلك كان لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد، وهذا لا يتحقق في المشركين.
ودل أيضا، وجوب اعتاق العبد المسلم في كفارة القتل، على أن المفروض من الصدقات لا يصرف إلى الكافر.
ومعاذ كما يأخذ صدقات الأموال، فكان يأخذ صدقة الفطر أيضا.
واللفظ شامل للجميع، وهو قوله عليه السلام له: «خذ الصدقة من أغنيائهم وردها في فقرائهم» «١».
على أن قول الله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ)، ليس ظاهرا في الصدقات وصرفها إلى الكفار، بل يحتمل أن يكون معناه: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) ابتداء، وقوله (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) «٢»، للفقراء.
(٢) سورة الأنفال آية ٦٠.
وقوله تعالى: (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) (٢٧٣) يدل على أن اسم الفقير يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة، ولا يمنع ذلك من إعطائه الزكاة.
وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، غير مرضى ولا عميان.
ولما قال تعالى: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) «١»، دل على أن للسيما أثرا في اعتبار حال من تظهر عليه، حتى لو رأينا ميتا في دار الإسلام ميتا وعليه زنار غير مجبوب «٢»، لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار على قول أكثر العلماء.
ومثله قوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) «٣»، فدلت الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثياب وكسوة وزي المتجمل «٤»، واتفق العلماء على ذلك، وإن اختلفوا بعده في مقدار ما يحرم أخذ الصدقة.
وأبو حنيفة اعتبر مقدار ما تجب فيه الزكاة.
(٢) الزنار: لباس النصارى والمجبوب: يقال جببته جبا من باب قتل قطعته، ومنه جببته فهو محبوب بين الجباب بالكسر إذا استؤصلت مذاكيره، وجب القوم نخلهم لقحوها وهو زمن الجباب بالفتح والكسر، والجبة من الملابس معروفة والجمع جبب مثل غرفة وغرف والجب بئر لم تطو وهو مذكر، أهـ أنظر المصباح المنير.
(٣) سورة محمد آية ٣٠.
(٤) إذا عرفهم بسيماهم أي ما يظهر في وجوههم من كسوف البال وسوء الحال وان كانت هيأتهم حسنة. وثيابهم جميلة.
ومالك اعتبر ملك أربعين درهما.
والشافعي لا يصرف الزكاة إلى المكتسب.
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا «١» لا يَقُومُونَ «٢» إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ «٣» الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) «٤» (٢٧٥) والربا في اللغة هو الزيادة.
وربما لا تعرف العرب بيع الدرهم بالدرهم نساء «٥» ربا، إلا أن الشرع أثبت زيادات جائزة، وحرم أنواعا من الزيادة، فجوز الزيادة من جهة الجودة، ولم يجوز من جهة المدة.
وإذا اختلف الجنس، يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا نقدا، ولا يجوز متماثلا نسيئة.
وكل ذلك لا يقتضيه لفظ الربا، ولكن ذلك لا يمنع التعلق بعموم
وفي الشرع: زيادة يأخذها المقرض من المستقرض مقابل الأجل، أو هو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال.
(٢) لا يقومون: أي من المس الذي بهم الا كما يقوم المصروع من جنونه.
(٣) يتخبطه: التخبط معناه الضرب على غير استواء كخبط البعير الأرض بيده، ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه أنه يخبط خبط عشواء، وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون، وتسمى أصابة الشيطان خبطة، أنظر مفردات الراغب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح.
(٤) المس: الجنون، يقال مس الرجل فهو ممسوس وبه مس، وأصله- كما ذكر الصابوني- من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان فيحصل له الجنون».
(٥) النساء: التأخير.
وقوله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ).
يقتضي جواز ما لا زيادة فيه، إلا ما خصه دليل الشرع، فنحن نحتاج إلى البيان فيما لم يرد باللفظ، وما دل عليه اللفظ محرم مع غيره، فلا بد من بيان في الذي ما أريد باللفظ، وفي تخصيص بعض ما أريد باللفظ.
والله تعالى حرم الربا، فمن الربا ما كانوا يعتادونه في الجاهلية من إقراض الدنانير والدراهم بزيادة.
والنوع الآخر تحريم الإسلام الدراهم في الدراهم والدنانير من غير زيادة.
ورأى ابن عباس، أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب الله ربا النساء، لا ربا الفضل فإنه قال: (فَلَهُ ما سَلَفَ).
(وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (٢٧٨).
وقال: (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (٢٨٠).
وقال تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (٢٧٩).
وقال عليه السلام في خطبة الوداع: «كل ربا موضوع، ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أن لا ربا، وإن العباس بن عبد المطلب موضوع، وإن كل دم كان في الجاهلية فإنه موضوع، وأول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في
وإن كان الربا ينقسم أقساما، فالذي في القرآن يدل على تحريم الزيادة، من غير نظر في جنس المال وما يقابله، ولا دلالة فيه على تحريم النساء من غير زيادة في نفس المال، لأن ذلك لا يعد زيادة في النسيء، ولا يقال: أكل الربا، ومن أجل ذلك جوز بعض العلماء- وهو مالك- الأجل في القرض، إلا أنا منعنا من ذلك، لا من جهة الآية، بل من جهة أخرى.
والذي كان في الجاهلية كان القرض بزيادة، وما كانوا يؤجلون إلا بزيادة في نفس النسيء.
ونقل عن الشافعي، أن لفظ الربا لما كان غير معلوم، أورث احتمالا في البيع، والصحيح أن الربا غير مجمل، ولا البيع كما ذكرناه، فإن ما لا زيادة فيه، جاز على عموم حكم البيع.
نعم خص من الربا زيادة أبيحت، وخص من البيع بياعات نهى عنها، وعموم اللفظ معتبر فيما سوى المخصوص.
ورد الله تعالى على المشركين في قولهم: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) (٢٧٥)، وذلك أنهم زعموا أنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا، وبين الأرباح المكتسبة بضروب البياعات، من حيث غاب عنهم وجه المصلحة، وتحريم الزيادة على وجه دون وجه، فأبان الله تعالى أنه عز وجل إذا حرم الربا وأحل البيع، فلا بد أن يشتمل المنهي عنه على مفسدة، والمباح على مصلحة، وإن غابتا عن
وأما قوله تعالى: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) (٢٧٥) :
يدل على أن ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا، لا يتعقب بالفسخ، ويدل على أنه أراد غير المقبوض.
قوله تعالى: (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (٢٧٨).
ظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا، وإن كان معقودا عليه قبل نزول آية التحريم، ولا يتعقب بالفسخ ما كان مقبوضا.
وقال تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) (٢٧٩).
وهو تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه، فإذن رأس المال الذي لا ربا فيه، فاستدل بعض العلماء على ذلك، على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد أبطل العقد، كما إذا اشترى مسلم صيدا، ثم أحرم المشتري قبل القبض، أو البائع، بطل البيع، لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد، كما أبطل الله تعالى من الربا ما لم يقبض، لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض، ولو كان مقبوضا لم يؤثر، هذا مذهب أبي حنيفة، وهو قول لأصحاب الشافعي.
ويستدل به على أن هلاك المبيع «٢» في يد البائع، وسقوط القبض فيه، يوجب بطلان العقد خلافا لبعض السلف.
(٢) أي قبل القبض كما في القرطبي.
ويمكن أن يقال إن هذا الاستدلال، إنما يصح على رأي من يقول إن العقد في الربا في الأصل كان منعقدا، حتى يقال: إن الذي انعقد من قبل بطل بالإسلام «١» قبل القبض، فإذا منع انعقاد الربا في الأصل، لم يكن هذا الكلام صحيحا.
وهذا لأن الربا كان محرما في الأديان، وما كان تحريمه في شرعنا حتى يقال كان مباحا من قبل.
وإنما حرم بعد العقد، ليصح الاستدلال بطريان المنافي من التحريم على فساد العقد قبل القبض، وانبرامه بعض القبض.
فأما إذا قلنا إن العقد لم ينعقد من الأصل، والذي فعلوه في الشرك كان على عادة الجاهلية، لا بناء على شريعة، فلا يستقيم هذا الكلام، بل يقال: ما قبضوه منه، كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالنهب والسلب، فلا يتعرض له، فعلى هذا لا يصح الاستشهاد به على ما ذكروه من المسائل.
واشتمال شرائع من قبلنا من الأنبياء على تحريم الربا، كان مشهورا ومذكورا في كتاب الله، كما أخبر عن اليهود في قوله:
(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) «٢».
وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا:
(أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) «٣» ؟
(٢) في اصل وأكلهم وهو خطأ، سورة النساء آية ١٦١.
(٣) في الأصل: أتنهانا أن نفعل، وهو خطأ، سورة هود آية ٨٧.
نعم، يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب، إذا ظهر عليها الإمام، لا يعترض عليها بالفسخ، وإن كانت معقودة على فساد.
وبالجملة، فإنه تخللت مدة طويلة بين نزول الآية وبين خطبة النبي عليه السلام بمكة، ووضعه الربا الذي لم يكن مقبوضا من عقود الربا بمكة، قبل أن تفتح، ولم يميز بين ما كان منها قبل نزول الآية وما كان بعدها.
ويمكن أن يستدل به على أن الأنكحة التي جرت في الشرك، لا تتعقب بالنقض بعد انبرامها كما في البيع بعد الانبرام.
قوله تعالى: (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (٢٨٠) عام في الربا وغيره من الديون.
إلا أن الربا يكون في رأس المال، لأن الله تعالى جعل لهم رأس المال، فقال:
(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) | وفي غير الربا حكمه بين. |
فإن كان معتقدا لوجوب الزيادة على رأس المال في الربا، وأنه يجب فيه الإنظار بعد التوبة، فهذا خلاف الإجماع، وإن كان يقول في رأس المال يجب الإنظار فإنه واجب، وفي غيره من الديون الواجبة لا يجب الإنظار فهو غلط، فإنه لا فرق بينه وبين غيره من الديون، بحال، بعد أن جعل الله تعالى له رأس المال بعد التوبة.
وقوله: (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) مع قوله (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين، وجواز أخذ ماله بغير رضاه.
ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان، كان ظالما، فإن الله تعالى يقول: (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ)، فجعل له المطالبة برأس ماله، وإذا كان له حق المطالبة، فعلى من عليه الدين لا محالة وجوب قضائه.
وقوله: (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)، يدل على أن من عليه رأس «١» المال بالامتناع من أداء رأس المال اليه ظالم، كما أنه «٢» بطلب الزيادة ظالم، وأن الممتنع من أداء رأس المال اليه ظالم مستحق للعقوبة وهي «٣» الحبس..
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (٢٨٢) :
فقد ذهب بعض علماء السلف: إلى وجوب الاشهاد فيما قل وجل، وفيما حل وأجل من الديون، واليه ذهب أبو داود وابنه أبو بكر، ورووا عن ابن عباس أنه قال لما قيل له إن الدين منسوخة فقال:
لا والله بل آية الدين محكمة ما فيها نسخ.
(٢) أي الدائن.
(٣) في الأصل: وهو.
فاختلفت الأقوال على ما ترى، فنقول وبالله التوفيق.
إن قوله تعالى: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)، لم يتبين تأخر نزولها عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالاشهاد، بل وردا معا، ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة، فدل ذلك على أن الأمر بالإشهاد ندب لا واجب، والذي يزيده وضوحا أنه قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)، ومعلوم أن هذا الأمن لا يقع إلا بحسب الظن والتوهم، لا على وجه الحقيقة، وذلك يدل على أن الشهادة إنما أمر بها لطمأنينة قلبه لا لحق الشرع، فإنها لو كانت لحق الشرع ما قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).
ولا ثقة بأمن العباد، إنما الاعتماد على ما يراه الشرع مصلحة.
فالشهادة متى شرعت في النكاح، لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم بعضا، فدل ذلك أن الشهادة شرعت للطمأنينة، ولأن الله تعالى جعل لتوثيق الديون طرقا:
منها: الكتاب.
ومنها: الرهن.
ومنها الإشهاد.
ولا خلاف بين علماء الأمصار، أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد.
وما زال الناس يتبايعون سفرا وحضرا، وبرا وبحرا، وسهلا وجبلا
ومعلوم أن الإنسان في غير البيع والشراء، قد يأتمن الرجل على ماله فلا يحرم عليه، ولو باعه شيئا وأسلفه الثمن، يجوز إذا ائتمنه على ثمنه.
فإذا ملك الإنسان الثمن بالبيع، فسواء ائتمن عليه المشترى أو اختلفا بعد استيفائه منه، فالكل واحد، وذلك يدل على أن الأمر بالإشهاد ندب.
وقد ظن بعض الناس أن قوله تعالى: (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) دليل على جواز التأجيل في القروض على ما قاله مالك، إذ لم يفصل بين القرض وسائر عقود المداينات، وهذا غلط منه، لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الأمر بالإشهاد، إذا كان دينا مؤجلا، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه.
قوله: (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ) (٢٨٢) :
ظن ظانون أنه قد كان وجب في الأول على كل من اختاره المتبايعان، أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع، حتى نسخه قوله تعالى: (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ).
وهذا بعيد، فإنه لم يثبت وجوب ذلك على كل من أراده المتبايعان كائنا من كان، وإنما كان ذلك على وجه آخر، وهو أنه من علم ذلك «١» بينه لهما، وليس عليه أن يكتبه، ولكن يبينه لهما حتى يكتباه أو يكتبه لهما أجير أو متبرع بإملاء من يعلمه، كما لو استفتيناه في صوم أو صلاة تطوعا أو فرضا، فعليه بيان الشريعة في ذلك، فهذا مثله، ولو كانت
قوله تعالى: (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ) :
(٢٨٢) :
نهى الكاتب أن يكتب على خلاف العدل الذي أمر الله به، وهذا النهي على الوجوب، إذ المراد به كتبه على خلاف ما توجبه أحكام الشرع، كما لا يصلي النفل بغير طهارة وستر، لا لوجوب النفل، ولكن لأنها إذا أديت فلا يجوز أداؤها إلا بشروطها.
قوله عز وجل: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) : عند الحكم بما أقر به على نفسه.
وقوله تعالى: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) «١».
فيه دلالة على أن من أقر لغيره بشيء، فالقول فيه قوله، لأن البخس هو النقص، فلما وعظه في ترك البخس، دل على أنه إذا بخس كان قوله مقبولا.
وهو مثل قوله: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) «٢»، لما وعظهن في الكتمان، دل على أن المرجع في ذلك إلى قولهن..
ومثله قوله: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) «٣»، فدل على أنهم متى كتموها، كان القول قولهم فيها.
(٢) سورة البقرة آية ٢٢٨.
(٣) سورة البقرة آية ٢٨٣.
وقال صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه»، فجعل القول قول المدعى عليه دون المدعي، وأوجب عليه اليمين، وهو معنى قوله: (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) في إيجاب الرجوع إلى قوله:
وقوله تعالى: (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) (٢٨٢) :
اعلم أنه تعالى ذكر السفيه في مواضع من كتابه في أمر الدين والدنيا:
فأما في أمر الدين، فمثل قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) «١».
وقال: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) «٢» الآية.
وإنما ذلك في أمر الدين.
وقال في نوع آخر: «٣» (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً) «٤».
فهذا وإن كان خطاب غير السفهاء، ولكن المراد بقوله: (أَمْوالَكُمُ أي أموالهم، ولذلك قال: (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) «٥».
(٢) سورة البقرة آية ١٣. [.....]
(٣) أي أمر الدنيا.
(٤) سورة النساء آية ٥.
(٥) سورة النساء آية ٥.
وذلك يدل دلالة ظاهرة، على أن على السفيه في أمواله ولاية، وأن أمر أمواله مفوض إلى وليه، حتى إنه يرزقه منه ويكسوه، فقال:
أموالكم، وأراد به أموالكم من حيث نفاذ التصرف، وأموالهم من حيث الملك.
ومثله قوله تعالى: (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) «١» أي ليقتل بعضكم بعضا.
وقال في موضع آخر (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) «٢» أي يسلم بعضكم على بعض.
وأصل السفه في الدين والدنيا واحد، وهو الخفة والجهل بموضع الحط «٣» والأمر الذي قصد له، فالسفيه في الدين والسفيه في رأيه هو الجاهل فيه، ومنه قول الشاعر:
نخاف أن تسفه أحلامنا | ونخمل الدهر مع الخامل |
وجمع الله تعالى بين السفيه والضعيف، والضعيف ها هنا عند المفسرين هو العاجز عن الإملاء، إما بعيّه أو خرسه أو جهله بأداء الكلام.
فليملل وليه «٤» من يقوم مقامه، وليس في ذلك تصريح بأن إقرار الولي عليه مقبول.
(٢) سورة النور آية ٦١.
(٣) أي التصرف.
(٤) لعلها: وليه أو من يقوم مقامه.
(إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ)، إلى قوله: (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً)، يدل على أن المداينة جرت معه، فإنه قال: إذا تداينتم، ثم قال: فإن لم يستطع بعض المتداينين أن يكتبوا فليكتب الولي بالعدل، وليس الضعف اسما للمحجور عليه، فإنه يتناول الخرف والأخرس والعيي «١»..
نعم قوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) يدل على ذلك، على ما سنبينه في سورة النساء.
فأما قوله سفيها أو ضعيفا بعد أن ابتدأ الآية، فقد اقتضى أن يكون الذي عليه الحق جائز المداينة والتصرف، فأجاز تصرف هؤلاء كلهم، فلما بلغ إلى حال إملاء الكتاب والإشهاد، ذكر من لا يكمل لذلك، إما لجهل بالشروط أو ضعف عقل، لا يحسن معه الإملاء.
فإن لم يوجد «٢» نقصان عقله حجر عليه، إما لصغره أو لخرف وكبر سن، لأن قوله (ضَعِيفاً) يحتمل الأمرين جميعا.
وذكر معهما من لا يستطيع أن يمل هو لمرض أو لكبر سن، فثقل لسانه عن الإملاء، وإذا كان كذلك فليس على المريض ومن ثقل لسانه
(٢) في الأصل: يوجب.
نعم يبقى أن يقال إن قوله: (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ)، يقتضي كون المداينة جارية مع السفيه والضعيف وغيرهما.
ولا شك أن السفيه لا يمنعه السفه من الإملاء إذا لم يكن موليا عليه، فإن منعه من الإملاء، فهو الضعيف الذي لا يستطيع أن يمل، فما معنى ذكر السفه ها هنا؟ فيقال: معناه أن السفيه لخفة عقله لا يستطيع الشرائط، إلا أن يشار اليه ويعرف الشرائط فيه.
وبالجملة لفظ السفيه مشترك، يشتمل على معان مختلفة، فيجوز إطلاقه على الصبي والمجنون والكافر وبذيء اللسان والمنافق، وهؤلاء لا يستحقون الحجر.
نعم لما قال الله عز وجل: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)، عرفنا أن المراد به سفه يتعلق بالمال، وسيأتي بيانه إن شاء الله.. «١»
قوله: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ)، ظن ظانون أن ذلك يتناول الأحرار والعبيد، لأن العبيد من رجالنا وأهل ديننا.
فقيل لهم: قد قال: (إِذا تَدايَنْتُمْ) وساق الخطاب إلى قوله:
(مِنْ رِجالِكُمْ)، وظاهر الخطاب تناوله للذين يتداينون، والعيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة.
ولعلهم يقولون إن خصوص أول الآية لا يمنع التعلق بعموم آخرها، وفيه من اختلاف الأصوليين ما لا يخفى.
وإنما يبين معنى كونه ناهضا به، إذا دعي إليها وأجاب ووجبت عليه الإجابة، كما قال تعالى: (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا).
ولا يتصور استقلال العبد بهذا المعنى، لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي، وتصحيح دعوى المدعى، ولأجل ذلك لم يجعل أهلا للولاية في حق أولاده، لأنها تستدعي القيام بالنظر، ولا يتأتى ذلك مع قيام الرق، فلم يثبت له المنصب.
والمرأة في معنى الاستقلال، لما كانت دون الرجل، أثر ذلك في شهادتها وولايتها جميعا، ولكن لا يسلب الأمران عنها.
ولأجل ذلك لم يكن العبد مساويا للحر في الجمعة «٢» حتى لا تنعقد به، فإنها تستدعي أسبابا لا تتهيأ للعبد.
ولأن الشهادة منصب أخذ على الشاهد فيه تخير ضروب من الوقار وحفظ الحرمة، حتى يتخير من الحرف أعلاها وأولاها، ومن الأفعال أرتبها وأحسنها، ولا تخير من العبد أصلا، فإن السيد يصرفه كيف شاء، في دنيات الأعمال وعليتها، فليس يؤهل لمنصب لا يستقل به، ولذلك لم يكن وليا ولا حاكما.
وقد جمع الله تعالى بين درجة الشاهد والحاكم فقال: (كُونُوا)
(٢) لعلها: حيث.
فجعل الحاكم شاهدا لله تعالى، ولم يجعل العبد أهلا له، لأن المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة اليه، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلا. فكذلك منصب الشهود.
وقد جعل الله تعالى للعبد المملوك نهاية المثل في عدم القدرة فقال:
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) «٢».
وكيف يكون بهذه المثابة من يقدر على تنفيذ قوله في الغير في الدماء والفروج؟ ولم يثبت له قول نافذ في حكم ما، إلا فيما لا طريق اليه إلا من جهته، كالإسلام والطلاق، فإن الحجر عليه فيه يؤذن بامتناع الطلاق رأسا، وفيه مفسدة وارعة «٣» عن النكاح، وكذا الإقرار بالدم عند بعض العلماء، فإنه لا طريق إلى الخلاص عن المظلمة إلا من هذه الجهة.
فأما الشهادة فلا تدعو الضرورة فيها إلى العبيد لقيام الحر بها دونهم، فهذا تمام هذا المعنى.
فأما الشهادة فلا تدعو الضرورة فيها إلى العبيد الحر بها دونهم، فهذا تمام هذا المعنى.
وفيه معنى آخر، وهو أن قبول قول زيد على عمرو، بعيد عن قياس
(٢) سورة النحل آية ٧٥. [.....]
(٣) حاجزة.
ولما أثر نقص لأنوثة في منصب الولاية، سلب استقلال المرأة بالشهادة، إلا أن يكون معها رجل.
فإثبات استقلال العبيد بالشهادة إيفاء «١» رتبتهم على رتبة النساء، فإن كان كذلك، فلتكن رتبتهم موفية على رتبتهن في الولاية، والأمر بالعكس من ذلك، وذلك يدل على سقوط رتبة الشهادة في حق العبيد.
نعم يقبل خبر العبيد على الانفراد وخبر النسوة كمثل، لأن طريق قبول الخبر شيء، وطريق قبول الشهادة شيء، فليس يتعلق بالخبر دعوى واستحضار لأداء الشهادة، ويتعلق ذلك بالشهادة.
فالذي يروي الخبر، يخبر عما علمه، سواء استشهد أو لم يستشهد، وليس يتعلق قبوله بحاكم ومجلس حكم، وإنما سبيله إخبار عن شيء شاهده إن كان قد شاهده.
وأما الشهادة، فسبيلها سبيل إيجاب حق على ممتنع باستحضار واستدعاء، ولا يتأتى ذلك للعبد على ما بيناه من قبل.
وقد نقل عن علي رضي الله عنه إجازة شهادة الصبيان، وذلك لم يثبت عنه، مع أن قوله (مِنْ رِجالِكُمْ) لا يتناوله.
وكيف يوثق بقول من يعلم أنه لو كذب فلا يؤاخذ بالكذب «١»، ولا تبعة عليه في الآخرة؟
ودلت الآية على أن الأعمى من أهل الشهادة فإنه من رجالنا، ولكن إذا علم يقينا، مثل ما روى ابن عباس قال:
سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: ترى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع.
وذلك يدل على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به، لا من يشهد بالاستدلال الذي يجوز أن يخطئ.
نعم يجوز له وطء امرأته إذا عرف صوتها، لأن الإقدام على الوطء جائز بغالب الظن، فلو زفت اليه امرأة وقيل هذه امرأتك، وهو لا يعرفها جاز له وطؤها.
ويحل له قبول هدية جاره بقول الرسول.
ولو أخبر مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف أو غصب، لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه، لأن سبيل الشهادة اليقين والمشاهدة، وفي غيرها يجوز استعمال غالب الظن، ولذلك قال الشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف: إذا علمه قبل العمى جازت له الشهادة بعد العمى، ويكون العمى الحائل بينه وبين المشهود عليه، كالغيبة والموت في المشهود عليه، فهذا مذهب هؤلاء.
وتصح شهادته بالنسب الذي يثبت بالخبر المستفيض، كما يخبر عما تواتر حكمه من الرسول صلّى الله عليه وسلم.
ومن العلماء من قبل شهادة الأعمى فيما طريقة الصوت، لأنه رأى أن الاستدلال بذلك يترقى إلى حد اليقين، ورأى أن اشتباه الأصوات كاشتباه الصور والألوان، وهو ضعيف يلزم منه جواز الاعتماد على الصوت للبصير.
ومقتضى عموم كتاب الله تعالى، تجويز شهادة البدوي على القروي، لأنه قد يكون عدلا مرضيا وهو من رجالنا وأهل ديننا، وكونه بدويا ككونه من أهل بلد آخر.
وفي السلف من لا يجوز ذلك، وهو رواية ابن وهب عن مالك، ومذهب أحمد.
والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول، تسوي بين القروي والبدوي، مثل قوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) «١».
(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ- إلى قوله- مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (٢٨٢).
واختلاف الأماكن أيّ أثر له؟
وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية» «٢».
(٢) رواه ابن ماجة رقم ٢٣٦٧، وأبو داود في القضاء.
وروى عكرمة عن ابن عباس، أنه شهد أعرابي عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رؤية الهلال، فأمر بلالا أن ينادي في الناس فيصوموا غدا «١».
فقبل شهادة الأعرابي وأمر الناس بالصيام.
وجائز أن يكون خبر أبي هريرة في وقت كان الشرك والنفاق والتساهل في أمر الدين غالبا على أهل البادية، كما قال تعالى:
(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ) «٢».
فإنما منع قبول شهادة من هذه صفته من الأعراب.
وقد وصف الله تعالى قوما آخرين من الأعراب فقال:
(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) «٣» الآية. فمن كانت هذه صفته فبعيد أن لا تقبل شهادته، مع قبولها على البدوي الآخر المماثل له، وقبولها على القروي في السفر.
قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) «٤» من رجالكم فإن
(٢) سورة التوبة آية ٩٨.
(٣) سورة التوبة آية ٩٩.
(٤) أي شاهدان لأن الشهيد والشاهد واحد، كما أن عليم وعالم واحد، وقادر وقدير واحد، قاله الجصاص.
اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن تكون شهادة النساء شهادة ضرورة معدولا بها عن أصل الشهادة، فإنه قال: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين.
فاقتضى الظاهر عدم القدرة على الرجلين، إلا أنه جوز على خلاف الظاهر للإجماع، وشرط كون الرجل معهن، فلم يجعل لهن رتبة الاستقلال، فدل مجموع ذلك على أن شهادة النساء شرعت في المداينات التي كثر الله تعالى أسباب «٢» توثيقها، لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكررها، فجعل التوثيق:
تارة بالكتابة.
وتارة بالإشهاد.
وتارة بالرهن.
وتارة بالضمان.
فأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال.
ولا يتوهم عاقل أن قوله: (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) يشتمل على دين المهر مع البضع، وعلى الصلح عن دم العمد، فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين، بل هي شهادة على النكاح، ولو شهد على المهر فيقبل، نعم لا يصير النكاح تبعا للمهر بحال.
نعم، ما ليس بمال إذا كان تبعا للمال، مثل الأجل المذكور في
(٢) في نسخة جهات.
فإن قال قائل: المهر في النكاح تابع للنكاح، ولا يجب إلا معه، فلم يثبت بشهادة النساء، وليس المهر من جملة المداينات المذكورة في الآية؟
قلنا: لأن المهر من حيث كان دينا، سلك به مسلك الديون كلها في أنواع التوثيق، كالرهون والضمان وغيرهما، فألحق بقياس الأموال.
فإن قال قائل: العتق تعددت جهات تحصيله، وكذلك الطلاق، وتزيد جهاتها من الكنايات والصرائح والتعليق والتنجيز على جهات تحصيل الأموال، فلم لم يجعل ذلك ملحقا بالأموال؟
فالجواب: أن الحاجة لا تتكرر إلى توثيق جهات الطلاق مسيس الحاجة إلى الوثائق في المداينات، ولذلك بالغ الشرع في إبانة جهات الوثائق فيها، وقال في الرجعة والطلاق:
(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
قوله تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ)، يدل على تفويض الأمر إلى اجتهاد الحكام، فربما تفرس في الشاهد غفلة أو ريبة، فيرد شهادته لذلك.
وفيه دليل على جواز استعمال الاجتهاد في الأحكام الشرعية.
ويدل قوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) على أنه لا مبالاة يكونه مسلما «١» فإنه قال: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ).
وليس يعلم كونه مرضيا بمجرد الإسلام، وإنما يعلم بالنظر في أحواله.
ولا يعتبر بظاهر قوله: (أنا مسلم) فربما انطوى على ما يوجب رد شهادته مثل قوله تعالى:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) إلى قوله: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) «١».
وقال: (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) «٢» الآية..
فكل ذلك دليل على ما قلناه.
وظاهر قوله: (مِنَ الشُّهَداءِ) يقتضي قبول شهادة الأب لابنه والولد لأبيه، لأن الشاهد مرضي ولو لم يكن مرضيا، وتطرقت التهمة إلى حاله باستيلاء الهوى عليه لامتنعت شهادته مطلقا، ولأمكن أن يقال:
إن الذي يشهد لولده كاذبا، يشهد للأجنبي لعرض يتعجله من مال أو جاه أو غيره، فيشهد التابع لمتبوعه، والمرؤوس لرئيسه، إلى غير ذلك.
غير أنه لا ينظر إلى شيء من ذلك، خاصة إذا شهد لأحد ولديه على الآخر.
(٢) سورة المنافقون آية ٤. [.....]
ولعل السبب فيه أن الذي بينه وبين الابن من الاتحاد في الذات، حتى يقال هو بعضه، يقتضي جعل شهادته له في معنى شهادته لنفسه، فإذا كانت فيه شبهة الشهادة لنفسه، كان مدعيا من تلك الجهة، والبينة على المدعي، ولا تسمع شهادته لنفسه فيما هو مدع فيه.
ولا شك أن هذا في غاية الجلاء مع المصير إلى تمييز أملاكهما التي هي محل الشهادة.
ويجب على الابن الحد بوطء جارية أبيه، ولا يجعل الاتحاد بينهما شبهة في الحد، فكذلك لا يجعل شبهة في شهادته وإلحاقها بالدعوى..
نعم ظن أبو حنيفة أن شهادة الزوج لزوجته لا تقبل، لتواصل منافع الأملاك بينهما، وهي محل الشهادة، والذي يخالفه يقول:
ولكن ذلك التواصل يعرض للزوال، فليس كتواصل الولادة، فإذا ظهر التفاوت من وجه.
والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص، فما عدا المخصوص يبقى على الأصل.
وزاد أبو حنيفة على هذا وقال:
كل شهادة ردت للتهمة فإنها لا تقبل أبدا، مثل شهادة الفاسق، إذا ردت لفسقه ثم تاب وأصلح، ومثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت، ثم شهد بها بعد زوال الزوجية.
لا تقبل شهادة الأجير للمستأجر، وقبل شهادة من له الدين لمن عليه الدين، فلم ير الزوجية لعينها مانعة قبول الشهادة حتى إذا زالت قبلت، وقال: لو شهد العبد فردت شهادته ثم عتق فأعاد قبلت، وكذا الصبي، لأن زوال الرق معلوم حقيقة، وزوال التهمة غير معلوم حقيقة، وزوال الزوجية معلوم حقيقة، غير أن الرد لم يكن لها وإنما كان للتهمة، ولا يعلم زوالها حقيقة، فجعلوا التهمة مانعة.
ولا شك أن التهمة في الشهادات كلها خاصة، هي تهمة المعصية، وتهمة المعصية شبهة في الحدود، فهلا ردت شهادته في الحدود مثلا.
فعلم أن سبب رد الشهادة للولد ليس هو تهمة الكذب، ولكن ما بينهما من الاتحاد، مع خروج شهادته عن كونها شهادة لنفسه، حتى لا يكون من وجه مدعيا، وهذا المعنى بعيد عن التهمة، فلم يقتض رد شهادة أخرى، أو بحال ذلك على الإجماع ولا يقيد بخلاف البتى ولا يصح النقم فيه، فهذا تمام البيان في ذلك.
والحوالة على التعبد أولى لضعف المعنى، لولا أن الشافعي رد شهادة العدو على العدو مع العدالة، وقبل شهادته في حادثة أخرى، وإن كانت تسفط بالتهمة.
ويمكن أن يقال: إن رد شهادة العدو على تعبد ثبت بخبر ورد فيه، فإن المعنى كيفما قدر ضعيف جدا.
وحاصل القول أن العدالة، وقلة الغفلة، هي من شرائط الشهادات وقد انتظمها قوله تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) - مع قلة حروفه وبلاغة لفظه ووجازته واختصاره وظهور فوائده، وجميع ما
قوله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).
يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يشهد على الآخر، وإن رأى الخط، إلا أن يكون ذاكرا لما يشهد به.
ثم قال: (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا)، فدل ذلك على أن الكتاب إنما أمر به ليتذكر به كيفية الشهادة، وأنها لا تقام إلا بعد حفظها وإتقانها.
وفيه الدلالة على أن الشاهد إذا قال لا أذكر، ثم تذكر، يجوز له إقامة الشهادة «١».
ثم إن الله تعالى إنما ذكر في المداينات الحجج التي تستقل بإثبات المداينات، ولم يتعرض لما سواها، وقد ظن ظانون من أصحاب أبي حنيفة، أن إسقاط العدد المذكور في القرآن لا يجوز، وأن الذي جعله الشرع سببا لا يجوز تغييره والنقصان منه، ولا يحط منه وصف الرضا وهو العدالة، ولا الوصف الآخر وهو العدد، ثم قال:
(ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا).
والذي يقبل الشاهد واليمين يقول:
معنى قوله تعالى: (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) في الشهادة وحدها، لا فيها وفي غيرها، والشاهد واليمين جنسان مختلفان لا تعرض لهما في القرآن.
ويقول أصحاب الشافعي في قول: إن الحكم باليمين، غير أن الشاهد يقوى جانبه، ويصير هو بمثابة المدعى عليه الذي ظهر جانبه باليد، فعلى هذا لا يستقيم التعلق بالقرآن في تحقيق غرضهم..
قوله تعالى: (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا).
روي عن جماعة من المفسرين «١» أن المراد به: إذا دعوا لإقامتها.
وعن قتادة: إذا دعوا إلى إثبات الشهادة في الكتاب، فأما عند الإثبات فلا يجب على الشهود الحضور عند المتعاقدين، وإنما على المتداينين أن يحضرا عند الشهود، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهادتهم في الكتاب، فهذه الحال هي التي يجوز أن تراد بقوله: (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لإثبات الشهادة، فأما إن ثبتت بشهادتهم، ثم دعوا لإقامتها عند الحاكم، فهذا الدعاء هو لحضورهما عند الحاكم، ولا يحضر الحاكم
فالدعاء الأول إنما هو لإثبات الشهادة في الكتاب، والدعاء الثاني لحضورهم عند الحاكم وإقامة الشهادة عنده.
واللفظ يحتمل الأمرين جميعا، ولا معنى لاختلاف المفسرين في معناه، إذا كان اللفظ يدل عليهما من طريق العموم.
وقوله: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ)، يجوز أن يكون متناولا للأمرين جميعا، وإن كان قوله: (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)، يرجع جانب التحمل، ولكن ذكر بعض ما يتناوله اللفظ لا يمنع التعلق بعمومه فيما أمكن تعميمه فيه، على رأي أكثر الأصوليين، وإن خالفهم قوم في ذلك وادعوا التوقف، وليس ذلك بالبعيد عندنا على ما شرحناه في الأصول، مع أن اسم الشهداء لا يكون حقيقة، إلا في حالة إقامة الشهادة عند الحاكم، وإن كان ينطلق على غيره بطريق المجاز مثل قوله:
(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ).
فسماهم شهيدين وأمرنا باستشهادهما قبل أن يشهدا. وهو بمثابة قوله:
(فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢٣٠).
فسماه زوجا قبل أن يتزوج.
وقوله: (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا، الآية)، يدل على أن إقامة الشهادة تجب حيث لا يجد المستشهد غيره، وهو فرض على الكفاية، كالجهاد والصلاة على الجنائز وغسل الموتى ودفنهم، متى قام به قوم سقط عن الباقين.
وقال تعالى: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (٢٨٣).
وقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) «١».
وقال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) «٢».
وإذا كان عنهما مندوحة بإقامة غيرهما فقد سقط الفرض عنهما «٣» لما وصفناه.
قوله تعالى: (وَلا تَسْئَمُوا «٤» أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) يعني القليل الذي يعتاد تأجيله، ومعلوم أنه لم يرد به القيراط والدانق، إذ لا يعتاد المداينة بمثله إلى أجل.
وقوله (إِلى أَجَلِهِ) يعني إلى محل أجله، فيدل ذلك على أنه يكتب الأجل في الكتاب ومحله، كما يكتب أصل الدين.
(٢) سورة النساء آية ١٣٥.
(٣) في نسخه: فيهما.
(٤) أي لا تملوا ولا تضجوا.
قوله تعالى: (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ).
فيه بيان الغرض الذي لأجله أمر بالكتاب واستشهاد الشهود، والوثيقة والاحتياط للمتداينين عند الحاجة ورفع الخلاف، وبين الغرض الذي لأجله أمر بالكتاب، وأخبر بأن ذلك أنفى للريب، وأبقى للحق، وأدعى إلى رفع النزاع، وأنه إذا لم يكتب فيرتاب الشاهد، فلا ينفك بعد ذلك من أن يقيمها على ما فيها من الاختلاط والاحتياط، غير مراع شرائط الاحتياط، فيقدم على محظور أو يتركها فلا يقيمها «١» فيضيع حق الطالب.
ويستدل بذلك على أن الشهادة لا تصح إلا مع القطع واليقين، وأنه لا يجوز إقامتها إذا لم يذكرها وإن عرف خطه، لأن الله تعالى أخبر أن الكتاب مأمور به لئلا يرتاب بالشهادة.
ويستدل به أيضا على أن هذا الاستشهاد والكتاب، إذا كان الاحتياط في المداينات فهي للاحتياط للنكاح، حتى لا يستشهد بمن ليس بمرضي من فاسق، ومجلود في قذف، وكافر وعبد، خلافا لمن زعم أن تلك الشهادة ليست للاحتياط، ومعلوم أن الشهادة في موضع الندب، إذا كانت للاحتياط، ففي موضع الوجوب أولى أن تكون للاحتياط..
قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) (٢٨٢)، فرخص في ترك الكتاب في التجارة الحاضرة رفعا للحرج.
ودل ظاهر قوله: (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ)، على أن الشهادة عامة في التجارات كلها.
قوله تعالى: (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ).
قال ابن عباس: معناه أن يجيء الرجل إلى الكاتب فيقول: إني على حاجة، فيقول له: إنك قد أمرت أن تجيب، فلا يضار بمثل هذا القول.
وقال الحسن: (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) أي لا يكتب ما لم يؤمر به ويزيد في الشهادة.
وقرأ الحسن وقتادة وعطاء: (.. لا يُضَارَّ) بكسر الراء..
وقرأ ابن مسعود ومجاهد: (لا يُضَارَّ) بفتح الراء، فكانت إحدى الروايتين نهيا لصاحب الحق عن مضارة «١» صاحب الحق، وكلاهما مستعمل، ومن مضارة الشاهد القاعد عن الشهادة إذا لم يكن سواه، فكذلك على الكاتب إذا لم يجد غيره.. «٢»
قوله تعالى في التجارة: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) وفرقة بينها وبين المؤجل يوهم بظاهره، أن عليهم كتب الدين المؤجل والإشهاد فيه وأن الجناح يلحقهم إذا لم يكتبوها، ويبعد أن يقال في ترك المندوب إن عليه جناحا، ففي التجارة الحاضرة إن كان ترك الشهادة
(٢) أي تعيين الشهادة والكتابة إذا لم يكن غير الشاهد والكاتب.
وقوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) (٢٨٢) يدل على أن في غيرها عليهم جناحا.
ويقال في الجواب عن هذا: الجناح يطلق على الضرورة، فكأنه تعالى قال: لا ضرر عليهم في حياطة الأموال، لأن كل واحد تسلم ما استحق عليه بإزاء تسليم الآخر، ومتى لحقه ضرر وأفضى الأمر إلى منازعة ومشاجرة، فربما تداعى إلى الإثم واللجاج، فأراد بقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها)، أي ليس عليكم ذلك أيضا..
قوله تعالى: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) «١» (٢٨٢).
عطفا على ذكر المضارة، يدل على أن مضارة الطالب الكاتب والشهيد، ومضارتهما له فسق، بقصد كل واحد منهم إلى مضارة صاحبه بعد نهيه عنها.
قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) (٢٨٣) :
استدل به مجاهد على أن الرهن لا يكون إلا في السفر.
وأما كافة العلماء فجوزوه في الحضر والسفر، لأنه صح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رهن درعا عند يهودي بالمدينة، وأخذ منه شعيرا لأهله، غير أن ذكر السفر بناء على غالب الأحوال، في عدم وجود الكاتب والشهيد فيها، فينوب الرهن منا بهما، لا أن الرهن مفيد فائدة الشهادة والكتاب
فإذا تقرر ذلك، فهذا الرهن الذي له خاصية الشهادة عند عدم الشهادة، فإن الرهن إذا كان مقبوضا، لا يتأتى للراهن الامتناع من توفية حق المرتهن، فإنه يأخذ المرهون بحقه.
وإن ادعى الراهن على المرتهن الملك في المرهون، فالمرتهن يكفيه في دفع دعواه أن يقول: لا يلزمني تسليم هذا إليك.
وإذا قال ذلك وحلف عليه، بطل عن الراهن في العين «٣» عند المحل، وكان للمرتهن بيعه وأخذ الحق من ثمنه، وهذا كلام ظاهر كما ترى، فصار الرهن مفيدا مثل مقصود الشهادة والكتاب، وإن كان له خاصية يتفرد بها، فلأجل ما فيه من فائدة الشهادة أمر الله فيه بالقبض، وخصه بالسفر، لأنه يغلب فيه عدم الكتاب والشهود.
وقوله: (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ)، يدل على اعتبار القبض الذي به
(٢) وقال ابن حزم: أن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك وأن تبرع به الراهن جاز (فتح الباري كتاب الرهن).
(٣) أي بطل عين الرهن عن الراهن وباعه المرتهن وأخذ حقه فيه، لأن حق المرتهن متعلق بعين الرهن وذمة الراهن معا وهو من أكثر فوائد الرهن عند فرض مزاحمة الغرباء. [.....]
ويتلقى من الآية وجوب الإقباض، وكون القبض شرطا في الرهن لأن معنى الوثيقة ليس يحصل إلا به.
ويمكن أن يستدل به على أن المقصود الأصلي في الرهن توثيق الدين لاستيفاء الحق منه، فإنه خص بالسفر لهذا المقصود لما لا سواه مما يتأتى في السفر والحضر، ومع الشهود وعدم الشهود والكتاب.
وفيه دليل على أنه لا يجوز للراهن استرجاع المرهون من يد المرتهن، لما فيه من بطلان المعنى الذي به يقوم الرهن مقام الشهادة والكتاب، ولأجله جعل بدلا عنهما، وما شرع في الأصل إلا على هذا الوجه. فكان هذا الوجه هو المقصود الأصلي بالرهن.
والذين يخالفون هذا الرأي من أصحاب الشافعي يقولون:
إن المقصود بآية المداينات توثق الحقوق عن الضياع والتقوى من جهة وجوبه لا من جهة الاستيفاء، ولذلك لم يتعرض للضمان، فإن الضمان لا يفيد التوثيق من جهة الوجوب على معنى أن الشهادة إذا لم تكن، ربما يجحد الحق فيذهب وجوبه، وكذا الكتاب والرهن في هذا المعنى يفيد مع الجحود الذي به يفوت وجوب الحق، والضمان لا يفيد شيئا من هذا المعنى، فلا جرم لم يتعرض له ها هنا، وتعرض للرهن الذي يفيد فائدة الشهادة في هذه الجهة، إذا تعذر الوصول إلى الشهادة بالسفر، لأن السفر في الرهن أصل، ولكن بالسفر يحصل العذر في الشهادة والكتاب فشرع الرهن.
وأما خاصية الرهن التي لا توجد في غير الرهن من الوثائق فهي استيفاء الدين من العين، فجاز رهن المتاع نظرا إلى الخاصية، وجاز الانتفاع بالمرهون في مدة الرهن نظرا إليها، فهذا تمام البيان في ذلك.
إذا كان لرجل على رجل دين، فباع من له «١» الدين ممن عليه الدين شيئا، وجعل الدين عليه رهنا، قال: يجوز على ما رواه ابن القاسم عنه، لأنه يخلص به عن مزاحمة الغرماء فإنه حائز ما عليه.
وقال غيره من العلماء: لا يجوز، لأنه لا يتحقق إقباضه، والقبض شرط لزوم الرهن، ولأنه لا بد من أن يستوفي الحق منه عند المحل، ويكون الاستيفاء من ماليته لا من عينه ولا يتصور ذلك في الدين.
ولأن الدين مملوك ثابت بالإضافة إلى من له الدين «٢» إنما هو ثابت بالإضافة إلى من له الدين.
ولا خلاف عند العلماء أن تعديل المرهون جائز عند الأجنبي.
وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز حتى يقبضه المرتهن، وكأنه رأى ابتداء القبض تعبدا، ورأى التعبد في مباشرته القبض، وهو لعله لا يجوز التوكيل فيه، وهذا بعيد.
ولابن أبي ليلى أن يقول: إنه إذا لم يجز جعل المبيع المحبوس على يدي عدل، لم يخرج عن ضمان البائع، ولم يصح أن يكون العدل وكيلا للمشتري في قبضه، فكذلك يجب أن لا يخرج من قبض الراهن بوضعه على يدي عدل.
(٢) لعل هنا سقطا وصحته: ولأن الدين مملوك ثابت بالإضافة الى من له الدين والرهن انما هو ثابت بالإضافة الى من له الدين.
نعم البائع إذا وضع المبيع عند عدل بقي محبوسا، ولم يكن العدل وكيل المشتري، لأن في كونه وكيلا له إبطال الحبس، وفي كون العدل وكيلا للمرتهن تحقيق الحبس، فوضح الجواب من هذا الوجه.
واستخرج الشافعي من كون الرهن وثيقة أنه غير مضمون، فإن الوثيقة يزداد بها الدين وكادة، لا أنه يتعرض بها الدين لعرض السقوط، فسقوط الدين بهلاك الوثيقة، يوقع خللا في معنى الوثيقة.
وهم يقولون: وما وقع الخلل في معنى الوثيقة، فإن الدين لا يسقط عند من يخالفه، ولكن كان الرهن وثيقة للاستيفاء، وقد حصل بهلاكه الاستيفاء حتى قالوا:
إذا رهن برأس مال السلم، فتلف قبل التفوق، صار رأس المال مستوفى حتى لا يضر الافتراق، ويجب تسليم المسلم فيه عند المحل، فلم يكن ذلك مخالفا معنى الوثيقة، بل كان محققا معنى الوثيقة.
والشافعي يقول: قد خالف مقصود الوثيقة، فإن الوثيقة ما عقدت له حتى يفوت الحق على هذا الوجه، ولا أن يقدر هذا القبض من غير أن يكون المقبوض ملكا للقابض مقصودا للمرتهن، فقد فات المقصود من هذا الوجه أن يقدر هذا القبض من غير أن يكون المقبوض ملكا للقابض، فصح ما قلناه عن الشافعي.
قال الشافعي: ووصله ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم:
وذكر أبو بكر الرازي أن أبا بكر بن أبي شيبة قال: قوله صلّى الله عليه وسلم: له غنمه وعليه غرمه، من كلام سعيد بن المسيب.
وروى مالك وابن أبي ذؤيب ويونس عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا يغلق.
قال يونس بن يزيد قال ابن شهاب، وكان ابن المسيب يقول:
«الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه»، فأخبر ابن شهاب أن هذا من قول سعيد بن المسيب لا عن النبي صلّى الله عليه وسلم.
وقوله: «لا يغلق الرهن»، ذكر قوم أن معناه: أنهم كانوا يرهنون في الجاهلية ويقولون: إن جئتك بالمال وقت كذا وكذا وإلا فهو لك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن.
تأوله على ذلك مالك وسفيان وطاوس وإبراهيم النخعي، وإلا فيبعد أن يقال: إذا ضاع قد غلق الرهن، ولم يبق الرهن، وإنما يقال: ضاع.
نعم الشافعي يحمل قوله «لا يغلق الرهن»، أي لا يصير محتبسا بيد المرتهن، معطل المنافع كالمغلوق «١»، ولكن الراهن ينتفع به فله غنمه وعليه غرمه.
وهم يقولون على الراهن غرمه، حال بقائه، حتى لا يملك المرتهن بعد الأجل الرهن، وإنما الدين على الراهن كما كان من قبل.
وله غنمه أي زيادته، فإذا زادت قيمته فالزيادة للراهن وإذا نقصت فعلى الراهن تكلف الزيادة إلى تمام الدين.
وزعموا أن ذلك يدل على أن الشرط الذي لا يوافق الرهن إذا ذكر في العقد، لا يفسد العقد بل يفسد الشرط، وهذا الذي ذكروه، وتقدير حكاية لا يدل اللفظ عليها، وقد عرفنا أن تقدير الحكايات لتنزيل الألفاظ عليها لا يجوز، والشافعي يحكم بفساد الرهن باشتراط الملك للمرتهن عند انقضاء الأجل، وأبو حنيفة يخالف في ذلك..
قوله تعالى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ (٢٨٢) يدل على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره، فيقتضي ذلك قبول قول الراهن إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأكثر العلماء.
ومالك يقول: القول قول المرتهن، فيما بينه وبين قيمة الرهن، ولا يصدق على أكثر من ذلك، وكأنه يرى أن الرهن وثمنه شاهد للمرتهن.
وقوله تعالى: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يرد عليه، فإن الذي عليه الحق هو الراهن..
فإن قال قائل: إن الله تعالى جعل الرهن بدلا عن الشهادة، والكتاب والشهادة دالة على صدق المشهود له، والرهن الذي هو بدله قام مقامه،
فإذا قال الراهن: رهنت بخمسين، والمرتهن يدعي مائة، وقيمة الشيء مائة فصاعدا، كان الرهن شاهدا له، وإذا كان دون ذلك الذي ادعاه صار في الفضل على قدر قيمة الرهن مدعيا وعليه البينة؟
والجواب عنه: أن الرهن لا يدل على أن قيمته يجب أن تكون مقدار الدين، فإنه ربما رهن الشيء بالقليل والكثير، نعم لا ينقص الرهن غالبا عن مقدار الدين، فأما أن يطابقه فلا، وهذا القائل يقول: يصدق المرتهن مع اليمين في مقدار الدين، إلى أن يساوي قيمة الرهن، وليس العرف على ذلك، فربما نقص الدين عن الرهن وهو الغالب، فلا حاصل لقولهم هذا بوجه ما.
قوله تعالى: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ إلى قوله: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، يدل على أنه لما عزم على أنه لا يؤديها، وترك أداءها باللسان، رجع لمأثم إلى الوجهين جميعا، فقوله: آثِمٌ قَلْبُهُ، مجاز هو آكد من الحقيقة في الدلالة على الوعيد، وهو من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني.
واعلم بعد ذلك أن الذي أمر الله تعالى به، من الشهادة والكتاب لمراعاة صلاح ذات البين، ونفي التنازع المؤدي إلى فساد ذات البين.
لئلا يسول له الشيطان الجحود بالباطل، وتجاوز ما حدته الشريعة له، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق، ولأجله حرم الشارع البياعات المجهولة التي تؤدي إلى الاختلاف وفساد ذات البين، وإيقاع التضاغن والتباين، ومثله ما حرمه الله تعالى من الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله:
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.. «١» الآية
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً، وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً، وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً «١».
ويمكن أن يستدل بهذه الآيات على وجوب حفظ المال في التصرفات، ولأجله قال تعالى:
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ «٢» الآية..
وقال: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ «٣».
وروى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«لا يحب الله إضاعة المال في غير وجهه».
فربما حمله اختلال حاله، وكثرة عياله وأثقاله، على اقتحام أمور ذميمة تعود عليه بالوبال وذهاب الدين والدنيا..
قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ (٢٨٤) :
ظن قوم أنها منسوخة بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (٢٨٦).
(٢) سورة النساء آية ٥.
(٣) سورة الإسراء آية ٢٦- ٢٧.
فإن قوله: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، يحتمل أن يكون معناه: إن شاء أن يحاسبكم، إذا لم ينسخ، فيكون في قوله يحاسبكم إضمار وتقييد.
وقد قيل لا يجوز أن يكون ناسخه قوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، فإن ذلك واجب لا يجوز ورود الشرع بخلافه، وهذا على قول من لا يجوز تكليفه ما لا يطاق، على أن قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، يمنع تكليف ما لا يطاق، فإن قوله: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ليس نصا فيما لا يطاق، بل هو في أعمال القلب: مثل الشك، أو النفاق، وكتمان الشهادة، وكتمان الحقوق، وقد قال الله تعالى في موضع آخر:
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ «١» وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا «٢». الآية..
وقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «٣» - أي شك- نعم ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعلموا به».
وقد حمله العلماء على ما يلزمه من الأحكام مثل الطلاق، والعتاق،
(٢) سورة النور آية ١٩.
(٣) سورة البقرة آية ١٠.
قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يمنع تكليف الزمن القيام للصلاة، وربما يؤخذ منه، وإن كان قادرا على الفعل غير أنه يلحقه حرج عظيم، فلا يجب عليه فعله، لأن الله تعالى لم يقل: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، طاقتها، ولكن قال: إِلَّا وُسْعَها «١».
وأخبر أنه لا يكلف الله أحدا إلا ما اتسعت له قدرته وإمكانه، دون ما تضييق عليه وتعنيت.
وقال الله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ «٢».
وقال في نعت النبي صلّى الله عليه وسلم: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ «٣»..
قوله تعالى: لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا «٤» يقتضي رفع المؤاخذة بالمنسي.
والمؤاخذة منقسمة إلى مؤاخذة في حكم الآخرة، وهو الإثم والعقاب.
وإلى مؤاخذة في حكم الدنيا، وهو إثبات التبعات والغرامات، والظاهر نفي حكم جميع ذلك.
وقوله عليه السلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»، يقتضي رفع الخطإ مطلقا ورفع حكمه، فلا جرم قال الشافعي في المنهيات كلها، الفعل المنسي كلا فعل، فإذا تكلم ساهيا، أو سلم ساهيا، أو أتى بالفعل الكثير ساهيا، فلا تبطل صلاته أصلا..
(٢) سورة البقرة آية ٢٢٠.
(٣) سورة التوبة آية ١٢٨.
(٤) سورة البقرة آية ٢٨٦. [.....]
استدل به على أن من قتل غيره بمثقل وتخنيق وتغريق، فعليه ضمانه قصاصا أو دية، خلافا لمن جعل ديته على العاقلة، وذلك يخالف الظاهر.
ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب، لا يقتضي سقوطه عن شريكه.
ويدل على وجوب الحد على المرأة العاقلة، إذا مكنت مجنونا من نفسها.
قوله تعالى: (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً «١» كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا).
يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره الحنيفية السهلة السمحة، وهذا بين.
قوله تعالى: (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا «٢» بِهِ) (٢٨٦) :
يحتمل نفي ما يثقل من التكاليف، نحو قتل النفس الذي كلف بنو إسرائيل.
ويجوز أن يعبر عما يثقل، بأنه لا يطيقه كقولك: ما أطيق الكلام، وما أستطيع أن أرى فلانا، ولا يريد نفي القدرة.
وقال تعالى: (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) «٣» :
(٢) أي من بليات الدنيا والآخرة، فالدعاء الأول في رفع شدائد التكليف، وهذا في رفع شدائد البليات.
(٣) سورة الكهف آية ١٠١.
ويجوز أن يراد به نفي القدرة رأسا على الفعل والترك جميعا، فهذا تمام ما حضرنا من معاني القرآن في سورة البقرة.
تم الجزء الأول بحمد الله تعالى ويليه الجزء الثاني وأوله سورة آل عمران والله المستعان.
للإمام الفقيه عماد الدّين بن محمد الطّبري المعروف بالكيا الهرّاسي المتوفى سنة ٥٠٤ هجرية الجزء الثاني منشورات محمد علي بيضون لنشر كتب السّنّة والجماعة دار الكتب العلمية بيروت- لبنان
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)