فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَمَّا مَيَّزَ بَيْن الْفَرِيقَيْنِ أَمَرَ بِجِهَادِ الْكُفَّار.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْكُفَّار الْمُشْرِكُونَ عَبَدَة الْأَوْثَان.
وَقِيلَ : كُلّ مَنْ خَالَفَ دِين الْإِسْلَام مِنْ مُشْرِك أَوْ كِتَابِيّ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِب عَهْد وَلَا ذِمَّة،  ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ.
وَاخْتَارَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ وَقَالَ : وَهُوَ الصَّحِيح لِعُمُومِ الْآيَة فِيهِ.
                                                                            
                                                                    فَضَرْبَ الرِّقَابِ
مَصْدَر.
قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ فَاضْرِبُوا الرِّقَاب ضَرْبًا.
وَخَصَّ الرِّقَاب بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْقَتْل أَكْثَر مَا يَكُون بِهَا.
وَقِيلَ : نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاء.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ كَقَوْلِك يَا نَفْس صَبْرًا.
وَقِيلَ : التَّقْدِير اِقْصِدُوا ضَرْب الرِّقَاب.
وَقَالَ :" فَضَرْب الرِّقَاب " وَلَمْ يَقُلْ فَاقْتُلُوهُمْ ; لِأَنَّ فِي الْعِبَارَة بِضَرْبِ الرِّقَاب مِنْ الْغِلْظَة وَالشِّدَّة مَا لَيْسَ فِي لَفْظ الْقَتْل،  لِمَا فِيهِ مِنْ تَصْوِير الْقَتْل بِأَشْنَع صُوَره،  وَهُوَ حَزّ الْعُنُق وَإِطَارَة الْعُضْو الَّذِي هُوَ رَأْس الْبَدَن وَعُلُوّهُ وَأَوْجَه أَعْضَائِهِ.
                                                                            
                                                                    حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ
أَيْ أَكْثَرْتُمْ الْقَتْل.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْفَال " عِنْد قَوْله تَعَالَى :" حَتَّى يُثْخِن فِي الْأَرْض " [ الْأَنْفَال : ٦٧ ].
                                                                            
                                                                    فَشُدُّوا الْوَثَاقَ
أَيْ إِذَا أَسَرْتُمُوهُمْ.
وَالْوَثَاق اِسْم مِنْ الْإِيثَاق،  وَقَدْ يَكُون مَصْدَرًا،  يُقَال : أَوْثَقْته إِيثَاقًا وَوَثَاقًا.
وَأَمَّا الْوِثَاق ( بِالْكَسْرِ ) فَهُوَ اِسْم الشَّيْء الَّذِي يُوثَق بِهِ كَالرِّبَاطِ ; قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَأَوْثَقَهُ فِي الْوَثَاق أَيْ شَدَّهُ،  وَقَالَ تَعَالَى :" فَشُدُّوا الْوَثَاق ".
وَالْوِثَاق ( بِكَسْرِ الْوَاو ) لُغَة فِيهِ.
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِشَدِّ الْوَثَاق لِئَلَّا يَفْلِتُوا.
                                                                            
                                                                    فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً
" فَإِمَّا مَنًّا " عَلَيْهِمْ بِالْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْر فِدْيَة " وَإِمَّا فِدَاء ".
وَلَمْ يَذْكُر الْقَتْل هَاهُنَا اِكْتِفَاء بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَتْل فِي صَدْر الْكَلَام،  وَ " مَنًّا " وَ " فِدَاء " نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْل.
وَقُرِئَ " فَدًى " بِالْقَصْرِ مَعَ فَتْح الْفَاء،  أَيْ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ مَنًّا،  وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوهُمْ فِدَاء.
رُوِيَ عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ قَالَ : كُنْت وَاقِفًا عَلَى رَأْس الْحَجَّاج حِين أُتِيَ بِالْأَسْرَى مِنْ أَصْحَاب عَبْد الرَّحْمَن بْن الْأَشْعَث وَهُمْ أَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَةٍ فَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْو مِنْ ثَلَاثَة آلَاف حَتَّى قُدِّمَ إِلَيْهِ رَجُل مِنْ كِنْدَة فَقَالَ : يَا حَجَّاج،  لَا جَازَاك اللَّه عَنْ السُّنَّة وَالْكَرَم خَيْرًا قَالَ : وَلِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْب الرِّقَاب حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْد وَإِمَّا فِدَاء " فِي حَقّ الَّذِينَ كَفَرُوا،  فَوَاَللَّهِ مَا مَنَنْت وَلَا فَدَيْت ؟ وَقَدْ قَالَ شَاعِركُمْ فِيمَا وَصَفَ بِهِ قَوْمه مِنْ مَكَارِم الْأَخْلَاق :
وَلَا نَقْتُل الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكّهُمْ   إِذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاق حِمْل الْمَغَارِم 
فَقَالَ الْحَجَّاج : أُفّ لِهَذِهِ الْجِيَف أَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُحْسِن مِثْل هَذَا الْكَلَام ؟ خَلُّوا سَبِيل مَنْ بَقِيَ.
فَخُلِّيَ يَوْمئِذٍ عَنْ بَقِيَّة الْأَسْرَى،  وَهُمْ زُهَاء أَلْفَيْنِ،  بِقَوْلِ ذَلِكَ الرَّجُل.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة عَلَى خَمْسَة أَقْوَال :
الْأَوَّل : أَنَّهَا مَنْسُوخَة،  وَهِيَ فِي أَهْل الْأَوْثَان،  لَا يَجُوز أَنْ يُفَادُوا وَلَا يُمَنّ عَلَيْهِمْ.
وَالنَّاسِخ لَهَا عِنْدهمْ قَوْله تَعَالَى :" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " [ التَّوْبَة : ٥ ] وَقَوْله :" فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْب فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفهمْ " [ الْأَنْفَال : ٥٧ ] وَقَوْله :" وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة " [ التَّوْبَة : ٣٦ ] الْآيَة،  قَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَابْن جُرَيْج وَالْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس،  وَقَالَهُ كَثِير مِنْ الْكُوفِيِّينَ.
وَقَالَ عَبْد الْكَرِيم الْجَوْزِيّ : كُتِبَ إِلَى أَبِي بَكْر فِي أَسِير أُسِرَ،  فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ اِلْتَمَسُوهُ بِفِدَاءِ كَذَا وَكَذَا،  فَقَالَ اُقْتُلُوهُ،  لَقَتْل رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.
الثَّانِي : أَنَّهَا فِي الْكُفَّار جَمِيعًا.
وَهِيَ مَنْسُوخَة عَلَى قَوْل جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء وَأَهْل النَّظَر،  مِنْهُمْ قَتَادَة وَمُجَاهِد.
قَالُوا : إِذَا أُسِرَ الْمُشْرِك لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَنّ عَلَيْهِ،  وَلَا أَنْ يُفَادَى بِهِ فَيُرَدّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ،  وَلَا يَجُوز أَنْ يُفَادَى عِنْدهمْ إِلَّا بِالْمَرْأَةِ ; لِأَنَّهَا لَا تُقْتَل.
وَالنَّاسِخ لَهَا :" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " [ التَّوْبَة : ٥ ] إِذْ كَانَتْ بَرَاءَة آخِر مَا نَزَلَتْ بِالتَّوْقِيفِ،  فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَل كُلّ مُشْرِك إِلَّا مَنْ قَامَتْ الدَّلَالَة عَلَى تَرْكه مِنْ النِّسَاء وَالصِّبْيَان وَمَنْ يُؤْخَذ مِنْهُ الْجِزْيَة.
                                                                            
                                                                    وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة،  خِيفَة أَنْ يَعُودُوا حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ.
ذَكَرَ عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ قَتَادَة " فَإِمَّا مَنًّا بَعْد وَإِمَّا فِدَاء " قَالَ : نَسَخَهَا " فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفهمْ ".
وَقَالَ مُجَاهِد : نَسَخَهَا " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " [ التَّوْبَة : ٥ ].
وَهُوَ قَوْل الْحَكَم.
الثَّالِث : أَنَّهَا نَاسِخَة،  قَالَ الضَّحَّاك وَغَيْره رَوَى الثَّوْرِيّ عَنْ جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك :" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " [ التَّوْبَة : ٥ ] قَالَ : نَسَخَهَا " فَإِمَّا مَنًّا بَعْد وَإِمَّا فِدَاء ".
وَقَالَ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء :" فَإِمَّا مَنًّا بَعْد وَإِمَّا فِدَاء " فَلَا يُقْتَل الْمُشْرِك وَلَكِنْ يُمَنّ عَلَيْهِ وَيُفَادَى،  كَمَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ أَشْعَث : كَانَ الْحَسَن يَكْرَه أَنْ يُقْتَل الْأَسِير،  وَيَتْلُو " فَإِمَّا مَنًّا بَعْد وَإِمَّا فِدَاء ".
وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا : فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير،  فَكَأَنَّهُ قَالَ : فَضَرْب الرِّقَاب حَتَّى تَضَع الْحَرْب أَوْزَارهَا.
ثُمَّ قَالَ :" حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاق ".
وَزُعِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ إِذَا حَصَلَ الْأَسِير فِي يَدَيْهِ أَنْ يَقْتُلهُ ; لَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي ثَلَاثَة مَنَازِل : إِمَّا أَنْ يَمُنّ،  أَوْ يُفَادِي،  أَوْ يَسْتَرِقّ.
الرَّابِع : قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر : لَا يَكُون فِدَاء وَلَا أَسْر إِلَّا بَعْد الْإِثْخَان وَالْقَتْل بِالسَّيْفِ،  لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُون لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِن فِي الْأَرْض " [ الْأَنْفَال : ٦٧ ].
فَإِذَا أُسِرَ بَعْد ذَلِكَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْكُم بِمَا رَآهُ مِنْ قَتْل أَوْ غَيْره.
الْخَامِس : أَنَّ الْآيَة مُحْكَمَة،  وَالْإِمَام مُخَيَّر فِي كُلّ حَال،  رَوَاهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس،  وَقَالَهُ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ اِبْن عُمَر وَالْحَسَن وَعَطَاء،  وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبِي عُبَيْد وَغَيْرهمْ.
وَهُوَ الِاخْتِيَار ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدِينَ فَعَلُوا كُلّ ذَلِكَ،  قَتَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَة بْن أَبِي مُعَيْط وَالنَّضْر بْن الْحَارِث يَوْم بَدْر صَبْرًا،  وَفَادَى سَائِر أُسَارَى بَدْر،  وَمَنَّ عَلَى ثُمَامَة بْن أُثَال الْحَنَفِيّ وَهُوَ أَسِير فِي يَده،  وَأَخَذَ مِنْ سَلَمَة بْن الْأَكْوَع جَارِيَة فَفَدَى بِهَا أُنَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ،  وَهَبَطَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَام قَوْم مِنْ أَهْل مَكَّة فَأَخَذَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ،  وَقَدْ مَنَّ عَلَى سَبْي هَوَازِن.
وَهَذَا كُلّه ثَابِت فِي الصَّحِيح،  وَقَدْ مَضَى جَمِيعه فِي ( الْأَنْفَال ) وَغَيْرهَا.
                                                                            
                                                                    قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ مُحْكَمَتَانِ مَعْمُول بِهِمَا،  وَهُوَ قَوْل حَسَن ; لِأَنَّ النَّسْخ إِنَّمَا يَكُون لِشَيْءٍ قَاطِع،  فَإِذَا أَمْكَنَ الْعَمَل بِالْآيَتَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِالنَّسْخِ،  إِذَا كَانَ يَجُوز أَنْ يَقَع التَّعَبُّد إِذَا لَقِينَا الَّذِينَ كَفَرُوا قَتَلْنَاهُمْ،  فَإِذَا كَانَ الْأَسْر جَازَ الْقَتْل وَالِاسْتِرْقَاق وَالْمُفَادَاة وَالْمَنّ،  عَلَى مَا فِيهِ الصَّلَاح لِلْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا الْقَوْل يُرْوَى عَنْ أَهْل الْمَدِينَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبِي عُبَيْد،  وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيّ مَذْهَبًا عَنْ أَبِي حَنِيفَة،  وَالْمَشْهُور عَنْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ،  وَبِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْفِيق.
                                                                            
                                                                    حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا
قَالَ مُجَاهِد وَابْن جُبَيْر : هُوَ خُرُوج عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا : أَنَّ الْمَعْنَى حَتَّى لَا يَكُون دِين إِلَّا دِين الْإِسْلَام،  فَيُسْلِم كُلّ يَهُودِيّ وَنَصْرَانِيّ وَصَاحِب مِلَّة،  وَتَأْمَن الشَّاة مِنْ الذِّئْب.
وَنَحْوه عَنْ الْحَسَن وَالْكَلْبِيّ وَالْفَرَّاء وَالْكِسَائِيّ.
قَالَ الْكِسَائِيّ : حَتَّى يُسْلِم الْخَلْق.
وَقَالَ الْفَرَّاء : حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيَذْهَب الْكُفْر.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : حَتَّى يَظْهَر الْإِسْلَام عَلَى الدِّين كُلّه.
وَقَالَ الْحَسَن : حَتَّى لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه.
وَقِيلَ : مَعْنَى الْأَوْزَار السِّلَاح،  فَالْمَعْنَى شُدُّوا الْوَثَاق حَتَّى تَأْمَنُوا وَتَضَعُوا السِّلَاح.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ حَتَّى تَضَع الْحَرْب،  أَيْ الْأَعْدَاء الْمُحَارَبُونَ أَوْزَارهمْ،  وَهُوَ سِلَاحهمْ بِالْهَزِيمَةِ أَوْ الْمُوَادَعَة.
وَيُقَال لِلْكُرَاعِ أَوْزَار.
قَالَ الْأَعْشَى : وَأَعْدَدْت لِلْحَرْبِ أَوْزَارهَا   رِمَاحًا طِوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورَا وَمِنْ نَسْج دَاوُد يُحْدَى بِهَا   عَلَى أَثَر الْحَيّ عِيرًا فَعِيرَا 
وَقِيلَ :" حَتَّى تَضَع الْحَرْب أَوْزَارهَا " أَيْ أَثْقَالهَا.
وَالْوِزْر الثِّقَل،  وَمِنْهُ وَزِير الْمَلِك لِأَنَّهُ يَتَحَمَّل عَنْهُ الْأَثْقَال.
وَأَثْقَالهَا السِّلَاح لِثِقَلِ حَمْلهَا.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَ الْحَسَن وَعَطَاء : فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير،  الْمَعْنَى فَضَرْب الرِّقَاب حَتَّى تَضَع الْحَرْب أَوْزَارهَا فَإِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاق،  وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُل الْأَسِير.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَجَّاج أَنَّهُ دَفَعَ أَسِيرًا إِلَى عَبْد اللَّه بْن عُمَر لِيَقْتُلهُ فَأَبَى وَقَالَ : لَيْسَ بِهَذَا أَمَرَنَا اللَّه،  وَقَرَأَ " حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاق ".
قُلْنَا : قَدْ قَالَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَهُ،  وَلَيْسَ فِي تَفْسِير اللَّه لِلْمَنِّ وَالْفِدَاء مَنْع مِنْ غَيْره،  فَقَدْ بَيَّنَ اللَّه فِي الزِّنَى حُكْم الْجَلْد،  وَبَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْم الرَّجْم،  وَلَعَلَّ اِبْن عُمَر كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ يَد الْحَجَّاج فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ،  وَرَبّك أَعْلَم.
                                                                            
                                                                    ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ
" ذَلِكَ " فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى مَا تَقَدَّمَ،  أَيْ الْأَمْر ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْت وَبَيَّنْت.
وَقِيلَ : هُوَ مَنْصُوب عَلَى مَعْنَى اِفْعَلُوا ذَلِكَ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُبْتَدَأ،  الْمَعْنَى ذَلِكَ حُكْم الْكُفَّار.
وَهِيَ كَلِمَة يَسْتَعْمِلهَا الْفَصِيح عِنْد الْخُرُوج مِنْ كَلَام إِلَى كَلَام،  وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى :" هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرّ مَآب " [ ص : ٥٥ ].
أَيْ هَذَا حَقّ وَأَنَا أُعَرِّفكُمْ أَنَّ لِلظَّالِمِينَ كَذَا.
وَمَعْنَى :" لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ " أَيْ أَهْلَكَهُمْ بِغَيْرِ قِتَال.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَأَهْلَكَهُمْ بِجُنْدٍ مِنْ الْمَلَائِكَة.
                                                                            
                                                                    وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
أَيْ أَمَرَكُمْ بِالْحَرْبِ لِيَبْلُوَ وَيَخْتَبِر بَعْضكُمْ بِبَعْضٍ فَيَعْلَم الْمُجَاهِدِينَ وَالصَّابِرِينَ،  كَمَا فِي السُّورَة نَفْسهَا.
                                                                            
                                                                    وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
يُرِيد قَتْلَى أُحُد مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
قِرَاءَة الْعَامَّة " قَاتَلُوا " وَهِيَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَفْص " قُتِلُوا " بِضَمِّ الْقَاف وَكَسْر التَّاء،  وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحَسَن إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ التَّاء عَلَى التَّكْثِير.
وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيّ وَعِيسَى بْن عُمَر وَأَبُو حَيْوَة " قَتَلُوا " بِفَتْحِ الْقَاف وَالتَّاء مِنْ غَيْر أَلِف،  يَعْنِي الَّذِينَ قَتَلُوا الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ قَتَادَة : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ يَوْم أُحُد وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْب،  وَقَدْ فَشَتْ فِيهِمْ الْجِرَاحَات وَالْقَتْل،  وَقَدْ نَادَى الْمُشْرِكُونَ : اعْلُ هُبَل.
وَنَادَى الْمُسْلِمُونَ : اللَّه أَعْلَى وَأَجَلّ.
وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : يَوْم بِيَوْمِ بَدْر وَالْحَرْب سِجَال.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( قُولُوا لَا سَوَاء.
قَتْلَانَا أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّار يُعَذَّبُونَ ).
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ.
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : اللَّه مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْر ذَلِكَ فِي ( آل عِمْرَان ).
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ
يَحْتَمِل الرَّفْع عَلَى الِابْتِدَاء،  وَالنَّصْب بِمَا يُفَسِّرهُ " فَتَعْسًا لَهُمْ " كَأَنَّهُ قَالَ : أَتْعَسَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَ " تَعْسًا لَهُمْ " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر بِسَبِيلِ الدُّعَاء،  قَالَهُ الْفَرَّاء،  مِثْل سَقْيًا لَهُ وَرَعْيًا.
وَهُوَ نَقِيض لَعًا لَهُ.
قَالَ الْأَعْشَى : 
فَالتَّعْس أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُول لَعَا
وَفِيهِ عَشَرَة أَقْوَال : الْأَوَّل : بُعْدًا لَهُمْ،  قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُرَيْج.
الثَّانِي : حُزْنًا لَهُمْ،  قَالَهُ السُّدِّيّ.
الثَّالِث : شَقَاء لَهُمْ،  قَالَهُ اِبْن زَيْد.
الرَّابِع : شَتْمًا لَهُمْ مِنْ اللَّه،  قَالَهُ الْحَسَن.
الْخَامِس : هَلَاكًا لَهُمْ،  قَالَهُ ثَعْلَب.
السَّادِس : خَيْبَة لَهُمْ،  قَالَهُ الضَّحَّاك وَابْن زَيْد.
السَّابِع : قُبْحًا لَهُمْ،  حَكَاهُ النَّقَّاش.
الثَّامِن : رَغْمًا لَهُمْ،  قَالَهُ الضَّحَّاك أَيْضًا.
التَّاسِع : شَرًّا لَهُمْ،  قَالَهُ ثَعْلَب أَيْضًا.
الْعَاشِر : شِقْوَة لَهُمْ،  قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَة.
وَقِيلَ : إِنَّ التَّعْس الِانْحِطَاط وَالْعِثَار.
قَالَ اِبْن السِّكِّيت : التَّعْس أَنْ يَخِرّ عَلَى وَجْهه.
وَالنَّكْس أَنْ يَخِرّ عَلَى رَأْسه.
قَالَ : وَالتَّعْس أَيْضًا الْهَلَاك.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَأَصْله الْكَبّ،  وَهُوَ ضِدّ الِانْتِعَاش.
وَقَدْ تَعَسَ ( بِفَتْحِ الْعَيْن ) يَتْعَس تَعْسًا،  وَأَتْعَسَهُ اللَّه.
قَالَ مُجَمِّع بْن هِلَال : تَقُول وَقَدْ أَفْرَدْتهَا مِنْ خَلِيلهَا   تَعِسْتَ كَمَا أَتْعَسْتنِي يَا مُجَمِّع 
يُقَال : تَعْسًا لِفُلَانٍ،  أَيْ أَلْزَمَهُ اللَّه هَلَاكًا.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَجَوَّزَ قَوْم تَعِسَ ( بِكَسْرِ الْعَيْن ).
قُلْت : وَمِنْهُ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" تَعِسَ عَبْد الدِّينَار وَالدِّرْهَم وَالْقَطِيفَة وَالْخَمِيصَة إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ " خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ.
فِي بَعْض طُرُق هَذَا الْحَدِيث " تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا اِنْتَقَشَ " خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ.
                                                                            
                                                                    وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
أَيْ أَبْطَلَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي طَاعَة الشَّيْطَان.
وَدَخَلَتْ الْفَاء فِي قَوْله :" فَتَعْسًا " لِأَجْلِ الْإِبْهَام الَّذِي فِي " الَّذِينَ "،  وَجَاءَ " وَأَضَلَّ أَعْمَالهمْ " عَلَى الْخَبَر حَمْلًا عَلَى لَفْظ الَّذِينَ ; لِأَنَّهُ خَبَر فِي اللَّفْظ،  فَدُخُول الْفَاء حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى،  " وَأَضَلَّ " حَمْلًا عَلَى اللَّفْظ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
لَمَّا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ :" إِنَّ اللَّه يُدْخِل الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات جَنَّات " [ الْحَجّ : ١٤ ] وَصَفَ تِلْكَ الْجَنَّات،  أَيْ صِفَة الْجَنَّة الْمُعَدَّة لِلْمُتَّقِينَ.
وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي هَذَا فِي " الرَّعْد ".
وَقَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب " مِثَال الْجَنَّة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ".
                                                                            
                                                                    فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ
أَيْ غَيْر مُتَغَيِّر الرَّائِحَة.
وَالْآسِن مِنْ الْمَاء مِثْل الْآجِن.
وَقَدْ أَسَنَ الْمَاء يَأْسُن وَيَأْسِن أَسْنًا وَأُسُونًا إِذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَته.
وَكَذَلِكَ أَجَنَ الْمَاء يَأْجُن وَيَأْجِن أَجْنًا وَأُجُونًا.
وَيُقَال بِالْكَسْرِ فِيهِمَا : أَجِنَ وَأَسِنَ يَأْسَن وَيَأْجَن أَسْنًا وَأَجْنًا،  قَالَهُ الْيَزِيدِيّ.
وَأَسِنَ الرَّجُل أَيْضًا يَأْسَن ( بِالْكَسْرِ لَا غَيْر ) إِذَا دَخَلَ الْبِئْر فَأَصَابَتْهُ رِيح مُنْتِنَة مِنْ رِيح الْبِئْر أَوْ غَيْر ذَلِكَ فَغُشِيَ عَلَيْهِ أَوْ دَارَ رَأْسه،  قَالَ زُهَيْر :
قَدْ أَتْرُك الْقَرْن مُصْفَرًّا أَنَامِله   يَمِيد فِي الرُّمْح مَيْد الْمَائِح الْأَسِن 
وَيُرْوَى " الْوَسِن ".
وَتَأَسَّنَ الْمَاء تَغَيَّرَ.
أَبُو زَيْد : تَأَسَّنَ عَلَيَّ تَأَسُّنًا اِعْتَلَّ وَأَبْطَأَ.
أَبُو عَمْرو : تَأَسَّنَ الرَّجُل أَبَاهُ أَخَذَ أَخْلَاقه.
وَقَالَ اللِّحْيَانِيّ : إِذَا نَزَعَ إِلَيْهِ فِي الشَّبَه،  وَقِرَاءَة الْعَامَّة " آسِن " بِالْمَدِّ.
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَحُمَيْد " أَسِن " بِالْقَصْرِ،  وَهُمَا لُغَتَانِ،  مِثْل حَاذِر وَحَذِر.
وَقَالَ الْأَخْفَش : أَسِن لِلْحَالِ،  وَآسِن ( مِثْل فَاعِل ) يُرَاد بِهِ الِاسْتِقْبَال.
                                                                            
                                                                    وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ
أَيْ لَمْ يَحْمُض بِطُولِ الْمَقَام كَمَا تَتَغَيَّر أَلْبَان الدُّنْيَا إِلَى الْحُمُوضَة.
                                                                            
                                                                    وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
أَيْ لَمْ تُدَنِّسهَا الْأَرْجُل وَلَمْ تُرَنِّقهَا الْأَيْدِي كَخَمْرِ الدُّنْيَا،  فَهِيَ لَذِيذَة الطَّعْم طَيِّبَة الشُّرْب لَا يَتَكَرَّههَا الشَّارِبُونَ.
يُقَال : شَرَاب لَذّ وَلَذِيذ بِمَعْنًى.
وَاسْتَلَذَّهُ عَدَّهُ لَذِيذًا.
                                                                            
                                                                    وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى
الْعَسَل مَا يَسِيل مِنْ لُعَاب النَّحْل.
" مُصَفًّى " أَيْ مِنْ الشَّمْع وَالْقَذَى،  خَلَقَهُ اللَّه كَذَلِكَ لَمْ يُطْبَخ عَلَى نَار وَلَا دَنَّسَهُ النَّحْل.
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ حَكِيم بْن مُعَاوِيَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ إِنَّ فِي الْجَنَّة بَحْر الْمَاء وَبَحْر الْعَسَل وَبَحْر اللَّبَن وَبَحْر الْخَمْر ثُمَّ تُشَقَّق الْأَنْهَار بَعْد ].
قَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ سَيْحَان وَجَيْحَان وَالنِّيل وَالْفُرَات كُلّ مِنْ أَنْهَار الْجَنَّة ].
وَقَالَ كَعْب : نَهْر دِجْلَة نَهْر مَاء أَهْل الْجَنَّة،  وَنَهْر الْفُرَات نَهْر لَبَنهمْ،  وَنَهْر مِصْر نَهْر خَمْرهمْ،  وَنَهْر سَيْحَان نَهْر عَسَلهمْ.
وَهَذِهِ الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة تَخْرُج مِنْ نَهْر الْكَوْثَر.
وَالْعَسَل : يُذَكَّر وَيُؤَنَّث.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس :" مِنْ عَسَل مُصَفًّى " أَيْ لَمْ يَخْرُج مِنْ بُطُون النَّحْل.
                                                                            
                                                                    وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
" مِنْ " زَائِدَة لِلتَّأْكِيدِ.
                                                                            
                                                                    وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
أَيْ لِذُنُوبِهِمْ.
                                                                            
                                                                    كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ
قَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى أَفَمَنْ يَخْلُد فِي هَذَا النَّعِيم كَمَنْ يَخْلُد فِي النَّار.
وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبّه وَأُعْطِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاء كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوء عَمَله وَهُوَ خَالِد فِي النَّار.
فَقَوْله :" كَمَنْ " بَدَل مِنْ قَوْله :" أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوء عَمَله " [ فَاطِر : ٨ ].
وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : مَثَل هَذِهِ الْجَنَّة الَّتِي فِيهَا الثِّمَار وَالْأَنْهَار كَمَثَلِ النَّار الَّتِي فِيهَا الْحَمِيم وَالزَّقُّوم.
وَمَثَل أَهْل الْجَنَّة فِي النَّعِيم الْمُقِيم كَمَثَلِ أَهْل النَّار فِي الْعَذَاب الْمُقِيم.
                                                                            
                                                                    وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ
أَيْ حَارًّا شَدِيد الْغَلَيَان،  إِذَا أُدْنِيَ مِنْهُمْ شَوَى وُجُوههمْ،  وَوَقَعَتْ فَرْوَة رُءُوسهمْ،  فَإِذَا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ وَأَخْرَجَهَا مِنْ دُبُورهمْ.
وَالْأَمْعَاء : جَمْع مِعًى،  وَالتَّثْنِيَة مِعَيَانِ،  وَهُوَ جَمِيع مَا فِي الْبَطْن مِنْ الْحَوَايَا.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ
أَيْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام،  وَزُيِّنَ لَهُمْ سُوء عَمَلهمْ قَوْم يَسْتَمِعُونَ إِلَيْك وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ : عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ اِبْن سَلُول وَرِفَاعَة بْن التَّابُوت وَزَيْد بْن الصَّلِيت وَالْحَارِث بْن عَمْرو وَمَالِك بْن دَخْشَم،  كَانُوا يَحْضُرُونَ الْخُطْبَة يَوْم الْجُمُعَة فَإِذَا سَمِعُوا ذِكْر الْمُنَافِقِينَ فِيهَا أَعْرَضُوا عَنْهُ،  فَإِذَا خَرَجُوا سَأَلُوا عَنْهُ،  قَالَهُ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل.
وَقِيلَ : كَانُوا يَحْضُرُونَ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ،  فَيَسْتَمِعُونَ مِنْهُ مَا يَقُول،  فَيَعِيه الْمُؤْمِن وَلَا يَعِيه الْكَافِر.
                                                                            
                                                                    حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ
أَيْ إِذَا فَارَقُوا مَجْلِسك.
                                                                            
                                                                    قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
قَالَ عِكْرِمَة : هُوَ عَبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : كُنْت مِمَّنْ يُسْأَل،  أَيْ كُنْت مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم.
وَفِي رِوَايَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّهُ يُرِيد عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود.
وَكَذَا قَالَ عَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَة : هُوَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود.
وَقَالَ الْقَاسِم بْن عَبْد الرَّحْمَن : هُوَ أَبُو الدَّرْدَاء.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : إِنَّهُمْ الصَّحَابَة.
                                                                            
                                                                    مَاذَا قَالَ آنِفًا
أَيْ الْآن،  عَلَى جِهَة الِاسْتِهْزَاء.
أَيْ أَنَا لَمْ أَلْتَفِت إِلَى قَوْله.
وَ " آنِفًا " يُرَاد بِهِ السَّاعَة الَّتِي هِيَ أَقْرَب الْأَوْقَات إِلَيْك،  مِنْ قَوْلك : اِسْتَأْنَفْت الشَّيْء إِذَا اِبْتَدَأْت بِهِ.
وَمِنْهُ أَمْر أُنُف،  وَرَوْضَة أُنُف،  أَيْ لَمْ يَرْعَهَا أَحَد.
وَكَأْس أُنُف : إِذَا لَمْ يُشْرَب مِنْهَا شَيْء،  كَأَنَّهُ اُسْتُؤْنِفَ شُرْبهَا مِثْل رَوْضَة أُنُف.
قَالَ الشَّاعِر : وَيَحْرُم سِرّ جَارَتهمْ عَلَيْهِمْ   وَيَأْكُل جَارهمْ أُنُف الْقِصَاع 
وَقَالَ آخَر : إِنَّ الشِّوَاء وَالنَّشِيل وَالرُّغُف   وَالْقَيْنَة الْحَسْنَاء وَالْكَأْس الْأُنُف 
لِلطَّاعِنِينَ الْخَيْل وَالْخَيْل قُطُف
وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : 
قَدْ غَدَا يَحْمِلنِي فِي أَنْفه
أَيْ فِي أَوَّله.
وَأَنْف كُلّ شَيْء أَوَّله.
وَقَالَ قَتَادَة فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ : النَّاس رَجُلَانِ : رَجُل عَقَلَ عَنْ اللَّه فَانْتَفَعَ بِمَا سَمِعَ،  وَرَجُل لَمْ يَعْقِل وَلَمْ يَنْتَفِع بِمَا سَمِعَ.
وَكَانَ يُقَال : النَّاس ثَلَاثَة : فَسَامِع عَامِل،  وَسَامِع عَاقِل،  وَسَامِع غَافِل تَارِك.
                                                                            
                                                                    أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
فَلَمْ يُؤْمِنُوا.
                                                                            
                                                                    وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
فِي الْكُفْر.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى
أَيْ لِلْإِيمَانِ زَادَهُمْ اللَّه هُدًى.
وَقِيلَ : زَادَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُدًى.
وَقِيلَ : مَا يَسْتَمِعُونَهُ مِنْ الْقُرْآن هُدًى،  أَيْ يَتَضَاعَف يَقِينهمْ.
وَقَالَ الْفَرَّاء : زَادَهُمْ إِعْرَاض الْمُنَافِقِينَ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ هُدًى.
وَقِيلَ : زَادَهُمْ نُزُول النَّاسِخ هُدًى.
وَفِي الْهُدَى الَّذِي زَادَهُمْ أَرْبَعَة أَقَاوِيل :
أَحَدهَا : زَادَهُمْ عِلْمًا،  قَالَهُ الرَّبِيع بْن أَنَس.
الثَّانِي : أَنَّهُمْ عَلِمُوا مَا سَمِعُوا وَعَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا،  قَالَهُ الضَّحَّاك.
الثَّالِث : زَادَهُمْ بَصِيرَة فِي دِينهمْ وَتَصْدِيقًا لِنَبِيِّهِمْ،  قَالَهُ الْكَلْبِيّ.
الرَّابِع : شَرَحَ صُدُورهمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَان.
                                                                            
                                                                    وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
أَيْ أَلْهَمَهُمْ إِيَّاهَا.
وَقِيلَ : فِيهِ خَمْسَة أَوْجُه : 
أَحَدهَا : آتَاهُمْ الْخَشْيَة،  قَالَهُ الرَّبِيع.
الثَّانِي : ثَوَاب تَقْوَاهُمْ فِي الْآخِرَة،  قَالَهُ السُّدِّيّ.
الثَّالِث : وَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْهِمْ،  قَالَهُ مُقَاتِل.
الرَّابِع : بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ،  قَالَهُ اِبْن زِيَاد وَالسُّدِّيّ أَيْضًا.
الْخَامِس : أَنَّهُ تَرَكَ الْمَنْسُوخ وَالْعَمَل بِالنَّاسِخِ،  قَالَهُ عَطِيَّة.
الْمَاوَرْدِيّ : وَيُحْتَمَل.
سَادِسًا : أَنَّهُ تَرَكَ الرُّخَص وَالْأَخْذ بِالْعَزَائِمِ.
وَقُرِئَ " وَأَعْطَاهُمْ " بَدَل " وَآتَاهُمْ ".
وَقَالَ عِكْرِمَة : هَذِهِ نَزَلَتْ فِيمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                                                                                    فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً
أَيْ فَجْأَة.
وَهَذَا وَعِيد لِلْكُفَّارِ.
" أَنْ تَأْتِيهُمْ بَغْتَة " " أَنْ " بَدَل اِشْتِمَال مِنْ " السَّاعَة "،  نَحْو قَوْله :" أَنْ تَطَئُوهُمْ " [ الْفَتْح : ٢٥ ] مِنْ قَوْله :" رِجَال مُؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُؤْمِنَات " [ الْفَتْح : ٢٥ ].
وَقُرِئَ " بَغَتَّة " بِوَزْنِ جَرَبَّة،  وَهِيَ غَرِيبَة لَمْ تَرِد فِي الْمَصَادِر أُخْتهَا،  وَهِيَ مَرْوِيَّة عَنْ أَبِي عَمْرو.
الزَّمَخْشَرِيّ وَمَا أَخْوَفنِي أَنْ تَكُون غَلْطَة مِنْ الرَّاوِي عَنْ أَبِي عَمْرو،  وَأَنْ يَكُون الصَّوَاب " بَغَتَة " بِفَتْحِ الْغَيْن مِنْ غَيْر تَشْدِيد،  كَقِرَاءَةِ الْحَسَن.
وَرَوَى أَبُو جَعْفَر الرُّؤَاسِيّ وَغَيْره مِنْ أَهْل مَكَّة " إِنْ تَأْتِهِمْ بَغْتَة ".
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ " إِنْ تَأْتِهِمْ بَغْتَة " كَانَ الْوَقْف عَلَى " السَّاعَة " ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ الشَّرْط.
وَمَا يَحْتَمِلهُ الْكَلَام مِنْ الشَّكّ مَرْدُود إِلَى الْخَلْق،  كَأَنَّهُ قَالَ : إِنْ شَكُّوا فِي مَجِيئِهَا " فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطهَا ".
                                                                            
                                                                    فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا
أَيْ أَمَارَاتهَا وَعَلَامَاتهَا.
وَكَانُوا قَدْ قَرَءُوا فِي كُتُبهمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِر الْأَنْبِيَاء،  فَبَعْثه مِنْ أَشْرَاطهَا وَأَدِلَّتهَا،  قَالَهُ الضَّحَّاك وَالْحَسَن.
وَفِي الصَّحِيح عَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ بُعِثْت أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ ] وَضَمَّ السَّبَّابَة وَالْوُسْطَى،  لَفْظ مُسْلِم،  وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَهْ.
وَيُرْوَى [ بُعِثْت وَالسَّاعَة كَفَرَسَيْ رِهَان ].
وَقِيلَ : أَشْرَاط السَّاعَة أَسْبَابهَا الَّتِي هِيَ دُون مُعْظَمهَا.
وَمِنْهُ يُقَال لِلدُّونِ مِنْ النَّاس : الشَّرَط.
وَقِيلَ : يَعْنِي عَلَامَات السَّاعَة اِنْشِقَاق الْقَمَر وَالدُّخَان،  قَالَهُ الْحَسَن أَيْضًا.
وَعَنْ الْكَلْبِيّ : كَثْرَة الْمَال وَالتِّجَارَة وَشَهَادَة الزُّور وَقَطْع الْأَرْحَام،  وَقِلَّة الْكِرَام وَكَثْرَة اللِّئَام.
وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْبَاب فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَوَاحِد الْأَشْرَاط شَرَط،  وَأَصْله الْأَعْلَام.
وَمِنْهُ قِيلَ الشُّرَط ; لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَامَة يُعْرَفُونَ بِهَا.
وَمِنْهُ الشَّرْط فِي الْبَيْع وَغَيْره.
قَالَ أَبُو الْأَسْوَد : فَإِنْ كُنْت قَدْ أَزْمَعْت بِالصُّرْم بَيْننَا   فَقَدْ جَعَلْت أَشْرَاط أَوَّله تَبْدُو 
وَيُقَال : أَشْرَطَ فُلَان نَفْسه فِي عَمَل كَذَا أَيْ أَعْلَمَهَا وَجَعَلَهَا لَهُ.
قَالَ أَوْس بْن حَجَر يَصِف رَجُلًا تَدَلَّى بِحَبْلٍ مِنْ رَأْس جَبَل إِلَى نَبْعَة يَقْطَعهَا لِيَتَّخِذ مِنْهَا قَوْسًا :
فَأَشْرَطَ نَفْسه فِيهَا وَهُوَ مُعْصِم   وَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلَا 
                                                                    
                                                                                                                فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ
" ذِكْرَاهُمْ " اِبْتِدَاء وَ " أَنَّى لَهُمْ " الْخَبَر.
وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِي " جَاءَتْهُمْ " لِلسَّاعَةِ،  التَّقْدِير : فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ التَّذَكُّر إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَة،  قَالَ مَعْنَاهُ قَتَادَة وَغَيْره.
وَقِيلَ : فَكَيْف لَهُمْ بِالنَّجَاةِ إِذَا جَاءَتْهُمْ الذِّكْرَى عِنْد مَجِيء السَّاعَة،  قَالَهُ اِبْن زَيْد.
وَفِي الذِّكْرَى وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : تَذْكِيرهمْ بِمَا عَمِلُوهُ مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ.
الثَّانِي : هُوَ دُعَاؤُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ تَبْشِيرًا وَتَخْوِيفًا،  رَوَى أَبَان عَنْ أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ أَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ فَإِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ بِهَا يَوْم الْقِيَامَة يَا فُلَان قُمْ إِلَى نُورك يَا فُلَان قُمْ لَا نُور لَك ] ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ.
                                                                            
                                                                    
                                                                                    فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَفِيهِ - وَإِنْ كَانَ الرَّسُول عَالِمًا بِاَللَّهِ - ثَلَاثَة أَوْجُه : يَعْنِي اِعْلَمْ أَنَّ اللَّه أَعْلَمَك أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه.
الثَّانِي : مَا عَلِمْته اِسْتِدْلَالًا فَاعْلَمْهُ خَبَرًا يَقِينًا.
الثَّالِث : يَعْنِي فَاذْكُرْ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه،  فَعَبَّرَ عَنْ الذِّكْر بِالْعِلْمِ لِحُدُوثِهِ عَنْهُ.
وَعَنْ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَضْل الْعِلْم فَقَالَ : أَلَمْ تَسْمَع قَوْله حِين بَدَأَ بِهِ " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك " فَأُمِرَ بِالْعَمَلِ بَعْد الْعِلْم وَقَالَ :" اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا لَعِب وَلَهْو " إِلَى قَوْله " سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبّكُمْ " [ الْحَدِيد :
٢٠ -  ٢١ ] وَقَالَ :" وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالكُمْ وَأَوْلَادكُمْ فِتْنَة " [ الْأَنْفَال : ٢٨ ].
ثُمَّ قَالَ بَعْد :" فَاحْذَرُوهُمْ " [ التَّغَابُن : ١٤ ].
وَقَالَ تَعَالَى :" وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسه " [ الْأَنْفَال : ٤١ ].
ثُمَّ أَمَرَ بِالْعَمَلِ بَعْد.
                                                                            
                                                                    وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : يَعْنِي اِسْتَغْفِرْ اللَّه أَنْ يَقَع مِنْك ذَنْب.
الثَّانِي : اِسْتَغْفِرْ اللَّه لِيَعْصِمك مِنْ الذُّنُوب.
وَقِيلَ : لَمَّا ذَكَرَ لَهُ حَال الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمَرَهُ بِالثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَان،  أَيْ اُثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْحِيد وَالْإِخْلَاص وَالْحَذَر عَمَّا تَحْتَاج مَعَهُ إِلَى اِسْتِغْفَار.
وَقِيلَ : الْخِطَاب لَهُ وَالْمُرَاد بِهِ الْأُمَّة،  وَعَلَى هَذَا الْقَوْل تُوجِب الْآيَة اِسْتِغْفَار الْإِنْسَان لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقِيلَ : كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَضِيق صَدْره مِنْ كُفْر الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ،  فَنَزَلَتْ الْآيَة أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا كَاشِف يَكْشِف مَا بِك إِلَّا اللَّه،  فَلَا تُعَلِّق قَلْبك بِأَحَدٍ سِوَاهُ.
وَقِيلَ : أُمِرَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّة.
                                                                            
                                                                    وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
أَيْ وَلِذُنُوبِهِمْ.
وَهَذَا أَمْر بِالشَّفَاعَةِ.
وَرَوَى مُسْلِم عَنْ عَاصِم الْأَحْوَل عَنْ عَبْد اللَّه بْن سَرْجِس الْمَخْزُومِيّ قَالَ : أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْت مِنْ طَعَامه فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه،  غَفَرَ اللَّه لَك فَقَالَ لَهُ صَاحِبِي : هَلْ اِسْتَغْفَرَ لَك النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ،  وَلَك.
ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة :" وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات " ثُمَّ تَحَوَّلْت فَنَظَرْت إِلَى خَاتَم النُّبُوَّة بَيْن كَتِفَيْهِ،  جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلَان كَأَنَّهُ الثَّآلِيل.
                                                                            
                                                                    وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال : أَحَدهَا : يَعْلَم أَعْمَالكُمْ فِي تَصَرُّفكُمْ وَإِقَامَتكُمْ.
الثَّانِي :" مُتَقَلَّبَكُمْ " فِي أَعْمَالكُمْ نَهَارًا " وَمَثْوَاكُمْ " فِي لَيْلكُمْ نِيَامًا.
وَقِيلَ " مُتَقَلَّبَكُمْ " فِي الدُّنْيَا.
" وَمَثْوَاكُمْ " فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة،  قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك.
وَقَالَ عِكْرِمَة :" مُتَقَلَّبَكُمْ " فِي أَصْلَاب الْآبَاء إِلَى أَرْحَام الْأُمَّهَات.
" وَمَثْوَاكُمْ " مَقَامكُمْ فِي الْأَرْض.
وَقَالَ اِبْن كَيْسَان :" مُتَقَلَّبَكُمْ " مِنْ ظَهْر إِلَى بَطْن الدُّنْيَا.
" وَمَثْوَاكُمْ " فِي الْقُبُور.
قُلْت : وَالْعُمُوم يَأْتِي عَلَى هَذَا كُلّه،  فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ سُبْحَانه شَيْء مِنْ حَرَكَات بَنِي آدَم وَسَكَنَاتهمْ،  وَكَذَا جَمِيع خَلْقه.
فَهُوَ عَالِم بِجَمِيعِ ذَلِكَ قَبْل كَوْنه جُمْلَة وَتَفْصِيلًا أُولَى وَأُخْرَى.
سُبْحَانه ! لَا إِلَه إِلَّا هُوَ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا
أَيْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُخْلِصُونَ.
                                                                            
                                                                    لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ
اِشْتِيَاقًا لِلْوَحْيِ وَحِرْصًا عَلَى الْجِهَاد وَثَوَابه.
وَمَعْنَى " لَوْلَا " هَلَّا.
                                                                            
                                                                    فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ
لَا نَسْخ فِيهَا.
قَالَ قَتَادَة : كُلّ سُورَة ذُكِرَ فِيهَا الْجِهَاد فَهِيَ مُحْكَمَة،  وَهِيَ أَشَدّ الْقُرْآن عَلَى الْمُنَافِقِينَ.
وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه " فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَة مُحْدَثَة " أَيْ مُحْدَثَة النُّزُول.
                                                                            
                                                                    وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ
أَيْ فُرِضَ فِيهَا الْجِهَاد.
وَقُرِئَ " فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَة وَذَكَرَ فِيهَا الْقِتَال " عَلَى الْبِنَاء لِلْفَاعِلِ وَنَصْب الْقِتَال.
                                                                            
                                                                    رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
أَيْ شَكّ وَنِفَاق.
                                                                            
                                                                    يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ
أَيْ نَظَر مَغْمُوصِينَ مُغْتَاظِينَ بِتَحْدِيدٍ وَتَحْدِيق،  كَمَنْ يَشْخَص بَصَره عِنْد الْمَوْت،  وَذَلِكَ لِجُبْنِهِمْ عَنْ الْقِتَال جَزَعًا وَهَلَعًا،  وَلِمَيْلِهِمْ فِي السِّرّ إِلَى الْكُفَّار.
                                                                            
                                                                    فَأَوْلَى لَهُمْ
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَقَوْلهمْ : أَوْلَى لَك،  تَهْدِيد وَوَعِيد.
قَالَ الشَّاعِر : فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى   وَهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَب مِنْ مَرَدّ 
قَالَ الْأَصْمَعِيّ : مَعْنَاهُ قَارَبَهُ مَا يُهْلِكهُ،  أَيْ نَزَلَ بِهِ.
وَأَنْشَدَ : فَعَادَى بَيْن هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا   وَأَوْلَى أَنْ يَزِيد عَلَى الثَّلَاث 
أَيْ قَارَبَ أَنْ يَزِيد.
قَالَ ثَعْلَب : وَلَمْ يَقُلْ أَحَد فِي " أَوْلَى " أَحْسَن مِمَّا قَالَ الْأَصْمَعِيّ.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : يُقَال لِمَنْ هَمَّ بِالْعَطَبِ ثُمَّ أَفْلَتَ : أَوْلَى لَك،  أَيْ قَارَبْت الْعَطَب.
كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا كَانَ يُوَالِي رَمْي الصَّيْد فَيَفْلِت مِنْهُ فَيَقُول : أَوْلَى لَك.
ثُمَّ رَمَى صَيْدًا فَقَارَبَهُ ثُمَّ أَفْلَتَ مِنْهُ فَقَالَ :
فَلَوْ كَانَ أَوْلَى يُطْعِم الْقَوْم صِدْتهمْ   وَلَكِنَّ أَوْلَى يَتْرُك الْقَوْم جُوَّعَا 
وَقِيلَ : هُوَ كَقَوْلِ الرَّجُل لِصَاحِبِهِ : يَا مَحْرُوم،  أَيّ شَيْء فَاتَك وَقَالَ الْجُرْجَانِيّ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْوَيْل،  فَهُوَ أَفْعَل،  وَلَكِنْ فِيهِ قَلْب،  وَهُوَ أَنَّ عَيْن الْفِعْل وَقَعَ مَوْقِع اللَّام.
وَقَدْ تَمَّ الْكَلَام عَلَى قَوْله :" فَأَوْلَى لَهُمْ ".
قَالَ قَتَادَة : كَأَنَّهُ قَالَ الْعِقَاب أَوْلَى لَهُمْ.
وَقِيلَ : أَيْ وَلِيَهُمْ الْمَكْرُوه.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ
أَيْ طَاعَة وَقَوْل مَعْرُوف أَمْثَل وَأَحْسَن،  وَهُوَ مَذْهَب سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيل.
وَقِيلَ : إِنَّ التَّقْدِير أَمْرنَا طَاعَة وَقَوْل مَعْرُوف،  فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأ فَيُوقَف عَلَى " فَأَوْلَى لَهُمْ ".
وَكَذَا مَنْ قَدَّرَ يَقُولُونَ مِنَّا طَاعَة.
وَقِيلَ : إِنَّ الْآيَة الثَّانِيَة مُتَّصِلَة بِالْأُولَى.
وَاللَّام فِي قَوْله :" لَهُمْ " بِمَعْنَى الْبَاء،  أَيْ الطَّاعَة أَوْلَى وَأَلْيَق بِهِمْ،  وَأَحَقّ لَهُمْ مِنْ تَرْك اِمْتِثَال أَمْر اللَّه.
وَهِيَ قِرَاءَة أُبَيّ " يَقُولُونَ طَاعَة ".
وَقِيلَ إِنَّ :" طَاعَة " نَعْت لِ " سُورَة "،  عَلَى تَقْدِير : فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَة ذَات طَاعَة،  فَلَا يُوقَف عَلَى هَذَا عَلَى " فَأَوْلَى لَهُمْ ".
قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ قَوْلهمْ " طَاعَة " إِخْبَار مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ الْمُنَافِقِينَ.
وَالْمَعْنَى لَهُمْ طَاعَة وَقَوْل مَعْرُوف،  قِيلَ : وُجُوب الْفَرَائِض عَلَيْهِمْ،  فَإِذَا أُنْزِلَتْ الْفَرَائِض شَقَّ عَلَيْهِمْ نُزُولهَا.
فَيُوقَف عَلَى هَذَا عَلَى " فَأَوْلَى ".
                                                                            
                                                                    فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ
أَيْ جَدَّ الْقِتَال،  أَوْ وَجَبَ فَرْض الْقِتَال،  كَرِهُوهُ.
فَكَرِهُوهُ جَوَاب " إِذَا " وَهُوَ مَحْذُوف.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَإِذَا عَزَمَ أَصْحَاب الْأَمْر.
                                                                            
                                                                    فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ
أَيْ فِي الْإِيمَان وَالْجِهَاد.
                                                                            
                                                                    لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
مِنْ الْمَعْصِيَة وَالْمُخَالَفَة.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى " إِنْ تَوَلَّيْتُمْ " فَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْوِلَايَة.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَة : الْمَعْنَى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ الْحُكْم فَجُعِلْتُمْ حُكَّامًا أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض بِأَخْذِ الرِّشَا.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : أَيْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَمْر الْأُمَّة أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض بِالظُّلْمِ.
وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : الْمَعْنَى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ الطَّاعَة أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض بِالْمَعَاصِي وَقَطْع الْأَرْحَام.
وَقَالَ كَعْب : الْمَعْنَى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ الْأَمْر أَنْ يَقْتُل بَعْضكُمْ بَعْضًا.
وَقِيلَ : مِنْ الْإِعْرَاض عَنْ الشَّيْء.
قَالَ قَتَادَة : أَيْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ كِتَاب اللَّه أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض بِسَفْكِ الدِّمَاء الْحَرَام،  وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامكُمْ.
وَقِيلَ :" فَهَلْ عَسَيْتُمْ " أَيْ فَلَعَلَّكُمْ إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ الْقُرْآن وَفَارَقْتُمْ أَحْكَامه أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض فَتَعُودُوا إِلَى جَاهِلِيَّتكُمْ.
وَقُرِئَ بِفَتْحِ السِّين وَكَسْرهَا.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ مُسْتَوْفًى.
وَقَالَ بَكْر الْمُزَنِيّ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَّة وَالْخَوَارِج،  وَفِيهِ بُعْد.
وَالْأَظْهَر أَنَّهُ إِنَّمَا عُنِيَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ.
وَقَالَ اِبْن حَيَّان : قُرَيْش.
وَنَحْوه قَالَ الْمُسَيِّب بْن شَرِيك وَالْفَرَّاء،  قَالَا : نَزَلَتْ فِي بَنِي أُمَيَّة وَبَنِي هَاشِم،  وَدَلِيل هَذَا التَّأْوِيل مَا رَوَى عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل قَالَ سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :[ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض - ثُمَّ قَالَ - هُمْ هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْش أَخَذَ اللَّه عَلَيْهِمْ إِنْ وَلُوا النَّاس أَلَّا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْض وَلَا يَقْطَعُوا أَرْحَامهمْ ].
وَقَرَأَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب " إِنْ تُوُلِّيتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض " بِضَمِّ التَّاء وَالْوَاو وَكَسْر اللَّام.
وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن أَبِي إِسْحَاق،  وَرَوَاهَا رُوَيْس عَنْ يَعْقُوب.
يَقُول : إِنْ وَلِيَتْكُمْ وُلَاة جَائِرَة خَرَجْتُمْ مَعَهُمْ فِي الْفِتْنَة وَحَارَبْتُمُوهُمْ.
                                                                            
                                                                    وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ
بِالْبَغْيِ وَالظُّلْم وَالْقَتْل.
وَقَرَأَ يَعْقُوب وَسَلَّام وَعِيسَى وَأَبُو حَاتِم " وَتَقْطَعُوا " بِفَتْحِ التَّاء وَتَخْفِيف الْقَاف،  مِنْ الْقَطْع،  اِعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ أَنْ يُوصَل " [ الْبَقَرَة : ٢٧ ].
وَرَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَة هَارُون عَنْ أَبَى عَمْرو.
وَقَرَأَ الْحَسَن " وَتَقَطَّعُوا " مَفْتُوحَة الْحُرُوف مُشَدَّدَة،  اِعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَتَقَطَّعُوا أَمْرهمْ بَيْنهمْ " [ الْأَنْبِيَاء : ٩٣ ].
الْبَاقُونَ " وَتُقَطِّعُوا " بِضَمِّ التَّاء مُشَدَّدَة الطَّاء،  مِنْ التَّقْطِيع عَلَى التَّكْثِير،  وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد.
وَتَقَدَّمَ ذِكْر " عَسَيْتُمْ " [ الْبَقَرَة : ٢٤٦ ] فِي ( الْبَقَرَة ).
وَقَالَ الزَّجَّاج فِي قِرَاءَة نَافِع : لَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ " عَسِيَ " بِالْكَسْرِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَيُقَال عَسَيْت أَنْ أَفْعَل ذَلِكَ،  وَعَسِيت بِالْكَسْرِ.
وَقُرِئَ " فَهَلْ عَسِيتُمْ " بِالْكَسْرِ.
قُلْت : وَيَدُلّ قَوْله هَذَا عَلَى أَنَّهُمَا لُغَتَانِ.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى.
فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ إِنَّ اللَّه خَلَقَ الْخَلْق حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الرَّحِم فَقَالَتْ هَذَا مَقَام الْعَائِذ مِنْ الْقَطِيعَة قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِل مَنْ وَصَلَك وَأَقْطَع مَنْ قَطَعَك قَالَتْ بَلَى قَالَ فَذَاكَ لَك - ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامكُمْ.
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّه فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارهمْ.
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالهَا " ].
وَظَاهِر الْآيَة أَنَّهَا خِطَاب لِجَمِيعِ الْكُفَّار.
وَقَالَ قَتَادَة وَغَيْره : مَعْنَى الْآيَة فَلَعَلَّكُمْ،  أَوْ يُخَاف عَلَيْكُمْ،  إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ الْإِيمَان أَنْ تَعُودُوا إِلَى الْفَسَاد فِي الْأَرْض لِسَفْكِ الدِّمَاء.
قَالَ قَتَادَة : كَيْف رَأَيْتُمْ الْقَوْم حِين تَوَلَّوْا عَنْ كِتَاب اللَّه تَعَالَى أَلَمْ يَسْفِكُوا الدِّمَاء الْحَرَام وَيَقْطَعُوا الْأَرْحَام وَعَصَوْا الرَّحْمَن.
فَالرَّحِم عَلَى هَذَا رَحِم دِين الْإِسْلَام وَالْإِيمَان،  الَّتِي قَدْ سَمَّاهَا اللَّه إِخْوَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة " [ الْحُجُرَات : ١٠ ].
وَعَلَى قَوْل الْفَرَّاء أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي بَنِي هَاشِم وَبَنِي أُمَيَّة،  وَالْمُرَاد مَنْ أَضْمَرَ مِنْهُمْ نِفَاقًا،  فَأَشَارَ بِقَطْعِ الرَّحِم إِلَى مَا كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَرَابَة بِتَكْذِيبِهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَلِكَ يُوجِب الْقِتَال.
                                                                            
                                                                    وَبِالْجُمْلَةِ فَالرَّحِم عَلَى وَجْهَيْنِ : عَامَّة وَخَاصَّة،  فَالْعَامَّة رَحِم الدِّين،  وَيُوجَب مُوَاصَلَتهَا بِمُلَازَمَةِ الْإِيمَان وَالْمَحَبَّة لِأَهْلِهِ وَنُصْرَتهمْ،  وَالنَّصِيحَة وَتَرْك مُضَارَّتهمْ وَالْعَدْل بَيْنهمْ،  وَالنَّصَفَة فِي مُعَامَلَتهمْ وَالْقِيَام بِحُقُوقِهِمْ الْوَاجِبَة،  كَتَمْرِيضِ الْمَرْضَى وَحُقُوق الْمَوْتَى مِنْ غُسْلهمْ وَالصَّلَاة عَلَيْهِمْ وَدَفْنهمْ،  وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوق الْمُتَرَتِّبَة لَهُمْ.
وَأَمَّا الرَّحِم الْخَاصَّة وَهِيَ رَحِم الْقَرَابَة مِنْ طَرَفَيْ الرَّجُل أَبِيهِ وَأُمّه،  فَتَجِب لَهُمْ الْحُقُوق الْخَاصَّة وَزِيَادَة،  كَالنَّفَقَةِ وَتَفَقُّد أَحْوَالهمْ،  وَتَرْك.
التَّغَافُل عَنْ تَعَاهُدهمْ فِي أَوْقَات ضَرُورَاتهمْ،  وَتَتَأَكَّد فِي حَقّهمْ حُقُوق الرَّحِم الْعَامَّة،  حَتَّى إِذَا تَزَاحَمَتْ الْحُقُوق بُدِئَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَب.
وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم : إِنَّ الرَّحِم الَّتِي تَجِب صِلَتهَا هِيَ كُلّ رَحِم مَحْرَم وَعَلَيْهِ فَلَا تَجِب فِي بَنِي الْأَعْمَام وَبَنِي الْأَخْوَال.
وَقِيلَ : بَلْ هَذَا فِي كُلّ رَحِم مِمَّنْ يَنْطَلِق عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَام فِي الْمَوَارِيث،  مَحْرَمًا كَانَ أَوْ غَيْر مَحْرَم.
فَيُخْرَج مِنْ هَذَا أَنَّ رَحِم الْأُمّ الَّتِي لَا يَتَوَارَث بِهَا لَا تَجِب صِلَتهمْ وَلَا يَحْرُم قَطْعهمْ.
وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ،  وَالصَّوَاب أَنَّ كُلّ مَا يَشْمَلهُ وَيَعُمّهُ الرَّحِم تَجِب صِلَته عَلَى كُلّ حَال،  قُرْبَة وَدِينِيَّة،  عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَاَللَّه أَعْلَم.
قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَده قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَة قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد الْجَبَّار قَالَ سَمِعْت مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ يُحَدِّث عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :[ إِنَّ لِلرَّحِمِ لِسَانًا يَوْم الْقِيَامَة تَحْت الْعَرْش يَقُول يَا رَبّ قُطِعْت يَا رَبّ ظُلِمْت يَا رَبّ أُسِيءَ إِلَيَّ فَيُجِيبهَا رَبّهَا أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِل مَنْ وَصَلَك وَأَقْطَع مَنْ قَطَعَك ].
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جُبَيْر بْن مُطْعِم عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ لَا يَدْخُل الْجَنَّة قَاطِع ].
قَالَ اِبْن أَبِي عُمَر قَالَ سُفْيَان : يَعْنِي قَاطِع رَحِم.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ.
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :
 [ إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْق حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ   ] [ خَلَقَ ] بِمَعْنَى اِخْتَرَعَ وَأَصْله التَّقْدِير،  كَمَا تَقَدَّمَ. 
وَالْخَلْق هُنَا بِمَعْنَى الْمَخْلُوق.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" هَذَا خَلْق اللَّه " [ لُقْمَان : ١١ ] أَيْ مَخْلُوقه.
وَمَعْنَى [ فَرَغَ مِنْهُمْ ] كَمَّلَ خَلْقهمْ.
لَا أَنَّهُ اِشْتَغَلَ بِهِمْ ثُمَّ فَرَغَ مِنْ شُغْله بِهِمْ،  إِذْ لَيْسَ فِعْله بِمُبَاشَرَةٍ وَلَا مُنَاوَلَة،  وَلَا خَلْقه بِآلَةٍ وَلَا مُحَاوَلَة،  تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
                                                                            
                                                                    وَقَوْله :[ قَامَتْ الرَّحِم فَقَالَتْ ] يُحْمَل عَلَى أَحَد وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون اللَّه تَعَالَى أَقَامَ مَنْ يَتَكَلَّم عَنْ الرَّحِم مِنْ الْمَلَائِكَة فَيَقُول ذَلِكَ،  وَكَأَنَّهُ وَكَّلَ بِهَذِهِ الْعِبَادَة مَنْ يُنَاضِل عَنْهَا وَيَكْتُب ثَوَاب مَنْ وَصَلَهَا وَوِزْر مَنْ قَطَعَهَا،  كَمَا وَكَّلَ اللَّه بِسَائِرِ الْأَعْمَال كِرَامًا كَاتِبِينَ،  وَبِمُشَاهَدَةِ أَوْقَات الصَّلَوَات مَلَائِكَة مُتَعَاقِبِينَ.
وَثَانِيهمَا : أَنَّ ذَلِكَ عَلَى جِهَة التَّقْدِير وَالتَّمْثِيل الْمُفْهِم لِلْإِعْيَاءِ وَشِدَّة الِاعْتِنَاء.
فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَوْ كَانَتْ الرَّحِم مِمَّنْ يَعْقِل وَيَتَكَلَّم لَقَالَتْ هَذَا الْكَلَام،  كَمَا قَالَ تَعَالَى :" لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآن عَلَى جَبَل لَرَأَيْته خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَة اللَّه " ثُمَّ قَالَ " وَتِلْكَ الْأَمْثَال نَضْرِبهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " [ الْحَشْر : ٢١ ].
وَقَوْله :( فَقَالَتْ هَذَا مَقَام الْعَائِذ بِك مِنْ الْقَطِيعَة ) مَقْصُود هَذَا الْكَلَام الْإِخْبَار بِتَأَكُّدِ أَمْر صِلَة الرَّحِم،  وَأَنَّ اللَّه سُبْحَانه قَدْ نَزَّلَهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ اِسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ،  وَأَدْخَلَهُ فِي ذِمَّته وَخِفَارَته.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَار اللَّه غَيْر مَخْذُول وَعَهْده غَيْر مَنْقُوض ; وَلِذَلِكَ قَالَ مُخَاطِبًا لِلرَّحِمِ :( أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِل مَنْ وَصَلَك وَأَقْطَع مَنْ قَطَعَك ).
وَهَذَا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :[ وَمَنْ صَلَّى الصُّبْح فَهُوَ فِي ذِمَّة اللَّه تَعَالَى فَلَا يَطْلُبَنَّكُمْ اللَّه مِنْ ذِمَّته بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبهُ بِذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكهُ ثُمَّ يَكُبّهُ فِي النَّار عَلَى وَجْهه ].
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
أَيْ طَرَدَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَته.
                                                                            
                                                                    فَأَصَمَّهُمْ
عَنْ الْحَقّ.
                                                                            
                                                                    وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
أَيْ قُلُوبهمْ عَنْ الْخَيْر.
فَأَتْبَعَ الْأَخْبَار بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ حَقَّتْ عَلَيْهِ لَعْنَته،  وَسَلَبَهُ الِانْتِفَاع بِسَمْعِهِ وَبَصَره حَتَّى لَا يَنْقَاد لِلْحَقِّ وَإِنْ سَمِعَهُ،  فَجَعَلَهُ كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا تَعْقِل.
وَقَالَ :" فَهَلْ عَسَيْتُمْ " ثُمَّ قَالَ :" أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّه " فَرَجَعَ مِنْ الْخِطَاب إِلَى الْغَيْبَة عَلَى عَادَة الْعَرَب فِي ذَلِكَ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
أَيْ يَتَفَهَّمُونَهُ فَيَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّ اللَّه لِلَّذِينَ لَمْ يَتَوَلَّوْا عَنْ الْإِسْلَام.
                                                                            
                                                                    أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا
أَيْ بَلْ عَلَى قُلُوب أَقْفَال أَقْفَلَهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
وَهَذَا يَرُدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَالْإِمَامِيَّة مَذْهَبهمْ.
وَفِي حَدِيث مَرْفُوع أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ إِنَّ عَلَيْهَا أَقْفَالًا كَأَقْفَالِ الْحَدِيد حَتَّى يَكُون اللَّه يَفْتَحهَا ].
وَأَصْل الْقَفْل الْيُبْس وَالصَّلَابَة.
وَيُقَال لِمَا يَبِسَ مِنْ الشَّجَر : الْقَفْل.
وَالْقَفِيل مِثْله.
وَالْقَفِيل أَيْضًا نَبْت.
وَالْقَفِيل : الصَّوْت.
قَالَ الرَّاجِز : لَمَّا أَتَاك يَابِسًا قِرْشَبَّا   قُمْت إِلَيْهِ بِالْقَفِيلِ ضَرْبَا 
كَيْف قَرَيْت شَيْخك الْأَزَبَّا
الْقِرْشَبّ ( بِكَسْرِ الْقَاف ) الْمُسِنّ،  عَنْ الْأَصْمَعِيّ.
وَأَقْفَلَهُ الصَّوْم أَيْ أَيْبَسَهُ،  قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ وَالْجَوْهَرِيّ.
فَالْأَقْفَال هَاهُنَا إِشَارَة إِلَى اِرْتِجَاج الْقَلْب وَخُلُوّهُ عَنْ الْإِيمَان.
أَيْ لَا يَدْخُل قُلُوبهمْ الْإِيمَان وَلَا يَخْرُج مِنْهَا الْكُفْر ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى طَبَعَ عَلَى قُلُوبهمْ وَقَالَ :" عَلَى قُلُوب " لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ عَلَى قُلُوبهمْ لَمْ يَدْخُل قَلْب غَيْرهمْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَة.
وَالْمُرَاد أَمْ عَلَى قُلُوب هَؤُلَاءِ وَقُلُوب مَنْ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَة أَقْفَالهَا.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
قَالَ قَتَادَة : هُمْ كُفَّار أَهْل الْكِتَاب،  كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا عَرَفُوا نَعْته عِنْدهمْ،  قَالَهُ اِبْن جُرَيْج.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ : هُمْ الْمُنَافِقُونَ،  قَعَدُوا عَنْ الْقِتَال بَعْدَمَا عَلِمُوهُ فِي الْقُرْآن.
                                                                            
                                                                    الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ
أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ،  قَالَهُ الْحَسَن.
                                                                            
                                                                    وَأَمْلَى لَهُمْ
أَيْ مَدَّ لَهُمْ الشَّيْطَان فِي الْأَمَل وَوَعَدَهُمْ طُول الْعُمُر،  عَنْ الْحَسَن أَيْضًا.
وَقَالَ : إِنَّ الَّذِي أَمْلَى لَهُمْ فِي الْأَمَل وَمَدَّ فِي آجَالهمْ هُوَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ،  قَالَهُ الْفَرَّاء وَالْمُفَضَّل.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل : إِنَّ مَعْنَى " أَمْلَى لَهُمْ " أَمْهَلَهُمْ،  فَعَلَى هَذَا يَكُون اللَّه تَعَالَى أَمْلَى لَهُمْ بِالْإِمْهَالِ فِي عَذَابهمْ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن إِسْحَاق وَعِيسَى بْن عَمْرو أَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة " وَأُمْلِيَ لَهُمْ " بِضَمِّ الْهَمْزَة وَكَسْر اللَّام وَفَتْح الْيَاء،  عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله.
وَكَذَلِكَ قَرَأَ اِبْن هُرْمُز وَمُجَاهِد وَالْجَحْدَرِيّ وَيَعْقُوب،  إِلَّا أَنَّهُمْ سَكَّنُوا الْيَاء عَلَى وَجْه الْخَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى عَنْ نَفْسه أَنَّهُ يَفْعَل ذَلِكَ بِهِمْ،  كَأَنَّهُ قَالَ : وَأَنَا أُمْلِي لَهُمْ.
وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم،  قَالَ : لِأَنَّ فَتْح الْهَمْزَة يُوهِم أَنَّ الشَّيْطَان يُمْلِي لَهُمْ،  وَلَيْسَ كَذَلِكَ،  فَلِهَذَا عَدَلَ إِلَى الضَّمّ.
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ قَرَأَ " وَأَمْلَى لَهُمْ " فَالْفَاعِل اِسْم اللَّه تَعَالَى.
وَقِيلَ الشَّيْطَان.
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد قِرَاءَة الْعَامَّة،  قَالَ : لِأَنَّ الْمَعْنَى مَعْلُوم،  لِقَوْلِهِ :" لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ " [ الْفَتْح : ٩ ] رَدَّ التَّسْبِيح عَلَى اِسْم اللَّه،  وَالتَّوْقِير وَالتَّعْزِير عَلَى اِسْم الرَّسُول.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
أَيْ ذَلِكَ الْإِمْلَاء لَهُمْ حَتَّى يَتَمَادَوْا فِي الْكُفْر بِأَنَّهُمْ قَالُوا،  يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُود.
                                                                            
                                                                    لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ
وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ.
                                                                            
                                                                    سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ
أَيْ فِي مُخَالَفَة مُحَمَّد وَالتَّظَاهُر عَلَى عَدَاوَته،  وَالْقُعُود عَنْ الْجِهَاد مَعَهُ وَتَوْهِين أَمْره فِي السِّرّ.
وَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ سِرًّا فَأَخْبَرَ اللَّه نَبِيّه.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " أَسْرَارهمْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة جَمْع سِرّ،  وَهِيَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْن وَثَّاب وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَحَفْص عَنْ عَاصِم " إِسْرَارهمْ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة عَلَى الْمَصْدَر،  نَحْو قَوْله تَعَالَى :" وَأَسْرَرْت لَهُمْ إِسْرَارًا " [ نُوح : ٩ ] جُمِعَ لِاخْتِلَافِ ضُرُوب السِّرّ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    فَكَيْفَ
أَيْ فَكَيْف تَكُون حَالهمْ.
                                                                            
                                                                    إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
أَيْ ضَارِبِينَ،  فَهُوَ فِي مَوْضِع الْحَال.
وَمَعْنَى الْكَلَام التَّخْوِيف وَالتَّهْدِيد،  أَيْ إِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ الْعَذَاب فَإِلَى اِنْقِضَاء الْعُمُر.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْفَال وَالنَّحْل ".
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَا يُتَوَفَّى أَحَد عَلَى مَعْصِيَة إِلَّا بِضَرْبٍ شَدِيد لِوَجْهِهِ وَقَفَاهُ.
وَقِيلَ : ذَلِكَ عِنْد الْقِتَال نُصْرَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  بِضَرْبِ الْمَلَائِكَة وُجُوههمْ عِنْد الطَّلَب وَأَدْبَارهمْ عِنْد الْهَرَب.
وَقِيلَ : ذَلِكَ فِي الْقِيَامَة عِنْد سَوْقهمْ إِلَى النَّار.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    ذَلِكَ
أَيْ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ.
                                                                            
                                                                    بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ كِتْمَانهمْ مَا فِي التَّوْرَاة مِنْ نَعْت مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَهُوَ إِشَارَة إِلَى مَا أَضْمَرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْر.
                                                                            
                                                                    وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ
يَعْنِي الْإِيمَان.
                                                                            
                                                                    فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
أَيْ مَا عَمِلُوهُ مِنْ صَدَقَة وَصِلَة رَحِم وَغَيْر ذَلِكَ،  عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
نِفَاق وَشَكّ،  يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ.
                                                                            
                                                                    أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
الْأَضْغَان مَا يُضْمَر مِنْ الْمَكْرُوه.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ،  فَقَالَ السُّدِّيّ : غِشّهمْ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : حَسَدهمْ.
وَقَالَ قُطْرُب : عَدَاوَتهمْ،  وَأَنْشَدَ قَوْل الشَّاعِر :
قُلْ لِابْنِ هِنْد مَا أَرَدْت بِمَنْطِقٍ   سَاءَ الصَّدِيق وَشَيَّدَ الْأَضْغَانَا 
وَقِيلَ : أَحْقَادهمْ.
وَاحِدهَا ضِغْن.
قَالَ : 
وَذِي ضِغْن كَفَفْت النَّفْس عَنْهُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم : وَإِنَّ الضِّغْن بَعْد الضِّغْن يَفْشُو   عَلَيْك وَيُخْرِج الدَّاء الدَّفِينَا 
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الضِّغْن وَالضَّغِينَة : الْحِقْد.
وَقَدْ ضَغِنَ عَلَيْهِ ( بِالْكَسْرِ ) ضِغْنًا.
وَتَضَاغَنَ الْقَوْم وَاضْطَغَنُوا : أَبْطَنُوا عَلَى الْأَحْقَاد.
وَاضْطَغَنْت الصَّبِيّ إِذَا أَخَذْته تَحْت حِضْنك.
وَأَنْشَدَ الْأَحْمَر : 
كَأَنَّهُ مُضْطَغِن صَبِيًّا
أَيْ حَامِله فِي حَجْره.
وَقَالَ اِبْن مُقْبِل : إِذَا اِضْطَغَنْت سِلَاحِي عِنْد مَغْرِضهَا   وَمِرْفَق كَرِئَاسِ السَّيْف إِذْ شَسَفَا 
وَفَرَس ضَاغِن : لَا يُعْطِي مَا عِنْده مِنْ الْجَرْي إِلَّا بِالضَّرْبِ.
وَالْمَعْنَى : أَمْ حَسِبُوا أَنْ لَنْ يُظْهِر اللَّه عَدَاوَتهمْ وَحِقْدهمْ لِأَهْلِ الْإِسْلَام.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ
أَيْ لَعَرَّفْنَاكَهُمْ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَقَدْ عَرَّفَهُ إِيَّاهُمْ فِي سُورَة " التَّوْبَة ".
تَقُول الْعَرَب : سَأُرِيك مَا أَصْنَع،  أَيْ سَأُعْلِمُك،  وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" بِمَا أَرَاك اللَّه " [ النِّسَاء : ١٠٥ ] أَيْ بِمَا أَعْلَمَك.
                                                                            
                                                                    فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
أَيْ بِعَلَامَاتِهِمْ.
قَالَ أَنَس مَا خَفِيَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد هَذِهِ الْآيَة أَحَد مِنْ الْمُنَافِقِينَ،  كَانَ يَعْرِفهُمْ بِسِيمَاهُمْ.
وَقَدْ كُنَّا فِي غَزَاة وَفِيهَا سَبْعَة مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَشُكّ فِيهِمْ النَّاس،  فَأَصْبَحُوا ذَات لَيْلَة وَعَلَى جَبْهَة كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ مَكْتُوب ( هَذَا مُنَافِق ) فَذَلِكَ سِيمَاهُمْ.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : قَدَّرَ اللَّه إِظْهَارهمْ وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ الْمَسْجِد فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه،  فَحُقِنَتْ دِمَاؤُهُمْ وَنَكَحُوا وَأُنْكِحُوا بِهَا.
                                                                            
                                                                    وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
أَيْ فِي فَحْوَاهُ وَمَعْنَاهُ.
وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : 
وَخَيْر الْكَلَام مَا كَانَ لَحْنًا
أَيْ مَا عُرِفَ بِالْمَعْنَى وَلَمْ يُصَرَّح بِهِ.
مَأْخُوذ مِنْ اللَّحْن فِي الْإِعْرَاب،  وَهُوَ الذَّهَاب عَنْ الصَّوَاب،  وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضكُمْ أَنْ يَكُون أَلْحَن بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض ] أَيْ أَذْهَب بِهَا فِي الْجَوَاب لِقُوَّتِهِ عَلَى تَصْرِيف الْكَلَام.
أَبُو زَيْد : لَحَنْت لَهُ ( بِالْفَتْحِ ) أَلْحَن لَحْنًا إِذَا قُلْت لَهُ قَوْلًا يَفْهَمهُ عَنْك وَيَخْفَى عَلَى غَيْره.
وَلَحِنَهُ هُوَ عَنِّي ( بِالْكَسْرِ ) يَلْحَنهُ لَحْنًا أَيْ فَهِمَهُ.
وَأَلْحَنْتُهُ أَنَا إِيَّاهُ،  وَلَاحَنْت النَّاس فَاطَنْتُهُمْ،  قَالَ الْفَزَارِيّ :
وَحَدِيث أَلَذّه هُوَ مِمَّا   يَنْعَت النَّاعِتُونَ يُوزَن وَزْنَا مَنْطِق رَائِع وَتَلْحَن أَحْيَا   نًا وَخَيْر الْحَدِيث مَا كَانَ لَحْنًا 
يُرِيد أَنَّهَا تَتَكَلَّم بِشَيْءٍ وَهِيَ تُرِيد غَيْره،  وَتُعَرِّض فِي حَدِيثهَا فَتُزِيلهُ عَنْ جِهَته مِنْ فِطْنَتهَا وَذَكَائِهَا.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :" وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْن الْقَوْل ".
وَقَالَ الْقَتَّال الْكِلَابِيّ : وَلَقَدْ وَحَيْت لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوا   وَلَحَنْت لَحْنًا لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ 
وَقَالَ مَرَّار الْأَسَدِيّ : وَلَحَنْت لَحْنًا فِيهِ غِشّ وَرَابَنِي   صُدُودك تُرْضِينَ الْوُشَاة الْأَعَادِيَا 
قَالَ الْكَلْبِيّ : فَلَمْ يَتَكَلَّم بَعْد نُزُولهَا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَافِق إِلَّا عَرَفَهُ.
وَقِيلَ : كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُخَاطِبُونَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامٍ تَوَاضَعُوهُ فِيمَا بَيْنهمْ،  وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَع ذَلِكَ وَيَأْخُذ بِالظَّاهِرِ الْمُعْتَاد،  فَنَبَّهَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ،  فَكَانَ بَعْد هَذَا يَعْرِف الْمُنَافِقِينَ إِذَا سَمِعَ كَلَامهمْ.
قَالَ أَنَس : فَلَمْ يَخْفَ مُنَافِق بَعْد هَذِهِ الْآيَة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  عَرَّفَهُ اللَّه ذَلِكَ بِوَحْيٍ أَوْ عَلَامَة عَرَفَهَا بِتَعْرِيفِ اللَّه إِيَّاهُ.
                                                                            
                                                                    وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ
أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْهَا.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
أَيْ نَتَعَبَّدكُمْ بِالشَّرَائِعِ وَإِنْ عَلِمْنَا عَوَاقِب الْأُمُور.
وَقِيلَ : لَنُعَامِلَنَّكُمْ مُعَامَلَة الْمُخْتَبَرِينَ.
                                                                            
                                                                    حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
عَلَيْهِ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس :" حَتَّى نَعْلَم " حَتَّى نُمَيِّز.
وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
" حَتَّى نَعْلَم " حَتَّى نَرَى.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة ".
وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِالنُّونِ فِي " نَبْلُوَنَّكُمْ " و " نَعْلَم " " وَنَبْلُو ".
وَقَرَأَ أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم بِالْيَاءِ فِيهِنَّ.
وَرَوَى رُوَيْس عَنْ يَعْقُوب إِسْكَان الْوَاو مِنْ " نَبْلُو " عَلَى الْقَطْع مِمَّا قَبْل.
وَنَصَبَ الْبَاقُونَ رَدًّا عَلَى قَوْله :" حَتَّى نَعْلَم ".
وَهَذَا الْعِلْم هُوَ الْعِلْم الَّذِي يَقَع بِهِ الْجَزَاء ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ لَا بِعِلْمِهِ الْقَدِيم عَلَيْهِمْ.
فَتَأْوِيله : حَتَّى نَعْلَم الْمُجَاهِدِينَ عِلْم شَهَادَة ; لِأَنَّهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِالْعَمَلِ يَشْهَد مِنْهُمْ مَا عَمِلُوا،  فَالْجَزَاء بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب يَقَع عَلَى عِلْم الشَّهَادَة.
                                                                            
                                                                    وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ
نَخْتَبِرهَا وَنُظْهِرهَا.
قَالَ إِبْرَاهِيم بْن الْأَشْعَث : كَانَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة بَكَى وَقَالَ : اللَّهُمَّ لَا تَبْتَلِنَا فَإِنَّك إِذَا بَلَوْتنَا فَضَحْتنَا وَهَتَكْت أَسْتَارنَا.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
يَرْجِع إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَوْ إِلَى الْيَهُود.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ الْمُطْعِمُونَ يَوْم بَدْر.
نَظِيرهَا :" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّه " [ الْأَنْفَال : ٣٦ ] الْآيَة.
                                                                            
                                                                    وَشَاقُّوا الرَّسُولَ
أَيْ عَادُوهُ وَخَالَفُوهُ.
                                                                            
                                                                    مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
أَيْ عَلِمُوا أَنَّهُ نَبِيّ بِالْحُجَجِ وَالْآيَات.
                                                                            
                                                                    لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
بِكُفْرِهِمْ.
                                                                            
                                                                    وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ
أَيْ ثَوَاب مَا عَمِلُوهُ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
لَمَّا بَيَّنَ حَال الْكُفَّار أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِلُزُومِ الطَّاعَة فِي أَوَامِره وَالرَّسُول فِي سُنَنه.
                                                                            
                                                                    الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا
أَيْ حَسَنَاتكُمْ بِالْمَعَاصِي،  قَالَهُ الْحَسَن.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ : بِالْكَبَائِرِ.
اِبْن جُرَيْج : بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَة.
وَقَالَ مُقَاتِل وَالثُّمَالِيّ : بِالْمَنِّ،  وَهُوَ خِطَاب لِمَنْ كَانَ يَمُنّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِهِ.
وَكُلّه مُتَقَارِب،  وَقَوْل الْحَسَن يَجْمَعهُ.
وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْكَبَائِر تُحْبِط الطَّاعَات،  وَالْمَعَاصِي تُخْرِج عَنْ الْإِيمَان.
اِحْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرهمْ بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ التَّحَلُّل مِنْ التَّطَوُّع - صَلَاة كَانَ أَوْ صَوْمًا - بَعْد التَّلَبُّس بِهِ لَا يَجُوز ; لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَال الْعَمَل وَقَدْ نَهَى اللَّه عَنْهُ.
وَقَالَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ - وَهُوَ الْإِمَام الشَّافِعِيّ وَغَيْره - : الْمُرَاد بِذَلِكَ إِبْطَال ثَوَاب الْعَمَل الْمَفْرُوض،  فَنَهَى الرَّجُل عَنْ إِحْبَاط ثَوَابه.
فَأَمَّا مَا كَانَ نَفْلًا فَلَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ.
فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّفْظ عَامّ فَالْعَامّ يَجُوز تَخْصِيصه أَنَّ النَّفْل تَطَوُّع،  وَالتَّطَوُّع يَقْتَضِي تَخْبِيرًا.
وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَة كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَضُرّ مَعَ الْإِسْلَام ذَنْب،  حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فَخَافُوا الْكَبَائِر أَنْ تُحْبِط الْأَعْمَال.
وَقَالَ مُقَاتِل : يَقُول اللَّه تَعَالَى إِذَا عَصَيْتُمْ الرَّسُول فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ أَعْمَالكُمْ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
                                                                         
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    فَلَا تَهِنُوا
أَيْ تَضْعُفُوا عَنْ الْقِتَال.
وَالْوَهْن : الضَّعْف وَقَدْ وَهَنَ الْإِنْسَان وَوَهَنَهُ غَيْره،  يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى.
قَالَ : 
إِنَّنِي لَسْت بِمَوْهُونٍ فَقِرْ
وَوَهِنَ أَيْضًا ( بِالْكَسْرِ ) وَهْنًا أَيْ ضَعُفَ،  وَقُرِئَ " فَمَا وَهِنُوا " بِضَمِّ الْهَاء وَكَسْرهَا.
وَقَدْ مَضَى فِي ( آل عِمْرَان ).
                                                                            
                                                                    وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ
أَيْ الصُّلْح.
                                                                            
                                                                    وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
أَيْ وَأَنْتُمْ أَعْلَم بِاَللَّهِ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ : وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ فِي الْحُجَّة.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ الْغَالِبُونَ لِأَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ وَإِنْ غَلَبُوكُمْ فِي الظَّاهِر فِي بَعْض الْأَحْوَال.
وَقَالَ قَتَادَة : لَا تَكُونُوا أَوَّل الطَّائِفَتَيْنِ ضَرَعَتْ إِلَى صَاحِبَتهَا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حُكْمهَا،  فَقِيلَ : إِنَّهَا نَاسِخَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا " [ الْأَنْفَال : ٦١ ] ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَنَعَ مِنْ الْمَيْل إِلَى الصُّلْح إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَة إِلَى الصُّلْح.
وَقِيلَ : مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ".
وَقِيلَ : هِيَ مُحْكَمَة.
وَالْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْحَال.
وَقِيلَ : إِنَّ قَوْله :" وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا " مَخْصُوص فِي قَوْم بِأَعْيَانِهِمْ،  وَالْأُخْرَى عَامَّة.
فَلَا يَجُوز مُهَادَنَة الْكُفَّار إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة،  وَذَلِكَ إِذَا عَجَزْنَا عَنْ مُقَاوَمَتهمْ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى.
                                                                            
                                                                    وَاللَّهُ مَعَكُمْ
أَيْ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَة،  مِثْل :" وَإِنَّ اللَّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " [ الْعَنْكَبُوت : ٦٩ ]
                                                                            
                                                                    وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
أَيْ لَنْ يُنْقِصكُمْ،  عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
وَمِنْهُ الْمَوْتُور الَّذِي قُتِلَ لَهُ قَتِيل فَلَمْ يُدْرَك بِدَمِهِ،  تَقُول مِنْهُ : وَتَرَهُ يَتِرهُ وَتْرًا وَتِرَة.
وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :[ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاة الْعَصْر فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْله وَمَاله ] أَيْ ذَهَبَ بِهِمَا.
وَكَذَلِكَ وَتَرَهُ حَقّه أَيْ نَقَصَهُ.
وَقَوْله تَعَالَى :" وَلَنْ يَتِركُمْ أَعْمَالكُمْ " أَيْ لَنْ يَنْتَقِصكُمْ فِي أَعْمَالكُمْ،  كَمَا تَقُول : دَخَلْت الْبَيْت،  وَأَنْتَ تُرِيد فِي الْبَيْت،  قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ.
الْفَرَّاء :" وَلَنْ يَتِركُمْ " هُوَ مُشْتَقّ مِنْ الْوَتْر وَهُوَ الْفَرْد،  فَكَانَ الْمَعْنَى : وَلَنْ يُفْرِدكُمْ بِغَيْرِ ثَوَاب.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
أَيْ لِقِصَرِ مُدَّتهَا كَمَا قَالَ : أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ نَائِم   وَمَا خَيْر عَيْش لَا يَكُون بِدَائِمِ تَأَمَّلْ إِذَا مَا نِلْت بِالْأَمْسِ لَذَّة   فَأَفْنَيْتهَا هَلْ أَنْتَ إِلَّا كَحَالِمِ 
وَقَالَ آخَر : فَاعْمَلْ عَلَى مَهْل فَإِنَّك مَيِّت   وَاكْدَحْ لِنَفْسِك أَيّهَا الْإِنْسَان فَكَأَنَّ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى   وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِن قَدْ كَانَا 
وَقِيلَ : الْمَعْنَى مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا لَعِب وَلَهْو ; أَيْ الَّذِي يَشْتَهُوهُ فِي الدُّنْيَا لَا عَاقِبَة لَهُ،  فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللَّعِب وَاللَّهْو.
وَنَظَرَ سُلَيْمَان بْن عَبْد اللَّه فِي الْمِرْآة فَقَالَ : أَنَا الْمَلِك الشَّابّ ; فَقَالَتْ لَهُ جَارِيَة لَهُ :
أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاع لَوْ كُنْت تَبْقَى   غَيْر أَنْ لَا بَقَاء لِلْإِنْسَانِ لَيْسَ فِيمَا بَدَا لَنَا مِنْك عَيْب   كَانَ فِي النَّاس غَيْر أَنَّك فَانِي 
وَقِيلَ : مَعْنَى " لَعِب وَلَهْو " بَاطِل وَغُرُور،  كَمَا قَالَ :" وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغُرُور " " آل عِمْرَان : ١٨٥ ] فَالْمَقْصِد بِالْآيَةِ تَكْذِيب الْكُفَّار فِي قَوْلهمْ :" إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتنَا الدُّنْيَا " وَاللَّعِب مَعْرُوف،  وَالتِّلْعَابَة الْكَثِير اللَّعِب،  وَالْمَلْعَب مَكَان اللَّعِب ; يُقَال : لَعِبَ يَلْعَب.
وَاللَّهْو أَيْضًا مَعْرُوف،  وَكُلّ مَا شَغَلَك فَقَدْ أَلْهَاك،  وَلَهَوْت مِنْ اللَّهْو،  وَقِيلَ : أَصْله الصَّرْف عَنْ الشَّيْء ; مِنْ قَوْلهمْ : لُهِيت عَنْهُ ; قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ الَّذِي مَعْنَاهُ الصَّرْف لَامه يَاء بِدَلِيلِ قَوْلهمْ : لِهْيَان،  وَلَام الْأَوَّل وَاو.
لَيْسَ مِنْ اللَّهْو وَاللَّعِب مَا كَانَ مِنْ أُمُور الْآخِرَة،  فَإِنَّ حَقِيقَة اللَّعِب مَا لَا يُنْتَفَع بِهِ وَاللَّهْو مَا يُلْتَهَى بِهِ،  وَمَا كَانَ مُرَادًا لِلْآخِرَةِ خَارِج عَنْهُمَا،  وَذَمَّ رَجُل الدُّنْيَا عِنْد عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ عَلِيّ : الدُّنْيَا دَار صِدْق لِمَنْ صَدَقَهَا،  وَدَار نَجَاة لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا،  وَدَار غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا.
وَقَالَ مَحْمُود الْوَرَّاق : لَا تُتْبِع الدُّنْيَا وَأَيَّامهَا   ذَمًّا وَإِنْ دَارَتْ بِك الدَّائِرَه مِنْ شَرَف الدُّنْيَا وَمِنْ فَضْلهَا   أَنَّ بِهَا تُسْتَدْرَك الْآخِرَه 
وَرَوَى أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ،  قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ الدُّنْيَا مَلْعُونَة مَلْعُون مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْر اللَّه أَوْ أَدَّى إِلَى ذِكْر اللَّه وَالْعَالِم وَالْمُتَعَلِّم شَرِيكَانِ فِي الْأَجْر وَسَائِر النَّاس هَمَج لَا خَيْر فِيهِ ] وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَقَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ [ مِنْ هَوَان الدُّنْيَا عَلَى اللَّه أَلَّا يُعْصَى إِلَّا فِيهَا وَلَا يُنَال مَا عِنْده إِلَّا بِتَرْكِهَا ].
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ سَهْل بْن سَعْد قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِل عِنْد اللَّه جَنَاح بَعُوضَة مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَة مَاء ].
                                                                            
                                                                    وَقَالَ الشَّاعِر : تَسَمَّعْ مِنْ الْأَيَّام إِنْ كُنْت حَازِمًا   فَإِنَّك مِنْهَا بَيْن نَاهٍ وَآمِر إِذَا أَبْقَتْ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْء دِينه   فَمَا فَاتَ مِنْ شَيْء فَلَيْسَ بِضَائِرِ وَلَنْ تَعْدِل الدُّنْيَا جَنَاح بَعُوضَة   وَلَا وَزْن زَفّ مِنْ جَنَاح لِطَائِرِ فَمَا رَضِيَ الدُّنْيَا ثَوَابًا لِمُؤْمِنِ   وَلَا رَضِيَ الدُّنْيَا جَزَاء لِكَافِرِ 
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هَذِهِ حَيَاة الْكَافِر لِأَنَّهُ يُزْجِيهَا فِي غُرُور وَبَاطِل،  فَأَمَّا حَيَاة الْمُؤْمِن فَتَنْطَوِي عَلَى أَعْمَال صَالِحَة،  فَلَا تَكُون لَهْوًا وَلَعِبًا.
                                                                            
                                                                    وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ
شَرْط وَجَوَابه.
                                                                            
                                                                    وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ
أَيْ لَا يَأْمُركُمْ بِإِخْرَاجِ جَمِيعهَا فِي الزَّكَاة،  بَلْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْبَعْض،  قَالَهُ ابْن عُيَيْنَة وَغَيْره.
وَقِيلَ :" لَا يَسْأَلكُمْ أَمْوَالكُمْ " لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا،  إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيله لِيَرْجِع ثَوَابه إِلَيْكُمْ.
وَقِيلَ :" لَا يَسْأَلكُمْ أَمْوَالكُمْ " إِنَّمَا يَسْأَلكُمْ أَمْوَاله ; لِأَنَّهُ الْمَالِك لَهَا وَهُوَ الْمُنْعِم بِإِعْطَائِهَا.
وَقِيلَ : وَلَا يَسْأَلكُمْ مُحَمَّد أَمْوَالكُمْ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغ الرِّسَالَة.
نَظِيره :" قُلْ مَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر " [ الْفُرْقَان : ٥٧ ] الْآيَة.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ
يُلِحّ عَلَيْكُمْ،  يُقَال : أَحْفَى بِالْمَسْأَلَةِ وَأَلْحَفَ وَأَلَحَّ بِمَعْنًى وَاحِد.
وَالْحَفِيّ الْمُسْتَقْصِي فِي السُّؤَال،  وَكَذَلِكَ الْإِحْفَاء الِاسْتِقْصَاء فِي الْكَلَام وَالْمُنَازَعَة.
وَمِنْهُ أَحْفَى شَارِبه أَيْ اِسْتَقْصَى فِي أَخْذه.
                                                                            
                                                                    تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
أَيْ يُخْرِج الْبُخْل أَضْغَانكُمْ.
قَالَ قَتَادَة : قَدْ عَلِمَ اللَّه أَنَّ فِي سُؤَال الْمَال خُرُوج الْأَضْغَان.
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَابْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد " وَتَخْرُج " بِتَاءٍ مَفْتُوحَة وَرَاء مَضْمُومَة.
" أَضْغَانكُمْ " بِالرَّفْعِ لِكَوْنِهِ الْفَاعِل.
وَرَوَى الْوَلِيد عَنْ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ " وَنُخْرِج " بِالنُّونِ.
وَأَبُو مَعْمَر عَنْ عَبْد الْوَارِث عَنْ أَبِي عَمْرو " وَيُخْرِج " بِالرَّفْعِ فِي الْجِيم عَلَى الْقَطْع وَالِاسْتِئْنَاف وَالْمَشْهُور عَنْهُ " وَيُخْرِج " كَسَائِرِ الْقُرَّاء،  عَطْف عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
                                                                            
                                                                     
                                                                                                                                        
                    
                                                                                    هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ
أَيْ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ تُدْعَوْنَ
                                                                            
                                                                    تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
أَيْ فِي الْجِهَاد وَطَرِيق الْخَيْر.
                                                                            
                                                                    اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ
أَيْ عَلَى نَفْسه،  أَيْ يَمْنَعهَا الْأَجْر وَالثَّوَاب.
                                                                            
                                                                    نَفْسِهِ وَاللَّهُ
أَيْ إِنَّهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَى أَمْوَالكُمْ.
                                                                            
                                                                    الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
إِلَيْهَا.
                                                                            
                                                                    الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا
أَيْ أَطْوَع لِلَّهِ مِنْكُمْ.
رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبَى هُرَيْرَة قَالَ : تَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَة " وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِل قَوْمًا غَيْركُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالكُمْ " قَالُوا : وَمَنْ يَسْتَبْدِل بِنَا ؟ قَالَ : فَضَرَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِب سَلْمَان ثُمَّ قَالَ :[ هَذَا وَقَوْمه.
هَذَا وَقَوْمه ] قَالَ : حَدِيث غَرِيب فِي إِسْنَاده مَقَال.
وَقَدْ رَوَى عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن نَجِيح وَالِد عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيث عَنْ الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ أَنَس مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُول اللَّه،  مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّه إِنْ تَوَلَّيْنَا اُسْتُبْدِلُوا ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالنَا ؟ قَالَ : وَكَانَ سَلْمَان جَنْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَضَرَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخِذ سَلْمَان،  قَالَ :[ هَذَا وَأَصْحَابه.
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَان مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَال مِنْ فَارِس ].
وَقَالَ الْحَسَن : هُمْ الْعَجَم.
وَقَالَ عِكْرِمَة : هُمْ فَارِس وَالرُّوم.
قَالَ الْمُحَاسِبِيّ : فَلَا أَحَد بَعْد الْعَرَبِيّ مِنْ جَمِيع أَجْنَاس الْأَعَاجِم أَحْسَن دِينًا،  وَلَا كَانَتْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ إِلَّا الْفُرْس.
وَقِيلَ : إِنَّهُمْ الْيَمَن،  وَهُمْ الْأَنْصَار،  قَالَهُ شُرَيْح بْن عُبَيْد.
وَكَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ الْأَنْصَار.
وَعَنْهُ أَنَّهُمْ الْمَلَائِكَة.
وَعَنْهُ هُمْ التَّابِعُونَ.
وَقَالَ مُجَاهِد : إِنَّهُمْ مَنْ شَاءَ مِنْ سَائِر النَّاس.
قَالَ الطَّبَرِيّ : أَيْ فِي الْبُخْل بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّه.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فَرِحَ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ :[ هِيَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا ].
وَاَللَّه أَعْلَم.
خُتِمَتْ السُّورَة بِحَمْدِ اللَّه وَعَوْنه،  وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدنَا مُحَمَّد،  وَعَلَى آله وَصَحْبه الْأَطْهَار.
                                                                            
                                                                     
                                                            
                                    
                            
        
    
    
    
    
        
            
                
                    
                        
                            الموسوعة القرآنية Quranpedia.net
                            -
                            © 2025