تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
.
لمؤلفه
الشربيني
.
المتوفي سنة 977 هـ
مكية، في قول الجمهور وقال الضحاك مدنية، قال النووي : وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحيها لكثرة ما اشتملت عليه من العلوم والخبرات، وهي تسع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ عالم الغيب فلا تخفى عليه خافية ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ جوده كل أنس وجنّ وملك ودابة ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولياءه بمعرفتهم إحسانه.
ﰡ
واختلف في قوله سبحانه وتعالى :﴿ سبح اسم ربك ﴾ فالأكثرون على أن المعنى : نزه ربك المحسن إليك بعد إيجادك على صفة الكمال عما لا يليق به، فاسم زائد، كقول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ***
وقيل : عَظِّمْ ربك ﴿ الأعلى ﴾ والاسم زائد كما مرّ، قصد به تعظيم المسمى، وذكر الطبري أن المعنى : نزه اسم ربك الأعلى عن أن تسمي به أحداً سواه. وقيل : نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم لذكره وقال الرازي : معنى ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ أي : نزِّهْهُ عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه. أما في ذاته فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض، وأما في صفاته فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهيةٌ ولا ناقصة، وأما في أفعاله فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور، وأما في أسمائه فأن لا تذكره سبحانه إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجهٍ من الوجوه، سواءٌ ورد الإذن فيها أم لم يرد، وأما في أحكامه سبحانه فأن تعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه بل لمحض المالكية. قال البغوي : ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحد، لأنّ أحداً لا يقول سبحان الله. وسبحان اسم ربنا إنما يقول : سبحان الله وسبحان ربنا. فكان معنى :﴿ سبح اسم ربك ﴾ اه. وكون الاسم عين المسمى أو غيره قد ذكرتها في مقدّمتي على البسملة والحمدلة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سبح أي : صل بأمر ربك. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين على أنّ المراد قل : سبحان ربي الأعلى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ فقال :«سبحان ربي الأعلى ». وعن عقبة بن عامر «أنه لما نزلت ﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ [ الواقعة : ٧٤ ]
قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجعلوها في ركوعكم ». ولما نزل ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾قال : اجعلوها في سجودكم ». وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك. وروي «أنّ أوّل من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل ».
ولما أمر تعالى بالتسبيح فكان سائلاً قال : الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة فما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال تعالى :﴿ الذي خلق فسوى ﴾. أي : أوجد من العدم فله صفة الإيجاد لكل ما أراده لا يعسر عليه شيء ﴿ فسوّى ﴾ أي : مخلوقه. وقال الرازي : يحتمل أن يريد الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه تعالى، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً : أحدها : اعتدال قامته وحسن خلقه، كما قال تعالى :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ [ التين : ٤ ] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ]. ثانيها : كل حيوان مستعدّ لنوع واحد من الأعمال فقط، أمّا الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات. ثالثها : أنه تعالى هيأه للتكليف والقيام بأداء العبادات. وقال بعضهم : خلق في أصلاب الآباء وسوّى في أرحام الأمّهات.
ومن حمله على جميع الحيوانات فمعناه : أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من الآلات والأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية : هو أنه تعالى قادرٌ على كل الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالأحكام والإتقان، مبرّأٌ عن النقص والاضطراب.
وقرأ ﴿ والذي قدر ﴾ الكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد قال البغوي : وهما بمعنى واحد، أي : أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها وغير ذلك من أحوالها، فجعل البطش لليد، والمشي للرجل، والسمع للأذن، والبصر للعين ونحو ذلك ﴿ فهدى ﴾ قال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراعيها. وقال مقاتل والكلبي : في قوله تعالى :﴿ فهدى ﴾ عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى، كما قال تعالى في سورة طه :﴿ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ] أي : الذكر للأنثى. وقال عطاء : جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له. وقيل : قدّر أقواتهم وأرزاقهم وهداهم لمعاشهم إن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً. وقال السدّي : قدّر مدّة الجنين في الرحم ثم هداه إلى الخروج من الرحم، ومن ذلك هدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته وأدويته وأمور دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض إلى معايشها ومصالحها.
يقال : إن الأفعى إذا أتى عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغض فيردّ إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
وقيل :﴿ فهدى ﴾ أي : دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالماً قادراً، والاستدلال بالخلق والهداية معتمد الأنبياء، قال إبراهيم عليه السلام ﴿ الذي خلقني فهو يهدين ﴾ [ الشعراء : ٧٨ ] وقال موسى عليه السلام لفرعون :﴿ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ].
ولما ذكر سبحانه ما يختص بالناس اتبعه ما يختص بالحيوان فقال تعالى :﴿ والذي أخرج المرعى ﴾ أي : أنبت ما ترعاه الدواب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المرعى الكلأ الأخضر.
﴿ فجعله ﴾ أي : بعد أطوار من زمن إخراجه بعد خضرته ﴿ غثاء ﴾ أي : جافاً هشيماً ﴿ أحوى ﴾ أي : أسود يابساً. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون أحوى حالاً من المرعى أي : أخرجه أحوى أي : أسود من شدّة الخضرة والري فجعله غثاء بعد حويه.
وقال ابن زيد : هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ولذهاب الدنيا بعد نضارتها.
وقوله تعالى :﴿ سنقرؤك فلا تنسى ﴾ بشارة من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإعطاء آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه، فهو نفيٌ أخبر الله تعالى أنّ نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينسى. وقيل : نهيٌ، والألف مزيدة للفاصلة كقوله تعالى :﴿ السبيلا ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ ] أي : فلا تفعله كرامةً، وتكريره لئلا ينساه، ومنعه مكي لأنه لا ينهى عما ليس باختياره. وأجيب : بأنّ هذا غير لازم ؛ إذ المعنى : النهي عن تعاطي أسباب النسيان وهو شائع. قال الرزاي : وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين.
الأوّل : أنه كان رجلاً أمّياً فحفظه لهذا الكتاب المطوّل من غير دراسة ولا تكرار خارق للعادة فيكون معجزاً.
الثاني : أنّ هذه السورة من أول ما نزل بمكة، فهذا إخبار عن أمر عجيب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع فكان هذا إخباراً، فيكون معجزاً.
وفي المشيئة في قوله تعالى :﴿ إلا ما شاء الله ﴾ أي : المَلِك الذي له الأمر كله وجوه : أحدها : التبرّك بهذه الكلمة كقوله تعالى :﴿ ولا تقولنّ لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً ٢٣ إلا أن يشاء الله ﴾ [ الكهف : ٢٣ ٢٤ ] فكأنه تعالى يقول : إني عالم بجميع المعلومات، وعالم بعواقب الأمور على التفصيل، ومع ذلك لا أخبر بوقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة، فأنت وأمّتك يا أشرف الخلق أولى بها.
ثانيها : قال الفرّاء : إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً ؛ إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى يصيره ناسياً لذلك لقدر عليه كقوله تعالى :﴿ ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك ﴾ [ الإسراء : ٨٦ ] ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك. ونظيره قوله تعالى :﴿ لئن أشركت ليحبطنّ عملك ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] مع أنه صلى الله عليه وسلم ما أشرك البتة ففائدة هذا الاستثناء أنّ الله تعالى يعرفه قدرته حتى يعلم أنّ عدم النسيان من فضل الله تعالى وإحسانه لا من قوّته.
ثالثها : أنّ الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوّز صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرمٌ بالغ في التثبت والتحفظ في جميع المواضع، فكان المقصود من ذكر الاستثناء بقاؤه صلى الله عليه وسلم على التيقظ في جميع الأحوال.
رابعها : أن ينساه بنسخ تلاوته وحكمه، وكان صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام خوف النسيان فكأنه قيل له : لا تعجل بها إنك لا تنسى ولا تتعب نفسك بالجهر بها.
﴿ إنه ﴾ أي : الذي مهما شاء كان ﴿ يعلم الجهر ﴾ أي : القول والفعل ﴿ وما يخفى ﴾ أي : منهما، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، وما يخفى ما نسخ من صدرك.
وقوله تعالى :﴿ ونيسرك لليسرى ﴾ عطف على سنقرؤك، فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما من الجملة اعتراض. قال الضحاك : واليسرى هي الشريعة اليسرى وهي الحنيفية السهلة.
وقال ابن مسعود : اليسرى الجنة، أي : نيسرك إلى العمل المؤدّي إلى الجنة، وقيل : اليسرى الطريقة اليسرى، وهي أعمال الخير.
والأمر في قوله تعالى :
﴿ فذكر ﴾ للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي : فذكر بالقرآن
﴿ إن نفعت الذكرى ﴾ أي : الموعظة، وإن شرطية، وفيه استبعاد لتذكرهم. ومنه قول القائل :
لقد أسمعت لو ناديت حياً | ولكن لا حياة لمن تنادي |
ولأنه صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّاً وطغياناً، وكان صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفاً ويزداد جهداً في تذكيرهم، وحرصاً عليه فقيل : إن نفعت الذكرى وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير. وقيل : إن بمعنى إذ كقوله تعالى :
﴿ وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾ [ آل عمران : ١٣٩ ] وقيل : بعده شيء محذوف تقديره إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. كقوله تعالى :
﴿ سرابيل تقيكم الحرّ ﴾ [ النحل : ٨١ ] أي : البرد وقاله الفراء والنحاس. وقيل : إن بمعنى ما لا بمعنى الشرط لأنّ الذكرى باقية بكل حال.
ثم بين تعالى من تنفعه الذكرى بقوله سبحانه :﴿ سيذكر ﴾ أي : بوعد لا خلف فيه ﴿ من يخشى ﴾ أي : يخاف الله تعالى فهي كآية ﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ [ ق : ٤٥ ] وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجب عليه تذكيرهم نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم. وقال ابن عباس : نزلت في ابن أمّ مكتوم. وقيل : في عثمان بن عفان. قال الماوردي : وقد تذكر من يرجوه إلا أن تذكر الخاشع أبلغ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء. وقال القشيري : المعنى : عمم أنت بالتذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء. فإن قيل : التذكير إنما يكون بشيء قد علم، وهؤلاء لم يزالوا كفاراً معاندين أجيب : بأنّ ذلك لظهوره وقوّة دليله، كأنه معلوم لكنه يزول بسبب التقليد والفساد.
تنبيه : السين في قوله تعالى :﴿ سيذكر ﴾ يحتمل أن تكون بمعنى سوف، وسوف من الله تعالى واجب كقوله تعالى :﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ من خشي فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر.
ولما بين تعالى من ينتفع بالذكرى بين من لا ينتفع بها بقوله تعالى :﴿ ويتجنبها ﴾ أي : الذكرى أن يتركها جانباً لا يلتفت إليها ﴿ الأشقى ﴾.
﴿ الذي يصلى النار ﴾ وهو الكافر. فإن قيل : الأشقى يستدعي وجود شقي فكيف قال هذا القسم ؟ أجيب : بأنّ لفظ الأشقى من غير مشاركة كقوله تعالى :﴿ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرّاً وأحسن مقيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وهو أهون عليه ﴾ [ الروم : ٢٧ ]. قال الرازي : الفرق ثلاثة العارف والمتوقف والمعاند، فالسعيد هو العارف، والمتوقف له بعض الشقاوة، والأشقى هو المعاند. وقال الزمخشري : الأشقى هو الكافر ؛ لأنه أشقى من الفاسق، أو الذي هو أشقى الكفرة ؛ لتوغله في معاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعقبة بن ربيعة.
واختلف في قوله تعالى :﴿ الكبرى ﴾ أي : العظمى على وجوه : أحدها : قال الحسن : هي نار جهنم، والصغرى نار الدنيا. ثانيها : أنّ في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة، فكما أنّ الكافر أشقى العصاة فكذلك يصلى أعظم النيران. ثالثها : أنّ النار الكبرى هي النار السفلى فهي نصيب الكفار، كما قال تعالى :﴿ إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ [ النساء : ١٤٥ ].
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ ثم لا يموت فيها ولا يحيى ﴾ يقتضي أن ثم حالة غير الحياة والموت، وذلك غير معقول. أجيب : عن ذلك بوجهين : أحدهما : لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه كما قال تعالى :﴿ لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ﴾ [ فاطر : ٣٦ ] وهذا جاء على مذهب العرب يقولون للمبتلى بالبلاء الشديد لا هو حيّ ولا هو ميت. ثانيهما : أنّ نفس أحدهم في النار في حلقة لا تخرج فيموت، ولا ترجع إلى موضعها فيحيا.
تنبيه : قوله تعالى : ثم للتراخي بين الرتب في الشدّة.
ولما ذكر تعالى وعيد من أعرض عن النظر في دلائل الله تعالى أتبعه بالوعد لضدّه فقال تعالى :﴿ قد أفلح ﴾ أي : فاز بكل مراد ﴿ من تزكى ﴾ أي : تطهر من الكفر بالإيمان ؛ لما روي عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قد أفلح من تزكى وشهد أي لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله ». وقيل : تطهر للصلاة وأدّى الزكاة.
﴿ وذكر اسم ربه ﴾ أي : بقلبه ولسانه مكبراً ﴿ فصلى ﴾ أي : الصلوات الخمس. قال الزمخشري : وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح وعلى أنها ليست من الصلاة ؛ لأنّ الصلاة معطوفة عليها. وقال قتادة : تزكى : عَمِلَ صالحاً. وعن عطاء نزلت في صدقة الفطر. قال ابن سيرين : قد أفلح من تزكى، قال : خرج فصلى بعد ما أدّى زكاة الفطر وصلى صلاة العيد. قال بعضهم : لا أدري ما وجه هذا التأويل فإنّ هذه السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. وأجاب البغوي : بأنه يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم كقوله تعالى :﴿ وأنت حل بهذا البلد ﴾ [ البلد : ٢ ] والسورة مكية وظهر أثر الحل يوم الفتح قال صلى الله عليه وسلم :«أحلت لي ساعة من نهار ». وقيل : المراد زكاة الأعمال لا زكاة الأموال، أي : زكى أعماله من الرياء والتقصير. وروي عن عطاء أنه قال : إنّ هذه الآية نزلت في عثمان، وذلك أنه كان بالمدينة منافق له نخلة مائلة إلى دار رجل من الأنصار، إذا هبت الريح تساقط منها بسر ورطب في دار الأنصاري فيأكل هو وعياله من ذلك، فخاصمه المنافق، فذكر الأنصاري ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل خلف المنافق وهو لا يعلم نفاقه فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ أخاك الأنصاري ذكر أنّ بسرك ورطبك يقع في منزله فيأكل هو وعياله منه فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها ؟ قال : أبيع عاجلاً بآجل لا أفعل » فذكروا أنّ عثمان قد أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته. ويقول فيه :﴿ قد أفلح من تزكى ﴾ وفي المنافق ﴿ ويتجنبها الأشقى ﴾ وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر
وقرأ ﴿ بل تؤثرون الحياة الدنيا ﴾ أبو عمرو بياء الغيبة، والباقون بتاء الخطاب، ومعناه على القراءة الأولى : بل تؤثرون الأشقون، وعلى القراءة الثانية : بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا بالعز الحاضر مع أنها شرٌّ وفانية اشتغالاً بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات على الاستكثار من الثواب.
﴿ والآخرة ﴾، أي : والحال أنّ الدار التي هي غاية القصد المبرأة عن العيب المنزهة عن الخروج عن الحكمة ﴿ خير ﴾، أي : من الدنيا ﴿ وأبقى ﴾ لأنها تشتمل على السعادة الجسمانية، والروحانية، ليست كذلك فالآخرة خير من الدنيا ولأنّ الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام والآخرة ليست كذلك، ولأنّ الدنيا فانية والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني.
وعن عمر : ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية فقال : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ قلنا : لا. قال : لأنّ الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وأنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل.
والإشارة في قوله تعالى :﴿ إنّ هذا لفي الصحف الأولى ﴾ إلى قوله ﴿ قد أفلح من تزكى ﴾ إلى قوله ﴿ خير وأبقى ﴾، أي : هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل : إلى ما في السورة كلها، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس. وقال الضحاك : إنّ هذا القرآن لفي الصحف الأولى ولم يرد أنّ هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما معناه أنّ معنى هذا الكلام في تلك الصحف.
ثم بين تلك الصحف وهي المنزلة قبل القرآن بقوله تعالى :﴿ صحف إبراهيم ﴾ وقدمه لأنّ صحفه أقرب إلى الوعظ كما نطق به حديث أبي ذر ﴿ وموسى ﴾ وختم به لأنّ الغالب على كتابة الأحكام والمواعظ فيه قليلة، ومنها الزواجر البليغة كاللعن لمن خالف أوامر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وروي عن أبيّ بن كعب «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أنزل الله تعال من كتاب ؟ فقال : مائة وأربعة كتب، منها على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان ». وقيل : في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه. عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه.