وهي مدنية في قولهم جميعا، وعن بعضهم : انها نزلت بين مكة والمدينة عند منصرفه من الحديبية، قاله مسور بن مخرمة ومروان وغيرهما. وروى مالك عن زيد بن أسلم، عن ابيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله في سفر فقال :" لقد انزلت البارحة علي سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها، ثم قرأ :( إنا فتحنا لك فتحا مبينا )١ أخرجه البخاري عن ( القعنبي )٢ عن مالك.
وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال : لما انصرفنا من مكة وقد منعنا من نسكنا، وبنا من الحزن والكآبة شيء عظيم، فأنزل الله تعالى هذه السورة، فقال النبي :" هي أحب إلي من جميع الدنيا " ٣.
٢ - في ((ك)) : الشعبي، وهو خطأ، و الصواب : القعنبي، و كما عند البخاري..
٣ - متفق عليه، رواه البخاري ( ٧/٥١٧ رقم ٤٨٣٤)، و مسلم ( ١٢ /١٩٩ رقم ١٧٨٦).
ﰡ
وَقيل: إِنَّه أعظم فتح كَانَ فِي الْإِسْلَام؛ لِأَنَّهُ لما صَالح مَعَ الْمُشْركين ووداعهم فَكَانَ قد صَالح على وضع الْحَرْب عشر سِنِين، فاختلط الْمُشْركُونَ مَعَ الْمُسلمين بعد ذَلِك، وسمعوا الْقُرْآن، وَرَأَوا مَا عَلَيْهِ رَسُول الله وَأَصْحَابه فرغبوا فِي الْإِسْلَام، وَأسلم فِي مُدَّة الصُّلْح من الْمُشْركين أَكثر مِمَّا كَانَ أسلم فِي مُدَّة الْحَرْب، وَكثر سَواد الْإِسْلَام، وَأسلم فِي هَذِه الْمدَّة: خَالِد بن الْوَلِيد، وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَعُثْمَان بن طَلْحَة الْعَبدَرِي، وَكثير من وُجُوه الْمُشْركين، وَقد كَانَ فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة بيعَة الرضْوَان، ووعد فتح خَيْبَر وَظُهُور الرّوم على الْفرس، وَكَانَ ذَلِك من معجزات الرَّسُول، وَكَانَ ذَلِك مِمَّا سر الْمُسلمين وساء الْمُشْركين؛ لِأَن الْمُسلمين كَانُوا يودون ظُهُور أهل الْكتاب، وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يودون ظُهُور الْفرس والعجم فحقق الله مَا يوده الْمُسلمُونَ وَكَانَ الْمُشْركُونَ قَالُوا حِين ظَهرت الْفرس على الرّوم: كَمَا ظهر الْفرس على الرّوم كَذَلِك نَحن نظهر عَلَيْكُم، فحين أظهر الله الرّوم على الْفرس كَانَ ذَلِك عَلامَة لظُهُور الْمُسلمين على الْمُشْركين. وَقيل فِي الْحُدَيْبِيَة: هُوَ إِبَاحَة الْحلق والنحر قبل بُلُوغ الْهَدْي مَحَله، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن المُرَاد من الْفَتْح هُوَ فتح مَكَّة، وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى وعده فتح مَكَّة فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة.
وَقَوله: ﴿مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر﴾ أَي: مَا تقدم من ذَنْبك قبل زمَان النُّبُوَّة، وَمَا تَأَخّر عَن زمَان النُّبُوَّة، وَقيل: مَا تقدم من ذَنْبك قبل الْفَتْح، وَمَا تَأَخّر عَن الْفَتْح. وَعَن الثَّوْريّ قَالَ: مَا كَانَ وَمَا يكون مالم تَفْعَلهُ، وَأَنت فَاعله، فَكَأَنَّهُ غفر لَهُ قبل الْفِعْل.
فَإِن قَالَ قَائِل: وَأي ذَنْب كَانَ لَهُ؟ قُلْنَا: الصَّغَائِر، وَقد كَانَ مَعْصُوما من الْكَبَائِر.
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَنه كَانَ متعبدا قبل النُّبُوَّة بشريعة إِبْرَاهِيم فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق والعبادات والمعاملات وَغير ذَلِك، وَكَانَ قد تزوج خَدِيجَة وَهِي مُشركَة، وَكَذَلِكَ زوج ابْنَته رقية من عتبَة بن أبي لَهب وَهُوَ مُشْرك، و [كَذَلِك] زوج ابْنَته زَيْنَب من [أبي] الْعَاصِ بن الرّبيع وَكَانَ مُشْركًا فَهَذِهِ ذنُوبه قبل النُّبُوَّة، وَقد غفرها الله تَعَالَى لَهُ، وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ لَا على طَرِيق الْقَصْد. وَقد ثَبت عَن النَّبِي " أَنه صلى حَتَّى تورمت قدماه، فَقيل لَهُ: أتفعل هَذَا وَقد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر؟ فَقَالَ: أَفلا أكون عبدا شكُورًا.
وَذكر الدمياطي فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس: أَن سبّ نزُول الْآيَة هُوَ أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم﴾ شمت بِهِ الْمُشْركُونَ وَالْيَهُود، وَقَالُوا: هَذَا رجل لَا يدْرِي مَا يفعل بِهِ وَلَا بِأَصْحَابِهِ، فَكيف ندخل فِي دينه؟ وَقَالَ عبد الله بن أبي بن سلول الْأنْصَارِيّ: أتدخلون فِي دين رجل وَهُوَ لَا يدْرِي مَا يفعل بِهِ، فَحزن الْمُسلمُونَ لذَلِك حزنا شَدِيدا، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: ﴿إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر﴾ الْآيَة، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: هَنِيئًا لَك يَا رَسُول الله، فَكيف أمرنَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: ﴿ليدْخل الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار﴾.
وَقَوله: ﴿وَيتم نعْمَته عَلَيْك﴾ أَي: (يتم) نعْمَته عَلَيْك بالنصر على الْأَعْدَاء
وَقَوله: ﴿ويهديك صراطا مُسْتَقِيمًا﴾ أَي: يدلك على الطَّرِيق الْمُسْتَقيم.
وَقَوله: ﴿فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم﴾ أَي: تَصْدِيقًا مَعَ تصديقهم، وَقيل: يَقِينا مَعَ يقينهم. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى أَمر الْمُؤمنِينَ بِشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَلَمَّا قبلوا ذَلِك زادهم الصَّلَوَات الْخمس، فَلَمَّا قبلوا ذَلِك زادهم الزَّكَاة، ثمَّ زادهم الْحَج، ثمَّ زادهم الْجِهَاد، فَلَمَّا أكمل شرائعه أنزل قَوْله: ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾.
وَقَوله: ﴿وَللَّه جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: جموع السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَلَو سلط أَصْغَر خلقه على جَمِيع الْعَالم لقهرهم. وَيُقَال: لَهُ جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض أَي: مَا خلق الله فِي السَّمَوَات من الْمَلَائِكَة، وَمَا خلق الله فِي الأَرْض من الْجِنّ وَالْإِنْس وَغَيرهم.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله عليما حكيما﴾ أَي: عليما بخلقه، حكيما فِي تَدْبيره.
وَقَوله: ﴿دَائِرَة السوء﴾ وَقُرِئَ: " دَائِرَة السوء) بِرَفْع السِّين، ومعناهما مُتَقَارب أَي: عَلَيْهِم عَاقِبَة الْهَلَاك وَقيل مَعْنَاهُ: لَهُم سوء الْعَاقِبَة لَا للرسول.
وَقَوله: ﴿وَغَضب الله عَلَيْهِم ولعنهم وَأعد لَهُم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا﴾ أَي: بئس المنقلب
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما﴾ منيعا فِي النَّصْر، حكيما فِي التَّدْبِير.
وَقَوله: ﴿وَمُبشرا﴾ أَي: مبشرا للمطيعين.
وَقَوله: ﴿وَنَذِيرا﴾ أَي: مخوفا للعاصين.
وَقَوله: ﴿وتعزروه﴾ أَي: تعظموه، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " وتعززوه " أَي: تقدمُوا بِمَا يكون عزا لَهُ.
وَقَوله: ﴿وتوقروه﴾ أَي: تفخموه وتبجلوه، وَيُقَال: وتعذروه مَعْنَاهُ: [تنصروه] بِالسَّيْفِ، وَهُوَ القَوْل الْمَعْرُوف، فَإِن قَالَ قَائِل: فَإلَى من ترجع الْهَاء؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن أَحدهمَا: أَنَّهَا رَاجِعَة إِلَى الرَّسُول، وَالثَّانِي: أَنَّهَا رَاجِعَة إِلَى الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿وتسبحوه بكرَة وَأَصِيلا﴾ تَنْصَرِف إِلَى الله قولا وَاحِدًا.
وَالتَّسْبِيح بالبكرة وَهُوَ صَلَاة الصُّبْح، وبالأصيل صَلَاة الظّهْر وَالْعصر.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يبايعون الله﴾ أَي: من أَخذ الْعَهْد مِنْك فقد أَخذ الْعَهْد مني، وَمن بَايَعَك فقد بايعني. وَعَن بَعضهم: من دخل فِي الْإِسْلَام فقد بَايع الله، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ﴾ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿يَد الله فَوق أَيْديهم﴾ أَي: يَد الله فِي النُّصْرَة والْمنَّة عَلَيْهِم فَوق أَيْديهم بِالطَّاعَةِ لَك. وَيُقَال مَعْنَاهُ: يَد الله فِي الْوَفَاء بقوله ﴿فَوق أَيْديهم﴾ فِي الْوَفَاء بعهدهم وَيُقَال: إِحْسَان الله تَعَالَى إِلَيْهِم فَوق إحسانهم إِلَيْك بالنصرة، ومنة الله عَلَيْهِم فَوق منتهم عَلَيْك فِي قبُول مَا جِئْت بِهِ.
وَقَوله: ﴿فَمن نكث﴾ أَي: من نقض الْعَهْد.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه﴾ أَي: وبال نقض عَهده عَلَيْهِ. وَيُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْجد بن قيس، وَكَانَ من الْمُنَافِقين، فَلَمَّا بَايع رَسُول الله مَعَ أَصْحَابه بيعَة الرضْوَان اخْتَبَأَ تَحت إبط بعير وَلم يُبَايع. وَمعنى النكث: [هُوَ] التّرْك.
وَقَوله: ﴿وَمن أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فسيؤتيه أجرا عَظِيما﴾ أَي: كثيرا.
وَقَوله ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفر لنا﴾ أَي أطلب لنا الْمَغْفِرَة من الله تَعَالَى
وَقَوله: ﴿يَقُولُونَ بألسنتهم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم﴾ يَعْنِي: أَنهم لَا يبالون استغفرت لَهُم أَو تركت الاسْتِغْفَار لَهُم لنفاقهم، وَإِنَّمَا يظْهر طلب الاسْتِغْفَار تقية وخوفا. وَهَذَا فِي الْمُنَافِقين من هَذِه الْقَبَائِل لَا فِي جَمِيعهم، فَإِنَّهُ قد كَانَ فيهم مُسلمُونَ محققون إسْلَامهمْ.
وَقَوله: ﴿قل فَمن يملك لكم من الله شَيْئا﴾ أَي: يدْفع عَنْكُم عَذَاب الله، وَمن يمنعكم من الله إِن أَرَادَ عقوبتكم.
وَقَوله: ﴿إِن أَرَادَ بكم ضرا أَو أَرَادَ بكم نفعا﴾ أَي: لَيْسَ الْأَمر فِي جَمِيع هَذَا إِلَّا بِيَدِهِ وَقَوله. بل كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا) أَي: عليما. وَيُقَال فِي قَوْله: ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالنَا﴾ أَي: لَيْسَ لنا من يقوم بهَا.
وَقَوله: ﴿وَأَهْلُونَا﴾ أَي: لَيْسَ لنا من يخلفنا فِي الْقيام بأمرهم.
وَقَوله: ﴿يَقُولُونَ بألسنتهم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ فِي قُلُوبهم الشَّك.
وَقَوله: ﴿قل فَمن يملك لكم من الله شَيْئا إِن أَرَادَ بكم ضرا﴾ أَي: الْهَزِيمَة.
وَقَوله: ﴿أَو أَرَادَ بكم نفعا﴾ أَي: النُّصْرَة وَالْغنيمَة.
وَقَوله: ﴿وظننتم ظن السوء﴾ قد بَينا مَعْنَاهُ.
وَقَوله: ﴿وكنتم قوما بورا﴾ أَي: هلكى. قَالَ عبد الرَّحْمَن بن زيد بن اسْلَمْ: هُوَ الَّذِي لَا خير فِيهِ. وَيُقَال: إِن فِي لُغَة أَزْد عمان البور: الْفَاسِد، وَيُقَال: رجل بور، ورجلان بوران، وَرِجَال بور، وَيُقَال: أَصبَحت اعمالهم بورا ومساكنهم قبورا. وَقيل: بورا: فَاسِدَة قُلُوبهم، لَا محسنين وَلَا متقين. وَفِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ ظنهم أَن مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه يقتلُون فِي ذَلِك الْوَجْه، وَلَا يرجعُونَ أبدا إِلَى الْمَدِينَة.
وَقَوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله﴾ يَعْنِي: حكم الله الَّذِي حكم فِي غَنَائِم
وَقَوله: ﴿قل لن تتبعونا كذلكم قَالَ الله من قبل﴾ فعلى القَوْل الأول [لن] تتبعونا أصلا، وعَلى القَوْل الثَّانِي قل لن تتبعونا لأخذ الْغَنِيمَة.
وَقَوله: ﴿كذلكم قَالَ الله من قبل﴾ أَي: حكم الله من قبل.
وَقَوله: ﴿فسيقولون بل تحسدوننا﴾ أَي: لم تأذنوا لنا فِي اتباعكم [حسدا] مِنْكُم لنا لِئَلَّا نصيب مَا تصيبون.
وَقَوله: ﴿بل كَانُوا لَا يفقهُونَ إِلَّا قَلِيلا﴾ أَي: لَا يعلمُونَ مَا لَهُم وَمَا عَلَيْهِم فِي الدّين إِلَّا قَلِيلا.
وَيُقَال: اسْتشْهد فِيهِ سَبْعمِائة نفر من أَصْحَاب رَسُول الله فيهم زيد بن الْخطاب أَخُو عمر بن الْخطاب وعكاشة بن [مُحصن].
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿أولي بَأْس شَدِيد﴾ هُوَ هوَازن وَثَقِيف، قَالَه الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنهم فَارس، وَكَانَ الْحَرْب مَعَهم أَشد حَرْب على الْمُسلمين فِي زمَان عمر رَضِي الله عَنهُ.
وَفِي القَوْل الأول، وَفِي هَذَا القَوْل دَلِيل على خلَافَة ابي بكر وَعمر، لِأَنَّهُمَا دعوا الْمُسلمين إِلَى قتال مُسَيْلمَة وقتال فَارس، وَقد كَانَ مَعَ فَارس وقْعَة الْقَادِسِيَّة، وفيهَا قتل رستم صَاحب جَيش الْعَجم، ووقعة جلولا ووقعة نهاوند، وَهِي تسمى فتح الْفتُوح، وَلم تقم بعْدهَا قَائِمَة، وتمزق ملكهم، وَصدق الله دَعْوَة النَّبِي حَيْثُ قَالَ: " اللَّهُمَّ فمزق ملك فَارس ". وَرُوِيَ أَن أَن كسْرَى لما مزق كتاب النَّبِي وَبلغ ذَلِك رَسُول الله فَقَالَ: " مزق ملكه ". وَعَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ فِي قَوْله: ﴿إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد﴾ قَالَ: هم الرّوم وَمَعَهُمْ الملحمة الْكُبْرَى فِي آخر الزَّمَان.
وَأَصَح الْأَقَاوِيل هُوَ القَوْل الأول؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿تقاتلونهم أَو يسلمُونَ﴾ وَمَعْنَاهُ: أَو يسلمُوا، وَهَذَا إِنَّمَا يكون فِي الْمُرْتَدين الَّذين لَا يجوز أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُم، فأنما الْمَجُوس وَالنَّصَارَى فَيجوز أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُم. وَأما مُجَاهِد حمل الْآيَة على أهل الْأَوْثَان.
وَقَوله: ﴿فَإِن تطيعوا يُؤْتكُم الله أجرا حسنا﴾ أَي: الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا توليتم من قبل﴾ أَي: تعرضوا كَمَا أعرضتم من قبل.
وَقَوله: ﴿يعذبكم عذَابا أَلِيمًا﴾ أَي: وجيعا. فَإِن قيل: ذكر فِي هَذِه الْآيَة قَوْله: ﴿ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد﴾ وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى: ﴿قل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا﴾ وَإِنَّمَا قَاتلُوا مَعَ أبي بكر وَعمر وَلم يقاتلوا مَعَ الرَّسُول.
والحرج: الْإِثْم، وَمعنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ غَنَائِم خَيْبَر لقوم تخلفوا عَن غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة بِهَذِهِ الْأَعْذَار. وَقيل: إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم: أَبُو أَحْمد بن جحش، وَأمه آمِنَة بنت عبد الْمطلب، وَعبد الله بن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، وَغَيرهم.
وَقَوله: ﴿وَمن يطع الله وَرَسُوله يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وَمن يتول يعذبه عذَابا أَلِيمًا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
رَجعْنَا إِلَى أصل الْقِصَّة: " فَلَمَّا بلغُوا الْحُدَيْبِيَة بَركت نَاقَة النَّبِي وَهِي الْقَصْوَاء، فبعثوها فَلم (تنبعث)، فَقَالُوا: خلأت الْقَصْوَاء. فَقَالَ رَسُول الله: " مَا خلأت، وَلَا هُوَ لَهَا بِخلق، وَلكنهَا حَبسهَا حَابِس الْفِيل، وَالله لَا يَسْأَلُونِي خطة فِيهَا تَعْظِيم حرم الله إِلَّا أَعطيتهم إِيَّاهَا "، ثمَّ دَعَا عمر وَأَرَادَ أَن يَبْعَثهُ إِلَى أهل مَكَّة يستأذنهم فِي الدُّخُول، ليقضي عمرته، وينحر هَدْيه، فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، مَا لي بهَا من حميم وَلَا عشيرة وَقد عرفُوا شدَّة عَدَاوَتِي لَهُم، وَإِنِّي أَخَافهُم على نَفسِي، وَلَكِن أدلك على من هُوَ أعز مني بهَا عسيرة، قَالَ: " وَمن ذَلِك؟ "، قَالَ: عُثْمَان، فَأرْسلهُ إِلَى مَكَّة. ثمَّ إِنَّه بلغ النَّبِي أَن عُثْمَان قتل، وَعَن بَعضهم أَن إِبْلِيس خرج وَقَالَ: إِن عُثْمَان قتل فَحِينَئِذٍ قَامَ النَّبِي واستند إِلَى الشَّجَرَة وَهِي شَجَرَة سَمُرَة فَبَايع مَعَ أَصْحَابه وَهِي بيعَة الرضْوَان، وَكَانَ بَايع على الْقِتَال إِلَى أَن يموتوا، وَيُقَال: بَايع على أَلا يَفروا " وَاخْتلف القَوْل فِي عدد الْقَوْم، قَالَ ابْن أبي أوفى:
وَفِي الْآيَة قَول آخر، رَوَاهُ ابْن أبي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ قَالَ: " مُرَاد الله من الْبيعَة الْمَذْكُور فِي الْآيَة بيعَة رَسُول الله مَعَ السّبْعين من الْأَنْصَار لَيْلَة الْعقبَة، والقصة فِي ذَلِك: أَنه قدم سَبْعُونَ نَفرا من أهل الْمَدِينَة ليلقوا النَّبِي فِي أَيَّام الْحَج قبل الْهِجْرَة، ورأسهم أَبُو أُمَامَة أسعد بن زُرَارَة، فَخرج النَّبِي وَمَعَهُ الْعَبَّاس لَيْلًا حَتَّى أَتَوا الْعقبَة، وَحضر من أهل الْمَدِينَة هَؤُلَاءِ السبعون، فَقَالَ الْعَبَّاس لَهُم: ليَتَكَلَّم متكلمكم وَلَا يطول، فَإِن عَلَيْكُم عينا، وَإِن تعرف قُرَيْش بمكانكم يؤذوكم. فَقَالَ أسعد بن زُرَارَة: يَا رَسُول الله، اشْترط لِرَبِّك، وَاشْترط لنَفسك، وَاذْكُر مالنا إِذا قبلنَا، فَقَالَ النَّبِي: " اشْترط لربى أَن لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وَاشْترط لنَفْسي أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ أَنفسكُم وَأَوْلَادكُمْ. قَالَ: فَمَا لنا إِذا فعلنَا ذَلِك؟ قَالَ: الْجنَّة، قَالَ: رَضِينَا ".
رُوِيَ أَن إِبْلِيس صرخَ على الْعقبَة: يَا معشر قُرَيْش، هَؤُلَاءِ الصباة قد اجْتَمعُوا مَعَ مُحَمَّد يبايعون عَلَيْكُم. فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك تفرق النَّبِي وَأُولَئِكَ، فجَاء الْمُشْركُونَ فَلم يَجدوا أحدا، وَالصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول.
وَقَوله: ﴿فَعلم مَا فِي قُلُوبهم﴾ أَي: من الصدْق وَالْوَفَاء. وَقيل: هُوَ الْإِخْلَاص.
وَقَوله: ﴿فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم﴾ أَي: الطُّمَأْنِينَة. وَيُقَال: الثِّقَة بوعد الله، وَالصَّبْر على أَمر الله، وَيُقَال: اعْتِقَاد الْوَفَاء.
وَقَوله: ﴿وأثابهم فتحا قَرِيبا﴾ أَي: فتح خَيْبَر، وَيُقَال: فتح مَكَّة، وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿فَعجل لكم هَذِه﴾ أَي: غَنَائِم خَيْبَر.
وَقَوله: ﴿وكف أَيدي النَّاس عَنْكُم﴾ فِي التَّفْسِير: أَن أَسد وغَطَفَان كَانُوا حلفاء يهود خَيْبَر، فَلَمَّا توجه رَسُول الله إِلَى خَيْبَر أَرَادَ أَسد وغَطَفَان أَن يُغيرُوا على الْمَدِينَة، فَألْقى الله الرعب فِي قُلُوبهم وَتَفَرَّقُوا. وَرُوِيَ أَن رَسُول الله مَال إِلَيْهِم لِيُقَاتل مَعَهم أَولا، فَهَرَبُوا وَتَفَرَّقُوا وخلوا أهل خَيْبَر، فَرجع رَسُول الله إِلَى خَيْبَر وَفتحهَا. وَيُقَال: كف أَيدي النَّاس عَنْكُم: جَمِيع الْمُشْركين، وَلم يكن فِي الْأُمَم أمة أذلّ وَأَقل من الْعَرَب فأعزهم الله بِالْإِسْلَامِ، وأغنمهم كنوز الْعَجم وَالروم، وأورثهم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ وَكَانَ أول مَا دخل الذل على الْعَجم حَرْب ذِي قار، وَهُوَ مَوضِع بعث كسْرَى بجُنُوده إِلَى بني شَيبَان لِيُقَاتِلُوا مَعَهم بِسَبَب قصَّة طَوِيلَة، فَقَاتلُوا بِذِي قار، وَجعل الْعَرَب شعارهم اسْم مُحَمَّد، قَالَ رئيسهم لَهُم: اجعلوا شِعَاركُمْ اسْم هَذَا الْقرشِي الَّذِي خرج يَدْعُو النَّاس إِلَى الله تَعَالَى، فَاقْتَتلُوا وَهزمَ الله الْمُشْركين، وَقتل أَكثر جنود كسْرَى، فَلَمَّا بلغ النَّبِي قَالَ: " الْيَوْم انتصفت الْعَرَب من الْعَجم، وَبِي نصروا، من ذَلِك الْوَقْت دخل الذل على الْعَجم وفني ملكهم.
وَقَوله: ﴿ولتكون آيَة للْمُؤْمِنين﴾ أَي: معْجزَة، وَالْآيَة فِي دَعْوَة رَسُول الله فتح خَيْبَر وَغَنَائِم الْعَجم وَالروم، وَتحقّق ذَلِك عَن قريب.
وَقَوله: ﴿وَيهْدِيكُمْ صراطا مُسْتَقِيمًا﴾ يؤديكم إِلَى رضَا الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿قد أحَاط الله بهَا﴾ أَي: أحَاط علمه بهَا.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا﴾ أَي: قَادِرًا.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا﴾ قد بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا﴾ أَي: تغييرا.
فَدَعَا رَسُول الله فَأخذ الله بِأَبْصَارِهِمْ فقمنا وَجِئْنَا بهم نقودهم إِلَى رَسُول الله فَقَالَ: " هَل لكم عهد؟ هَل لكم إِيمَان؟ " فَقَالُوا: لَا. فخلى سبيلهم، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: ﴿وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم﴾ ".
وروى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن أنس قَالَ: أهبط ثَمَانُون رجلا متسلحين من جبل التَّنْعِيم، فَأَخذهُم أَصْحَاب رَسُول الله وَجَاءُوا بهم إِلَى النَّبِي، فاستحياهم وخلى سبيلهم، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿بِبَطن مَكَّة﴾ يَعْنِي: الْحُدَيْبِيَة، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا بطن مَكَّة لقربها من مَكَّة.
وَقَوله ﴿من بعد أَن أطفركم عَلَيْهِم﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا﴾ أَي: عليما.
وَقَوله: ﴿أَن يبلغ مَحَله﴾ أَي: منحره، وَكَانَ رَسُول الله قد سَاق سبعين بَدَنَة.
وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: معنى الْآيَة: أَنه
وَقَوله: ﴿فتصيبكم مِنْهُم معرة بِغَيْر علم﴾ أَي: سبة، وَيُقَال: عيب وملامة، وَمَعْنَاهُ: أَن الْكفَّار يعيبونكم، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُم يقتلُون أهل دينهم. وَيُقَال فِي المعرة: هِيَ لُزُوم الدِّيَة عِنْد الْقَتْل.
وَقَوله: ﴿ليدْخل الله فِي رَحمته من يَشَاء﴾ فِيهِ تَقْدِير مَحْذُوف، وَمَعْنَاهُ: حَال بَيْنكُم وَبينهمْ؛ ليدْخل الله فِي رَحمته من يَشَاء أَي: فِي الْإِسْلَام من يَشَاء.
وَقَوله: ﴿لَو تزيلوا﴾ أَي: لَو تميزوا أَي: لَو فَارق الْمُسلمُونَ الْكَافرين ﴿لعذبنا الَّذين كفرُوا مِنْهُم عذَابا أَلِيمًا﴾ وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا أَصَابَتْكُم المعرة واختلاط [الْمُسلمين] بالكفار لعذبنا الَّذين كفرُوا أَي: بِالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ.
وَقَوله: ﴿فَأنْزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ﴾ قد بَينا معنى السكينَة، وَالْمعْنَى هَاهُنَا: هُوَ الثَّبَات على الدّين مَعَ هَذِه الْأُمُور.
وَقَوله: ﴿وألزمهم كلمة التَّقْوَى﴾ روى ابْن الطُّفَيْل عَن أبي بن كَعْب عَن النَّبِي هِيَ: " لَا إِلَه إِلَّا الله ".
وَفِي الْخَبَر الْمَشْهُور عَن عمر قَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " أَنا أعلم
وَقَوله: ﴿وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا﴾ أَي: كَانُوا محلا لهَذِهِ الْكَلِمَة وَأهلا لَهَا، وَيُقَال: كَانُوا أَهلهَا فِي علم الله وَحكمه، وَهُوَ الْأَصَح.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما﴾ أَي: عَالما.
وَقَوله ﴿لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين مُحَلِّقِينَ رءوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تخافون﴾ وَهَذَا التَّحْقِيق حصل فِي الْعَام الثَّانِي حِين اعتمروا عمْرَة الْقَضَاء.
وَقَوله: ﴿فَعلم مَا لم تعلمُوا﴾ أَي: وَقت ظُهُور الرُّؤْيَا.
وَقَوله: ﴿فَجعل من دون ذَلِك فتحا قَرِيبا﴾ أَي: فتح خَيْبَر، وَفِي الْآيَة سُؤال
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْآيَة على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام آمِنين مُحَلِّقِينَ رءوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تخافون إِن شَاءَ الله.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَنه كَانَ مَعَ النَّبِي قوم عِنْد نزُول هَذِه الْآيَة، مِنْهُم من غَابَ، وَمِنْهُم من مَاتَ قبل أَن يحصل الْمَوْعُود، فالاستثناء إِنَّمَا وَقع على هَذَا أَنه يدْخل بَعضهم أَو جَمِيعهم.
وَالْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ الأولى أَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿إِن شَاءَ الله﴾ هَاهُنَا على مَا أحب وَرَضي وَأمر بِهِ عباده، فَإِنَّهُ أَمرهم أَن يستثنوا فِيمَا يخبرون بِهِ من الْأُمُور الْمُسْتَقْبلَة، ويعدونه على مَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله﴾ وَهَذَا أَمر لَهُ وَلِجَمِيعِ الْأمة، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِن شَاءَ الله﴾ وَإِن علم وُقُوع الْفِعْل وَإِن علم وُقُوع الْفِعْل ليقتدي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يتركون هَذِه الْكَلِمَة فِيمَا يخبرون بِهِ من الْأُمُور الَّتِي لم يعلمُوا وُقُوعهَا. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَكَأَنَّهُ قَالَ: لما قلت إِن شَاءَ الله فِيمَا علمت وُقُوعه، فَلِأَن تَقولُوا إِن شَاءَ الله فِيمَا لم تعلمُوا وُقُوعه أولى.
وَقَوله: ﴿وَكفى بِاللَّه شَهِيدا﴾ أَي: شَاهدا.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين مَعَه﴾ يَعْنِي: أَصْحَابه.
وَقَوله: ﴿أشداء على الْكفَّار﴾ أَي: غِلَاظ شَدَّاد عَلَيْهِم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: ( ﴿أعزة على الْكَافرين﴾ رحماء بَينهم) أَي: متوادون ومتواصلون بَينهم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: ﴿أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ﴾.
وَقَوله: ﴿تراهم ركعا سجدا﴾ أَي: راكعين ساجدين.
وَقَوله: ﴿يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا﴾ أَي: الْجنَّة وَالثَّوَاب الْمَوْعُود.
وَقَوله: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ فِي الْقِيَامَة، وَذَلِكَ من آثَار الْوضُوء على مَا قَالَ: " أمتى غر محجلون من آثَار الْوضُوء " فعلى هَذَا يكون (الْمُؤْمِنُونَ) بيض الْوُجُوه من أثر الْوضُوء وَالصَّلَاة. وَقَالَ عِكْرِمَة: من أثر السُّجُود: هُوَ التُّرَاب على الجباه، وَقد كَانُوا يَسْجُدُونَ على التُّرَاب، وَقَالَ الْحسن: هُوَ السمت الْحسن، وَعَن سعيد بن جُبَير: هُوَ الخضوع والتواضع، وَهُوَ رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَيُقَال: صفرَة الْوَجْه من سهر اللَّيْل، وَهَذَا قَول مَعْرُوف.
وَقَوله: ﴿ذَلِك مثلهم فِي التَّوْرَاة﴾ أَي: صفتهمْ فِي التَّوْرَاة.
وَقَوله: ﴿وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل﴾ مِنْهُم من قَالَ: الْوَقْف على قَوْله: ﴿ذَلِك مثلهم فِي التَّوْرَاة﴾، وَقَوله: ﴿وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل﴾ كَلَام مُبْتَدأ بِمَعْنى: صفتهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع، وَمِنْهُم من قَالَ: الْوَقْف على قَوْله: ﴿فِي الْإِنْجِيل﴾.
وَقَوله: ﴿كزرع﴾ مَعْنَاهُ: هم كزرع.
وَقَوله: ﴿أخرج شطأه﴾ أَي: فِرَاخه. يُقَال: أشطأ الفزرع إِذا فرخ، وَمعنى الْفِرَاخ: هُوَ أَنه ينْبت من الْحبَّة الْوَاحِدَة عشر سنابل وَأَقل وَأكْثر.
وَقَوله: ﴿فآزره﴾ أَي: قواه، وَقُرِئَ: " فأزره " بِغَيْر مد، وَهُوَ بِمَعْنى الأول.
وَقَوله: ﴿فاستغلظ﴾ أَي: استحكم وَاشْتَدَّ وَقَوي.
وَقَوله: ﴿فَاسْتَوَى على سوقه﴾ أَي: انتصب على سَاق.
وَقَوله: ﴿يعجب الزراع﴾ أَي: الحراث. وَهَذَا كُله ضرب مثل النَّبِي وَأَصْحَابه، وَذكر صفتهمْ وَمَا قوى الله بهم النَّبِي وَنَصره بهم.
وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق قَالَ: ﴿وَالَّذين مَعَه﴾ أَبُو بكر ﴿أشداء على الْكفَّار﴾ عمر ﴿رحماء بَينهم﴾ عُثْمَان) ﴿تراهم ركعا سجدا﴾ عَليّ رَضِي الله عَنْهُم ﴿يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا﴾ الْعشْرَة.
وَقَوله: ﴿كزرع﴾ مُحَمَّد ﴿أخرج شطأه﴾ أَبُو بكر ﴿فآزره﴾ بعمر ﴿فاستغلظ﴾ بعثمان ﴿فَاسْتَوَى على سوقه﴾ بعلي رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَهَذَا قَول غَرِيب ذكره النقاش، وَالْمُخْتَار وَالْمَشْهُور هُوَ القَوْل الأول، أَن الْآيَة فِي جَمِيع أَصْحَاب النَّبِي من غير تعْيين، وَعَلِيهِ الْمُفَسِّرُونَ.
وَقَوله: ﴿ليغيظ بهم الْكفَّار﴾ أَي: ليدْخل الغيظ فِي قُلُوبهم.
وَقَوله: ﴿وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما﴾ اخْتلفُوا فِي قَوْله: ﴿مِنْهُم﴾ فَقَالَ قوم: من هَاهُنَا للتجنيس لَا للتَّبْعِيض. قَالَ الزّجاج: هُوَ تَخْلِيص للْجِنْس، وَلَيْسَ المُرَاد بَعضهم؛ لأَنهم كلهم مُؤمنُونَ، وَلَهُم الْمَغْفِرَة وَالْأَجْر الْعَظِيم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ﴿مِنْهُم﴾ أَي: من ثَبت مِنْهُم على الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح فَلهُ الْمَغْفِرَة وَالْأَجْر الْعَظِيم، أوردهُ النّحاس فِي تَفْسِيره.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله﴾تَفْسِير سُورَة الحجرات
وَهِي مَدَنِيَّة بِاتِّفَاق الْقُرَّاء، وروى (ثَوْبَان) عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَعْطَيْت السَّبع الطول مَكَان التَّوْرَاة، وَأعْطيت المائين مَكَان الْإِنْجِيل، وَأعْطيت المثاني مَكَان الزبُور، وفضلني رَبِّي بالمفصل ".
وَمِنْهُم من قَالَ: الْمفصل من سُورَة مُحَمَّد، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْمفصل من هَذِه السُّورَة، وَالله أعلم.