تفسير سورة الحج

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الحج من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الحج
قال ابن عباس في أظهر الروايتين : هي مكية إلا قوله تعالى :( هذان خصمان اختصموا في ربهم )( ١ ) وآيتين بعد هذه الآية، وقوله تعالى :( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. . ) ( ٢ ) الآية، وعن ابن عباس في رواية أخرى : أن هذه السورة مدنية إلا آيات فيها نزلت بمكة.
١ - الحج: ١٩..
٢ - الحج: ٣٩..

قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم﴾ أَي: احْذَرُوا عَن عُقُوبَته بِطَاعَتِهِ، وَيُقَال: اتَّقوا ربكُم أَي: اتَّقوا جَمِيع المناهي: وفيهَا الشّرك وَغَيره.
وَقَوله: ﴿إِن زَلْزَلَة السَّاعَة﴾ الزلزلة شدَّة الْحَرَكَة على حَال هائلة، وَاخْتلف القَوْل فِي هَذِه الزلزلة، فَذكر عَلْقَمَة وَالشعْبِيّ: أَنَّهَا قبل يَوْم الْقِيَامَة، وَذكر ابْن عَبَّاس الْحسن وَقَتَادَة وَالسُّديّ وَغَيرهم: أَنَّهَا عِنْد قيام السَّاعَة، وَهَذِه القَوْل أصح الْقَوْلَيْنِ لما نذكرهُ من الْخَبَر من بعد.
وَقَوله: ﴿شَيْء عَظِيم﴾ أَي: أَمر عَظِيم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم ترونها﴾ يَعْنِي: السَّاعَة.
وَقَوله: ﴿تذهل﴾ أَي: تغفل وتشتغل، وَفِيه تسهو وتنسى، قَالَ الشَّاعِر فِي الذهول.
(أَطَالَت بك الْأَيَّام حَتَّى نسيتهَا كَأَنَّك عَن يَوْم الْقِيَامَة ذاهل)
وَقَالَ عبد الله بن رَوَاحَة بَين يَدي النَّبِي:
416
﴿مُرْضِعَة عَمَّا أرضعت وتضع كل ذَات حمل حملهَا وَترى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى وَلَكِن عَذَاب الله شَدِيد (٢) ﴾
(ضربا يزِيل الْهَام عَن مقِيله وَيذْهل الْخَلِيل عَن خَلِيله)
وَقَوله: ﴿كل مُرْضِعَة عَمَّا أرضعت﴾ يَعْنِي: كل أم عَن وَلَدهَا.
وَقَوله: ﴿وتضع كل ذَات حمل حملهَا﴾. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ تضع الْمَرْأَة حملهَا يَوْم الْقِيَامَة؟ الْجَواب: قُلْنَا: أما على قَوْلنَا إِن الزلزلة قبل قيام السَّاعَة، فَمَعْنَى وضع الْحمل على ظَاهره، وَإِن قُلْنَا إِن الزلزلة عِنْد قيام السَّاعَة، فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من الْآيَة النِّسَاء اللواتي متن وَهن حبالى، وَالْوَجْه الثَّانِي، وَهُوَ الْأَصَح: أَن هَذَا على وَجه تَعْظِيم الْأَمر وَذكر شدَّة الهول، لَا على حَقِيقَة وضع الْحمل، وَالْعرب تَقول: أَصَابَنَا أَمر يشيب فِيهِ الْوَلِيد، وَهَذَا على طَرِيق عظم الْأَمر وشدته، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَوْمًا يَجْعَل الْوَالِدَان شيبا﴾ وَالْمرَاد مَا بَينا.
وَقَوله: ﴿وَترى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى﴾ وقرىء: " سكرى " بِغَيْر الْألف، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَالَّذِي عَلَيْهِ أهل التَّفْسِير: أَن المُرَاد من الْآيَة سكرى من الْفَزع وَالْخَوْف، وَلَيْسوا سكارى من الشَّرَاب وَقَالُوا أَيْضا: فِي صُورَة السكارى، وَلَيْسوا بسكارى، وَالْقَوْل الأول أحسن؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وَلَكِن عَذَاب الله شَدِيد﴾.
وَفِي الْآيَة خبر صَحِيح أوردهُ البُخَارِيّ وَغَيره، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَرَأَهَا بَين الْآيَتَيْنِ ثمَّ قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول الله تَعَالَى لآدَم: قُم يَا آدم، فَابْعَثْ من ذريتك بعث النَّار فَيَقُول آدم: لبيْك وَسَعْديك، وَالْخَيْر فِي يَديك، وَمَا بعث النَّار؟ فَيَقُول الله تَعَالَى: من كل ألف تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين إِلَى النَّار، [وَوَاحِد] إِلَى الْجنَّة، فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله: وأينا ذَلِك الْوَاحِد؟ فَقَالَ النَّبِي: " سددوا وقاربوا وَأَبْشِرُوا، فَإِن مَعكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا مَعَ قوم إِلَّا كَثرَتَاهُ: يَأْجُوج وَمَأْجُوج وكفرة الْجِنّ وَالْإِنْس من قبلكُمْ "، وَفِي رِوَايَة
417
﴿وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَيتبع كل شَيْطَان مُرِيد (٣) كتب عَلَيْهِ أَنه من تولاه فَأَنَّهُ يضله ويهديه إِلَى عَذَاب السعير (٤) ﴾ قَالَ: " تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين من يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وَوَاحِد مِنْكُم، ثمَّ قَالَ: " إِنِّي لأرجو أَن تَكُونُوا ربع أهل الْجنَّة، فكبرنا، ثمَّ قَالَ: إِنِّي أَرْجُو أَن تَكُونُوا ثلث أهل الْجنَّة، فكبرنا، ثمَّ قَالَ: إِنِّي أَرْجُو أَن تَكُونُوا نصف أهل الْجنَّة مَا أَنْتُم فِي ذَلِك الْيَوْم بَين النَّاس إِلَّا كالشعرة الْبَيْضَاء فِي الثور الْأسود، أَو كالشعرة السَّوْدَاء فِي الثور الْأَبْيَض " وَفِي رِوَايَة: " مَا أَنْتُم فِي النَّاس إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جنب الْبَعِير، وكالرقمة فِي ذِرَاع الدَّابَّة ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم، قَالَ الْفربرِي، قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ عمر بن حَفْص بن غياث قَالَ: أخبرنَا أبي، عَن الْأَعْمَش... الْخَبَر.
418
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن الْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث، وَكَانَ يُنكر الْبَعْث ويجادل فِيهِ، وَعَن سهل بن عبد الله فِي هَذِه الْآيَة قَالَ: هُوَ من يُجَادِل فِي آيَات الله بالهوى، وَعَن غَيره قَالَ: هُوَ الَّذِي يرد النَّص بِالْقِيَاسِ.
وَقَوله: ﴿وَيتبع كل شَيْطَان مُرِيد﴾ المريد المتمرد، والمتمرد هُوَ المستمر فِي الشَّرّ، يُقَال: حَائِط ممرد أَي: مطول، وَقيل: المريد هُوَ العاري عَن الْخَيْر، يُقَال صبي أَمْرَد إِذا كَانَ عَارِيا خَدّه من الشّعْر.
وَقَوله: ﴿كتب عَلَيْهِ﴾ أَي: على الشَّيْطَان.
وَقَوله: ﴿أَنه من تولاه فَأَنَّهُ يضله﴾ أَي: كتب على الشَّيْطَان أَن يضل من تولاه.
وَقَوله: ﴿ويهديه إِلَى عَذَاب السعير﴾ أَي: إِلَى عَذَاب جَهَنَّم.
418
﴿يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ من مُضْغَة مخلقة وَغير مخلقة﴾
419
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث﴾ ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة الدّلَالَة على منكري الْبَعْث، وَالْخطاب للْمُشْرِكين.
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث﴾ أَي: فِي شكّ من الْبَعْث.
وَقَوله: ﴿فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب﴾ ذكر التُّرَاب هَاهُنَا؛ لِأَن آدم خلق من تُرَاب، وَهُوَ الأَصْل.
وَقَوله: ﴿ثمَّ من نُطْفَة﴾ النُّطْفَة هِيَ المَاء النَّازِل من الصلب.
وَقَوله: ﴿ثمَّ من علقَة﴾ الْعلقَة هِيَ الدَّم المتجمد، وَقيل: المنعقد.
وَقَوله: ﴿ثمَّ من مُضْغَة﴾ المضغة هِيَ قِطْعَة لحم كَأَنَّهَا مضغت.
وَقَوله: ﴿مخلقة وَغير مخلقة﴾. قَالَ ابْن عَبَّاس ﴿مخلقة﴾ تَامّ الْخلق ﴿وَغير مخلقة﴾ نَاقص الْخلق، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المخلقة هُوَ الْوَلَد الَّذِي تَأتي بِهِ الْمَرْأَة لوقته، وَغير المخلقة هُوَ السقط، وَفِي هَذَا الْموضع أَخْبَار: مِنْهَا مَا روى عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود أَنه إِذا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَة فِي الرَّحِم أَخذهَا الْملك بِيَدِهِ فَيَقُول: أَي رب، مخلقة أَو غير مخلقة؟ فَإِن قَالَ: غير مخلقة قَذفهَا الرَّحِم دَمًا، وَلم تخلق مِنْهَا نسمَة، وَإِن قَالَ: مخلقة، قَالَ الْملك: أشقي أَو سعيد؟ أذكر أَو أُنْثَى؟ مَا رزقه؟ مَا عمله؟ مَا أَجله؟ وَأَيْنَ الْموضع الَّذِي يقبض فِيهِ؟ فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أم الْكتاب فَفِيهِ كل ذَلِك، فَيذْهب إِلَى أم الْكتاب فيجد فِيهِ أَنه شقي أَو سعيد، ذكر أَو أُنْثَى، فَيكْتب ذَلِك، فيسعى الرجل فِي عمله، وَيَأْكُل رزقه، ويمضي فِي أَجله حَتَّى يتوفاه الله تَعَالَى فِي الْمَكَان الَّذِي قدر أَيْن يقبض فِيهِ.
وَقد ورد خبران صَحِيحَانِ عَن النَّبِي فِي هَذَا، أَحدهمَا مَا روى الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: أَخْبرنِي الصَّادِق المصدوق أَبُو الْقَاسِم: أَن خلق أحدكُم يجمع فِي رحم أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة، ثمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا علقَة،
419
﴿لنبين لكم﴾ ثمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَة، ثمَّ يُؤمر الْملك بِأَرْبَع كَلِمَات؛ فَيكْتب رزقه، وَعَمله، وأجله، وشقي أَو سعيد، ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح ". وَالْخَبَر مُتَّفق على صِحَّته.
وَالْخَبَر الثَّانِي: هُوَ مَا روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن أبي الطُّفَيْل قَالَ: سَمِعت عبد الله بن مَسْعُود يَقُول: الشقي من شقي فِي بطن أمه، والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو الطُّفَيْل: فَقلت ثكلتني! أنشقى وَلم نعمل؟ فَأتيت حُذَيْفَة بن أسيد، فَذكرت لَهُ قَول ابْن مَسْعُود، فَقَالَ: أَلا أخْبرك بِأَعْجَب من هَذَا، سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " إِذا مكثت النُّطْفَة فِي رحم الْأُم أَرْبَعِينَ يَوْمًا - أَو خَمْسَة وَأَرْبَعين - جَاءَ الْملك فَيَقُول: يَا رب، أذكر أَو أُنْثَى؟ فَيَقُول الرب، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: أشقي أَو سعيد؟ فَيَقُول الرب، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: مَا رزقه، مَا عمله، مَا أَجله، مَا أَثَره، مَا مصيبته؟ فَيَقْضِي الله مَا شَاءَ، وَيكْتب الْملك، ثمَّ يطوي الصَّحِيفَة، فَلَا يُزَاد وَلَا ينقص إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة حرسها الله تَعَالَى، قَالَ: أَبُو الْحسن بن [فراس] قَالَ: أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الديبلي قَالَ سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، قَالَ سُفْيَان... الْخَبَر. أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وأنشدوا فِي المخلقة:
(أَفِي غير المخلقة الْبكاء... فَأَيْنَ الْعَزْم وَيحكم وَالْحيَاء)
وَقَوله: ﴿لنبين لكم﴾ أَي: نبين لكم أَمر الْخلق فِي الِابْتِدَاء؛ لتستدلوا (بقدرة
420
﴿ونقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء إِلَى أجل مُسَمّى ثمَّ نخرجكم طفْلا ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر لكيلا يعلم من بعد علم شَيْئا﴾ الله) فِي الِابْتِدَاء على قدرته على الْإِعَادَة.
وَقَوله: ﴿ونقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء﴾ أَي: نثبت فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء ﴿إِلَى أجل مُسَمّى﴾ أَي: إِلَى وَقت الْولادَة:
وَقَوله: ﴿ثمَّ نخرجكم طفْلا﴾ أَي: أطفالا، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم﴾ قد بَينا معنى الأشد.
وَقَوله: ﴿ومنكم من يتوفى﴾ وَحكى أَبُو حَاتِم أَن فِي قِرَاءَة بَعضهم: " ومنكم من يتوفى " بِفَتْح الْيَاء، وَمَعْنَاهُ يسْتَوْفى أَجله، وَالْمَعْرُوف ﴿يتوفى﴾ بِالرَّفْع يَعْنِي: يتوفى قبل بُلُوغ الْكبر.
وَقَوله: ﴿ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر﴾ أَي: إِلَى أخس الْعُمر، وَالْمرَاد مِنْهُ حَالَة الخرف والهرم، قَالَ عِكْرِمَة: من قَرَأَ الْقُرْآن لم يخرف.
وَقَوله: ﴿لكيلا يعلم من بعد علم شَيْئا﴾ أَي: لَا يعقل من عبد عقله شَيْئا.
وَقَوله: ﴿وَترى الأَرْض هامدة﴾ وَهَذَا ذكر دَلِيل آخر على إحْيَاء الْمَوْت.
وَقَوله: ﴿هامدة﴾ أَي: جافة يابسة لَا نَبَات فِيهَا، وَقَالَ قَتَادَة: (هامدة) غبراء منهشمة، وَقيل: هامدة: دارسة، قَالَ الشَّاعِر:
(قَالَت قتيلة مَا لجسمك شاحبا وَأرى ثِيَابك باليات همدا)
وَقَالَ آخر:
421
﴿وَترى الأَرْض هامدة فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (٥) ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق وَأَنه يحيي الْمَوْتَى وَأَنه على كل شَيْء قدير﴾
وَقَوله: ﴿فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت﴾ أَي: تحركت، قَالَ الشَّاعِر:
(رمى الْحدثَان نسْوَة آل حَرْب بنازلة همدن لَهَا همودا)
(فَرد شعورهن السود بيضًا ورد وجوههن الْبيض سُودًا)
(تثنى إِذا قَامَت وتهتز إِن مَا مشت كَمَا اهتز غُصْن البان فِي (ورق) خضر)
وَقَوله: ﴿وربت﴾ أَي: انتفخت للنبات، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: وربت واهتزت، وَيُقَال اهتزت أَي: النَّبَات، وربت أَي: ارْتَفع، وَإِنَّمَا أنث لذكر الأَرْض، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر: " وربأت " بِالْهَمْز، وَهُوَ فِي معنى الأول.
وَقَوله: ﴿وأنبتت من كل زوج بهيج﴾ أَي: صنف حسن، فَهَذَا أَيْضا دَلِيل على إِعَادَة الْخلق، وَفِي بعض مَا ينْقل عَن السّلف: إِذا رَأَيْتُمْ الرّبيع فاذكروا والنشور.
422
وَقَوله: ﴿ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق﴾ يَعْنِي: هَذَا الَّذِي ذكرته لكم [دَلِيل] بِأَن الله هُوَ الْحق.
وَقَوله: ﴿وَأَنه يحيى الْمَوْتَى﴾ يَعْنِي: هُوَ دَلِيل على أَنه يحيي الْمَوْتَى.
وَقَوله: ﴿وَأَنه على كل شَيْء قدير﴾ أَي: لما قدر على ابْتِدَاء الْخلق، وعَلى إحْيَاء الأَرْض الْميتَة، فَاعْلَم أَنه على كل شَيْء قدير، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " من جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة (بِثَلَاث) لم يصد وَجهه عَن الْجنَّة شَيْء، من علم أَن الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا، وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور ".
422
( ﴿٦) وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور (٧) وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير (٨) ثَانِي عطفه ليضل عَن سَبِيل الله لَهُ فِي الدُّنْيَا خزي ونذيقه يَوْم الْقِيَامَة عَذَاب الْحَرِيق (٩) ذَلِك بِمَا قدمت يداك وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد (١٠) وَمن النَّاس من يعبد الله على حرف﴾
423
وَقَوله: ﴿وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى﴾ أَي: وَلَا حجَّة.
وَقَوله: ﴿وَلَا كتاب مُنِير﴾ أَي: وَلَا كتاب لَهُ نور، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " إِن على الْبَاطِل ظلمَة، وَإِن على الْحق نورا ".
وَعَن بَعضهم قَالَ: مَا عز ذُو بَاطِل، وَإِن طلع من جيبه الْقَمَر، وَمَا ذل ذُو حق، وَإِن أصفق الْعَالم.
وَاعْلَم أَن الْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، ومجادلته إِنْكَاره الْبَعْث وضربه لذَلِك الْأَمْثَال.
وَقَوله: ﴿ثَانِي عطفه﴾ أَي: لاوى عُنُقه، وَقَالَ ابْن جريج: يعرض عَن الْحق تكبرا.
وَقَوله: ﴿ليضل عَن سَبِيل الله﴾ أَي: ليضل النَّاس عَن دين الله.
وَقَوله: ﴿لَهُ فِي الدُّنْيَا خزي﴾ أَي: هوان، وَقد قتل النَّضر يَوْم بدر صبرا، وَلم يقتل صبرا غَيره وَغير عقبَة بن أبي معيط.
وَقَوله: ﴿ونذيقه يَوْم الْقِيَامَة عَذَاب الْحَرِيق﴾ أَي: المحرق.
وَقَوله: ﴿ذَلِك بِمَا قدمت يداك﴾ الْآيَة، ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يعبد الله على حرف﴾ قَالَ مُجَاهِد: على شكّ، وَقَالَ الزّجاج: على حرف أَي: الطَّرِيقَة فِي الدّين، لَا يدْخل فِيهَا دُخُول مُتَمَكن، وَلَا يدْخل بكليته فِيهِ، وَيُقَال: وَمن النَّاس من يعبد الله على حرف أَي: على ضعف، كالقائم على حرف الشَّيْء يكون قدمه ضَعِيفا غير مُسْتَقر، وَمِنْهُم من قَالَ: على
423
﴿فَإِن أَصَابَهُ خير اطْمَأَن بِهِ وَإِن أَصَابَته فتْنَة انْقَلب على وَجهه خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين (١١) يَدْعُو من دون الله مَا لَا يضرّهُ وَمَا لَا يَنْفَعهُ ذَلِك﴾ حرف أَي: على جِهَة، ثمَّ فسر الْجِهَة فَقَالَ: ﴿فَإِن أَصَابَهُ خير اطْمَأَن بِهِ﴾ أَي: ثَبت على الْإِيمَان، وَرَضي بِهِ، وَسكن إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وَإِن أَصَابَته فتْنَة﴾ أَي: محنة وبلية.
وَقَوله: ﴿انْقَلب على وَجهه﴾ أَي: رَجَعَ على عقبه وارتد.
وَقَوله: ﴿خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ الخسران فِي الدُّنْيَا فَوَات مَا أمل وَطلب، والخسران فِي الْآخِرَة هُوَ الخلود فِي النَّار، وَيُقَال: الخسران فِي الدُّنْيَا هُوَ الْقَتْل على الْكفْر، والخسران فِي الْآخِرَة مَا بَينا، وَقَرَأَ مُجَاهِد: " خاسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ".
وَقَوله: ﴿ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين﴾ أَي: الْبَين.
قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت الْآيَة فِي قوم من الْمُشْركين كَانَ يُؤمن أحدهم، فَإِن كثر مَاله، وَصَحَّ جِسْمه، ونتجت فرسه، قَالَ: هَذَا دين حسن، وَقد أصبت فِيهِ خيرا، وَسكن إِلَيْهِ، وَإِن أَصَابَهُ مرض أَو مَاتَ وَلَده، أَو قل مَاله، قَالَ: مَا أصابني من هَذَا الدّين إِلَّا شَرّ فَيرجع.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن رجلا من الْيَهُود أسلم فَعميَ بَصَره، وَهلك مَاله، وَمَات وَلَده، فَأتى النَّبِي وَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَقلنِي، فَقَالَ: إِن الْإِسْلَام لَا يُقَال، فَقَالَ: مُنْذُ دخلت فِي هَذَا الدّين لم أصب إِلَّا شرا؛ أصابني كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِي: " إِن الْإِسْلَام ليسبك الرجل، كَمَا تسبك النَّار خبث الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد ". وَالْخَبَر غَرِيب.
424
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَدْعُو من دون الله مَا لَا يضرّهُ وَمَا لَا يَنْفَعهُ﴾ أَي: لَا يضر إِن لم
424
﴿هُوَ الضلال الْبعيد (١٢) يَدْعُو لمن ضره أقرب من نَفعه لبئس الْمولى ولبئس العشير (١٣) يعبده، وَلَا يَنْفَعهُ إِن عَبده.
وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد﴾
أَي: الضلال المستمر.
425
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَدْعُو لمن ضره أقرب من نَفعه﴾ هَذِه الْآيَة من مشكلات الْقُرْآن، وفيهَا أسئلة: أَولهَا قَالَ: قَالُوا فِي الْآيَة الأولى: ﴿مَا لَا يضرّهُ﴾ وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿لمن ضره﴾.
(فَكيف وَجه التَّوْفِيق؟ الْجَواب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: ﴿يَدْعُو لمن ضره﴾ ).
أَي: لمن ضرّ عِبَادَته، وَقَوله فِي الْآيَة الأولى: ﴿مَا لَا يضرّهُ﴾ أَي: (لَا يضر) إِن ترك عِبَادَته على مَا بَينا.
السُّؤَال الثَّانِي: قَالُوا: قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: ﴿أقرب من نَفعه﴾ وَالْجَوَاب: أَن هَذَا على عَادَة الْعَرَب، وهم يَقُولُونَ مثل هَذَا اللَّفْظ، ويريدون أَنه لَا نفع لَهُ أصلا، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك رَجَعَ بعيد﴾ أَي: لَا رَجَعَ أصلا.
السُّؤَال الثَّالِث: وَهُوَ الْمُشكل أَنه قَالَ: ﴿لمن ضره﴾ فأيش هَذَا الْكَلَام؟ الْجَواب: أَنه اخْتلف أهل النَّحْو فِي هَذَا، فَأكْثر النَّحْوِيين ذَهَبُوا إِلَى أَن هَذَا على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَمَعْنَاهُ: يَدْعُو من بضره أقرب من نَفعه، وَأما الْمبرد أنكر هَذَا وَقَالَ: لَا يجوز هَذَا فِي اللُّغَة، وَالْجَوَاب عَن السُّؤَال على هَذَا: قَالَ بَعضهم: معنى ﴿يَدْعُو﴾ : يَقُول.
قَالَ الشَّاعِر:
(يدعونَ [عنترا] (وَالسُّيُوف) كَأَنَّهَا أشطان بِئْر فِي لبان الأدهم)
يَعْنِي: يَقُولُونَ. فعلى هَذَا معنى الْآيَة: يَدْعُو أَي: يَقُول لمن ضره أقرب من نَفعه:
425
﴿إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار إِن الله يفعل مَا يُرِيد (١٤) من كَانَ يظنّ أَن لن ينصره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فليمدد﴾ هُوَ إِلَه أَو مولى، وَمِنْهُم من قَالَ: يَدْعُو لمن ضره يَعْنِي: إِلَى الَّذِي ضره أقرب من نَفعه، وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد يَدْعُو أَي: فِي حَال دُعَائِهِ ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ: ﴿لمن ضره أقرب من نَفعه لبئس الْمولى ولبئس العشير﴾، وَمِنْهُم من قَالَ: ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد يَدْعُو يَعْنِي: الَّذِي هُوَ الضلال الْبعيد يَدْعُو، وَذَلِكَ بِمَعْنى " الَّذِي "، ثمَّ اسْتَأْنف قَوْله: ﴿لمن ضره أقرب من نَفعه﴾ اخْتَارَهُ الزّجاج. وَقَالَ ابْن فَارس حِين حكى أَكثر هَذِه الْأَقَاوِيل: وَنكل الْآيَة إِلَى عالمها.
وَقَوله: ﴿لبئس الْمولى﴾ أَي: النَّاصِر، وَقيل: المعبود.
وَقَوله: ﴿ولبئس العشير﴾ أَي: المخالط والصاحب، وَالْعرب تسمى الزَّوْج: عشيرا؛ لأجل المخالطة.
قَالَ النَّبِي: " إنكن تكثرن اللَّعْن وتكفرن العشير " أَي: الزَّوْج.
426
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات﴾ الْآيَة إِلَى آخرهَا ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿من كَانَ يظنّ أَن لن ينصره الله﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ من كَانَ يظنّ أَن لن ينصر الله مُحَمَّدًا.
وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: لما دَعَا رَسُول الله أسدا وغَطَفَان إِلَى الْإِسْلَام - وَكَانَ بَينهم وَبَين أهل الْكتاب حلف - فَقَالُوا: لَا يمكننا أَن نسلم ونقطع الْحلف؛ لِأَن مُحَمَّدًا رُبمَا لَا يظْهر وَلَا يغلب؛ فَيَنْقَطِع الْحلف بَيْننَا وَبَين أهل الْكتاب فَلَا يميروننا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: من كَانَ يظنّ أَن لن ينصره الله، أَي: لن يرزقه الله، وَهَذَا فِيمَن
426
﴿بِسَبَب إِلَى السَّمَاء ثمَّ ليقطع فَلْينْظر هَل يذْهبن كَيده مَا يغِيظ (١٥) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَات بَيِّنَات وَأَن الله يهدي من يُرِيد (١٦) إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَالَّذين أشركوا إِن الله يفصل بَينهم يَوْم الْقِيَامَة إِن﴾ أَسَاءَ الظَّن بربه، وَخَافَ أَن لَا يرزقه.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: تَقول الْعَرَب: أَرض منصورة أَي: ممطورة، وَعَن بعض الْأَعْرَاب أَنه سَأَلَ وَقَالَ: انصرني ينصرك الله أَي: أَعْطِنِي أَعْطَاك الله.
وَقَوله: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فليمدد بِسَبَب إِلَى السَّمَاء﴾ المُرَاد من السَّمَاء: سَمَاء بَيته فِي قَول جَمِيع الْمُفَسّرين، وَهُوَ السّقف.
وَالسَّبَب: الْحَبل، وَمَعْنَاهُ: فليمدد حبلا من سقف بَيته ﴿ثمَّ ليقطع﴾ أَي: ليختنق بِهِ.
وَقَوله: ﴿فَلْينْظر هَل يذْهبن كَيده مَا يغِيظ﴾ أَي: هَل لَهُ حِيلَة فِيمَا يغيظه ليدفع عَن نَفسه؟ وَيُقَال: ثمَّ لينْظر هَل يَنْفَعهُ مَا فعله؟.
قَالَ أهل الْمعَانِي: وَهُوَ مثل قَوْله الْقَائِل: إِن لم ترض بِكَذَا فمت غيظا.
427
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَات بَيِّنَات﴾ الْآيَة. ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَالَّذين أشركوا﴾ قد بَينا هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَوله: ﴿إِن الله يفصل بَينهم يَوْم الْقِيَامَة﴾ فَإِن قيل: مَا معنى إِعَادَة " إِن " فِي آخر الْآيَة، وَقد ذكرهَا فِي أول الْآيَة؟ وَالْجَوَاب: أَن الْعَرَب تَقول مثل هَذَا للتَّأْكِيد. قَالَ الشَّاعِر:
(إِن الْخَلِيفَة إِن الله سربله سربال ملك بِهِ ترجى الخواتيم)
وَقَوله: ﴿إِن الله على كل شَيْء شَهِيد﴾ أَي: شَاهد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض﴾ الْآيَة، قَالَ الزّجاج: السُّجُود هَاهُنَا بِمَعْنى الطَّاعَة أَي: يطيعه، واستحسنوا هَذَا القَوْل؛ لِأَنَّهُ مُوَافق للْكتاب، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين﴾ وَأَيْضًا
427
﴿الله على كل شَيْء شَهِيد (١٧) ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَكثير من النَّاس وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب وَمن يهن الله فَمَا لَهُ من مكرم إِن الله يفعل مَا يَشَاء (١٨) ﴾ فَإِن من اعْتِقَاد أهل السّنة أَن الْحَيَوَان والموات مُطِيع كُله لله تَعَالَى، وَقَالَ بَعضهم: إِن سُجُود الْحِجَارَة هُوَ بِظُهُور أثر الصنع فِيهِ، على معنى أَنه يحمل على السُّجُود والخضوع لمن تَأمله وتدبر فِيهِ، وَهَذَا قَول فَاسد، وَالصَّحِيح مَا قدمنَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى وصف الْحِجَارَة بالخشية، فَقَالَ: ﴿وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله﴾ وَلَا يَسْتَقِيم حمل الخشية على ظُهُور أثر الْقُدْرَة فِيهِ، وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿يَا جبال أوبي مَعَه﴾ أَي: سبحي مَعَه، وَلَو كَانَ المُرَاد ظُهُور أثر الصنع لم يكن لقَوْله: ﴿مَعَ دَاوُد﴾ معنى؛ لِأَن دَاوُد وَغَيره فِي رُؤْيَة أثر الصنع سَوَاء، وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ﴾ أَي: يُطِيع الله بتسبيحه ﴿وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم﴾ وَلَو كَانَ المُرَاد بالتسبيح ظُهُور أثر الصنع فِيهِ لم يستقم قَوْله: ﴿وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم﴾ ذكر هَذِه الدَّلَائِل أَبُو إِسْحَاق الزّجاج إِبْرَاهِيم بن السّري، وَأثْنى عَلَيْهِ ابْن فَارس فَقَالَ: ذب عَن الدّين وَنصر السّنة.
وَقَوله: ﴿وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب﴾ أَي: هَذِه الْأَشْيَاء (كلهَا تسبح الله تَعَالَى).
وَقَوله: ﴿وَكثير من النَّاس﴾ أَي: الْمُسلمُونَ.
وَقَوله: ﴿وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب﴾ هم الْكَافِرُونَ، وَإِنَّمَا حق عَلَيْهِم الْعَذَاب هَاهُنَا بترك السُّجُود، وَمعنى الْآيَة: وَكثير من النَّاس أَبُو السُّجُود فَحق عَلَيْهِم الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿وَمن يهن الله فَمَا لَهُ من مكرم﴾ أَي: وَمن يشقي الله فَمَا لَهُ من مسعد، وَقَالَ بَعضهم: وَمن يهن الله: وَمن يذله الله، فَمَا لَهُ من إكرام أَي: لَا يُكرمهُ أحد.
428
﴿هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم فَالَّذِينَ كفرُوا قطعت لَهُم ثِيَاب من نَار يصب من﴾
وَقَوله: ﴿إِن الله يفعل مَا يَشَاء﴾ أَي: يكرم ويهين، ويشقي ويسعد، بمشيئته وإرادته، وَهُوَ اعْتِقَاد أهل السّنة.
429
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم﴾ فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا نزلت فِي أهل الْكتاب (وَالْمُسْلِمين، قَالَ أهل الْكتاب) : ديننَا خير من دينكُمْ، وَنحن أَحَق بِاللَّه مِنْكُم؛ لِأَن نَبينَا وَكِتَابنَا أقدم، وَقَالَ الْمُسلمُونَ: نَحن أولى بِاللَّه مِنْكُم، وَدِيننَا خير من دينكُمْ؛ لِأَن كتَابنَا قَاض على الْكتب؛ وَلِأَن نَبينَا خَاتم النَّبِيين، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَهَذَا قَول قَتَادَة وَجَمَاعَة.
وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن سيرن أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِي الَّذين بارزوا يَوْم بدر من الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين، فالمسلمون هم: حَمْزَة، وَعلي، وَعبيدَة بن الْحَارِث، وَالْمُشْرِكُونَ هم: شيبَة بن ربيعَة، وَعتبَة بن ربيعَة، والوليد بن عتبَة، فالآية نزلت فِي هَؤُلَاءِ السِّتَّة، وَكَانَ أَبُو ذَر يقسم بِاللَّه أَن الْآيَة نزلت فِي هَؤُلَاءِ، ذكره البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة نزلت فِي جملَة الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا نزلت فِي الْجنَّة وَالنَّار اختصمتا، فَقَالَت الْجنَّة: خلقني الله؛ ليرحم بِي، وَقَالَت النَّار: خلقني الله؛ لينتقم بِي، وَهَذَا قَول عِكْرِمَة، وَالْمَعْرُوف الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. قَالَ ابْن عَبَّاس: ذكر الله تَعَالَى سِتَّة أَجنَاس فِي قَوْله: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا﴾ الْآيَة وَجعل خَمْسَة فِي النَّار وَوَاحِد للجنة فَقَوله: ﴿هَذَانِ خصمان﴾ ينْصَرف إِلَيْهِم، فالمؤمنون خصم، وَسَائِر الْخَمْسَة خصم.
وَقَوله: ﴿اخْتَصَمُوا فِي رَبهم﴾ أَي: جادلوا فِي رَبهم.
وَقَوله: ﴿فَالَّذِينَ كفرُوا قطعت لَهُم ثِيَاب من نَار﴾ أَي: نُحَاس مذاب، وَيُقَال:
429
﴿فَوق رُءُوسهم الْحَمِيم (١٩) يصهر بِهِ مَا فِي بطونهم والجلود (٢٠) وَلَهُم مَقَامِع من حَدِيد (٢١) كلما أَرَادوا أَن يخرجُوا مِنْهَا من غم أعيدوا فِيهَا وذوقوا عَذَاب﴾ سمى النَّار الَّتِي يُعَذبُونَ بهَا لباسا؛ لِأَنَّهَا تحيط بهم كإحاطة اللبَاس، وَقَالَ بَعضهم: يلبس أهل النَّار مقطعات من النَّار، وَهَذَا أولى الْأَقَاوِيل.
وَقَوله: ﴿يصب من فَوق رُءُوسهم الْحَمِيم﴾ وَهُوَ المَاء الَّذِي انْتَهَت حرارته، وَفِي التَّفْسِير: أَن قَطْرَة مِنْهُ لَو وضعت على جبال الدُّنْيَا لأذابتها.
430
وَقَوله: ﴿يصهر بِهِ﴾ أَي: يذاب بِهِ، وَفِي الْأَخْبَار: أَنه يثقب رَأس الْكَافِر، وَيصب على دماغه الْحَمِيم، فيصل إِلَى جَوْفه، فتسليه جَمِيع مَا فِي جَوْفه.
وَقَوله: ﴿والجلود﴾ أَي: ويذيب الْجُلُود وينضجها.
وَقَوله: ﴿وَلَهُم مَقَامِع من حَدِيد﴾ المقمعة هِيَ المرزبة من حَدِيد، وَيُقَال: هِيَ الْحِرْز من حَدِيد، وَقيل: إِن مقمعَة مِنْهَا لَو وضعت فِي الدُّنْيَا، وَاجْتمعَ الْإِنْس وَالْجِنّ عَلَيْهَا لم يقلوها.
وَقَوله: ﴿كلما أَرَادوا أَن يخرجُوا مِنْهَا من غم﴾ أَي: رجوا وَفِي التَّفْسِير: أَن النَّار تجيش بهم، فترفعهم إِلَى أَعْلَاهَا، فيريدون الْخُرُوج، فيضربهم الزَّبَانِيَة بالمقامع من الْحَدِيد، فيهوون فِيهَا سبعين خَرِيفًا.
وَقَوله: ﴿وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق﴾ أَي: تَقول لَهُم الْمَلَائِكَة: ذوقوا عَذَاب الْحَرِيق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب﴾ الأساور جمع السوار.
وَقَوله: ﴿من ذهب﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ولؤلؤ﴾ أَي: وَمن لُؤْلُؤ.
430
﴿الْحَرِيق (٢٢) إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فِيهَا حَرِير (٢٣) وهدوا إِلَى الطّيب من القَوْل وهدوا إِلَى صِرَاط الحميد (٢٤) إِن الَّذين كفرُوا﴾
وَقُرِئَ: " لؤلؤا " أَي: يحلونَ لؤلؤا.
وَقَوله: ﴿ولباسهم فِيهَا حَرِير﴾ أَي: من الديباج، وروى شُعْبَة عَن خَليفَة بن كَعْب، عَن ابْن الزبير قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب يَقُول: قَالَ رَسُول الله " من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة، (وَمن لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة)، لَا يدْخل الْجنَّة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿ولباسهم فِيهَا حَرِير﴾ ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " وَلَو دخل الْجنَّة لم يلْبسهُ فِي الْجنَّة ".
431
وَقَوله: ﴿وهدوا إِلَى الطّيب من القَوْل﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَيُقَال هُوَ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَقيل: هُوَ قَول أهل الْجنَّة: ﴿الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده﴾ وَعَن قطرب: أَنه الْقُرْآن، وَيُقَال: هُوَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَقيل: هُوَ القَوْل الَّذِي يثنى بِهِ الْخلق، ويثيب عَلَيْهِ الْخَالِق.
وَقَوله: ﴿وهدوا إِلَى صِرَاط الحميد﴾ أَي: صِرَاط الله، وصراط الله هُوَ الْإِسْلَام، وَيُقَال: إِلَى الْمنَازل الرفيعة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين كفرُوا ويصدون عَن سَبِيل الله﴾ (تَقْدِير الْآيَة: إِن الْكَافرين والصادين عَن سَبِيل الله، وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: إِن الَّذين كفرُوا فِيمَا تقدم
431
﴿ويصدون عَن سَبِيل الله وَالْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاس سَوَاء العاكف فِيهِ والباد وَمن يرد فِيهِ بإلحاد بظُلْم نذقه من عَذَاب أَلِيم (٢٥) ﴾ ويصدون عَن سَبِيل الله) فِي الْحَال.
وَقَوله: ﴿وَالْمَسْجِد الْحَرَام﴾ أَي: يصدون عَن الْمَسْجِد الْحَرَام.
وَقَوله: ﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاس﴾ أَي: جَعَلْنَاهُ للنَّاس قبْلَة لصلاتهم، ومنسكا لحجهم.
وَقَوله: ﴿سَوَاء العاكف فِيهِ والبادي﴾ وَقُرِئَ: " سَوَاء العاكف فِيهِ والباد " بِالنّصب والتنوين، فَقَوله: ﴿سَوَاء﴾ بِالرَّفْع مَعْلُوم الْمَعْنى، وَقَوله: ﴿سَوَاء﴾ بِالنّصب أَي: سويتهم سَوَاء، وَقَوله: ﴿العاكف فِيهِ والبادي﴾ الْمُقِيم فِيهِ، والجائي.
وَاخْتلفُوا أَن المُرَاد من هَذَا هُوَ جَمِيع الْحرم أَو الْمَسْجِد الْحَرَام؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ مَسْجِد الْحَرَام، وَهَذَا قَول الْحسن وَجَمَاعَة، وَمعنى التَّسْوِيَة هُوَ التَّسْوِيَة فِي تَعْظِيم الْكَعْبَة، وَفضل فِيهِ، وَفضل الطّواف وَسَائِر الْعِبَادَات وثوابها، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة جَمِيع الْحرم، وَمعنى التَّسْوِيَة: أَن الْمُقِيم بِمَكَّة والجائي من مَكَّة سَوَاء فِي النُّزُول، فَكل من وجد مَكَانا فَارغًا ينزل، إِلَّا أَنه لَا يزعج أحدا، وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَجَمَاعَة من التَّابِعين، وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - ينْهَى النَّاس أَن يغلقوا أَبْوَابهم فِي زمَان الْمَوْسِم، وَفِي رِوَايَة: مَنعهم أَن يتخذوا الْأَبْوَاب فَاتخذ رجل بَابا فَضَربهُ بِالدرةِ، وَفِي الْخَبَر: أَن دور مَكَّة كَانَت تدعى السوائب، من شَاءَ سكن، وَمن اسْتغنى أسكن، وعَلى هَذَا القَوْل لَا يجوز بيع دور مَكَّة وإجارتها، وعَلى القَوْل الأول يجوز.
وَقَوله: ﴿وَمن يرد فِيهِ بإلحاد بظُلْم﴾ (فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْبَاء زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: وَمن يرد فِيهِ إلحادا بظُلْم) قَالَ الشَّاعِر:
432
﴿وَإِذ بوأنا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت أَن لَا تشرك بِي شَيْئا وطهر بَيْتِي للطائفين والقائمين﴾
أَي: تَدْعُو الْفَرح، وَهَذَا قَول الْفراء ونحاة الْكُوفَة، وَأما الْمبرد أنكر أَن تكون الْبَاء زَائِدَة وَقَالَ معنى الْآيَة: من يكون إِرَادَته فِيهِ بِأَن يلْحد بظُلْم، قَالَ الشَّاعِر:
( [نَحن بني جعدة أَصْحَاب الفلج نضرب بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بالفرج] )
(أُرِيد لأنسى ذكرهَا فَكَأَنَّمَا تمثل لي ليلى بِكُل سَبِيل)
وَمَعْنَاهُ: أَرَادَ فِي أَن أنسى.
وَقَوله: ﴿نذقه من عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: يُوصل إِلَيْهِ الْعَذَاب الْأَلِيم، وَأما الْإِلْحَاد فَهُوَ الْميل، يُقَال: لحد وألحد بِمَعْنى وَاحِد، وَمِنْهُم من قَالَ: ألحد إِذا جادل، ولحد إِذا عدل عَن الْحق، وَأما معنى الْإِلْحَاد هَا هُنَا، قَالَ بَعضهم: هُوَ الشّرك، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ كل سَيِّئَة حَتَّى شتم الرجل غُلَامه، وَقَالَ عَطاء: الْإِلْحَاد فِي الْحرم هُوَ أَن يدْخل غير محرم، أَو يرتكب مَحْظُور الْحرم بِأَن يقتل صيدا، أَو يقْلع شَجَرَة. فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى تَخْصِيص الْحرم بِهَذَا كُله؛ وكل من عمل سَيِّئَة، وَإِن كَانَ خَارج الْحرم اسْتحق الْعقُوبَة؟. وَالْجَوَاب: مَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: من هم بخطيئة فِي غير الْحرم لم تكْتب عَلَيْهِ، وَمن هم بخطيئة فِي الْحرم كتب عَلَيْهِ، وَعنهُ أَنه قَالَ: وَإِن كَانَ بعدن أبين، وَمَعْنَاهُ: أَنه وَإِن كَانَ بَعيدا من الْحرم فَإِذا هم بخطيئة فِي الْحرم أَخذ بِهِ، وَهَذَا معنى الْإِرَادَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة.
433
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ بوأنا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت﴾ أَي: بَينا وَأَعْلَمنَا، وَإِنَّمَا ذكر ﴿مَكَان الْبَيْت﴾ ؛ لِأَن الْكَعْبَة رفعت إِلَى السَّمَاء من الطوفان، ثمَّ إِن الله تَعَالَى لما أَمر إِبْرَاهِيم بِبِنَاء الْبَيْت، بعث ريحًا خجوجا فكنس مَوضِع الْبَيْت حَتَّى أبدى عَن مَوضِع الْبناء. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن الله تَعَالَى بعث سَحَابَة بِقدر الْبَيْت فِيهَا رَأس تكلم فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيم، ابْن بقدري، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وَإِذ بوأنا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت﴾.
وَقَوله: ﴿أَلا تشرك بِي شَيْئا﴾ يَعْنِي: وَقُلْنَا لَهُ: لَا تشرك بِي شَيْئا.
433
﴿والركع السُّجُود (٢٦) وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر يَأْتِين من كل فج عميق (٢٧) ليشهدوا مَنَافِع لَهُم ويذكروا اسْم الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات﴾
وَقَوله: ﴿وطهر بَيْتِي للطائفين﴾ أَي: الطائفين بِالْبَيْتِ.
وَقَوله: ﴿والقائمين﴾ أَي المقيمين. ﴿والركع السُّجُود﴾ أَي: الْمُصَلِّين.
وَقَوله: ﴿وطهر بَيْتِي﴾ أَي: ابْن بَيْتِي طَاهِرا.
434
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ﴾ وَقَرَأَ ابْن أبي إِسْحَاق: " بِالْحَجِّ " بخفض الْحَاء، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيع الْقُرْآن، وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - صعد الْمقَام، فارتفع الْمقَام حَتَّى صَار كأطول جبل فِي الدُّنْيَا، وَفِي رِوَايَة: صعد أَبَا قبيس ثمَّ نَادَى: يَا أَيهَا النَّاس، إِن الله تَعَالَى كتب عَلَيْكُم الْحَج فأجيبوا ربكُم، فَأَجَابَهُ كل من يحجّ من أَرْحَام الْأُمَّهَات وأصلاب الْآبَاء، قَالَ ابْن عَبَّاس: وَأول من أَجَابَهُ أهل الْيمن، فهم أَكثر النَّاس حجا، فَالنَّاس يأْتونَ وَيَقُولُونَ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، فَهُوَ إِجَابَة إِبْرَاهِيم، وَرُوِيَ أَن إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما أمره الله تَعَالَى بِدُعَاء النَّاس قَالَ: يَا رب، كَيفَ يبلغهم صوتي؟ قَالَ: عَلَيْك الدُّعَاء وَعلي التَّبْلِيغ.
وَقَوله: ﴿يأتوك رجَالًا﴾ أَي: رجالة، وهم المشاة، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - حج أَرْبَعِينَ حجَّة مَاشِيا.
وَقَوله: ﴿وعَلى كل ضامر﴾ أَي: وعَلى كل بعير ضامر، والضامر هُوَ المهزول، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا أتأسف على شَيْء، تأسفي أَنِّي لم أحج مَاشِيا؛ لِأَن الله تَعَالَى قدم المشاة على الركْبَان.
وَقَوله: ﴿يَأْتِين من كل فج عميق﴾ أَي: من كل طَرِيق بعيد.
وَقَوله: ﴿ليشهدوا مَنَافِع لَهُم﴾ قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ: هِيَ الْمَغْفِرَة، وَقَالَ غَيره: مَنَافِع لَهُم أَي: التِّجَارَة، وَالْقَوْل الأول أحسن، وَيُقَال: مَنَافِع الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿ويذكروا اسْم الله عَلَيْهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: الْأَيَّام
434
﴿على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام فَكُلُوا مِنْهَا وأطعموا البائس الْفَقِير (٢٨) ثمَّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق (٢٩) ﴾ المعلومات هِيَ الْعشْر، وَقَالَ عَليّ وَابْن عمر: هِيَ يَوْم النَّحْر وَثَلَاثَة أَيَّام بعده.
وَقَوله: ﴿على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام﴾ أَي: إِذا ذبحوها.
وَقَوله: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ هَذَا أَمر إِبَاحَة، وَلَيْسَ بِأَمْر إِيجَاب، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَمر (ندب)، وَيسْتَحب أَن يَأْكُل مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿وأطعموا البائس الْفَقِير﴾ البائس هُوَ الَّذِي اشْتَدَّ بؤسه، والبؤس: الْعَدَم، وَقيل: البائس هُوَ الَّذِي بِهِ زَمَانه، والفقر مَعْلُوم الْمَعْنى.
435
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ ليقضوا تفثهم﴾ التفث هَا هُنَا هُوَ حلق الرَّأْس، وقلم الظفر ونتف الْإِبِط وَإِزَالَة الْوَسخ، وَقيل: إِن التفث هَا هُنَا رمي الْجمار، وَقَالَ الزّجاج: وَلَا يعرف التفث وَمَعْنَاهُ إِلَّا من الْقُرْآن، فَأَما قطرب حَكَاهُ عَن أهل اللُّغَة بِمَعْنى الْوَسخ.
وَقَوله: ﴿وليوفوا نذورهم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْوَفَاء بِمَا نَذره على ظَاهره، وَالْقَوْل الآخر: أَن مَعْنَاهُ الْخُرُوج عَمَّا وَجب عَلَيْهِ نذرا وَلم ينذر، وَالْعرب تَقول لكل من خرج عَن الْوَاجِب عَلَيْهِ: وفى بنذره.
وَقَوله: ﴿وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ هَذَا الطّواف هُوَ طواف الْإِفَاضَة، وَعَلِيهِ أَكثر أهل التَّفْسِير.
وَقَوله: ﴿بِالْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ فِي الْعَتِيق قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الله تَعَالَى أعْتقهُ عَن أَيدي الْجَبَابِرَة، فَلم يتسلط عَلَيْهِ جَبَّار، وَالثَّانِي: ﴿الْعَتِيق﴾ أَي: الْقَدِيم، وَهُوَ قَول الْحسن، وَفِي الْعَتِيق قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن معنى ﴿الْعَتِيق﴾ أَن الله تَعَالَى أعْتقهُ عَن الْغَرق أَيَّام الطوفان، وَهَذَا قَول مُعْتَمد يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ بوأنا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت﴾ فَلَمَّا قَالَ: ﴿مَكَان الْبَيْت﴾ دلّ أَن الْبَيْت رفع أَيَّام الطوفان.
435
﴿ذَلِك وَمن يعظم حرمات الله فَهُوَ خير لَهُ عِنْد ربه وَأحلت لكم الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم فاجتنوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور (٣٠) ﴾
436
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك وَمن يعظم حرمات الله﴾ قَالَ مُجَاهِد: حرمات الله الْحَج وَالْعمْرَة، وَقَالَ عَطاء: حرمات الله مَا نهى عَنهُ، وَالْحُرْمَة كل مَا نهى عَن انتهاكها، قَالَ زيد بن أسلم: حرمات الله هَا هُنَا خَمْسَة: الْبَيْت الْحَرَام، والبلد الْحَرَام، والشهر الْحَرَام، وَالْمَسْجِد الْحَرَام، وَالْإِحْرَام، وَقَالَ بَعضهم: تَعْظِيم حرمات الله أَن يفعل الطَّاعَة، وَيَأْمُر بهَا، وَيتْرك الْمعْصِيَة، وَينْهى عَنْهَا.
وَقَوله: ﴿فَهُوَ خير لَهُ عِنْد ربه﴾. مَعْنَاهُ: أَن تَعْظِيم الحرمات خير لَهُ عِنْد الله فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿وَأحلت لكم الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم﴾ مَا يُتْلَى عَلَيْكُم هُوَ قَول الله تَعَالَى فِي سُورَة الْمَائِدَة: ﴿حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير﴾ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان﴾ " من " هَا هُنَا للتجنيس، وَمَعْنَاهُ: اجتنبوا الْأَوْثَان الَّتِي هِيَ رِجْس، وَيُقَال: إِن الرجس وَالرجز هُوَ الْعَذَاب، وَمعنى قَوْله: ﴿فَاجْتَنبُوا الرجس﴾ أَي: اجتنبوا سَبَب الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور﴾ أَي: الْكَذِب، قَالَ عبد الله بن مَسْعُود: أشهد لقد عدلت شَهَادَة الزُّور بالشرك، وتلا هَذِه الْآيَة: ﴿فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور﴾.
وَرُوِيَ هَذَا اللَّفْظ مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي.
436
﴿حنفَاء لله غير مُشْرِكين بِهِ وَمن يُشْرك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خر من السَّمَاء فتخطفه الطير أَو تهوي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق (٣١) ذَلِك وَمن يعظم شَعَائِر الله فَإِنَّهَا من تقوى﴾
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن قَول الزُّور هُوَ الشّرك، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قَول الزُّور هُوَ تلبيتهم: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لَا شريك لَك إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك تملكه وَمَا ملك.
437
وَقَوله: ﴿حنفَاء لله غير مُشْرِكين بِهِ﴾. قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَت قُرَيْش يَقُولُونَ: من حج واحتنف وضحى، فَهُوَ حنيف، فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿حنفَاء لله غير مُشْرِكين بِهِ﴾ يَعْنِي أَن (الحنيفة) إِنَّمَا يتم بترك الشّرك، وَمن أشرك لَا يكون حَنِيفا، وَقد بَينا معنى الحنيف من قبل.
وَقَوله: ﴿وَمن يُشْرك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خر من السَّمَاء﴾ أَي: سقط من السَّمَاء، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن بعض الصَّحَابَة أَنه قَالَ: " بَايَعت رَسُول الله أَن لَا أخر إِلَّا مُسلما " أَي: لَا أسقط مَيتا إِلَّا مُسلما.
وَقَوله: ﴿فتخطفه الطير﴾ أَي: تسلبه الطير وَتذهب بِهِ.
وَقَوله: ﴿أَو تهوي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق﴾. أَي: تسْقط بِهِ الرّيح فِي مَكَان بعيد، وَمعنى الْآيَة: أَن من أشرك فقد هلك، وَبعد عَن الْحق بعدا لَا يصل إِلَيْهِ بِحَال مَا دَامَ مُشْركًا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك وَمن يعظم شَعَائِر الله﴾ فِي الشعائر قَولَانِ: قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الْبدن، وتعظيمها استسمانها واستحسانها، وَعَن عَطاء: أَن شَعَائِر الله هِيَ الْجمار، وَعَن [زيد] بن أسلم قَالَ: شَعَائِر الله: الصَّفَا والمروة، والركن، وَالْبَيْت،
437
﴿الْقُلُوب (٣٢) لكم فِيهَا مَنَافِع إِلَى أجل مُسَمّى ثمَّ محلهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق (٣٣) وَلكُل أمة جعلنَا منسكا﴾ وعرفة، والمشعر الْحَرَام، والجمار، وَقَالَ بَعضهم: شَعَائِر الله: معالم دينه.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّهَا من تقوى الْقُلُوب﴾ أَي: هَذِه الفعلة، وَهِي التَّعْظِيم من تقوى الْقُلُوب.
438
وَقَوله: ﴿لكم فِيهَا مَنَافِع﴾ قَالَ عُرْوَة بن الزبير: يَعْنِي الْمَنَافِع من الْبدن قبل النَّحْر، وَذَلِكَ ركُوبهَا وَالشرب من لَبنهَا، وَغير ذَلِك، وَقَالَ مُجَاهِد: الْمَنَافِع الَّتِي فِيهَا قبل أَن يُسمى للهدي، فَإِذا سميت للهدي فَلَا ينْتَفع بهَا، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَطَائِفَة من الصَّحَابَة، وَالْقَوْل الأول اخْتَارَهُ الشَّافِعِي - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - استدلوا (على صِحَة القَوْل) الأول بِمَا رُوِيَ: أَن النَّبِي رأى رجلا يَسُوق بَدَنَة، فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَة، فَقَالَ: اركبها وَيلك.
وَقَوله: ﴿إِلَى أجل مُسَمّى﴾ على القَوْل الأول: الْأَجَل الْمُسَمّى هُوَ النَّحْر، وعَلى القَوْل الثَّانِي: الْأَجَل الْمُسَمّى تَسْمِيَتهَا بَدَنَة، وَأما إِذا حملنَا الشعائر على غير الْبدن فَقَوله: ﴿لكم فِيهَا [مَنَافِع] ﴾ ينْصَرف إِلَى مَا ذكر الله تَعَالَى من الثَّوَاب فِي تَعْظِيم الشعائر الَّتِي ذَكرنَاهَا.
وَقَوله: ﴿ثمَّ محلهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق﴾ الْمحل هَا هُنَا هُوَ وَقت النَّحْر ومكانه.
وَقَوله: ﴿إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلكُل أمة جعلنَا منسكا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: عيدا، وَقَالَ غَيره:
438
﴿لِيذكرُوا اسْم الله على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام فإلهكم إِلَه وَاحِد فَلهُ أَسْلمُوا وَبشر المخبتين (٣٤) الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَالصَّابِرِينَ على مَا أَصَابَهُم والمقيمي الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (٣٥) وَالْبدن جعلناها لكم من﴾ مذبحا، وَيُقَال: متعبدا.
وَقَوله: ﴿لِيذكرُوا اسْم الله على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام﴾ يَعْنِي: لِيذكرُوا اسْم الله تَعَالَى على نحر مَا رزقهم الله من بَهِيمَة الْأَنْعَام.
وَقَوله: ﴿فإلهكم إِلَه وَاحِد﴾ يَعْنِي: سموا على الذَّبَائِح اسْم الله تَعَالَى وَحده، فَإِن إِلَهكُم إِلَه وَاحِد.
وَقَوله: ﴿فَلهُ أَسْلمُوا﴾ أَي: فَلهُ أَخْلصُوا.
وَقَوله: ﴿وَبشر المخبتين﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه بِمَعْنى المتواضعين، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: بِمَعْنى المخلصين، وَقَالَ غَيره: بِمَعْنى الصَّالِحين، وَيُقَال: بِمَعْنى الْمُسلمين، وَعَن عَمْرو بن أَوْس قَالَ: هم الَّذين لَا يظْلمُونَ، وَإِذا ظلمُوا لم ينتصروا، وَذكر الْكَلْبِيّ أَن المخبتين هم الرقيقة قُلُوبهم، والخبت هُوَ الْمَكَان المطمئن من الأَرْض، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس شعرًا:
439
وَقَوله: ﴿الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم﴾ أَي: خَافت قُلُوبهم.
وَقَوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ على مَا أَصَابَهُم﴾ أَي: وَبشر الصابرين على مَا أَصَابَهُم.
وَقَوله: ﴿والمقيمي الصَّلَاة﴾ أَي: المقيمين للصَّلَاة.
وَقَوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالْبدن جعلناها لكم من شَعَائِر الله﴾ الْبدن جمع الْبَدنَة، وَسميت الْبَدنَة لضخامتها، وَالْبَعِير وَالْبَقر يُسمى: بَدَنَة، فَأَما الْغنم لَا تسمى بَدَنَة.
وَقَوله: ﴿جعلناها لكم من شَعَائِر الله﴾ قد بَينا، وَمَعْنَاهُ: من أَعْلَام دين الله، وَسمي الْبدن شَعَائِر؛ لِأَنَّهَا تشعر، وإشعارها هُوَ أَن تطعن فِي سنامها على مَا هُوَ
439
﴿شَعَائِر الله لكم فِيهَا خير فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صواف فَإِذا وَجَبت جنوبها فَكُلُوا مِنْهَا وأطعموا القانع والمعتر كَذَلِك سخرناها لكم لَعَلَّكُمْ تشركون (٣٦) لن ينَال﴾ الْمَعْرُوف فِي الْفِقْه، وَفِي الْآثَار: أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - حج آخر حجَّة فِي آخر سنة، فَكَانَ يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة، فأصابت جَمْرَة صلعته فَسَالَ الدَّم مِنْهَا، فَقَالَ رجل: أشعر أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة قتل.
وَقَوله: ﴿لكم فِيهَا خير﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صواف﴾ وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَ: " صوافي "، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَرَأَ: " صَوَافِن "، وَالْمَعْرُوف ﴿صواف﴾ وَمَعْنَاهُ: مصطفة، وَأما " صوافي " مَعْنَاهُ: خَالِصَة، وَأما " صَوَافِن " فَهُوَ أَن يُقَام على ثَلَاث قَوَائِم، وَيعْقل يَده الْيُسْرَى، وَهَذَا هُوَ الصفون. قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَمَّا أجزنا ساحة الْحَيّ وانتحى بِنَا بطن خبت ذِي خفاف عقنقل)
(ألف الصفون فَمَا يزَال كَأَنَّهُ مِمَّا يقوم على الثَّلَاث كسير)
وَقَوله: ﴿فَإِذا وَجَبت جنوبها﴾ أَي: سَقَطت على جنوبها.
وَقَوله: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وأطعموا القانع والمعتر﴾ الْمَعْرُوف أَن القانع هُوَ السَّائِل، والمعتر هُوَ الَّذِي يتَعَرَّض وَلَا يسْأَل، قَالَ مَالك: أحسن مَا سَمِعت فِي هَذَا أَن القانع هُوَ المعتر والمعتر، الرَّائِي، قَالَ الشَّاعِر:
(على مكثريهم حق من يعتريهم وَعند المقلين السماحة والبذل)
وَيُقَال: القانع هُوَ الَّذِي يقنع بِمَا أعطي، وَالْمَعْرُوف هُوَ القَوْل الأول أَن القانع هُوَ السَّائِل، وَيُقَال: الْمِسْكِين الطّواف.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك سخرناها لكم﴾ أَي: ذللناها لكم.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
440
قَوْله تَعَالَى: ﴿لن ينَال الله لحومها وَلَا دماؤها﴾ رُوِيَ أَن الْمُشْركين كَانُوا إِذا
440
﴿الله لحومها وَلَا دماؤها وَلَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم كَذَلِك سخرها لكم لتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ وَبشر الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِن الله يدافع عَن الَّذين آمنُوا إِن الله لَا يحب كل خوان كفور (٣٨) أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا وَإِن الله على نَصرهم﴾ ذَبَحُوا، أنضحوا بِالدَّمِ حول الْبَيْت، فَأَرَادَ الْمُسلمُونَ أَن يَفْعَلُوا مثل ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: ﴿لن ينَال الله لحومها وَلَا دماؤها وَلَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم﴾، وَمَعْنَاهُ: لَا يصل الدَّم وَاللَّحم إِلَى الله تَعَالَى؛ وَإِنَّمَا تصل التَّقْوَى، وَقيل: لَا تصل الدِّمَاء واللحوم إِلَّا بالتقوى، وَيُقَال: لَا يرضى إِلَّا بالتقوى.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك سخرها لكم﴾ أَي: ذللناها لكم.
وَقَوله: ﴿لتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ﴾ مَعْنَاهُ: لتعظموا الله على مَا هدَاكُمْ.
وَقَوله: ﴿وَبشر الْمُحْسِنِينَ﴾ قد بَينا معنى الْمُحْسِنِينَ من قبل.
441
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يدافع عَن الَّذين آمنُوا﴾ وقرىء: " يدْفع "، والمدافعة عَنْهُم بحفظهم ونصرتهم، وَيُقَال: يدافع الْكفَّار عَن الَّذين آمنُوا، وَيُقَال: يدافع الْمُؤمنِينَ وساوس الشَّيْطَان وهواجس النُّفُوس، وَيُقَال: يدافع عَن الْجُهَّال بالعلماء، وَعَن العصاة بالمطيعين.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يحب كل خوان كفور﴾ الخوان هُوَ كثير الْخِيَانَة، والكفور هُوَ الَّذِي كفر النِّعْمَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذِه أول آيَة نزلت فِي إِبَاحَة الْقِتَال، وَقد رَوَاهُ سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وقرىء: " أذن للَّذين يُقَاتلُون " بِنصب الْألف وَالتَّاء، وَإِنَّمَا ذكر " أُذن " و " أَذن " بِالرَّفْع وَالنّصب؛ " لِأَن الْمُسلمين قبل الْهِجْرَة كَانُوا قد اسْتَأْذنُوا من النَّبِي أَن يقاتلوا الْكفَّار فَلم يَأْذَن لَهُم، فَلَمَّا هَاجرُوا إِلَى الْمَدِينَة أنزل الله تَعَالَى آيَات الْقِتَال ".
441
﴿لقدير (٣٩) الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ بِغَيْر حق إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبنَا الله وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لهدمت صوامع وَبيع وصلوات ومساجد يذكر فِيهَا اسْم﴾ ﴿ظلمُوا﴾ أَي: لأَنهم ظلمُوا.
وَقَوله: ﴿وَإِن الله على نَصرهم لقدير﴾ أَي: قَادر.
442
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ بِغَيْر حق﴾ أَي: ظلما.
وَقَوله: ﴿إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبنَا الله﴾ قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن أخرجُوا؛ لأَنهم قَالُوا: رَبنَا الله، وَقَالَ بَعضهم: لَكِن أخرجُوا لتوحيدهم.
وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض﴾ القَوْل الْمَعْرُوف أَن الدّفع هَاهُنَا هُوَ دفع الْمُجَاهدين عَن الدّين، وَعَن سَائِر الْمُسلمين، وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: عَمَّن لَا يُصَلِّي بالمصلى، وَعَمن لَا يُجَاهد بالمجاهد، وَعَمن لَا يعلم بِمن يعلم.
وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: هَذَا هُوَ الدّفع عَن التَّابِعين بأصحاب رَسُول الله، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الدّفع عَن الْحُقُوق بالشهود، وَعَن قطرب - واسْمه مُحَمَّد بن الْحُسَيْن - قَالَ: هُوَ الدّفع عَن النُّفُوس بِالْقصاصِ.
وَقَوله: ﴿لهدمت صوامع وَبيع﴾ أَي: صوامع الرهبان، وَبيع النَّصَارَى، ﴿وصلوات﴾ الْيَهُود أَي: مَوَاضِع صلَاتهم، وقرىء: " وصلوات " بِرَفْع الصَّاد وَاللَّام قِرَاءَة عَاصِم الجحدري، وَعَن الضَّحَّاك أَنه قَرَأَ: " وصُلوات ".
وَقَوله: ﴿ومساجد﴾ أَي: مَسَاجِد الْمُؤمنِينَ، وَقَالَ بَعضهم: الصوامع لِلنَّصَارَى، وَالْبيع للْيَهُود، والصلوات هِيَ الْمَسَاجِد فِي الطّرق للمسافرين من الْمُؤمنِينَ، وَأما الْمَسَاجِد هِيَ الْمَسَاجِد فِي الْأَمْصَار.
وَقَالَ بَعضهم: الصوامع للصابئين، وَالْبيع لِلنَّصَارَى، والصلوات للْيَهُود، فَإِن قَالَ قَائِل: هَذِه الْمَوَاضِع الَّتِي للْكفَّار يَنْبَغِي أَن تهدم، فَكيف قَالَ: لهدمت؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى الْآيَة: لَوْلَا دفع الله لهدمت هَذِه الْمَوَاضِع فِي زمَان كل نَبِي؛ فهدمت الصوامع فِي زمن مُوسَى، وَالْبيع فِي زمن عِيسَى، والصلوات فِي زمن دَاوُد وَغَيره، والمساجد
442
﴿الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إِن الله لقوي عَزِيز (٤٠) الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور (٤١) وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود (٤٢) وَقوم إِبْرَاهِيم وَقوم لوط (٤٣) وَأَصْحَاب مَدين وَكذب مُوسَى فأمليت للْكَافِرِينَ ثمَّ أخذتهم فَكيف كَانَ نَكِير (٤٤) فكأين من قَرْيَة أهلكناها وَهِي ظالمة فَهِيَ خاوية﴾ فِي زمن مُحَمَّد.
وَقَوله: ﴿يذكر فِيهَا اسْم الله كثيرا﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ولينصرين الله من ينصره إِن الله لقوي عَزِيز﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
443
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض﴾ هَذِه الْآيَة تَنْصَرِف إِلَى قَوْله: ﴿ولينصرن الله من ينصره﴾.
وَقَوله: ﴿أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر﴾ الْآيَة نازلة فِي هَذِه الْأمة، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْآيَة نزلت فِي طلقاء من بني هَاشم، وَهَذَا قَول غَرِيب.
وَقَوله: ﴿وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور﴾ أَي: عواقب الْأُمُور.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح﴾ أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فِي تَعْزِيَة النَّبِي وتسليته، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِن كَذبُوك قَوْمك ﴿فقد كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم إِبْرَاهِيم وَقوم لوط وَأَصْحَاب مَدين وَكذب مُوسَى﴾ يَعْنِي: أَن هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء قد كذبُوا أَيْضا.
وَقَوله: ﴿فأمليت للْكَافِرِينَ﴾ أَي: أمهلت للْكَافِرِينَ، والإمهال من الله هُوَ الاستدراج وَالْمَكْر.
وَقَوله: ﴿ثمَّ أخذتهم فَكيف كَانَ نَكِير﴾ أَي: إنكاري، وإنكاره بالعقوبة.
قوله تعالى :( وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح ) أنزل الله تعالى هذه الآية في تعزية النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته، فكأنه قال : إن كذبوك قومك ( فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى ) يعني : أن هؤلاء الأنبياء قد كذبوا أيضا.
قوله تعالى :( وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح ) أنزل الله تعالى هذه الآية في تعزية النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته، فكأنه قال : إن كذبوك قومك ( فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى ) يعني : أن هؤلاء الأنبياء قد كذبوا أيضا.
وقوله :( فأمليت للكافرين ) أي : أمهلت للكافرين، والإمهال من الله هو الاستدراج والمكر. وقوله :( ثم أخذتهم فكيف كان نكير ) أي : إنكاري، وإنكاره بالعقوبة.
قَوْله: ﴿فكأين من قَرْيَة أهلكناها﴾ أَي: فكم من قَرْيَة أهلكناها.
443
﴿على عروشها وبئر معطلة وَقصر مشيد (٤٥) ﴾
وَقَوله: ﴿وَهِي ظالمة﴾ أَي: أَهلهَا ظَالِمُونَ.
وَقَوله: ﴿فَهِيَ خاوية على عروشها﴾ أَي: سَاقِطَة على سقوفها، والخاوية فِي اللُّغَة هِيَ الخالية، وَذكر الخاوية هَاهُنَا؛ لِأَن الدّور إِذا سَقَطت خلت عَن أَهلهَا.
وَقَوله: ﴿وبئر معطلة﴾. وَقَوله: ﴿وَقصر مشيد﴾ أَي: وَكم من قصر مشيد ذهب أهلوه، وهلكوا. وَفِي المشيد قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المشيد هُوَ المطول، وَالْآخر: أَن المشيد هِيَ الْمَبْنِيّ بالشيد، والشيد هُوَ الجص، قَالَ الشَّاعِر:
(شاده مرما وجلله كلسا فللطير فِي ذراه وكور)
وَقَالَ بَعضهم: إِن الْبِئْر المعطلة وَالْقصر المشيد بِالْيمن، أما الْقصر على قلَّة جبل، وَأما الْبِئْر فِي سفحه، وَكَانَ لكل وَاحِد مِنْهُمَا قوم فِي نعْمَة عَظِيمَة، فَكَفرُوا فأهلكهم الله تَعَالَى، وَبَقِي الْبِئْر وَالْقصر خاليتين عَن الْكل، وَحكي أَن سُلَيْمَان بن دَاوُد - صلوَات الله عَلَيْهِمَا - كَانَ إِذا مر بخربة قَالَ: أيتها الخربة، أَيْن ذهب أهلوك؟
وَعَن أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ فِي خطبَته: أَيْن الَّذين بنوا الْمَدَائِن ورفعوها؟ وَأَيْنَ الَّذين بنوا الْقصر وشيدوها؟ وَأَيْنَ الَّذين جمعُوا الْأَمْوَال؟ ثمَّ يقْرَأ ﴿هَل تحس مِنْهُم من أحد أَو تسمع لَهُم ركزا﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أيش فَائِدَة ذكر الْبِئْر المعطلة وَالْقصر المشيد، وَفِي الْعَالم من هَذَا كثير، فَلَا يكون لذكر هَذَا فَائِدَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه قد جرت عَادَة الْعَرَب بِذكر الديار للاعتبار، وَقد ذكرُوا مثل هَذَا كثيرا فِي أشعارهم، فَكَذَلِك هَاهُنَا ذكر الله تَعَالَى الْقُصُور الخالية والديار [المعطلة] ؛ ليعتبر المعتبرون بذلك.
قَالَ الْأسود بن يعفر:
444
﴿أفلم يسروا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا أَو آذان يسمعُونَ بهَا فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور (٤٦) ويستعجلونك بِالْعَذَابِ﴾
(مَاذَا أومل بعد آل محرق تركُوا مَنَازِلهمْ وَبعد إياد)
445
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا﴾ أَي: يعلمُونَ بهَا، وَيُقَال: إِن الْعقل علم غريزي، وَاسْتدلَّ من قَالَ: إِن مَحَله الْقلب بِهَذِهِ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿أَو آذان يسمعُونَ بهَا﴾ يَعْنِي: مَا يذكر لَهُم من أَخْبَار الْقُرُون الْمَاضِيَة فيعتبروا بهَا.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار﴾ وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلا إِن الْعَمى عمى الْقلب ".
وَقَالَ بَعضهم: عينان فِي الْوَجْه وعينان فِي الْقلب؛ فالعينان فِي الْوَجْه للنَّظَر، والعينان فِي الْقلب للاعتبار، وَعَن قَتَادَة أَنه قَالَ: الْبَصَر الظَّاهِر بلغَة وَمَنْفَعَة، وَأما بصر الْقلب فَهُوَ الْبَصَر النافع.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور﴾ مَعْنَاهُ: أَن الْعَمى الضار هُوَ عمى الْقُلُوب، وَأما عمى الْبَصَر فَلَيْسَ بضار فِي أَمر الدّين، وَمن الْمَعْرُوف فِي كَلَام النَّاس: لَيْسَ الْأَعْمَى من عمي بَصَره، وَإِنَّمَا الْأَعْمَى من عيت بصيرته.
وَحكي عَن ابْن عَبَّاس [أَنه] دخل على مُعَاوِيَة بَعْدَمَا عمي، وَكَانَ أَبوهُ قد عمي
445
﴿وَلنْ يخلف الله وعده وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة مِمَّا تَعدونَ (٤٧) وكأين من قَرْيَة أمليت لَهَا وَهِي ظالمة ثمَّ أَخَذتهَا وإلي الْمصير (٤٨) قل يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا أَنا﴾ فِي آخر عمره، وَكَذَلِكَ جده عبد الْمطلب، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: مَا لكم يَا بني هَاشم، تصابون فِي أبصاركم؟ فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: وَمَا لكم يَا بني أُميَّة، تصابون فِي بصائركم.
وَقَوله: ﴿تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور﴾ هَاهُنَا على طَرِيق التَّأْكِيد مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿يَقُولُونَ بأفواههم﴾ وَمثل قَول الْقَائِل: نظرت بعيني ومشيت بقدمي.
446
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويستعجلونك بِالْعَذَابِ وَلنْ يخلف الله وعده﴾ نزلت الْآيَة فِي النَّضر بن الْحَارِث حِين قَالَ: ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء﴾ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿وَلنْ يخلف الله وعده﴾ أَي: وعد الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَإِن يَوْمًا من الْأَيَّام الَّتِي خلق فِيهَا الدُّنْيَا كألف سنة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: وَإِن يَوْمًا من أَيَّام عَذَابهمْ كألف سنة ﴿مِمَّا تَعدونَ﴾ وَالْقَوْل الثَّانِي هُوَ الأولى؛ لِأَنَّهُ قد سبق ذكر الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وكأين من قَرْيَة أمليت لَهَا﴾ أَي: أمهلت لَهَا.
وَقَوله: ﴿وَهِي ظالمة﴾ يَعْنِي: أَهلهَا ظَالِمُونَ.
وَقَوله: ﴿ثمَّ أَخَذتهَا وإلي الْمصير﴾ أَي: الْمرجع.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا أَنا لكم نَذِير مُبين﴾ أَي: مُنْذر مرشد.
وَقَوله: ﴿فَالَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة ورزق كريم﴾ الرزق الْكَرِيم هُوَ الَّذِي لَا يَنْقَطِع أبدا، وَقيل: هُوَ الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين﴾ أَي: معاندين مشاقين، وقرىء: " معجزين " أَي: مثبطين النَّاس عَن اتِّبَاع النَّبِي، وَيُقَال: ظانين أَنهم يعجزوننا بزعمهم أَن لَا بعث، وَلَا جنَّة، وَلَا نَار، وَمعنى يعجزوننا أَي: يفوتون منا.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم﴾ أَي: النَّار، والجحيم عبارَة عَن مُعظم النَّار.
446
﴿لكم نَذِير مُبين (٤٩) فَالَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة ورزق كريم (٥٠) وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم (٥١) وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقِي﴾
447
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي﴾ وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " وَلَا مُحدث " قَالَ الشَّيْخ الإِمَام - رَضِي الله عَنهُ - أخبرنَا بِهَذَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن [فراس] قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد المقرىء، عَن جده مُحَمَّد، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ هَكَذَا.
فَقَوله: " وَلَا مُحدث " يَعْنِي: ملهم، كَأَن الله حَدثهُ فِي قلبه، وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " قد كَانَ فِي الْأُمَم السَّابِقَة محدثون، فَإِن يكن فِي أمتِي مِنْهُم أحد، فَهُوَ عمر ".
وَأما الْكَلَام فِي الرَّسُول وَالنَّبِيّ، فَقَالَ بَعضهم: هما سَوَاء، وَفرق بَعضهم بَينهمَا فَقَالَ: الرَّسُول هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - بِالْوَحْي، وَالنَّبِيّ هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ الْوَحْي فِي الْمَنَام، أَو يلهم إلهاما، وَمِنْهُم من قَالَ: الرَّسُول الَّذِي لَهُ شَرِيعَة يحفظها، وَالنَّبِيّ هُوَ الَّذِي بعث على شَرِيعَة غَيره فيحفظها، وَقد قَالُوا: كل رَسُول نَبِي، وَلَيْسَ كل نَبِي برَسُول.
وَقَوله: ﴿إِلَّا إِذا تمنى﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن مَعْنَاهُ: إِذا قَرَأَ: ﴿ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته﴾ أَي: فِي قِرَاءَته، قَالَ الشَّاعِر فِي عُثْمَان:
(أهل الخورنق والسرير وبارق وَالْقصر ذِي الشرفات من سداد)
(نزلُوا بأنقرة يسيل عَلَيْهِم مَاء الْفُرَات يَجِيء من أطواد)
(وَأرى النَّعيم وكل مَا يلهى بِهِ يَوْمًا يصير إِلَى بلَى ونفاد)
(تمنى كتاب الله أول لَيْلَة وَآخِرهَا لَاقَى حمام المقادر)
أَي: تَلا، وَقَالَ بَعضهم: تمنى هُوَ حَدِيث النَّفس، والقصة فِي الْآيَة: هُوَ مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَقَتَادَة، وَسَعِيد بن جُبَير، وَالزهْرِيّ، وَالضَّحَّاك، وَغَيرهم أَن
447
النَّبِي قَرَأَ سُورَة " والنجم " فِي صلَاته، وَعِنْده الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَيُقَال: قَرَأَ فِي الصَّلَاة، فَلَمَّا بلغ قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى﴾ ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه: " تِلْكَ الغرانيق العلى وَإِن شفاعتهن لترتجى " وَمر فِي السُّورَة حَتَّى سجد فِي آخرهَا، ففرح الْمُشْركُونَ وسروا، وَقَالُوا: قد ذكر آلِهَتنَا بِخَير، وَلَا نُرِيد إِلَّا هَذَا، وسجدوا مَعَه. قَالَ ابْن مَسْعُود: وَلم يسْجد الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَرفع تُرَابا إِلَى جَبهته، وَقَالَ: سجدت - وَكَانَ شَيخا كَبِيرا - قَالَ: فجَاء جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَالَ: اقْرَأ عَليّ سُورَة " والنجم " فَقَرَأَ، وَألقى الشَّيْطَان على لِسَانه هَكَذَا، فَقَالَ: هَذَا لم آتٍ بِهِ، وَأخرجه من قِرَاءَته، فَحزن رَسُول الله حزنا شَدِيدا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة عَلَيْهِ: ﴿وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته﴾.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يجوز هَذَا على النَّبِي، وَقد كَانَ مَعْصُوما من الْغَلَط فِي أصل الدّين؟ وَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان﴾، وَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه﴾ أَي: إِبْلِيس؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: اخْتلفُوا فِي الْجَواب عَن هَذَا، قَالَ بَعضهم: إِن هَذَا أَلْقَاهُ بعض الْمُنَافِقين فِي قِرَاءَته، وَكَانَ الْمُنَافِق هُوَ القارىء فَظن الْمُشْركُونَ أَن الرَّسُول قَرَأَ، وسمى ذَلِك الْمُنَافِق شَيْطَانا؛ لِأَن كل كَافِر متمرد بِمَنْزِلَة الشَّيْطَان، وَهَذَا جَوَاب ضَعِيف.
448
﴿الشَّيْطَان ثمَّ يحكم الله آيَاته وَالله عليم حَكِيم (٥٢) ليجعل مَا يلقِي الشَّيْطَان فتْنَة للَّذين فِي قُلُوبهم مرض والقاسية قُلُوبهم وَإِن الظَّالِمين لفي شقَاق بعيد (٥٣) ﴾
وَمِنْهُم من قَالَ: إِن الرَّسُول لم يقْرَأ، وَلَكِن الشَّيْطَان ذكر هَذَا بَين قِرَاءَة النَّبِي، وَسمع الْمُشْركُونَ ذَلِك، وظنوا أَن الرَّسُول قَرَأَ، وَهَذَا اخْتِيَار الْأَزْهَرِي وَغَيره.
وَقَالَ بَعضهم: إِن الرَّسُول أغفأ إغفأة ونعس، فَجرى على لِسَانه هَذَا، وَلم يكن بِهِ خبر بإلقاء الشَّيْطَان، وَهَذَا قَول قَتَادَة، وَأما الْأَكْثَرُونَ من السّلف ذَهَبُوا إِلَى أَن هَذَا شَيْء جرى على لِسَان الرَّسُول بإلقاء الشَّيْطَان من غير أَن يعْتَقد، وَذَلِكَ محنة وفتنة من الله (وَعَادَة)، وَالله تَعَالَى يمْتَحن عباده بِمَا شَاءَ، ويفتنهم بِمَا يُرِيد، وَلَيْسَ عَلَيْهِ اعْتِرَاض لأحد وَقَالُوا: إِن هَذَا وَإِن كَانَ غَلطا عَظِيما، فالغلط يجوز على الْأَنْبِيَاء، إِلَّا أَنهم لَا يقرونَ عَلَيْهِ.
وَعَن بَعضهم: أَن شَيْطَانا يُقَال لَهُ: الْأَبْيَض عمل هَذَا الْعَمَل، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه تصور بِصُورَة جِبْرِيل، وَأدْخل فِي قِرَاءَته هَذَا، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿فَينْسَخ الله مَا يلقِي الشَّيْطَان﴾ أَي: يزِيل الله مَا يلقِي الشَّيْطَان.
وَقَوله: ﴿ثمَّ يحكم الله آيَاته﴾ أَي: يثبت الله آيَاته.
وَقَوله: ﴿وَالله عليم حَكِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
449
قَوْله تَعَالَى: ﴿ليجعل مَا يلقِي الشَّيْطَان فتْنَة للَّذين فِي قُلُوبهم مرض﴾ أَي: محنة وبلية.
وَقَوله: ﴿والقاسية قُلُوبهم﴾ أَي: الجافة قُلُوبهم عَن قبُول الْحق.
وَقَوله: ﴿وَإِن الظَّالِمين لفي شقَاق بعيد﴾ أَي: فِي ظلال طَوِيل، وَقيل: مُسْتَمر، وَهُوَ الْأَحْسَن.
449
﴿وليعلم الَّذين أُوتُوا الْعلم أَنه الْحق من رَبك فيؤمنوا بِهِ فتخبت لَهُ قُلُوبهم وَإِن الله لهاد الَّذين آمنُوا إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (٥٤) وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا فِي مرية مِنْهُ﴾
450
قَوْله تَعَالَى: ﴿وليعلم الَّذين أُوتُوا الْعلم أَنه الْحق من رَبك﴾ يَعْنِي: مَا أثْبته وَلم ينسخه.
وَقَوله: ﴿فيؤمنوا بِهِ﴾ (أَي: يَعْتَقِدُونَ بِهِ من قبل الله تَعَالَى).
وَقَوله: ﴿فتخبت لَهُ قُلُوبهم﴾ أَي: تسكن إِلَيْهِ قُلُوبهم.
وَقَوله: ﴿وَإِن الله لهادي الَّذين آمنُوا إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: إِلَى طَرِيق قويم، وَهُوَ الْإِسْلَام.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا فِي مرية مِنْهُ﴾ أَي: فِي شكّ مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿حَتَّى تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة﴾ قيل: هِيَ الْمَوْت، وَقيل: هِيَ الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿أَو يَأْتِيهم عَذَاب يَوْم عقيم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْيَوْم الْعَقِيم هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْيَوْم الْعَقِيم هُوَ يَوْم بدر، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: أَربع آيَات فِي يَوْم بدر: أَحدهَا: هُوَ قَوْله: ﴿عَذَاب يَوْم عقيم﴾، وَالْآخر: قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى﴾، وَالثَّالِث: قَوْله تَعَالَى: ﴿فَسَوف يكون لزاما﴾، وَالرَّابِع: قَوْله تَعَالَى: ﴿ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر﴾. فالقتل يَوْم بدر هُوَ الْعَذَاب الْأَدْنَى، وَأما الْعَقِيم فِي اللُّغَة هُوَ الْمَنْع، يُقَال: رجل عقيم، وَامْرَأَة عقيم إِذا منعا من الْوَلَد، وريح عقيم إِذا لم تمطر، وَيَوْم عقيم إِذا لم يكن فِيهِ خير وَلَا بركَة، (فَيوم بدر يَوْم عقيم؛ لِأَنَّهُ لم يكن فِيهِ خير وَلَا بركَة) للْكفَّار.
قَالَ الشَّاعِر:
450
﴿حَتَّى تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة أَو يَأْتِيهم عَذَاب يَوْم عقيم (٥٥) الْملك يَوْمئِذٍ لله يحكم بَينهم فَالَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي جنَّات النَّعيم (٥٦) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِك لَهُم عَذَاب مهين (٥٧) وَالَّذين هَاجرُوا فِي سَبِيل الله ثمَّ قتلوا أَو مَاتُوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وَإِن الله لَهو خير الرازقين (٥٨) ليدخلنهم مدخلًا يرضونه وَإِن الله لعليم حَلِيم (٥٩) ذَلِك وَمن عاقب بِمثل مَا عُوقِبَ بِهِ ثمَّ﴾
451
قَوْله تَعَالَى: ﴿الْملك يَوْمئِذٍ لله يحكم بَينهم﴾ أَي: يقْضِي بَينهم.
وَقَوله: ﴿فَالَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي جنَّات النَّعيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِك لَهُم عَذَاب مهين﴾ أَي: مذل مخز.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين هَاجرُوا فِي سَبِيل الله ثمَّ قتلوا أَو مَاتُوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا﴾ الرزق الْحسن هُوَ الَّذِي لَا يَنْقَطِع أبدا، وَذَلِكَ رزق الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿وَإِن الله لَهو خير الرازقين﴾ أَي: أفضل الرازقين.
وَقَوله: ﴿ليدخلنهم مدخلًا يرضونه﴾. وقرىء: " مدخلًا " بِفَتْح الْمِيم، والمدخل بِالرَّفْع من الإدخال، والمدخل بِالْفَتْح الْموضع.
وَقَوله: ﴿وَإِن الله لعليم حَلِيم﴾ أَي: عليم بأعمال الْعباد، حَلِيم عَنْهُم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك وَمن عاقب بِمثل مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ رُوِيَ أَن قوما من الْمُسلمين لقوا قوما من الْمُشْركين فِي آخر الْمحرم، وَقد بقيت ليلتان مِنْهُ، فتصد الْمُشْركُونَ الْمُسلمين فَقَالَ لَهُم الْمُسلمُونَ: كفوا، فَإِن هَذَا شهر حرَام، فَلم يكفوا؛ فَقَاتلهُمْ الْمُسلمُونَ على وَجه الدّفع، وظفروا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَيُقَال: إِن قوما من الْمُشْركين قتلوا قوما من الْمُسلمين، فظفر بهم النَّبِي
451
﴿بغي عَلَيْهِ لينصرنه الله إِن الله لعفو غَفُور (٦٠) ذَلِك بِأَن الله يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل وَأَن الله سميع بَصِير (٦١) ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق وَأَن مَا يدعونَ من دونه هُوَ الْبَاطِل وَأَن الله هُوَ الْعلي الْكَبِير (٦٢) ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة إِن الله لطيف خَبِير (٦٣) لَهُ مَا فِي السَّمَوَات﴾ وقتلهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَإِنَّمَا سمي الْفِعْل الأول عُقُوبَة، وَإِن كَانَ فِي الْحَقِيقَة اسْم الْعقُوبَة يَقع على مَا يكون جَزَاء للجناية على ازدواج الْكَلَام؛ لِأَنَّهُ ذكره فِي مُقَابلَة الْعقُوبَة، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا﴾.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ثمَّ بغى عَلَيْهِ﴾ الْبَغي هَاهُنَا مَا فعله الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين من الظُّلم والإخراج من الديار وَأخذ الْأَمْوَال.
وَقَوله: ﴿لينصرنه الله﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿إِن الله لعفو غَفُور﴾ أَي: ذُو تجَاوز وعفو عَن الْمُسلمين.
452
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك بِأَن الله يولج اللَّيْل فِي النَّهَار﴾ الْآيَة. ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق﴾ أَي: ذُو الْحق.
وَقَوله: ﴿وَأَن مَا يدعونَ من دونه هُوَ الْبَاطِل﴾ يَعْنِي: لَيْسَ بِحَق.
وَقَوله: ﴿وَأَن الله هُوَ الْعلي الْكَبِير﴾ أَي: المتعالي المتعظم، وَيُقَال: إِن الْعلي هَاهُنَا ينْصَرف إِلَى الدّين أَي: دينه يَعْلُو الْأَدْيَان، وَالْكَبِير صفته تبَارك وَتَعَالَى، وَيُقَال: الْحق اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى، ذكره يحيى بن سَلام، وَأما الْبَاطِل فَيُقَال: إِنَّه إِبْلِيس، وَيُقَال: إِنَّه الْأَوْثَان.
قَوْله: ﴿ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة﴾ أَي: ذَات خضرَة، كَمَا يُقَال: مسبعَة ومبقلة أَي: أَرض ذَات بقل وَذَات مسبع.
قَالَ عِكْرِمَة: الْآيَة نزلت فِي مَكَّة خَاصَّة، فَإِن الْمَطَر هُنَاكَ يَقع بِاللَّيْلِ، وتخضر
452
﴿وَمَا فِي الأَرْض وَإِن الله لَهو الْغَنِيّ الحميد (٦٤) ألم تَرَ أَن الله سخر لكم مَا فِي الأَرْض والفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بأَمْره ويمسك السَّمَاء أَن تقع على الأَرْض إِلَّا بِإِذْنِهِ إِن الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ الأَرْض بِالنَّهَارِ، وَعَن الْخَلِيل قَالَ: " ألم تَرَ " تَنْبِيه ثمَّ ابْتِدَاء، وَقَالَ: ينزل الله الْمَطَر فَتُصْبِح الْأَرْضين مخضرة، فَلهَذَا رفع تصبح.
وَقَوله: ﴿إِن الله لطيف خَبِير﴾ أَي: لطيف باستخراج النَّبَات من الأَرْض وبرزق الْعباد، خَبِير بِمَا فِي قُلُوبهم أَي: بِمَا يعرض فِي قُلُوبهم عِنْد نُقْصَان الرزق أَو عَدمه، وَقيل: عِنْد جدوبة الأَرْض.
453
قَوْله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَإِن الله لَهو الْغَنِيّ الحميد﴾ أَي: الْغَنِيّ عَن أَعمال الْخلق، الْمَحْمُود فِي أَفعاله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ أَن الله سخر لكم مَا فِي الأَرْض والفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بأَمْره﴾ أَي: وسخر الْفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بأَمْره، وَيُقَال: مَا فِي الأَرْض هِيَ الدَّوَابّ الَّتِي تركب فِي الْبر، وَأما الْفلك هُوَ الَّذِي يركب فِي الْبَحْر.
وَقَوله: ﴿ويمسك السَّمَاء أَن تقع على الأَرْض إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ فِي بعض الْآثَار: أَنه إِذا أظهرت الصلبان فِي الأَرْض، وَضربت بالنواقيس، ارتجت السَّمَاء وَالْأَرْض، وكادت السَّمَاء أَن تقع، فَيُرْسل الله (مَلَائِكَة) فيمسكون بأطراف السَّمَاء وَالْأَرْض، ويقرءون سُورَة الْإِخْلَاص حَتَّى تسكن، وَأما الْمَعْرُوف فِي معنى الْآيَة أَن الله يمسك السَّمَاء بِغَيْر عمد، على مَا ذكرنَا من قبل.
وَقَوله: ﴿إِن الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم﴾ قد بَيناهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ الْإِحْيَاء الأول هُوَ الْإِنْشَاء، والإحياء الثَّانِي هُوَ الْبَعْث من الْقُبُور.
وَقَوله: ﴿إِن الْإِنْسَان لكفور﴾ أَي: لكفور (لنعمة الله).
453
﴿إِن الْإِنْسَان لكفور (٦٦) لكل أمة جعلنَا منسكا هم ناسكوه فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر وادع إِلَى رَبك إِنَّك لعلى هدى مُسْتَقِيم (٦٧) وَإِن جادلوك فَقل الله أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ (٦٨) الله يحكم بَيْنكُم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (٦٩) ألم تعلم أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْض إِن ذَلِك فِي كتاب إِن ذَلِك على الله يسير﴾
454
قَوْله تَعَالَى: ﴿لكل أمة جعلنَا منسكا﴾ بِفَتْح السِّين، وقرىء: " منسكا " بِكَسْرِهَا، فالمنسك بِالْكَسْرِ مَوضِع النّسك، كالمجلس مَوضِع الْجُلُوس، وَأما المنسك بِالْفَتْح هُوَ على الْمصدر للنسك، قَالَ الْفراء: المنسك بِالْفَتْح مَوضِع الْعِبَادَة، والمناسك مَوَاضِع أَرْكَان الْحَج، وَيُقَال: المنسك: المذبح، وَعَن ابْن عَبَّاس: منسكا أَي: عيدا، وَقيل: منسكا أَي: شَرِيعَة وملة.
وَقَوله: ﴿هم ناسكوه﴾ أَي: عاملون بهَا.
وَقَوله: ﴿فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر﴾ منازعتهم أَنهم قَالُوا: أتأكلون مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ، وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتله الله؟
وَقَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: ﴿فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر﴾ أَي: فَلَا تنازعهم، قَالَ: وَهَذَا مُسْتَقِيم فِي كل مَا لَا يكون إِلَّا بَين اثْنَيْنِ، يجوز أَن يُقَال: لَا يخاصمنك فلَان أَي: لَا تخاصمه، وَلَا يجوز أَن يُقَال: لَا يضربنك فلَان بِمَعْنى لَا تضربه؛ لِأَن الضَّرْب إِنَّمَا يكون من الْوَاحِد، وَإِنَّمَا قَالَ الزّجاج هَذَا؛ لِأَن قَوْله: ﴿فَلَا ينازعنك﴾ إِخْبَار، وَقد نازعوه، وَلَا يجوز الْخلاف فِي خبر الله تَعَالَى، فَذكر أَن الْمَعْنى: فَلَا تنازعهم؛ ليَكُون أمرا لَا خَبرا، وقرىء: " فَلَا ينزعنك فِي الْأَمر " أَي: لَا يغلبنك.
وَقَوله: ﴿وادع إِلَى رَبك إِنَّك لعلى هدى مُسْتَقِيم﴾ أَي: دين مُسْتَقِيم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن جادلوك فَقل الله أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ الله يحكم بَيْنكُم﴾ الْآيَة ظَاهر الْمَعْنى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٨:قوله تعالى :( وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم... ) الآية ظاهر المعنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تعلم أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْض﴾ معنى قَوْله: ﴿ألم تعلم﴾ أَي: قد علمت.
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِك فِي كتاب﴾ هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
454
( ﴿٧٠) ويعبدون من دون الله مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم وَمَا للظالمين من نصير (٧١) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات تعرف فِي وُجُوه الَّذين كفرُوا الْمُنكر يكادون يسطون بالذين يَتلون عَلَيْهِم آيَاتنَا قل أفأنبئكم بشر من ذَلِكُم النَّار وعدها الله الَّذين كفرُوا وَبئسَ الْمصير (٧٢) يَا أَيهَا النَّاس ضرب مثل﴾
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِك على الله يسير﴾ أَي: هَين.
455
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويعبدون من دون الله مالم ينزل بِهِ سُلْطَانا﴾ أَي: حجَّة.
وَقَوله: ﴿وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم﴾ يَعْنِي: أَنهم فعلوا مَا فعلوا عَن جهل لَا عَن علم.
وَقَوله: ﴿وَمَا للظالمين من نصير﴾ أَي: مَانع من الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات تعرف فِي وُجُوه الَّذين كفرُوا الْمُنكر﴾ أَي: الْإِنْكَار.
وَقَوله: ﴿يكادون (يسطون﴾ ) أَي: يقعون.
وَقَوله: ﴿بالذين يَتلون عَلَيْهِم آيَاتنَا﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ، وَقيل: يتناولون بالشتم وَالْمَكْرُوه.
وَقَوله: ﴿قل أفأنبئكم بشر من ذَلِكُم﴾ أَي: بشر عَلَيْكُم وأكره لكم.
وَقَوله: ﴿النَّار﴾ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا مَا ذَلِك؟ فَقَالَ: أجب، وَقل: النَّار.
وَقَوله: ﴿وعدها الله الَّذين كفرُوا وَبئسَ الْمصير﴾ أَي: بئس الْمرجع.
قَوْله: ﴿يَا أَيهَا النَّاس ضرب مثل فَاسْتَمعُوا لَهُ﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أَيْن الْمثل؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: ضرب لي مثل أَي: شبه لي مثل، على معنى أَن الْمُشْركين اتَّخذُوا الْأَصْنَام معي آلِهَة ﴿فَاسْتَمعُوا لَهُ﴾ أَي: اسْتَمعُوا خبر الْأَصْنَام وحالها، ثمَّ قَالَ: ﴿إِن الَّذين تدعون من دون الله﴾ الْأَصْنَام.
وَقَوله: ﴿لن يخلقوا ذبابا وَلَو اجْتَمعُوا لَهُ﴾ ذكر الذُّبَاب لخسته ومهانته وَضَعفه،
455
﴿فَاسْتَمعُوا لَهُ إِن الَّذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا وَلَو اجْتَمعُوا لَهُ وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ ضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب (٧٣) مَا قدرُوا الله حق قدره إِن الله لقوي عَزِيز (٧٤) الله يصطفي من الْمَلَائِكَة رسلًا وَمن النَّاس﴾ وَعَن بعض السّلف قَالَ: خلق الله تَعَالَى الذُّبَاب ليذل؛ بِهِ الْجَبَابِرَة، وَهُوَ حَيَوَان مستأنس مُمْتَنع؛ لِأَنَّهُ يسْتَأْنس بك فَيَقَع عَلَيْك، ثمَّ إِذا أردْت أَن تَأْخُذهُ امْتنع مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا يطلون الْأَصْنَام بالزعفران، فَإِذا جف جَاءَ الذُّبَاب واستلب مِنْهُ شَيْئا، فَأخْبر الله تَعَالَى أَن الْأَصْنَام لَا يستنقذون من الذُّبَاب مَا استلبه، وَعَن السّديّ: أَنهم كَانُوا يأْتونَ بِالطَّعَامِ، ويضعون بَين يَدي الْأَصْنَام، فَيَجِيء الذُّبَاب ويقعن عَلَيْهِ، ويأكلن مِنْهُ، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ﴾.
وَقَوله: ﴿ضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب﴾ (الطَّالِب الذُّبَاب، وَالْمَطْلُوب الصَّنَم، وَيُقَال: الطَّالِب الصَّنَم، وَالْمَطْلُوب) الذُّبَاب.
وَقيل: ﴿ضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب﴾ أَي: العابد والمعبود.
456
وَقَوله: ﴿مَا قدرُوا الله حق قدره﴾ أَي: مَا عظموا الله حق عَظمته، وَيُقَال: مَا عرفُوا الله حق مَعْرفَته، وَقيل: مَا وصفوا الله حق صفته، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الْيَهُود قَالُوا: إِن الله خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام، واستراح يَوْم السبت، فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿مَا قدرُوا الله حق قدره﴾.
وَقَوله: ﴿إِن الله لقوي عَزِيز﴾ أَي: قوي على مَا يُرِيد، عَزِيز أَي: منيع فِي ملكه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله يصطفي من الْمَلَائِكَة رسلًا وَمن النَّاس﴾ أما من الْمَلَائِكَة فهم: جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، وإسرافيل، وَملك الْمَوْت، وَغَيرهم، وَأما من النَّاس فهم: آدم، ونوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمّد، وَغَيرهم صلوَات الله عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿إِن الله سميع بَصِير﴾ سميع لأقوال الْعباد، بَصِير بهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم﴾ قد بَينا هَذَا من قبل، وَيُقَال:
456
﴿إِن الله سميع بَصِير (٧٥) يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (٧٦) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ارْكَعُوا واسجدوا واعبدوا ربكُم وافعلوا الْخَيْر لَعَلَّكُمْ تفلحون (٧٧) وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده﴾ مَا بَين أَيْديهم: مَا قدمُوا من الْعَمَل، وَمَا خَلفهم: مَا أخروها فَلم يعملوها.
وَقَوله: ﴿وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور﴾ تصير الْأُمُور.
457
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ارْكَعُوا واسجدوا﴾ وَالرُّكُوع وَالسُّجُود معلومان، وَلَا تقبل صَلَاة إِلَّا بهما سوى صَلَاة الْجِنَازَة.
وَقَوله: ﴿واعبدوا ربكُم﴾ أَي: وحدوا ربكُم، وَيُقَال: أَخْلصُوا فِي ركوعكم وسجودكم.
وَقَوله: ﴿وافعلوا الْخَيْر﴾ أَي: صلَة الْأَرْحَام وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَسَائِر وُجُوه الْبر.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾ (وتفوزون).
وَفِي هَذِه الْآيَة سَجْدَة للتلاوة منقولة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، وروى مشرح بن هاعان، عَن عقبَة بن عَامر أَن النَّبِي قَالَ: " فِي الْحَج سَجْدَتَانِ، من لم يسجدهما فَلَا يَقْرَأها "، وَفِي رِوَايَة: " من لم يسجدهما فَلم يَقْرَأها ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده﴾ اعْلَم أَن الْجِهَاد يكون بِالنَّفسِ، وبالقلب، وبالمال؛ فَأَما الْجِهَاد بِالنَّفسِ فَهُوَ فعل الطَّاعَات وَاخْتِيَار الأشق من الْأُمُور، وَأما الْجِهَاد بِالْقَلْبِ فَهُوَ دفع الخواطر الردية، وَأما الْجِهَاد بِالْمَالِ فَهُوَ الْبَذْل (والإيثار).
وَقَوله: ﴿حق جهاده﴾ قَالَ بَعضهم: " هُوَ أَن يُطِيع الله (وَلَا يعصيه)، ويذكره
457
﴿هُوَ اجتباكم وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم هُوَ سَمَّاكُم﴾ فَلَا ينساه، ويشكره فَلَا يكفره، وَقَالَ بَعضهم: حق جهاده: هُوَ أَن لَا يخل بِفَرْض مَا.
وَعَن بعض أهل التَّحْقِيق قَالَ: حق جهاده هُوَ أَن لَا يتْرك جِهَاد نَفسه طرفَة عين. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي لما رَجَعَ من غَزْوَة تَبُوك قَالَ: " رَجعْنَا من الْجِهَاد الْأَصْغَر إِلَى الْجِهَاد الْأَكْبَر " وعنى بِالْجِهَادِ الْأَصْغَر هُوَ الْجِهَاد مَعَ الْكفَّار، وبالجهاد الْأَكْبَر الْجِهَاد مَعَ النَّفس، وَأنْشد بَعضهم.
(عقم النِّسَاء فَلَا يلدن شبيهه إِن النِّسَاء بِمثلِهِ لعقيم)
(يَا رب إِن جهادي غير مُنْقَطع وكل أَرْضك لي ثغر وطرسوس)
وَقَوله: ﴿هُوَ اجتباكم﴾ أَي: اختاركم.
وَقَوله: ﴿وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج﴾ (فَإِن قَالَ قَائِل: فِي الدّين حرج كثير بِلَا إِشْكَال فَمَا معنى قَوْله: ﴿وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج﴾ ) ؟ قُلْنَا: فِيهِ أَقُول: أَحدهَا: أَن الْحَرج هُوَ الضّيق، وَمعنى الْآيَة هَاهُنَا: أَنه لَا ضيق فِي الدّين بِحَيْثُ لَا خلاص عَنهُ، فَمَعْنَاه: أَن المذنب وَإِن وَقع فِي ضيق من مَعْصِيَته، فقد جعل الله لَهُ خلاصا بِالتَّوْبَةِ، وَكَذَلِكَ إِذا حنث فِي يَمِينه جعل الله لَهُ الْخَلَاص بِالْكَفَّارَةِ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة أَن الله تَعَالَى لم يُكَلف نفسا فَوق وسعهَا، وَقد ذكرنَا هَذَا من قبل، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن المُرَاد من الْآيَة أَنه إِذا كَانَ مَرِيضا فَلم يقدر على الصَّلَاة قَائِما صلى قَاعِدا، فَإِن لم يقدر على الصَّلَاة قَاعِدا صلى بِالْإِيمَاءِ، وَيفْطر إِذا شقّ عَلَيْهِ الصَّوْم بسفر أَو مرض أَو هرم، وَكَذَلِكَ سَائِر وُجُوه الرُّخص.
وَقَوله: ﴿مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْآيَة خطاب مَعَ الْعَرَب، وَقد كَانَ إِبْرَاهِيم أَبَا لَهُم، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة خطاب مَعَ جَمِيع الْمُسلمين، وَجعل
458
﴿الْمُسلمين من قبل وَفِي هَذَا ليَكُون الرَّسُول شَهِيدا عَلَيْكُم وتكونوا شُهَدَاء على النَّاس فأقيموا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة﴾ إِبْرَاهِيم أباهم على معنى وجوب احترامه، وَحفظ حَقه كَمَا يجب احترام الْأَب وَحفظ حَقه، وَإِنَّمَا نصب مِلَّة على معنى: ابْتَغوا مِلَّة إِبْرَاهِيم.
وَقَوله: ﴿هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الله سَمَّاكُم الْمُسلمين ﴿من قبل﴾ أَو فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: ﴿وَفِي هَذَا﴾ أَي: فِي الْقُرْآن، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن إِبْرَاهِيم سَمَّاكُم الْمُسلمين، وَالدَّلِيل على هَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى قَالَ خَبرا عَن إِبْرَاهِيم: ﴿رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك﴾ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿ليَكُون الرَّسُول شَهِيدا عَلَيْكُم وتكونوا شُهَدَاء على النَّاس﴾ ذكرنَا هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة وَالنِّسَاء، وَفِي الْخَبَر: " أَن الله تَعَالَى أعْطى هَذِه الْأمة ثَلَاثًا مثل مَا أعْطى الْأَنْبِيَاء: كَانَ يُقَال للنَّبِي: اذْهَبْ فَلَا حرج عَلَيْك، وَقَالَ الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة: ﴿وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج﴾، وَكَانَ يُقَال للنَّبِي: أَنْت شَاهدا على أمتك، فَقَالَ الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس﴾، وَكَانَ يُقَال للنَّبِي: سل تعطه، فَقَالَ الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم﴾ ".
وَقَوله: ﴿فأقيموا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وروى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا تقبل الصَّلَاة إِلَّا بِالزَّكَاةِ ".
وَقَوله: ﴿واعتصموا بِاللَّه﴾ أَي: تمسكوا بدين الله، وَيُقَال مَعْنَاهُ: ادعوا الله
459
﴿واعتصموا بِاللَّه هُوَ مولاكم فَنعم الْمولى وَنعم النصير (٧٨) ﴾ ليثبتكم على دينه، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الِاعْتِصَام بِاللَّه هُوَ التَّمَسُّك بِالْكتاب وَالسّنة، وَعَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: الِاعْتِصَام بِالسنةِ نجاة.
وَقَوله: ﴿هُوَ مولاكم﴾ أَي: حافظكم ﴿فَنعم الْمولى﴾ أَي: الْحَافِظ ﴿وَنعم النصير﴾ أَي: النَّاصِر.
460

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ (١) ﴾
تَفْسِير سُورَة الْمُؤمنِينَ وَهِي مَكِّيَّة

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

461
Icon