تفسير سورة الملك

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الملك من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الملك مكية وتسمى الواقية والمنجية، لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر وآيها ثلاثون.

(تَبَارَكَ الذى بِيَدِهِ الملك) البركة والنماء والزِّيادةُ حسيَّةً كانتْ أو عقليةً وكثرةُ الخيرِ ودوامُه أيضاً ونسبتُها إلى الله عزَّ وجلَّ على المَعْنى الأوَّل وهُو الأليقُ بالمقامِ باعتبارِ تعاليهِ عمَّا سواهُ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ وصيغةُ التفاعلِ للمبالغةِ في ذلك فان مالا يتصورُ نسبتُهُ إليهِ تعالَى من الصِّيغ كالتَّكبر ونحوِه إنَّما تنسبُ إليه سبحانَهُ باعتبارِ غاياتِهَا وعلى الثَّاني باعتبارِ كثرةِ ما يفيضُ منهُ على مخلوقاتِهِ من فنونِ الخيراتِ والصِّيغةُ حينئذٍ يجوزُ أنْ تكونَ لإفادةِ نماءِ تلكَ الخيراتِ وازديادِها شيئاً فشيئاً وآناً فآناً بحسبِ حدوثِها أو حدوثِ متعلَّقاتِها ولاستقلالِها بالدِّلالة على غايةِ الكمالِ وإنبائِها عن نهايةِ التَّعظيمِ لم يجُز استعمالُها في حقِّ غيرِه سبحانَهُ ولا استعمالُ غيرِها من الصيغِ في حقِّه تباركَ وتعالَى وإسنادُها إلى الموصولِ للاستشهادِ بما في حيزِ الصَّلةِ على تحققِ مضمونِهَا واليدُ مجازٌ عن القدرةِ التامَّةِ والاستيلاءِ الكاملِ أي تعالَى وتعاظَم بالذاتِ عن كلِّ ما سواهُ ذاتاً وصفةً وفعلاً الذي بقبضةِ قُدرتِهِ التَّصرفُ الكليُّ في كلِّ الأمورِ ﴿وَهُوَ على كُلّ شَىْء﴾ منَ الأشياءِ ﴿قَدِيرٌ﴾ مبالِغٌ في القُدرة عليهِ يتصرفُ فيهِ حسبما تقتضيه مشيئته المببنية على الحكمِ البالغةِ والجملةُ معطوفةٌ على الصِّلةِ مقررةٌ لمضمونِهَا مفيدةٌ لجريانِ أحكامِ مُلكِهِ تعالَى في جَلائلِ الأُمورِ ودقائِقها وقولُه تعالَى
﴿الذى خَلَقَ الموت والحياة﴾ شروعٌ في تفصيلِ بعضٍ أحكامِ المُلكِ وآثارِ القُدرةِ وبيانِ ابتنائِهِما على قوانينِ الحِكَمِ والمَصالحِ واستتباعِهِما لغاياتٍ جليلةٍ والموصولُ بدلٌ من الموصولِ الأولِ داخلٌ معهُ في حُكمِ الشهادةِ بتعاليهِ تعالَى والموتُ عندَ أصحابِنَا صفةٌ وجُوديةٌ مضادةٌ للحياةِ وأمَّا ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهُمَا منْ أنَّهُ تعالَى خلقَ الموتُ في صُورةِ كبشٍ أملحَ لا يمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحتَهَا شيء الا حي وخلقَ الحياةَ في صورةِ فرسٍ بَلقاءَ لا تمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحتَهَا شيء إلا حي فكلامٌ واردٌ على منهاجِ التمثيلِ والتصويرِ وقيلَ هو عدمُ الحياةِ فمعنَى خلقِه حينئذٍ تقديرُهُ أو إزالةُ الحياةِ وأيَّاً ما كانَ فالأقربُ أنَّ المرادَ بهِ الموتُ الطارىءُ وبالحياةِ ما قبلَهُ وما بعدَهُ لظهورِ مداريتِهِما لما ينطقُ بهِ قولُه تعالَى ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ فإن استدعاءَ ملاحظتهما لاحسان العمل مما لا ريبَ فيه معَ أنَّ نفسَ العملِ لا يتحققُ بدونِ الحياةِ الدنيويةِ وتقديمُ الموتِ لكونِهِ
2
٦٧ سورة الملك (٣)
أدعى إلى إحسانِ العملِ واللامُ متعلقةٌ بخلقَ أي خلقَ موتَكُم وحياتَكُم على أنَّ الألفَ واللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ ليعاملَكُم معاملةَ مَنْ يختبرُكم أيكُم احسن عملا فيجازيكم على مراتبَ متفاوتةٍ حسبَ تفاوتِ طبقاتِ علومِكُم وأعمالِكُم فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعملِ الجوارحِ ولذلكَ فسَّره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله فإنَّ لكلٍ من القلبِ والقالَب عملاً خاصَّاً به فكَما أنَّ الأولِ أشرفَ من الثَّانِي كذلكَ الحالُ في عملِه كيفَ لاَ ولا عملَ بدونِ معرفةِ الله عزَّ وجلَّ الواجبةِ على العبادِ آثرَ ذي أثيرٍ وإنما طريقُها النظريُّ التفكرُ في بدائعِ صُنْعِ الله تعالَى والتدبرُ في آياتِه المنصوبةِ في الأنفس والآفاق وقد وقَد رُوي عنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام أنه قال لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ مَتَّى فإنَّهُ كانَ يُرفع لهُ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرض قالُوا وإنَّما كانَ ذلكَ التفكّرَ في أمرِ الله عزَّ وجلَّ الذي هُو عملُ القلبِ ضرورةَ أنَّ أحداً لا يقدرُ على أنْ يعملَ بجوارحِهِ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرضِ وتعليقُ فعلِ البَلْوَى أي تعقيبُه بحرفِ الاستفهامِ لا التعليقُ المشهورُ الذي يقتضِي عدمَ إيرادِ المفعولِ أصلاً مع اختصاصِهِ بأفعالِ القلوبِ لما فيهِ من مَعْنَى العلمِ باعتبارِ عاقبتِه كالنظرِ ونظائرِه ولذلك أُجرَي مَجْرَاه بطريقِ التمثيلِ وقيلَ بطريقِ الاستعارةِ التبعيةِ وإيرادُ صيغةِ التَّفضيل معَ أنَّ الابتلاء شاملٌ لهم باعتبارِ أعمالهِم المنقسمةِ إلى الحسنِ والأحسنِ فقطْ للإيذانِ بأنَّ المرادَ بالذاتِ والمقصدِ الأصليَّ من الابتلاءِ هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنينَ مع تحققِ أصلِ الإيمانِ والطاعةِ في الباقينَ أيضاً لكمالِ تعاضدِ الموجباتِ له وأما الاعارض عن ذلكَ فبمعزلٍ من الاندراجِ تحتَ الوقوعِ فضلاً عن الانتظامِ في سلكِ الغاية للأفعال الاليهة وإنَّما هُو عملٌ يصدُر عن عاملِهِ بسوءِ اختيارِه من غيرِ مصحِّحٍ لهُ ولا تقريبٍ وفيهِ من الترغيبِ في الترقِّي إلى معارجِ العلومِ ومدارجِ الطاعاتِ والزجرِ عن مباشرةِ نقائِضِها ما لا يخفى ﴿وهو العزيز﴾ الغالب الذي لا يفوتُهُ من أساءَ العملَ ﴿الغفور﴾ لمن تابَ منهُم
3
﴿الذي خلق سبع سماوات﴾ قيلَ هو نعتٌ للعزيزُ الغفورُ أو بيانٌ أو بدلٌ والأوجهُ أنه نُصِب أو رُفع على المدحِ متعلق بالموصولين السابقينِ مَعْنَى وإنْ كانَ منقطعاً عنهُما إعراباً كما مرَّ تفصيلُه في قولِهِ تعالى الذين يؤمنون بالغيب من سورةِ البقرةِ منتظَمٌ معهما في سلكِ الشهادةِ بتعاليه اليه سبحانَهُ ومع الموصولِ الثَّاني في كونِه مداراً للبلوى كما نطق به قوله تعالَى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وقولُه تعالَى ﴿طِبَاقاً﴾ صفةٌ لسبعَ سمواتٍ أي مطابقةً على أنَّه مصدرُ طابقتَ النعلَ إذا خصفتَها وُصفَ بهِ المفعولُ أو مصدره مؤكدٌ لمحذوفٍ هو صفتُها أي طُوبقتْ طباقاً وقولُه تعالَى ﴿مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت﴾ صفةٌ أُخرى لسبعَ سمواتٍ وضع فيها خلقُ الرحمنِ موضوع الضميرِ للتعظيمِ والإشعارِ بعلةِ الحكمِ وبأنَّه تعالى خلقَها بقدرتِهِ القاهرةِ رحمةً وتفضلاً وبأنَّ في إبداعِها نعماً
3
سورة الملك (٤ ٧)
جليلةً أو استئنافٌ والخطابُ للرسول ﷺ أو لكل أحد ممن يصلحُ للخطابِ ومنْ لتأكيدِ النَّفي أي ما تَرى فيه شيئا من تفاوتٍ أي اختلافٍ وعدم تناسُبٍ من الفَوتِ فإنَّ كلاً من المتفاوتينَ يفوتُ منهُ بعضُ ما في الآخرِ وقُرِىءَ من تفوتٍ ومعناهُمَا واحدٌ وقولُه تعالَى ﴿فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ﴾ متعلقٌ به على معنى التسبيب حيثُ أخبرَ أولاً بأنه لا تفاوتَ في خلقهنَّ ثم قيلَ فارجعِ البصرَ حتَّى يتضحَ لك ذلكَ بالمعاينةِ ولا يبقى عندكَ شبهةٌ ما والفطورُ الشقوقُ والصدوعُ جمعُ فِطْرٍ وهو الشقُّ يقالُ فطرَهُ فانفطَرَ
4
﴿ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ أي رجعتينِ أُخرَيينِ في ارتيادِ الخللِ والمرادُ بالتثنيةِ التكريرُ والتكثيرُ كما في لبَّيكَ وسَعديكَ أي رجعةً بعدَ رجعةٍ وإنْ كثُرتْ ﴿يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا﴾ أي بعيداً محروماً من إصابةِ ما التمسَهُ من العيبِ والخللِ كأنَّه يُطردُ عن ذلكَ طرداً بالصَّغارِ والقَماءةِ ﴿وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ أي كليلٌ لطولِ المعاودةِ وكثرةِ المُراجعةِ وقولُه تعالَى
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا﴾ بيانٌ لكونِ خلقِ السمواتِ في غايةِ الحسنِ والبهاءِ إثرَ بيانِ خُلوِهَا عن شائبةِ القصورِ وتصديرُ الجملةِ بالقسمِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمونِهَا أي وبالله لقد زيَّنا أقربَ السمواتِ إلى الأرضِ ﴿بمصابيح﴾ أي بكواكبَ مضيئةً بالليلِ إضاءةَ السرجِ من السياراتِ والثوابتِ تتراءى كأن كُلَّها مركوزةٌ فيها مع أنَّ بعضَها في سائرِ السمواتِ وما ذاكَ إلا لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها مخلوقةٌ على نمطٍ رائقٍ تحارُ في فهمِهِ الأفكارُ وطرازٍ فائقٍ تهيمُ في دركِهِ الأنظارُ ﴿وجعلناها رُجُوماً للشياطين﴾ وجعلنَا لها فائدةً أُخرى هي رجمُ أعدائِكُم بانقضاضِ الشهبِ المقتبسةِ من نارِ الكواكبِ وقيلَ معناهُ وجعلنَاهَا ظنوناً ورجوماً بالغيبِ لشياطينِ الإنسِ وهم المنجمونَ ولا يساعدهُ المقامُ والرجومُ جمع رَجْمٍ بالفتحِ وهو ما يُرجمُ بهِ ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ﴾ في الآخرةِ ﴿عَذَابِ السعير﴾ بعد الاحتراقِ في الدُّنيا بالشهبِ
﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ﴾ منَ الشياطينِ وغيرِهِم ﴿عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ وقرئ بالنصبِ على أنَّه عطفٌ على عذابِ السعيرِ وللذينَ على لهم ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي جهنمُ
﴿إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا﴾ أي لجهنَم وهو متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من قولِهِ تعالَى ﴿شَهِيقًا﴾ لأنه في الأصلِ صفتُه فلما قُدمتْ صارتْ حالاً أي سمعُوا كائناً لَها شهيقاً أي صوتاً كصوتِ الحميرِ وهو حسيسُها المنكرُ الفظيعُ قالوا الشهيقُ في الصدرِ والزفيرُ في الحلقِ ﴿وَهِىَ تَفُورُ﴾ أي والحالُ أنها تغلِي بهم غليانَ المِرْجِلِ بما فيهِ وجعلُ الشهيقِ لأهلِهَا منهُم وممن طُرحَ فيها قبلَهُم كما في قولِهِ تعالَى لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ يرده قوله تعالى
4
٦٧ سورة اتلملك (٨ ١٠)
5
﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ﴾ أي تتميزُ وتتفرقُ ﴿مِنَ الغيظ﴾ أي منْ شدةِ الغضبِ عليهِم فإنَّه صريحٌ في أنَّهُ من آثارِ الغضبِ عليهِم كما في قوله تعالى سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً فأينَ هُو من شهيقِهِم الناشىءِ من شدةِ ما يقاسونَهُ من العذابِ الأليمِ والجملةُ إما حالٌ من فاعلِ تفورُ أو خبرٌ آخرُ وقولُه تعالَى ﴿كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ﴾ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ حالِ أهلِها بعد بيانِ حالِ نفسِها وقيلَ حالٌ من ضميرِها أي كلما أُلقَى فيها جماعةٌ من الكفرةِ ﴿سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ بطريقِ التوبيخِ والتقريعِ ليزدادُوا عذاباً فوقَ عذابٍ وحسرةً على حسرةٍ ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ يتلُو عليكُم آياتِ ربِّكُم وينذركُم لقاءَ يومِكُم هذا كما وقعَ في سورةِ الزمرِ ويعربُ عنه جوابهُم أيضاً
﴿قَالُواْ﴾ اعترافاً بأنه تعالَى قد أزاحَ عللَهُم بالكليةِ ﴿بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ﴾ جامعينَ بينَ حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملةِ المجابِ بها مبالغةً في الاعترافِ بمجىءِ النذيرِ وتحسراً على ما فاتَهُم من السعادةِ في تصديقِهِم وتمهيداً لبيانِ ما وقعَ منهُم من التفريطِ تندماً واغتماماً على ذلكَ أيْ قالَ كلُّ فوجٍ من تلكَ الأفواجِ قد جاءنا نذير اي واحدة حقيقةً أو حكماً كأنبياءِ بني اسرائيل فانهم حكمِ نذيرٍ واحدٍ فأنذرنا وتَلا علينا ما نزَّل الله تعالى عليه من آياتِهِ ﴿فَكَذَّبْنَا﴾ ذلكَ النذيرَ في كونِهِ نذيراً من جهتِهِ تعالَى ﴿وَقُلْنَا﴾ في حقِّ ما تلاهُ من الآياتِ إفراطاً في التكذيبِ وتمادياً في النكيرِ ﴿ما نزل الله﴾ أحدٍ ﴿مِن شَىْء﴾ من الأشياءِ فضلاً عن تنزيلِ الآياتِ عليكُم ﴿إِنْ أَنتُمْ﴾ أي ما أنتُم في ادعاء أنَّه تعالَى نزَّل عليكُم آياتٍ تُنذرونَنا بِمَا فيها ﴿إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ﴾ بَعِيدٍ عن الحقِّ والصوابِ وجمعُ ضميرِ الخطابِ مع أنَّ مخاطِبَ كلِّ فوجٍ نذيرُهُ لتغليبِهِ على أمثاله مبالغةً في التكذيبِ وتمادياً في التضليلِ كما ينبىءُ عنهُ تعميمُ المُنزِّلِ مع تركِ ذكرِ المُنزَّلِ عليهِ فإنَّه مُلوِّحٌ بعمومِهِ حتماً وأما إقامةُ تكذيبِ الواحدِ مُقامَ تكذيبِ الكلِّ فأمرٌ تحقيقيٌّ يصارُ إليهِ لتهويلِ ما ارتكبُوه من الجنايات لامساغ لاعتبارِهِ من جهتِهِم ولا لإدراجِهِ تحت عبارَتِهِم كيفَ لا وهو منوطٌ بملاحظةِ اجماع النذر على مالا يختلفُ من الشرائعِ والأحكامِ باختلافِ العصورِ والأعوامِ وأين هُم من ذلك وقد حال الجريضُ دونَ القريضِ هَذا إذا جَعلَ ما ذُكِرَ حكايةً عن كلِّ واحدٍ من الأفواجِ وأما إذا جُعلَ حكايةً عن الكلِّ فالنذيرُ إمَّا بمَعْنَى الجمعِ لأنَّه فعيلٌ أو مصدرٌ مقدرٌ بمضافٍ عامَ أي أهلُ نذيرٍ أو منعوتٌ بهِ فيتفقُ كلا طَرَفَي الخطابِ في الجمعيةِ ومن اعتبرَ الجمعيةَ بأحدِ الوجوهِ الثلاثةِ على التقديرِ الأولِ ولم يخصَّ اعتبارَهَا بالتقديرِ الأخيرِ فقد اشتَبَه عليه الشئون واختلطَ بهِ الظنونُ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ الخطابُ من كلامِ الخزنةِ للكفارِ على إرادةِ القولِ على أنَّ مرادَهُم بالضَّلالِ ما كانُوا عليهِ في الدُّنيا أو هلاكهُم أو عقابُ ضلالِهِم تسميةً لهُ باسمِ سببِهِ وأن يكونَ من كلامِ الرسلِ للكفرةِ وقد حكموه للخزانة فتأمل وكن على الحق المبينِ
﴿وَقَالُواْ﴾ أيضاً معترفينَ بأنَّهم لم يكونوا
5
سورة الملك (١١ ١٤)
ممَّن يسمعُ أو يعقلُ ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ﴾ كلاماً ﴿أَوْ نَعْقِلُ﴾ شيئاً ﴿مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير﴾ أي في عدادِهِم ومن أتباعِهِم وهم الشياطينُ لقولِهِ تعالَى وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير كأنَّ الخزنةَ قالُوا لهم في تضاعيفِ التوبيخِ ألم تسمعُوا آياتِ ربِّكُم ولم تعقِلُوا معانِيهَا حتَّى لا تُكذبُوا بها فأجابُوا بذلكَ
6
﴿فاعترفوا بِذَنبِهِمْ﴾ الذي هو كُفرهم وتكذيبُهُم بآياتِ الله ورسله ﴿فَسُحْقًا﴾ بسكونِ الحاءِ وقُرِىءَ بضمِّها مصدرٌ مؤكدٌ إمَّا لفعلٍ متعدَ من المزيدِ بحذفِ الزوائدِ كَما في قعدكَ الله أي فأسحقَهُم الله أي أبعدهم من رحمتِهِ سُحْقَاً أي إسْحَاقاً أو لفعلٍ مترتبٍ على ذلكَ الفعلِ أي فأسحقَهُم الله فسَحقُوا أي بُعدوا سُحقاً أي بُعْداً كما في قول من قال او عضة دهريا ابنَ مروانَ لم تَدَع مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ أيْ لَم تدعَ فلمْ يبْقَ إلا مسحتٌ الخ وعلى هذينِ الوجهينِ قولُه تعالَى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا واللامُ في قولِهِ تعالَى ﴿لاصحاب السعير﴾ للبيانِ كما في هَيْتَ لكَ ونحوِهِ والمرادُ بهم الشياطينُ والداخلونَ في عدادِهِم بطريقِ التغليبِ
﴿إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب﴾ أي يخافونَ عذابَهُ غائبا عنهم أو غائبين عنْهُ أو عن أعينِ النَّاسِ أو بما خَفِيَ منهُم وهو قلوبُهُم ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ عظيمةٌ لذنوبهم ﴿وأجر كبيرٌ﴾ لا يُقادرُ قدرُه
﴿وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ﴾ بيانٌ لتساوِي السرِّ والجهرِ بالنسبةِ إلى علمِهِ تعالى كما في قوله سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في المشركينَ كانُوا ينالُونَ من النبي عليه الصلاةَ والسلام فيُوحَى إليهِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ فقال بعضُهُم لبعضٍ اسروا قولمكم كيلاَ يسمعَ ربُّ محمدٍ فقيلَ لهُم أسِرُّوا ذلكَ أو اجهروا بهِ فإنَّ الله يعلمهُ وتقديمُ السرِّ على الجهرِ للإيذانِ بافتضاحِهِم ووقوعِ ما يحذَرونه من أولِ الأمرِ والمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِه المحيطِ لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمِه تعالَى بما يُسرّونه أقدرُ منهُ بما يجهرونَ بهِ مع كونِهِما في الحقيقةِ على السويةِ فإنَّ علمَه تعالَى بمعلوماتهِ ليسَ بطريقِ حصولِ صُورِها بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليهِ تعالَى أو لأنَّ مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبةِ الجهرِ إذْ مَا من شيءٍ يُجهرُ بهِ إلا وهُو أو مباديهِ مُضْمرٌ في القلبِ يتعلقُ بهِ الإسرارُ غالباً فتعلُقُ علمِه تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ بحالتِهِ الثانيةِ وقولُهُ تعالَى ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ تعليلٌ لما قبلَه وتقريرٌ لهُ وفي صيغةِ الفعيلِ وتحليةِ الصدورِ بلامِ الاستغراقِ ووصفِ الضمائرِ بصاحبِيتِها من الجزالة ما لا غاية وراءه كأنَّهُ قيلَ إنه مبالغٌ في الإحاطةِ بمضمراتِ جميعِ الناسِ وأسرارِهم الخفيةِ المستكنّةِ في صدورِهِمْ بحيثُ لا تكادُ تفارقُها أصلاً فكيفَ يَخْفى عليهِ ما تُسرُّونَهُ وتجهرونَ بهِ ويجوزُ أنْ يُرادَ بذاتِ الصُّدورِ القلوبُ التي في الصدرِ والمعنى أنه عليمٌ بالقلوبِ وأحوالِها فلا يَخْفَى عليهِ سرٌّ من أسرارِهَا وقولُهُ تعالَى
﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾
6
٦٧ سورة الملك (١٥ ١٨)
إنكارٌ ونفيٌ لعدمِ إحاطةِ علمِهِ تعالَى بالمُضمرِ والمُظهرِ أي ألا يعلمُ السرَّ والجهرَ من أوجدَ بموجبِ حكمتِهِ جميعَ الأشياءِ التي هُمَا من جُملَتِهَا وقولُهُ تعالَى ﴿وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ حالٌ من فاعلِ يعلمُ مؤكدةٌ للإنكارِ والنَّفيِ أي ألا يعلمُ ذلكَ والحالُ أنَّه المتوصلُ علمُهُ إلى ما ظهرَ من خلقِهِ وما بطنَ ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ خَلَقَ منصوباً والمَعْنَى ألا يعلمُ الله مَنْ خلقَهُ والحالُ أنَّهُ بهذِهِ المثابةِ من شمولِ العلمِ ولا مساغَ لإخلاءِ العلم عن المفعولِ بإجرائِهِ مَجْرَى يُعْطِي ويمنعُ على مَعْنَى ألا يكونَ عالِماً مَنْ خلقَ لأنَّ الخلقَ لا يتأتَّى بدونِ العلمِ لخلوِّ الحالِ حينئذٍ من الإفادةِ لأنَّ نظمَ الكلامِ حينئذ ألا يكونُ عالماً وهو مبالغٌ في العلمِ
7
﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً﴾ لينةً يسهلُ عليكُم السلوكُ فيها وتقديمُ لكُم على مفعُولَي الجعلِ مع أن حقه التأخرُ عنهُما للاهتمامِ بِما قُدمَ والتشويق إلى ما أخر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لا سيَّما عند كونِ المقدمِ ممَّا يدلُّ على كونِ المؤخرِ من منافعِ المخاطبينَ تبقَى النفسُ مترقبةً لورودِهِ فيتمكنُ لديها عندَ ذكرِهِ فضلُ تمكنٍ والفاءُ في قولِه تعالَى ﴿فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا﴾ لترتيبِ الأمرِ على الجعلِ المذكورِ أي فاسلكُوا في جوانِبِهَا أو جِبَالِهَا وهو مَثَلٌ لفرطِ التذليلِ فإن منكبَ البعيرِ أرقُّ أعضائِهِ وأنباها عن أنْ يطأَهُ الراكبُ بقدمِهِ فإذا جُعل الأرضُ في الذُّلِّ بحيثُ يتأتَّى المشيُ في مناكبِهَا لم يبقَ منها شيءٌ لم يتذللْ ﴿وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ﴾ والتمسُوا من نعمِ الله تعالَى ﴿وَإِلَيْهِ النشور﴾ أي المرجعُ بعدَ البعثِ لا إلى غيرِه فبالِغُوا في شكرِ نعمِهِ وآلائِهِ
﴿أأمنتُم مَنْ في السَّماءِ﴾ أي الملائكةَ الموكلينَ بتدبيرِ هذا العالمِ أو الله سبحانَهُ على تأويلِ من في السماءِ أمرُهُ وقضاؤهُ أو على زعمِ العربِ حيثُ كانُوا يزعمونَ أنَّه تعالَى في السماءِ أي أأمنتُم منْ تزعمُونَ أنَّهُ في السماءِ وهُو متعالٍ عن المكانِ ﴿أَن يَخْسِفَ بكم الأرض﴾ بعدما جعلها لكم ذلولا تشمون في مناكبِهَا وتأكلونَ من رزقه لكفر إنكم تلك النعمة أي يقبلها ملتبسة بكم فيغييكم فيهَا كما فعلَ بقارونَ وهو بدل اشتمال من مَنْ وقيلَ هو عَلى حذفِ الجارِّ أيْ مِنْ أنْ يخسفَ ﴿فَإِذَا هِىَ تَمُورُ﴾ أي تضطربُ ذهاباً ومجيئاً على خلافِ ما كانَتْ عليهِ من الذُّلِّ والاطمئنانِ
﴿أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السماء﴾ إضرابٌ عن التهديدِ بما ذكر وانتقال التهديدِ بوجهٍ آخرَ أيْ بلْ أأمنتُم مَنْ في السَّماءِ ﴿أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا﴾ أي حجارةً من السماءِ كما أرسلَها على قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيلِ وقيلَ ريحاً فيها حجارةٌ وحصباءُ كأنَّها تقلعُ الحصباءَ لشدَّتِهَا وقوتِهَا وقيلَ هي سحابٌ فيها حجارةٌ ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ عن قريبٍ البتةَ ﴿كَيْفَ نَذِيرِ﴾ أي إنذارِي عندَ مُشاهدتِكُم للمنذَرِ بهِ ولكنْ لا ينفعكُم العلمُ حينئذٍ وقُرِىءَ فسيعلمُونَ بالياءِ
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي من قبل كفارِ مكةَ من كفارِ الأممِ السَّالفةِ كقومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم والالتفاتُ إلى الغيبة لابراز
7
٦٧ سورة الملك (١٩ ٢١)
الإعراضِ عنهُم ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي إنكارِي عليهِم بإنزالِ العذابِ أي كانَ على غايةِ الهولِ والفظاعةِ وهذا هو موردُ التأكيدِ القسَمِي لا تكذيبُهُم فقطْ وفيهِ من المبالغةِ في تسلية رسول الله ﷺ وتشديد التهديد لقومه مالا يَخْفَى
8
﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ﴾ أغفَلوا ولم ينظُروا ﴿إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات﴾ باسطاتٍ أجنحتهنَّ في الجوِّ عند طيرانِهَا فإنهنَّ إذا بسطنَهَا صفَفنَ قوادِمها صفاً ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾ ويضمُمنها إذا ضربنَ بها جنوبهنَّ حيناً فحيناً للاستظهارِ بهِ على التحركِ وهو السرُّ في إيثارِ يقبضنَ الدالِّ على تجددِ القبضِ تارةً بعد تارةٍ على قابضاتٍ ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ في الجوِّ عند الصفِّ والقبضِ على خلافِ مقتضى الطبعِ ﴿إِلاَّ الرحمن﴾ الواسعُ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ بأنْ برأهُنَّ على أشكال وخصاصئص وهيأهُنَّ للجريِ في الهواءِ والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ من الضميرِ في يقبضنَ ﴿إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ﴾ يعلمُ كيفيةَ إبداعِ المبدعاتِ وتدبيرِ المصنوعاتِ وقولِه تعالَى
﴿أم مّنْ هذا الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن﴾ تبكيتٌ لهم بنفي أنْ يكونَ لهم ناصرٌ غيرُ الله تعالَى كما يلوحُ به التعرضُ لعنوانِ الرحمانيةِ ويعضُدهُ قولُه تعالَى مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن أو ناصرٌ من عذابِهِ تعالَى كما هو الأنسبُ بما سيأتي من قولِه تعالَى إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ كقولِهِ تعالَى أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا في المعنيينِ معاً خَلا أنَّ الاستفهامِ هُناكَ متوجهٌ إلى نفسِ المانعِ وتحققهِ وههُنا إلى تعيينِ الناصرِ لتبكيتِهِم بإظهارِ عجزِهِم عن تعيينِهِ وأم منقطعةٌ مقدرةٌ ببل المفيدةِ للانتقالِ من توبيخِهِم على تركِ التأملِ فيما يشاهدونَهُ من أحوالِ الطيرِ المنبئةِ عن تعاجيبِ آثارِ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ إلى التبكيتِ بما ذُكِرَ والالتفاتُ للتشديدِ في ذلكَ ولا سبيلَ إلى تقديرِ الهمزةِ معَها لأنَّ ما بعدَهَا مَنْ الاستفهاميةُ وهي مبتدأٌ وهذا خبرُهُ والموصولُ مع صلتِهِ صفتُهُ كما في قوله تعالى مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ وإيثارُ هذا لتحقيرِ المشارِ إليهِ وينصرُكُم صفةٌ لجندٌ باعتبارِ لفظِهِ ومن دونِ الرحمنِ على الوجهِ الأولِ إما حالٌ من فاعلِ ينصركُم أو نعتٌ لمصدرِهِ وعلى الثاني متعلقٌ بينصركم كما في قولِهِ تعالَى مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله فالمَعْنَى بلْ مَنْ هذا الحقيرُ الذي هُو في زعمِكُم جندٌ لكم ينصرُكُم نصراً كائناً من دونِ نصرِهِ تعالَى أو ينصرُكُم من عذابٍ كائنٍ من عندِ الله عزَّ وجلَّ وتوهمُ أنَّ أمَّ معادلة لقوله تعالى او لم يَرَوْاْ الخ معَ القولِ بأنَّ مَنِ استفهاميةٌ مما لا تقريبَ له أصلاً وقولُه تعالَى ﴿إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ﴾ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ ناعِ عليهِم ما هُم فيهِ من غايةِ الضلالِ أي ما هُم في زعمِهِم أنَّهم محفوظونَ من النوائبِ بحفظِ آلهتِهِم لا بحفظِهِ تعالَى فقطْ أو أنَّ آلهتَهُم تحفظهُم من بأسِ الله إلا في غرورٍ عظيمٍ وضلالٍ فاحشٍ من جهةِ الشيطانِ ليسَ لهُم في ذلكَ شيءٌ يعتدُّ بهِ في الجملةِ والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ باقتضاءِ حالِهِم للإعراضِ عنهُم وبيانِ قبائِحِهِم لغيرِهِم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهِم بالكُفرِ وتعليلِ غرورِهِم بهِ والكلامُ في قوله تعالى
﴿أم من هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أمسك﴾
8
اي الله عزل وجلَّ ﴿رِزْقَهُ﴾ بإمساكِ المطرِ وسائرِ مباديهِ كالذي مرَّ تفصيلُه خَلا أنَّ قولَه تعالَى ﴿بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ﴾ منبىءٌ عن مقدَّرٍ يستدعيهِ المقامُ كأنَّه قيلَ إثرَ تمامِ التبكيتِ والتعجيزِ لم يتأثَّروا بذلكَ ولم يُذعنُوا للحقِّ بل لجُّوا وتمادَوا في عتوَ أي عنادٍ واستكبارٍ وطغيانٍ ونفورٍ أيْ شرادٍ عن الحقِّ وقولُه تعالَى
9
﴿أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى﴾ الخ مثلٌ ضُرِبَ للمشركِ والموحدِ توضيحاً لحالهما وتحقيقا لشأن مذهبهما والفاءُ لترتيبِ ذلكَ على ما ظهرَ من سوءِ حالِهِم وخرورِهِم في مهاوِي الغرورِ وركوبِهِم متنَ عشواءِ العتوِّ والنفورِ وعدمِ اهتدائِهِم في مسلكِ المُحاجَّةِ إلى جهةٍ يتوهمُ فيها رشدٌ في الجملةِ فإنَّ تقدمَ الهمزةِ عليها صورةً إنَّما هُو لاقتضائِهَا الصدارةَ وأما بحسبِ المعنى فالأمرُ بالعكسِ كَمَا هو المشهورُ حتَّى لو كانَ مكانُ الهمزةِ هلْ لقيلَ فهَلْ مَنْ يمشِي مُكباً الخ والمُكِبُّ الساقطُ على وجهِهِ يقالُ أكبَّ خرَّ على وجهِهِ وحقيقته صار ذاكب ودخلَ في الكبِّ كأقشعَ الغمام اي صار ذاقشع والمَعْنَى أفمنْ يمشِي وهو يعثرُ في كلِّ ساعةٍ ويخرُّ على وجهِهِ في كلِّ خُطوةٍ لتوعرِ طريقِه واختلالِ قُواه أهدَى إلى المقصد الذي يؤمه ﴿أم من يَمْشِى سَوِيّاً﴾ أي قائماً سالماً من الخبطِ والعثارِ ﴿على صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ مستوِي الأجزاءِ لا عِوَجَ فيهِ ولا انحرافَ قيلَ خبرٌ من الثانيةِ محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الأُولَى عليهِ ولا حاجةَ إلى ذلكَ فإنَّ الثَّانيةَ معطوفةٌ على الأُولى عطف المفرد على المفردِ كقولِكَ أزيدٌ أفضلُ أم عمروٌ وقيل أُريدَ بالمكبِّ الأَعْمَى وبالسويِّ البصيرُ وقيلَ من يمشِي مُكباً هو الذي يُحشرُ على وجهِهِ إلى النَّارِ ومَنْ يمشِي سوياً الذي يُحشرُ على قدميهِ إلى الجنَّةِ
﴿قُلْ هُوَ الذى أَنشَأَكُمْ﴾ إنشاءً بديعاً ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع﴾ لتسمعُوا آياتِ الله وتمتثلُوا بما فيهَا من الأوامرِ والنواهِي وتتعظُوا بمواعظِهَا ﴿والأبصار﴾ لتنظرُوا بها إلى الآياتِ التكوينيةِ الشاهدةِ بشؤون الله عزَّ وجلَ ﴿والأفئدة﴾ لتتفكَّروا بهَا فيمَا تسمعونَهُ وتشاهدونَهُ من الآياتِ التنزيليةِ والتكوينيةِ وترتقُوا في معارجِ الإيمانِ والطاعةِ ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي باستعمالِهَا فيما خُلقتْ لأجله من الأمورِ المذكورةِ وقليلاً نعتٌ لمحذوفٍ وما مزيدةٌ لتأكيدِ القِلة أيُ شكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تشكرونَ وقيلَ القِلةُ عبارةٌ عن العدمِ
﴿قُلْ هُوَ الذى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض﴾ أي خلقكُم وكثركُم فيهَا لا غيرُهُ ﴿وإليه تحشرون﴾ للجزاء لا إلى غيرِهِ اشتراكاً أو استقلالاً فابنُوا أمورَكُم على ذلكَ
﴿وَيَقُولُونَ﴾ من فَرْط عتوِّهم وعِنادِهم ﴿متى هذا الوعد﴾ أيِ الحشرُ الموعودُ كما ينبىء عنه قوله تعالى وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ يخاطبونَ بهِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا
9
٦ سورة الملك (٢٦ ٢٩)
مشاركينَ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الوعدِ وتلاوةِ الآياتِ المتضمنةِ له وجوابُ الشرطِ محذوفٌ أي إنْ كنتُم صادقينَ فيما تخبرونَهُ من مجىءِ الساعةِ والحشرِ فبيِّنُوا وقتَهُ
10
﴿قُلْ إِنَّمَا العلم﴾ أي العلمُ بوقتِهِ ﴿عَندَ الله﴾ عزَّ وجلَّ لا يطلعُ عليهِ غيرُهُ كقولِهِ تعالَى قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى ﴿وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أنذركُم وقوعَ الموعودِ لا محالةَ وأما العلمُ بوقتِ وقوعِهِ فليسَ من وظائفِ الإنذارِ والفاءُ في قوله تعالى
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ﴾ فصيحةٌ معربةٌ عن تقديرِ جملتينِ وترتيبِ الشرطيةِ عليهِمَا كأنَّه قيلَ وقد أتاهُم الموعودُ فرأَوهُ فلما رأوه الى آخر كما مرَّ تحقيقُهُ في قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه إلاَّ أنَّ المقدرَ هُناكَ أمرٌ واقعٌ مرتبٌ على ما قبلَهُ بالفاءِ وهَهُنَا أمرٌ منزلٌ منزلةَ الواقعِ واردٌ على طريقةِ الاستئنافِ وقولُهُ تعالَى ﴿زُلْفَةً﴾ حالٌ من مفعولِ رَأَوْا إمَّا بتقديرِ المضافِ أيْ ذَا زُلفةٍ وقربٍ أو على أنَّه مصدرٌ بمَعْنَى الفاعلِ أي مُزدَلِفاً أو على أنَّه مصدرٌ نُعت بهِ مبالغةً أو ظرفٌ أيْ رَأَوهُ في مكانٍ ذِي زُلفةٍ ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ﴾ بأنْ غشيتها الكآبة ورهفها القَترُ والذلةُ ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهِم لذمِّهِم بالكُفرِ وتعليلِ المساءةِ بهِ ﴿وَقِيلَ﴾ توبيخاً لهم وتشديداً لعذابِهِم ﴿وقيل هذا الذى كنتم به تَدَّعُونَ﴾ أي تطلبُونَهُ في الدُّنيا وتستعجلونَهُ إنكاراً واستهزاءً على أنَّه تفتعلونَ من الدعاءِ وقيلَ هو من الدَّعْوَى أي تدَّعُونَ أنْ لا بعثَ ولا حشرَ وقُرِىءَ تَدْعُون هَذا وقَدْ رُويَ عن مجاهدٍ أن الموعودَ عذابُ يومِ بدرٍ وهو بعيد
﴿قل أرأيتم﴾ أي أخبروني ﴿إِنْ أَهْلَكَنِىَ الله﴾ أي أماتَنِي والتعبيرُ عنه بالإهلاكِ لما كانُوا يدعون عليه ﷺ وعلى المؤمنينَ بالهلاكِ ﴿وَمَن مَّعِى﴾ مِنَ المؤمنينَ ﴿أَوْ رَحِمَنَا﴾ بتأخيرِ آجالِنَا فنحنُ في جوارِ رحمَتِهِ متربصونَ لإحدَى الحُسنيينِ ﴿فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي لا ينجِّيكُم منهُ أحدٌ مِتنا أو بَقِينا ووضعُ الكافرينَ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهِم بالكفرِ وتعليلِ نَفي الإنجاءِ بهِ
﴿قُلْ هُوَ الرحمن﴾ أي الذي أدعُوكم إلى عبادَتِهِ مولى النعم كلها ﴿آمنا بِهِ﴾ وحدَهُ لَمَّا علمنَا أنَّ كلَّ ما سواهُ إما نعمةٌ أو مُنعَمٌ عليهِ ﴿وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ لا على غيرِه أصلاً لعلِمنا بأنَّ ما عداهُ كائناً ما كانَ بمعزلٍ من النفعِ والضُّرِّ ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ عن قريبٍ البتةَ ﴿مَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ﴾ منَّا ومنكُم وقُرِىءَ فسيعلمُونَ بالياءِ التحتانية
﴿قل أرأيتم﴾ أي أخبرونِي ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً﴾ أي غائراً في الأرضِ بالكليةِ وقيلَ بحيثُ لا تنالُهُ الدِّلاءُ وهو مصدر
10
٦٨ سور القلم (١ ٢)
وُصِفَ بِهِ ﴿فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ﴾ جارٍ أو ظاهرٍ سهلِ المأخذِ عن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ المُلكِ فكأنَّهُ أحيَا ليلةَ القدر
سورة القلم مكية الا من آية ١٧ الى آية ٣٣ ومن آية ٤٨ الى آية ٥٠ فمدنية وآياتها اثنتان وخمسون {بسم الله الرحمن الرحيم
11
Icon