ﰡ
وأجيب أيضاً: بأن الفتح على حقيقته، وأن المراد به صلح الحديبية، لأنه أصاب فيه ما لم يصب في غيره، قال الزهري: لقد كان فتح الحديبية أعظم الفتوح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة، فلما وقع الصلح، مشى الناس بعضهم على بعض، وعلموا وسمعوا من الله، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان، وإلا المسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف، وقال الشعبي في قوله: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ هو فتح الحديبية، لقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة غيرها، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس ا هـ. قوله: (عنوة) هذا مذهب مالك وأبي حنيفة، نظراً لكون النبي وأصحابه دخلوها قهراً، ووقوع القتال من بعض الصحابة لخالد بن الوليد وأصحابه في جهة وأسفلها، مذهب الشافعي أنها فتحت صلحاً نظراً للظاهر، وهو عدم حصول القتال من النبي، وتأمينه أبا سفيان، وهذا الخلاف يكاد أن يكون لفظياً. قوله: (بجهادك) متعلق بقوله: (بفتح مكة) وهو جواب عما يقال: إن الفتح ناشئ من الله، والمغفرة تكون للشخص، فكيف تترتب عليه، وإنما الشأن أن تترتب على ما يكون من الشخص؟ فأجاب: بأن الفتح وإن كان من الله، لكنه تترتب على فعل النبي وهو الجهاد، فصح أنه يترتب على الفتح المغفرة بهذا الاعتبار. قوله: (لترغب أمتك) علة لترتب الغفران على الفتح. قوله: (وهو مؤول) أي أن إسناد الذنب له صلى الله عليه وسلم مؤول، إما بأن المراد من ذنوب أمتك، أو هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو بأن المراد بالغفران، الإحالة بينه وبين الذنوب، فلا تصدر منه، لأن الغفر هو الستر، والستر إما بين العيد والذنب، أو بين الذنب وعذابه، فاللائق بالأنبياء الأول، وبالأمم الثاني، إن قلت: إن عصمة النبي عليه السلام من الذنوب، حاصلة بالفعل قبل النبوة وبعدها، فكيف تكون مرتبة على جهاده؟ أجيب: بأن المرتب اظهارها للخلق لا هي نفسها. قوله: (من الذنوب) أي صغيرها وكبيرها، عمدها وسهوها، قبل النوبة وبعدها. قوله: (للعلة الغائية) أي وهي المترتبة على آخر الفعل، وليست العلة باعثة لاستحالة الأغراض على الله تعالى في الأفعال والأحكام. قوله: (لا سبب) أي لأن السبب ما يضاف إليه الحكم، كالزوال لوجوب الظهر، والمغفرة ليست كذلك. قوله: (بالفتح المذكور) أي وهو فتح مكة وغيرها بجهادك. قوله: (يثبتك عليه) أي يديمك ويقويك عليه، أو المراد يزيدك في الهداية باتباع الشريعة وأحكام الدين. قوله: (ذا عز) جواب عما يقال: إن العزيز وصف للمنصور لا للنصر، وتوضيح جوابه أن فعيلاً صيغة نسبة، أي نصراً منسوباً للعز. قوله: (لا ذل معه) أي لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأما مطلق النصر، فيكون حتى لبعض الكفار في الدنيا.
وقوله: ﴿ مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ ﴾ متعلق بمحذوف، أي بالله ورسوله. قوله: ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ اختلف في المراد بجنود السماوات والأرض، فقيل: هم ملائكة السماوات والأرض، وقيل: إن جنود السماوات الملائكة، وجنود الأرض الحيوانات، وقيل: إن جنود السماوات مثل الصواعق والصيحة والحجارة، وجنود الأرض مثل الزلازل والخسفْ والغرق، ونحو ذلك، وكل صحيح. قوله: (لفعل) أي لكنه لم يفعل، بل أنزل السكينة على المؤمنين، ليكون إهلاك الأعداء بأيديهم، ليحصل لهم الشرف والعز دنيا وأخرى. قوله: (متعلق بمحذوف) أي لا بفتحنا، أي لئلا يلزم عليه عمل الفعل في حرفي جر متحدي اللفظ، والمعنى: من غير عطف ولا بدل ولا توكيد. قوله: ﴿ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ أي يمحوها، وهو معطوف على قوله: ﴿ لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ الخ، عطف سبب على مسبب، فدخول الجنة مسبب على تكفير السيئات، وقدم الإدخال في الذكر على التكفير، مسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى. قوله: ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ ﴾ أي المذكور من الإدخال والتكفير. قوله: ﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ حال من ﴿ فَوْزاً ﴾ لأنه صفة له في الأصل، فلما قدم عليه صار حالاً، أي كائناً عند الله، أي في علمه وقضائه.
قوله: ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الخ، ذكر هذه الآية أولاً في معرض الخلق والتدبير، فذيلها بقوله:﴿ عَلِيماً حَكِيماً ﴾[الفتح: ٤] وذكرها ثانياً في معرض الانتقام فذيلها بقوله: ﴿ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ فلا تكرار. قوله: (أي لم يزل) الخ، أشار بذلك إلى أن ﴿ كَانَ ﴾ في أوصاف الله معناها الاستمرار. قوله: ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ ﴾ الخ، امتنان منه تعالى عليه السلام حيث شرفه بالرسالة، وبعثه إلى كافة الخلق، شاهداً على أعمال أمته. قوله: ﴿ شَٰهِداً ﴾ (على أمتك) أي بالطاعة والعصيان. قوله: ﴿ لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ﴾ متعلق بـ ﴿ أَرْسَلْنَٰكَ ﴾.
قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (وقرئ) أي شذوذاً. قوله: (وضميرهما لله) الخ، أي فهما احتمالان، أي فإذا أردت الجري على وتيرة واحدة، جعلتها كأنها عائدة على الله تعالى، وأما قوله: ﴿ وَتُسَبِّحُوهُ ﴾ فهو عائد على الله قولاً واحداً، ويؤخذ من هذه الآية، أن من اقتصر على تعظيم الله وحده، أو على تعظيم الرسول وحده، فليس بمؤمن، بل المؤمن من جمع بين تعظيم الله تعالى، وتعظيم رسوله، ولكن التعظيم في كل بحبسه، فتعظيم الله تنزيهه عن صفات الحوادث، ووصفه بالكمالات، وتعظيم رسوله اعتقاد أنه رسول الله حقاً وصدقاً لكافة الخلق، بشيراً ونذيراً، إلى غير ذلك من أوصافه السنية وشمائله المرضية.
قوله: ﴿ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ ﴾ أي يغيروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية به، من جعل غنائم خيبر لهم، عوضاً عن فتح مكة في ذلك العام. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ لَّن تَتَّبِعُونَا ﴾ نفي في معنى النهي للمبالغة. قوله: ﴿ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ أي مثل هذا القول وهو لن تتبعونا. قوله: ﴿ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ أي حكم بأن غنيمة خيبر، لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب. قوله: ﴿ فَسَيَقُولُونَ ﴾ أي عند سماعهم النهي. قوله: ﴿ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ﴾ أي فليس هذا النهي حكماً من الله تعالى، بل هو حسد منكم لنا على مشاركتكم في الغنائم. قوله: (من الدين) أشار بذلك إلى أن الإضراب الأول معناه رد منهم أن يكون حكم الله أن يتبعوهم وإثبات الحسد، والثاني إضراب عن وصفهم، بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أعم، وهو الجهل وقلة الفهم.
قوله: (بعد انصرافهم من الحديبية) أي في ذي الحجة، فأقام صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقيته وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع. قوله: ﴿ مَغَانِمَ ﴾ معطوف على ﴿ فَتْحاً ﴾ و ﴿ يَأْخُذُونَهَا ﴾ صفة لمغانم أو حال منها. قوله: ﴿ وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان، وهو لأهل الحديبية. قوله: (من الفتوحات) أي غير خيبر، مما استقبلهم بعد، كفتح مكة وهوازن وبلاد كسرى والروم. قوله: (غنيمة خيبر) مقتضى ما تقدم، من أن السورة نزلت كلها في رجوعه من الحديبية أن يكون قوله: ﴿ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ ﴾ من التعبير بالماضي عن المستقبل، لتحقق وقوعه من الإخبار بالغيب. قوله: (في عيالكم) أي عن عيالكم، والجار والمجرور بدل من قوله: ﴿ عَنْكُمْ ﴾ والمراد بالناس، أهل خيبر وحلفاؤهم من بني أسد وغطفان. قوله: (لما خرجتم) أي للحديبية، وقوله: (وهمت بهم اليهود) أي يهود خيبر، هما بأخذ عيال النبي والصحابة من المدينة، في غيبة النبي للحديبية، وكان هو السبب في أخذ خيبر. قوله: (عطف على مقدر) هذا أحد قولين، والآخر أنها زائدة، وعليه فيكون تعليلاً لقوله: ﴿ كَفَّ ﴾.
قوله: ﴿ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي أمارة يعرفون بها صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في وعده إياهم، عند الرجوع من الحديبية بتلك الغنائم. قوله: (أي طريق التوكل عليه) فسر الصراط المستقيم بما ذكر، لأن الحاصل من الكف ليس إلا ذلك، ولأن أصل الهدى حاصل قبله.- تنبيه - أن" رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع، وكان إذا غزا قوماً ينتظر الصباح، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، فلما أصبح ولم يسمع أذاناً أغار عليهم، فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب عليهم، فخرجوا بمكاتلهم ومساحييهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا محمد والخميس أي الجيش، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين، وعن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:_@_تالله لولا الله ما اهتدينا_@_ ولا تصدقنا ولا صلينا_@_ _@_ونحن عن فضلك ما استغنينا_@_ فثبت الأقدام إن لاقينا_@_ _@_وأنزلن سكينة علينا_@_ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا؟ قال: أنا عامر، قال: غفر لك ربك، قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد، قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله، لولا متعتنا بعامرـ قال: فلما قدمنا خيبر، قدم مهلكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:_@_قد علمت خيبر أني مرحب_@_ شاكي السلاح بطل مجرب_@_ _@_إذا الحروب أقبلت تلهب_@_ قال: وبرز له عمي عامر فقال:_@_قد علمت خيبر أني عامر_@_ شاكي. السلاح بطل مغامر_@_ قال: فاختلفا بضربتيهما، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل، فرجع سيفه على نفسه فقطه أكحله، فكانت فيها نفسه رضي الله عنه، قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله، بطل عمر عمي عامر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال ذلك؟ قلت: ناس من أصحابك، قال: كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين، ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله؛ قال: فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد، حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في عينيه فبرئ وأعطاه الراية، فخرج مرحب فقال:_@_قد علمت خيبر أني مرحب_@_ شاكي السلاح بطل مجرب_@_ _@_إذا الحرب أقبلت تلهب_@_ فقال علي رضي الله عنه:_@_أنا الذي سمتني أمي حيدره_@_ كليث غابات كريه المنظره_@_ _@_أو فيهم بالصاع كيل السندرة_@_ قال: فضرب مرحبا فقتله، ثم كان الفتح على يده "، أخرجه مسلم بهذا اللفظ، وفي رواية أخرى" أنه خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يرتجز، فخرج إليه الزبير بن العوام، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب، أيقتل ابني يا رسول الله؟ قال: بل ابنك يقتله إن شالله الله، ثم التقيا فقتله الزبير، ثم لم يزل رسول الله يفتح الحصون، ويقتل المقاتلة، ويسبي الذرية، ويحوز الأموال، فجمع السبي فجاء دحية فقال: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك، قال: ادعوه فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذ جارية من السبي غيرها، فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها، فلما دخل بها، رأى في عينها أثر خضرة، فسألها عن سببها فقالت: إني رأيت في المنام وأنا عروس بكنانة بن الربيع، أن قمراً وقع في حجري، فقصصت رؤياي على زوجي فقال: ما هذا إلا أنك تمنيت ملك الحجاز محمداً، ثم لطم وجهي لطمة اخضرت منها عيني، فلما ظهر رسول الله على خيبر، أراد اخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها، على أن يكفوهم العمل، ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء "قال محمد بن إسحاق: لما سمع أهل فدك بما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يحقن دماءهم وأن يسيرهم، ويخلوا لهم الأموال، ففعلوا بهم، ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم على النصف كأهل خيبر ففعل، فكانت خيبر للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب، فلما تطمأن رسول الله، أهدت له زينب بنت الحرث، امرأة سلام بن مشكم اليهودية شاة مصلية - يعني مشوية - وسألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السم، وسمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدري رسول الله، تناول الذراع، فأخذها فلاك منها قطعة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، فأخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها، يعني ابتلعها، وأما رسول الله فلفظها ثم قال: إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك، فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان ملكاً استرحنا منه، وإن كان نبياً فسيخبر، فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر على مرضه الذي توفي فيه، فقال: يا أمر بشر، ما زالت أكلة خيبر التي أكلت مع ابنك تعاودني، فهذا أول قطع أبهري؛ فكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً، مع ما أكرمه الله به من النبوة. قوله: (مبتدأ) أي وخبره قوله: ﴿ قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا ﴾ قوله: ﴿ وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ﴾ صفة لمغانم المقدر، وسوغ الابتداء بالنكرة الوصف، وهذا أسهل الأعاريب، ولذا اختاره المفسر. قوله: (هي فارس والروم) أي وباقي الأقطار. قوله: ﴿ قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا ﴾ أي أعدها لكم في قضائه وقدره، فهي محصورة لا تفوتكم. قوله: (أي لم يزل متصفاً) أشار بذلك إلى أن المراد من ﴿ كَانَ ﴾ الاستمرار.
﴿ فَأَنزَلَ ﴾ الخ،" روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية، بعثت قريش سهل بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأحنف، على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامة ذلك، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، ففعل ذلك، وكتبوا بينهم كتاباً، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: ما نعرف هذا، اكتب باسمك اللهم، ثم قال اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب ما يريدون، فهم المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا بهم، فأنزل الله السكينة عليهم، فتوقروا وحلموا. قوله: (على أن يعودوا من قابل) أي وعلى وضع الحرب عشر سنين، قال البراء: صالحوهم على ثلاثة أشياء: على أن من أتاهم من المشركين مسلماً ردوه إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها من قابل، ويقيم فيها ثلاثة أيام، ولا يدخلها بسلاح، فكتب بذلك كتاباً، فلما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه: قوموا وانحروا ثم احلقوا، فوالله ما قام منهم أحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، لما حصل لهم من الغم، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له: يا نبي الله، اخرج ولا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج ففعل، فلما رأوا ذلك منه قاموا فنحروا، وجعل يحلق بعضهم بعضاً وروى ثابت عن أنس، أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم واشترطوا أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاء منا ردوه علينا، فقالوا: يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال: نعم، إن من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم، فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. روي أنه بعد عقد الصلح، جاء جندل بن سهل بن عمرو بقيوده قد انفلت، وخرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال له سهل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجره لي، قال: ما أنا بمجيره لك، قال: بل فافعل، قال: ما أنا بفاعل، ثم جعل سهل يجره ليرده إلى قريش، فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً. وفي الحديث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا جندل احتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وعقداً، وإنا لا نغدر، فقام عكر وتكلم طويل منه ما تقدم لنا عند قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ثم بعد رجوع رسول الله وأصحابه إلى المدينة، جاءه أبو بصير عتبة بن أسد من قريش مسلماً، فأرسلوا في طلبه رجلين، فسلمه النبي صلى الله عليه وسلم فقتل أحدهما، وفر عنه الآخر، فأتى أبو بصير سيف البحر وجلس هناك، فبلغ ذلك أبا جندل وأصحابه من المستضعفين، فلحقوا به حتى تكاملوا نحواً من سبعين رجلاً، فما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا تعرضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهما فأحضرهم المدينة. "قوله: ﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ ﴾ أي اختار لهم، فهو إلزام إكرام وتشريف، والمراد تقوى الشرك. قوله: (لا إله إلا الله) هذه رواية أبي بن كعب، وقيل إنها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وقيل إنها: بسم الله الرحمن الرحيم. قوله: ﴿ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا ﴾ أي في علم الله، لأنه اختارهم لدينه. قوله: (تفسيري) أي لاحق بها، أو الضمير في ﴿ بِهَا ﴾ لكلمة التوحيد، وفي أهلها للتقوى.
قوله: (لا يرحمونهم) أي لا يرأفون بهم، وذلك لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم، وقد بلغ من تشديدهم على الكفار، أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمس أبدانهم. قوله: ﴿ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾ أي فكان الواحد منهم إذا رأى أخاه في الدين صافحه وعانقه. قوله: ﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً ﴾ إما خبر آخر أو مستأنف، والمعنى: أنهم في النهار على الأعداد أسود، وفي الليل ركع سجود. قوله: (حالان) أي من مفعول ﴿ تَرَاهُمْ ﴾.
قوله: (مستأنف) أي واقع في جواب مقدر، كأنه قيل: ماذا يريدون بركوعهم وسجودهم؟ فقيل: ﴿ يَبْتَغُونَ ﴾ الخ. قوله: ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ﴾ اختلف في تلك السيما، فقيل: إن مواضع سجودهم يوم القيامة ترى كالقمر ليلة البدر، وقيل: هو صفرة الوجوه من سهر الليل، وقيل: الخشوع الذي يظهر على الأعضاء، حتى يتراءى أنهم مرضى وليسوا بمرضى، وليس المراد به ما يصنعه بعض الجهلة المرائين من العلامة في الجبهة، فإن من فعل الخوارج، وفي الحديث:" إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود "قوله: (من ضميره) أي من ضمير ما تعلق به الخبر وهو كائنة. قوله: (المنتقل إلى الخبر) أي وهو الجار والمجرور. قوله: (أي الوصف المذكور) أي وهو كونهم ﴿ أَشِدَّآءُ ﴾ ﴿ رُحَمَآءُ ﴾ ﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً ﴾ الخ.
﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ﴾ الخ. قوله: ﴿ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ ﴾ أي وصفهم العجيب الجاري في الغرابة مجرى الأمثال. قوله: (مبتدأ وخبره) أي أن قوله: ﴿ مَثَلُهُمْ ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿ فِي ٱلتَّوْرَاةِ ﴾ والجملة خبر عن ذلك. قوله: ﴿ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ ﴾ الخ، ويصح أن يكون مبتدأ خبره قوله: ﴿ كَزَرْعٍ ﴾ وحينئذ فيتوقف على قوله: ﴿ فِي ٱلتَّوْرَاةِ ﴾ ويكونان مثلين، وعليه مشى المفسر، ويصح أنه معطوف على ﴿ مَثَلُهُمْ ﴾ الأول، وحينئذ فيتوقف على قوله: ﴿ ٱلإِنجِيلِ ﴾ ويكونان مثلاً واحداً في الكتابين، وقوله: ﴿ كَزَرْعٍ ﴾ خبر لمحذوف أي مثلهم كزرع الخ، وهو كلام مستأنف. قوله: (بسكون الطاء وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان، والشطء أفراخ النخل، والزرع أوراقه. قوله: (فراخه) بكسر الفاء جمع فرخ كفرع، لفظاً ومعنى. قوله: (بالمد) أي وأصله أأزره بوزن أكرمه، قلبت الهمزة الثانية ألفاً للقاعدة المعلومة، وقوله: (والقصر) أي فهو من باب ضرب، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (غلظ) أي فهو من باب استحجر الطير. قوله: ﴿ عَلَىٰ سُوقِهِ ﴾ متعلق باستوى. قوله: ﴿ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ ﴾ الجملة حالية، والمعنى حال كونه معجباً. قوله: (فكثروا) هو مأخوذ من قوله: ﴿ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ﴾.
قوله: ﴿ فَآزَرَهُ ﴾ مأخوذ من قوله: ﴿ فَٱسْتَغْلَظَ ﴾ وقوله: (على أحسن الوجوه) مأخوذ من قوله: ﴿ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ ﴾.
قوله: ﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ﴾ تعليل لما دل عليه التشبيه كأن قال: إنما قواهم وكثرهم ليغيظ الخ. قوله: (لبيان) أي لا للتبعيض كما زعمه بعضهم. قوله: (لمن بعدهم) أي كالتابعين وأتباعهم إلى يوم القيامة. قوله: (في آيات) متعلق بما تعلق به قوله: (لمن بعدهم) أي كالتابعين وأتباعهم إلى يوم القيامة. قوله: (في آيات) متعلق بما تعلق به قوله: (لمن بعدهم) والمعنى: وهما ثابتان لمن بعد الصحابة في آيات كقوله تعالى﴿ سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾[الحديد: ٢١] - إلى قوله -﴿ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾[الحديد: ٢١].
- خاتمة - قد جمعت هذه الآية، وهي قوله: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ﴾ إلى آخر السورة، جميع حروف المعجم، وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية، باجتماع أمرهم، وعلو نصرهم رضي الله عنهم، وحشرنا معهم، نحن والدينا ومحبينا وجميع المسلمين بمنه وكرمه. وهذا آخر القسم الأول من القرآن وهو المطول، وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وحاصلهما: الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهراً، كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما نصره له صلى الله عليه وسلم بالحال على من قصده بالضر باطناً، ومن أجل ذلك اتخذ العارفون هذه الآية، ورداً وحصناً منيعاً.