ﰡ
اختلف في هذا الأمر بقيام الليل هل هو محكم أو منسوخ. فذهب جماعة إلى أنه محكم واختلفوا في تأويله. فذهب قوم إلى أن الأمر به أمر ندب قد كان لم يفرض قط. ويعضد قوله ما جاء في الصحاح من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة في رمضان خلف حصير احتجزه فصلى وصلى بصلاته ناس. ثم كثروا من الليلة القابلة ثم غص المسجد في الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصبوا بابه فخرج مغضبا وقال : " إنما تركت الخروج لأني خفت أن يفرض عليكم " ١. وفي لفظ الحديث أنه لم يكلمهم إلا بعد أن أصبح. وذهب قوم إلى أن الأمر أمر إيجاب وأن قيام الليل كان فرضا في وقت نزول الآية إلا أنه كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وبقي كذلك حتى توفي صلى الله عليه وسلم. وذهب قوم إلى أن الأمر أمر إيجاب أيضا وأن قيام الليل كان فرضا إذ نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه ولم يزل فرضا على جميع الناس ولكن ليس الليل كله. قال الحسن وابن سيرين : صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة. إلا أن الحسن قال : من قرأ مائة آية لم يحاجه القرآن. وذهب جماعة إلى أنه منسوخ واختلفوا في تأويلها أيضا. فقال بعضهم كانت صلاة الليل بالآية فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ثم نسخ عنه ولم يمت إلا والقيام له تطوع. وقال بعضهم كان فرضا على جميع الناس ثم نسخ. واختلف هؤلاء في مقدار مدة بقائه فرضا. قال ابن جبير عشر سنين. وقال ابن عباس وعائشة دام عاما. وقالت عائشة أيضا في رواية عنها دام ثمانية أشهر. وقال قتادة بقي عاما أو عامين. وجاء في بعض الأحاديث أنهم كانوا قد قاموا حتى تفطرت أقدامهم وانتفخت ثم نزل الناسخ لذلك وهو قوله تعالى في آخر السورة :﴿ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه… ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فاقرءوا ما تيسر منه ﴾. وقال بعضهم هو منسوخ بالصلوات الخمس. واختلف الذاهبون إلى هذا أيضا. فمنهم من قال نسخ الفرض فبقي مباحا فيكون قوله تعالى :﴿ فاقرءوا ما تيسر منه ﴾ أمر إباحة. ومنهم من قال : نسخ الفرض بفرض أخف منه فيكون قوله تعالى :﴿ فاقرءوا ما تيسر منه ﴾ أمر إيجاب، وهو قول ابن جبير وجماعة معه، قالوا وهو فرض لا بد منه ولو قدر خمسين آية. واستحسن هذا جماعة من العلماء. قال بعضهم : والركعتان بعد العتمة مع الوتر مدخلتان في حكم امتثال هذا الأمر ومن زاد زاده الله تعالى ثوابا. قال بعضهم : وهذا أول ما افترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين ثم نسخ ذلك فخفف ٢.
٢ راجع الإيضاح ص ٣٨٢، ٣٨٣، والتفسير الكبير ٣٠/ ١٧٢، ١٧٣..
استدل بعضهم بهذه الآية على أن القرآن بترتيل وتفهم أحسن من الهذ ورووا أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مبينة مرتلة لو شاء أحد أن يعد الحروف لعدها وردوا بذلك على من استحسن الهذ ١. وقد مضى الكلام على ذلك فلا معنى لإعادته.
اختلف في الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فذهب قوم إلى أنها منسوخة بآية القتال ١ لأن فيها مهادنة ٢ والمراد بالآية قريشا. وقال بعضهم قوله :﴿ واهجرهم هجرا جميلا ﴾ هو المنسوخ وأما الصبر فليس بمنسوخ لأنه قد يتوجه على ما يبقى حكمه. وقيل الآية كلها محكمة وفيما يتوجه من الهجر الجميل بين المسلمين. قال أبو الدرداء : إنا لنبش في وجوه أقوام وأن قلوبنا لتقليهم. والقول الأول في الآية أصح لأن الآية إنما هي في كفار قريش وردهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٢ راجع الإيضاح ص ٣٨٤..
قد تقدم الكلام على ما في هذه الآية من النسخ. وقد ذهب أبو حنيفة ومن تابعه إلى أن قوله تعالى :﴿ فاقرءوا ما تيسر منه ﴾ في صلاة الفريضة واستدلوا بذلك على أن القراءة في الصلاة غير وافية. وقد تقدم الكلام على ذلك بما أغنى عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض ﴾ :
ذكر الله تعالى الأعذار التي هي حائلة بين بني آدم وبين قيام الليل وهي المرض والضرب في الأرض وهو السفر في تجارة أو غزو. وفي هذه الآية فضيلة للضرب في الأرض للتجارة لسوقها في الآية مع الجهاد. وقال عبد الله بن عمر : أحب موت إلي بعد القتل في سبيل الله أن أموت وأنا أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر منه تأكيدا. والصلاة والزكاة هنا المفروضتان ثم أمر تعالى بالاستغفار في آخر الآية. قال بعض العلماء : فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ومن قوله تعالى :﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( ١٧ ) وبالأسحار هم يستغفرون ( ١٨ ) ﴾ [ الذاريات : ١٧، ١٨ ] وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون إلى الاستغفار إلى صلاة الصبح.