تفسير سورة الأنبياء

زاد المسير
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الأنبياء
وهي مكية بإجماعهم من غير خلاف نعلمه.

سورة الأنبياء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
وهي مكية باجماعهم من غير خلاف نعلمه.
قوله عز وجل: اقْتَرَبَ افتعل، من القُرْب، يقال: قَرُبَ الشيء، واقترب. وهذه الآية نزلت في كفار مكة. وقال الزّجّاج: اقترب للناس وقت حسابهم. قيل: اللام في قوله لِلنَّاسِ
بمعنى: «مِنْ».
والمراد بالحساب: محاسبة الله لهم على أعمالهم. وفي معنى قُرْبِهِ قولان: أحدهما: أنه آتٍ، وكلُّ آتٍ قريبٌ. والثاني: لأن الزمان- لِكثرة ما مضى وقِلَّة ما بقي- قريبٌ.
قوله تعالى: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أي: عمَّا يفعل الله بهم ذلك اليوم مُعْرِضُونَ عن التأهُّب له.
وقيل: «اقترب للناس» عامٌّ، والغفلة والإِعراض خاص في الكفار، بدلالة قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، وفي هذا الذِّكْر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن عباس فعلى هذا تكون الإِشارة بقوله: مُحْدَثٍ إِلى إِنزاله له، لأنه أُنْزِل شيئاً بعد شيء. والثاني: أنه ذِكْر من الأذكار، وليس بالقرآن، حكاه أبو سليمان الدمشقي. وقال النقاش: هو ذِكْر من رسول الله، وليس بالقرآن.
والثالث: أنه رسول الله، بدليل قوله في سياق الآية: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، قاله الحسن بن الفضل.
قوله تعالى: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ قال ابن عباس: يستمعون القرآن مستهزئين.
184
قوله تعالى: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي: غافلةً عما يراد بهم. قال الزّجّاج: المعنى: إلّا استمعون لاعبين لاهيةً قلوبهم ويجوز أن يكون منصوباً بقوله: «يلعبون». وقرأ عكرمة، وسعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: «لاهيةٌ» بالرفع.
قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى أي: تناجَوا فيما بينهم، يعني المشركين. ثم بيَّن مَنْ هم فقال:
الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أَشْرَكوا بالله. و «الذين» في موضع رفع على البدل من الضمير في «وأَسَرُّوا» ثم بيَّن سِرَّهم الذي تناجَوْا به فقال: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي: آدميٌّ، فليس بملك، وهذا إِنكار لنبوَّته. وبعضهم يقول: «أسرّوا» ها هنا بمعنى: أظهروا، لأنه من الأضداد.
قوله تعالى: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ أي: أفتقبلون السحر وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أنه سحر؟! يعنون أنّ متابعة محمّد صلى الله عليه وسلّم متابعة السّحر. قالَ رَبِّي قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «قل ربي». وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «قال ربِّي»، وكذلك هي في مصاحف الكوفيين، وهذا على الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: يعلم القول، أي: لا يخفى عليه شيء يقال في السماء والأرض، فهو عالم بما أسررتم. بَلْ قالُوا، قال الفراء: رَدَّ ب بَلْ على معنى تكذيبهم، وإِن لم يظهر قبله الكلام بجحودهم، لأن معناه الإِخبار عن الجاحدين، وأعلمَ أن المشركين كانوا قد تحيّروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فاختلفت أقوالهم فيه، فبعضهم يقول: هذا الذي يأتي به سِحْر، وبعضهم يقول: أضغاث أحلام، وهي الأشياء المختلطة تُرى في المنام وقد شرحناها في يوسف «١»، وبعضهم يقول: افتراه، أي: اختلقه، وبعضهم يقول: هو شاعر فليأتنا بآية كالناقة والعصا، فاقترحوا الآيات التي لا إِمهال بعدها.
قوله تعالى: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ يعني: مشركي مكة مِنْ قَرْيَةٍ وصف القرية، والمراد أهلها، والمعنى: أن الأمم التي أهلكت بتكذيب الآيات، لم يؤمنوا بالآيات لمَّا أتتهم، فكيف يؤمن هؤلاء؟! وهذه إِشارة إِلى أن الآية لا تكون سبباً للإِيمان، إِلا أن يشاء الله.
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا هذا جواب قولهم: «هل هذا إِلاّ بَشَر مِثْلُكم». قوله تعالى: نُوحِي إِلَيْهِمْ قرأ الأكثرون: «يوحَى» بالياء. وروى حفص عن عاصم: «نُوحي» بالنون. وقد شرحنا هذه الآية في النحل «٢».
قوله تعالى وَما جَعَلْناهُمْ يعني الرسل جَسَداً قال الفراء: لم يقل: أجساداً، لأنه اسم الجنس. قال مجاهد: وما جعلناهم جسداً ليس فيهم روح. قال ابن قتيبة: ما جعلنا الانبياء قبله أجساداً لا تأكل الطعام ولا تموت فنجعله كذلك. قال المبرد وثعلب جميعاً: العرب إِذا جاءت بين الكلام بجحدين، كان الكلام إِخباراً، فمعنى الآية: إِنما جعلناهم جسداً ليأكلوا الطعام. قال قتادة: المعنى:
وما جعلناهم جسداً إِلا ليأكلوا الطعام.
قوله تعالى: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ يعني: الأنبياء أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك مكذِّبيهم فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وهم الذين صدَّقوهم وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ يعني: أهل الشّرك وهذا
(١) سورة يوسف: ٤٤.
(٢) سورة النحل: ٤٣.
185
تخويف لأهل مكة. ثم ذكر منَّته عليهم بالقرآن فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ، وفي ثلاثة أقوال «١» : أحدها: فيه شرفكم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: فيه دِينكم، قاله الحسن، يعني:
فيه ما تحتاجون إِليه من أمر دينكم. والثالث: فيه تذكرة لكم لِمَا تلقَونه من رَجعة أو عذاب، قاله الزجاج. قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ ما فضَّلْتُكم به على غيركم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١١ الى ١٥]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
ثم خوَّفهم فقال: وَكَمْ قَصَمْنا قال المفسرون واللغويون: معناه: وكم أهلكنا، وأصل القصم:
الكسر. قوله تعالى: كانَتْ ظالِمَةً أي: كافرة، والمراد: أهلها. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي: رأَوا عذابنا بحاسَّة البصر إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ أي: يَعْدُون، وأصل الرَّكْض: تحريكُ الرِّجلين، يقال:
رَكَضْتُ الفَرَس: إِذا أَعْدَيته بتحريك رِجليكَ فعدا.
قوله تعالى: لا تَرْكُضُوا قال المفسرون: هذا قول الملائكة لهم: وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ، أي: إِلى نعَمكم التي أترفتْكم، وهذا توبيخ لهم. وفي قوله: لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قولان: أحدهما: تُسألون من دنياكم شيئاً، استهزاءً بهم، قاله قتادة. والثاني: تُسأَلون عن قتل نبيِّكم، قاله ابن السائب. فلما أيقنوا بالعذاب قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بكفرنا، فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي: ما زالت تلك الكلمة التي هي «يا ويلنا إِنَّا كنَّا ظالمين» قولهم يردِّدونها. حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً بالعذاب، وقيل: بالسيوف خامِدِينَ، أي: ميتين كخمود النار إذا طفئت.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٦ الى ٢٤]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي: لم نخلق ذلك عبثاً، إِنما خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيَّتِنا ليعتبر الناس بخَلْقه، فيعلموا أن العبادة لا تصلح إِلا لخالقه، لنجازيَ أولياءنا، ونعذِّبَ أعداءنا.
قوله تعالى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن المشركين لما قالوا:
(١) قال الطبري ٩/ ٨: عنى بالذكر في هذا الموضع الشرف، وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه.
186
الملائكة بنات الله والآلهة بناته، نزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس «١». والثاني: أن نصارى نجران قالوا: إِن عيسى ابن الله، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «٢».
وفي المراد باللهو ثلاثة أقوال «٣» : أحدها: الولد، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال السدي. قال الزجاج: المعنى: لو أردنا أن نتخذ ولداً ذا لهوٍ نُلْهَى به. والثاني: المرأة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة. والثالث: اللعب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قوله تعالى: لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا قال ابن جريج: لاتّخذنا نساء وولدا من أهل السماء، لا من أهل الأرض. قال ابن قتيبة: وأصل اللهو: الجماع، فكُنِّي عنه باللهو، كما كُنِّيَ عنه بالسِّرِّ، والمعنى:
لو فعلنا ذلك لاتَّخذناه من عندنا، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده، لا عند غيره.
وفي قوله تعالى: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ قولان: أحدهما: أن أَنْ بمعنى «ما»، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة. والثاني: أنها بمعنى الشرط. قال الزجاج: والمعنى: إِن كنا نفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله قال: والقول الأول قول المفسرين، والثاني: قول النحويين، وهم يستجيدون القول الأول أيضاً، لأن «إِنْ» تكون في موضع النفي، إِلا أنَّ أكثر ما تأتي مع اللام، تقول: إِن كنت لَصالحاً، معناه:
ما كنت إِلاَّ صالحاً.
قوله تعالى: بَلْ أي: دع ذاك الذي قالوا، فإنه باطل نَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي: نسلّط الحق وهو القرآن عَلَى الْباطِلِ وهو كذبهم فَيَدْمَغُهُ قال ابن قتيبة: أي: يكسره، وأصل هذا إِصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي: زائل ذاهب. قال المفسرون: والمعنى: إِنا نبطل كذبهم بما نبيِّن من الحق حتى يضمحلَّ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي: من وصفكم الله بما لا يجوز وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: هم عبيده ومُلْكه وَمَنْ عِنْدَهُ يعني: الملائكة. وفي قوله: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يرجعون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: لا ينقطعون، قاله مجاهد. وقال ابن قتيبة: لا يعيَون، والحَسِر: المنقطع الواقف إِعياءً وكلالاً. والثالث: لا يملُّون، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: لا يَفْتُرُونَ قال قتادة: لا يسأَمون. وسئل كعب: أما يَشْغَلُهم شأن؟ أما تَشْغَلُهم حاجة؟ فقال للسائل: يا ابن أخي، جُعل لهم التسبيحُ كما جُعل لكم النَّفَسُ، ألستَ تأكل وتشرب وتقوم وتجلس وتجيء وتذهب وتتكلم وأنت تتنفس؟! فكذلك جُعل لهم التسبيح. ثم إِن الله تعالى عاد إِلى توبيخ المشركين فقال: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ لأن أصنامهم من الأرض هي، سواء كانت من ذهب أو فضة أو خشب أو حجارة هُمْ يعني: الآلهة يُنْشِرُونَ أي: يُحْيُون الموتى. وقرأ الحسن:
(١) لا يصح عن ابن عباس، أبو صالح ضعيف، وراويته الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.
(٢) باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والسورة مكية، وإنما قدم نصارى نجران في المدينة. [.....]
(٣) قال الطبري رحمه الله ٩/ ١١: لو أردنا أن نتخذ زوجة وولدا لاتخذنا ذلك من عندنا، ولكنا لا نفعل ذلك، ولا يصلح لنا فعله، ولا ينبغي، لأنه لا يكون لله ولد ولا صاحبة. وقال ابن كثير رحمه الله ٣/ ٢٢١: فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقا، لا سيما عما يقولون من الإفك والباطل، من اتخاذ عيسى، أو عزير، أو الملائكة سبحان الله عما يقولون علوا كبيرا.
187
«يَنشُرون» بفتح الياء وضم الشين. وهذا استفهام بمعنى الجحد، والمعنى: ما اتخذوا آلهة تَنْشُر ميتاً.
لَوْ كانَ فِيهِما يعني: السماء والأرض آلِهَةٌ يعني: معبودين إِلَّا اللَّهُ قال الفراء: سوى الله.
وقال الزجاج: غير الله.
قوله تعالى: لَفَسَدَتا أي: لخربتا وبطلتا وهلكَ من فيهما، لوجود التمانع بين الآلهة، فلا يجري أمر العالَم على النظام، لأن كل أمر صدر عن اثنين فصاعداً لم يَسْلَم من الخلاف.
قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي: عمَّا يَحْكُم في عباده من هدي وإِضلال، وإِعزاز وإِذلال، لأنه المالك للخلق، والخلق يُسأَلون عن أعمالهم لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم. ولمَّا أبطل عزّ وجلّ أن يكون إِله سواه من حيث العقل بقوله: لَفَسَدَتا، أبطل ذلك من حيث الأمر فقال:
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وهذا استفهام إِنكار وتوبيخ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما تقولون، هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ يعني: القرآن خبر مَن معي على ديني ممن يتّبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يعني: الكتب المنزلة، والمعنى: هذا القرآن، وهذه الكتب التي أُنزلت قبله، فانظروا هل في واحد منها أن الله أمر باتخاذ إِله سواه؟ فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود غيره من حيث الأمر به، قال الزجاج: قيل لهم: هاتوا برهانكم بأن رسولاً من الرسل أخبر أُمَّته بأن لهم إلهاً غير الله!. قوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ يعني: كفار مكة لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وفيه قولان:
أحدهما: أنه القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: التوحيد، قاله مقاتل فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن التفكُّر والتأمُّل وما يجب عليهم من الإيمان.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
قوله تعالى: مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «إِلا نوحي» بالنون والباقون بالياء. قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً في القائلين لهذا قولان: أحدهما: أنهم مشركو قريش، قاله ابن عباس. وقال ابن إِسحاق: القائل لهذا النضر بن الحارث. والثاني: أنهم اليهود قالوا: إِن الله صاهر الجن فكانت منهم الملائكة، قاله قتادة. فعلى القولين، المراد بالولد: الملائكة، وكذلك المراد بقوله: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، والمعنى: بل عباد أكرمهم الله واصطفاهم، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، أي: لا يتكلَّمون إِلا بما يأمرهم به. وقال ابن قتيبة: لا يقولون حتى يقول، ثم يقولون عنه، ولا يعملون حتى يأمرهم. قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي: ما قدَّموا من الأعمال وَما خَلْفَهُمْ ما هم عاملون، ولا يشفعون يوم القيامة، وقيل: لا يستغفرون في الدنيا إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي: لِمَن رضي عنه، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ أي: من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إِلى المفعول، مُشْفِقُونَ أي: خائفون. وقال الحسن: يرتعدون. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ أي: من الملائكة. قال الضحاك
في آخرين: هذه خاصة لإِبليس، لم يَدْعُ أحد من الملائكة إِلى عبادة نفسه سواه قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا قول من قال: إِنه من الملائكة، فإن إِبليس قال ذلك للملائكة الذين هبطوا معه إِلى الأرض، ومن قال: إِنه ليس من الملائكة، قال: هذا على وجه التهديد، وما قال أحد من الملائكة ذلك.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: أولم يعلموا. وقرأ ابن كثير: «ألم ير الذين كفروا» بغير واو بين الألف واللام، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة، أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما قال أبو عبيدة: السموات جمع والأرض واحدة، فخرجت صفة لفظ الجمع على لفظ صفة الواحد والعرب تفعل هذا إذا أشركوا بين الجمع وبين واحد والرَّتْق مصدر يوصف به الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث سواء، ومعنى الرَّتْق: الذي ليس فيه ثقب. قال الزجاج: المعنى: كانتا ذواتي رتق، فجعلناهما ذوات فتق، وإِنما لم يقل: «رَتْقَيْنِ» لأن الرَّتق مصدر. وللمفسرين في المراد به ثلاثة أقوال: أحدها: أن السموات كانت رَتْقاً لا تُمْطِر، وكانت الأرض رَتْقاً لا تُنْبِت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات، رواه عبد الله بن دينار عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة، ومجاهد في رواية، والضحاك في آخرين. والثاني: أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين، ففتقهما الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة. والثالث: أنَّه فَتق من الأرض ست أرضين فصارت سبعاً، ومن السماء ست سموات فصارت سبعاً، رواه السدي عن أشياخه، وابن أبي نجيح عن مجاهد.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وقرأ معاذ القارئ وابن أبي عبلة وحميد بن قيس:
«كلَّ شيء حيّاً» بالنصب. وفي هذا الماء قولان: أحدهما: أنه الماء المعروف، والمعنى: جعلنا الماء سبباً لحياة كل حيٍّ، قاله الأكثرون. والثاني: أنه النُّطفة، قاله أبو العالية.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ قد فسرناه في سورة النحل «١». قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِيها أي: في الرواسي فِجاجاً، قال أبو عبيدة: هي المسالك. قال الزجاج: الفِجَاج جمع فَجّ، وهو كل منخَرق بين جبلين، ومعنى سُبُلًا طرقاً. قال ابن عباس: جعلنا من الجبال طُرُقاً كي تهتدوا إِلى مقاصدكم في الأسفار. قال المفسرون. وقوله: سُبُلًا تفسير للفِجَاج، وبيان أن تلك الفِجَاج نافذة مسلوكة، فقد يكون الفَجُّ غير نافذ. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً أي: هي للأرض كالسقف. وفي معنى مَحْفُوظاً قولان: أحدهما: بالنجوم من الشياطين، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: محفوظاً من الوقوع إِلا باذن الله، قاله الزّجّاج.
(١) سورة النحل: ١٥.
قوله تعالى: وَهُمْ يعني: كفار مكة عَنْ آياتِها أي: شمسها وقمرها ونجومها، قال الفراء:
وقرأ مجاهد: «عن آيتها» فوحّد، فجعل السماء بما فيها آية وكلٌّ صوابٌ.
قوله تعالى: كُلٌّ يعني: الطوالع فِي فَلَكٍ قال ابن قتيبة: الفَلَك: مدار النجوم الذي يضمُّها، وسمَّاه فَلَكاً، لاستدارته، ومنه قيل: فَلْكَة المِغْزَل، وقد فَلكَ ثَدْيُ المرأة. قال أبو سليمان: وقيل: إِن الفَلَك- كهيئة الساقية من ماء- مستديرة دون السماء وتحت الأرض، فالأرض وسطها والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار يجرون في الفَلَك، وليس الفَلَك يُديرها. ومعنى «يَسْبَحون» : يَجْرُون. قال الفراء: لمَّا كانت السِّباحة من أفعال الآدميين، ذُكِرَتْ بالنون، كقوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «١» لأنّ السّجود من أفعال الآدميين.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦)
قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ سبب نزولها أن ناساً قالوا: إِن محمداً لا يموت، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية ما خلَّدنا قبلكَ أحداً من بني آدم والخُلْد: البقاء الدائم.
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ يعني مشركي مكة، لأنهم قالوا: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «٢». قوله تعالى:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ قال ابن زيد: نختبركم بما تحبُّون لننظر كيف شكركم، وبما تكرهون لننظر كيف صبركم. قوله تعالى: وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ قرأ ابن عامر: «تَرجعون» بتاء مفتوحة. وروى ابن عباس عن أبي عمرو: «يرجعون» بياء مضمومة. وقرأ الباقون ترجعون بتاء مضمومة. قوله تعالى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال ابن عباس: يعني المستهزئين، وقال السدي: نزلت في أبي جهل، مَرَّ به رسول الله، فضحك وقال: هذا نَبيُّ بني عبد مناف. وإِنْ بمعنى «ما»، ومعنى هُزُواً مهزوءاً به أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي: يعيب أصنامكم، وفيه إِضمار «يقولون»، وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ وذلك أنهم قالوا: ما نعرف الرحمن، فكفروا بالرّحمن.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٧ الى ٤١]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وقرأ أبو رزين العُقيلي، ومجاهد، والضحاك «خَلَقَ الإنسانَ» بفتح الخاء واللام ونصب النون. وهذه الآية نزلت حين استعجلت قريش بالعذاب.
وفي المراد بالإنسان ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: النضر بن الحارث، وهو الذي قال:
(١) سورة يوسف: ٤.
(٢) سورة الطور: ٤٠.
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «١»، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: آدم عليه السلام، قاله سعيد بن جبير، والسدي في آخرين. والثالث: أنه اسم جنس، قاله علي بن أحمد النيسابوري فعلى هذا يدخل النّضر بن الحارث وغيره في هذا وإِن كانت الآية نزلت فيه.
فأمَّا من قال: أُرِيدَ به آدم، ففي معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه خُلق عجولاً، قاله الأكثرون.
فعلى هذا يقول: لما طُبع آدم على هذا المعنى، وُجد في أولاده، وأورثهم العَجَل. والثاني: خُلق بعَجَل، استَعجل بخَلْقه قبل غروب الشمس من يوم الجمعة، وهو آخر الأيام الستة، قاله مجاهد. فأما من قال: هو اسم جنس، ففي معنى الكلام قولان: أحدهما: خُلِقَ عَجُولاً قال الزجاج: خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر منه اللعب: إِنما خُلقتَ من لَعِب، يريدون المبالغة في وصفه بذلك. والثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: خُلقتِ العجلة في الإِنسان، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فيه قولان: أحدهما: ما أصاب الأمم المتقدِّمة والمعنى: إِنكم تسافرون فترون آثار الهلاك في الماضين، قاله ابن السائب. والثاني: أنها القتل ببدر، قاله مقاتل. قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أثبت الياء في الحالتين يعقوب.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون: القيامة. لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا جوابه محذوف، والمعنى: لو علموا صدق الوعد ما استعجلوا، حِينَ لا يَكُفُّونَ أي: لا يدفعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ إِذا دخلوا وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ لإِحاطتها بهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي: يُمنَعون مما نزل بهم، بَلْ تَأْتِيهِمْ يعني: الساعة بَغْتَةً فجأَةً فَتَبْهَتُهُمْ تحيِّرهم وقد شرحنا هذا عند قوله: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ «٢» فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي: صرفها عنهم، ولا هم يُمْهَلون لتوبة أو معذرة. ثم عزّى نبيّه، فقال: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي: كما فعل بك قومك فَحاقَ أي: نزل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي: من الرّسل ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني: العذاب الذي كانوا استهزءوا به.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٢ الى ٤٦]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ المعنى: قل لهؤلاء المستعجِلين بالعذاب: من يحفظكم من بأس الرحمن إِن أراد إِنزاله بكم؟ وهذا استفهام إِنكار، أي: لا أحد يفعل ذلك، بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي: عن كلامه ومواعظِهِ مُعْرِضُونَ لا يتفكَّرون ولا يعتبرون. أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ
(١) سورة الأنفال: ٣٢.
(٢) سورة البقرة: ٢٥٨.
دُونِنا فيه تقديم وتأخير، وتقديره: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم؟ وها هنا تم الكلام. ثم وصف آلهتهم بالضعف، فقال: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ والمعنى: من لا يقدر على نصر نفسه عمّا يُراد به، فكيف ينصُر غيره؟! قوله تعالى: وَلا هُمْ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار، وهو قول ابن عباس. والثاني: أنهم الأصنام، قاله قتادة. وفي معنى يُصْحَبُونَ أربعة أقوال: أحدها: يُجارُون، رواه العوفي عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: والمعنى: لا يجيرهم منَّا أحدٌ، لأن المجير صاحب لجاره.
والثاني: يُمنعون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: يُنصرون، قاله مجاهد. والرابع: لا يُصحبون بخير، قاله قتادة.
ثم بيّن اغترارهم بالإهمال، فقال: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ يعني أهل مكة حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فاغترُّوا بذلك، أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قد شرحناه في الرعد «١» أَفَهُمُ الْغالِبُونَ أي: مع هذه الحال، وهو نقص الأرض، والمعنى: ليسوا بغالبين، ولكنَّهم المغلوبون. قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ أي: أُخَوِّفكم بِالْوَحْيِ أي: بالقرآن، والمعنى: إنني ما جئتُ به من تلقاء نفسي، إنِما أُمِرْتُ فبلَّغتُ. وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ وقرأ ابن عامر: «ولا تُسْمِعُ» بالتاء مضمومة «الصُّمَّ» نصباً. وقرأ ابن يعمر، والحسن: «ولا يُسْمَعُ» بضم الياء وفتح الميم «الصُّمُّ» بضم الميم. شبَّه الكفار بالصُمّ الذين لا يسمعون نداء مناديهم ووجه التشبيه أن هؤلاء لم ينتفعوا بما سمعوا، كالصُمِّ لا يفيدهم صوت مناديهم. وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ أي: أصابتهم نَفْحَةٌ قال ابن عباس: طرف. وقال الزجاج: المراد أدنى شيء من العذاب، لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا والويل ينادي به كلُّ من وقع في هلكة.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٧]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)
قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ قال الزجاج: المعنى: ونضع الموازين ذوات القسط، والقسط: العدل، وهو مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. قال الفراء: القسط من صفة الموازين وإِن كان موحَّداً، كما تقول: أنتم عدل، وأنتم رضى. وقوله تعالى:
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ و «في يوم القيامة» سواء. وقد ذكرنا الكلام في الميزان في أول الأعراف «٢». فإن قيل:
إِذا كان الميزان واحداً، فما المعنى بذكر الموازين؟ فالجواب: أنه لما كانت أعمال الخلائق توزن وزنةً بعد وزنة، سمِّيت موازين.
قوله تعالى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي: لا يُنْقَص محسن من إِحسانه، ولا يُزاد مسيء على إِساءته وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ أي: وزن حبة. وقرأ نافع: «مثقالُ» برفع اللام. قال الزجاج:
ونصب «مثقالَ» على معنى: وإِن كان العمل مثقال حبة. وقال أبو علي الفارسي: وإِن كان الظُّلامة مثقال حبة، لقوله تعالى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً». قال: ومن رفع، أسند الفعل إِلى المثقال، كما أسند في قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ «٣».
(١) سورة الرعد: ٤١.
(٢) سورة الأعراف: ٨.
(٣) سورة البقرة: ٢٨٠.
قوله تعالى: أَتَيْنا بِها أي: جئنا بها، وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد: «آتينا بها» ممدودة، أي: جازينا بها. قوله تعالى: وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قال الزجاج: هو منصوب على وجهين أحدهما: التّمييز والثاني: الحال.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ فيه ثلاثة أقوال «١» : أحدها: التّوراة التي فرَّق بها بين الحلال والحرام، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون، قاله ابن زيد. والثالث: النصر والنجاة لموسى، وإِهلاك فرعون، قاله ابن السائب. قوله تعالى: وَضِياءً روى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يرى الواو زائدة قال الزجاج: وكذلك قال بعض النّحويين أنّ المعنى: الفرقان ضياء، وعند البصريّين: أن الواو لا تُزاد ولا تأتي إِلا بمعنى العطف، فهي ها هنا مثل قوله تعالى: فِيها هُدىً وَنُورٌ «٢» قال المفسّرون: والمعنى أنهم استضاءوا بالتوراة حتى اهتدَوا بها في دينهم. ومعنى قوله تعالى: وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أنهم يذكرونه ويعملون بما فيه. الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فيه أربعة أقوال: أحدها: يخافونه ولم يرَوه، قاله الجمهور.
والثاني: يخشَون عذابه ولم يروه، قاله مقاتل. والثالث: يخافونه من حيث لا يراهم أحد، قاله الزجاج.
والرابع: يخافونه إِذا غابوا عن أعين الناس كخوفهم له إِذا كانوا بين الناس، قاله أبو سليمان الدمشقي.
ثم عاد إِلى ذِكْر القرآن، فقال: وَهذا يعني: القرآن ذِكْرٌ لمن تذكَّر به، وعظة لمن اتَّعظ مُبارَكٌ أي: كثير الخير أَفَأَنْتُمْ يا أهل مكة لَهُ مُنْكِرُونَ أي: جاحدون؟! وهذا استفهام توبيخ.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٥٨]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي: هداه مِنْ قَبْلُ وفيه ثلاثة أقوال «٣» :
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٢٩: وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية تشتمل على التفرقة بين الحق والباطل، والهدي والضلال، والغيّ والرشاد، والحلال والحرام وعلى ما يحصل نورا في القلوب، وهداية وخوفا وإنابة وخشية ولهذا قال: الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أي: تذكيرا لهم وعظة.
(٢) سورة المائدة: ٤٤.
(٣) قال القرطبي في «تفسيره» ٧/ ٢٧: قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: نُورٌ عَلى نُورٍ قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه ازداد نورا على نور، وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربا وخالقا. وقال ابن كثير رحمه الله ٣/ ٢٢٩: يخبر الله تعالى عن خليله إبراهيم أنه آتاه رشده من قبل أي: من صغره ألهمه الحق والحجّة على قومه، كما قال وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وقوله: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي: وكان أهلا لذلك. والرشد الذي أوتيه من صغره، الإنكار على قومه عبادة الأصنام من دون الله عز وجل. قال الزمخشري في «الكشاف» ٣/ ١٢٢: ومعنى علمه به: أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وأحمدها، حتى أهله لمخالّته ومخالصته. وفي قوله: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان، فما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل، وهم معتقدون أنهم على شيء، وجادّون في نصرة مذهبهم، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم، وكفى أهل التقليد سبة أن عبدة الأصنام منهم.
193
أحدها: من قبل بلوغه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: آتيناه ذلك في العِلْم السابق، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: مِنْ قَبْل موسى وهارون، قاله الضحاك. وقد أشرنا إِلى قصة إِبراهيم في الأنعام «١». قوله تعالى: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي: علمنا أنه موضع لإِيتاء الرُّشد. ثم بيَّن متى آتاه فقال: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ يعني: الأصنام، والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبَّهاً بِخَلْق من خَلْق الله تعالى، وأصله من مثَّلث الشيء بالشيء: إِذا شبَّهته به، وفي قوله تعالى: الَّتِي أَنْتُمْ لَها أي: على عبادتها عاكِفُونَ أي: مقيمون، فأجابوه أنهم رأوا آباءهم يعبدونها فاقتدَوا بهم فأجابهم بأنهم فيما فعلوا وآباءَهم في ضلال مبين، قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ. ينون: أجادٌّ أنتَ، أم لاعب؟! قوله تعالى: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ الكيد: احتيال الكائد في ضرّ المكيد. والمفسرون يقولون: لأكيدنها بالكسر بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا أي: تذهبوا عنها، وكان لهم عيد في كل سنة يخرجون إِليه ولا يخلِّفون بالمدينة أحداً، فقالوا لإِبراهيم: لو خرجتَ معنا إِلى عيدنا أعجبكَ دِيننا، فخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق، قال: إِني سقيم، وألقى نفسه، وقال سِرّاً منهم: «وتالله لأكيدنَّ أصنامكم»، فسمعه رجل منهم، فأفشاه عليه، فرجع إِلى بيت الأصنام، وكانت- فيما ذكره مقاتل بن سليمان- اثنين وسبعين صنماً من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب، فكسرها، ثم وضع الفأس في عنق الصنم الكبير، فذلك قوله: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قرأ الأكثرون: «جُذاذاً» بضم الجيم. وقرأ أبو بكر الصدّيق، وابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، والأعمش، والكسائي: «جِذاذاً» بكسر الجيم. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وأيوب السختياني، وعاصم الجحدري: «جَذاذاً» بفتح الجيم. وقرأ الضحاك، وابن يعمر: «جذاذا» بفتح الجيم من غير ألف. وقرأ معاذ القارئ، وأبو حيوة، وابن وثَّاب: «جُذذاً» بضم الجيم منن غير ألف. قال أبو عبيدة: أي: مستأصَلين، قال جرير:
بَني المهلَّب جَذَّ اللهُ دَابِرَهُم أَمْسَوْا رَمَاداً فلا أصلٌ ولا طَرَفُ «٢»
أي: لم يَبْقَ منهم شيء، ولفظ «جُذاذ» يقع على الواحد والاثنين والجميع من المذكَّر والمؤنَّث.
وقال ابن قتيبة: «جُذاذاً» أي: فُتاتاً، وكلُّ شيء كسرتَه فقد جَذَذْتَه، ومنه قيل للسَّويق: الجذيذ. وقرأ الكسائي: «جِذاذاً» بكسر الجيم على أنه جمع جَذيذ، مثل ثَقيل وثِقال، وخَفيف وخِفاف. والجذيذ بمعنى: المجذوذ، وهو المكسور. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي: كسر الأصنامَ إِلا أكبرها. قال الزّجّاج:
(١) سورة الأنعام: ٧٥.
(٢) البيت في ديوانه: ٣٩٠ و «الكامل» : ٥١٠. وفي «اللسان» : طرف القوم: رئيسهم. [.....]
194
جائز أن يكون أكبرها في ذاته، وجائز أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم إِياه، لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الصنم، ثم فيه قولان: أحدهما: لعلهم يرجعون إِليه فيشاهدونه، هذا قول مقاتل. والثاني: لعلهم يرجعون إِليه بالتهمة، حكاه أبو سليمان الدمشقي. والثاني: أنها ترجع إِلى إِبراهيم. والمعنى: لعلهم يرجعون إِلى دين إبراهيم بوجوب الحجّة عليهم، قاله الزّجّاج.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)
فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إِلى آلهتهم قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي: قد فعل ما لم يكن له فِعْلُه، فقال الذي سمع إِبراهيم يقول: «لأكيدن أصنامكم» : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ قال الفراء: أي يعيبهم تقول للرجل: لئن ذكرتَني لتندمنَّ، تريد: بسوء.
قوله تعالى: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي: بمرأىً منهم «١»، لا تأتُوا به خفْيةً. قال أبو عبيدة:
تقول العرب إِذا أُظهر الأمر وشُهر: كان ذلك على أعين الناس.
قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ فيه ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة. والثاني: يشهدون أنه فعل ذلك، قاله السدي.
والثالث: يشهدون عقابه وما يُصنَع به، قاله محمد بن إِسحاق.
قال المفسرون: فانطلَقوا به إِلى نمرود، فقال له: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب أن تُعبَد معه الصّغار، فكسرها، فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ من فَعَلَه بهم؟! وهذا إِلزام للحُجَّة عليهم بأنهم جماد لا يقدرون على النُّطق.
واختلف العلماء في وجه هذا القول من إِبراهيم عليه السلام على قولين: أحدهما: أنه وإِن كان في صورة الكذب، إِلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له، لا يصلح أن يكون إِلهاً، ومثله قول الملَكين لداود: إِنَّ هذا أَخِي ولم يكن أخاه لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً «٣»، ولم يكن له شيء، فجرى هذا مجرى التّنبيه لداود على ما فعل، أنه هو المراد بالفعل والمَثَل المضروب ومِثْل هذا لا تسمِّيه العرب كذباً. والثاني: أنه من معاريض الكلام فروي عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله تعالى: بَلْ فَعَلَهُ ويقول: معناه: فعله من فعله، ثم يبتدئ كَبِيرُهُمْ هذا. قال الفراء: وقرأ بعضهم: «بل فعله»
(١) قال ابن كثير رحمه الله ٣/ ٢٣١: وقوله: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي: على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلهم، وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقولهم في عبادة هذه الأصنام، التي لا تدفع عن نفسها ضرا.
(٢) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٢٦٢: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ طعنه على آلهتهم ليعلموا أنه يستحق العقاب. قلت: وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد.
(٣) سورة ص: ٢٣.
195
بتشديد اللام، يريد: بل فلعلَّه كبيرهم هذا. وقال ابن قتيبة: هذا من المعاريض، ومعناه: إِن كانوا ينطقون، فقد فعله كبيرهم، وكذلك قوله: إِنِّي سَقِيمٌ «١» أي سأسقم، ومثله: إِنَّكَ مَيِّتٌ «٢» أي:
ستموت، وقوله: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ «٣» قال ابن عباس: لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام، والمعنى: لا تؤاخذني بنسياني، ومن هذا قصة الخصمين إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ»
، ومثله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً «٥»، والعرب تستعمل التعريض في كلامها كثيراً، فتبلغ إِرادتها بوجهٍ هو ألطف من الكشف وأحسن من التصريح. وروي أن قوماً من الأعراب خرجوا يمتارون، فلما صدروا، خالف رجل في بعض الليل إِلى عكْم «٦» صاحبه، فأخذ منه بُرّاً وجعله في عِكْمه، فلما أراد الرحلة وقاما يتعاكمان، رأى عِكْمه يشول، وعِكْم صاحبه يثقل، فأنشأ يقول:
عِكْم تغشَّى بعضَ أعكام القوم لَمْ أَرَ عِكْماً سَارقاً قبل اليوم
فخوَّن صاحبه بوجهٍ هو ألطف من التصريح. قال ابن الأنباري: كلام إِبراهيم كان صدقاً عند البحث، ومعنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم:
(٩٨٣) «كذب إِبراهيم ثلاث كذبات» : قال قولاً يشبه الكذب في الظاهر، وليس بكذب، قال المصنف: وقد ذهب جماعة من العلماء إِلى هذا الوجه، وأنه من المعاريض، والمعاريض لا تُذم، خصوصاً إِذا احتيج إِليها.
(٩٨٤) روى عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ في المعاريض لمندوحة عن
صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٥٧ ومسلم ٢٣٧١ وأبو داود ٢٢١٢ وأحمد ٢/ ٤٠٣- ٤٠٤ والترمذي ٣١٦٦ وابن حبان ٥٧٣٧ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات. ثنتين في ذات الله. قوله: إني سقيم. وقوله: بل فعله كبيرهم هذا. وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة. وكانت أحسن الناس. فقال لها: إن هذا الجبار، إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي. فإنك أختي في الإسلام. فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار. فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها فأتي بها. فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة. فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها. فقبضت يده قبضة شديدة. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرّك. ففعلت. فعاد.
فقبضت أشد من القبضة الأولى. فقال لها مثل ذلك. ففعلت. فعاد. فقبضت أشدّ من القبضتين الأوليين.
فقال: ادعي الله أن يطلق يدي. فلك الله أن لا أضرك. ففعلت. وأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها فقال له:
إنك إنما أتيتني بشيطان. ولم تأتني بإنسان. فأخرجها من أرضي. وأعطها هاجر. قال: فأقبلت تمشي. فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف. فقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا. كفّ الله يد الفاجر. وأخدم خادما. قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء. لفظ مسلم. وأخرجه البخاري ٣٣٥٨ و ٥٠٨٤ والبيهقي ٧/ ٣٦٦ عن أبي هريرة موقوفا.
أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب»
١٠١١ وأبو الشيخ في «الأمثال» ٢٣٠ والحافظ في «الفتح» ١٠/ ٥٩٤ وابن عدي في «الكامل» ٣/ ٩٦ والديلمي من حديث عمران بن حصين، وفيه داود بن الزبرقان قال عنه ابن عدي: هو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، وقال في موضع آخر: لا أعلم أحدا رفعه غير داود اه وقال الذهبي في «المغني» : هو متروك. وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ٨٨٤ عن عمران موقوفا، وعن عمر مثله، فالمرفوع وإن كان ضعيفا إلا أنه يتقوى بالموقوف، والله أعلم، وانظر «المقاصد الحسنة» ٢٢٧.
و «تفسير القرطبي» ٣٦٩٩.
__________
(١) سورة الصافات: ٨٩.
(٢) سورة الزمر: ٣٠.
(٣) سورة الكهف: ٧٤.
(٤) سورة ص: ٢١.
(٥) سورة سبأ: ٢٤.
(٦) في «اللسان» : العكم: العدل ما دام فيه المتاع، وعكم المتاع: شدّه بثوب وهو أن يبسطه ويجعل فيه المتاع ويشدّه، ويسمّى حينئذ عكما.
196
الكذب»، وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: ما يسرُّني أنّ لي بما أعلم من معاريض القول مِثْل أهلي ومالي، وقال النخعي، لهم كلام يتكلَّمون به إِذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم. وقال ابن سيرين: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف.
(٩٨٥) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعجوز: «إنّ الجنّة لا يدخلها العجائز»، أراد قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً «١».
(٩٨٦) وروي عنه صلى الله عليه وسلّم أنه كان يمازح بلالاً، فيقول: «ما أُخت خالك منك» ؟
(٩٨٧) وقال لامرأة: «مَنْ زوجُك» ؟ فسمَّته له، فقال: «الذي في عينيه بياض» ؟
(٩٨٨) وقال لرجل: «إِنا حاملوك على ولد ناقة».
(٩٨٩) وقال العباس: ما ترجو لأبي طالب؟ فقال: «كل خير أرجوه من ربّي».
ضعيف. بهذا اللفظ وذكر الآية. ورد من مرسل الحسن. وله ثلاث علل: الأولى: الإرسال، والثانية:
المبارك بن فضالة غير قوي، والثالثة: مراسيل الحسن واهية لأنه كان يحدث عن كل أحد. أخرجه الترمذي في «الشمائل» ٢٤٠ والبغوي في «الأنوار» ٣٢٠ والبيهقي في «البعث» ٣٨٢ عن ابن فضالة عن الحسن.
- وله شاهد من حديث عائشة: أخرجه الطبراني في «الأوسط» ٥٥٤١ وأبو نعيم في «صفة الجنة» ٣٩١. من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن ابن طارق عن مسعدة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة. واسم طارق عند الطبراني «أحمد» أما عند أبي نعيم «محمد». قال الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ٤١٩ وفيه مسعدة بن اليسع، وهو ضعيف. قلت: بل هو ضعيف جدا. قال الذهبي في «الميزان» ٤/ ٩٨: هالك، كذبه أبو داود، وقال أحمد: خرقنا حديثه منذ دهر.
وأخرجه أبو نعيم في «أخبار أصبهان» ٢/ ١٤٢ والبيهقي في «٣٧٩» وأبو الشيخ في «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلّم» ١٨٦ من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة. وليث ضعيف. وذكر ابن حجر في «تخريج الكشاف» ٤/ ٤٦٢ هذه الطرق وقال: كلها ضعيفة. وله شاهد من حديث أنس. أخرجه ابن الجوزي في «الوفاء» كما في «تخريج الإحياء» ٣/ ١٢٩. قال العراقي: وأسنده ابن الجوزي من حديث أنس بسند ضعيف. الخلاصة: لا يصح هذا الحديث بهذا اللفظ مع ذكر الآية الكريمة على أنه مرفوع، والله أعلم.
لم أره مسندا بعد، فلينظر.
ضعيف، عزاه الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» ٣/ ١٢٩ للزبير بن بكر في كتاب «الفكاهة والمزاح» عن زيد بن أسلم به، وهذا مرسل، فهو ضعيف.
صحيح، أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ٢٦٨ وأبو داود ٤٩٩٨ والترمذي ١٩٩٢ والبغوي في «الأنوار» ٣١٦ من حديث أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يستحمله. فقال: «إنا حاملوك على ولد الناقة» قال: يا رسول الله! وما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وهل تلد الإبل إلا النوق». وإسناده صحيح.
ضعيف. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» ١/ ١٠٠ بسند حسن عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث به مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
__________
(١) سورة الواقعة: ٣٥.
197
(٩٩٠) وكان أبو بكر حين خرج من الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا سأله أحد: مَنْ هذا بين يديك؟
يقول: هادٍ يهديني.
(٩٩١) وكانت امرأة ابن رواحة قد رأته مع جارية له، فقالت له: وعلى فراشي أيضا؟! فجحد، فقالت له: فاقرأ القرآن، فقال:
وفينا رَسُولُ الله يَتْلُو كتابَه إِذا انشقَّ مشهورٌ مِنَ الصُّبْح طالِع
يَبِيتُ يُجَافي جنْبَهُ عن فِراشه إِذا استثقلتْ بالكافرين المَضاجعُ
فقالت: آمنتُ بالله وكذبت بصري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره، فضحك وأعجبه ما صنع.
وعرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري: كيف لبنها؟ قال: احلبْ في أيِّ إِناءٍ شئتَ، قال:
كيف الوِطاء؟ قال: افرش ونم، قال: كيف نجاؤها «١» ؟ قال: إِذا رأيتَها في الإِبل عرفتَ مكانها، علّق سوطك وسر، قال: كيف قوّتها؟ قال: احمل على الحائط ما شئت فاشتراها فلم يَرَ شيئاً مما وصف، فرجع إِليه، فقال: لم أرَ فيها شيئاً مما وصفتَها به، قال: ما كذبتك، قال: أَقِلْني، قال: نعم. وخرج شريح من عند زياد وهو مريض، فقيل له: كيف وجدت الأمير؟ قال: تركتُه يأمر ويَنهى، فقيل له: ما معنى يأمر وينهى؟ قال: يأمر بالوصية، وينهى عن النّوح. وأخذ محمد بن يوسف حجرا المداريّ فقال:
العن علياً، فقال: إِن الأمير أمرني أن ألعن علياً محمد بن يوسف، فالعنوه، لعنه الله. وأمر بعض الأمراء صعصعة بن صوحان بلعن عليّ، فقال: لعن اللهُ من لعن اللهُ ولعن عليٌّ، ثم قال: إِن هذا الأمير قد أبى إِلا أن ألعن علياً، فالعنوه، لعنه الله. وامتحنت الخوارج رجلاً من الشيعة، فجعل يقول: أنا مِنْ عليّ ومِنْ عثمان بريء. وخطب رجل امرأةً وتحته أخرى، فقالوا: لا نزوِّجك حتى تطلِّق امرأتك! فقال: اشهدوا أني قد طلقت ثلاثاً، فزوَّجوه، فأقام مع المرأة الأولى، فادَّعوا أنه قد طلّق، فقال: أما تعلمون أنه كان تحتي فلانة فطلَّقتُها، ثم فلانة فطلَّقتُها. ثم فلانة فطلَّقتُها؟ قالوا: بلى، قال: فقد طلَّقتُ ثلاثاً «٢». وحكي أن رجلاً عثر به الطائف ليلة، فقال له: من أنت؟ فقال:
ضعيف. أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٢/ ٤٨٩ من طريق أبي معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة به مرفوعا، وهو طرف حديث. وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر، واسمه نجيح السندي.
لم أره مسندا بهذا اللفظ.
__________
(١) في «اللسان» : نجأ الشيء: أصابه بالعين. والنّجأة: شدة النظر.
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٠/ ٣٧٨: مسألة: ولو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا. وأراد به الكذب، لم يلزمه شيء. ولو قال: قد طلقتها. وأراد به الكذب، لزمه الطلاق. وقد طلقت. لأن لفظ الطلاق صريح، يقع به الطلاق من غير نية. وإن قال خليتها أو أبنتها افتقر إلى النية لأنه كناية لا يقع به الطلاق من غير نية. وإن قيل له: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم. أو قيل له: امرأتك طالق؟ فقال: نعم. طلقت امرأته، وإن لم ينو. وهذا الصحيح من مذهب الشافعي، واختيار المزني لأن نعم صريح الجواب. والجواب الصريح للفظ الصريح صريح. وإن قيل له: طلّقت امرأتك؟ فقال: قد كان بعض ذلك. ثم قال: إنما أردت أنّي طلقتها في نكاح آخر. دين فيما بينه وبين الله تعالى، فأما في الحكم، فإن لم يكن ذلك وجد منه، لم يقبل، لأنه لا يحتمل ما قاله. وإن كان وجد، فعلى وجهين.
198
أنا ابنُ الذي لا يُنْزَل الدهرَ قِدرُه وإِن نزلتْ يوماً فسَوف تعود
ترى الناسَ أفواجاً إِلى ضوءِ ناره فمنهم قيام حولها وقعود
فظنّ الطّائف أنه ابن بعض أشراف البصرة، فلما أصبح سأل عنه، فإذا هو ابن باقلّائي. ومثل هذا كثير.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٤ الى ٦٧]
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧)
قوله تعالى: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فيه قولان: أحدهما: رجع بعضهم إِلى بعض. والثاني:
رجع كلٌّ منهم إِلى نفسه متفكِّراً.
قوله تعالى: فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ فيه خمسة أقوال: أحدها: حين عبدتم من لا يتكلم، قاله ابن عباس. والثاني: حين تتركون آلهتكم وحدها، وتذهبون، قاله وهب بن منبه. والثالث: في عبادة هذه الأصاغر مع هذا الكبير، روي عن وهب أيضاً. والرابع: لإِبراهيم حين اتهمتموه والفأس في يد كبير الأصنام، قاله ابن إِسحاق، ومقاتل. والخامس: أنتم ظالمون لإِبراهيم حين سألتموه، وهذه أصنامكم حاضرة، فاسألوها، ذكره ابن جرير.
قوله تعالى: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة:
«نُكِّسوا» برفع النون وكسر الكاف مشددة. وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر، وعاصم الجحدري:
«نَكَسوا» بفتح النون والكاف مخفَّفة. قال أبو عبيدة: «نُكِسوا» : قُلِبوا، تقول: نكستُ فلاناً على رأسه إِذا قهرته وعلوته.
ثم في المراد بهذا الانقلاب ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أدركتْهم حيرةٌ، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، قاله قتادة. والثاني: رجعوا إِلى أول ما كانوا يعرفونها به من أنها لا تنطق، قاله ابن قتيبة.
والثالث: انقلبوا على إبراهيم يحتجّون عليه بعد أن أقرّوا به ولاموا أنفسهم في تهمته، قاله أبو سليمان.
وفي قوله: لَقَدْ عَلِمْتَ إِضمار «قالوا»، وفي هذا إِقرار منهم بعجز ما يعبدونه عن النُّطق، فحينئذ توجهت لإِبراهيم الحُجَّة، فقال موبّخاً لهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ أي: لا يرزقكم ولا يعطيكم شيئاً وَلا يَضُرُّكُمْ إِذا لم تعبدوه، وفي هذا حثٌّ لهم على عبادة من يملك النفع والضُّر، أُفٍّ لَكُمْ قال الزجاج: معناه: النتن لكم فلمّا لزمتهم الحجة غضبوا، فقالوا: حَرِّقُوهُ. وذُكر في التفسير أن نمرود استشارهم، بأيِّ عذاب أعذِّبه، فقال رجل: حرِّقوه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
(١) قال الطبري رحمه الله ٩/ ٤١: وقال بعض أهل العربية: معنى ذلك: ثم رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. وإنما اخترنا القول الذي قلنا في معنى ذلك، لأن نكس الشيء على رأسه: قلبه على رأسه، وتصير أعلاه أسفله، ومعلوم أن القوم لم يقلبوا على رؤوسهم، وأنهم إنما نكست حجتهم، فأقيم الخبر عنهم، مقام الخبر عن حجتهم. فنكس الحجة لا شك، إنما هو احتجاج المحتجّ على خصمه بما هو حجة لخصمه.

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٨ الى ٧٣]

قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
قوله تعالى: وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ أي: بتحريقه، لأنه يَعيبها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي: ناصريها.
الإِشارة إِلى القصة
ذكر أهل التفسير أنهم حبسوا إِبراهيم عليه السلام في بيت ثم بنَوا له حَيْراً طول جداره ستون ذراعاً إِلى سفح جبل منيف، ونادى منادي الملك: أيها الناس احتطبوا لإِبراهيم، ولا يتخلفنَّ عن ذلك صغير ولا كبير، فمن تخلَّف أُلقي في تلك النار، ففعلوا ذلك أربعين ليلة، حتى إِن كانت المرأة لتقول: إِن ظفرتُ بكذا لأحتطبنّ لنار إبراهيم، حتى إذا كاد الحطب يساوي رأس الجدار سدوا أبواب الحَيْر وقذفوا فيه النار، فارتفع لهبا، حتى إن الطائر ليمرُّ بها فيحترق من شدة حرِّها، ثم بنَوا بنياناً شامخاً، وبنَوا فوقه منجنيقاً، ثم رفعوا إِبراهيم على رأس البنيان، فرفع إِبراهيم رأسه إِلى السماء، فقال: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربَّنا إِبراهيمُ يُحرَق فيكَ، فائذن لنا في نصرته فقال: أنا أعلمُ به، وإِن دعاكم فأغيثوه فقذفوه في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وقيل: ست وعشرين، فقال:
«حسبي الله ونعم الوكيل». فاستقبله جبريل، فقال: يا إِبراهيم ألكَ حاجة؟ قال: أمّا إِليك، فلا، قال جبريل: فسل ربَّك، فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» «١»، فقال الله عزّ وجلّ: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ، فلم تبق نار على وجه الأرض يومئذ إِلا طُفئت وظنَّت أنها عُنيت. وزعم السدي أن جبريل هو الذي ناداها. وقال ابن عباس: لو لم يُتبع بردها سلاماً لمات إِبراهيم من بردها، قال السدي:
فأخذت الملائكة بضَبْعَي «٢» إِبراهيم فأجلسوه على الأرض، فإذا عين من ماءٍ عذْب، وورد أحمر، ونرجس، قال كعب ووهب: فما أحرقت النار من إِبراهيم إِلا وَثاقه، وأقام في ذلك الموضع سبعة أيام، وقال غيرهما: أربعين أو خمسين يوماً، فنزل جبريل بقميص من الجنة وطنفسة «٣» من الجنة، فألبسه القميص، وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه. وإِن آزر أتى نمرود فقال: أئذن لي أن أُخرِج عظام إِبراهيم فأدفنها، فانطلق نمرود ومعه الناس، فأمر بالحائط فنُقب، فإذا إبراهيم في روضة يهتزّ وثيابه تندى، وعليه القميص وتحته الطنفسة والملَك إِلى جنبه، فناداه نمرود: يا إِبراهيم إِن إلهك الذي بلغتْ قُدرته هذا لكبيرٌ، هل تستطيع أن تخرج؟ قال: نعم، فقام إِبراهيم يمشي حتى خرج، فقال: مَن الذي رأيتُ معك؟ قال: ملَك أرسله إِليَّ ربِّي ليؤنسني، فقال نمرود: إِني مقرِّب لإِلهك قرباناً لِما رأيت من
(١) هذا من الإسرائيليات، وهو معارض بكتاب الله فإن الله أمر عباده أن يسألوه في السراء والضراء. [.....]
(٢) في «اللسان» : الضّبع: وسط العضد بلحمه يكون للإنسان وغيره.
(٣) في «اللسان» الطّنفسة: النّمرقة فوق الرجل، وقيل: البساط الذي له خمل رقيق.
قدرته، فقال: إِذن لا يقبل الله منكَ ما كنتَ على دينك، فقال: يا إِبراهيم، لا أستطيع ترك ملكي، ولكن سوف أذبح له، فذبح القربان وكفَّ عن إِبراهيم.
قال المفسرون: ومعنى: «كُوني بَرْداً» أى: ذات برد، «وسلاماً» أي: سلامة. وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً وهو التحريق بالنار فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وهو أن الله تعالى سلَّط البعوض عليهم حتى أكل لحومهم وشرب دماءهم، ودخلت واحدة في دماغ نمرود حتى أهلكته، والمعنى: أنهم كادوه بسوء. فانقلب السوء عليهم. قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ أي: من نمرود وكيده وَلُوطاً وهو ابن أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وكان قد آمن به، فهاجرا من أرض العراق إِلى الشام. وكانت سارة مع ابراهيم في قول وهب. وقال السدي: إِنما هي إبنة ملك حرَّان، لقيها إِبراهيم فتزوجها على أن لا يغيرها، وكانت قد طعنت على قومها في دينهم.
فأما قوله تعالى: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها، ففيها قولان: أحدهما: أنها أرض الشام، وهذا قول الأكثرين. وبَرَكتها: أنّ الله تعالى بعث أكثر الأنبياء منها، وأكثر فيها الخصب والثمار والأنهار.
والثاني: أنها مكة، رواه العوفي عن ابن عباس. والأول أصح.
قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ يعني: إِبراهيم إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً. وفي معنى النافلة قولان:
أحدهما: أنها بمعنى الزيادة، والمراد بها: يعقوب خاصة، فكأنه سأل واحداً، فأُعطي اثنين، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والفراء. والثاني: أن النافلة بمعنى العطية، والمراد بها: إِسحاق ويعقوب، وهذا مذهب مجاهد، وعطاء. قوله تعالى: وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ يعني: إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب، قال أبو عبيدة: «كُلٌّ» يقع خبره على لفظ الواحد، لأن لفظه لفظ الواحد، ويقع خبره على لفظ الجميع، لأن معناه معنى الجميع.
قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً أي: رؤوساً يُقتدى بهم في الخير يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي: يَدْعون الناس إِلى ديننا بأمرنا إِيَّاهم بذلك وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ قال ابن عباس: شرائع النبوَّة. وقال مقاتل: الأعمال الصالحة، وَإِقامَ الصَّلاةِ قال الزجاج: حذفُ الهاء من إِقامة الصلاة قليلٌ في اللغة، تقول: أقام إِقامة، والحذف جائز، لأنّ الإضافة عوض من الهاء.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
قوله تعالى: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً قال الزجاج: انتصب «لوط» بفعل مضمر، لأن قبله فعلاً، فالمعنى: وأوحينا إِليهم وآتينا لوطاً. وذكر بعض النحويين أنه منصوب على «واذكر لوطاً»، وهذا جائز لأن ذِكْر إِبراهيم قد جرى، فحُمل لوط على معنى: واذكر. قال المفسرون: لمَّا هاجر لوط مع إِبراهيم، نزل إِبراهيم أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة أو نحو ذلك من إِبراهيم، فبعثه الله نبيّاً. فأما «الحُكم» ففيه قولان: أحدهما: أنه النبوَّة، قاله ابن عباس. والثاني: الفهم والعقل، قاله مقاتل، وقد ذكرنا فيه أقوالاً في سورة يوسف «١». وأمّا «القرية» ها هنا، فهي سدوم، والمراد أهلها،
(١) سورة يوسف: ٢٢.
والخبائث: أفعالهم المنكَرة، فمنها إِتيان الذكور، وقطع السبيل، إِلى غير ذلك مما قد ذكره الله عزّ وجلّ عنهم في مواضع «١». قوله تعالى: وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي: بانجائه من بينهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
قوله تعالى: وَنُوحاً المعنى: واذكر نوحاً، وكذلك ما يأتيك من ذِكْر الأنبياء إِذْ نادى أي:
دعا على قومه مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قبل إِبراهيمَ ولوطٍ. فأما الكرب العظيم! فقال ابن عباس: هو الغرق وتكذيب قومه. قوله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ أي: منعناه منهم أن يصلوا إِليه بسوءٍ، وقيل:
«من» بمعنى «على».
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ الى ٨٢]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
قوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ وفيه قولان: أحدهما: أنه كان عنباً، قاله ابن مسعود، ومسروق، وشريح. والثاني: كان زرعاً، قاله قتادة. إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ قال ابن قتيبة:
أي: رَعَتْ ليلاً، يقال: نَفَشَت الغنمُ بالليل، وهي إِبل نَفَشٌ ونُفَّاشٌ ونِفَاشٌ، والواحد: نَافِشٌ، وَسَرَحَتْ وسَرَبَتْ بالنهار. قال قتادة: النَّفَش بالليل، والهَمَل بالنهار. وقال ابن السكِّيت: النَّفَش: أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راعٍ.
الإِشارة إِلى القصة
ذكر أهل التفسير أن رجلين كانا على عهد داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فتفلَّتت الغنم فوقعت في الحرث فلم تُبق منه شيئاً، فاختصما إِلى داود، فقال لصاحب الحرث: لك رقاب الغنم، فقال سليمان: أوَ غير ذلك؟ قال: ما هو؟ قال: ينطلق أصحاب الحرث بالغنم فيصيبون من ألبانها ومنافعها، ويُقبل أصحاب الغَنَم على الكَرْم، حتى إِذا كان كليلة نفشت فيه الغَنَم، دفع هؤلاء إِلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إِلى هؤلاء كَرْمهم، فقال داود: قد أصبتَ القضاءَ، ثم حكم بذلك، فذلك قوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: داود وسليمان، فذكرهما بلفظ الجمع، لأن الاثنين جمع، هذا قول الفراء. والثاني: أنهم داود وسليمان والخصوم، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن أبي عبلة: «وكنا لحكمهما» على التثنية.
ومعنى «شاهدِين» : أنه لم يَغِب عنّا من أمرهم شيء. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ يعني: القضيّة والحكومة.
(١) في سورة هود: ٧٨، والحجر: ٦٩.
202
وإِنما كنى عنها، لأنه قد سبق ما يدل عليها من ذِكْر الحُكم، وَكُلًّا منهما آتَيْنا حُكْماً وقد سبق بيانه. قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه، وعَذَر داود باجتهاده.

فصل:


قال أبو سليمان الدمشقي: كان قضاء داود وسليمان جميعاً من طريق الاجتهاد، ولم يكن نصّاً، إِذ لو كان نصاً ما اختلفا. قال القاضي أبو يعلى: وقد اختلف الناس في الغنم إِذا نفشت ليلاً في زرع رجل فأفسدتْه، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان «١»، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ضمان عليه ليلاً ونهاراً، إِلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها، فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا، لأن داود حكم بالضمان، وشرع مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لنا ما لم يَثْبُت نَسْخُه. فإن قيل: فقد ثبت نسخ هذا الحكم، لأن داود حكم بدفع الغَنَم إِلى صاحب الحرث، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشتْ غنمه في حرث رجل شيءٌ من ذلك قيل: الآية تضمنت أحكاماً، منها وجوب الضمان وكيفيته، فالنسخ حصل على كيفيَّته، ولم يحصل على أصله، فوجب التعلُّق به.
(٩٩٢) وقد روى حرام بن محيِّصة عن أبيه: أن ناقةً للبراء دخلت حائط رجل فأفسدتْ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
صحيح. أخرجه أحمد ٥/ ٤٣٦ وابن أبي شيبة ٩/ ٤٣٥- ٤٣٦ وابن الجارود ٧٩٦ والبيهقي ٨/ ٣٤٢ من طريق ابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب وحرام بن محيصة به. وأخرجه مالك ٢/ ٧٤٧ والشافعي ٢/ ١٠٧ والطحاوي ٣/ ٢٠٣ والدارقطني ٣/ ١٥٦ وابن ماجة ٢٣٣٢ كلهم عن الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة به. وهو مرسل صحيح. وأخرجه الشافعي ٢/ ١٠٧ وأحمد ٤/ ٢٩٥ وأبو داود ٣٥٧٠ والطحاوي ٣/ ٢٠٣ والحاكم ٢/ ٤٧ والدارقطني ٣/ ١٥٥ والبيهقي ٨/ ٣٤١ من طرق عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء، وفيه إرسال لكن يشهد لمرسل ابن المسيب المتقدم، ويرقى به إلى درجة الحسن. وورد موصولا، أخرجه عبد الرزاق ١٨٤٣٧ وأحمد ٥/ ٤٣٦ وأبو داود ٣٥٦٩ والدارقطني ٣/ ١٥٤ والبيهقي ٨/ ٣٤٢ كلهم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه به. ورجاله ثقات، لكن أعله ابن عبد البر كما نقل ابن التركماني في «الجوهر النقي» ٨/ ٣٤٢ بأنه أنكر على عبد الرزاق ذكره- عن أبيه- ونقل ابن عبد البر عن أبي داود قوله: لم يتابع عبد الرزاق على قوله: عن أبيه. والصحيح أنه توبع، فقد أخرجه الدارقطني ٣/ ١٥٥ من طريق الشافعي عن أيوب بن سويد عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام عن أبيه.
الخلاصة: ورد موصولا ومرسلا، ومرسل ابن المسيب وحده يحتج به الأئمة الأربعة. كيف وقد توبع، تابعه حرام بن محيصة، وورد أيضا موصولا، فهو صحيح إن شاء الله تعالى، وقد صححه ابن العربي.
- وانظر ما ذكره الشيخ شعيب في «الإحسان» ١٣/ ٣٥٤- ٣٥٧. وانظر «أحكام القرآن» ١٤٩٧ بتخريجنا.
__________
(١) جاء في «المغني» مسألة: «وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها، وما أفسدت من ذلك نهارا، لم يضمنوه». قال العلامة الموفق في شرحه: يعني إذا لم تكن يد أحد عليها، فإن كان صاحبها معها أو غيره فعليه ضمان ما أتلفته من نفس أو مال، وإن لم تكن يد أحد عليها، فعلى مالكها ضمان ما أفسدته من الزرع ليلا دون النهار. وهذا قول مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز، وقال الليث يضمن مالكها ما أفسدته ليلا أو نهارا بأقل الأمرين من قيمتها أو قدر ما أتلفته. وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه بحال اه ملخصا.
203
قوله تعالى: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ تقدير الكلام: وسخَّرْنا الجبال يسبِّحن مع داود.
قال أبو هريرة: كان إِذا سبَّح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذِّكْر، وقال غيره: كان إِذا وجد فترةً، أمر الجبال فسبَّحت حتى يشتاق هو فيسبِّح. قوله تعالى: وَكُنَّا فاعِلِينَ أي: لذلك. قال الزجاج:
المعنى: وكنّا نقدر على ما نريده.
قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ في المراد باللَّبوس قولان: أحدهما: الدُّروع، وكانت قبل ذلك صفائح، وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد، قاله قتادة. والثاني: أن اللَّبوس:
السلاح كلُّه من درع إِلى رمح، قاله أبو عبيدة. وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «لُبوس» بضم اللام.
قوله تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «لِيُحْصِنَكُمْ» بالياء.
وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: «لِتُحْصِنَكُمْ» بالتاء. وروى أبو بكر عن عاصم: «لِنُحْصِنَكُمْ» بالنون خفيفة. وقرأ أبو الدرداء، وأبو عمران الجوني، وأبو حيوة: «لِتُحَصِّنَكُمْ» بتاء مرفوعة وفتح الحاء وتشديد الصاد. وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس: «لِتَحَصُّنِكُمْ» بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو المتوكل، ومجاهد: «لِنُحَصِّنَكُمْ» بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها. وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وابن يعمر، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «لِيُحْصِنَّكُمْ» بياء مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون. فمن قرأ بالياء، ففيه أربعة أوجه: قال أبو علي الفارسي: أن يكون الفاعل اسم الله، لتقدُّم معناه ويجوز أن يكون اللباس، لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضرباً منه، ويجوز أن يكون داود، ويجوز أن يكون التعليم، وقد دل عليه «علَّمْناه». ومن قرأ بالتاء، حمله على المعنى، لأنه الدرع. ومن قرأ بالنون، فلتقدمُّ قوله: «وعلَّمناه». ومعنى لِتُحْصِنَكُمْ: لِتُحْرِزَكم وتمنعكم (مِنْ بأسكم) يعني: الحرب.
قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران الجوني، وأبو حيوة الحضرمي: «الرِّياحُ» بألف مع رفع الحاء. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: بالألف ونصب الحاء، والمعنى: وسخَّرْنا لسليمان الريح عاصِفَةً أي: شديدة الهبوب تَجْرِي بِأَمْرِهِ يعني: بأمر سليمان إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي أرض الشام، وقد مَرَّ بيان بركتها في هذه السّورة «١» والمعنى:
أنها كانت تسير به إِلى حيث شاء، ثم تعود به إِلى منزله بالشام.
قوله تعالى: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ علمنا أن ما نُعطي سليمان يدعوه إِلى الخضوع لربِّه. قوله تعالى: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ قال أبو عبيدة: «مَنْ» تقع على الواحد والاثنين والجميع من المذكَّر والمؤنَّث. قال المفسرون: كانوا يغوصون في البحر، فيستخرجون الجواهر، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ قال الزجاج: معناه: سوى ذلك: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يُفسدوا ما عملوا. وقال غيره:
أن يخرجوا عن أمره.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)
(١) سورة الأنبياء: ٧٢.
204
قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أي: دعا ربَّه أَنِّي وقرأ أبو عمران الجوني: «إِني» بكسر الهمزة، مَسَّنِيَ الضُّرُّ وقرأ حمزة: «مَسَّنِيْ» بتسكين الياء، أي: أصابني الجَهْد، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي: أكثرهم رحمة، وهذا تعريض منه بسؤال الرحمة إِذ أثنى عليه بأنه الأرحم وسكت.
الإِشارة إِلى قصته
ذكر أهل التفسير «١» أن أيوب عليه السلام كان أغنى أهل زمانه، وكان كثير الإِحسان. فقال إِبليس: يا رب سلِّطني على ماله وولده- وكان له ثلاثة عشر ولداً- فإن فعلتَ رأيتَه كيف يُطيعني ويَعصيكَ، فقيل له: قد سلَّطْتُكَ على ماله وولده، فرجع إِبليس فجمع شياطينه ومردته، فبعث بعضهم إِلى دوابِّه ورعاته، فاحتملوها حتى قذفوها في البحر، وجاء إِبليس في صورة قيِّمه، فقال: يا أيوب ألا أراك تصلِّي وقد أقبلتْ ريح عاصف فاحتملت دوابَّك ورعاتها حتى قذفَتْها في البحر؟ فلم يردَّ عليه شيئاً حتى فرغ من صلاته، ثم قال: الحمد لله الذي رزقني ثم قبله مِنِّي، فانصرف خائباً، ثم أرسل بعض الشياطين إِلى جنانه وزروعه، فأحرقوها، وجاء فأخبره، فقال مثل ذلك، فأرسل بعض الشياطين فزلزلوا منازل أيوب وفيها ولده وخدمه، فأهلكوهم، وجاء فأخبره، فحمد الله، وقال لإِبليس وهو يظنه قيِّمه في ماله: لو كان فيكَ خير لقبضكَ معهم، فانصرف خائباً، فقيل له: كيف رأيتَ عبدي أيوب؟ قال: يا ربِّ سلِّطني على جسده فسوف ترى، قيل له قد سلَّطْتُكَ على جسده فجاء فنفخ في إِبهام قدميه، فاشتعل فيه مثل النار، ولم يكن في زمانه أكثر بكاءً منه خوفاً من الله تعالى، فلما نزل به البلاء لم يبكِ مخافة الجزع، وبقي لسانُه للذِّكر، وقلبه للمعرفة والشُّكر، وكان يرى أمعاءه وعروقه وعظامه، وكان مرضه أنه خرج في جميع جسده ثآليل كأليات الغنم ووقعت به حكّة لا يملكها، فحكَّ بأظفاره حتى سقطت، ثم بالمسوح، ثم بالحجارة، فأنتن جسمه وتقطَّع، وأخرجه أهل القرية فجعلوا له عريشاً على كُناسة، ورفضه الخلق سوى زوجته، واسمها رحمة بنت إِفراييم بن يوسف بن يعقوب، فكانت تختلف إِليه بما يصلحه. وروى أبو بكر القرشي عن الليث بن سعد، قال: كان ملك يظلم الناس، فكلَّمه في ذلك جماعة من الأنبياء، وسكت عنه أيوب لأجل خيل كانت له في سلطانه، فأوحى الله إِليه: تركتَ كلامَه من أجل خيلك؟! لأطيلنَّ بلاءك. واختلفوا في مدة لبثه في البلاء على أربعة أقوال:
(٩٩٣) أحدها: ثماني عشرة سنة، رواه أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم.
غريب. أخرجه البزار ٢٣٥٧ «كشف» وأبو يعلى ٣٦١٧ وابن حبان ٢٨٩٨ والحاكم ٢/ ٥٨١ والطبراني «الطوال» ٤٠ وأبو نعيم ٣/ ٣٧٤- ٣٧٥ من حديث أنس، ورجاله رجال البخاري ومسلم، وقال الحاكم على شرطهما!، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي ١٣٨٠٠: رجال البزار رجال الصحيح اه. وقال أبو نعيم: غريب من حديث الزهري لم يروه إلا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم. ومع ذلك استغربه ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٢٣٩.
وانظر «البداية والنهاية» ١/ ٢٢٢- ٢٢٣ و «الإحسان» ٢٨٩٨. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٦٣٦ بتخريجنا، والراجح وقفه، والله أعلم.
__________
(١) هذا الخبر بطوله، من أساطير الإسرائيليين وترّهاتهم وافتراءاتهم، وكل ذلك باطل، وليعلم أن علماء العقيدة قد نصوا على أن الأنبياء لا يمرضون أمراضا منفرة تحطّ من قدرهم، فهذه أخبار لو لم يذكرها المفسرون لكان أولى، فتنبه والله أعلم.
205
والثاني: سبع سنين، قاله ابن عباس، وكعب، ويحيى بن أبي كثير. والثالث: سبع سنين وأشهر، قاله الحسن. والرابع: ثلاث سنين، قاله وهب.
وفي سبب سؤاله العافية ستة أقوال: أحدها: أنه اشتهى إِداماً، فلم تُصبه امرأته حتى باعت قرونا من شعرها، فلما علم ذلك قال: «مسَّني الضُّر»، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أن الله تعالى أنساه الدعاء مع كثرة ذكره الله، فلما انتهى أجل البلاء، يسّر الله له الدعاء، فاستجاب له، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن نفراً من بني إِسرائيل مرُّوا به، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه هذا إِلا بذنْب عظيم، فعند ذلك قال: «مسّني الضّر»، قاله نوف البكاليّ. فقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان له أخوان، فأتياه يوماً فوجدا ريحاً «١»، فقالا: لو كان الله علم منه خيراً ما بلغ به كلّ هذا، فما سمع شيئاً أشدَّ عليه من ذلك، فقال: اللهم إِن كنتَ تعلم أنِّي لم أَبِت ليلةً شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدِّقني، فصُدِّق وهما يسمعان، ثم قال: اللهم إِن كنتَ تعلم أنِّي لم ألبس قميصاً وأنا أعلم مكان عارٍ فصدِّقني، فصُدِّق وهما يسمعان، فخرَّ ساجداً، ثم قال: اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي، فكشف الله عزّ وجلّ ما به. والرابع: أن إِبليس جاء إِلى زوجته بسخلة، فقال: ليذبح أيوب هذه لي وقد برأ، فجاءت فأخبرته، فقال: لئن شفاني الله لأجلدنَّك مائة جلدة، أمرتني أن أذبح لغير الله؟! ثم طردها عنه، فذهبتْ، فلما رأى أنه لا طعام له ولا شراب ولا صديق، خرَّ ساجداً وقال: «مسَّني الضُّر»، قاله الحسن. والخامس: أن الله تعالى أوحى إِليه وهو في عنفوان شبابه: إِني مبتليك، قال: يا رب، وأين يكون قلبي؟ قال: عندي، فصبَّ عليه من البلاء ما سمعتم، حتى إِذا بلغ البلاء منتهاه، أوحى إِليه أني معافيكَ، قال: يا رب، وأين يكون قلبي؟ قال: عندك، قال: «مسَّني الضُّر»، قاله إِبراهيم بن شيبان القرميسي فيما حدّثنا به عنه. والسادس: أن الوحي انقطع عنه أربعين يوماً، فخاف هجران ربِّه، فقال:
«مسَّني الضُّر»، ذكره الماوردي.
فإن قيل: أين الصبر، وهذا لفظ الشكوى؟ فالجواب: أن الشكوى إِلى الله لا تنافي الصبر، وإِنما المذموم الشكوى إلى الخلق، ألم تسمع قول يعقوب: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
«٢». قال سفيان بن عيينة: وكذلك من شكا إِلى الناس، وهو في شكواه راضٍ بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعاً، ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم لجبريل في مرضه:
(٩٩٤) «أجدني مغموماً» و «أجدني مكروبا».
ضعيف. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» ٢/ ١٩٨- ١٩٩ والبيهقي في «الدلائل» ٧/ ٢٦٧- ٢٦٨ من طريقين عن جعفر بن محمد عن أبيه، وفي إسناد ابن سعد من لم يسمّ، وهو مرسل. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» ٧/ ٢١٠- ٢١١ من طريق الحسن بن علي عن محمد بن علي مرسلا. وأخرجه الطبراني في «الكبير» ٢٨٩٠ من طريق علي بن الحسن عن أبيه. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٩/ ٣٤ ح ١٤٢٦١ وقال: وفيه عبد الله بن ميمون القداح، وهو ذاهب الحديث.
__________
(١) هذا مفترى، قبح الله من وضعه، وهو من افتراءات اليهود.
(٢) سورة يوسف: ٨٦.
206
(٩٩٥) وقوله: «بل أنا وا رأساه».
قوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ يعني: أولاده وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أحيا له أهله بأعيانهم، وآتاه مثلهم معهم في الدنيا، قاله ابن مسعود، والحسن، وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس: كانت امرأته ولدت له سبعة بنين وسبع بنات، فنُشِروا له، وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات. والثاني: أنهم كانوا قد غُيِّبوا عنه ولم يموتوا، فآتاه إِياهم في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة، رواه هشام عن الحسن. والثالث: آتاه الله أجور أهله في الآخرة، وآتاه مثلهم في الدنيا، قاله نوف، ومجاهد. والرابع: آتاه أهله ومثلهم معهم في الآخرة، حكاه الزجاج.
قوله تعالى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي: فعلنا ذلك به رحمةً مِنْ عندنا، وَذِكْرى أي: عِظةً لِلْعابِدِينَ قال محمد بن كعب: من أصابه بلاء فليذكر ما أصاب أيوب، فليقل: إِنه قد أصاب من هو خيرٌ مني.
قوله تعالى: وَذَا الْكِفْلِ اختلفوا هل كان نبيّاً، أم لا؟ على قولين «١» : أحدهما: أنه لم يكن نبيّاً، ولكنه كان عبداً صالحاً، قاله أبو موسى الأشعري، ومجاهد. ثم اختلف أرباب هذا القول في علَّه تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال: أحدها: أن رجلاً كان يصلِّي كلَّ يوم مائة صلاة فتوفي، فكفل بصلاته، فسمِّي: ذا الكفل، قاله أبو موسى الأشعري. والثاني: أنه تكفل للنبيّ بقومه أن يكفيه أمرهم ويقيمه ويقضي بينهم بالعدل ففعل، فسمِّي: ذا الكفل، قاله مجاهد. والثالث: أن ملِكاً قَتل في يوم ثلاثمائة نبيٍّ، وفرَّ منه مائة نبيٍّ، فكفلهم ذو الكفل يطعمهم ويسقيهم حتى أُفلتوا، فسمِّي ذا الكفل، قاله ابن السائب. والقول الثاني: أنه كان نبيّاً، قاله الحسن، وعطاء. قال عطاء: أوحى الله تعالى إِلى نبيّ من الأنبياء: إِني أُريد قبض روحك، فاعرض مُلكك على بني إِسرائيل، فمن تكفَّل لك بأنه يصلِّي الليل
صحيح. أخرجه البخاري ٥٦٦٦ والبيهقي في «الدلائل» ٧/ ١٦٨ من حديث عائشة. وأخرجه ابن ماجة ١٤٦٥ وأحمد ٦/ ٢٢٨ وعبد الرزاق ٩٧٥٤ وابن حبان ٦٥٨٦ والبيهقي ٣/ ٣٩٦ وفي «الدلائل» ٧/ ١٦٨ من وجه آخر من حديث عائشة أيضا. وقال البوصيري في «الزوائد» إسناده رجال ثقات.
وتمامه في البخاري: قال القاسم بن محمد: قالت عائشة وا رأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك» فقالت عائشة: وا ثكلاه والله إني لأظنك تحبّ موتي ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرّسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنا وا رأساه لقد هممت- أو أردت- أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون، أو يتمنّى المتمنّون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون- أو يدفع الله ويأبى المؤمنون-».
__________
(١) قال الطبري رحمه الله ٩/ ٧٤: وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبي الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه به بما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبا لقومه، لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم، وقد أمره الله تعالى بالمقام بين أظهرهم، ليبلغهم رسالته، ويحذّرهم بأسه وعقوبته، على تركهم الإيمان به، والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه، ولولا أنه قد كان أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه، ويصفه بالصفة التي وصفه بها، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلّم وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ.
207
لا يفتر، ويصوم النهار لا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب، فادفع مُلككَ إِليه، ففعل ذلك، فقام شابّ فقال: أنا أتكفَّل لك بهذا، فتكفَّل به، فوفى، فشكر اللهُ له ذلك، ونبَّأه، وسمِّي: ذا الكفل.
(٩٩٦) وقد ذكر الثعلبي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الكفل: «أنه كان رجلاً لا ينزع عن ذنب، وأنه خلا بامرأة ليفجر بها، فبكت، وقالت: ما فعلتُ هذا قطّ، فقام عنها تائباً، ومات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: قد غفر الله للكفل» والحديث معروف، وقد ذكرتُه في «الحدائق»، فجعله الثعلبي أحد الوجوه في بيان ذي الكفل، وهذا غلط، لأن ذلك اسمه الكفل، والمذكور في القرآن: ذو الكفل، ولأن الكفل مات في ليلته التي تاب فيها، فلم يمض عليه زمان طويل يعالج فيه الصبر عن الخطايا، وإِذا قلنا: إِنه نبيّ، فإن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الحال. وذكرت هذا لشيخنا أبي الفضل بن ناصر، فوافقني، وقال: ليس هذا بذاك.
قوله تعالى: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أي: على طاعة الله وترك معصيته، وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا في هذه الرّحمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الجنة، وقاله ابن عباس. والثاني: النبوَّة، قاله مقاتل. والثالث: النّعمة والموالاة، حكاه أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
قوله تعالى: وَذَا النُّونِ يعني: يونس بن متّى. والنون: السمكة أُضيف إِليها لابتلاعها إِياه.
قوله تعالى: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً قال ابن قتيبة: المُغاضَبة: مُفاعَلة، وأكثر المفاعَلة من اثنين، كالمناظرة
ضعيف. أخرجه الترمذي ٢٤٩٦ وأحمد ٢/ ٢٣ والحاكم ٤/ ٢٥٤ ح ٧٦٥١ من حديث ابن عمر. صححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وكذا صححه أحمد شاكر في «المسند» ! مع أن مداره على سعد مولى طلحة، وهو مجهول كما في «التقريب».
وأخرجه ابن حبان ٣٨٧ عن عبد الله الرازي عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، وهذا إسناد ظاهره الحسن، لكنه معلول. وقال الترمذي عقب روايته: حديث حسن، ورواه غير واحد عن الأعمش فرفعوه.
ورواه بعضهم فلم يرفعه، ورواه أبو بكر بن عياش فأخطأ فيه، فقال: عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، وهو غير محفوظ اه. وهو كما قال الترمذي رحمه الله. وهذا الحديث إنما يعرف بسعد مولى طلحة، وهو مجهول. وهناك علة أخرى، وهي الاضطراب في المتن. ففي «مسند أحمد» و «سنن الترمذي» و «المستدرك»، «كان الكفل»، وعند ابن حبان «كان ذو الكفل» وعند ابن حبان «سمعته أكثر من عشرين مرة» وعند غيره «سبع مرات» وهذه الرواية تدل على وهنه. فلو كرره النبي صلى الله عليه وسلّم عشرين مرة أو سبع مرات لرواه عدد من الصحابة. ولحمله جماعة من التابعين. كيف ولم يروه سوى رجل مجهول. فالخبر واه، وقد استغربه ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٢٤١ لكنه ذكر أنه لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة، والصواب أن الترمذي قد رواه كما تقدم. وقال الحافظ ابن كثير في «تاريخه» ١/ ٢٢٦: غريب جدا. وفي إسناده نظر، فإن سعدا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد. ووثقه ابن حبان ولم يرو عنه سوى عبد الله الرازي اه. وقد ورد نحو هذه القصة في خبر الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار. ومما يدل على وهن هذا الحديث أن الكفل هذا أو «ذا الكفل» مات في الليلة التي تاب فيها، فكيف ذلك والآية وصفت إياه بالصبر؟! فتنبه والله أعلم. وانظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية بتخريجي، وانظر «تفسير الشوكاني» ١٦٣٧ بتخريجنا. والله الموفق.
208
والمجادَلة والمخاصَمة، وربما تكون من واحد، كقولك: سافرت، وشارفت الأمر، وهي ها هنا من هذا الباب. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «مُغْضَباً» باسكان الغين وفتح الضاد من غير ألف.
واختلفوا في مغاضبته لمن كانت؟ على قولين «١» : أحدهما: أنه غضب على قومه، قاله ابن عباس، والضحاك. وفي سبب غضبه عليهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله تعالى أوحى إِلى نبي يقال له:
شعيا: أن ائت فلاناً الملك، فقل له يبعث نبيّاً أميناً إِلى بني إِسرائيل، وكان قد غزا بني إِسرائيل ملك، وسبا منهم الكثير، فأراد النبي والملك أن يبعثا يونس إِلى ذلك الملك ليكلِّمه حتى يرسلَهم، فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله باخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سماني لك؟ قال: لا، قال: فهاهنا غيري من الأنبياء، فألَحُّوا عليه، فخرج مغاضباً للنبيّ والملك ولقومه، هذا مروي عن ابن عباس وقد زدناه شرحا في سورة يونس «٢». والثاني: أنه عانى من قومه أمراً صعباً من الأذى والتكذيب، فخرج عنهم قبل أن يؤمنوا ضجراً، وما ظنَّ أن هذا الفعل يوجب عليه ما جرى من العقوبة، ذكره ابن الأنباري. وقد روي عن وهب بن منبه، قال: لما حُملت عليه أثقالُ النبوَّة، ضاق بها ذرعاً ولم يصبر، فقذفها من يده وخرج هارباً. والثالث: أنه لمَّا أوعدهم العذاب، فتابوا ورُفع عنهم، قيل له: ارجع إِليهم، فقال: كيف أرجع فيجدوني كاذباً؟ فانصرف مغاضباً لقومه، عاتباً على ربِّه. وقد ذكرنا هذا في سورة يونس.
والثاني: أنه خرج مغاضباً لربِّه، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، والشعبي، وعروة، وقال: المعنى:
مغاضباً من أجل ربِّه، وإِنما غضب لأجل تمرُّدهم وعصيانهم. وقال ابن قتيبة: كان مَغِيظاً عليهم لطول ما عاناه من تكذيبهم، مشتهيا أن ينزل العذاب لهم فعاقبه الله على كراهيته العفو عن قومه.
قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وقرأ يعقوب: «يقدّر عليه» بضم الياء وتشديد الدال وفتحها. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو الجوزاء، وابن أبي ليلى: «يُقْدَرَ» بياء مرفوعة مع سكون القاف وتخفيف الدال وفتحها. وقرأ أبو عمران الجوني: «يَقْدِرَ» بياء مفتوحة وسكون القاف وكسر الدال خفيفة. وقرأ الزهري، وابن يعمر، وحميد بن قيس: «نُقَدِّرَ» بنون مرفوعة وفتح القاف وكسر الدال وتشديدها. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن لن نقضي عليه بالعقوبة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك. قال الفراء: معنى الآية: فظن أن لن نقدر عليه ما قدرنا من العقوبة، والعرب تقول: قَدَر، بمعنى: قَدَّر، قال أبو صخر:
ولا عَائداً ذاكَ الزمانُ الذي مضى تباركتَ مَا تَقْدِرْ يَكُنْ ولكَ الشُّكرُ «٣»
أراد: ما تقدّر، وهذا مذهب الزّجّاج.
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٧٦: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي، قول من قال: عني به:
فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيّق عليه عقوبة له على مغاضبة ربه وذلك من قولهم قدرت على فلان: إذا ضيقت عليه، كما قال الله جل ثناؤه وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ.
ووافقه ابن كثير في «تفسيره» ٣/ ٢٤٢.
(٢) سورة يونس: ٩٨.
(٣) البيت في «شرح أشعار الهذليين» ٢/ ٩٥٨.
209
والثاني: فظن أن لن نضيِّق عليه، قاله عطاء. قال ابن قتيبة: يقال فلان مُقَدَّر عليه، ومُقَتَّر عليه، ومنه قوله تعالى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ «١» أي ضيَّق عليه فيه. قال النقاش: والمعنى فظن أن يضيقه عليه الخروج، فكأنّه ظنّ أنّ الله تعالى قد وسّع عليه إِن شاء أن يقيم وإِن شاء أن يخرج، ولم يؤذّن له في الخروج. والثالث: أنّ المعنى: أفظنّ أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه، رواه عوف عن الحسن. وقال ابن زيد وسليمان التيمي: المعنى أفظنَّ أن لن نَقْدِر عليه فعلى هذا الوجه يكون استفهاماً قد حُذفت ألفه وهذا الوجه يدل على أنه من القدرة، ولا يتصوّر إِلا مع تقدير الاستفهام، ولا أعلم له وجهاً إِلا أن يكون استفهام إِنكار تقديره: ما ظنّ عجزنا فأين يهرب منا؟! قوله تعالى: فَنادى فِي الظُّلُماتِ فيها ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنه ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل، قاله سعيد بن جبير وقتادة والأكثرون. والثاني: أن حوتاً جاء فابتلع الحوت الذي هو في بطنه فنادى في ظلمة حوت ثم في ظلمة حوت ثم في ظلمة البحر، قاله سالم بن أبي الجعد.
والثالث: أنها ظلمة الماء وظلمة مِعى السمكة وظلمة بطنها، قاله ابن السائب.
(٩٩٧) وقد روى سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إِلا فرج الله عنه، كلمة أخي يونس: فنادى في الظلمات أن لا إِله إِلا أنتَ، سُبْحانَكَ إِني كُنْتُ من الظالمين». قال الحسن: وهذا اعتراف من يونس بذنْبه وتوبة من خطيئته.
قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي: أجبناه وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي: من الظلمات وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ إِذا دعونا. وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ: «نُجّي المؤمنين» بنون واحدة مشددة الجيم قال الزجاج: وهذا لَحْنٌ لا وجه له، وقال أبو علي الفارسي: غلط الراوي عن عاصم، ويدل على هذا إِسكانه الياء من «نُجّي» ونصب «المؤمنين» ولو كان على ما لم يُسم فاعله ما سكّن الياء، ولرفع «المؤمنين».
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٩ الى ٩٤]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤)
حسن. أخرجه النسائي في «اليوم والليلة» ٦٦٠ وابن السني ٣٤٥ بإسناد ضعيف. وأخرجه الترمذي ٣٥٠٥ والحاكم ١/ ٥٠٥ من حديث سعد بن أبي وقّاص، من وجه آخر، وإسناده حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في صحيح سنن الترمذي، وورد من وجه آخر مطولا وله قصة أخرجه أحمد ١٤٦٤ وقال الهيثمي ١١١٧٦: رجاله رجال الصحيح سوى إبراهيم بن محمد، وهو ثقة. فهذه الطرق تتأيد بمجموعها. فالحديث حسن إن شاء الله. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٦٣٨ بتخريجنا.
__________
(١) سورة الفجر: ١٦. [.....]
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٧٧: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات، ولا شك أنه قد عني بإحدى الظلمات: بطن الحوت وبالأخرى: ظلمة البحر، وفي الثالثة اختلاف، ولا دليل يدلّ على أي ذلك من أي، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل.
210
قوله تعالى: لا تَذَرْنِي فَرْداً أي: وحيداً بلا ولد وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أي: أفضل من بقي حياً بعد ميت. قوله تعالى: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ فيه ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أُصلحت للولد بعد أن كانت عقيماً، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة. والثاني: أنه كان في لسانها طول، وهو:
البذاء، فأُصلحت، قاله عطاء وقال السدي: كانت سليطة فكفَّ عنه لسانها. والثالث: أنه كان خُلُقها سيّئا، قاله محمّد بن كعب. قوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي: يبادرون في طاعة الله. وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: زكريا، وامرأته، ويحيى. والثاني: جميع الأنبياء المذكورون في هذه السورة. قوله تعالى: وَيَدْعُونَنا وقرأ ابن مسعود، وابن محيصن: «ويدعونا» بنون واحدة.
قوله تعالى: رَغَباً وَرَهَباً أي: رغباً فيما عندنا، ورهباً منا وقرأ الأعمش: «رُغْباً ورُهْباً» بضم الراءين وجزم الغين والهاء، وهما لغتان مثل النُّحْل، والنَحَل، والسُّقْم، والسَّقَم وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي: متواضعين.
قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فيه قولان: أحدهما: أنه مخرج الولد، والمعنى منعته مما لا يحل. وإِنما وُصِفَتْ بالعفاف لأنها قُذفت بالزنا. والثاني: أنه جيب درعها. ومعنى الفرج في اللغة:
كل فرجة بين شيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق، فهو يسمى فرجاً. وهذا أبلغ في الثناء عليها، لأنها إِذا منعت جيب درعها، فهي لنفسها أمنع.
قوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيها أي: أمرنا جبريل، فنفخ في درعها، فأجرينا فيها روح عيسى كما تجري الريح بالنفخ. وأضاف الروح إِليه إِضافة الملك، للتشريف والتخصيص وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً قال الزجاج: لما كان شأنهما واحداً، كانت الآية فيهما آية واحدة، وهي ولادة من غير فحل.
وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: «آيتين» على التثنية.
قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ قال ابن عباس: المراد بالأمّة ها هنا: الدّين، وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم وهو معنى قول مقاتل. والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله أبو سليمان الدمشقي. ثم ذكر أهل الكتاب، فذمَّهم بالاختلاف، فقال تعالى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي: اختلفوا في الدِّين، فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي: شيئاً من الفرائض وأعمال البِرِّ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي: لا نجحد ما عمل، قاله ابن قتيبة، والمعنى: أنه يقبل منه ويثاب عليه
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٧٩: والصواب أن يقال: إنّ الله أصلح لزكريا زوجه بأن جعلها ولودا حسنة الخلق، لأن كل ذلك من معاني إصلاحه إياها، ولم يخصص الله جل ثناؤه بذلك في كتابه ولا على لسان رسوله، فهو على العموم. واختار ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٢٤٤ الأول وقال: وهو الأظهر من السياق.
211
وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ ذلك بأمر الحفظة أن يكتبوه ليجازيه به.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٥ الى ١٠٠]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩)
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم:
«وحرام» بألف. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «وحِرْم» بكسر الحاء من غير ألف، وهما لغتان. يقال: حِرْم وحرام. وقرأ معاذ القارئ وأبو المتوكّل وأبو عمران الجوني: «وحرم» بفتح الحاء وسكون الراء من غير ألف والميم مرفوعة منوَّنة. وقرأ سعيد بن جبير: «وحَرْمَ» بفتح الحاء وسكون الراء وفتح الميم وكسر الراء من غير تنوين ولا ألف. وقرأ سعيد بن المسيب وأبو مجلز وأبو رجاء: «وحَرُمَ» بفتح الحاء وضم الراء ونصب الميم من غير ألف. وفي معنى قوله تعالى: وَحَرامٌ قولان:
أحدهما: واجب، قاله ابن عباس، وأنشدوا في معناه:
فَإنَّ حَرَاماً لاَ أَرَى الدَّهْرَ بَاكِياً عَلَى شَجْوِه إِلاَّ بَكَيْتُ على عَمْرو «١»
أي: واجب. والثاني: أنه بمعنى العزم، قاله سعيد بن جبير. وقال عطاء: حتم من الله، والمراد بالقرية: أهلها.
ثم في معنى الآية أربعة أقوال «٢» : أحدها: واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: واجب عليها أنها إِذا أُهلكت لا ترجع إِلى دنياها، هذا قول قتادة وقد روي عن ابن عباس نحوه. والثالث: أن «لا» زائدة والمعنى: حرام على قرية مهلكة أنهم يرجعون إِلى الدنيا، قاله ابن جريج، وابن قتيبة في آخرين. والرابع: أن الكلام متعلق بما قبله، لأنه لما قال: «فلا كفران لسعيه» أعلمنا أنه قد حرَّم قبول أعمال الكفار فمعنى الآية: وحرام على قرية أهلكناها أن يُتقبَّل منهم عمل، لأنهم لا يتوبون، هذا قول الزجاج.
فإن قيل: كيف يصح أن يحرم على الإِنسان ما ليس من فعله، ورجوعهم بعد الموت ليس إليهم؟
(١) البيت لعبد الرحمن بن جمانة المحاربي الجاهلي. كما في «اللسان» - حرم-.
ونسب للخنساء في «البحر المحيط» ٦/ ٣١٤ و «تفسير القرطبي» ١١/ ٢٩٧ ولا يوجد البيت في ديوانها.
(٢) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٢٩٨: قال النحاس: والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجلّه ما رواه عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها قال وجب أنهم لا يرجعون قال لا يتوبون. قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بيّن في اللغة وشرحه: أن معنى حرّم الشيء حظر ومنع منه، كما أن معنى أحل أبيح ولم يمنع منه. وقيل: في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منها عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون، قاله الزجاج وأبو علي، وهذا هو معنى قول ابن عباس.
212
فالجواب: أنّ المعنى: منعوا من ذلك فلا يقدرون عليه كما يُمنع الإِنسان من الحرام وإِن قدر عليه، فكان التشبيه بالتحريم للحالتين من حيث المنع.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وقرأ ابن عامر: «فُتِّحت» بالتشديد، والمعنى:
فُتح الردم عنهم وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ قال ابن قتيبة: من كل نشَز من الأرض وأكَمة يَنْسِلُونَ من النَّسَلان: وهو مقاربة الخطو مع الإِسراع كمشي الذئب إِذا بادر، والعَسَلان مثله. وقال الزجاج:
الحَدَبُ: كل أَكَمَة، و «يَنْسِلون» يُسرعون. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وعاصم الجحدري: «يَنْسُلون» بضم السين. وفي قوله تعالى: وَهُمْ قولان: أحدهما: أنه إِشارة إِلى يأجوج ومأجوج، قاله الجمهور. والثاني: إِلى جميع الناس، فالمعنى: وهم يُحشَرون إِلى الموقف، قاله مجاهد. والأول أصح.
فإن قيل: أين جواب «حتى» ؟ ففيه قولان: أحدهما: أنه قوله تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ والواو في قوله تعالى: «واقترب» زائدة، قاله الفراء. قال: ومثله: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «١» وقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ «٢»، المعنى: ناديناه. وقال عبد الله بن مسعود:
الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج، كالحامل المتمّ، لا يدري أهلها متى تفجؤُهم بولدها ليلاً أو نهاراً. والثاني: أنه قول محذوف في قوله: يا وَيْلَنا، فالمعنى: حتى إِذا فُتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد، قالوا: يا ويلنا. قال الزجاج: هذا قول البصريين. فأما الْوَعْدُ الْحَقُّ فهو القيامة.
قوله تعالى: فَإِذا هِيَ في «هي» أربعة أقوال: أحدها: أن «هي» كناية عن الأبصار، والأبصار تفسير لها، كقول الشاعر:
لعمرو أبيها لا تقول ظعينتي ألا فرّ عنّي مَالكُ بن أبِي كَعْبِ
فذكر الظعينة، وقد كنى عنها في «لعمرو أبيها». والثاني: أن «هي» ضمير فصل وعماد، ويصلح في موضعها «هو»، ومثله قوله: إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ «٣» وقوله: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ «٤»، وأنشدوا:
بثوبٍ وَدينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ فهَل هو مرفوع بما ها هنا رأْس
ذكرهما الفراء. والثالث: أن يكون تمام الكلام عند قوله: «هي» على معنى: فإذا هي بارزة واقفة، يعني: من قربها، كأنها آتية حاضرة، ثم ابتدأ فقال: شاخِصَةٌ، ذكره الثعلبي. والرابع: أن «هي» كناية عن القصة، والمعنى: القصة أن أبصارهم شاخصة في ذلك اليوم، ذكره علي بن أحمد النيسابوري.
قال المفسرون: تشخص أبصار الكفار من هول يوم القيامة، ويقولون: يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا أي:
في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي: عن هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أنفسنا بكفرنا ومعاصينا. ثم خاطب أهل مكة، فقال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام حَصَبُ جَهَنَّمَ وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو العالية، وعمر بن عبد العزيز: «حَطَب» بالطاء. وقرأ ابن عباس، وعائشة وابن
(١) سورة الزمر: ٧٣.
(٢) سورة الصافات: ١٠٣ و ١٠٤.
(٣) سورة النمل: ٩.
(٤) سورة الحج: ٤٦.
213
السميفع: «حَضَب» بالضاد المعجمة المفتوحة. وقرأ عروة، وعكرمة، وابن يعمر، وابن أبي عبلة:
«حَضْب جهنم» بإسكان الضاد المعجمة. وقرأ أبو المتوكل، وأبو حيوة، ومعاذ القارئ «حِضْب» بكسر الحاء مع تسكين الضاد المعجمة. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وابن محصين: «حصب» بفتح الحاء ويصاد غير معجمة ساكنة. قال الزجاج: من قرأ «حصَب جهنم» فمعناه: كلُّ ما يرمى به فيها، ومن قرأ «حطب» فمعناه: ما تُوقَد به، ومن قرأ بالضاد المعجمة، فمعناه: ما تهيج به النار وتُذْكى به، قال ابن قتيبة: الحصَب: ما أُلقي فيها، وأصله من الحَصْباء، وهو الحصى، يقال: حصبتُ فلاناً إِذا رميتَه حَصْباً، بتسكين الصاد، وما رَمَيْتَ به فهو حَصَب، بفتح الصاد.
قوله تعالى: أَنْتُمْ يعني: العابدين والمعبودين لَها وارِدُونَ أي: داخلون. لَوْ كانَ هؤُلاءِ يعني: الأصنام آلِهَةً على الحقيقة ما وَرَدُوها فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إِشارة إِلى الأصنام، والمعنى: لو كانوا آلهةً ما دخلوا النار. والثاني: أنه إِشارة إِلى عابديها، فالمعنى: لو كانت الأصنام آلهة، منعت عابديها دخول النار. والثالث: أنه إِشارة إِلى الآلهة وعابديها، بدليل قوله تعالى:
وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ يعني: العابد والمعبود.
قوله تعالى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ قد شرحنا معنى الزفير في سورة هود «١» وفي علَّة كونهم لا يسمعون ثلاثة أقوال:
(٩٩٨) أحدها: أنه يوضع في مسامعهم مسامير من نار، ثم يُقذَفون في توابيت من نار مقفلة عليهم، رواه أبو أُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث طويل. وقال ابن مسعود: إِذا بقي في النار مَنْ يخلَّد فيها جُعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحدهم أن في النار أحداً يعذَّب غيرُه.
والثاني: أن السماع أُنْسٌ، والله لا يحب أن يؤنسَهم، قاله عون بن عمارة.
والثالث: إِنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنّم، قاله أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠١ الى ١٠٧]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)
لم أقف عليه، وهو واه، فالمتن منكر، لا يصح مرفوعا. وورد عن سويد بن غفلة موقوفا، أخرجه البيهقي في «البعث» ٥٩٢. وورد عن ابن مسعود قوله أيضا، وهو اللفظ الآتي. أخرجه الطبري ٢٤٨٢٩.
الخلاصة: المرفوع لا يصح، والصحيح موقوف.
__________
(١) سورة هود: ١٠٦.
214
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى (٩٩٩) سبب نزولها أنه لما نزلت: «إِنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم» شَقَّ ذلك على قريش، وقالوا: شتم آلهتنا، فجاء ابن الزّبعرى، فقال: ما لكم؟ قالوا: شتم آلهتنا، قال: وما قال؟
فأخبروه، فقال: ادعوه لي، فلمّا دعي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: يا محمد، هذا شيء لآلهتنا خاصة، أو لكل من عُبد من دون الله؟ قال: «لا، بل لكل من عُبد من دون الله»، فقال ابن الزِّبعرى: خُصمْتَ وربِّ هذا البيت، ألستَ تزعم أن الملائكة عباد صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيراً عبد صالح، فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة، وهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً، فضج أهل مكة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال الحسين بن الفضل: إِنما أراد بقوله: وَما تَعْبُدُونَ الأصنام دون غيرها، لأنه لو أراد الملائكة والناس، لقال: «ومَنْ» وقيل: «إِنَّ» بمعنى: «إِلاَّ»، فتقديره: إِلا الذين سبقت لهم مِنّا الحسنى، وهي قراءة ابن مسعود، وأبي نهيك، فإنهما قرءا: «إِلا الذين». وروي عن عليّ بن أبي طالب أنه قرأ هذه الآية، فقال: أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن.
وفي المراد «بالحسنى» قولان: أحدهما: الجنة، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: السعادة، قاله ابن زيد. قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها أي: عن جهنم، وقد تقدم ذكرها مُبْعَدُونَ والبعد: طول المسافة، والحسيس: الصوت تسمعه من الشيء إِذا مَرَّ قريباً منك، قال ابن عباس: لا يسمع أهل الجنة حسيس أهل النار إِذا نزلوا منازلهم من الجنة.
قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وقرأ أبو رزين وقتادة، وابن أبي عبلة، وابن محيصن، وأبو جعفر الشيزري عن الكسائي: «لا يُحْزِنُهُم» بضم الياء وكسر الزاي.
وفي الفزع الأكبر أربعة أقوال: أحدها: أنه النفخة الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس وبهذه النفخة يقوم الناس من قبورهم، ويدل على صحة هذا الوجه قوله تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ.
والثاني: أنه إِطباق النار على أهلها، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث:
أنه ذبح الموت بين الجنة والنار، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال ابن جريج. والرابع: أنه حين يؤمر بالعبد إِلى النار، قاله الحسن البصري.
وفي مكان تلقّي الملائكة لهم قولان: أحدهما: إِذا قاموا من قبورهم، قاله مقاتل. والثاني: على أبواب الجنة، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: هذا يَوْمُكُمُ فيه إِضمار: «يقولون» هذا يومكم الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فيه
أخرجه الواحدي ٦١٦ والطبراني ١٢/ ١٥٣ عن ابن عباس، وفيه عاصم بن بهدلة، وهو صدوق يخطئ.
وأخرجه الطبري ٢٤٨٣٥ مطولا عن ابن إسحاق مرسلا. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٥١: وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير، لأن الآية إنما نزلت خطابا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعا وتوبيخا لعابديها، ولهذا قال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ فكيف يورد على المسيح والعزير ونحوهما ممن له عمل صالح، ولم يرض بعبادة من عبده، وعوّل ابن جرير في «تفسيره» في الجواب على أن «ما» لما لا يعقل عند العرب. وقد أسلم ابن الزبعرى بعد ذلك.
215
الجنة. قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ وقرأ أبو العالية، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر: «تُطْوى» بتاء مضمومة «السماءُ» بالرفع وذلك بمحو رسومها، وتكدير نجومها، وتكوير شمسها، كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قرأ الجمهور: «السِّجِلِّ» بكسر السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، ومحبوب عن أبي عمرو: «السِّجْلِ» بكسر السين وإسكان الجيم خفيفة. وقرأ أبو السّمّال كذلك، إِلا أنه فتح الجيم. قوله تعالى: لِلْكُتُبِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
«للكتاب». وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «للكتب» على الجمع.
وفي السّجل أربعة أقوال «١» : أحدها: أنه مَلك، قاله علي بن أبي طالب، وابن عمر، والسدي.
(١٠٠٠) والثاني: أنه كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.
والثالث: أن السجل بمعنى: الرجل، روى أبو الجوزاء عن ابن عباس، قال: السجل: هو الرجل. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: وقد قيل: «السجل» بلغة الحبشة: الرجل.
والرابع: أنه الصحيفة. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والفراء وابن قتيبة.
وقرأت على شيخنا أبي منصور، قال: قال أبو بكر، يعني- ابن دريد-: السجل: الكتاب، والله أعلم ولا ألتفت إِلى قولهم: إِنه فارسي معرب، والمعنى: كما يُطوى السجل على ما فيه من كتاب. و «اللام» بمعنى «على». وقال بعض العلماء: المراد بالكتاب: المكتوب، فلما كان المكتوب ينطوي بانطواء
باطل، أخرجه أبو داود ٢٩٣٥ والنسائي ٣٥٥ والطبري ٢٤٨٤٩ والبيهقي ١٠/ ١٢٦ كلهم عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس به. وهذا إسناد ضعيف يزيد بن كعب مجهول، قال الذهبي في «الميزان» لا يدرى من ذا أصلا. وأبو الجوزاء أوس بن عبد الله ثقة لكنه يرسل كثيرا، ولم يصرّح بسماع أو تحديث. وأخرجه ابن عدي ٧/ ٦٦٢ والبيهقي ١٠/ ١٢٦ والطبراني ٢/ ١٧٠ ح ١٢٧٩٠ من طريق يحيى بن عمرو بن مالك عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا.
لأجل يحيى بن عمرو، فقد كذبه حماد بن زيد. وأخرجه النسائي ٣٥٦ عن نوح عن عمر بن مالك به، وهو منقطع بين نوح وعمرو، ولعل نوحا أسقطه عمدا. وبكل حال الخبر واه جدا وليس بشيء. أخرجه الخطيب ٨/ ١٧٥ من حديث حمدان بن سعيد عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر به. وهذا خير باطل لا أصل له، والحمل فيه على حمدان بن سعيد، فقد اتهمه الذهبي بهذا الحديث، فقال: أتى بخبر كذب اه.
ومما يدل على أنه كذب هو كون من فوقه رجال البخاري ومسلم. فلو كان هذا الحديث عن نافع أو عبيد الله لرواه مالك والبخاري وغيرهم من الأئمة. لكنه إسناد مصنوع مركب. وقد حكم بوضع هذا الحديث كل من الإمام المزي والذهبي وابن كثير وسبقهم الطبري. وليس في الصحابة من اسمه «السجل» وإن أورده أبو نعيم وابن مندة فإنهما يرويان الموضوع وكتبهما مشحونة بذلك، وممن حكم بوضعه شيخ الإسلام ابن تيمية، ووافقه الإمام ابن القيم. راجع عون المعبود ٨/ ١٥٤ وتفسير ابن كثير ٣/ ٢٥٢ و «تفسير الشوكاني» ١٦٤٧ و ١٦٤٨ و ١٦٤٩ بتخريجنا.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٩٥: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب: قول من قال: السّجل في هذا الموضع: الصحيفة، لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، ولا يعرف لنبينا كاتب كان اسمه السجل، ولا في الملائكة ملك ذلك اسمه. وكتّاب النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا معروفين. ووافقه ابن كثير وقال: وقد صدق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث.
216
الصحيفة، جعل السجل كأنه يطوي الكتاب.
ثم استأنف، فقال تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الخلق ها هنا مصدر، وليس بمعنى المخلوق. وفي معنى الكلام أربعة أقوال:
أحدها: كما بدأناهم في بطون أُمَّهاتهم حفاةً عُراةً غُرلاً، كذلك نعيدهم يوم القيامة.
(١٠٠١) روي عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يحشر الناس يوم القيامة عراةً حفاة غرلا كما خلقوا، ثم قال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وإِلى هذا المعنى ذهب مجاهد.
والثاني: أن المعنى: إِنا نُهلك كل شيء كما كان أول مرة، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن السماء تمطر أربعين يوماً كمني الرجال، فينبتون بالمطر في قبورهم، كما ينبتون في بطون أُمَّهاتهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أن المعنى: قُدرتنا على الإِعادة كقُدرتنا على الابتداء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَعْداً قال الزجاج: هو منصوب على المصدر، لأن قوله تعالى: «نعيده»
بمعنى:
وعدنا هذا وعداً، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي: قادرين على فعل ما نشاء. وقال غيره: إِنا كنا فاعلين ما وَعَدْنا.
قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ فيه أربعة أقوال «١» :
أحدها: أن الزَّبور جميع الكتب المنزَلة من السماء، و «الذِّكْر» : أُمُّ الكتاب الذي عند الله، قاله سعيد بن جبير في رواية، ومجاهد، وابن زيد، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية ابن جبير، فإنه قال: الزّبور: التّوراة والإِنجيل والقرآن، والذِّكر: الذي في السماء. والثاني: أن الزبور: الكتب، والذِّكر: التوراة، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن الزبور: القرآن، والذِّكْر: التوراة والإِنجيل، قاله سعيد بن جبير في رواية. والرابع: أن الزبور: زبور داود، والذِّكْر: ذِكْر موسى، قاله الشعبي.
وفي الأرض المذكورة ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أرض الجنة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال الأكثرون. والثاني: أرض الدنيا، وهو منقول عن ابن عباس أيضاً. والثالث: الأرض المقدسة، قاله ابن السّائب.
صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٤٩ و ٤٦٢٥ و ٤٦٢٦ و ٤٧٤٠ ومسلم ٢٨٦٠ ح ٥٨ والترمذي ٢٤٢٥ والنسائي ٤/ ١١٤ و ١١٧ وأحمد ١/ ٢٢٣ و ٢٢٩ و ٢٣٥ و ٢٥٣ والدارمي ٢/ ٣٢٦ وأبو يعلى ٢٥٧٨ من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا». ثم قرأ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَعْداً عَلَيْنا، إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ
وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم. وإن أناسا من أصحابي أخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي، أصحابي. فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول لكم كما قال العبد الصالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ إلى قوله الْحَكِيمُ.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله ٩/ ٩٨: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في ذلك: ما قاله سعيد بن جبير ومجاهد، ومن قال بقولهما في أن معناه: ولقد كتبنا في الكتب من بعد أم الكتاب الذي كتب الله كل ما هو كائن فيه، قبل خلق السموات والأرض، وذلك أن الزبور هو الكتاب. يقال منه: زبرت الكتاب وزبرته: إذا كتبته، وإن كل كتاب أنزله الله إلى نبي من أنبيائه فهو ذكر.
217
وفي قوله تعالى: يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية: ترث أُمَّة محمد أرض الدنيا بالفتوح. والثاني: بنو إِسرائيل، قاله ابن السائب. والثالث: أنه عامّ في كل صالح، قاله بعض فقهاء المفسرين.
قوله تعالى: إِنَّ فِي هذا يعني: القرآن لَبَلاغاً أي: لَكِفاية والمعنى: أن من اتَّبع القرآن وعمل به، كان القرآن بلاغه إِلى الجنة. وقوله تعالى: لِقَوْمٍ عابِدِينَ قال كعب: هم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم الذين يصلُّون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قال ابن عباس: هذا عامّ للبَرِّ والفاجر، فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به صُرفت عنه العقوبة إِلى الموت والقيامة. وقال ابن زيد: هو رحمة لمن آمن به خاصّة.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٨ الى ١١٢]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ قال ابن عباس: فهل أنتم مخلِصون له العبادة؟ قال أهل المعاني: هذا استفهام بمعنى الأمر.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: أَعْرَضُوا ولم يؤمنوا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ في معنى الكلام قولان: أحدهما: نابذتُكم وعاديتُكم وأعلمتُكم ذلك، فصرتُ أنا وأنتم على سواءٍ قد استوينا في العلم بذلك، وهذا من الكلام المختصر، قاله ابن قتيبة. والثاني: أعلمتكم بالوحي إِليَّ لتستووا في الإِيمان به، قاله الزجاج. قوله تعالى: وَإِنْ أَدْرِي أي: وما أدري أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ بنزول العذاب بكم. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وهو ما يقولونه للنبيّ صلى الله عليه وسلّم مَتى هذَا الْوَعْدُ «١»، وما تَكْتُمُونَ إِسرارُهم أن العذاب لا يكون.
قوله تعالى: لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ في هاء «لَعَلَّه» قولان «٢» : أحدهما: أنها ترجع إِلى ما آذنهم به، قاله الزجاج. والثاني: إِلى العذاب فالمعنى: لعل تأخير العذاب عنكم فتنة، قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدّمشقي. ومعنى الفتنة ها هنا: الاختبار، وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي: تستمتعون إلى انقضاء آجالكم.
وقل رَبِّ وروى حفص عن عاصم: قالَ رَبِّ احْكُمْ قرأ أبو جعفر: «ربُّ احكم» بضم الباء.
(١) سورة يس: ٤٨.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٥٥: وقوله: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ، أي: هو واقع لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده، وقوله وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي: وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين. قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم، ومتاع إلى أجل مسمّى.
وحكاه عن ابن عباس والله أعلم. قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق وقوله وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ على ما يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك والله المستعان عليكم في ذلك.
218
وروى زيد عن يعقوب: «ربِّيَ» بفتح الياء «أَحْكَمُ» بقطع الهمزة وفتح الكاف ورفع الميم. ومعنى «احكم بالحق» أي: بعذاب كفار قومي الذي نزوله حقٌّ، فحكَم عليهم بالقتل في يوم بدر وفيما بعده من الأيام والمعنى على هذا: افصل بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق. ومعنى عَلى ما تَصِفُونَ أي: من كذبكم وباطلكم. وقرأ ابن عامر، والمفضل عن عاصم: «يصفون» بالياء. فإن قيل: فهل يجوز على الله أن يحكُم بغير الحق؟ فالجواب: أن المعنى: احكم بحكمك الحق، كأنه استعجل النّصر عليهم، والله أعلم بالصواب.
219
Icon