ﰡ
مدنية، نزلت على النّبيّ - ﷺ - منصرَفَهُ من الحديبية (١)، وهي بهذا في حكم المدني، وآيها: تسع وعشرون آية، وحروفها: ألفان وأربع مئة وثمانية وثلاثون حرفًا، وكلمها: خمس مئة وثلاثون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)﴾.[١] ﴿إِنَّا فَتَحْنَا﴾ الأكثرون على أنّه صلح الحديبية (٢)، ونزلت السورة مؤانسة للمؤمنين، لأنّهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم، ومن تلك (٣) المهادنة الّتي هادنهم النّبيّ - ﷺ -، فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت، ومذهِبَة ما كان في قلوبهم.
وملخص القصة: أن رسول الله - ﷺ - خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة معتمرًا، لا يريد حربًا، وساق الهدي، وأحرم بالعمرة، وسار حتّى وصل إلى ثنية المزار مهبط الحديبية أسفل مكّة، والحديبية بئر،
(٢) رواه البخاري (٣٩٣٩)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، عن أنس.
(٣) "تلك" زيادة من "ت".
وتأهبت قريش للقتال، وبعثوا رسولهم إلى النّبيّ - ﷺ -، فبعث إليهم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يعلمهم أنّه لم يأت لحرب، وإنّما جاء زائرًا ومعظمًا لهذا البيت، فلما وصل إليهم، أمسكوه وحبسوه، وبلغ رسول الله - ﷺ - أن عثمان قتل، فدعا النَّاس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايع النَّاس على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد، حتّى قال سلمة بن الأكوع وغيره: "بايعنا رسول الله - ﷺ - على الموت" (١)، ثمّ أتاه الخبر أن عثمان لم يقتل، ثمّ وقع الصلح بين رسول الله - ﷺ - وبين قريش؛ فإنهم بعثوا سهيل بن عمرو في الصلح، فأجاب النّبيّ - ﷺ -، ثمّ دعا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: "اكتب: بسم الله الرّحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللَّهُمَّ، فقال رسول الله - ﷺ -: اكتب: باسمك اللَّهُمَّ، ثمّ قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله - ﷺ -، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال لعلي: امح رسول الله، قال: لا والله لا أمحوك أبدًا، قال: فأرنيه، فأراه إياه (٢)، فمحاه النّبيّ - ﷺ -، ثمّ قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عن النَّاس عشر سنين، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش
(٢) "إياه" زيادة من "ت".
ودخل في (٢) هذه السُّنَّة في الإسلام مثل من دخل فيه قبل ذلك وأكثر، فكان هذا الفتح الأعظم، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام، واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المسلمين خيرًا، واتفقت في ذلك الوقت (٣) ملحمة عظيمة بين الروم وفارس، ظهرت فيها الروم، فكانت من جملة الفتح على رسول الله - ﷺ -، وسر بها والمؤمنون؛ لظهور أهل الكتاب على المجوس، وانحصاد الشوكة العظمى من الكفرة، والفتح: الظفر بالبلد عنوة أو صلحًا.
﴿فَتْحًا مُبِينًا﴾ أي: قضينا لك قضاء بيِّنًا.
* * *
﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢)﴾.
[٢] ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ هى لام (كي)؛ لكنها تخالفها في المعنى. قرأ
(٢) "في" ساقطة من "ت".
(٣) "الوقت" زيادة من "ت".
﴿مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ﴾ يعني: ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك.
﴿وَمَا تَأَخَّرَ﴾ ذنوب أمتك بدعوتك، وقيل: مقصد الآية: أنك مغفور لك، غير مؤاخذ بذنب أن لو كان.
﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بإظهارك وتعليتك على عدوك، والرضوان في الآخرة.
﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أي: إلى صراط؛ أي: يثبتك على الدِّين، فجمع الله لنبيه - ﷺ - في هذه السورة نعمًا مختلفة من الفتح المبين، وهو من أعلام الإجابة، والمغفرة، وهي من أعلام المحبة، وتمام النعمة، وهي من أعلام الاختصاص، والهداية، وهي من أعلام الولاية، فالمغفرة تبرئة من العيوب، وتمام النعمة بلاغ (٣) الدرجة الكاملة، والهداية هي الدّعوة إلى المشاهدة.
* * *
﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣)﴾.
[٣] ﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ وهو الّذي معه غلبة العدو، والظهور عليه،
(٢) رواه مسلم (١٧٨٦)، كتاب: الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية في الحديبية، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) في "ت": "إبلاغ".
* * *
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤)﴾.
[٤] ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ﴾ الطمأنينة والوقار ﴿فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وهو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتّى اطمأنوا وعلموا أن وعد الله على لسان رسول الله - ﷺ - حق.
﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا﴾ يقينًا ﴿مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ الأوّل، ويكثر تصديقهم.
قال ابن عبّاس: بعث - ﷺ - بشهادة أن لا إله إِلَّا الله، فلما صدقوه، زادهم الصّلاة، ثمّ الزَّكاة، ثمّ الصِّيام، ثمّ الحجِّ، ثمّ الجهاد (١).
واختلف الأئمة في زيادة الإيمان ونقصانه، فقال أبو حنيفة: لا يزيد ولا ينقص، ولا استثناء فيه، وقال الثّلاثة: يزيد وينقص، ويجوز الاستثناء فيه.
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فلو أراد نصر دينه بغيركم، لفعل.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بخلقه ﴿حَكِيمًا﴾ في صنعه، وقوله: (وَكَانَ)؛ أي: كان ويكون، فهي دالة على الوجود بهذه الصِّفَة، لا معينة وقتًا ماضيًا.
* * *
[٥] روي أنه لما أنزلت: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩]، تكلم فيها أهل الكتاب، وقالوا: كيف نتبع من لا يعرف ما يفعل به وبالناس معه؟ فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾، فلما سمعها المؤمنون، قالوا: هنيئًا مريئًا، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فنزل: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾. قال أهل المعاني: وإنما كررت اللام في قوله: (لِيُدْخِلَ) بتأويل تكرير الكلام، مجازه: إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، إنا فتحنا لك؛ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار (١).
﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ يسترها ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ الإدخال والتكفير.
﴿عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضر.
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦)﴾.
[٦] روي أن النبي - ﷺ - أتي بجماعة، فقالوا: ما لنا عند الله؟ فنزل: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ أن الله لا ينصر محمدًا - ﷺ -.
﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ أبعدهم من رحمته.
﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ جهنم.
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧)﴾.
[٧] ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ﴾ الملائكة ﴿وَالْأَرْضِ﴾ الغزاة في سبيل الله.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
(٢) لفظ الجلالة "الله" لم يرد في "ت".
(٣) رواه البخاري (٣٠٢٥)، كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين، ومسلم (١٦٧٩)، كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-.
[٨] ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا﴾ على أمتك يوم القيامة.
﴿وَمُبَشِّرًا﴾ بالجنة مَنْ عمل خيرًا من أهل الإيمان.
﴿وَنَذِيرًا﴾ منذرًا أعداءَ الله بالنار، ومن عمل سوءًا.
...
﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٩)﴾.
[٩] ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ﴾ يُقَوُّوه وينصروه ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ يعظِّموه ويفخِّموه، والهاء في (يُعَزِّرُوهُ ويُوقِّرُوهُ) للنبي - ﷺ -، وهاهنا وقف، والهاء في ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ لله -عز وجل- أي: يصلوا له.
﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ بالغداة والعشي. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (ليُؤْمِنُوا) (وَيُعَزِّرُوهُ وَيُوَقِّرُوه وَيُسَبِّحُوهُ) بالغيب في الأربعة على استمرار الخطاب للنبي - ﷺ -، وقرأ الباقون: بالخطاب للناس (١)، على معنى: قل لهم.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠)﴾.
[١٠] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ﴾ يا محمد بيعةَ الرضوان بالحديبية على ألَّا
﴿فَمَنْ نَكَثَ﴾ نقضَ البيعةَ ﴿فَإِنَّمَا يَنْكُثُ﴾ فإنما يرجع وبالُ نقضه.
﴿عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ﴾ ثبت على البيعة. قرأ حفص عن عاصم: (عَلَيْهُ الله) بضم الهاء، حذفت الواو لسكونها، وبقيت الضمة تدل عليها، وقرأ الباقون: بكسر الهاء، أبدلوا من الضمة كسرة (١)، يقال: أوفى بالعهد، ووفَّى به: إذا لم ينقضه.
﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهو الجنة فما فوقها. قرأ أبو عمرو، والكوفيون، ورويس عن يعقوب: (فَسَيُؤْتيِه) بالياء؛ أي: فسيؤتيه الله، وقرأ الباقون: بالنون التي للعظمة (٢).
...
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١)﴾.
[١١] ولما سار - ﷺ - إلى مكة عام الحديبية، طلب ناسًا من الأعراب
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٠١)، و "تفسير البغوي" (٤/ ١٦٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٤).
﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ اللهَ ليغفر لنا تخلُّفَنا عنك، فكذبهم الله في اعتذارهم، فقال: ﴿يَقُولُونَ﴾ يُظهرون.
﴿بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ لأنهم لا يبالون باستغفارك.
﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا﴾ سوءًا ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾ أي: لا يقدر على دفع ضر ولا جلب نفع إلا هو تعالى. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (ضُرًّا) بضم الضاد، والباقون: بفتحها (١)، وهما لغتان، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي - ﷺ - يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم أنه إن أراد شيئًا من ذلك، لم يقدر أحد على دفعه ﴿بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فيعلم تخلفكم وقصدَكم فيه.
...
﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢)﴾.
[١٢] ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ لظنكم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون. قرأ الكسائي، وهشام: (بَل ظَّنَنْتُمْ) بإدغام اللام في الظاء، والباقون: بالإظهار (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٥).
...
﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ وهي النار المؤججة، ونكر (١) (سَعِيرًا)؛ للتهويل.
...
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يدبره بقدرته وحكمته.
﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ رحمتُه سابقة لغضبه؛ حيث يكفِّر السيئات باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة.
...
﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥)﴾.
[١٥] ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ﴾ عن الحديبية.
﴿إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ﴾ أي: غنائم خيبر.
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (كَلِمَ اللهِ) بكسر اللام من غير ألف، جمع كلمة، وقرأ الباقون: بفتح اللام وألف بعدها (٢)، والمعنى فيه متقارب، ومعناه: يريدون أن يغيروا وعده لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر.
﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا﴾ إلى خيبر.
﴿كَذَلِكُمْ﴾ أي: كقولي لكم ﴿قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ﴾ من قبلِ عَوْدِنا.
﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ فلذلك قلتم هذا القول.
﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ﴾ من الدين ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ منهم، وهم المؤمنون.
...
﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦)﴾.
[١٦] ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ عن الحديبية، وكرر ذكرهم بهذا الاسم
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٦).
﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ وهم فارس والروم، أو هم بنو حنيفة والمرتدون، قال منذر بن سعيد: يتركب على هذا القول أن الآية مؤذنة بخلافة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-؛ لأن أبا بكر قاتل أهل الردة، وعمر قاتل فارس والروم (١).
﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ أي: يكون أحد الأمرين لا غير، ومن عداهم يقاتل حتى يسلم، أو يعطي الجزية.
وعن رافع بن خديج قال: واللهِ لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم مَنْ هم، حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم أريدوا (٢).
﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا﴾ هو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ تُعْرِضوا ﴿كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ عامَ الحديبية.
﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وهو النار.
...
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (١٩/ ٢١٩) عن ابن عباس، وانظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٧٢)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ٢٧٣).
[١٧] فلما نزلت هذه الآية، قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ في التخلف عن الجهاد.
﴿وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ هذا عذر لهم في تخلفهم عن الحديبية.
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (نُدْخِلْهُ) (نُعَذِّبْهُ) بالنون فيهما للعظمة، والباقون: بالياء فيهما؛ لقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) (١).
...
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨)﴾.
[١٨] ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ كانوا ألفًا وثلاث مئة، وقيل غير ذلك.
﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ وكانت سَمُرة ﴿فَعَلِمَ﴾ الله ﴿مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾
...
﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾ من أموال اليهود، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله بينهم ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا﴾ غالبًا ﴿حَكِيمًا﴾ مراعيًا مقتضى الحكمة.
...
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ أي: مغانم خيبر.
﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ﴾ هم قبائل من أسد وغطفان هموا أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة في غيبتهم في غزوة خيبر، فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم.
﴿وَلِتَكُونَ﴾ هذه الكفة ﴿آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ على صدقك.
﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ يثبتكم على الإسلام.
ولما رجع رسول الله - ﷺ - من الحديبية، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعضَ المحرم، ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع من الهجرة إلى خيبر، وهي على ثماني بُرُد من المدينة، فأشرف عليها، وقال لأصحابه: "قفوا،
قدْ علمتْ خيبرُ أَني مَرْحَبُ | شاكي السلاح بطلٌ مجرَّبُ |
أطعنُ أحيانًا وحينًا أضربُ | إذا الليوثُ أقبلتْ تلتهب |
قد علمتْ خيبرُ أني عامرُ | شاكى السلاح بطلٌ مغامرٌ |
أنا الذي سمتني أُمِّي حَيْدَرَهْ | أَكِيلُهم بالسيفِ كيلَ السَّنْدَرهْ |
واختلف بينهما ضربتان، فسبقه علي -رضي الله عنه- وضرب رأسه فقتله، فسقط عدو الله ميتًا (١).
وكان فتح خيبر في صفر على يد علي رضي الله عنه، فأخذ رسول الله - ﷺ - الأموال، وفتح الحصون، ورجع إلى المدينة، وأصاب سبايا منهن صفية بنت حيي، فاصطفاها - ﷺ - لنفسه، وجعل عتقها صداقها، وهو مذهب الإمام أحمد -رضي الله عنه- مستدلًا بذلك، فإذا قال الرجل لأمته القن، أو المُدَبَّرة، أو المكاتبَة، أو أم ولده، أو المعلق عتقُها على صفة: أعتقتُك وجعلتُ عتقَك صداقَك، أو جعلت عتقَ أمتي صداقَها، أو صداق أمتي عتقها، أو قد أعتقتها (٢) وجعلت عتقها صداقها، أو أعتقتك على أن أتزوجك وعتقك صداقك، صح إن كان متصلًا (٣) بحضرة شاهدين، وينعقد النكاح والإعتاق، ويصح جعل صداق مَنْ بعضُها رقيق عتقَ ذلك البعض، وإن طلقها قبل الدخول، رجع عليها بنصف قيمتها، فإن لم تكن قادرة، أجبرت على الاستسعاء، ولو أعتقها بسؤالها على أن تنكحه، أو قال: أعتقتك على أن تنكحيني، ورضيت، صح، ثم إن نكحته، وإلا لزمتها قيمة نفسها، وهذا من مفردات مذهب أحمد؛ خلافًا للثلاثة رضي الله عنهم.
(٢) "أو قد أعتقتها" زيادة من "ت".
(٣) "متصلًا" زيادة من "ت".
...
﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَأُخْرَى﴾ أي: وعدكم فتح بلدة أخرى ﴿لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ يعني: بلاد فارس والروم، وقيل: الإشارة إلى مكة، قال ابن عطية: وهذا هو القوي الذي يتسق معه المعنى ويتأيد (٣)، وقيل: ومعنى (وَأُخْرَى)؛ أي: مغانم هوازن في غزوة حنين، ومعنى (لَمْ تقدِرُوا عَلَيْهَا)؛ لما كان فيها من اضطراب المسلمين.
﴿قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾ بالقدرة والقهر لأهلها؛ أي: قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء.
...
(٢) رواه أبو داود (٤٥١٢)، كتاب: الديات، باب: فيمن سقى رجلًا سمًّا أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (١/ ٦٨)، و"فتح الباري" لابن حجر (١٠/ ٢٤٥).
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" (٥/ ١٣٥).
[٢٢] ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: أسد وغطفان وأهل خيبر.
﴿لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ﴾ لانهزموا ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا﴾ يحرسهم.
﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصرهم.
...
﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: كسنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه.
﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ تغييرًا.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ يعني: كفار قريش.
﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ بداخلها.
﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ﴾ أي: أظهركم عليهم، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمس مئة إلى الحديبية يطلبون غِرَّة في عسكر رسول الله - ﷺ -، فلما أحسَّ بهم المسلمون، بعث رسول الله - ﷺ - خالد بن الوليد، وسماه سيف الله في جملة من الناس، فهزمهم حتى أدخلهم مكة،
﴿عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ فيجازيهم. قرأ أبو عمرو: (يَعْمَلُونَ) بالغيب على ذكر الكفار وتمردهم، وقرأ الباقون: بالخطاب للكفار (١).
...
﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: كفار مكة ﴿وَصَدُّوكُمْ﴾ منعوكم ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عن دخوله والوصول إليه ﴿وَالْهَدْيَ﴾ أي: وصدُّوا الهديَ، وكانت سبعين بدنة ﴿مَعْكُوفًا﴾ محبوسًا، نصب على الحال.
﴿أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ مكانه الذي ينحر فيه عادة، وهو الحرم، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في محل النحر للمُحْصَر في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [الآية: ١٩٦].
﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ﴾ يعني: المستضعفين بمكة.
﴿لَمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ لم تعرفوهم؛ لاختلاطهم بالمشركين ﴿أَنْ تَطَئُوهُمْ﴾
﴿فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ﴾ من جهتهم ﴿مَعَرَّةٌ﴾ مشقة وإثم ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ متعلق بـ ﴿أَنْ تَطَئُوهُمْ﴾، أي: تطؤوهم غيرَ عالمين بهم، وجواب (لَوْلاَ) محذوف، تقديره: لأذنَ لكم في دخولها، ولكنه حالَ بينكم وبين ذلك.
﴿لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ في دين الإسلام.
﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ من أهل مكة بعدَ الصلح قبل أن تدخلوها.
﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾ أي: تميزوا؛ يعني: المؤمنين من الكفار، وجواب (لَوْ تزَيَّلُوا):
﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ﴾ بدخولكم مكة ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ بالسبي والقتل بأيديكم.
...
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿إِذْ﴾ أي: واذكر إذ ﴿جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾ الأَنَفَة حين صدوا رسول الله - ﷺ - وأصحابه عن البيت، ولم يقروا ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأنكروا محمد رسول الله، قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا
﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ التي دخلت قلوبهم. قرأ أبو عمرو، وهشام: (إِذ جَّعَلَ) بإدغام الذال في الجيم، والباقون: بالإظهار (١).
﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾ أي: الثبات والوقار ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾ - ﷺ -.
﴿وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ حتى لم يدخلهم ما دخل المشركين من الحمية، فيعصوا الله في قتالهم.
﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ هي كلمة الشهادة؛ أي: يثبتهم عليها ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا﴾ ممن أباها من المشركين ﴿وَأَهْلَهَا﴾ في علم الله وسابق قضائه لهم، وقوله تعالى:
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن الكفار من قريش بسببهم، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية، فيروى أنه لما انعقد، أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة، وعلت دعوة الإسلام، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب، وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أضعاف ما كان قبل ذلك، ويقتضي ذلك أن رسول الله - ﷺ - كان في عام الحديبية في أربع عشرة مئة، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بنحو عامين في عشرة آلاف فارس - ﷺ -.
...
[٢٧] روي أن رسول الله - ﷺ - رأى في منامه قبل خروجه إلى الحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين، ويحلقون ويقصرون، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا، وظنوا أنه يكون في ذلك العام، فلما انصرفوا ولم يدخلوا، قال المنافقون: وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك، فأنزل الله تعالى:
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا﴾ التي رآها في النوم ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدق.
قرأ الكسائي، وخلف: (الرُّؤْيَا) بالإمالة، والباقون: بالفتح (١).
﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾ اللام لام القسم الذي يقتضيه (صدق)؛ لأنها من قبيل تبين وتحقق ونحوها مما يعطي القسم، تقديره: والله لتدخلن.
﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ ودخول الاستثناء في إخبار الله -عز وجل- فيه وجوه: أن يعلق عدته بالمشيئة؛ تعليمًا لعباده أن يقولوا في عِداتهم مثلَ ذلك متأدبين بأدب الله، ومقتدين بسنته، أو يريد: لتدخلن جميعًا إن شاء الله، ولم يمت منكم أحد، أو: كان ذلك على لسان ملك، فأدخل الملك إن شاء الله، أو: هي حكاية ما قال رسول الله - ﷺ - لأصحابه، وقص عليهم، وقيل: هو متعلق بـ (آمِنِينَ)، وقيل: (إنْ) بمعنى (إذْ)؛ فكأنه قال: إذ شاء الله، قال ابن عطية: وهذا أحسن في معناه، لكن كون (إن)
﴿مُحَلِّقِينَ﴾ حال من (آمِنِينَ) مفعوله ﴿رُءُوسَكُمْ﴾ أي: جميعَ شعورها ﴿وَمُقَصِّرِينَ﴾ بعض شعورها، وتقدم حكم الحلق والتقصير في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [الآية: ١٩٦].
﴿لَا تَخَافُونَ﴾ أبدًا ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ من الحكمة في تأخير الفتح.
﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾ أي: فتح مكة ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾ هو فتح خيبر، وتحققت الرؤيا في العام القابل، فكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة.
...
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى﴾ ملتبِسًا به ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ الإسلام ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ ليعليَه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقًّا، وإظهار فساد ما كان باطلًا، وهذا موجود الآن في دين الإسلام؛ فإنه قد عم أكثر الأرض، وظهر على كل دين.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ أي: شاهدًا بهذا الخبر، ومعلمًا به، وعلى هؤلاء الكفار المنكرين أمرَ محمد - ﷺ - الرادين في صدره، ومعاقبًا لهم بحكم الشهادة.
...
[٢٩] ﴿مُحَمَّدٌ﴾ مبتدأ، خبره ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾ شهد له بالرسالة، وتقدم تفسير (محمد) في سورة آل عمران، وفي الأحزاب، ثم قال مبتدئًا:
﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ من المؤمنين ﴿أَشِدَّاءُ﴾ صفة الصحابة خاصة، فلا يكون - ﷺ - داخلًا مع الصحابة في الشدة ﴿عَلَى الْكُفَّارِ﴾ غلاظ عليهم كالأسد في فريسته.
﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ متعاطفون بعضهم على بعض كالوالد مع الولد.
﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ لأنهم مشغولون في الصلاة في أكثر أوقاتهم.
﴿يَبْتَغُونَ﴾ يطلبون ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ﴾ أن يدخلهم الجنة ﴿وَرِضْوَانًا﴾ أن يرضى عنهم. قرأ أبو بكر عن عاصم: (رُضْوَانًا) بضم الراء، والباقون: بكسرها (١).
﴿سِيمَاهُمْ﴾ علاماتهم ﴿فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ وهو نور وبياض يُعرفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا، وروي أن مواضع السجود تكون في وجوههم كالقمر ليلة البدر.
﴿فِي التَّوْرَاةِ﴾ وتعطف عليه.
﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾ أي: ذلك مثلهم في الكتابين ﴿كَزَرْعٍ﴾ تمثيل مستأنف؛ أي: هم كزرع ﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ فرخه؛ يقال: أشطأ الزرع: إذا فرخ. قرأ ابن كثير، وابن ذكوان عن ابن عامر: بفتح الطاء، والباقون: بإسكانها (١)، وهما لغتان كالنهْر والنهَر، وقرأ أبو عمرو: (أَخْرَج شَّطْاَهُ) بإدغام الجيم في الشين (٢).
﴿فَآزَرَهُ﴾ قرأ ابن ذكوان: بقصر الهمزة، والباقون: بالمد (٣)؛ أي: قواه؛ من المؤازرة، وهي المعاونة ﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ غلظ ذلك الزرع.
﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ جمع ساق؛ أي: قوي واستقام على أصوله، وهذا مثل ضربه الله لنبيه، خرج وحده، فآزره بأصحابه. قرأ قنبل عن ابن كثير: (سُؤْقِهِ) بهمزة ساكنة، وعنه وجه ثان: بهمزة مضمومة، وقرأ الباقون: بغير همز (٤).
﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ الذين زرعوه، وهذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام وقوته
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١٣).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٢)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١٤).
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٦٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١٤ - ٢١٥).
﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ أي: إنما كثرهم وقواهم؛ ليكونوا غيظًا للكافرين.
قال عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر، فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعلي بن أبي طالب.
ومن غيظ الكفار قولُ عمر بمكة: "لا أعبد (١) الله سرًّا بعد هذا اليوم" (٢).
وعن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "أرحمُ أمتي بأمتي أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأصدقُهم حياءً عثمان، وأقضاهم عليٌّ، وأقرؤهم أُبي بن كعب، وأفرضهم زيدُ بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وما أظلت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجة أصدقَ من أبي ذر، ولكل أمة أمين، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" رضي الله عنهم أجمعين (٣).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٩٢).
(٣) رواه الترمذي (٣٧٩١)، كتاب: المناقب، باب: مناقب معاذ بن جبل وزيد ابن ثابت وأبي عبيد بن الجراح رضي الله عنهم، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (١٥٤) في المقدمة، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. دون قوله: "وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر". وقد رواه الترمذي (٣٨٠٢)، كتاب: المناقب. باب: مناقب أبي ذر رضي الله عنه، وابن حبان في "صحيحه" (٧١٣٢)، وغيرهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
﴿وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ يعني: الجنة، وقد اجتمع حروف المعجم التسعة والعشرون في هذه الآية، وهي ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ إلى آخر السورة، أول حروف المعجم فيها ميم من (محمد)، وآخرها صاد من (الصالحات)، وتقدم نظير ذلك في سورة آل عمران في قوله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ [الآية: ١٥٤]، وليس في القرآن آيتان كل آية حوت حروف المعجم غيرهما (١) من دعا الله بهما، استجيب له، والله أعلم.
...
مدنية بإجماع من أهل التأويل، وآيها: ثماني عشرة آية، وحروفها: ألف وأربع مئة وستة وسبعون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وثلاث وأربعون كلمة، وهذا أول المفصل على الراجح من مذهب الشافعي، وبعض (١) الأقوال المعتمدة عند أبي حنيفة، وعنه قول آخر معتمد: أن أوله (ق).
قال - ﷺ -: "فضلني ربي بالمفصل" (٢)، وتقدم في أول التفسير أن المفصل من القرآن هو ما بعد الحواميم وقصار السور إلى آخر القرآن، وسميت مفصلًا؛ لكثرة الفصولات فيها بسطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لأنها سور قصار يقرب تفصيل كل سورة من الأخرى، فكثر التفصيل فيها، والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)﴾.(٢) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٤/ ١٠٧)، والطيالسي في "مسنده" (١٠١٢)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٢٢/ ٧٥)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٢٤١٥)، وغيرهم من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.