تفسير سورة هود

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة هود من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سُورَةُ هُودٍ
فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ بَيَانٌ لِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ) ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُعْطَى إلَّا عَلَى وَجْهِ قَصْدِهِ، وَبِحُكْمِ مَا يَنْعَقِدُ ضَمِيرُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْأُمَمِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا يُعْطَى ثَوَابَ عَمَلِهِ فِيهَا، وَلَا يُبْخَسُ مِنْهُ شَيْئًا.
وَاخْتُلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ التَّوْفِيَةِ ؛ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ صِحَّةُ بَدَنِهِ أَوْ إدْرَارُ رِزْقِهِ. وَقِيلَ : هَذِهِ الْآيَةُ مُطْلَقَةٌ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي فِي حم عسق :﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ ﴾ الْآيَةُ قَيَّدَهَا وَفَسَّرَهَا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ سُبْحَانَ، وَهِيَ قَوْلُهُ ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ ﴾ إلَى :﴿ مَحْظُورًا ﴾ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْوِي وَيُرِيدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُرِيدُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَقِيلَ : إنَّهُ الْكَافِرُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ حُكْمُهُ الْأَفْضَلُ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ فِي الْكَفَرَةِ، وَفِي أَهْلِ الرِّيَاءِ. قَالَ الْقَاضِي : هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَنْوِي غَيْرَ اللَّهِ بِعَمَلِهِ، كَانَ مَعَهُ أَصْلُ إيمَانٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. ( وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«قَالَ اللَّهُ : إنِّي لَا أَقْبَلُ عَمَلًا أُشْرِكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنْ الشِّرْكِ ».
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَزَلَ إلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ : أَلَمْ أُعَلِّمْك مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ : فَمَاذَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت ؟ قَالَ : كُنْت أَقُومُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : كَذَبْتَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ : بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ قَارِئٌ ؛ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ.
وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَوَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْك حَتَّى لَمْ أَدَعَكَ تَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى يَا رَبِّ. فَيَقُولُ : فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُك ؟ قَالَ : كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ : كَذَبْت، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْت : بَلْ أَرَدْت أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ لَك ذَلِكَ.
وَيُؤْتَى بِاَلَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ : فِيمَاذَا قُتِلْت ؟ فَيَقُولُ : أُمِرْت بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِك فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ. فَيَقُولُ اللَّهُ : كَذَبْت، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ : كَذَبْت، وَيَقُولُ اللَّهُ : بَلْ أَرَدْت أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيَّ وَقَالَ :( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا نَصٌّ فِي مُرَادِ الْآيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
سُورَةُ هُودٍ
فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ
الآية الثانية : في قصة نوح :
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ ابْنِ أَشْرَسَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ مَلَئُوا الْأَرْضَ حَتَّى مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ، فَمَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَنْزِلُوا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ أَنْ يَنْزِلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ، فَلَبِثَ نُوحُ يَغْرِسُ الشَّجَرَ مِائَةَ عَامٍ لِعَمَلِ السَّفِينَةِ، ثُمَّ جَمَعَهَا يَيْبَسُهَا مِائَةَ عَامٍ، وَقَوْمُهُ يَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَمَّا رَأَوْهُ يَصْنَعُ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ فِيهِمْ مَا كَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ :﴿ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَوْحَى اللَّهُ إلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَاصْنَعْ الْفُلْكَ. قَالَ : يَا رَبُّ، مَا أَنَا بِنَجَّارٍ قَالَ : بَلَى، فَإِنَّ ذَلِكَ بِعَيْنِي ؛ فَأَخَذَ الْقَدُومَ، فَجَعَلَتْ يَدُهُ لَا تُخْطِئُ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ بِهِ فَيَقُولُونَ : هَذَا النَّبِيُّ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ قَدْ صَارَ نَجَّارًا، فَعَمِلَهَا فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، فَحَمَلَ فِيهَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْمَاءَ مِنْ السَّمَاءِ، وَفَتَحَ الْأَرْضَ، وَلَجَأَ ابْنُ نُوحٍ إلَى جَبَلٍ، فَعَلَا الْمَاءُ عَلَى الْجَبَلِ سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ :﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ﴾ يَعْنِي عَنْهُ إلَى قَوْلِهِ :﴿ مِنْ الْجَاهِلِينَ ﴾.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ لِأَجْلِ قَوْلِ اللَّهِ :﴿ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ ﴾ إلَى :﴿ وَأَهْلَكَ ﴾ وَتَرَكَ نُوحٌ قَوْلَهُ : إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ اسْتِثْنَاءً عَائِدًا إلَى قَوْلِهِ : مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَحَمَلَهُ الرَّجَاءُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَائِدٌ إلَى الْكُلِّ، وَأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ، كَمَا سَبَقَ عَلَى بَعْضٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، وَأَنَّ الَّذِي سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ أَهْلِهِ هُوَ ابْنُهُ تَسْلِيَةً لِلْخَلْقِ فِي فَسَادِ أَبْنَائِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا صَالِحِينَ، وَنَشَأَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الِابْنَ مِنْ الْأَهْلِ اسْمًا وَلُغَةً، وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ وَذَلِكَ نَصٌّ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى كُلِّ أَمْرٍ.
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ : كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي كُلِّ أَحْيَانِهِ، حَتَّى قَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّهُ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ مَعَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالنِّيَّةِ، وَمِنْ أَشَدِّهِ فِي النَّدْبِ ذِكْرُ اللَّهِ فِي ابْتِدَاءِ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، وَمِنْ الْوُجُوبِ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَعْدِيدِ مَوَاضِعِهِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ : الِاسْتِعْمَارُ طَلَبُ الْعِمَارَةِ، وَالطَّلَبُ الْمُطْلَقُ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْوُجُوبِ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : تَأْتِي كَلِمَةُ اسْتَفْعَلَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى طَلَبَ الْفِعْلَ، كَقَوْلِهِ : اسْتَحْمَلْت فُلَانًا أَيْ طَلَبْت مِنْهُ حُمْلَانًا.
وَمِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى اعْتَقَدَ، كَقَوْلِهِمْ : اسْتَسْهَلْت هَذَا الْأَمْرَ، أَيْ اعْتَقَدْته سَهْلًا، أَوْ وَجَدْته سَهْلًا، وَاسْتَعْظَمْته أَيْ اعْتَقَدْته عَظِيمًا.
وَمِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَصَبْت الْفِعْلَ، كَقَوْلِك : اسْتَجْدَتْهُ، أَيْ أَصَبْته جَيِّدًا، وَقَدْ يَكُونُ طَلَبْته جَيِّدًا.
وَمِنْهَا بِمَعْنَى فَعَلَ، كَقَوْلِهِ، قَرَّ فِي الْمَكَانِ وَاسْتَقَرَّ. وَقَالُوا : إنَّ قَوْلَهُ يَسْتَهْزِئُونَ، وَيَسْتَحْسِرُونَ مِنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اسْتَعْمَرَكُمْ ﴾ : خَلَقَكُمْ لِعِمَارَتِهَا عَلَى مَعْنَى اسْتَجْدَتْهُ وَاسْتَسْهَلْته، أَيْ أَصَبْته جَيِّدًا وَسَهْلًا، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ فِي الْخَالِقِ، فَتَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ خُلِقَ لِأَنَّهُ الْفَائِدَةُ، وَيُعَبَّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ مَجَازًا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ طَلَبَ مِنْ اللَّهِ ضِمَارَتَهَا ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ، أَمَّا إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ اسْتَدْعَى عِمَارَتَهَا فَإِنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ إذَا كَانَ أَمْرٌ، أَوْ طَلَبَ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى رَغْبَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ.
الآية الرابعة : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ إعْرَابَ الْآيَةِ، وَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيُّ : إنَّهُ عَمِلَ فِي " سَلَامٍ " الْأَوَّلِ الْقَوْلُ، كَأَنَّهُ قَالَ : قَالُوا قَوْلًا وَسَلَّمُوا سَلَامًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ : مَعْنَاهُ سلمناسَلَامًا. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ : إنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَظْهَرُ وُجُوهِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَمِلَ فِيهِ الْقَوْلُ كَانَ عَلَى مَعْنَى السَّلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُ لَفْظِهِ، كَأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ : قُلْت حَقًّا، وَلَمْ يَنْطِقْ بِالْحَاءِ وَالْقَافِ، وَإِنَّمَا قُلْت قَوْلًا مَعْنَاهُ حَقٌّ، وَهُمْ إنَّمَا تَكَلَّمُوا بِسَلَامٍ، وَلِذَا أَجَابَهُمْ بِالسَّلَامِ، وَعَلَى هَذَا جَرَى قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ. قَالَ : فَإِنَّهُ يَقُولُ أَمْرِي سَلَامٌ، أَجَابَهُمْ عَلَى الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا قَوْلُهُ :﴿ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ ﴾. يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَلَائِكَةِ هِيَ تَحِيَّةُ بَنِي آدَمَ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : الصَّحِيحُ أَنَّ " سَلَامًا " هَاهُنَا مَعْنَى كَلَامِهِمْ لَا لَفْظُهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قَوْلِهِ :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾، وَلَوْ كَانَ لَفْظُ كَلَامِهِمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذِكْرَ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ ذِكْرَ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ سَلَامٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ اللَّفْظِ قَالَ بِعَيْنِهِ، فَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ الْمَلَائِكَةِ :﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾. ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾، وَأَبْدَعُ مِنْهُ فِي الدَّلَالَةِ أَنَّهُ قَالَ :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ﴾. وَقَالَ أَيْضًا :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إلْ يَاسِينَ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْلُهُ :﴿ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ ﴾ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ يُرَدُّ بِمِثْلِهِ، كَمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِي قَالَ : كُنْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَيُسَلَّمُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَيُرَدُّ كَمَا يُقَالُ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : هَذَا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ هَاهُنَا سَلَامٌ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾. قَدَّمَهُ إلَيْهِمْ نُزُلًا وَضِيَافَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
وَفِي الإسرائليات أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ وَحْدَهُ، فَإِذَا حَضَرَ طَعَامُهُ أَرْسَلَ يَطْلُبُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ ؛ فَلَقِيَ يَوْمًا رَجُلًا فَلَمَّا جَلَسَ مَعَهُ عَلَى الطَّعَامِ قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ : سَمِّ اللَّهَ. قَالَ لَهُ الرَّجُلُ : لَا أَدْرِي مَا اللَّهُ ؛ قَالَ لَهُ : فَاخْرُجْ عَنْ طَعَامِي. فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ نَزَلَ إلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ : يَقُولُ اللَّهُ : إنَّهُ يَرْزُقُهُ عَلَى كُفْرِهِ مَدَى عُمُرِهِ، وَأَنْتَ بَخِلْت عَلَيْهِ بِلُقْمَةٍ، فَخَرَجَ إبْرَاهِيمُ مُسْرِعًا فَرَدَّهُ، فَقَالَ : ارْجِعْ قَالَ : لَا أَرْجِعُ ؛ تُخْرِجُنِي ثُمَّ تَرُدُّنِي لِغَيْرِ مَعْنًى، فَأَخْبَرَهُ بِالْأَمْرِ، فَقَالَ : هَذَا رَبٌّ كَرِيمٌ. آمَنْت. وَدَخَلَ وَسَمَّى اللَّهَ، وَأَكَلَ مُؤْمِنًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ وَاجِبَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ ). وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ :( ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ ). وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ.
وَذَهَبَ عُلَمَاءُ الْفِقْهِ إلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ لَا تَجِبُ ؛ إنَّمَا هِيَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ؛ وَالْكَرَامَةُ مِنْ خَصَائِصِ النَّدْبِ دُونَ الْوُجُوبِ.
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : إنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَثْبُتْ وَالنَّاسِخَ لَمْ يَرِدْ.
أَمَّا إنَّهُ قَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : نَزَلْنَا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَفْنَاهُمْ، فَأَبَوْا، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَقَالُوا : يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ ؛ إنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَقَدْ سَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنِّي وَاَللَّهِ أَرْقِي، وَلَكِنْ وَاَللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعَلًا. فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا أُنْشِطُ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ. قَالَ : فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ : اقْسِمُوا، وَقَالَ الَّذِي رَقَى : لَا تَفْعَلُوا، حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ. فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ : وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ ثُمَّ قَالَ : اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : فَاسْتَضَفْنَاهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُونَا، ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الضِّيَافَةَ لَوْ كَانَتْ حَقًّا لَلَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَبَوْا وَبَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الضِّيَافَةَ حَقِيقَةً فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْقُرَى حَيْثُ لَا طَعَامَ وَلَا مَأْوَى، بِخِلَافِ الْحَوَاضِرِ، فَإِنَّهَا مَشْحُونَةٌ بِالْمَأْوِيَّاتِ وَالْأَقْوَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّيْفَ كَرِيمٌ، وَالضِّيَافَةَ كَرَامَةٌ، فَإِنْ كَانَ عَدِيمًا فَهِيَ فَرِيضَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾
قَالَ كُبَرَاءُ النَّحْوِيِّينَ : فَمَا لَبِثَ حَتَّى جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، وَأَعْجَبُ لَهُمْ كَيْفَ اسْتَجَازُوا ذَلِكَ مَعَ سِعَةِ مَعْرِفَتِهِمْ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ مَا قَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذِكْرَهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ مَوْضِعَ " أَنْ جَاءَ " مَنْصُوبٌ عَلَى حُكْمِ الْمَفْعُولِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : مُبَادَرَةُ إبْرَاهِيمَ بِالنُّزُولِ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُمْ أَضْيَافٌ مَشْكُورَةٌ مِنْ اللَّهِ مَتْلُوَّةٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي الثَّنَاءِ بِهَا عَلَيْهِ، تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي إنْزَالِهِ فِيهِ حِينَ قَالَ فِي مَوْضِعِ :﴿ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾. وَفِي آخَرَ : فَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أَيْ مَشْوِيٍّ، وَوَصَفَهُ بِالطِّيبَيْنِ : طِيبِ السِّمَنِ، وَطِيبِ الْعَمَلِ بِالْإِشْوَاءِ، وَهُوَ أَطْيَبُ لِلْمُحَاوَلَةِ فِي تَنَاوُلِهِ ؛ فَكَانَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ : الضِّيَافَةُ، وَالْمُبَادَرَةُ بِهَا جَيِّدًا لِسِمَنٍ فِيهَا وَصْفًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : كَانَتْ ضِيَافَةٌ قَلِيلَةٌ فَشَكَرَهَا الْحَبِيبُ مِنْ الْحَبِيبِ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ بِالظَّنِّ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ وَبِالْقِيَاسِ فِي مَوْضِعِ النَّقْلِ، مِنْ أَيْنَ عُلِمَ أَنَّهُ قَلِيلٌ ؟ بَلْ قَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا ثَلَاثَةً : جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ، وَعِجْلٌ لِثَلَاثَةٍ عَظِيمٌ، فَمَا هَذَا التَّفْسِيرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِالرَّأْيِ ؟ هَذَا بِأَمَانَةِ اللَّهِ هُوَ التَّفْسِيرُ الْمَذْمُومُ، فَاجْتَنِبُوهُ فَقَدْ عَلِمْتُمُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : السُّنَّةُ إذَا قُدِّمَ لِلضَّيْفِ الطَّعَامُ أَنْ يُبَادِرَ الْمُقَدَّمُ إلَيْهِ بِالْأَكْلِ مِنْهُ، فَإِنَّ كَرَامَةَ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ الْمُبَادَرَةُ بِالْقَبُولِ، فَلَمَّا قَبَضَ الْمَلَائِكَةُ أَيْدِيَهُمْ نَكِرَهُمْ إبْرَاهِيمُ ؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ الْعَادَةِ، وَخَالَفُوا السُّنَّةَ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُمْ مَكْرُوهٌ يَقْصِدُونَهُ. وَقَدْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ- كَمَا يَسَّرَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ أَنْ يَتَشَكَّلُوا فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّ جَسَدًا وَهَيْئَةً- أَنْ يُيَسِّرَ لَهُمْ أَكْلَ الطَّعَامِ، إلَّا أَنَّهُ فِي قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، أَرْسَلَهُمْ فِي صِفَةِ الْآدَمِيِّينَ، وَتَكَلَّفَ إبْرَاهِيمُ الضِّيَافَةَ حَتَّى إذَا رَأَى التَّوَقُّفَ، وَخَافَ جَاءَتْهُ الْبُشْرَى فَجْأَةً، وَأَكْمَلُ الْمُبَش
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنَّك لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَانَ شُعَيْبٌ كَثِيرُ الصَّلَوَاتِ مُوَاظِبًا لِلْعِبَادَةِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ عَيَّرُوهُ بِمَا رَأَوْهُ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الطَّاعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : كَانُوا يَكْسِرُونَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ. وَكَذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ ؛ وَكَسْرُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ ؛ لِأَنَّهَا الْوَاسِطَةُ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ وَالسَّبِيلُ إلَى مَعْرِفَةِ كَمِّيَّةِ الْأَمْوَالِ وَتَنْزِيلِهَا فِي الْمُعَارَضَاتِ، حَتَّى عَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنْ يَقُولُوا إنَّهَا الْقَاضِي بَيْنَ الْأَمْوَالِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَقَادِيرِ أَوْ جَهْلِهَا، وَإِنَّ مَنْ حَبَسَهَا وَلَمْ يَصْرِفْهَا فَكَأَنَّهُ حَبَسَ الْقَاضِيَ وَحَجَبَهُ عَنْ النَّاسِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إذَا كَانَتْ صِحَاحًا قَامَ مَعْنَاهَا، وَظَهَرَتْ فَائِدَتُهَا، فَإِذَا كُسِرَتْ صَارَتْ سِلْعَةً، وَبَطَلَتْ الْفَائِدَةُ فِيهَا، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ ؛ فَلِأَجْلِهِ حُرِّمَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : قَطْعُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفَسَّرَهُ بِهِ. وَمِثْلُهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ :﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا ﴾.
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : كَانُوا يَكْسِرُونَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَالْمَعَاصِي تَتَدَاعَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ أَصْبَغُ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ خَالِدٍ بْنِ جُنَادَةَ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ الْعُتَقِيِّ : مَنْ كَسَرَهَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ اعْتَذَرَ بِالْجَهَالَةِ لَمْ يُعْذَرْ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَوْضِعِ عُذْرٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، فَلِأَنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً ؛ وَالْكَبَائِرُ تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ دُونَ الصَّغَائِرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَا يُقْبَلُ عُذْرُهُ بِالْجَهَالَةِ فِي هَذَا فَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بَيِّنٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ. وَإِنَّمَا يُقْبَلُ الْعُذْرُ إذَا ظَهَرَ الصِّدْقُ فِيهِ أَوْ خَفِيَ وَجْهُ الصِّدْقِ فِيهِ، وَكَانَ اللَّهُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا كَانَ هَذَا مَعْصِيَةً وَفَسَادًا يَرُدُّ الشَّهَادَةَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. اُخْتُلِفَ فِي عُقُوبَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ مَالِكٌ : يُعَاقِبُهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ هَكَذَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِلْعُقُوبَةِ. الثَّانِي : قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَنَحْوُهُ عَنْ سُفْيَانَ : إنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ قَدْ جُلِدَ، فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : رَجُلٌ كَانَ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : هَذَا مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يُنْكِرْ جَلْدَهُ.
الثَّالِثُ : قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ التُّجِيبِيُّ : كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَاعِدًا، وَهُوَ إذْ ذَاكَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ، وَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَهُ وَحَلَقَهُ، فَأَمَرَ فَطِيفَ بِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ : هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ : إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَقْطَعَ يَدَك إلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ تَقَدَّمْت فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَقَدْ تَقَدَّمْت فِي ذَلِكَ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَقْطَعْ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا أَدَبُهُ بِالسَّوْطِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَأَمَّا حَلْقُهُ فَقَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ كُنْت أَيَّامَ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَضْرِبُ وَأَحْلِقُ ؛ وَإِنَّمَا كُنْت أَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ يُرَبِّي شَعْرَهُ عَوْنًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَطَرِيقًا إلَى التَّجَمُّلِ بِهِ فِي الْفُسُوقِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ طَرِيقَةٍ لِلْمَعْصِيَةِ أَنْ يَقْطَعَ إذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الْبَدَنِ. وَأَمَّا قَطْعُ يَدِهِ فَإِنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ عُمَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ فَصْلِ السَّرِقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ غَيْرُ كَسْرِهَا، فَإِنَّ الْكَسْرَ إفْسَادُ الْوَصْفِ وَالْقَرْضَ تَنْقِيصُ الْقَدْرِ، فَهُوَ أَخْذُ مَالٍ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِفَاءِ. فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ مِنْ حِرْزٍ، وَالْحِرْزُ أَصْلٌ فِي الْقَطْعِ. قُلْنَا : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ رَأَى أَنَّ تَهْيِئَتَهَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا حِرْزٌ لَهَا، وَحِرْزُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ. وَقَدْ أَنْفَذَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فِي قَطْعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الْمَالِكِيَّةُ : إنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ خَوَاتِيمُ اللَّهِ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ. وَلَوْ قُطِعَ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مَنْ كَسَرَ خَاتَمًا لِلَّهِ لَكَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، إذْ مَنْ كَسَرَ خَاتَمَ سُلْطَانٍ عَلَيْهِ اسْمُهُ أُدِّبَ، وَخَاتَمُ اللَّهِ تُقْضَى بِهِ الْحَوَائِجُ، فَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْعُقُوبَةِ. وَأَرَى الْقَطْعَ فِي قَرْضِهَا دُونَ كَسْرِهَا، وَقَدْ كُنْت أَفْعَلُ ذَلِكَ أَيَّامَ تَوْلِيَتِي الْحُكْمَ، إلَّا أَنِّي كُنْت مَحْفُوفًا بِالْجُهَّالِ، لَمْ أُجِبْ بِسَبَبِ الْمَقَالِ لِلْحِسْدَةِ الضُّلَّالِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ يَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فَلْيَفْعَلْهُ احْتِسَابًا لِلَّهِ تَعَالَى.
الْآيَةُ السَّادسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الرُّكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّقَلَةِ لِلتَّفْسِيرِ، وَحَقِيقَتُهُ الِاسْتِنَادُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قِيلَ فِي الظَّالِمِينَ إنَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ. وَقِيلَ : إنَّهُمْ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنْكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَقَالُوا : أَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذُنُوبِهِمْ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالَحَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَا يُرْكَنُ إلَيْهِ فِيهَا.
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَصْحَبَ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كُفْرٌ ؛ وَلَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ قَالَ اللَّهُ فِي الْأَوَّلِ :﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْآيَةُ إنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِيهِمْ وَفِي الْعُصَاةِ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ قَوْلِهِ :﴿ وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا. . . ﴾. وَقَدْ قَالَ حَكِيمٌ :
عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ مُقْتَدٍ
وَالصُّحْبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ مَوَدَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ عَنْ ضَرُورَةٍ وَتَقِيَّةٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَلَى الْمَعْنَى، وَصُحْبَةُ الظَّالِمِ عَلَى التَّقِيَّةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ النَّهْيِ لِحَالِ الِاضْطِرَارِ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ :( جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْت مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، وَهَا أَنَا فَاقْضِ فِي بِمَا قَضَيْت. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَقَدْ سَتَرَك اللَّهُ لَوْ سَتَرْت عَلَى نَفْسِك. فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَأُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :﴿ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ. . . ﴾. فَأَتْبَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَدَعَاهُ فَتَلَا عَلَيْهِ :﴿ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ. . . ﴾ الآية. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : هَذَا لَهُ خَاصَّةً. فَقَالَ : بَلْ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ عَامَّةً ). وَهَذَا صَحِيحٌ رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وأَقِمْ الصَّلَاةَ ﴾ هَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الصَّلَاةِ وَهِيَ فِي كِتَابِ اللَّهِ سَبْعُ آيَاتٍ مُتَضَمِّنَةٍ ذِكْرَ الصَّلَاةِ هَذِهِ هِيَ الْآيَةُ الْأُولَى.
الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ﴾. الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ﴾ إلَى :﴿ تَرْضَى ﴾. الرَّابِعَةُ :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ إلَى :﴿ السُّجُودِ ﴾. الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ﴾ إلَى :﴿ تُظْهِرُونَ ﴾. السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنْ اللَّيْلِ ﴾ الآية. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ السِّتُّ هِيَ الْمُسْتَوْفِيَةُ لِجَمِيعِهَا، وَكُلُّ آيَةٍ مِنْهَا تَأْتِي مَشْرُوحَةً فِي مَكَانِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ صَلَاةَ الْغَدَاةِ وَصَلَاةَ الْعَشِيِّ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّانِي : أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ.
الثَّالِثُ : تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَصَلَاةِ اللَّيْلِ اخْتِلَافًا لَا يُؤَثِّرُ، فَتَرَكْنَا اسْتِيفَاءَهُ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ.
الثَّانِي : أَنَّهُمَا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَكَذَلِكَ أَفْرَدُوا بِالِاخْتِلَافِ زُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ، فَمِنْ قَائِلٍ : إنَّهَا الْعَتَمَةُ، وَمِنْ قَائِلٍ : إنَّهَا الْمَغْرِبُ وَالْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، فَلَا يَضُرُّ الْخِلَافُ فِي تَفْصِيلِ تَأْوِيلِهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالزُّلَفِ، فَإِذَا أَرَدْنَا سُلُوكَ سَبِيلِ التَّحْقِيقِ قُلْنَا : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَقَدْ أَخْرَجَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ عَنْهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الصُّبْحُ وَالظُّهْرُ فَقَدْ أَسْقَطَ الْعَصْرَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْعَصْرُ وَالصُّبْحُ فَقَدْ أَسْقَطَ الظُّهْرَ.
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّهَارِ مِنْ الصَّلَوَاتِ إلَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَبَاقِيهَا فِي اللَّيْلِ، فَزُلَفُ اللَّيْلِ ثَلَاثٌ : فِي ابْتِدَائِهِ، وَهِيَ الْمَغْرِبُ، وَفِي اعْتِدَالِ فَحْمَتِهِ، وَهِيَ الْعِشَاءُ، وَعِنْدَ انْتِهَائِهِ وَهِيَ الصُّبْحُ.
وَأَمَّا طَرَفَا النَّهَارِ فَهُمَا الدُّلُوكُ وَالزَّوَالُ وَهُوَ طَرَفُهُ الْأَوَّلُ، وَالدُّلُوكُ الْغُرُوبُ، وَهُوَ طَرَفُهُ الثَّانِي. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ).
وَالْعَجَبُ مِنْ الطَّبَرِيِّ الَّذِي يَقُولُ : إنَّ طَرَفَيْ النَّهَارِ الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ وَهُمَا طَرَفَا اللَّيْلِ، فَقَلَبَ الْقَوْسَ رَكْوَةً، وَحَادَ مِنْ الْبُرْجَاسِ غَلْوَةً.
قَالَ الطَّبَرِيُّ : وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ الصُّبْحُ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّرَفَ الْآخَرَ الْمَغْرِبُ، وَلَمْ يُجْمِعْ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ، وَإِنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ أَنْجَبُ لِقَوْلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ). وَقَدْ قَرَنَهَا بِهَا فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ : إنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتِغْرَاقُ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَاتِ نَفْلًا وَفَرْضًا. وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ لَا وَاجِبًا فَإِنَّمَا خَمْسُ صَلَوَاتٍ، وَلَا نَفْلًا فَإِنَّ الْأَوْرَادَ مَعْلُومَةٌ، وَأَوْقَاتُ النَّوَافِلِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا مَحْصُورَةٌ، وَمَا سِوَاهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ يَسْتَرْسِلُ عَلَيْهِ النَّدْبُ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الْعُمُومِ ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ بَشَرٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمَقَاعِدِ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ، فَأَذَّنَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى حَتَّى يُصَلِّيَهَا ). قَالَ عُرْوَةُ : أَرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا ﴾. وَقَالَ مَالِكٌ : أَرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ :﴿ أَقِمْ الصَّلَاةَ ﴾.
فَعَلَى قَوْلِ عُرْوَةَ يَعْنِي عُثْمَانَ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ كِتْمَانَ الْعِلْمِ لَمَا ذَكَرْته. وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يَعْنِي عُثْمَانَ : لَوْلَا أَنَّ مَعْنَى مَا أَذْكُرُهُ لَكُمْ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا ذَكَرْته لِئَلَّا تَتَّهِمُونِي.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، هِيَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ أَوَّلُ الْآيَةِ فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ، فَعَلَيْهِ يَرْجِعُ آخِرُهَا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ :( الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْمَقْتَلَةُ ). وَرُوِيَ : مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ. وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَدْ رُوِيَ ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَأُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْآيَةِ فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ : أَشَهِدْت مَعَنَا الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : اذْهَبْ فَإِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَا فَعَلْت ) وَرُوِيَ أَنَّ ( النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ لَهُ : قُمْ فَصَلِّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ )، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾. فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي مَعْنَى الْأُمَّةِ : وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَيْهَا، وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَعْنًى، وَهِيَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، يَعْنِي جَمَاعَةً وَاحِدَةً عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. كَمَا يُقَالُ : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ : جَمَاعَةٌ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ قَتَادَةُ : مَعْنَاهُ لَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ : لَجَعَلَهُمْ كُفَّارًا أَجْمَعِينَ. وَهَذِهِ آيَةٌ لَا يُؤْمِنُ بِهَا إلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ وَإِرَادَتَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ.
وَالْأُولَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنِيُّ هَاهُنَا بِالْآيَةِ الْمُسْلِمِينَ، تَقْدِيرُهَا : لَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ قَسَّمَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ بِحِكْمَتِهِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ قِيلَ : يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْأَدْيَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ : يَعْنِي الِاخْتِلَافَ فِي الرِّزْقِ : غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ. وَهَذَا بَعِيدٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ الْأَدْيَانِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَإِخْبَارِ اللَّهِ عَنْ حُكْمِهِ عَلَيْهَا، وَرَحْمَةِ مَنْ يَرْحَمُ مِنْهَا، فَرَجَعَ وَصْفُ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ إلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ ). وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ، إلَّا وَاحِدَةً. قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي ).
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك ﴾ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : بِالْهِدَايَةِ إلَى الْحَنِيفِيَّةِ. الثَّانِي : بِالْهِدَايَةِ إلَى الْحَقِّ. الثَّالِثُ : بِالطَّاعَةِ. الرَّابِعُ : إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَكُلُّهَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لَا انْقِطَاعَ فِيهِ لِانْتِظَامِ الْمَعْنَى مَعَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ. الثَّانِي : لِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَخْتَلِفُوا، فَيَرْحَمُ مَنْ يَرْحَمُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُ، كَمَا قَالَ :﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾. وَقَالَ :﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾. وَاعْجَبُوا مِمَّنْ يَسْمَعُ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾، وَيَتَوَقَّفُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَكُونُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لِلْفَسَادِ، وَهَلْ يَكُونُ الْفَسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ إلَّا بِالِاخْتِلَافِ.
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ :﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ لِلِاخْتِلَافِ، فَقَالَ لِي : لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَهِمَ الْآيَةَ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ قَرَأَ :﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ قَالَ : خَلَقَ أَهْلَ رَحْمَتِهِ، لِئَلَّا يَخْتَلِفُوا. وَنَحْوُهُ عَنْ طَاوُسٍ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ، وَأَخْبَرَنَا بِهِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أَلَا تَرَوْنَ إلَى خَاتِمَةِ الْآيَةِ حِينَ قَالَ :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّك ﴾، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ :﴿ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾. ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ :( يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآدَمَ : ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ قَالَ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلنَّارِ وَوَاحِدٌ إلَى الْجَنَّةِ ؛ فَلِهَذَا خَلَقَهُمْ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ).
Icon