تفسير سورة الأحزاب

المحرر في أسباب نزول القرآن
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن .
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .

سورة الأحزاب
١٣٧ - قال الله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أحمد والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنه قيل له: أرأيت قول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ما عنى بذلك؟ قال: قام نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً يصلي، قال: فخطر خطرةً فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين، قال: قلباً معكم، وقلبًا معهم؟ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر بعض المفسرين
795
هذا الحديث بنصه كالطبري وابن العربي وابن كثير.
وذكر بعضهم الحديث بمعناه كابن عطية والقرطبي.
قال ابن عطية: (قال ابن عبَّاسٍ سببها أن بعض المنافقين قال: إن محمداً له قلبان؛ لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعةً ثم عاد إلى شأنه فقالوا ذلك عنه فنفاه اللَّه تعالى عنه) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الحديث المذكور ليس سبب نزول الآية لأمرين:
الأول: أن الحديث ضعيف فلا ينهض للاحتجاج به على السببية.
الثاني: أن سياقه فيه غرابة لأن قوله: (فخطر خطرة) معناه الوسوسة فكيف علم المنافقون، الوسوسة مع أن مكانها الصدر لقوله تعالى: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ).
ثم قوله في الحديث: (قلباً معكم وقلباً معهم) هذا مشكل لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُعلت الصلاة قرة عينه وهو أتقى الخلق وأخشاهم للَّه فكيف يقال: (قلباً معكم)؛ لأن الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حال الصلاة. ثم قوله: (وقلباً معهم) من هم هؤلاء؟
فإن قيل: ما سبب نزولها إذن؟
فالجواب: قال ابن عطية: (ويظهر من الآية أنها بجملتها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك، وإعلام بحقيقة الأمر فمنها أن بعض العرب كانت تقول إن الإنسان له قلبان قلب يأمره وقلب ينهاه وكان تضاد الخواطر يحملها على ذلك. وذكر كلامًا إلى أن قال: وكانت العرب تعتقد الزوجة إذا ظوهر منها بمنزلة الأم وتراه طلاقاً وكانت تعتقد الدعي المتبنى ابناً فأعلمَ الله تعالى أنه لا أحد بقلبين) اهـ.
796
وبناءً عليه فليس للآية سبب معين يعول عليه بل نزلت ابتداءً لهدم بعض المعتقدات الباطلة والله أعلم.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سببًا للنزول لضعف سنده وغرابة سياقه وأن الآية قد نزلت ابتداءً لإبطال ما كان يعتقده بعض الكافرين من أمر الجاهلية. واللَّه أعلم.
* * * * *
797
١٣٨ - قال اللَّه تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد والدارمي، والترمذي، والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - أن أبا حذيفة، وكان ممن شهد بدراً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبنى سالماً وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زيداً، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه، حتى أنزل الله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) فجاءت سهلةُ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت الحديث.
ولفظ الدارمي: فأنزل الله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ).
٢ - وأخرج مسلم وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن:
798
(ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في تفسير هذه الآية الكريمة. وقد ذكر بعض المفسرين أحد هذين الحديثين بلفظه كالبغوي وابن العربي والقرطبي.
وبعضهم ذكره بمعناه كالطبري وابن عطية وابن كثير.
قال النووي: (قال العلماء كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تبنى زيداً ودعاه ابنه، وكانت العرب تفعل ذلك يتبني الرجل مولاه أو غيره فيكون ابناً له يوارثه وينتسب إليه حتى نزلت الآية فرجع كل إنسان إلى نسبه) اهـ.
وقال ابن حجر عن حديث عائشة: (أن أبا حذيفة تبنى سالماً أي ادعى أنه ابنه وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) فإنها لما نزلت صار يدعى مولى أبي حذيفة) اهـ.
والظاهر - واللَّه أعلم - أن الحديثين المذكورين ليسا سبباً لنزول الآية الكريمة للأسباب التالية:
١ - أن المصطلح عليه عند العلماء في أسباب النزول أن تقع حادثة أو سؤال فتأتي الآية مجيبة عن السؤال ومعالجةً للحادثة، وهو ما لم يحدث معنا هنا؛ لأن التبني كان قديمًا في العرب، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تبنى زيدًا قبل الهجرة بزمن، ولم تنزل آية الأحزاب إلا في المدينة لأن سورة الأحزاب مدنية
799
بالاتفاق، وإذا كان الأمر كذلك، فليس التبني سببًا للنزول لطول الزمن، وبعد الأمد.
٢ - سياق الحديث لا يشير إلى السببية لقوله: (حتى أنزل الله) والمعنى أن التبني قد استمر حتى الغاية التي أنزل الله فيها إبطاله، بخلاف قولهم: فأنزل الله فإن فاء التعقيب تدل على تعقب النزول للحدث.
٣ - أن العلماء في كلامهم لا يشيرون إلى السببية، وربما كان هذا لأنهم لا يرون للآية سبباً.
وبناءً على ما تقدم فإن الآية نزلت ابتدءًا لعلاج بعض الأمور الجاهلية التي كانت منتشرة بين العرب ومنها التبني، كما نفت من قبل أن يكون للرجل قلبان أو التسوية بين الأم والزوجة عند المظاهرة منها. واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الآية لم تنزل على السبب المذكور لعدم الدليل على ذلك واللَّه أعلم.
* * * * *
800
١٣٩ - قال اللَّه تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر، فقال: تغيبتُ عن أول مشهد شهده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئن رأيت قتالاً ليريَن اللَّه ما أصنع. فلما كان يوم أحد انهزم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقبل أنس، فرأى سعد بن معاذ منهزمًا، فقال: يا أبا عمرو، أين؟ أين؟ قم، فوالذي نفسي بيده، إني لأجد ريح الجنة دون أُحد فحمل حتى قتل. فقال سعد بن معاذ: فوالذي نفسي بيده ما استطعت ما استطاع. فقالت أُخته: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه ولقد كانت فيه بضع وثمانون ضربة، من بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنةٍ برمح، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيه: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إلى قوله: (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر ذلك جمهور المفسرين كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
801
قال الطبري: (وقيل إن هذه الآية نزلت في قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا الله أن يفوا قتالاً للمشركين مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنهم من أوفى فقضى نحبه ومنهم من بدل، ومنهم من أوفى ولم يقض نحبه وكان منتظراً على ما وصفهم الله به من صفاتهم في هذه الآية) اهـ.
وقال ابن عطية: (فممن سمى المفسرون أنه أشير إليه بذلك أنس بن النضر عم أنس بن مالك وذلك أنه غاب عن بدر فساءه ذلك... ثم ذكر الحديث) اهـ.
وقال ابن عاشور: (فإن كانت هذه الآية نزلت مع بقية آي السورة بعد غزوة الخندق فهي تذكير بما حصل من المؤمنين من قبل، وإن كانت نزلت يوم أحد فموضعها في هذه السورة إنما هو بتوقيف من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو تنبيه على المعنى الذي ذكرناه على تقدير: أنها نزلت مع سورة الأحزاب. وأيّاً ما كان وقت نزول الآية فإن المراد منها رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أحد وهم عثمان بن عفان وأنس بن النضر وطلحة بن عبيد اللَّه وحمزة وسعيد بن زيد ومصعب بن عمير، فأما أنس بن النضر وحمزة ومصعب بن عمير فقد استشهدوا يوم أحد وأما طلحة فقد قطعت يده يومئذٍ وهو يدافع عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الآية نزلت بعد أحد وليس بعد الخندق لأنه إن كان المراد بها الذين استشهدوا وأبلوا بلاءً حسناً في أحد كما هو الواقع فلماذا يتأخر الثناء عليهم إلى ما بعد الخندق؟ هذا بعيد.
وبناءً على ما تقدم فإن الراجح من قول ابن عاشور أنها نزلت يوم أحد ووضعت هنا بتوقيف من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإذا عدنا إلى سبب النزول خصوصًا إلى قول أنس بن النضر (لئن رأيت قتالاً ليرين الله ما أصنع). وجدنا هذا مطابقاً تماماً لقوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ... ) الآية.
ولا يعكر على هذا ما في لفظ البخاري: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه. فقد ذكر ابن حجر أن التردد فيه من حميد وأن الجزم
802
وقع في رواية ثابت عند مسلم وأحمد.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة، لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
803
١٤٠ - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مسلم وأحمد والبخاري عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوجد الناس جلوساً ببابه. لم يؤذن لأحدٍ منهم، قال: فأُذن لأبي بكر فدخل. ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالساً، حوله نساؤه واجماً ساكتاً. قال: فقال: لأقولن شيئاً أضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها. فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة). فقام أبو بكر إلى عائشة يجأُ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأُ عنقها. كلاهما يقول: تسألن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ليس عنده فقلن: والله لا نسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعًا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) حتى بلغ (لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) قال: فبدأ بعائشة، فقال: (يا عائشة إني أُريد أن أعرض عليك أمراً أُحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك) قالت: وما هو يا رسول اللَّه؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبويَّ؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة. وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: (لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها. إن اللَّه لم يبعثني مُعَنِّتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلمًا ميسراً).
804
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد هذا جمهور المفسرين كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
قال الطبري: (وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجل أن عائشة سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً من عرض الدنيا، إما زيادة في النفقة، أو غير ذلك فاعتزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه شهراً فيما ذكر، ثم أمره الله أن يخيرهن بين الصبر عليه، والرضا بما قُسم لهن، والعمل بطاعة اللَّه، وبين أن يمتعهن ويفارقهن إن لم يرضين بالذي يقسم لهن) اهـ.
وقال ابن العربي لما ذكر بعض الأسباب: (والصحيح ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد اللَّه قال: جاء أبو بكر... ثم ساق الحديث) اهـ.
قال ابن كثير: (هذا أمر من اللَّه تبارك وتعالى لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ولهن عند اللَّه تعالى في ذلك الثواب الجزيل فاخترن - رضي اللَّه عنه وأرضاهن - اللَّه ورسوله والدار الآخرة فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة) اهـ.
وقال السعدي: الما اجتمع نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغيرة وطلبن منه أمراً لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يزلن في طلبهن متفقات وفي مرادهن متعنتات شق ذلك على الرسول حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهراً، فأراد اللَّه أن يسهل الأمر على رسوله، وأن يرفع درجة زوجاته ويذهب عنهن كل أمر ينقص أجرهن فأمر رسوله أن يخيرهن فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا).
805
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة حديث جابر هذا، لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن وتعويل المفسرين عليه والله أعلم.
* * * * *
806
١٤١ - قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٣٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج الترمذي والنَّسَائِي عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: يغزو الرجال ولا تغزو النساء وإِنَّمَا لنا نصف الميراث فأنزل الله: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)، قال مجاهد: وأنزل فيها (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة.
٢ - وأخرج الترمذي عن أم عُمارةَ الأنصارية أنها أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ما أَرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت هذه الآية: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
807
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذين الحديثين لكن منهم من ذكرهما جميعًا كالبغوي وابن عاشور.
ومنهم من ذكر حديث أم سلمة كالطبري وابن عطية وابن كثير.
ومنهم من ذكر حديث أم عمارة كالقرطبي.
قال السعدي: (لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعقابهن لو قُدِّر عدم الامتثال وأنه ليس مثلهن أحد من النساء ذكر بقية النساء غيرهن ولما كان حكمهن وحكم الرجال واحدًا جعل الحكم مشتركًا فقال: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) اهـ.
وقال ابن عاشور: (فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساء وأما ذكر الرجال فللإشارة إلى أن الصنفين في هذه الشرائع سواء ليعلموا أن الشريعة لا تختص بالرجال لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصًا بالرجال إلا الأحكام. التي لا تتصور في غير النساء، فشريعة الإسلام بعكس ذلك الأصل في شرائعها أن تعم الرجال والنساء إلا ما نُص على تخصيصه بأحد الصنفين، ولعل بهذه الآية وأمثالها تقرر أصل التسوية فأغنى عن التنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسنة، ولعل هذا هو وجه تعداد الصفات المذكورة في هذه الآية لئلا يتوهم التسوية في خصوص صفة واحدة) اهـ.
808
* النتيجة:
أن الحديث المذكور وإن كان لا يخلو من مقال في إسناده إلا أنه يعتضد بأقوال المفسرين، وسياق القرآن، مع بعض الشواهد الحديثية كحديث أم سلمة وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مما يجعل القول بأنه سبب نزولها ممكناً واللَّه أعلم.
* * * * *
809
١٤٢ - قال الله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٣٧)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي والبخاري وأحمد، والترمذي، عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء زيد يشكو امرأته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمره أن يمسكها فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية. وقد ذكر هذا جمهور المفسرين كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي والشنقيطي وابن عاشور.
قال ابن العربي: (وإِنَّمَا كان الحديث أنها لما استقرت عند زيد جاءه جبريل: أن زينب زوجك ولم يكن بأسرع أن جاءه زيد يتبرأ منها فقال له:
810
اتق اللَّه وأمسك عليك زوجك فأبى زيد إلا الفراق وطلقها وانقضت عدتها وخطبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على يدي مولاه زوجها وأنزل اللَّه القرآن المذكور فيه خبرهما) اهـ.
وقال السعدي: (وكان سبب نزول هذه الآيات أن اللَّه تعالى أراد أن يشرع شرعاً عاماً للمؤمنين، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة من جميع الوجوه وأن أزواجهم لا جناح على من تبناهم في نكاحهن، وكان هذا من الأمور المعتادة التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير فأراد الله أن يكون هذا الشرع قولاً من رسوله وفعلاً وإذا أراد اللَّه أمراً جعل له سبباً وكانت زينب تحت زيد فقدر اللَّه أن يكون بينها وبين زيد ما اقتضى أن جاء زيد يستأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فراقها قال اللَّه: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) اهـ بتصرف.
قال الشنقيطي بعد ذكر أقوال العلماء: (التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة هو ما ذكرنا أن القرآن دلَّ عليه، وهو أن الله أعلم نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن زيدًا يطلق زينب وأنه يزوجها إياه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي في ذلك الوقت تحت زيد فلما شكاها زيد إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: (أمسك عليك زوجك واتق الله) فعاتبه اللَّه على قوله: أمسك عليك زوجك بعد علمه أنها ستصير زوجته هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: (لم تختلف الروايات أنها نزلت في قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش) اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وصراحة لفظه وموافقته لسياق القرآن، وإجماع المفسرين عليه.
* * * * *
811
١٤٣ - قال اللَّه تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٤٠)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لو كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ)، بالعتق فأعتقته (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) - إلى قوله - (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوجها قالوا: تزوج حليلةَ ابنه، فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبناه وهو صغير فلبث حتى صار رجلاً يقال له: زيد بن محمد فأنزل الله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)، فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ)، يعني أعدل.
812
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد اختلفت عبارات المفسرين وتباينت بين التفسير والنزول.
فالبغوي والقرطبي قد ذكرا سبب النزول.
قال البغوي: (ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوج زينب قال الناس: إن محمدًا تزوج امرأة ابنه فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)
813
يعني زيد بن حارثة، أي ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها) اهـ.
وقال القرطبي: (لما تزوج زينب قال الناس تزوج امرأة ابنه فنزلت الآية، أي: ليس هو بابنه حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم وأن نساءه عليهم حرام. فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم وأعلم أن محمداً لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة) اهـ.
وأما الطبري وابن عطية فكلامهما محتمل للنزول والتفسير معاً.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة، ولا أبا أحد من رجالكم الذين لم يلده محمد فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها ولكنه رسول الله وخاتم النبيين) اهـ محل الشاهد.
ثم ساق بعض الآثار التي تدل على نزولها في زيد.
وقال ابن عطية: (أذهب الله تعالى في هذه الآية ما وقع في نفوس منافقين وغيرهم من نقد تزويج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب زوجة دعيه زيد بن حارثة لأنهم كانوا استعظموا أن تزوج زوجة ابنه فنفى القرآن تلك البنوة) اهـ.
وأما ابن كثير والسعدي فحديثهما عن الآية حديث تفسير.
قال ابن كثير: (نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد أي لم يكن أباه وإن كان قد تبناه) اهـ.
وقال السعدي: (ما كان الرسول محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا أحد من رجالكم أيها الأمة، فقطع انتساب زيد بن حارثة منه من هذا الباب) اهـ.
وعندي - والله أعلم - أن الأمر مشكل لأني إن نظرت في إسناد الحديث الذي معنا وجدت فيه راوياً متروكاً مع انقطاع في سنده وهذا يعني أن وجود الحديث كعدمه وإن نظرت إلى قولي ابن كثير والسعدي وجدت قولاً حسناً جميلاً ولكن قد يعكر عليه أن الله قَطَعَ انتساب زيد للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل ذلك
814
بقوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) فما الفائدة من قطع النسب هنا مرة أخرى بقوله: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)؟
فالجواب: يمكن أن يقال إن قوله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) الغرض منها قطع التبني المشهور بين الناس.
ولما ذكر نكاحِ زيد إياها وتزويجها برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) أشكل هذا على بعض الناس باعتبار أن التبني وإن أبطله الله إلا أن زيداً كان ابنه في السابق فكيف تزوج امرأته؟
فبين اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن أبا أحد قط من رجالكم لا في السابق ولا في الحاضر سواءً أكان زيداً أم غيره. بقوله: (مَا كَانَ) وحينئذٍ يكون الغرض من النفي هنا دفع الإشكال الناتج عن تزوجه بزينب امرأة مولاه، وبهذا يظهر الفرق بين الآيتين.
لكن يبقى النظر هل قال أحد: تزوج حليلة ابنه؟
الظاهر - والله أعلم - أن هذا إما أن يكون وقع. أو كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخشاه؛ لأن عدداً من مقاطع الآيات تشير إلى هذا مثل قوله تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) وقوله: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ)، وقوله: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) وهذه المقاطع كلها في آية التزوج وما بعدها مما يدل عل أن الخشية من الناس كانت بسببها.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور لا يصح أن يكون سبباً لنزولها لما فيه من الضعف الشديد، لكن سياق الآيات، وأقوال المفسرين يدل على أن لهذا الكلام أصلاً واللَّه أعلم.
* * * * *
815
١٤٤ - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٠)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل اللَّه تعالى (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) قالت: فلم أكن أَحلُّ له لأني لم أُهاجر كنت من الطلقاء.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر هذا الحديث جمهور
816
المفسرين عند تفسيرها كالبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال البغوي: (اللاتي هاجرن معك إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها) اهـ.
ثم ساق الحديث الذي معنا.
وقال ابن العربي بعد سياق الحديث: (وهو ضعيف جدًا ولم يأتِ. هذا الحديث من طريق صحيح يحتج في مواضعه بها) اهـ.
وقال في موضع آخر: (ولهذا المعنى نزلت الآية في أم هانئ بأنها لم تكن هاجرت، فمنع منها لنقصها بالهجرة) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة لما يلي:
١ - أن إسناد الحديث ضعيف جداً لا يصح الاحتجاج به على نزول الآية بسبب القصة.
٢ - أن الحديث تناول قضية نكاح أم هانئ فقط بينما الآية تناولت إحلال أزواجه اللاتي آتاهن أجورهن، وما ملكت يمينه، وقريباته المهاجرات، والواهبات من البعيد حصر نزولها بسبب واحد، مع كثرة الأحكام التي تضمنتها.
٣ - أن الآية - والحال ما ذُكر - لم تعالج القضية في الماضي لأنها انتهت باعتذارها، وعذره إياها. ولم تعالجها في المستقبل لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتزوج بعد فتح مكة.
وبناءً على ما تقدم فالظاهر - واللَّه أعلم - أن الآية نزلت ابتداءً لبيان أحوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النكاح ما الذي يحل ويحرم، وما الذي يخصه ويعم غيره.
817
ولعل مما يؤكد هذا أنه يبعد خفاء هذا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع حاجته إليه، حتى فتح مكة، نعم قد يتأخر نزول الآية، لكن العلم حاصل قبل نزولها واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية لضعف سنده وعدم التوافق بين القضية ونزول الآية واللَّه أعلم.
* * * * *
818
١٤٥ - قال الله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (٥١)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) قلت: ما أُرى ربك إلا يسارع في هواك.
ولفظ أحمد والنَّسَائِي: فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ).
819
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في تفسير هذه الآية، وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
والظاهر - واللَّه أعلم - أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة، وكلام أكثر المفسرين يدور حول معنى الآية وليس على سبب نزولها.
قال القرطبي: (واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وأصح ما قيل فيها التوسعة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ترك القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته) اهـ.
وقال ابن كثير: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن فتقدم من شئت وتؤخر من شئت وتجامع من شئت وتترك من شئت هكذا يروى عن ابن عبَّاسٍ ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، ومع هذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لهن، ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبًا عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحتجوا بهذه الآية الكريمة، ثم ذكر حديث البخاري عن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أُنزلت هذه الآية: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) فقالت لها معاذة، ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له: إن كان ذاك
820
إليَّ فإني لا أُريد يا رسول اللَّه أن أُوثر عليك أحداً. فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجوب القسم وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات. ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات، وفي النساء اللاتي عنده أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي وفيه جمع بين الأحاديث) اهـ.
وقال السعدي: (وقال كثير من المفسرين: إن هذا خاص بالواهبات له أن يرجي من يشاء ويؤوي من يشاء. أي إن شاء قبل من وهبت نفسها له وإن شاء لم يقبلها) اهـ.
وبهذا يتبين أن أكثر المفسرين يدورون على معنى الآية والمراد منها دون سبب نزولها ومع هذا فإنه لا يوجد قضية معينة نزلت الآية معالجةً لها وتكون سبب نزولها.
وإذا أضفتَ إلى هذين أمراً ثالثًا إسنادياً وهو أن التصريح بالنزول غير محفوظ تحققت حينئذٍ أن الآية لم تنزل على سبب، بل نزلت مقررةً ما لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الخصائص في النكاح واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا ليس سبب نزول الآية، حيث لم يثبت التصريح بالنزول، ولم يوجد حدث يستدعي النزول، مع إعراض أكثر المفسرين عن ذكر السببية، والله أعلم.
* * * * *
821
١٤٦ - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (٥٣)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري، وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت جحش دعا الناس طعموا ثم جلسوا يتحدثون، قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام معه من الناس وبقي ثلاثة، وإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، قال: فجئت فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فأرخى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) - إلى قوله - (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا).
٢ - أخرج البخاري وأحمد والنَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال عمر:
822
وافقت اللَّه في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت امهات المؤمنين بالحجاب فأنزل اللَّه آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعض نسائه فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتن أو ليبدلن اللَّه رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر، أما في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ).
٣ - أخرج البخاري وأحمد عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احجب نساءك، قالت: فلم يفعل، وكان أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرجن ليلاً إلى ليلٍ قِبَل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس، فقال: عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب قالت: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - آية الحجاب.
وفي لفظ للبخاري ومسلم عنها - رضي الله عنها - قالت: فأوحى اللَّه إليه ثم رفع عنه وإن العَرْق في يده ما وضعه، فقال: (إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن).
823
٤ - أخرج البخاري والنَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش، وأطعم عليها يومئذٍ خبزاً ولحمًا، وكانت تفخر على نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت تقول: إن الله أنكحني في السماء.
٥ - أخرج النَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت آكل مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيساً في قعب فمر عمر، فدعاه فأكل فأصابت أصُبعه أُصبعي فقال: حسِّ أو (أوه) لو أُطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب.
824
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد ذكر جمهور المفسرين هذه الأحاديث أو بعضها على اختلاف بينهم.
فأما الطبري فقد ساق الأحاديث ولم يتعقبها بشيء لكنه بدأ بذكر حديث أنس في قصة زينب بنت جحش - رضي الله عنها -.
وأما الباقون كالبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور فقد ذكروا أنها في قصة زينب بنت جحش - رضي الله عنها -.
قال الطبري: (واختلف أهل العلم في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه، فقال بعضهم نزلت بسبب قوم طعموا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وليمة زينب بنت جحش، ثم جلسوا يتحدثون في منزل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أهله حاجة، فمنعه الحياء من أمرهم بالخروج من منزله) اهـ.
وقال البغوي: (قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
وقال أبو بكر بن العربي لما ذكر ستة أسباب لنزول الآية: (هذه الروايات ضعيفة إلا الأولى - يعني بها قصة زينب - والسادسة - يعني بها حديث أنس عن عمر في موافقته للَّه) اهـ.
وهذا منه يقتضي أنه يضعِّف حديث عائشة في قصة سودة مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال ابن عطية: (فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها) اهـ.
وقال ابن كثير: (وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزينب بنت جحش التي تولى اللَّه تعالى تزويجها بنفسه وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما).
وقال عن حديث عائشة في قصة سودة مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والذي وضع له رقم (٣): (هكذا وقع في هذه الرواية والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب، ثم ساق حديث عائشة - رضي الله عنها - وفيه: قالت: خرجت سودة بعدما ضُرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمةً لا تخفى على من يعرفها...
825
فذكرت الحديث وفيه: قالت: فأوحى الله إليه ثم رُفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال: (إنه قد أُذن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكن)) اهـ.
وقال ابن عاشور: (لما بيَّن الله في الآيات السابقة آداب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أزواجه قفّاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن، وصدره بالإشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية ثم ذكر حديث أنس في قصة زينب).
ثم جمع بين حديث أنس في قصة زينب، وحديث أنس في قصة عمر: (وافقت الله في ثلاث) فقال: (وليس بين الخبرين تعارض لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل ثم عقبته قصة وليمة زينب فنزلت الآية بإثرها) اهـ.
وبعد ذكر أقوال المفسرين في سبب النزول سأذكر الراجح من هذه الأقوال مستعيناً باللَّه فأقول:
أما حديث عائشة - رضي الله عنها - في قصة أكلها مع عمر، وإصابة أصبعه أُصبعها فلا يصح سبباً للنزول لضعف سنده، وغرابة متنه.
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قصة زينب بنت جحش - رضي الله عنها - فلا ريب أنه سبب نزولها لأن سياق القرآن يطابق الحديث تماماً.
وأما حديث أنس عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وافقت ربي في ثلاث وفيه: قلت: يا رسول اللَّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أَمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب) فهذا لا يعارض حديث أنس؛ لأن عمر يشير على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يرى، لكن النزول كان في قصة زينب، والأمر كما قال ابن عاشور: (جائز أن يكون قول عمر قبل البناء بزينب بقليل فنزلت الآية بإثرها).
وأقول: جائز أن يكون قوله قبل البناء بكثير لكنَّ حكمة أحكم الحاكمين اقتضت أن يتأخر نزول الحجاب إلى قصة زينب.
وأما حديث عائشة - في قصة عمر مع سودة وقولها: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - آية الحجاب. فمعارض بأمور:
الأول: أن لفظ البخاري ومسلم عنها - رضي الله عنها - بدون نزول آية الحجاب بل اقتصر على الإذن لهن بالخروج عند الحاجة، وما رواه الشيخان مقدم على ما انفرد به أحدهما.
826
الثاني: أن حديث أنس نصٌّ في أن الآية نزلت في وليمة زينب، وليست في الإذن لسودة - رضي الله عنها -.
الثالث: أن ابن كثير ذكر أن المشهور في قصة سودة أنها كانت بعد نزول الحجاب: وهذا مروي في البخاري، وحينئذٍ كيف تكون القصة سبب نزول الآية ولم تقع إلا بعدها؟
الرابع: أن حديث عائشة في قصة سودة - رضي الله عنها - غير محفوظ ففي لفظ: فقال: عرفناك يا سودة حرصًا على أن ينزل الحجاب، وفي لفظ: خرجت سودةُ بعد ما ضُرب الحجاب لحاجتها. وهذا اختلاف ظاهر يمتنع الاحتجاج به.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية المذكورة حديث أنس في قصة زينب - رضي الله عنها - ووليمتها لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته سياق القرآن، واحتجاج المفسرين به، وخلوه من معارض راجح والله أعلم.
* * * * *
827
١٤٧ - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (٦٩)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن موسى كان رجلاً حييًا ستيرًا، لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أُدرة، وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق اللَّه، وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لنَدَبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا) فذلك قوله: ؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا).
828
ولفظ مسلم ونزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في تفسير هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها ولم يذكروا أن الحديث سبب نزولها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا أيها الذين آمنوا باللَّه ورسوله لا تؤذوا رسول اللَّه بقول يكرهه منكم ولا بفعل لا يحبه منكم، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبي الله فرموه بعيب كذباً وباطلاً فبرأه الله مما قالوا فيه من الكذب والزور بما أظهر من البرهان على كذبهم) اهـ.
وقال القرطبي: (لما ذكر اللَّه تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين حذر المؤمنين من التعرض للإيذاء ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في أذيتهم نبيهم موسى) اهـ.
وقال السعدي: (يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أذية رسولهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئلا يقابلوه بضد ما يجب له من الإكرام والاحترام وأن لا يتشبهوا
829
بحال الذين آذوا موسى بن عمران كليم الرحمن فبرأه الله مما قالوا من الأذية أي أظهر اللَّه لهم براءته) اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة؛ لأن التصريح بالنزول شاذ غير محفوظ كما أنه غير ممكن أن تكون قصة موسى سبباً للنزول لأنها لم تحدث وقت نزول القرآن ولهذا لم يذكر هذا أحد من المفسرين واللَّه أعلم.
* * * * *
830
سورة يس
831
Icon