تفسير سورة الإسراء

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

لما كان مقصود النحل التنزه عن الاستعجال وغيره من صفات النقص، والاتصاف بالكمال المنتج لأنه قادر على الأمور الهائلة ومنها جعل الساعة كلمح البصر أو أقرب، وختمها بعد تفضيل إبراهيم عليه السلام والأمر باتباعه بالإشارة إلى نصر أوليائه - مع ضعفهم في ذلك الزمان وقلتهم - على أعدائه على كثرتهم وقوتهم، وكان ذلك من خوارق العادات ونواقص المطردات، وأمرهم بالتأني والإحسان، افتتح هذه بتحقيق ما أشار الختم إليه بما خرقه من العادة في الإسراء، وتنزيه نفسه الشريفة من توهم استبعاد ذلك، تنبيهاً على أنه قادر على أن يفعل الأمور العظيمة الكثيرة الشاقة في أسرع وقت، دفعاً لما قد يتوهم أو يتعنت به من يسمع نهيه عن الاستعجال وأمره بالصبر، وبياناً
287
لأنه مع المتقي المحسن، وتنويهاً بأمر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإعلاماً بأنه رأس المحسنين وأعلاهم رتبة وأعظمهم منزلة، بما آتاه من الخصائص التي منها المقام المحمود، وتمثيلاً لما أخبر به من أمر الساعة فقال تعالى: ﴿سبحان﴾ وهو علم للتنزيه، دال على أبلغ ما يكون من معناه، منصوب بفعل متروك إظهاره، فسد مسده ﴿الذي أسرى﴾ فنزه نفسه الشريفة عن كل شائبة نقص يمكن أن يضفيها إليه أعداؤه بهذا اللفظ الأبلغ عقب الأمر بالتأني آخر النحل. كما نزه نفسه الشريفة بذلك اللفظ عقب النهي عن الاستعجال في أولها، وهو راد لما علم من ردهم عليه وتكذيبهم له إذا حدثهم عن الإسراء، وفيه مع ذلك إيماء إلى التعجيب من هذه القصة للتنبيه على أنها من الأمور البالغة في العظمة إلى حد لا يمكن استيفاء وصفه.
ولما كان حرف الجر مقصوراً على إفادة التعدية في «سرى» الذي بمعنى أسرى وكان أسرى يستعمل متعدياً وقاصراً عبر به، واختير القاصر للدلالة على المصاحبة زيادة في التشريف فقال تعالى: ﴿بعبده﴾ أي الذي هو أشرف عباده وأحقهم بالإضافة إليه الذي لم يتعبد قط لسواه من صنم ولا غيره لرجاء شفاعة ولا غيرها.
ولما كان الإسراء هو السير في الليل، وكان الشيء قد يطلق على جزء معناه بدلالة التضمن مجازاً مرسلاً، نفي هذا بقوله تعالى: ﴿ليلاً﴾
288
وليدل بتنوين التحقير على أن هذا الأمر الجليل كان في جزء يسير من الليل، وعلى أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج - في الإسراء والعروج إلى سدرة المنتهى وسماع الكلام من العلي الأعلى - إلى رياضة بصيام ولا غيره، بل كان مهيئاً لذلك متأهلاً له، فأقامه تعالى من الفرش إلى العرش ﴿من المسجد الحرام﴾ أي من الكعبة المشرفة مسجد إبراهيم عليه السلام، قيل: كان نائماً في الحطيم، وقيل: في الحجر، وقيل: في بيت أم هانىء - وهو قول الجمهور، فالمراد بالمسجد حينئذ الحرم لأنه فناء المسجد ﴿إلى المسجد الأقصى﴾ أي الذي هو أبعد المساجد حينئذ وأبعد المسجدين الأعظمين مطلقاً من مكة المشرفة، بينهما أربعون ليلة، فصلى بالأنبياء كلهم: إبراهيم وموسى ومن سواهما - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام، ورأى من آياتنا ما قدرناه له، ورجع إلى بين أظهركم إلى المسجد الأقرب منكم في ذلك الجزء اليسير من الليل وأنتم تضربون أكباد الإبل في هذه المسافة شهراً ذهاباً وشهراً
289
إياباً، ثم وصفه بما يقتضي تعظيمه وأنه أهل للقصد فقال تعالى: ﴿الذي باركنا﴾ أي بما لنا من العظمة، بالمياه والأشجار وبأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة وموطن العبادات ومعدن الفواكه والأرزاق والبركات ﴿حوله﴾ أي لأجله فما ظنك به نفسه! فهو أبلغ من «باركنا فيه» ثم منه إلى السماوات العلى إلى سدرة المنتهى إلى ما لم ينله بشر غيره صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً؛ ولعله حذف ذكر المعراج من القرآن هنا لقصور فهومهم عن إدراك أدلته لو أنكروه بخلاف الإسراء، فإنه أقام دليله عليهم بما شاهدوه من الأمارات التي وصفها لهم وهم قاطعون بأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يرها قبل ذلك، فلما بان صدقه بما ذكر من الأمارات أخبر بعد ذلك من أراد الله بالمعراج؛ ثم ذكر سبحانه الغرض من الإسراء بما يزيد في تعظيم المسجد فقال: ﴿لنريه﴾ بعينه وقلبه ﴿من ءاياتنا﴾ السماوية والأرضية كما أرينا أباه الخليل عليه السلام ملكوت السماوات والأرض، وجعل الالتفات
290
لتعظيم الآيات والبركات؛ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن فقال جبرئيل عليه السلام: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك.
وعن
جابر
رضي
الله
عنه
سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه».
ولما كان المعول عليه غالباً في إدراك الآيات حس السمع والبصر، وكان تمام الانتفاع بذلك إنما هو بالعلم، وكان سبحانه قد خص هذا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كمال الحس مما يعد معه حس غيره عدماً، عبر عن ذلك كله بقوله تعالى: ﴿إنه﴾ أي هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء ﴿هو﴾ أي خاصة ﴿السميع﴾ أي أذناً وقلباً بالإجابة لنا والإذعان لأوامرنا ﴿البصير *﴾ بصراً وبصيرة بدليل ما أخبر به من الآيات، وصدقه من الدلالات، حين نعت
291
ما سألوه عنه من بيت المقدس ومن أمر عيرهم وغيرهما مما هو مشهور في قصة الإسراء مما كان يراه وهو ينعت لهم وهم لا يرونه ولا يقاربون ذلك ولا يطمعون فيه، وقال من كان دخل منهم إلى بيت المقدس: أما النعت والله فقد أصاب، أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها، وأحوالها وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق، فخرجوا ذلك اليوم نحو الثنية يشتدون، فقال قائل: هذه والله الشمس قد طلعت، فقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت، يقدمها جمل أورق كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا وقالوا: إن هذا إلا سحر مبين.
قال الإمام الرازي في اللوامع: وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبصر جميع ما في الملكوت بالعين المبصرة مشاهدة لم يسترب فيه حتى روي أنه قال: «رأيت ليلة أسري بي إلى العلى الذرة تدب على وجه الأرض من سدرة المنتهى» وذلك لحدة بصره، والبصر على أقسام: بصر الروح، وبصر العقل الذي منه التوحيد، وبصر القربة الذي خص به الأولياء وهو نور الفراسة، وبصر النبوة، وبصر الرسالة. وهذه الأبصار كلها مجموعة لرسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً، وله زيادة بصر قيادة الرسل وسيادتهم، فإنه سيد المرسلين وقائدهم،
292
وكان مطلعاً على الملك والملكوت كما قال: زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها - انتهى. وهذا الأخير رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها» وكان يبصر من ورائه كما يبصر من أمامه - كما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه، وفي كثير من طرقه عدم التقييد بالصلاة، وهذا صريح في أن بصره لم يكن متقيداً بالعين، بل خلق الله تعالى الأبصار في جميع أعضائه وكذا السمع، فإن كون العين محلاً لذلك وكذا الأذن إنما هو بجعل الله، ولو جعل ذلك في غيرهما لكان كما يريد سبحانه ولا مانع، ولم يكن الظلام يمنعه من نفود البصر ففي مسند أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فقدت رحلي ليلة فمررت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يشد لعائشة
293
رضي الله عنها، فقال: ما لك يا جابر؟ فقلت: فقدت جملي أو ذهب في ليلة ظلماء، فقال لي: هذا جملك، اذهب فخذه، فذهبت نحو ما قال لي، فلم أجده فرجعت إليه فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! ما وجدته، فقال لي: على رسلك، حتى إذا فرغ أخذ بيدي فانطلق حتى أتينا الجمل فدفعه إليّ، قال: هذا جملك - الحديث. وروى البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرى بالليل في الظلمة كمل يرى بالنهار في الضوء، وروي مثل ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وقال القاضي عياض في الشفا: حكى بقي بن مخلد عن عائشة رضي الله عنها قالت، كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، وأسند عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: لما تجلى الله لموسى عليه الصلاة والسلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ.
وجوز أن يكون اختصاص نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك بعد الإسراء - انتهى. وقد أخرج حديث
294
أبي هريرة هذا الحافظ نور الدين الهيثمي في زوائد المعجمين: الأوسط والأصغر للطبراني، ولعل هذا من مناسبة تعقيب هذه الآية بذكر موسى عليه السلام.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم قوله ﴿إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً﴾ إلى قوله تعالى ﴿ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً﴾ الآية، كان ظاهر ذلك تفضيل إبراهيم عليه السلام على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلى جميع الأنبياء لا سيما مع الأمر بالاتباع، فأعقب ذلك بسورة الإسراء، وقد تضمنت من خصائص نبيناً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وانطوت على ما حصل منه المنصوص في الصحيح والمقطوع به والمجمع عليه من أنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم - سيد ولد آدم، فاستفتحت السورة بقصة الإسراء وقد تضمنت - حسبما وقع في صحيح مسلم وغيره - إقامته بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفيهم إبراهيم وموسى وغيرهما من الأنبياء من غير استثناء، هذه رواية ثابت عن أنس رضي الله عنه، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه - صلى الله
295
عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً - أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيراً ونذيراً، وأنزل عليّ القرآن فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطاً وجعل أمتي هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحاً وخاتماً، فقال إبراهيم عليه السلام: بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه من طريق الربيع بن أنس وذكر سدرة المنتهى وأنه تبارك وتعالى قال له: سل! فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلاً، وأعطيته ملكاً عظيماً، وكلمت موسى تكليماً، وأعطيت داود ملكاً عظيماً، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكاً عظيماً، وسخرت له الجن والإنس والشياطين والرياح، وأعطيته ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل، فقال له ربه تبارك وتعالى: قد اتخذتك حبيباً فهو مكتوب في التوراة - «
296
محمد حبيب الرحمن» وأرسلتك إلى الناس كافة، وجعلت أمتك هم الأولون والآخرون.
وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلتك أول النبيين خلقاً وآخرهم بعثاً، وأعطيتك سبعاً من المثاني ولم أعطها نبياً قبلك، وأعطيتك خواتم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبياً قبلك، وجعلتك فاتحاً وخاتماً. وفي حديث شريك أنه رأى موسى عليه السلام في السماء السابعة قال: بتفضيل كلام الله، قال: ثم علا به فوق ذلك ما لا يعلمه إلا الله، فقال موسى: لم أظن أن يرفع عليّ أحد. وفي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرجه البزار «في ذكر تعليمه عليه الصلاة والسلام الأذان وخروج الملك فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا جبريل! من هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق! إني لأقرب الخلق مكاناً، وإن هذا الملك
297
ما رأيته قط منذ خلقت قبل ساعتي هذه. وفيه: ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقدمه، فأم بأهل السماء فيهم آدم ونوح»، وفي هذا الحديث قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين راويه: فيومئذ أكمل الله لمحمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم - الشرف على أهل السماوات والأرض؛ قال ابن الزبير: وقد حصل منه تفضيله صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً - بالإسراء وخصوصه بذلك، ثم قد انطوت السورة على ذكر المقام المحمود، وهو مقامه في الشفاعة الكبرى، وذلك مما خص به حسبما ثبت في الصحيح وانعقد عليه إجماع أهل السنة، ولا أعلم في الكتاب العزيز سورة تضمنت من خصائصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً - الذي فضل به كافة الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام مثل ما تضمنت هذه والحمد لله - انتهى.
ولما ثبت بهذه الخارقة ما أخبر به عن نفسه المقدسة من عظيم القدرة على كل ما يريد، وما حباه صلى الله عليه وعلى آله وسلم به من الآيات البينات في هذا الوقت اليسير، أتبعه ما منح في المسير من مصر إلى الأرض المقدسة من الآيات في مدد طوال جداً موسى عليه السلام الذي كان أعظم الأنبياء بركة على هذه الأمة ليلة الإسراء
298
لما أرشد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليه من مراجعة الله تعالى في تخفيف الصلاة حتى رجعت من خمسين إلى خمس مع أجر خمسين، والذي كان أنهى العروج به إذ ناجاه الله وقربه رأس جبل الطور بعد الأمر بالرياضة بالصوم والتخلي أربعين يوماً، والذي تقدم في آخر النحل أن قومه اختلفوا عليه في السبت، تنفيراً من مثل حالهم، وتسلية عمن تبعهم في تكذيبهم وضلالهم، وذلك في سياق محذر للمكذبين عظائم البلاء، فقال تعالى - عاطفاً على ما تقديره، فآتينا عبدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الكتاب المفصل المعجز، وجعلناه هدى للخلق كافة، وتولينا حفظه فكان آية باقية حافظاً لدينه دائماً: ﴿وءاتينا﴾ أي بعظمتنا ﴿موسى الكتاب﴾ أي الجامع لخيري الدارين لتقواه وإحسانه، معظماً له بنون العظمة، فساوى بين النبيين في تعظيم الإراءة والإيتاء وخص محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإضافة آياته إلى مظهر العظمة، وكان إيتاء موسى عليه السلام الكتاب في نيف وأربعين سنة بعد أن أخرج معه بني أسرائيل من حبائل فرعون وجنوده الذين كانوا لا يحصون كثرة بتلك الآيات الهائلة التي لا يشك عاقل أن من قدر عليها لا يمتنع عليه شيء أراده، وفي هذه المدة الطويلة -
299
بل بزيادة - كان وصول بني إسرائيل من مصر إلى هذا المسجد الذي أوصلنا عبدنا إليه ورددناه إليكم في بعض ليلة راكباً البراق الذي كان يركبه الأنبياء قبله، يضع حافره في منتهى طرفه، وبنو إسرائيل كانوا يسيرون جميع النهار مجتهدين ثم يبيتون في الموضع الذي أدلجوه منه في التيه لا يقدرون أن يجوزوه أربعين سنة - على ما قال كثير من العلماء، أو أنهم كانوا في هذه المدة يدورون حول جبل أدوم كما في التوراة، فثبت أنا إنما نفعل بالاختيار على حسب ما نراه من الحكم، ثم ذكره ثمرة كتاب موسى عليه السلام فقال تعالى: ﴿وجعلناه﴾ أي الكتاب، بما لنا من العظمة ﴿هدى﴾.
ولما كان هذا التنوين يمكن أن يكون للتعظيم يستغرق الهدى، بين الحال بقوله: ﴿لبني إسرائيل﴾ بالحمل على العدل في التوحيد والأحكام، وأسرينا بموسى عليه السلام وبقومه من مصر إلى بلاد المسجد الأقصى، فأقاموا سائرين إليها أربعين سنة ولم يصلوا، ومات كل من خرج منهم من مصر إلا «النقيبين الموفيين» بالعهد، فقد بان الفصل
300
بين الإسرائين كما بان الفصل بين الكتابين، فذكر الإسراء أولاً دليل على حذف مثله لموسى عليه السلام ثانياً، وذكر إيتاء الكتاب ثانياً دليل على حذف مثله أولاً، فالآية من الاحتباك؛ ثم نبه على أن المراد من ذلك كله التوحيد اعتقاداً وعبادة بقوله تعالى: ﴿ألا﴾ أي لئلا ﴿تتخذوا﴾ بالياء التحتية في قراءة أبي عمرو، وبالفوقانية في قراءة الباقين، فنبه بصيغة الافتعال على أنه - لكثرة ما على وحدانيته من الدلائل، وله إلى خلقه من المزايا والفضائل - لا يعدل عنه إلى غيره إلا بتكلف عظيم من النفس، ومنازعة بين الهوى والعقل وما فطر سبحانه عليه النفوس من الانقياد إليه والإقبال عليه، ونفر من له همة علية ونفس أبية من الشرك بقوله منبهاً بالجار على تكاثر الرتب دون رتبة عظمته سبحانه وعد الاستغراق لها، تاركاً نون العظمة للتنصيص على المراد من دون لبس بوجه: ﴿من دوني﴾ وقال تعالى: ﴿وكيلاً *﴾ أي رباً يكلون أمورهم إليه ويعتمدون عليه من صنم ولا غيره، لتقريب إليه بشفاعة ولا غيرها - منبهاً بذكر الوكالة على سفه آرائهم في
301
ترك من يكفي في كل شيء إلى من لا كفاية عنده لشيء، ثم أتبعه ما يدل على شرفهم بشرف أبيهم، وأنه لم ينفعهم إدلاءهم إليه - عند إرادة الانتقام - بما ارتكبوا من الإجرام، فقال - منبهاً على الاهتمام بالتوحيد والأمر بالإخلاص بالعود إلى مظهر العظمة حيث لا لبس، ناصباً على الاختصاص في قراءة أبي عمرو، وعلى النداء عند الباقين، تذكيراً بنعمة الإيحاء من الغرق: ﴿ذرية من حملنا﴾ أي في السفينة بعظمتنا، على ظهر ذلك الماء الذي طبق ما تحت أديم السماء، ونبه على شرفهم وتمام نعمتهم بقوله تعالى: ﴿مع نوح﴾ أي من أولاده وأولادهم الذين أشرفهم إبراهيم الذي كان شاكراً ثم إسرائيل عليهما السلام، لأن الصحيح أن من كان معه من غيرهم ماتوا ولم يعقبوا، ولم يقل: ذرية نوح، ليعلم أنهم عقب أولاده المؤمنين لتكون تلك منة أخرى؛ ثم نبه على تقواه وإحسانه حثاً على الاقتداء به بقوله: ﴿إنه كان﴾ أي كوناً جبلياً ﴿عبداً شكوراً *﴾ أي مبالغاً في الشكر الذي هو صرف جميع ما أنعم الله به فيما خلقه له فأحسن إليه لشكره بأن
302
جعل في ذريته النبوة والكتاب كما فعل بإبراهيم عليه السلام لأنه كان شاكراً، فاقتدوا بهذين الأبوين العظيمين في الشكر يزدكم، ولا تقلدوا غيرهما في الكفر يعذبكم، وخص نوحاً عليه السلام لأنه ما أملى لأحد ما أملى لقومه ولا أمهل أحداً ما أمهلهم، ثم أهلكهم أجمعين كما أومأ إليه قوله ﴿حملنا﴾ إهلاك نفس واحدة، ثم أذهب الماء بعد إغراقهم بالتدريج في مدة طويلة، فثبت أنه منزه عن العجلة، وأنه سبحانه تارة يفعل الأمور الكثيرة الشاقة في أسرع وقت، وترة يعمل ما هو دونها في أزمان طوال، فبان كالشمس أنه إنما يفعل على حسب ما يريد مما تقتضيه حكمته؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مما ذلك؟ يجمع الله الناس: الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم
303
البصر، وتدنو الشمس، فبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فذكر حديث الشفاعة العظمى وإتيانهم الأنبياء آدم وبعده أولي العزم عليهم الصلاة والسلام، وأنهم يقولون لنوح عليه السلام: وقد سماك الله عبداً شكوراً، وكلهم يتبرأ ويحيل على من بعده إلى أن وصل الأمر نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع! فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي
304
نفسي بيده! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى ثم أتبع ذلك ما يدل على شرف كتاب موسى وصحة نسبته إليه تعالى بما يقتضي شمول العلم وتمام القدرة بما كشف عنه الزمان من صدق إخباره، وفظاظة وعيده وإنذاره، تنبيهاً على أن من كذب بكتابه أهلكه كائناً من كان وإن طال إمهاله، فلا تغتروا بحلمه لأن الملوك لا تقر على أمر يقدح في ملكها، فقال تعالى: ﴿وقضينا﴾ أي بعظمتنا بالوحي المقطوع به، منزلين ومنهين ﴿إلى بني إسرائيل﴾ أي عبدنا يعقوب عليه السلام الذي كان أطوع أهل زمانه لنا ﴿في الكتاب﴾ الذي أوصلناه إليهم على لسان موسى عليه السلام ﴿لتفسدن﴾ أكد بالدلالة على القسم باللام لأنه يستبعد الإفساد مع الكتاب المرشد ﴿في الأرض﴾ أي المقدسة التي كأنها لشرفها هي الأرض بما يغضب الله ﴿مرتين ولتعلن﴾ أي بما صرتم إليه من البطر لنسيان المنعم ﴿علواً كبيراً *﴾ بالظلم والتمرد، ولا ينتقم منكم إلا على حسب ما تقتضيه حكمتنا في الوقت الذي نريد بعد إمهال طويل؛ والقضاء: فصل الأمر على إحكام ﴿فإذا جاء وعد أولاهما﴾
305
أي وقته الذي حددناه له للانتقام فيه ﴿بعثنا﴾ أي بعظمتنا؛ ونبه على أنهم أعداء بقوله: ﴿عليكم﴾ ونبه على عظمته، قدرته وسعة ملكه بقوله تعالى: ﴿عباداً لنا﴾ أي لا يدان لكم بهم لما وهبنا لهم من عظمتنا ﴿أولي بأس﴾ أي عذاب وشدة في الحرب شديدة ﴿شديد فجاسوا﴾ أي ترددوا مع الظلم والعسف وشديد السطوة؛ والجوس: طلب الشيء باستقصاء ﴿خلال﴾ أي بين ﴿الديار﴾ الملزوم لقهر أهلها وسفولهم بعد ذلك العلو الكبير؛ والخلال: انفراج ما بين الشيئين وأكثر لضرب من الوهن ﴿وكان﴾ أي ذلك البعث ووعد العقاب به ﴿وعداً مفعولاً *﴾ أي لا شك في وقوعه ولا بد أن يفعل لأنه لا حائل بيننا وبينه، ولا يبدل القول إلا عاجز أو جاهل؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم جالوت وجنوده؛ وعن سعيد بن المسيب أنهم بختنصر وجنوده؛ وعن الحسن: العمالقة؛ وعن سعيد بن جبير: سنجاريب وجنوده؛ قال في السفر الخامس من التوراة
306
إشارة إلى هذه المرة الأولى - والله أعلم: وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم لم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه التي آمركم بها اليوم، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله، ويدرككم العقاب، وتكونوا ملعونين في القرية والسفر وفي الخصر، ويلعن نسلكم وثمار أرضكم، وتكونوا ملعونين إذا دخلتم، وملعونين إذا خرجتم، ينزل بكم الرب البلاء والحشرات، وينزل بكم الضربات الشديدة وبكل شيء تمدون أيديكم إليه لتعملوه حتى يهلككم ويتلفكم سريعاً، من أجل سوء أعمالكم وترككم لعبادتي، يسلط الله عليكم الموت فيهلككم من الأرض التي تدخلونها لترثوها، يضربكم الله بحيران العقل والبهق والبرص، وبالحريق باشتمال النار، وباليرقان والجرب والسموم، ويسلط عليكم هذه الشعوب حتى تهلكوا، وتكون السماء التي فوقكم عليكم شبه النحاس، والأرض التي تحتكم شبه الحديد، ويصير الرب مطر أرضهم غباراً ويكسركم الرب بين يدي أعدائكم، تخرجون إليهم في طريق واحدة وتهربون في سبعة طرق، وتكونون مثلاً وفزعاً لجميع مملكات الأرض،
307
وتكون جيفكم طعاماً لجميع السباع وطيور السماء، ولا يذب أحد عنكم، ويضربكم الرب بالجراحات التي ضرب بها أهل مصر، ويبليكم بالبرص والزحير وبالحكة، ولا يكون لكم شفاء من ذلك، ويضربكم الرب بالعمى والكمه ورعب القلب، وتكونون تجسسون في الظهيرة مثل ما يتجسس العميان، ولا يتم شيء مما تعملون، ولا يكون له تمام، وتكونون مقهورين مظلومين مغصوبين كل أيام حياتكم ولا يكون لكم منقذ، تخطبون المرأة فيتزوجها غيركم، وتبنون بيتاً ويسكنه غيركم، وتغرسون كروماً ولا تعصرون منها، وتذبحون ثيرانكم بين أيديكم ولا تأكلون منها شيئاً، ويؤخذ حمارك ظلماً ولا تقدر أن تخلصه، ويسوق العدو أغنامكم ولا يكون لكم منقذ، ويسبي بنيك وبناتك شعب آخر وتنظر إليهم ولا تقدر لهم على خلاص، وتشقى وتغتم نهارك كله أجمع ولا يكون لك حيلة، وثمار أرضك وكل كدك يأكله شعب لا تعرفه، وتكون مضطهداً مظلوماً طول عمرك،
308
ويضربك الرب بجرح رديء على ركبتيك وساقيك ولا يكون لك، ويسلط عليك الجراحات من قرنك إلى قدمك ويسوقك الرب، ويسوق ملكك الذي ملكته عليك إلى شعب لم يعرفه أبوك، وتعبد هناك آلهة عملت من خشب وحجارة، وتكون مثلاً وعجباً ويفكر فيك كل من يسمع خبرك ثم قال: ويولد لك بنون وبنات ولا يكونون لك بل يسبون، وينطلق بهم مسبيين.
ثم قال: ويسلط الرب عليك شعباً يأتيك وأنت جائع ظمآن، وتخدم أعداءك الذين يسلطهم الله عليك من بعيد من أقصى الأرض، ويسرع إليك مثل طيران النسر شعب لا تعرف لغتهم شعب وجوههم صفيقة لا تستحيي من الشيوخ، ولا ترحم الصبيان، ويضيق عليك في جميع قراك حتى يظفر بسوراتك المشيدة التي تتوكل عليها وتثق بها، وتضطر حتى تأكل لحم ولدك من الحاجة والضيق الذي يضيق عليك عدوك، والرجل المدلل منكم المتلذذ المفيق تنظر عيناه إلى أخيه وحليلته وإلى من بقي من ولده جائعاً ولا يعطيهم من لحم ابنه الذي يأكل، لأنه لا يبقى عنده شيء من الاضطهاد
309
والضيق الذي يضيق عليك عدوك في كل قراك، والمرأة المخدرة المدللة المفيقة التي لم تطأ الأرض قدماها من الدلال تنظر عيناها إلى زوجها وإلى ابنها وبنتها وإلى ولدها التي تلد، وهي تأكلهم، وذلك من الحاجة والفقر وعدم الطعام مما يضيق عليك عدوك ويضطهدك في جميع قراك.
310
ولما بين سبحانه أنه قادر على إذلال العزيز بعد ضخامة عزه، بين أنه مقتدر على إدالته على من قهره بعد طول ذله إذا نقاه من درنه وهذبه من ذنوبه، فقال تعالى مشيراً بأداة التراخي إلى عظمة هذه الإدالة بخرقها للعوائد: ﴿ثم رددنا﴾ أي بما لنا من العظمة، وعجل لهم البشرى بقوله تعالى: ﴿لكم﴾ أي خاصة ﴿الكرة﴾ أي العودة والعظمة؛ وبين أن ذلك مع السطوة بقوله سبحانه: ﴿عليهم﴾ قال بعض المفسرين: في زمان داود عليه السلام ﴿وأمددناكم﴾ أي أعنَّاكم
310
بعظمتنا ﴿بأموال﴾ تستعينون بها على قتال أعدائكم ﴿وبنين﴾ أي تقوون بهم ﴿وجعلناكم﴾ أي بعظمتنا ﴿أكثر﴾ أي من عدوكم ﴿نفيراً *﴾ أي ناساً ينفرون معكم إذا استنفرتموهم للقتال ونحوه من المهمات، والظاهر أنه ليس المراد بهذه المرة ما كان على يدي داود عليه السلام لأن الله يقول في هذه المرة الثانية ﴿وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة﴾ وداود عليه السلام أسس المسجد ولم يكمله، إنما أكمله ابنه سليمان عليهما السلام من بعده، والذي عز من قال ذلك أن بني إسرائيل كانوا قهروا قبل داود عليه السلام من الفلسطينيين وغيرهم، ثم كان خلاصهم على يده عليه السلام - كما مضت الإشارة إليه في سورة البقرة، قال في الزبور في المزمور الثالث عشر: من يعطي صهيون الخلاص لإسرائيل؟ إذا رد الرب سبي شعبه يتهلل يعقوب ويفرح إسرائيل؛ وفي الثالث والأربعين: اللهم! إنا قد سمعنا بآذاننا
311
وأخبرنا آباؤنا بالأعمال التي صنعت في أيامهم الأولى، فلنسبحك يا إلهنا كل يوم، ونشكر اسمك إلى الدهر، الآن أضعفتنا وأقصيتنا، ولم تكن يا رب تصحب جيوشنا، لكن رددتنا على أعقابنا عن أعدائنا، واختطفنا مبغضونا، جعلتنا مأكلة كالغنم، مددتنا بين الشعوب، بعت شعبك بلا ثمن، أقللت كثرة عددهم، صيرتنا عاراً في جيرتنا، هزاً وطنزاً لمن حولنا، صرنا مثلاً في الشعوب، وهزاً للرؤوس في الأمم، حزني بين يديّ النهار كله، الخزي غطى وجهي، من صوت المعير، اللهم! إن هذا كله قد نالنا ولم ننس اسمك، ولا نكثنا عهدك، ولا صرفنا قلوبنا عنك، عدلت بقصدنا عن سبلك، أنزلتنا محال وعرة، غشيتنا بظلال الموت، ولم ننسك يا رب، وقال في المزمور الثامن والسبعين والذي بعده: اللهم! إن الأمم دخلت ميراثك ونجست هيكل قدسك، جعلوا أورشليم خراباً كالمحرس، وصيروا جثث عبيدك
312
طعاماً لطير السماء، ولحوم أصفيائك لوحوش الأرض، سفكوا دماءهم كالماء حول أورشليم وليس لهم دافن، صرنا عاراً في جيراننا، هزءاً وطنزاً لمن حولنا، حتى متى تسخط يا رب، دائماً يشتعل مثل النار غضبك، أفض رجزك على الأمم الذين لا يعرفونك وعلى الملوك الذين لم يدعوا اسمك، فإنهم أكلوا يعقوب وأخربوا دياره، لا تذكر خطايانا الأولى بل تغشانا رأفتك سريعاً، لأنا قد تمسكنا جداً، فكن لنا معيناً يا إلهنا ومخلصنا، ونمجد اسمك يا رب، نجنا واغفر لنا خطايانا لأجل اسمك الكريم، لئلا تقول الأمم: أين إلههم؟ عند ذلك تعلم الشعوب وتنظر عيوننا انتقام دماء عبيدك المسفوكة، وليدخل إليك تنهد الأسارى، وكمثل عظمة ذراعك أنقذ بني المقتولين، جاز جيراننا في حضنهم للواحد سبعة بالعار الذي عيروك يا رب! نحن شعبك وغنم رعيتك، نشكرك إلى الأبد ونخبر بتسابيحك من جيل إلى جيل.
أنصت يا راعي
313
إسرائيل الذي هدى يوسف كالخروف، انظر أيها الجالس على الكروبين استعلن قدام إفرام وبنيامين ومنشا، وأظهر جبروتك وتعال لخلاصنا، اللهم! أقبل وأشرق وجهك علينا وخلصنا، اللهم ربنا القوي! حتى متى تسخط على صلاة عبيدك، وتطعمهم الخبز بدموعهم وتسقيهم الدموع بالكيل، جعلتنا عاراً لجيراننا، واستهزأ بنا أعداؤنا، اللهم رب القوات! أقبل بنا وأشرق وجهك علينا وخلصنا، أنت نقلت الكرمة من مصر، طردت الشعوب وغرستها، سهلت طريقاً أمامها، مكنت أصولها، امتلأت الأرض منها، ظلل الجبال ظلها وأغصانها على أرز الله، كذلك امتدت عروقها إلى البحر وإلى الأنهار فروعها، ثم إنك هدمت سياجها، وقطعها كل عابري السبيل، خنزير الغاب أفسدها، وحيوان الوحش رعتها، اللهم رب القوات! اعطف علينا، واطلع من السماء، وانظر وتعاهد هذه الكرمة، وأصلح الغرس الذي غرسته يمينك وابن الإنسان الذي قويته، ولتهلك الذين أحرقوها بالنار برجزك، ولتكن يدك على رجل يمينك وابن الإنسان الذي
314
اصطفيته لك، لا تبعدنا منك وأنقذنا لنمجد اسمك، اللهم رب القوات! اعطف علينا وأشرق وجهك علينا وخلصنا؛ وفي الرابع والثمانين: رضيت يا رب عن أرضك، ورددت سبي يعقوب، غفرت ذنوب شعبك سترت جميع خطاياهم، سكنت كل رجزك، ورددت شدة غضبك؛ وفي الثامن والثمانين: قدوس إسرائيل ملكنا بالوحي، كلمت نبيك وقلت: إني جعلت عوناً للقوى، رفعت مختاراً من شعبي، ووجدت داود عبدي، مسحته بدهن قدسي، يدي أعانته، وذراعي قوته، عدوه لا يضره، وابن الخطيئة لا يذله، وقطعت أعداءه من بين يديه، ولمغضبيه قهرت، أمانتي ورحمتي معه، وباسمي يرتفع قرنه، جعلت في البحار طريقه، وفي الأنهار يمينه، هو يدعوني: أنت أبي وإلهي ناصري وخلاصي، وأنا أجعله بكراً رفيعاً على جميع ملوك الأرض وأحفظ عليه رحمتي إلى الأبد؛ ثم قال: وأنت رفضت وأقصيت
315
مسيحك، ونقضت عهد عبدك في الأرض، ودنست قدسه، وهدمت جميع سياجه، وكل حصونه أخفت، اختطفه عابرو السبيل، صار عاراً في جيرته، رفعت يمين أعدائه، فرحت جميع مبغضيه، رددت نصرة سيفه، لم تعنه في الحرب، أبطلت شجاعته، طرحت في الأرض كرسيه، صغرت أيام سنيه، صببت حزناً عليه، فحتى متى تسخط يا رب؟ إلى الأبد يتقد مثل النار رجزك، اذكر خلقك لي، فإنك لم تخلق الإنسان باطلاً، من هو الإنسان الذي يعيش ولا يعاين الموت أو ينجي نفسه من الجحيم؟ اللهم! أين رحمتك القديمة التي حلفت بحقك لداود عليه السلام؟ اللهم أعداؤك عيروا آثار مسيحك، تبارك الرب إلى الأبد، يكون يكون؛ وفي الخامس بعد المائة: خلصنا يا إلهنا واجمعنا من الأمم لنشكر اسمك القدوس، ونفتخر بتسبيحك، تبارك
316
الرب إله إسرائيل من الآن وإلى الأبد، يقول جميع الشعب: يكون، وفي الخامس والعشرين بعد المائة: إذا رد الرب سبي صهيون صرنا كالمتغربين، حينئذ تمتلىء أفواهنا فرحاً وألسنتنا تهليلاً، هناك يقال في الأمم: قد أكثر الرب الصنيع إلى هؤلاء، أكثر الرب الصنيع إلينا فصرنا فرحين، يا رب اردد سبينا كأودية اليمن، الذين يزرعون بالدموع ويحصدون بالفرح، كانوا ينطلقون يبذرون زرعهم باكين ويأتون مقبلين بالتهليل حاملين غلاتهم؛ وفي السادس والثلاثين بعد المائة: على أنهار بابل جلسنا هناك وبكينا حين ذكرنا صهيون، وعلقنا قيتاراتنا على الصفصاف الذي في وسطها، لأن الذين سبونا سألونا هناك قول التمجيد، والذين انطلقوا قالوا: سبحوا لنا في تسابيح صهيون! كيف نسبح لكم تسابيح الرب في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا يروشليم فتنساني يميني، ويلصق لساني بحنكي إن لم أذكروك وإن لم أسبق وأصعد إلى يروشليم في ابتداء فرحي، اذكر يا رب بني أدوم
317
في يوم أورشليم القائلين: اهدموا إلى الأساس.
يا ابنه الشقية! طوبى لمن يجازيك جزاء صنيعك بنا، طوبى لمن أخذ أطفالك وضرب بهم الصخرة.
وهذا الذي في هذا المزمور إيذان بما يحل بهم من بختنصر، وقد تقدم غير مرة أن ما كان فيما ينقل من هذه الكتب القديمة من لفظة توهم نقصاً كالأب ونحوه فإنها على تقدير صحتها عنهم لا يجوز إطلاقها في شرعنا، والظاهر أن هذه الادلة المذكورة في القرآن في هذه الكرة هي التي كانت في أيام عزير عليه السلام على يد كورش ملك الفرس - كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأن الذين كانوا قهروهم أولاً هم أجناد بختنصر - كما تقدم، ففي سفر أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بعد موسى عليه السلام أن الله تعالى أوحى إلى إرميا بن حلقيا
318
من الأحبار الذين كانوا في عناثوث في أرض بنيامين على عهد يوشيا ملك يهوذا في السنة الثالثة عشرة من ملكه يتوعدهم بأنهم إن لم يرجعوا عما أحدثوا من الضلالات سلط عليهم ملك بابل، ولم يزل يحذرهم مثل ذلك ويخبرهم بما يحصل لهم من الشر بذنوبهم إلى أن تمت أيام يواكيم بن يوشيا، وفي إحدى عشرة سنة لصديقيا بن يوشيا إلى يوم سبيت أورشليم في الشهر الخامس، وهو شهر آب وكان يخبرهم بأن ملك بابل يأسر صديقيا ملك اليهود، ويسوقه مع الأسرى إلى بابل، ويستمرون في أسرهم سبعين سنة ثم يردهم الله تعالى إلى بيت المقدس.
قال إرميا عليه السلام: إن الله تعالى قال لي: من قبل أن أصورك في البطن عرفتك، وخصصتك لي نبياً من قبل أن تخرج من الرحم وجعلتك نبياً للشعوب، فقلت: أطلب إليك يا رب وإلهي أن تعفيني، لأني لست أعلم أن أنطق لأني حدث، فقال لي الرب: لا تقل: إني حدث. لأنك تتوجه إلى كل ما أرسلك فيه وتجمع ما آمرك به
319
من القول، فأدّه ولا تخف لأني معك أنقذك من كل آفة، وإن الرب مد يده وقربها إلى فيّ وقال لي الرب: قد صيرت أقوالي في فيك، فاعلم أني قد سلطتك اليوم على جميع مملكات الأمم لتهدم وتنقض وتهلك وتستأصل وتبكت وتتنبأ وتقدسني، ثم أوحى إليّ الرب وقال: ما الذي رأيت يا إرميا؟ فقلت: رأيت غصناً من شجر اللوز، فقال لي الرب: ما أحسن ما رأيت لأن معجل فصل أقوالي؛ ثم أوحى إليّ الرب ثانية: ما الذي رأيت؟ فقلت منجلاً منصوباً ووجهه إلى ناحية الجربياء - أي الشمال - فقال لي الرب: من ناحية الجربياء ينفتح الشر وينزل في جميع الأرض التي ليهوذا، ها أنا مرسلك أن تدعو جميع عشائر مملكات الجربياء، يقول الرب. فيأتون ويلقي كل رجل منهم كرسيه في مدخل أبواب أورشليم، ويحوطون بسورها كما
320
يدور، وبجميع قرى يهوذا، وأنتقم منهم بأحكام وقضائي من أجل جميع سرورهم وبسوء أعمالهم، لأنهم اجتنبوني وبخروا لآلهة غريبة بالبخور، وسجدوا لصنعة أيديهم فأمت أنت فشد على ظهرك، وقم فقل عليهم جميع الأقوال التي آمرك بها ولا تخفهم ولا تحابهم لئلا أكسرك بين أيديهم وأذلك، وقد جعلتك اليوم كالقرية العزيزة الممتنعة، ومثل قضيب من حديد، وصيرتك مثل سور من نحاس على الأرض كلها، وعلى جميع ملوك يهوذا وعلى عظمائهم وعلى أحبارهم وآبائهم، وعلى جميع شعب الأرض، فإن جاهدوك لم يقهروك لأني معك وأنا منقذك منهم.
ولم يزل يقوم فيهم بمثل هذا من كلام في غاية البلاغة والرقة بحيث يفتت الأكباد، ويصدع القلوب، ويفيض العيون، نحو أربع كراريس، لولا خوف الملالة وكراهة الإطالة لأتيت بكثير منه، وكان المتنبئون الكذبة يقومون فيهم بخلاف ذلك مما يؤمنهم إلى أن
321
ضربوا إرميا ليترك عنهم مثل ذلك، فلم يكن يستطيع تركه وقال لشخص من المتنبئين اسمه حنينا: إن الرب لم يرسلك، أنت وكلت هذا الشعب على الزور، ومن أجل هذا يقول الرب: هو ذا أطرحك عن وجه الأرض، وفي هذه السنة تموت، لأنك تكلمت بالإثم قدام الرب، فمات حنينا النبي الكذاب في تلك السنة في الشهر السابع. ثم زاد تحذير إرميا لهم إلى أن حبسوه، ثم إن الله تعالى أمره أن يكتب لهم ما يوحيه إليه في صحيفة ويرسلها إليهم، فدعا باروخ بن ناريا الكاتب وأمره بكتابة ما أنطقه به الرب وقال له ها أنا محبوس ولست أستطيع أن أدخل بيت الرب، فخذ هذه الصحيفة وادخل أنت إلى بيت الرب في يوم الصوم واقرأها عليهم، فإنها كلام الرب، لعلهم يرجعون عن طريقة السوء، ويكف الرب عن الشر الذي قاله عليهم.
لأنه عظيم الرجز والغضب الذي تكلم به الرب على هذا الشعب. ففعل باروخ ذلك، فأخذوا الصحيفة من يده وأوصلوها
322
إلى الملك يواقيم بن يوشيا فشققها وأحرقها بالنار، فأمره الله أن يكتب صحيفة أخرى مثلها ويزيد ما يأمره الله به، ومنه أن يواقيم ملك يهوذا لا يكون له من يجلس على كرسي داود عليه السلام، وجيفته تكون مطروحة في السموم بالنهار وفي الجليد بالليل، وآمر به وبذريته وبعبيده، وآتى على أورشليم وعلى سكانها وعلى بيت يهوذا بكل الشر الذي قلت عليهم، لأنهم لم يسمعوا صوتي.
ولما ملك صاديقيا على اليهود، وكانت السنة العاشرة من ملكه، وهي الثامنة عشرة لبختنصر ملك بابل، أحاطت جيوش ملك بابل بأورشليم، وكان إرميا النبي محبوساً في دار حرس الملك، حبسه فيها صاديقيا ملك يهوذا، وقال له: ما لك تتنبأ وتقول: هكذا يقول الرب: هوذا أدفع هذه القرية وصديقيا ملك يهوذا في يدي ملك بابل ويضبطها، ولا ينجو من أيدي الكلدانيين، لأن الرب دفاع يدفعه في يدي ملك بابل
323
ويكلمه فمه لفمه وعيناه إلى عينيه، وينطلق به إلى بابل؟ فأوحى الله إلى إرميا وهو محبوس فقال: يقول الرب: هوذا أدفع هذه القرية إلى ملك بابل فيحرقها بالنار، وأنت فلا تفلت من يديه، ولكنك أخذاً تؤخذ وتدفع إليه وعيناك إلى عينيه تنظر، وفمك إلى فمه يكلم، وإلى بابل تذهب، ولكن اسمع يا صديقيا ملك يهوذا قول الرب، هكذا يقول الرب عليك: إنك لست تموت بالحرب، ولكنك موت سلامة تموت، وكالذي ناحوا على آبائك الملوك الأولين الذين كانوا قبلك ينوحون عليك ويقولون: واسيداه! لأن هذا القول الذي تكلمت به قاله الرب، هذا كله، وأجناد ملك بابل تحاصر أورشليم وتقاتلها.
ثم إن صديقيا أرسل إلى فرعون بمصر ليستنجد به فخرج جنده، فلما سمع بهم الكلدانيون انصرفوا عن أورشليم، وحل قول الرب على
324
إرميا أن هكذا يقول الرب إله إسرائيل لملك يهوذا الذي بعث إلى جند فرعون ليعينوه: هوذا الآن جند فرعون يرجعون إلى أرض مصر، ويرجع الكلدانيون ويقاتلون هذه القرية ويحتوون عليها ويحرقونها بالنار، هكذا يقول الرب، لا تظنوا في أنفسكم أن الكلدانيين الذين انصرفوا عنكم ليس يرجعون، بل إنهم يرجعون ويحرقون القرية بالنار ثم إن اليهود اتهموا إرميا بأنه يريد أن يفر إلى الكلدانيين فجلدوه وطرحوه في السجن، فأخرجه الملك صديقيا وسأله في البيت سراً عن قول الرب فقال له: في يد ملك بابل تدفع، وقال له: ماذا أخطأت إليك وإلى عبيدك وإلى هذا الشعب إذ طرحتموني في السجن؟ وأين الذين كانوا يتنبؤون لكم أنه لا يأتي عليكم ملك بابل ولا على هذه الأرض؟ فرده إلى السجن ولم ينزله إلى الجب لأنه كان لا يقدر على مخالفة أشراف مملكته.
ثم قال إرميا: هكذا يقول الرب: من يسكن هذه القرية بالحرب
325
فبالجوع والموتان يذهب، فأما من يخرج إلى الكلدانيين فإنه يحيي نفسه ويعيش، هكذا يقول الرب، فقال الأشراف: يقتل هذا الرجل لأنه يسقط أيادي المقاتلة الذين بقوا في القرية وأيادي الشعب إذا قال هذا الكلام، فقال الملك صديقيا: هوذا منذ وقع في أيديكم لا يستطيع أن يغير هذا الكلام، ولم يكن الملك يقدر يقول لهم شيئاً، فأخذوا إرميا وطرحوه في جب إميلخيا بن الملك في دار السجن، والجب لم يكن فيه ماء ولكن حمأة، فغرق إرميا في الحمأة، وسمع عبد الملك حبشي وكان رجلاً مؤمنا فقال للملك: يا سيدي! بئس ما صنع هؤلاء القوم بالنبي إذ طرحوه في جب، وهو ذا يموت، فقال الملك: خذ معك من هنا ثلاثين رجلاً، وانطلقوا اصعدوا إرميا من الجب قبل أن يموت، وإن عبد الملك أخذ رجالاً ودخل إلى الخزانة التي أسفل بيت الملك، وأخذ من ثَمَّ خلقاناً فسبسبها إلى إرميا بالحبل وقال له: خذ هذه الخلقان، واجعلها تحت إبطيك، لئلا
326
يعقرك الحبل، ففعل إرميا كذلك وأصعدوه من الجب وأجلسوه في دار السجن، وأرسل الملك فأدخل إرميا إليه وجعله في داخل ثلاثة أبيات، مخدع داخل مخدع وقال له: إني أسألك أن لا تكتمني شيئاً، قال إرميا لصديقيا: إني أخاف أن تقتلني، وإن أنا أشرت عليك لم تطعني، فقال صديقيا: حيّ هو الرب الذي خلقني إني لا أقتلك ولا أدفعك إلى الناس الذين يريدون نفسك، فقال إرميا: هكذا يقول الرب إله إسرائيل: لئن خرجت إلى أشراف ملك بابل لتحيين نفسك، وهذه القرية تسلم ولا تحرق بالنار، وتعيش أنت وبنوك، وإن أنت لم تخرج إليهم فستدفع هذه القرية إلى الكلدانيين ويحرقونها بالنار وأنت فلا تنجو من أيديهم، فقال الملك لإرميا: إني أخشى من اليهود أن أخرج إلى الكلدانيين فلعلهم يدفعونني في أيديهم ويهزؤون بي، قال إرميا: إنهم ليس يدفعونك في أيديهم، اسمع إلى كلمة الرب لمنفعتك لتحيي نفسك.
وحل على إرميا قول الرب إذ كان محبوساً في دار الحرس: انطلق فقل للعبد الحبشي الذي للملك: هكذا يقول الرب القوي إله
327
إسرائيل: هو ذا آتي على هذه القرية بالشر، ويكونون قدامك في ذلك اليوم، وأنجيك، قال الرب: ولا تدفع في يد القوم الذين لا يخشون الله، ولا تسقط في الحرب، ولكنك تنجو بنفسك لأنك توكلت على ما قال لك الرب.
وجلس إرميا في دار السجن حتى اليوم الذي أخذ فيه الكلدانيون أورشليم في السنة التاسعة لصديقيا ملك يهوذا في الشهر العاشر، وفي تسعة من الشهر أتى بختنصر ملك بابل في كل أجناده إلى أورشليم وحلوا عليها، وفي إحدى عشرة سنة لصديقيا في الشهر الخامس انثلمت القرية، فأتى كل أشراف ملك بابل إلى الباب الأوسط، فلما رأى صديقيا أنهم قد جلسوا في الباب الأوسط وقد هرب المقاتلة وخرجوا بالليل، خرج الملك أيضاً من الباب الذي بين السورين في طريق نيسان، فلما صار إلى الصحراء طلبه جند الكلدانيين على الأثر، فأدركوه في صحراء أريحا وافترق عنه أجناده فساقوه حتى أصعدوه إلى بختنصر ملك بابل في ديلاب من أرض حماة وذبح
328
ملك بابل بني صديقيا وكل أشراف يهوذا، وأعمى عيني صديقيا وأوثقه في السلاسل لكي يذهب به إلى بابل، وأحرق بيت الملك وبيوت الشعب بالنار، واستأصل السور المحيط بأورشليم، وكذا بقية الشعب، الذين بقوا في القرية والذين هربوا إليه سباهم ودفعهم إلى وازردان صاحب شرطته، فانطلق بهم إلى بابل، ومساكين الشعب - الذين ليس لهم شيء - تركهم في أرض يهوذا، واستعمل عليهم أخيقام بن شافان، وأمر بختنصر صاحب شرطته أن يأخذ إرميا وقال: لتكن عينك عليه، ولا تفعل به بأساً، وما قال لك من شيء فافعله، فأرسل إلى إرميا فأخذه من دار الحبس، ودفعه إلى أجدليا بن أخيقام بن شافان ليرده إلى بيته، وقال وازردان صاحب الشرطة لإرميا: إلهك الذي قال هذا الشر على هذه البلدة وفعل كالذي قال، لأنكم أخطأتم للرب ولم تسمعوا صوته، فأنزل بكم هذا الأمر، وأما أنت فهاأناذا قد أحللتك من السلاسل التي كانت في يديك، فإن شئت أن تأتي معي إلى بابل فتعال، وإن شئت فأقم، فهذه الأرض
329
في يديك كلها، فحيثما كان خيراً لك وحيث يحسن في عينيك فانطلق إليه، وإلا فاجلس عند جدليا بن أخيقام بن شافان الذي سلطه بختنصر في يهوذا، وأعطاه صاحب الشرطة مواهب في الطريق وسرحه بسلام، فأتى إرميا إلى أجدليا بن أخيقام إلى مسفيا، وجلس عنده مع الشعب الذين خلفهم ملك بابل في الأرض.
هذا ما دل على أولي البأس الشديد الذين سلطهم الله عليهم، وأما ما دل على رحمة الله لهم ففي تأريخ يوسف بن كريون أن الروم لما بلغهم أن بختنصر ملك بابل فتح مدينة المقدس ازداد خوفهم من الكسدانيين، فأرسلوا إلى بختنصر رسلاً وهدايا، وطلبوا منه الأمان والمسالمة، فآمنهم وعاهدهم على طاعته وموالاته، فاطمأنوا وآمنوا وانقطعت عنهم تلك الحروب إلى زمان دارا الملك، وكان
330
سبب الحروب بين الروم وبين الكسدانيين. أن الكسدانيين كانوا يعادون اليونانيين، فأعان الروم اليونانيين فغضب الكسدانيون من ذلك فحاربوا أهل رومية، واتصلت الحروب بينهم إلى هذا الحد، فلما انتقد الله العزيز على الكسدانيين طول تجبرهم وحكم بزوال ملكهم وانقضاء دولتهم كما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام، أثار عليهم من ملوك الأمم ملكين عظيمين: أحدهما دارا ملك ماداي، والآخر كورش ملك الفرس، فتزوج كورش ملك الفرس بنت دارا واتفقا على معصية الكسدانيين، وأظهر الخلاف على بلتشصار بن بختنصر ملكهم، ثم سار إلى بابل في عساكر قوية، فأرسل إليهم بلتشصر عسكراً كبيراً، فجرت بينهم حرب عظيمة، قتل فيها من الفريقين خلق كثير، ثم انهزم عسكر بلتشصر وهربوا، فتبعهم
331
كورش ودارا إلى مسيرة يوم عن بابل، وقتلا كثيراً منهم، وأقام دارا وكورش في ذلك الموضع، ثم إن بلتشصر بعث إليهما بألف قائد من قواده ومعهم جميع خاصته وجبابرته، فخرجوا من بابل آخر النهار، وساروا ليلتهم فانتهوا إلى عسكر دارا وكورش عند الصباح فكبسوهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، فانهزم دارا وثبت كورش فقاتل الكسدانيين ومنعهم أن يتبعوا عسكر دارا، وقامت الحرب بينهم طول النهار، ثم استظهر الكسدانيون على الفرس وقتلوا جماعة منهم، فانهزم الفرس وعاد قواد بلتشصار إليه ظافرين غانمين، فعظم سرور بلتشصار بذلك، وصنع لقواده صنيعاً عظيماً أحفل فيه وأحضر الآلات الحسنة من الفضة والذهب، وبالغ في إكرامهم وحضر معهم مجلس الشراب، فأكل وشرب وعظم سرورهم وسروره، فلما أخذ الشراب منه أراد أن يزيد في إكرام أصحابه وسرورهم، فأمر بإحضار آلات الذهب والفضة التي كان جده بختنصر الملك قد أخذها من هيكل بيت المقدس، ونقلها مع جالية بني إسرائيل إلى بابل، فأحضرت تلك الآلات بحضرة بلتشصر فشرب فيها الخمر وسقى فيها قواده ونساءه وجواريه، وأقبلوا يسبحون لأصنامهم ويحمدونها، قال: فسخط الله سبحانه من ذلك وكره ما فعله بلتشصار من ابتذال آلات القدس
332
ولم يخف من الله ولم يشكره على ما ظفره بأعدائه، فأرسل ملاكاً وأمره أن يكتب بحضرة بلتشصار ألفاظاً بأحمر تتضمن ذكر ما حكم الله به عليه وعلى مملكته، فحل الملاك بأمر الله عز وجل وكتب الألفاظ على حائط المجلس مقابل المنارة، وكان يرى أصابع الملاك وهي تكتب وما رأى بقية شخصه، وكانت تلك الأصابع شديدة البهار والنور، فلما رآها ذهل ولحقه رعب شديد وفزع وارتعد جميع جسمه رعدة شديدة، ورعب جيمع جنده، ولم يفهم تلك الكتابة ولا وجد في أصحابه من يقرأها لأن الخط كان كسدانياً وكان اللفظ عبرانياً.
فأمر بإحضار دانيال النبي - صلى الله على نبينا محمد وعليه السلام - فقرأها وفسرها وقال: أيها الملك! قد أخطأت خطأ عظيماً بابتذالك آلات قدس الله بأيدي جندك وجواريك فنجسوها، ولذلك سخط الله وأرسل ملاكه حتى كتب هذه الألفاظ ليعلمك ما يريد أن يفعله، فأما هذه الألفاظ المكتوبة فهي «حسب ووزن ونقل» وتفسيرها أن الله حسب مدة دولتكم التي قد جعلها لكم فوجدها قد انقضت
333
وانتهت ولم يبق منها شيء، ووزنك في الميزان فوجدك ناقصاً، يريد أنه جربك بالإحسان إليك والظفر بأعدائك فوجدك غير شاكر لإحسانه ولم تحمده، بل سبحت الأصنام، وأما تفسير «نقل» فإن الله قد قضى وحكم بزوال الملك عنك ونقله إلى كورش ودارا؛ قال: فلما سمع بلتشصار ما قال دانيال ازداد خوفه وفزعه واضطرب قواده أيضاً وفزعوا فزعاً شديداً وانصرفوا إلى منازلهم وهم خائفون، فلما نام بلتشصر في تلك الليلة جاء إليه خادم من خدمه فقتله على فراشه، وأخذ رأسه ومضى إلى دارا وكورش، وأخبرهما بخبر بلتشصار وما فعل من ابتذال آنية القدس، وخبر الكتابة التي كتبها الملاك قدامه وتفسير دانيال لها، وما أخبره به من انقضاء ملكه وانتقال دولته إلى ملوك مادي وفارس بسبب ابتذاله آنية القدس، فلما سمع دارا وكورش ما أخبرهما به ونظرا رأس بلتشصار شكرا الله عز وجل واعترفا بقدرته وأكثرا تسبيحه وتمجيده، ونذر كورش أنه يبني بيت الله بأورشليم، ويرد تلك الآنية، ويطلق جالية اليهود أن يرجعوا إلى بلادهم، ثم سار كورش ودارا من مواضعهما، ودخلا بابل وقتلا جميع أهلها بأشد
334
القتل وأعظم العذاب، فتم عند ذلك ما أخبرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من انتقام الله تعالى من الكسدانيين وأهل بابل ومجازاتهم بما فعلوه بآنية قدسه، ثم اقتسم دارا وكورش مملكة الكسدانيين فأخذ دارا مدينة بابل وأعمالها وتسلم قصر بلتشصار وجلس على سريره، وأخذ كورش جميع مملكة الكسدانيين التي هي غير بابل وأعمالها واستقر الأمر بينهما على ذلك، وكان دارا في ذلك الوقت شيخاً فلم تطل مدته فلما مات اتفق عظماء مادي وفارس على أن ملكوا عليهم كورش، ومنذ ذلك الوقت صار ملك مادي وفارس واحداً، وبقي الأمر على ذلك ولم يتغير، ولما تسلم كورش مملكة الكسدانيين، وجلس على كرسي بابل وملك على مادي وفارس حركه الله تعالى في السنة الأولى من ملكه، فذكر نذره الذي كان قد نذر أنه يطلق لجالية بني إسرائيل الرجوع إلى بلدهم، وأنه يبني قدس الله، ويرد آلاته إليه، فأمر بإحضار شيوخ الجالية وكبرائهم، فأخبرهم بما قد عزم عليه من بناء بيت المقدس وإطلاقهم وقال لهم: من اختار من
335
جالية اليهود أن يمضي إلى مدينة القدس لبناء الهيكل الذي أخربه بختنصر فليمض ويستعن بالله عز وجل فإنه يعينه، وأنا كورش عبد الإله العظيم أطلق من خزائني جميع ما يحتاج إليه من المال والعدد لعمارة بيت الرب الذي ظفرني بالكسدانيين، وأعطاني ملكهم، قال: فلما سمع شيوخ الجالية مقالة كورش عظم سرورهم بذلك وشكروا الله عز وجل على إحسانه، وطلعوا إلى مدينة بيت المقدس، ومعهم جماعة كثيرة، ومعهم عزرا الكاهن عليه السلام ونحميا ومردخاي ويشوع وسائر رؤساء الجالية ومقدميهم، فبنوا بيت الله على المقدار الذي رسم لهم كورش، وبنوا المذبح على واجبه وحدوده، وقربوا القرابين على واجبها، وكان كورش يطلق لهم كل سنة ما يحتاجون إليه لخدمة بيت الله من المال والحنطة والزيت والخمر والغنم والبقر، وأطلق لهم مالاً كثيراً، ولم يزل الأمر يجري على ذلك طول مملكة الفرس، قال: ثم عظم أمر كورش وبسط الله يده على جميع الأمم والممالك، وفتح له الحصون المنيعة وأعطاه كنوز الأرض
336
وذخائرها، ولم يزل مقبلاً مظفراً حيثما توجه كما أخبر الله تعالى على يد أشعيا النبي عليه السلام أنه يفعل ذلك بكورش من أجل إحسانه إلى بني إسرائيل؛ قال في سفر الأنبياء في نبوة أشعيا بن آموص: هكذا يقول الرب: أنا الذي أبطل آيات العرافين، وأصير كل تعريفهم جهلاً، وأرد الحكماء إلى خلفهم، وأعرف أعمالهم للناس، وأثبت كلمة عبيدي، وأتمم قول رسلي، لأنه قال لأورشليم: إنها تعمر، ولقرى يهوذا: إنها تبنى وتعمر خراباتها، ويقول للغور أن يخرب وتيبس أنهاره، ويقول لكورش: ارع لتتم جميع إرادتي، وتأمر ببناء أورشليم وتقيم هياكلها، هكذا يقول الرب لمسيحه وكورش الذي أخذ بيمينه لتخضع له الشعوب ويظهر على الملوك أبداً: افتح الأبواب بين يديه، ولا تغلق الأبواب أمامه، أنا أسير قدامه، وأسهل له العسر، أكسر أبواب النحاس، وأحطم أمخال الحديد، وأعطيه الذخائر
337
التي في الظلمات، والأشياء المطمورة المستورة، ليعلم أني أنا الرب الذي دعوته قبل مولده إله إسرائيل، من أجل عبدي يعقوب وإسرائيل صفِي دعوتك باسمك، وكنيتك من قبل أن تعرفني، أنا الرب ولا إله غيري - انتهى ما في سفر الأنبياء.
ولم يزل كورش يحسن إلى بني إسرائيل حتى مات وملك بعده ابنه تمكيشه فأنفذ ما كان صنعه أبوه من البر إلى اليهود وإطلاق الأموال الكثيرة لهم تعظيماً لبيت الله، وكان من بعده من ملوك الفرس على ذلك، ويطلقون ما كان كورش يطلقه للقرابين وغيرها، ويجلون بيت الله ويعظمونه ويتبركون به، حتى كان أحشويرش - وهو أردشير الملك - فتغيرت حال اليهود في زمانه بسبب وزير استوزره من العماليق يسمى هامان، ثم إن الله تعالى عطفه عليهم بسبب زوجة له من اليهود، ولم يزل أمرهم مستقيماً وهم تحت طاعة الفرس إلى أن ملك الإسكندر الثاني، قال ابن كثير في سورة الكهف: وهو الذي يؤرخ له من مملكة الروم، وقد كان قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة انتهى. وهو
338
الماقيدوني اليوناني الرومي، ملك بعد قتل أبيه فليفوس، وكان عمره حين ملك عشرين سنة، وكان حكيماً عارفاً بسائر العلوم، وكان الذي علمه الحكمة أرسطاطاليس الحكيم، وكان الإسكندر يشاوره في أموره ويرجع إلى رأيه ويتدرب بتدبيره، ولم يكن يشبه أباه ولا أمه، وكان وجهه كوجه الأسد وعيناه مختلفتين: اليمنى سوداء تنظر إلى أسفل، واليسرى صافية اللون كعين السنور تنظر إلى فوق، وأسنانه دقيقة حادة كأسنان الكلب، وكان شجاعاً جريئاً مقداماً من صباه، فلما فتح بلاد المغرب ورجع منها قصد بلاد الشام وتوجه إلى بيت المقدس فلقيه ملاك الرب فأمره أن يعظم القدس وأهلها، ففعل ثم قصد دارا الثاني ملك الفرس، فلما حاذى نابلس خرج إليه سنبلاط السامري صاحبها وحمل إليه أموالاً كثيرة وهدايا، ثم سار إلى دارا فقتله، ثم إلى ملك الهند فكذلك، ثم إلى مطلع الشمس، ثم أحب أن يرى أطراف الأرض فضرب فيها، ورأى من الأمم والعجائب ما هو مذكور في سيره، ورجع فمات ببابل، ثم كان أمر اليهود تارة وتارة وهم تحت حكم اليونان الذين ملكوا بعد الإسكندر، ثم غلب الروم فكان اليهود تحت أيديهم، وكانوا يقومون ويقعدون تارة وتارة إلى أن كثرت فيهم الأحداث، وعظمت المصائب والفتن، وعم الفساد،
339
وكثرت فيهم الخوارج، واتصل القتل والغدر والنهب والغارات، وقتلوا زكريا ويحيى وابنه عليهما السلام، وأطبقوا على إرادة قتل المسيح ابن مريم عليهما السلام، فرفعه الله تعالى إليه ثم سلط عليهم طيطوس قيصر فأهلكهم وأخرب البيت الخراب الثاني - كما سيأتي ثم لم يقم لليهود أمر إلى الآن.
فلما ثبت بكون ما توعد به سبحانه في أوقاته كما أخبر به بطشه وحلمه، فثبتت قدرته وعلمه، أشار إلى أن من سبب إذلاله لمن يريد به الخير المعصية، وسبب إعزازه الطاعة، فقال تعالى: ﴿إن أحسنتم﴾ أي بفعل الطاعة على حسب الأمر في الكتاب الداعي إلى العدل والإحسان ﴿أحسنتم لأنفسكم﴾ فإن ذلك يوجب كوني معكم فأكسبكم عزاً في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ﴿وإن أسأتم﴾ أي بارتكاب المحرمات والإفساد ﴿فلها﴾ الإساءة، وذكرها باللام تنبيها على أنها أهل لزيادة النفرة لأن كل أحد يتطير من نسبتها إليه عبارة كانت، فإذا تطير مع العبارة المحبوبة فكيف يكون حاله مع غيرها.
340
ولما انتهزت فرصة الترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية، عطف الوعيد الثاني بالفاء إشارة إلى أنه بعد نصر بني إسرائيل على أهل المرة الأولى، ولعلها أيضاً مؤذنة بقرب مدتها من مدة الإدالة فقال تعالى: ﴿فإذا جاء﴾ أي أتى إتياناً هو كالملجأ إليه قسراً على خلاف ما يريده الآتي إليه ﴿وعد الآخرة﴾ أي وقته، فاستأهلتم البلاء لما أفسدتم وأحدثتم من البلايا التي أعظمها قتل زكريا ويحيى عليهما السلام والعزم على قتل عيسى عليه السلام ﴿ليسوءوا﴾ أي بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوءوا ﴿وجوهكم﴾ أي يجعل آثار المساءة بادية فيها، وحذف متعلق اللام لدلالة الأول عليه ﴿وليدخلوا المسجد﴾ أي الأقصى الذي سقناكم إليه من مصر في تلك المدد الطوال وأعطيناكم بلاده بالتدريج، وجعلناه محل أمنكم وعزكم، ثم جعلناه محلاً لإكرام أشرف خلقنا بالإسراء به إليه وجمع أرواح النبيين كلهم فيه وصلاته بهم ثَّمَ، وهذا تعريض بالتهديد لقريش بأنهم إن لم يرجعوا أبدل أمنهم في الحرم خوفاً وعزهم ذلاً، فأدخل عليهم جنوداً لا قبل لهم بها، وقد فعل ذلك عام الفتح لكنه فعل إكرام لا إهانة ببركة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم دائماً أبداً ﴿كما دخلوه﴾
341
أي الأعداء ﴿أول مرة﴾ بالسيف، ويقهروا جميع جنودكم دفعة واحدة ﴿وليتبروا﴾ أي يهلكوا ويدمروا مع التقطيع والتفريق ﴿ما علوا﴾ أي عليه من ذلك، وقيل: ما مصدرية، أي مدة علوهم فيكون ﴿يتبروا﴾ قاصراً فيعظم مدلوله، وأكد الفعل وحقق الوعد فقال: ﴿تتبيراً *﴾.
وقال في التوراة إشارة إلى هذه المرة الأخيرة - والله أعلم - بعد ما مضى من الإشارة إلى المرة الأولى سواء: وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب لتتقي الله ربك وتهاب اسمه المحمود المرهوب، يخصك الرب بضربات موجعة ويبتليك بها ويبتلي نسلك من بعدك، وينزل بك جميع الضربات التي أنزلها بأهل مصر تدوم عليك، وكل وجع وكل ضربة لم تكتب في هذا الكتاب يبتليك الله بها حتى تهلك وتبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء، لأنك لم تسمع قول الله ربك، فيكون كما فرحكم الرب وأنعم عليكم وكثركم يستأصلكم بالعقاب والنكال، ويدمر عليكم ويتلفكم، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها، ويفرقكم الرب بين جميع الشعوب من أقطار السماء إلى أقطارها، وتعبدون هناك الآلهة الأخرى التي
342
عملت من الحجارة والخشب لم تعرفوها أنتم ولا آباؤكم، ولا تسكنون أيضاً بين تلك الشعوب ولا تكون راحة لأقدامكم، ولكن يصير الله قلوبكم فزعة مرتجفة، ويبتليكم بظلمة العين وسيلان الأنفس، وتكون حياتكم معلقة حيالكم من بعيد؛ وتكونون فزعين الليل والنهار، ولا تصدقون أنكم تعيشون، بالغداة تقولون: متى نمسي؟ وبالعشي تقولون: متى نصبح؟ وذلك من فزع قلوبكم وخوفكم ومن ظلمة أبصاركم وقلة حيلتكم، ويردكم الله إلى أرض مصر في سفن على الحال الذي قلت لكم، لا تعودون أن تروها أبداً، وتباعون هناك عبيداً وإماء، ولا يكون من يشتريكم، هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في أرض موآب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب - انتهى.
وإنما قلت: إن هذا إشارة إلى المرة الثانية، لأنه تكرير لذلك الذي قدمته في الأولى، فحمله على أن يكون مشيراً إلى غير ما أشار إليه الأول أولى، بل ربما كان متعيناً، ثم أخبرني بعض فضلاء اليهود أن علماءهم قالوا كذلك، وكان الخراب في هذه المرة على يد طيطوس
343
بعد أن تملك أبوه أسفسيانوس على الروم ورجع من الأرض المقدسة بعد موت ملكهم تيروس الذي كان أرسله لقتال اليهود لما خرجوا عن طاعته، وكان معه يوسف بن كريون أحد أكابر اليهود، وكان أحد من ندبه اليهود لقتال أسفسيانوس ومن معه، فأسروه وأحسنوا إليه فاستمر عندهم، فلما مات تيروس وملكه أصحابه رجع إلى رومية وبعث ابنه للفراغ من القدس وبعث يوسف معه بعد أن استمر البيت عامراً من عمارة العزير عليه السلام أربعمائة سنة وعشرين سنة، ولم يدخل بعد هذا الخراب في أيدي اليهود، وكان هذا لثلاثمائة سنة وثمانين سنة من ولاية الإسكندر، وقال مؤرخهم في شرح هذا الخراب: إن طيطوس كان في قيسارية، فسار منها حتى انتهى إلى يالو فأخذ من نقاوة عسكره ستمائة رجل، وسار إلى بيت المقدس ليقف على أحوال المدينة، وينظر الحصن، ويعلم ما يحتاج إلى علمه، ويدبر الأمور بحسب ذلك، وعمل على أن يراسل أهل بيت المقدس بالجميل ويدعوهم إلى المسالمة ويبذل لهم الأمان، فلما قرب من المدينة
344
وجد الأبواب مغلقة، وليس يخرج من المدينة ولا يدخل إليها أحد لما بين الخوارج من الحروب المتصلة، فما وجد من خاطبه من القوم، فانصرف راجعاً إلى عسكره.
قال: وكان قوم من أصحاب الخوارج لما علموا بمجيء طيطوس قد خرجوا من المدينة، فكمنوا له في بعض الطريق، فما اجتاز بهم وهو راجع أحاطوا به وحالوا بينه وبين أصحابه، فقاتلهم قتالاً شديداً حتى خلص بعد أن أشرف على الهلاك، فعلم ما القوم عليه من النجدة والشر فأعد لذلك عدته لما أراد الله من خراب القدس، وكان الله سبحانه وتعالى ملكه وعز سلطانه قد أظهر لبني إسرائيل أموراً دلتهم على زوال أمرهم لو أنهم تبصروا، منها شبه كوكب كبير له نور قوي وضوء شديد كان القدس يضيء منه البلد كله طول الليل قريباً من ضوء النهار، فأقام كذلك سبعة أيام مدة عيد الفصح، ففرح به الجهال واغتم العلماء، ومنها أنهم أحضروا في هذا العيد بقرة ليقربوها، فولدت خروفاً فاستنكر الناس ذلك، ومنها أن باب القدس الشرقي كان عظيماً ثقيلاً لا يعالجه إلا جماعة، فلما كان في تلك الأيام كانوا يجدونه كل يوم مفتوحاً من غير فاتح، فيجتمع الرجال المعتادون له فيغلقونه ثم يعودون إليه فيجدونه مفتوحاً، فكان الجهال يفرحون والعلماء
345
يغتمون، ومنها أنه ظهر على بيت قداس الأقداس في الهواء صورة وجه الإنسان شديد الحسن عظيم البهاء والنور، ومنها أنه ظهر أيضاً في الجو صور ركبان من نار يطيرون في الهواء قريباً من الأرض على بيت المقدس وعلى جميع أرض اليهود، ومنها أنه سمع الكهنة في ليلة عيد العنصرة في القدس حس جماعة كثيرة يذهبون ويجيئون في الهيكل من غير أن يروهم بل كانوا يسمعون وطأهم فقط، ثم سمعوا صوتاً عظيماً يقول: امضوا بنا حتى نرتحل عن هذا البيت، ومنها أنه كان قد ظهر قبل هذا بأربع سنين في المدينة رجل يمشي كالمجنون ويصيح بأعلى صوت يقول: صوت من المشرق، صوت من المغرب، صوت من أربع جهات الدنيا، صوت على أورشلام، وصوت على الهيكل، وصوت عل الحصن، وصوت على الفروس، وصوت على جميع الناس، الويل على أورشلام، الويل على أورشلام، وكان لا يهدأ من هذا الكلام، وكان الناس يبغضونه ويزجرونه ويتصورونه بالجنون، فلم يزل على ذلك إلى أن أحاط العدو بالمدينة،
346
فابتدأ في بعض الأيام يتكلم على عادته، فأتاه حجر في رأسه فمات ووجد في حائط قدس الأقداس حجر قديم مكتوب عليه «إذا صار بنيان الهيكل مربعاً ملك على أرض بني إسرائيل ملك عظيم، ويتسلط على سائر الأرض» فقال قوم: هو ملك بني إسرائيل، وقال الحكماء والكهنة: بل الروم، ووجد أيضاً حجر قديم مكتوب عليه «إذا كمل بنيان القدس وصار مربعاً فإنه عند ذلك يخرب» فلما وقع الحصار وانهدم أنطونيا سدوا السور فصار الهيكل مربعاً كما سيأتي، وأعظم الأمارات ما كان عليه خوارجهم من القتال، وسفك دماء الخاص والعام، والحريق والجوع، بحيث إنه أحاط البلاء بهم وبجميع الناس ولا يجدون مهرباً حتى كرهوا الحياة.
ولما خلص طيطوس من الخوارج بات في عسكره، ثم سار بالليل من يالو، فأصبح على بيت المقدس ونزل على رأس جبل الزيتون الذي في شرقي المدينة أورشليم، ليحجز الوادي بينه وبينها ولا يخفى عليه من يخرج إليه منها، ثم رتب عسكره ووصاهم بالتعاون والتظافر واليقظة والحذر، وأن لا يفارق بعضهم بعضاً، وقال: إنكم تقاتلون قوماً لم تقاتلوا مثلهم في البأس والشجاعة والصبر على القتال والبصر
347
بالحرب، فلما رآه اليهود اصطلح رؤساء الخوارج يوحانان وشمعون والعازار على أن لا يحارب بعضهم بعضاً ويتفقوا على محاربة الروم، واجتمعوا وفتحوا باب المدينة ولقوا من كان قرب من الروم، فقاتلوهم واشتد الحرب فانهزم الروم، فردهم طيطوس وشجعهم فعادوا فكانت بينهم حرب عظيمة قتل فيها خلق كثير، وانهزم اليهود فوقفوا عند السور وبعثوا جريدة من أصحابهم في عدد كثير من جهة أخرى، فداروا من وراء عسكر الروم، وزحف أولئك من أمامهم، فكان الروم بين العسكرين فقتل منهم خلق كثير فانهزموا، وثبت طيطوس في جمع من أصحابه فاشتد الأمر حتى كاد يقتل، فقال أصحابه: امضِ إلى الجبل، فاختار الموت على الهزيمة ولم يزل يقاتلهم حتى تخلص بعد أن استظهر عليه اليهود ثلاث دفعات، ولما عاد اليهود إلى المدينة نقضوا عهودهم وحارب بعضهم بعضاً كما كانوا، لأن يوحانان كان يريد الرئاسة، وكان شمعون والعازار يأبيان ذلك، وحضر عيد الفصح - وهو الفطير - فدخل يوحانان في أصحابه إلى القدس
348
في اليوم الأول، فلقيهم الناس بالجميل وسروا بهم، فنزعوا ما ظهر من ثيابهم فإذا تحتها السلاح، وأخذوا على الناس الأبواب، فقتلوا خلقاً كثيراً من الكهنة وغيرهم ولم يرحموا صغيراً ولا كبيراً، فقتل العازار وشمعون من كان خارج القدس من جماعة يوحانان، فخرج إليهم واشتد الأمر واتصلت الحرب، فلما علم طيطوس زحف إلى المدينة فقال له قوم من اليهود الذين على السور: نفتح لك الباب على أن تؤمننا وتريحنا من هؤلاء الخوارج، فلم يثق بهم لما ظهر لهم من شرهم وغدرهم، وعلت الأصوات في المدينة، لأن بعضهم كان يريد أن يفتح لطيطوس وبعضهم يمنع، وتبادروا إلى حفظ الأبواب والسور، فتقدم جماعة من الروم إلى المدينة طمعاً في أن يفتح لهم الباب فرماهم الخوارج بالحجارة والنشاب، وأعانهم الذين كانوا استدعوا الروم للدخول، ثم خرج جماعة من اليهود فهزموا الروم وأنكوا فيهم وتبعوهم إلى قرب عسكرهم، وشرعوا يهزؤون بهم ويعيرونهم بالهزيمة، فأراد من في العسكر أن يلاقوهم فمنعهم طيطوس واشتد غضبه على أصحابه وقال: لست أعجب من اليهود في غدرهم، ولكن أعجب منكم مع بصركم بالحرب وكثرة تجاربكم فكيف خدعوكم؟
349
فمضيتم إلى المدينة بغير أمري وخالفتم وصيتي، ولذلك انهزمتم لأنه لا يجوز للرعيه أن تخالف أمر الملك، وقد علمتم أن بعض ملوكنا قتل ابنه لأنه مضى إلى الحرب بغير أمره، فأنتم مستحقون للقتل بعصياني، مستوجبون لما جرى عليكم من الهزيمة، فسجد أصحاب طيطوس له واعترفوا بخطئهم وقالوا: لا نعاود، فأمرهم أن يعدلوا ما حول المدينة من المعاثر والوهدات، ويسدوا الآبار ليسهل عليهم القتال ويهدم السور، ففعلوا ذلك وقطعوا كل ما حول المدينة من الشجر والنبات، وكان حولها من سائر الجهات بساتين كثيرة فيها أنواع الأشجار والفواكه مسيرة أميال من كل جهة، فكان إذا أقبل إنسان عليها يرى أحسن منظر فلم يبق الروم من ذلك شيئاً، وكان من يعرف تلك البساتين إذا رآها بعد إتلافها يبكي ويستوحش، واشتغل اليهود بخوارجهم، واتفق شمعون والعازار على يوحانان وكان قد ملك القدس ومعه ثمانية آلاف وأربعمائة رجل من الشجعان، وكان مع شمعون عشرة آلاف من اليهود وخمسة آلاف من أدوم - أي النصارى - وكان الكهنة وجماعة من أهل المدينة مع العازار، وحصل الناس بين هؤلاء بأسوأ حال، وكانوا إذا استظهر الروم على المدينة اتفقوا وحاربوهم، فإذا دفعوهم عادوا إلى الشر فيما بينهم.
350
ثم إن طيطوس أحضر كبش الحديد وغيره من آلات القتال ليهدم السور، وصنع أبراجاً عظيمة من الخشب توازي سور المدينة وتحتها بكر ليدفعها الرجال وتصعد عليها المقاتلة، وأرسل إليهم رجلاً من أصحابه يدعوهم إلى المسالمة فرماه بعض من على السور فقتله، واصطلح الخوارج وخرجوا إلى الروم فقاتلوهم وأحرقوا الكبش وجميع تلك الآلات وأبعدوهم ورجعوا إلى المدينة يتقاتلون، فلما علم طيطوس بذلك دفع الكبش على السور فهدم منه قطعة كبيرة، فهرب من كان وراءه إلى السور الثاني، فأبعد الروم ما سقط من حجارة السور ليتسع لهم المجال، فاصطلح الخوارج وفرقوا أصحابهم على جهات المدينة، واشتد بينهم وبين الروم، وصدق الفريقان، وتولى طيطوس الحرب بنفسه، وأقبل يشجع أصحابه ويعدهم بالأموال والصلات، وشجع الخوارج أصحابهم ونادى شمعون: من انهزم قتل وهدم منزله.
فلما رأى طيطوس ثبات أصحاب شمعون مال إلى جهة يوحانان، ولأنها معتدلة وطيئة، وأراد أن ينطح السور الثاني، فناداه رجل
351
اسمه قصطور من فوق السور: أسألك يا سيدي أن تشفق على هذه المدينة والأمر يجري على ما تحب، فظن طيطوس صدقه فتوقف وشرع يكلمه، وأطال المراجعة احتيالاً منه ليتمكن أصحابه من إحراق الكبش، ثم سأله أن يبعث له شخصاً من أصحابه ليتفق معه، فأرسل إليه شخصاً من وجوه الروم فقال له: اقرب حتى ألقي إليك ما لي ثم انزل، فألقى عليه صخرة فأخطأته وقتلت رجلاً كان معه، فغضب طيطوس ودفع الكبش على السور الثاني فانهدم منه قطعة كبيرة، فاشتد أسف قصطور فقتل نفسه، وتبادر اليهود فمنعوا الروم من الدخول من الموضع الذي انثلم، وحاربوهم إلى أن أخرجوهم عن السور الأول وقتلوا جماعة منهم، واتصلت الحرب بين الفريقين أربعة أيام، وورد على طيطوس في اليوم الرابع عسكر كبير من أمم مختلفة تعينه على اليهود، فخرج اليهود على عادتهم فقاتلوهم فلم تكن لهم بهم طاقة فانهزموا ودخلوا إلى الحصن الثالث، فأمر طيطوس برفع الحرب وكف عنهم خمسة أيام، وركب في اليوم الخامس وتقدم إلى قرب السور،
352
فوجد يوحانان وشمعون وأصحابهما قد خرجوا من المدينة ليحرقوا الكبش، فابتدأهم طيطوس بالسلام وخاطبهم بالجميل والملاطفة وقال: قد رأيتم ما جرى من هدم هذين السورين، وليس يتعذر هدم السور الثالث، وقد علمتم أنكم ما انتفعتم في هذه المدة بما فعلتموه، وكذلك لا تنتفعون أيضاً بدوامكم على ما أنتم عليه من اللجاج في مخالفتنا. فارجعوا عن ذلك قبل أن أهدم هذا السور الباقي، وأستبيح المدينة، وأخرب الهيكل، ولست أختار ذلك ولا أريده، فإن رجعتم إلى طاعتنا كنا لكم على أفضل ما عهدتموه منا، ودامت لكم السلامة، وزال عنكم ما أنتم فيه من المكروه.
وأمر يوسف بن كريون أن يقرب منهم ويبلغ معهم الغاية في القول ويستدعيهم إلى المسالمة ويبذل لهم من الأمان والعهود ما يثقون به ويسكنون إليه، فوقف قدام باب المدينة وقال: اسمعوا مني يا معشر بني إسرائيل ما أنا مخاطبكم به، فإني إنما أخاطبكم يما ينفعكم ويعود بصلاحكم إن قبلتموه، واعلموا أن محاربة الأعداء ومقاومتهم قد كانت تحسن بكم حين كانت بلدانكم عامرة، وعساكركم متوافرة، وأحوالكم مستقيمة، فأما بعد أن
353
بلغتم إلى هذه الحال، من خراب البلدان وفناء الرجال، وذهاب النعم واختلال الأحوال، فكيف تطمعون في مقاومة هذه الأمة العظيمة القوية التي قد قهرت الممالك والأمم واستولت عليهم، فعلى أيّ شيء تعتمدون؟ فإن قلتم: إنا نعتمد على الله عز وجل ونرجو أن ينصرنا كما جرت عادته مع آبائنا، فيجب أن تعلموا أنه هو الذي سلط عليكم هذه الأمة لسوء أفعالكم وكثرة ذنوبكم، لأنكم ارتكبتم المحارم، وسفكتم الدماء، ونجستم هيكل الله المقدس، وقتلتم كهنته وصلحاء أمته ظلماً، فكيف ترجون من الله النصر والمعونة مع هذه الأفعال القبيحة والله لا ينصر من عصاه، وإن كنتم تتكلون على الحصون والعدد والعساكر فأنتم تعلمون أن جميع ذلك قد ذهب أكثره، ولم يبق منه إلا القليل، وهذه المدينة قد هدم سوران من أسوارها ولم يبق غير واحد وهم مجدون في هدمه، وأنتم كل يوم في نقصان وضعف وعدوكم في زيادة وقوة، فإن دمتم على ما أنتم عليه هلكتم ولم يبق منكم باقية، فإن
354
قلتم: إنا نختار القتل على الذل للأمم وطاعتهم، فقد علمتم أن آباءنا وأصولنا - وهم السادة الذين يجب علينا أن نقتدي بهم - لم يمتنعوا من مسالمة الأمم الذين جاوروهم ومداراتهم، ولو كان أمراً مكروهاً لقد كانوا أولى بكراهته منكم، والمتقدمون منا أطاعوا المصريين في أزمان كثيرة وملوك الموصل والكسدانيين والفرس ثم اليونانيين الذين جاروا عليهم وأساؤوا إليهم وصبروا على ظلمهم لهم على أن أذن الله بخلاصهم منهم على أيدي بني حشمناي الكهنة، ثم أطاعوا بعد ذلك ملوك الروم إلى هذه الغاية، ولم يروا أن عليهم نقصاً في طاعتهم، وكذلك أنتم إن أطعتموهم كان ذلك أولى بكم من أن تعرضوا أنفسكم للهلاك، ونعمتكم للزوال، وبلدكم للخراب، وتحصلوا بعد ذلك في أضعاف ما كرهتموه من الذلن ولا يعذركم في ذلك عاقل ولا يحمد رأيكم، على أن الروم ما زالوا محسنين إليكم، كفوكم أمر أعدائكم من اليونانيين، وأزالوا سلطانهم عنكم، وأعانوكم على كثير من الأمم الذين يعادونكم حتى غلبتموهم واستوليتم عليهم، فأنتم بطاعتهم أولى منكم بمعصيتهم، وقد علمتم أن الله عز وجل قد جعل لكل أمة دولة وسلطاناً سلطها فيه، فإذا انقضى ذلك الزمان زالت دولتها وسلطانها فذلت لغيرها وخضعت لمن كان يخضع لها،
355
وقد بسط الله أيديكم زماناً، وسلطكم على غيركم دهراً، ثم جعل الدولة والسلطان لسواكم، وأراد أن يذلكم لهم، فمتى خالفتم مراد الله ولم تقبلوا حكمه هلكتم، وليس يشك في أن الله أراد في هذا الزمان أن يرفع الروم ويبسط أيديهم، لأنه قد أذل لهم الملوك وظفرهم بالأمم حتى أطاعهم من في سائر جهات الدنيا ممن هو أشد منكم بأساً، وأكثر عدداً، وأقوى سلطاناً، وكيف تطمعون في أن تغلبوهم وأنتم تشاهدون إقبالهم وقوة أمرهم ومعونة الله لهم، وترون أنفسكم بخلاف ذلك، وليس يعيب الإنسان ولا ينقصه طاعته لمن هو أقوى منه وأعلى يداً، لأن الله عز وجل قد جعل أمر الخلق في الدنيا مبنياً على أن يكون بعضهم تابعاً لبعض، وبعضهم قاهراً لبعض، وبعضهم محتاجاً إلى بعض، وكل صنف يخضع لمن هو أقوى منه ويذل له ويطيعه، وذلك ظاهر موجود في الناس على طبقاتهم، وفي الحيوانات على اختلافها، وليس يستغني عن ذلك أحد، ولا يذمه عاقل، وإذ كان الأمر كذلك فليس ينقصكم طاعة الروم، ولا الروم بأول من أطعتموهم وقد تقدمت طاعتكم لهم منذ سنين؛ وقد ابتدؤوكم في هذا الوقت بالجميل، ودعوكم إلى المسالمة، وبذلوا لكم الأمان، وضمنوا لكم الإحسان، وظهر منهم الإشفاق على مدينتكم وقدسكم فاتقوا الله،
356
وتلافوا أمركم، وأحسنوا النظر لمن بقي منكم، فارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعتهم لتبقوا وتتماسك أحوالكم، وتسلم هذه المدينة وهذا القدس الجليل قبل أن يهدم هذا الحصن الباقي فتهلكوا.
فصاح الخوارج بشتم يوسف والفرية عليه ورموه بالسهام والحجارة، فتباعد قليلاً وأغلظ لهم في الكلام وقال: يا معشر العصاة! أخبروني ما الذي حملكم على قتال الروم إن كنتم تقصدون بذلك صيانة القدس عن الأعداء فأنتم قد ابتذلتموه بالمعاصي ونجستموه بما سفكتم فيه من الدماء الكثيرة ظلماً، وإن كنتم تريدون نصرة الأمة وإعزازها فأنتم تقتلونها بأيديكم وتبالغون في ظلمها والإساءة إليها، وهل يفعل الأعداء بكم أكثر مما فعلتموه؟ أو يبلغون فيكم أكثر مما قد بلغتموه في أنفسكم؟ أخبروني متى كان من تقدم من أمتنا أو تأخر يغلبون من يحاربهم ويستظهرون على أعدائهم بالعساكر والعدد دون الصلاح
357
والتقوى؟ وهل تخلص من تخلص من الشدائد إلا بطاعة الله والدعاء له؟ وهل كانوا يغلبون إلا بنصر الله لهم ومعونته إياهم؟ وهل كان ينصرهم إلا إذا أطاعوه واتقوه؟ فلما عصوه سلط عليهم الأعداء ومكنهم منهم حتى قهروهم وأذلوهم، ولم ينتفعوا بعددهم وسلاحهم ولا قدروا على مقاومة الأعداء ببأسهم وقوتهم، وقد علمتم أن الله عز وجل كفى الصالحين في كل زمان أمر أعدائهم، فمنهم من دعا الله عز وجل عند الشدائد فاستجاب له بلا حرب، وأظهر الآيات العظيمة في معونتهم وكفايتهم، فبلغوا بذلك ما لم يكونوا يبلغون إليه بحولهم وقوتهم، ومنه من حارب الأعداء واستعان بالله عز وجل فأعانه على عدوه وظفره به، ولم يفعل الله مثل ذلك مع العصاة ليظهر فضيلة الصالحين، اعتبروا بأبيكم إبراهيم عليه السلام، لما أخذ فرعون امرأته ألم يضرب الله فرعون وأهله بالبلاء العظيم حتى خضع فانكسر ورد امرأة إبراهيم عليه السلام وهي سليمة، ثم أحسن إليه وأكرمه، فهل قدر إبراهيم عليه السلام على ذلك بالسيف والمحاربة أو بالصلاح
358
والدعاء إلى الله عز وجل؟ وكذلك فعل الله مع إسحاق عليه السلام لما أخذ أبيمالخ ملك فلسطين امرأته، وقد علمتم أن موسى عليه السلام لم يستظهر على فرعون وعساكر المصريين حتى هلكوا وتخلصت أمة بني إسرائيل منهم بحرب ولا عدة، بل بالدعاء وكفاية الله له، ولما حارب عماليق بني إسرائيل هل غلبوه إلا بدعاء موسى عليه السلام وصلاته؟ ويوشع بن نون عليه السلام لما عبر الأردن مع بني إسرائيل قد كان في جمع كبير وقوة فهل فتح يريحا بالحرب أو بالآية العجيبة في سقوط الحصن؟ ولما أخطأ عاخان بما أخذه من يريحا من الغنيمة التي نهى الله عنها بني إسرائيل ألم يسخط الله على الأمة بسببه حتى غلبهم أهل مدينة عاي وهم قليل، فلم يقدر بنو إسرائيل مع كثرتهم على مقاومتهم إلى أن صلى يوشع بن نون عليه السلام ودعا إلى الله عز وجل فاستجاب الله دعاءه ونصر بني إسرائيل على عاي وجدعون لما غلب عسكر مدين وعماليق مع كثرتهم
359
هل غلبهم إلا بمعونة الله لهم؟ واذكروا كيف انهزم عسكر الأرمن العظيم عن سبسطية بصلاة اليشع النبي عليه السلام ودعائه، وقد كان أهل المدينة أشرفوا على الهلاك من الجوع، فأوقع الله الخوف في قلوب الأرمن فانهزموا بغير حرب ولا قتال، وخرج أهل المدينة فغنموا عسكرهم وزال عنهم الجوع، واذكروا ما فعل الله مع نساء الملك ويوشافاط لما ظفرهما بأعدائهما بالدعاء والصلاة، وقد علمتم أن شمشون قبل أن يخطىء كان جباراً مظفراً، فلما أخطأ أسره أعداؤه فصار ذليلاً في أيديهم مثل أقل الناس وأضعفهم وطحنوه بالرحى مثل الإماء، وكذلك شاوول - وفي نسخة: طالوت - الملك لما كان طائعاً لله تعالى كان الله ينصره، فلما عصاه أسلمه الله إلى أعدائه فظفروا به، ولم ينتفع بعساكره وعدده، وأمصيا لما حارب أدوم غلبهم وظفر بهم، فلما أخذ أصنامهم ونصبها في بيت المقدس
360
سخط الله عليه، فلما حارب يواش ملك بني إسرائيل بعد ذلك انهزم أقبح هزيمة لخذلان الله له وتركه معونته، واذكروا هلاك عسكر سنحاريب ملك الموصل العسكر العظيم بغير حرب ولا قتال بل بصلاة حزقيا الملك والأنبياء عليهم السلام ودعائهم، واعتبروا بصدقيا الملك لما عصى الكسدانيين وظن أنهم يغلبهم بعساكره وبعدته وخالف الأنبياء عليهم السلام في مسالمتهم، هل انتفع بذلك؟ وهل كانت عاقبته وعاقبة الأمة إلا إلى الهلاك؟ فهذا وغيره مما لم أذكره لكم يدلكم على عناية الله بالأخيار، وخذلانه للعصاة الأشرار.
وساق لهم من مثل هذا كلاماً كثيراً بلغياً، ثم رغبهم في طاعة اسفسيانوس بالخصوص بما اشتهر من حسن سيرته، وقال: ولو لم تعلموا ذلك إلا بما عاملني به من الجميل، وقد كنت أستوجب منه غير ذلك لكفاكم، لأني كنت أول من اجتهد في محاربته، وقتلت خلفاً كثيراً من أصحابه، ولقد كنت أعلم أني خالفت الصواب، ولكني لما رأيتكم بأجمعكم قد اتفقتم على
361
محاربتهم وبعثتموني لم أخالفكم، وبذلت المجهود في مناصحتكم، وثبت في حصن يودنات إلى أن فنى أصحابي، وغلبني الأمر، ولم يبق لي حيلة، ثم حصلت مع الروم فما أساؤوا إليّ بل أحسنوا وأجملوا وعفوا عني وأنا معهم إلى هذه الغاية على ما أحب، وقد كنت اجتهدت قبل حصولي معهم أن أهرب إليكم فما تم لي ذلك، وأنا الآن أحمد الله تعالى إذ لم يسهل لي ذلك، فإني لو كنت معكم لكنت إما أن أشارككم في أفعالكم هذه فأكون مخطئاً، أو أخالفكم فتقتلوني ظلماً، فتأملوا ما خاطبتكم به ولا تظنوا أن الله ينصركم، فإنكم لا تستحقون ذلك لأنكم قد أسخطتموه، واستدلواعلى ذلك بآية عين سلوان، فإنها قد كانت قريبة من الجفاف قبل أن ينزل بكم هذه العساكر، فلما نزلوا غزرت فصارت كالنهر لتعلموا أن الله تعالى يريد معونة أعدائكم عليكم، وأنا أعلم أن كلامي لا يؤثر فيكم ليتم ما قد حكم الله به من هلاك هذه المدينة وخراب هذا القدس الجليل، ولذلك قد قست قلوبكم فصارت كالحجارة بل هي أقسى وأصلب من الحجارة، لأن الحجر قد يؤثر فيه
362
الماء إذا دام انصبابه عليه، وأنتم لا تؤثر فيكم المواعظ الكثيرة، ولا تلين قلوبكم ولا تنكسر، ولكني قد بلغت الغاية فيما يلزمني من نصيحتكم، فاقبلوا نصحي وأشفقوا على هذا القدس الجليل الذي بنته الأنبياء المقدسون والملوك العظماء، فإن بقاء عزكم وثبات أمركم مقرون ببقائه وعمارته، وإن خرب لم يبق لكم عز ولا إقبال ولا دولة، فاقبلوا ما بذله لكم ابن الملك من الأمان، وثقوا بعهده وما ضمنه من الإحسان، وأنا الضامن لكم عنه، وإن اتهمتموني بأني أخدعكم وأريد معاونة الروم عليكم فأنتم تعلمون أن أبي وأمي وزوجتي الكريمة عليّ وأولادي معكم، فإن ظهر لكم من طيطوس بعد مسالمتكم له ما تكرهون فاقتلوهم واقتلوني فقد وهبتكم دماءهم ودمي على ذلك.
ثم بكى يوسف بكاء شديداً، وكان طيطوس يسمع كلامه فرق له وأمر بإطلاق من كان من السبي في عسكره، وأطلق لهم أن يمضوا حيث شاؤوا فمال أكثر أهل المدينة إلى طاعة طيطوس، فمنعهم الخوارج ووكلوا بأبواب المدينة من يحفظها، وأمروا الموكلين أن يقتلوا كل من أراد الخروج، ولما طال الحصار اشتد الجوع، وكان الخوارج يفتشون منازل الناس وينهبون الطعام ويقتلون من مانعهم عنه، فكان الناس يموتون في المدينة بالجوع، ومن أراد الخروج إلى ظاهر
363
المدينة ليأخذ شيئاً من نبات الأرض قتله الخوارج، وإن قدر على الخروج قتله الروم، فأفناهم ذلك، وكان طيطوس إذا سمع ذلك رق لهم واستعطفهم، فلا يزيد استعطافه الخوارج إلا قسوة، ويخاطبونه بالقبيح ليكف عن ذلك لئلا يميل معه الناس، فلما رأى ذلك جد في إخراب السور الثالث ليخلص الناس من الخوارج، فقسم عسكره أربعة أقسام ونصب كباشاً على الجهات الأربع، فخرج إليهم الخوارج فقاتلوهم قتالاً شديداً، وقتلوا من الروم خلقاً كثيراً، وكانوا قد ندبوا أربعة من أشدائهم لإحراق الكباش إذا اشتغلوا بالقتال، ولم يزالوا يقاتلونهم حتى تم لهم ما أرادوا وأحرقوا الكباش وجميع آلاتها، ونظر الروم من شجاعة اليهود وبأسهم ما هالهم فانهزموا، فردهم طيطوس وجعل يشجعهم وقال: أما تأنفون أن يغلبكم اليهود بعد أن استظهرنا عليهم، وهدمنا سورين من أسوار المدينة، ولم يبق غير سور واحد، وقد هلك أكثرهم وليس لهم من ينصرهم، ونحن فعساكرنا متوافرة، ومعنا أمم كثيرة تعيننا عليهم، ثم أمرهم أن يتركوا قتالهم حتى يهلكوا من الجوع، فضبطوا جميع
364
طرق المدينة، فضاق الأمر بهم جداً واشتد الجوع، ولم يكن أحد يقدر أن يطحن قمحاً لئلا ينهب، ولا يخبر لئلا يفضحه الدخان، فكان من عنده شيء يستفّون القمح والدقيق، فمات كثير من الناس، واشتغل الأحياء بأنفسهم، فما كانوا يدفنون موتاهم، وكان الحي ربما أخذ ميته فألقاه في بئر ثم يلقي نفسه بعده ليموت، وكان بعضهم يحفر له قبراً ثم يضطجع فيه حتى يموت، وامتلأت الشوارع بالموتى، فكان الخوارج يلقونهم من السور إلى الوادي الشرقي، فلما رآهم طيطوس اغتم ورق لهم، وكان ببيت المقدس امرأة من أهل النعم، أصلها من مدينة في حيرة الأردن، فلما كثرت الفتن هناك انتقلت في جملة من انتقل إلى بيت المقدس بجميع عبيدها وسائر نعمتها، ولم يكن لها غير ابن واحد صغير وهي تحبه حباً شديداً، فلما قويت المجاعة، ونهب الخوارج جميع ما عندها، اشتد بها الأمر وكان ابنها يتضور من الجوع، فلما زاد بها الجوع وما يؤلم قلبها من تضور ابنها، أرادت قتل ابنها لتأكله، فبقيت حائرة لا تدري على أيّ الأمرين تحمل نفسها، هل تقتل ولدها العزيز عليها بيدها، وذلك من أعظم الأمور وأشنعها، أم تصبر على
365
ما تراه به وبنفسها من البلاء وقد فارقها الصبر وعدمت الجلد، ثم زاد بها الجوع فزال عنها التمييز فقالت: يا ابني وواحدي! قد كنت آمل أن تعيش حتى تبرني، وكنت أخاف أن تموت قبلي فأفجع بموتك، فيا ليتني كنت قد ثكلتك فدفنتك واحتسبتك عند الله، والآن يا ولدي فقد أحاط بنا المكروه وأيقنا بالهلاك، فالحي لا يرجو الحياة والميت لا يدفن، وأنا وأنت هالكان، وإن مت يا بني لم يدفنك أحد وكنت كغيرك ممن أكلته الكلاب وطيور السماء، وقد رأيت أن أقتلك لتستريح مما أنت فيه ثم آكلك فأجعل بطني التي حملتك فيها قبراً لك، وأسد بك جوعي، فيكون ذلك عوض برك بي الذي كنت أرجوه، وتنال بذلك الأجر العظيم، ويكون ذلك عاراً على هؤلاء الخوارج الذي أوقعونا في هذا البلاء، وزيادة في سخط الله عليهم، ويذكر ذلك على ممر الدهر، ويتحدث به بعدنا الأجيال، ويعتبر به ذوو الألباب، ثم قبضت على ابنها بيدها الواحدة وأخذت الحديدة بالأخرى وهي كالمجنونة،
366
وحولت وجهها عنه لئلا تراه وضربته بالحديدة فمات، ثم أخذت منه وشوته وأكلته، فلما شم الخوارج ريح ذلك اللحم هجموا عليها فقالوا لها: من أين لك هذا اللحم؟ ولم استأثرت به علينا؟ فقال: ما كنت بالتي أوثر نفسي عليكم فاجلسوا، فجاءت بالمائدة وأخرجت ما بقي من جسم ابنها وقالت: هذا ولدي وأعز الناس عندي قتلته بيدي لإفراط الجوع وأكلت من لحمه، وهذا بقية جسمه عزلتها لكم، فكلوا واشعبوا ولا تكونوا أشد رحمة لولدي مني، ولا تضعف قلوبكم عن ذلك فإنه قبيح لشجعان مثلكم أن تكون امرأة أقوى قلباً منكم، وأنتم أحق بأن ترضوا بهذا مني، لأنكم الذين سببتم علينا البلاء حتى بلغنا هذا المبلغ، ثم رفعت صوتها تبكي وتنتحب وتنوح على ابنها، فلما رأوا ذلك هالهم وخرجوا مذعورين واشتهر خبرها، فقلق الناس قلقاً شديداً، وتحققوا صحة الوعيد الذي سبق من الله، وانكسر الخوارج لذلك واستعظموه وأطلقوا للناس الخروج، فخرج في ذلك الوقت خلق كثير.
367
فلما اتصل ذلك بطيطوس استعظمه واشتد خوفه من الله تعالى، فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم! أنت العالم بالخفيات والمطلع على السرائر والنيات، أنت تعلم أني لم أجىء إلى هذه المدينة لأسيء إلى أهلها ولقد ساءني أمر هذه المرأة فلا تؤاخذني به، وطالب هؤلاء الخوارج وانتقم منهم، وظفرني بهم ولا تمهلهم. وأمر بالإحسان إلى من خرج إليه من اليهود، فكان كثير منهم لا يقدرون على فتح أفواههم، وكثير منهم مات لما أكل الطعام، وكان الصبيان وغيرهم يختطفون الخبز إذا نظروه وينهشونه بلا عقل، فإذا أكلوا ماتوا، فقال طيطوس ليوسف بن كريون: ما الحيلة في هؤلاء حتى لا يموتوا؟ فقال: ينبغي أن يسقوا اللبن والحساء الرقيق أياماً حتى تلين أمعاؤهم، ثم الطعام بعد ذلك، ففعل ذلك فسلم منهم جماعة. وتقدم الروم إلى السور الثالث ليهدموه فخرج إليهم يوحانان وشمعون وأصحابهما مع ما هم فيه من الضر فقاتلوهم قتالاً شديداً، وقتلوا منهم جماعة، فأمر طيطوس بدفع الكبش على السور، فدفع عليه في الليل فهدم، وكبر الروم تكبيراً عظيماً وكبر اليهود من داخل المدينة، فلم يجسر الروم على
368
دخول المدينة، فلما أصبحوا إذا سور جديد بإزاء الهدم قد بناه اليهود تلك الليلة وهم قيام عليه، فاستعظم الروم ذلك وأيسوا من الفتح، فقال طيطوس: هذا رطب لم يستحكم، وإذا ضربه الكبش أسرع الانهدام، فطلع الروم على السور الذي هدموه، ووقف اليهود على الجديد واشتد القتال، فهزمهم اليهود بعد أن قتلوا كثيراً منهم فضجر الروم وعزموا على الرحيل، فجمع طيطوس أصحابه وقال: اعلموا أن كل من يعمل عملاً فإنما قصده إلى الغاية: ولذلك يصبر على التعب ليبلغ ما أراد، وربما كان آخر العمل أشق من أوله، فإن تركه ذهب تعبه ضائعاً وبقي عمله ناقصاً لا ينتفع به.
وضرب لهم أمثالاً في ذلك ثم قال: وأنتم قد صبرتم على محاربة هؤلاء القوم واستظهرتم عليهم إلى هذه الغاية حتى هلك رؤساؤهم وجبابرتهم، وخربت حصونهم ونفوا بالجوع والسيف، ولم يبق منهم غير شرذمة يسيرة كالموتى، فأن انصرفتم كنتم قد ضيعتم تعبكم وأنتم على أنفسكم وأهنتموها
369
عند كل من يسمع خبركم، ولو كنتم انصرفتم عنهم قبل هذا كان أحسن بكم، وأما الآن فلا عذر لكم في عجزكم عن محاربة قوم قد بلغ بهم الضر والجوع هذا المبلغ، فإن رجعتم عنهم طمع فيكم كل أحد، واجترأ عليكم كل من يخافكم، ولم لا تتأسون باليهود في الصبر والشجاعة مع فناء رجالهم، واجتماع المكاره عليهم، وانقطاع رجائهم، فصبرهم إما طمعاً في الظفر، أو أنفة من الغلبة، أو رغبة في بقاء الذكر، فأنتم أحق بذلك منهم لتدفعوا العار عن أنفسكم على أنكم قد صبرتم في أيام تيروس قيصر على محاربة هؤلاء القوم، وعملتم على أن لا ترجعوا عنهم إلا بعد الظفر، فلما ملك أسفسيانوس الذي هو أشجع من تيروس وأعظم بأساً، أردتم أن ترجعوا عنهم قبل أن تظفروا، فأيّ عذر لكم. فلما سمعوا هذا ثبتوا.
ثم مضى جماعة منهم ليلاً، فصعدوا من تلك الثلمة ودخلوا إلى المدينة فكبروا، فانتبه اليهود وكانوا قد ناموا لطول تعبهم وضرهم، ولزم كل منهم مكانه، ومضى طيطوس إلى أصحابه فوقف عند السور
370
إلى أن أصبحوا، فانهزم اليهود إلى القدس وتبعهم الروم فاقتتلوا في الصحن البراني، ولم يكن إلا السيوف لضيق الموضع، فكان بينهما قتال لم يكن فيما مضى لاستقبال الجميع، لأنهم حصلوا في موضع لا مطمع فيه بالسلامة إلا بالصدق في القتال، وكان الكل رجالة، فعظمت الحرب بينهم وعلت أصواتهم وضجيجهم حتى سمعت من البعد، وكثرت القتلى في الفريقين واستظهر اليهود آخراً وأخرجوا الروم قرب ربع النهار، وأمر طيطوس بهدم سور مضوع متصل بالقدس يسمى أنطونيا ليتسع المجال لأصحابه، فلما هدم ذلك انثلم سور القدس وسهلت الطريق إليه، فبادر اليهود وبنوه وأدخلوه في جملة القدس فصار مربعاً، فكان ذلك تصديق ما رأوه قبل ذلك مكتوباً على الحجر القديم المقدم ذكره «إذا كمل بنيان القدس فصار مربعاً فعند ذلك يخرب بيت المقدس» وكان اليهود قد نسوا ذلك، فلما رأوه تذكروا وعلموا أن المدة قد تمت وأنه سيخرب.
وكان يوم هذه الحرب العظيمة عيد العنصرة، فقرب طيطوس من القدس وكلمهم ورغبهم في المسالمة ليتمكنوا من العبادة في هذا العيد، ووعدهم بالإحسان إليهم وقال: قد علمتم أن ملككم بحنيا لما حاصره
371
بختنصر ملك بابل وخرج إليه مستأمناً، انتفع بذلك ونفع قومه وبلده فسلموا، وأن صدقيا الملك لما لج في محاربة بختنصر ولم يسالمه كما أمرته الأنبياء، أهلك المدينة والأمة وأساء إلى نفسه وإليهم، فسبيلكم أن تعتبروا بهما وتهتدوا بأصوبهما فعلاً وأحمدهما عاقبة، فاقبلوا نصيحتي، واكتفوا بما جرى، ووعدهم أن يعفو عن جميع ما تقدم ويحسن إليهم - وأطال الكلام.
وكان يوسف بن كريون يترحم لهم ويبكي بكاء شديداً، ثم قال لهم يوسف: إني لست أعجب من خراب هذه المدينة، لعلمي بأن مدتها قد انتهت، ولكني أتعجب منكم وأنتم تقرؤون كتاب دانيال النبي عليه السلام وتعلمون ما ذكره من بطلان القرابين وعدم الكاهن المسيح، وأنتم مع ذلك لا تنكسرون ولا تخضعون لله، ولا تستسلمون لمن قد سلطه الله عليكم. فلم يقبل الخوارج ولا رجعوا غير أن جماعة من الكهنة والرؤساء تم لهم الخروج إلى الروم فآمنهم وأحسن إليهم، فمنع الخوارج من بقي، وضبطوا الطرق، فبكى اليهود وشكوا منع الخوارج لهم من الخروج، فأراد الخوارج قتلهم فبادر الروم ليخلصوهم فهجموا إلى القدس فقاتلوهم قتالاً شديداً فانهزم الروم، وأدتهم الهزيمة
372
إلى داخل القدس الأعظم قدس الأقداس، فقتلهم اليهود فيه، فاختار طيطوس من عسكره ثلاثين ألفاً وأمرهم أن يدخلوا إلى صحن القدس لمحاربتهم، وأراد هو الدخول معهم فمنعه أصحابه وقالوا: قف على موضع عال لتقوى قلوب أصحابك، ويبذلوا المجهود في القتال، ولا تخاطر بنفسك وبنا، واتفق رأيهم على بيات، فعلم بذلك اليهود فلم يناموا تلك الليلة، فلما أصبحوا افترق اليهود على أبواب صحن القدس وأقاموا على مقاتلة الروم سبعة أيام، فقتلوا منهم جماعة كثيرة وأبعدوهم عن القدس، فأمر طيطوس أصحابه بالكف عنهم ليفنيهم الجوع، وكان بقرب القدس قصر عظيم من بناء سليمان بن داود عليهما السلام، ثم زاد فيه ملوك البيت الثاني طبقة عالية من الخشب الحسن ووزروا جميع الجدر بالخشب، فطلوا جميع ما فيه من الخشب بالنفط والكبريت والزفت، ثم أخفوا فيه رجلاً منهم ليشعل النار في مواضع من ذلك الخشب إذا دخله الروم، وكان فيه باب خفي يخرج إلى موضع آخر لا يفطن له إلا من يعرفه، ثم مضوا إلى عسكر الروم ليلاً وهم في القدس فناوشوهم، فاجتمع عليهم من الروم خلق كثير فقاتلوهم ساعة، ثم انهزموا فدخلوا هذا القصر، فدخل الروم وراءهم فلم يجدوا أحداً منهم، فصعدوا
373
إلى الطبقة العالية، فخرج اليهودي الذي كان قد اختفى، فاختلط بهم وأطلق النار في تلك المواضع، فاضطرمت النار في جميع جوانبه فبادر الروم إلى الباب فوجدوا اليهود قد سدوه بسيوفهم فهلكوا، وكان فيهم جماعة من وجوه الروم، فخاف الروم من اليهود ولم يأمنوا أن يحتالوا عليهم بأمر آخر، فخرجوا من القدس والمدينة ورجعوا إلى معسكرهم، فأمر طيطوس بضبط الطرق والتضييق عليهم ليهلكهم الجوع فمات أكثرهم، وخرج كثر من أصحاب الخوارج إلى طيطوس فقتلهم، ثم دخلت الروم إلى بيت الله فلم يجدوا من يمانعهم، وكان طيطوس قد أكد على أصحابه في أن لا يحرقوا القدس فقال له رؤساء أصحابه: إنك إن لم تحرقه لم تتمكن من اليهود، لأنهم لا يزالون يقاتلون ما كان باقياً، فإذا أحرق ذهب عزهم فانكسرت قلوبهم فلم يبق لهم ما يقاتلون عنه، فقال: لا تحرقوه إلا أن آمركم، وكان في طريقه باب مغشى بصفائح الفضة وهو مغلق، فأحرقه بعض الروم ليأخذوا الفضة، فلما احترق وجدوا الطريق إلى القدس الأجل، فدخلوه وحملوا أصنامهم فنصبوها فيه، فخرج قوم ممن بقي من اليهود في الليل إلى أولئك الذين في القدس فقتلوهم، فلما بلغ ذلك طيطوس جاء إلى القدس فقتل أكثر من وجد فيه من اليهود، وهرب من بقي منهم إلى
374
جبل صهيون، فلما كان الغد أحرق الروم أبواب قدس الأقداس، وكانت مغشاة بالذهب، فلما سقطت كبروا وصرخوا صراخاً عظيماً، فجاء طيطوس مسرعاً ليمنع من إحراقه فلم يتم له ذلك، ويقال: إنه صاح حتى انقطع صوته، فلما علم أن الأمر قد خرج عن يده دخل لينظره قبل أن يحترق، فلما رأى حسنه وبهجته تحير وتعجب وقال: حقاً إن هذا البيت الجليل ينبغي أن يكون بيت الله إله السماء ومسكن جلاله ونوره، وإنه ليحق لليهود أن يحاربوا عنه ويستقلوا عليه، ولقد أصابت الأمم وأحسنت فيما كانت تفعله من إعظام هذا البيت وإكرامه وحمل الهدايا إليه، وإنه لأعظم من هيكل رومية ومن جميع هياكل الأمم التي شاهدناها وبلغنا خبرها، وما أردت إحراقه ولكن هم فعلوا ذلك بشرهم ولجاجهم، وكان من بقي من الكهنة لما رأوا الحريق حاربوا الروم عنه، فلما علموا أنهم عاجزون عن دفعهم قالوا: ما نريد أن نبقى بعده فطرحوا أنفسهم في النار فهلكوا، ومضى عند ذلك من بقي من اليهود إلى جميع ما في المدينة من القصور الجليلة والمنازل الحسنة فأحرقوها بجميع ما فيها من الذخائر
375
والآلات، وكان حريق القدس في اليوم العاشر من الشهر الخامس وهو آب، وذلك نظير اليوم الذي أحرق فيه الكسدانيون البيت الأول.
ولما كان في غد هذا اليوم ظهر من اليهود رجل متنبىء فقال لهم: اعلموا أن هذا القدس سيعود عن قليل مبنياً كما كان من غير أن يبنيه الآدميون، بل بقدرة الله تعالى، فداوموا على ما أنتم عليه من محاربة الروم والامتناع من طاعتهم، فاجتمع عليه جماعة فقاتلوا، فظفر بهم الروم فقتلوهم بأسرهم، وقتلوا كثيراً من عوام اليهود وضعفائهم ممن كانوا قد رحموه قبل ذلك، وراسل يوحانان وشمعون طيطوس يطلبان منه الأمان فقال: قد كنت طلبت إليكما ذلك قبل، فأما الآن فأنتما في قبضتي وليس لي عذر عند الله ولا عند أحد من الناس في استبقائكما.
فانحدر ليلاً إلى القدس بأصحابهما فقتلوا قائدين من الروم فأمر طيطوس بقتل من بقي في المدينة من اليهود ممن كان قدر رحمه، فلما رأى
376
أصحاب شمعون ذلك خافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى طيطوس أن يؤمنهم، فقتل شمعون رؤساءهم وهرب الباقون إلى طيطوس فآمنهم وكف أصحابه عمن بقي من اليهود في المدينة؛ ثم هرب شمعون ويوحانان من جبل صهيون إلى موضع استترا فيه، فتم استيلاء طيطوس على جميع البلد وهدم سور جبل صهيون، ولما طال عليهما الاستتار واشتد بهما الجوع خرجا إلى طيطوس فقتلهما، ثم رحل متوجهاً إلى رومية ومعه السبي والغنائم، وكان كلما نزل منزلاً يقدم جماعة ممن ظفر به من الخوارج إلى السباع التي معه حتى أفناهم، وكان العازر لما رأى إفساد شمعون وقتله من لم يكن له ذنب من اليهود قد علم أن لا مخلص لهم من البلاء، فخرج عنه قبل استيلاء الروم على البلد عنها وأقام في بعض المواضع، فلما رحل طيطوس مضى إلى قرية مصيرا فعمر حصنها، فسمع به طيطوس وهو بأنطاكية فرد إليه قائداً من قواده فحاصره، فلما عاين الهلكة دعا أصحابه إلى قتل من خلفهم من العيال والاستقتال ليموتوا أعزة، فأجابوه إلى ذلك وقاتلوا حتى قتلوا كلهم - فسبحان القوي الشديد، الفعال لما يريد.
377
ولما انقضى ذلك، كان كأنه قيل: أما لهذه المرة من كرة كالأولى؟ فأطمعهم بقوله سبحانه وتعالى: ﴿عسى ربكم﴾ أي الذي عودكم بإحسانه ﴿أن يرحمكم﴾ فيتوب عليكم ويكرمكم؛ ثم أفزعهم بقوله تعالى: ﴿وإن عدتم﴾ أي بما نعلم من دبركم إلى المعصية مرة ثالثة فما فوقها ﴿عدنا﴾ أي بما تعلمون لنا من العظمة، إلى عذابكم في الدنيا، وقد عادوا غير مرة بما أشار إليه الكلام، وإن كان في سياق الشرط، ليظهر الفرق بين كلام العالم وغيره، وأشار إلى ذلك قوله في التوراة عقب ما مضى: وإذا تمت عليك هذه الأقوال كلها والدعاء واللعن الذي تلوت عليك فتب في قلبك وأنت متفرق بين الشعوب التي يفرقك الله فيها، واقبل إلى ربك واسمع قوله، واعمل بجميع ما آمرك به اليوم أنت وبنوك من كل قلبك، فيرد الرب سبيك ويرحمك، ويعود فيجمعك من جميع الشعوب التي فرقك فيها، وإن كان المبددون يا آل إسرائيل في أقطار الأرض يجمعك الله ربك من هناك ويقربك من ثم ويردك إلى الأرض التي ورثها أبوكم وترثون، وينعم عليكم وتكثرون أفضل من آبائكم، ويختن الله الرب قلوبكم وقلوب نسلكم إلى الأبد،
378
وتتقون الله ربكم من كل قلوبكم وأنفسكم لما يريحكم وينعمكم وينزل الله كل هذا اللعن بأعدائكم وشنأتكم الذي آذوكم. ﴿وجعلنا﴾ أي بعد ذلك بعظمتنا ﴿جهنم﴾ التي تلقى داخلها بالتهجم والكراهة ﴿للكافرين﴾ وهذا الوصف الظاهر موضع ضمير لبيان تعليق الحكم به على سبيل الرسوخ سواء في ذلك هم وغيرهم، وفيه إشارة إلى أنهم يعودون إلى الإفساد، وإلى أن منهم من يؤمن ومنهم من يكفر ﴿حصيراً *﴾ أي محبساً يحصرهم غاية الحصر، وعن الحسن أن الحصير هو الذي يفرش ويبسط، فالمعنى أنه يجعلها مهادهم.
379
ولما ثبت أن كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل عليه فيما بين مصر وبيت المقدس في تلك المدة المتطاولة هو هدى لبني إسرائيل، صادق الوعد والوعيد فيما قضى فيه إليهم من أمرهم وأمر بيت المقدس من ترقية حال من أطاعه وإعلائهم وأخذ من عاداهم ومن تعكيس أحوال العصاة مرة بعد أخرى بتسليط الأعداء عليهم بالقتل والأسر
379
والنهب وتخريب البلاد، تنبيهاً على أن طاعة الله تجلب كل خير وكرامة، ومعصيته توجب كل بلية، كما كشف عنه الزمان على ما هو معروف من تواريخ اليهود وغيرها، لاح أن القرآن يزيد عليه في كل معنى حسن وأمر شريف فيما أتى به من الوعود الصادقة، والأحكام المحكمة، والمعاني الفائقة، في النظوم العذبة الرائقة، مع الإعجاز عن الإتيان بآية من مثله لجميع الإنس والجان بنسبة ما زاد المسير المحمدي إلى بيت المقدس - الذي أراه فيه من آياته - على المسير الموسوي الذي آتاه فيه الكتاب، فقال - في جواب من كأنه قال: قد علم أن كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل في مسيرة لقصد محل المسجد الأقصى قيم في الهداية والوعود الصادقة، فما حال الكتاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي أنزل عليه منه في سبب مسيرة إليه في ذلك؟ ﴿إن هذا القرءان﴾ أي الجامع لكل حق والفارق بين كل ملتبس ﴿يهدي﴾.
ولما كان صاحب الذوق السليم يجد لحذف الموصوف هزة وروعة، لما يجد من الفخامة بإبهامه لا يجدها عند ذكره وإيضاحه، قال ﴿للتي﴾
380
أي للطرائق والأحوال والسنن التي ﴿هي أقوم﴾ من كل طريقة وسنة وحال دعا إليها كتاب من الكتب السماوية، أما في الصورة فباعتبار ما علا به من البيان، وأما في الوعود فباعتبار العموم لجميع الخلق في الدارين، وأما في الأصول فبتصريف الأمثال وتقريب الوسائل، وحسم مواد الشبه وإيضاح وجوه الدلائل، وأما الفروع فباعتبار الأحسنية تارة في السهولة والخفة، وتارة في غير ذلك - كما هو واضح عند من تأمل ما بين الأمرين.
ولما انقسم الناس إلى مهتد به وضال، أتبع سبحانه ذلك بيانه، وكان التعبير عن حالهما بالبشرى في قوله تعالى: ﴿ويبشر المؤمنين﴾ أي الراسخين في هذا الوصف، ولهذا قيدهم بياناً لهم بقوله تعالى: ﴿الذين﴾ يصدقون إيمانهم بأنهم ﴿يعملون﴾ أي على سبيل التجديد والاستمرار والبناء على العلم ﴿الصالحات﴾ من التقوى والإحسان ﴿أن لهم﴾ أي جزاء لهم في ظاهرهم وبواطنهم ﴿أجراً كبيراً *﴾ إشارة إلى صلاح هذه الأمة وثباتهم على دينهم وأنه لا يزال أمرهم ظاهراً كما كان إنذار كتاب موسى عليه السلام قومه إشارة إلى إفسادهم وتبديلهم دينهم.
ولما بشرهم بما لهم في أنفسهم، أتبعه ما لهم في أعدائهم فقال تعالى:
381
﴿وأن﴾ أي ويبشر المؤمنين أيضاً بأن ﴿الذين لا يؤمنون﴾ أي لا يتجدد منهم إيمان ﴿بالآخرة﴾ حقيقة أو مجازاً، المسبب عنه أنهم لا يعملون الصالحات حقيقة لعدم مباشرتها، أو مجازاً ببنائها على غير أساس الإيمان؛ وعبر بالعتاد تهكماً بهم، فقال تعالى: ﴿أعتدنا﴾ أي أحضرنا وهيأنا ما هو في غاية الطيب والنفاسة والملاءمة على سبيل الوعد الصادق الذي لا يتخلف بوجه، وهو مع ذلك منظور إليه، لعظمتنا ﴿لهم﴾ من عندنا بواسطة المؤمنين أو بلا واسطة.
ولما استشرف الأعداء إلى هذا الوعد استشراف المغتبط المسرور، أتاهم في تفسيره بما خلع قلوبهم على طريقة «تحية بينهم ضرب وجيع» وسر قلوب الأولياء سروراً عظيماً، فقال تعالى: ﴿عذاباً أليماً *﴾ فإنه لا بشرى لذوي الهمم أعلى ولا أسر من الانتقام من مخالفيهم، فصار فضل الكتاب على الكتاب كفضل الذهاب على الذهاب، وحذف المؤمنين الذين لا يعملون الصالحات، لتمام البشارة بالإشارة إلى أنهم من القلة في هذه الأمة الشريفة بحيث لا يكادون أن يوجدوا.
ولما ذكر سبحانه ما لكلامه من الدعاء إلى الأقوام،
382
أتبعه ما عليه الإنسان من العوج الداعي له إلى العدول عن التمسك بشرائعه القويمة والإقدام على ما لا فائدة فيه، تنبيهاً على ما يجب عليه من التأني للنظر فيما يدعو إليه نفسه ووزنِه بمعيار الشرع، فقال تعالى: ﴿ويدع﴾ حذف واوه - الذي هو لام الفعل - خطأ في جميع المصاحف ولا موجب لحذفه لفظاً في العربية - مشير إلى أنه يدعو بالشر لسفهه وقلة عقله، وهو لا يريد علو الشر عليه - بما أشير إليه بحذف ما معناه عند أهل الله الرفعة والعلو، وإلى أن غاية فعله الهلاك إلى أن يتداركه الله، وقد ذكرت حكم الوقف عليه وعلى أمثاله في سورة القمر ﴿الإنسان﴾ أي عند الغضب ونحوه على نفسه وعلى من يحبه، لما له من الأنس بنفسه والنسيان لما يصلحه ﴿بالشر﴾ أي ينادي ربه ويتضرع إليه بسبب إيقاع الشر به ﴿دعاءه﴾ أي مثل دعائه ﴿بالخير﴾ أي بحصول الخير له ولمن يحبه؛ ثم نبه على الطبع الذي هو منبع ذلك، فقال تعالى: ﴿وكان الإنسان﴾ أي هذا النوع بما له من قلة التدبر لاشتغاله بالنظر في عطفيته والأنس بنفسه، كوناً هو مجبول عليه ﴿عجولاً *﴾ أي مبالغاً في العجلة يتسرع إلى طلب كل ما يقع في
383
قلبه ويخطر بباله من غير أن يتأنى فيه تأني المتبصر الذي لا يريد أن يوقع شيئاً إلا في أتم مواقعه، ولذلك يستعجل العذاب لنفسه استهزاء، ولغيره استشفاء؛ والعجلة: طلب الشيء في غير وقته الذي لا يجوز تقديمه عليه، وأما السرعة فهي عمله في أول وقته الذي هو أولى به.
384
ولما ثبت ما لصفته تعالى من العلو، ولصفة الإنسان من السفول تلاه بما لأفعاله تعالى من الإتقان، ذاكراً ما هو الأقوم من دلائل التوحيد والنبوة في العالمين: العلوي والسفلي، ثم ما لأفعال الإنسان من العوج جرياً مع طبعه، أو من الإحسان بتوفيق اللطيف المنان، فقال تعالى مبيناً ما منحهم به من نعم الدنيا بعد ما أنعم عليهم به من نعم الدين: ﴿وجعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿الّيل والنهار آيتين﴾ دالتين على تمام العلم وشمول القدرة، آية الليل كالآيات المتشابهة، وآية النهار كالمحكمة، فكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يتيسر الانتفاع به إلا بهاتين الآيتين ﴿فمحونا﴾
384
أي بعظمتنا الباهرة ﴿آية الّيل﴾ بإعدام الضياء فجعلناها لا تبصر بها المرئيات كما لا يبصر الكتاب إذا محي ﴿وجعلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿ءاية النهار﴾ ولما كانت في غاية الضياء يبصر بها كل من له بصر، أسند الإبصار إليها مبالغة فقال: ﴿مبصرة﴾ أي بالشمس التي جعلها منيرة في نفسها، فلا تزال هذه الدار الناقصة في تنقل من نور إلى ظلمة ومن ظلمة إلى نور كما للإنسان - بعجلته التي يدعو إليها طبعه وتأنيه الداعي إليه عقله - من انتقال من نقصان إلى كمال ومن كمال إلى نقصان، كما أن القمر الذي هو أنقص من الشمس كذلك: ثم ذكر بعض المنافع المترتبة على ذلك، فقال تعالى: ﴿لتبتغوا﴾ أي تطلبوا طلباً شديداً ﴿فضلاً من ربكم﴾ أي المحسن إليكم فيهما بضياء هذا تارة وبرد هذا أخرى ﴿ولتعلموا﴾ بفصل هذا من هذا ﴿عدد السنين﴾ أي من غير حاجة إلى حساب، لأن النيرين يدلان على تحول الحول بمجرد تنقلهما.
ولما كانا أيضاً يدلان على حساب المطالع والمغارب، والزيادة والنقصان، وغير ذلك من الكوائن، لمن أمعن النظر، وبالغ في الفكر،
385
قال تعالى: ﴿والحساب﴾ أي جنسه، فصلناهما لذلك على هذا الوجه المتقن بالزيادة والنقصان، وتغير الأحوال في أوقات معلومة، على نظام لا يختل على طول الزمان مقدار ذرة، ولا ينحل قيس شعرة إلى أن يريد الله خراب العالم وفناء الخلق، فيبيد ذلك كله في أسرع وقت وأقرب زمن، ولولا اختلافهما لاختلطت الأوقات وتعطلت الأمور ﴿وكل شيء﴾ غيرهما مما تحتاجون إليه في دينكم أو دنياكم ﴿فصلناه﴾ أي بعظمتنا، وأزلنا ألباسه، وأكد الأمر تنبيهاً عل تمام القدرة، وأنه لا يعجزه شيء يريده، فقال تعالى: ﴿تفصيلاً *﴾ فانظروا بأبصاركم وبصائركم، وتتبعوا في علانياتكم وسرائركم، تجدوا أمراً متقناً ونظاماً محكماً ﴿ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير﴾ [الملك: ٤].
ولما كان هذا أمراً دقيقاً جداً، أتبعه ما هو أدق منه وأغرب في القدرة والعلم من تفاصيل أحوال الآدميين، بل كل مكلف بعضها من بعض من قبل أن يخلقهم، فقال تعالى: ﴿وكل إنسان﴾ أي من في طبعه التحرك والاضطراب ﴿ألزمناه﴾ أي بعظمتنا ﴿طائره﴾ أي عمله الذي قدرناه عليه من خير وشر، ولعله عبر به
386
لأنهم كانوا لا يقدمون ولا يحجمون في المهم من أعمالهم إلا بالطائر فيقولون: جرى لفلان الطائر بكذا.
﴿في عنقه﴾ أي الذي محل الزين بالقلادة ونحوها، والشين بالغل ونحوه، إلزاماً لا يقدر أن ينفك عن شيء منه كما لا يقدر على الانفكاك عن العنق، وذلك كما ألزمنا بني إسرائيل ما قضينا إليهم في الكتاب، فكان كما قلنا، وهم يعلمون نه من السوء بمكان، فلم يقدروا على الاحتراز منه والانفصال عنه، فلا يمكن أن يظهر في الأبد إلا ما قضى به في الأزل «جف القلم بما هو كائن» ﴿ونخرج﴾ أي بما لنا من العظمة وشمول العلم وتمام القدرة ﴿له يوم القيامة﴾ أي الذي لا بد من إيجاده ﴿كتاباً﴾ بجميع ما عمل ﴿يلقاه﴾ حال كونه ﴿منشوراً *﴾ تكتبه حَفَظَتَنا كل يوم، ثم إذا صعدوا قابلوا ما فيه على ما سطرناه قديماً في اللوح المحفوظ فيجدونه كما هو، لا خلاف فيه أصلاً، فإذا لقي كتابه يوم العرض قيل له: ﴿اقرأ كتابك﴾ أنت بنفسك غير ملزم بما يقرأه غيرك ﴿كفى﴾ وحقق الفاعل بزيادة الباء فقال تعالى: ﴿بنفسك اليوم﴾ أي في جميع هذا اليوم الذي تكشف فيه الستور، وتظهر جميع الأمور ﴿عليك حسيباً *﴾ أي حاسباً بليغاً، فإنك تعطي القدرة على قراءته
387
أمياً كنت أو قارئاً، ولا ترى فيه زيادة ولا نقصاً، ولا تقدر أن تنكر منه حرفاً، إن أنكره لسانك شهدت عليك أركانك، فيا لها من قدرة باهرة، وقوة قاهرة، ونصفة ظاهرة!.
ولما كان ما مضى، أنتج قطعاً معنى ما قلنا لبني إسرائيل ﴿إن أحسنتم﴾ الآية، لكل أحد منهم ومن غيرهم، وذلك قوله تعالى: ﴿من اهتدى﴾ فتبع الهدى ﴿فإنما يهتدي لنفسه﴾ لأن ثوابه لا يتعداه ﴿ومن ضل﴾ بالإعراض عما أنزلنا من البيان ﴿فإنما يضل عليها﴾ لأن عقابه عليه، لا يتجاوزه ﴿ولا تزر وازرة﴾ أي أي وازرة كانت ﴿وزر أخرى﴾ لتخفف عنها، بل لكل جزاء عمله لا يتعداه إلى غيره، فنثيب من اهتدى ونعذب من ضل ﴿وما كنا﴾ أي على عظمتنا ﴿معذبين﴾ أحداً ﴿حتى نبعث﴾ أي بعثاً يناسب عظمتنا ﴿رسولاً *﴾ فمن بلغته دعوته فخالف أمره واستكبر عن اتباعه عذبناه بما يستحقه، وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام في جميع الأمم كما قال تعالى ﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً﴾ [النحل: ٣٦] ﴿وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾ [
388
فاطر: ٢٤] فإن دعوتهم إلى الله تعالى قد انتشرت، وعمت الأقطار واشتهرت، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام
﴿ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة﴾ [ص: ٧] فإنه يفهم أنهم سمعوه في الملة الأولى فمن بلغته دعوة أحد منهم بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر مستحق للعذاب، فلا تغتر بقول كثير من الناس في نجاة أهل الفترة مع إخبار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار، وأن ما يدحرج الجعل خير منهم - إلى غير ذلك من الأخبار؛ قال الإمام أبو عبد الله الحليمي أحد أجلاء الشافعية وعظماء أئمة الإسلام رضي الله عنهم في أوائل منهاجه في باب من لم تبلغه الدعوة: وإنما قلنا: إن من كان منهم عاقلاً مميزاً إذا رأى ونظر إلا أنه لا يعتقد ديناً فهو كافر، لأنه وإن لم يكن سمع دعوة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء الذين كانوا قبله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على كثرتهم، وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم،
389
فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق، وإذا سمع آية دعوة كانت إلى الله فترك أن يستدل بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر، كان بذلك معرضاً عن الدعوة فكفر - والله أعلم، وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلهاً - وما نرى أن ذلك يكون - فإن كان فأمره على الاختلاف - يعني عند من يوجب الإيمان بمجرد العقل ومن لا يوجبه إلا بانضمام النقل. وما قاله الحليمي نقل نحوه عن الإمام الشافعي نفسه رضي الله عنه؛ قال الزركشي في آخر باب الديات من شرحه على المنهاج: وقد أشار الشافعي إلى عسر قصور - أي عدم بلوغ - الدعوة حيث قال: وما أظن أحداً إلا بلغته الدعوة إلا أن يكون قوم من وراء النهر بكوننا، وقال الدميري: وقال الشافعي: ولم يبق من لم تبلغه الدعوة.
ولما أشار إلى عذاب المخالفين، قرر أسبابه وعرف أنها بقدره،
390
وأن قدره لا يمنع حقوق العذاب، لبناء الأمر على ما يتعارفه ذوو العقول بينهم فقال تعالى: ﴿وإذا﴾ أي فنبعث الرسل بأوامرنا ونواهينا، وإذا أردنا أن نحيي قرية الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ألقينا في قلوب أهلها امتثال أوامرنا والتقيد باتباع رسلنا، وإذا ﴿أردنا﴾ وإرادتنا لا تكون إلا عظيمة جداً ﴿أن نهلك﴾ أي بعظمتنا ﴿قرية﴾ في الزمن المستقبل ﴿أمرنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر أحد على مخالفتها ﴿مترفيها﴾ الذين لهم الأمر والنهي بالفسق، أي استدرجناهم بإدرار النعم ودفع النقم على ما يعملون من المعاصي، الذي كان - بكونه سبباً لبطرهم ومخالفتهم - كالأمر بالفسق ﴿ففسقوا فيها﴾ بعد ما أزال الرسول معاذيرهم بتبليغ الرسالة كما قال تعالى
﴿فلما نسوا ما ذكروا به﴾ [الأنعام: ٤٤]- أي على ألسنة الرسل - ﴿فتحنا عليهم أبواب كل شيء﴾ [الأنعام: ٤٤] الآية ﴿وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها﴾ [الأنعام: ١٢٣] وخص المترفين لأن غيرهم لهم تبع، ولأنهم أحق الناس بالشكر وأولى بالانتقام عند الكفر، ويجوز أن يكون: أمرناهم بأوامرنا ففسقوا فيها، أي الأوامر بالطاعات التي يعلم قطعاً
391
أن أوامرنا تكون بها ولا تكون بغيرها، لأنا لا نأمر بالفحشاء، وقد جرت العادة بأن المترف عسر الانقياد، لا تكاد تسمح نفسه بأن يصير تابعاً بعدما كان متبوعاً، فعصوا فتبعهم غيرهم لأن الأصاغر تبع للأكابر فأطبقوا على المعصية فأهلكناهم، وقرأ يعقوب: آمرنا - بمد الهمزة بمعنى كثرنا، من آمرت الشيء وأمرته فأمر - إذا كثرته، وفي الحديث «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج؛ وروى البخاري في التفسير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية: آمر بنو فلان. والكثرة راجعة إلى الأمر الذي هو ضد النهي، فإنه نتيجة العز الذي هو لازم الكثرة، ويجوز أن يكون من المؤامرة، أي أمرناهم بأوامرنا فما امتثلوا وأمرونا بأوامرهم، أي سألونا ما يريدون فأعطيناهم ذلك استدراجاً فأبطرهم نيل الأماني ففسقوا ﴿فحق﴾ أي وجب وجوباً لا شك في وقوعه ﴿عليها القول﴾ الذي توعدناهم به على لسان الرسول بمباشرة البعض للفسق وسكوت الباقين على حسب ما تتعارفونه بينكم في أن من خالف الأمر الواجب للفسق وسكوت الباقين على حسب ما تتعارفونه بينكم في أن من خالف الأمر الواجب عليه استحق العقاب ﴿فدمرناها﴾ أي أهلكناها إهلاكاً شديداً بغتة غير مبالين بها فجعلناها
392
كالمدرة المفتتة، وكان أمرها على عظمتنا هيناً، ولذلك أكد فقال تعالى: ﴿تدميراً *﴾.
393
ولما قرر أن هذا شأنه إذا أراد أن يهلك، أخبر أنه فعل ذلك بمن لا يحصيهم العد من القرون، ولا يحيط بهم الحد من الأمم، لأن الاعتبار بالمشاهد أوقع في القلب وأهول عند النفس، فكأنه قال: كم فعلنا ذلك بالقرى ولم نستعجل في إهلاك قرية منهم ولا أخذناهم من غير إنذار، بل أرسلنا فيهم وأملينا لهم إلى أن كان ما علمناه في الأزل، وجاء الوقت الذي قدرناه، وبلغوا في الذنوب ما يستحقون به الأخذ، ولقد أهلكنا قوم نوح على هذا السنن، وكانوا أهل الأرض - كما مضت الإشارة إليه ووقع التنبيه عليه، وإهلاكهم كان في إبلاغ أهل الأرض ما أرسلنا به رسلنا من التوحيد لأن ذلك لم يخفف على أحد بعدهم، وعطف على هذا المقدر قوله تعالى: ﴿وكم أهلكنا﴾ أي بما لنا من العظمة، وبين مدلول «كم» بقوله تعالى: ﴿من القرون﴾ على هذا السنن.
ولما كان الإهلاك بعذاب الاستئصال لم يستغرق ما بعده، أدخل الجار فقال تعالى: ﴿من بعد نوح﴾ الذي أنتم ذرية من أنجيناه
393
بالحمل معه بذنوبهم أمهلناهم حتى أعذرنا إليهم ثم أخذناهم في مدد متفاوتة، فكان بعضهم أقصر مدة من بعض وبعضهم أنجيناه بعد أن أحطنا به مخايل العذاب، وأما من قبل نوح فالظاهر من عبارة التوراة وسكوت القرآن أنهم لم يكونوا كفاراً، وبه صرح كثير من المفسرين في تفسير ﴿كان الناس أمة واحدة﴾ [البقرة: ٢١٣].
ولما كان ذلك ربما أوجب أن يقال: كيف يعذب الساكت مع إمكان عذره بعجز أو غيره؟ قال دافعاً لذلك تاركاً مظهر العظمة، تلطفاً بهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، في جملة حالية: ﴿وكفى بربك﴾ أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وأعقابهم من الاستئصال ﴿بذنوب عباده﴾ أي لكونه خلقهم وقدر ما فيهم من جميع الحركات والسكنات ﴿خبيراً﴾ من القدم، فهو يعلم السر وأخفى، وأما أنتم فلستم هناك، فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين ثم أسفرت عاقبته عند الامتحان عن أنه من أضل الضالين ﴿بصيراً *﴾ بها، إذا وقعت لا يخفى عليه شيء منها، وأما أتم فكم من شخص
394
كنتم ترونه مجتهداً في العبادة، فإذا خلا بارز ربه بالعظائم.
ولما تقرر أنه سبحانه خبير بذنوبهم بعد تزهيده في الدنيا بما ذكر من مصارع الأولين، أتبعه الإخبار بأنه يعاملهم على حسب علمه على وجه معرف بعلمه بجميع طوياتهم من خير وشر، مرغب في الآخرة، مرهب من الدينا، لأنها المانعة من اتباع الرسل والتقيد بطاعتهم، خوفاً من نقص الحظ من الدينا بزوال ما هو فيه من الرئاسة والمال والانهماك في اللذة جهلاً بأن ما قدر لا يكون غيره سواء كان صاحبه في طاعة أو معصيته فقال تعالى: ﴿من كان يريد﴾ أي إرادة هو فيها في غاية الإمعان بما اقتضاه طبعه المشار إليه بفعل الكون.
ولما كان مدار مقصود السورة على الإحسان الذي هو العبادة على المشاهدة، وكان ذلك منافياً لحال من يلتفت إلى الدنيا، عبر بقوله تعالى: ﴿العاجلة﴾ أي فقط ﴿عجلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿له فيها﴾ أي العاجلة ﴿ما نشاء﴾ مما يريده لا جميع ما يريده؛ ثم أبدل من «له» قوله تعالى: ﴿لمن نريد﴾ أي لا لكل من أراد ذلك، تنبيهاً على أن ذلك بقوتنا لا بقوة ذلك المريد ﴿ثم جعلنا﴾
395
أي بما لنا من العظمة ﴿له﴾ أي لظاهره وباطنه ﴿جهنم﴾ أي الدركة النارية التي تلقى بالتجهم من كان يلقى الدنيا وأهلها بالتبسم ﴿يصلاها﴾ في الآخرة ﴿مذموماً﴾ أي مفعولاً به الذم، وهو ضد المدح ﴿مدحوراً *﴾ مدفوعاً مطروداً مبعداً، فينبغي لمريد الدنيا أن لا يزال على حذر لأنه لا ينفك من عذاب الآخرة، فإن لم يعط شيئاً من مناه - كما أشار إليه ﴿لمن نريد﴾ اجتمع له العذابان كاملين: فقر الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أعطى فهو لا يعطي كل ما يريد - بما أشار إليه «ما نشاء» - فيجتمع له عذاب ما منعه منها مع عذاب الآخرة.
ولما ذكر الجاهل ذكر العالم العامل فقال تعالى: ﴿ومن أراد الآخرة﴾ أي مطلق إرادة - بما أشار إليه التجريد ﴿من كان﴾ ﴿وسعى﴾ أي وضم إلى نيته العمل بأن سعى ﴿لها سعيها﴾ أي الذي هو لها، وهو ما كانت جديرة به من العمل بما يرضي الله بما شرعه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا أي سعي كان بما لم يشهد ظاهر الكتاب والسنة، إعلاماً بأن النية لا تنفع إلا مع العمل، إما بالفعل عند التمكن، وإما بالقوة عند عدمه؛ ثم ذكر شرط السعي الذي لا يقبل إلا به، فقال تعالى: ﴿وهو مؤمن﴾ أي راسخ في هذا الوصف
396
كما جاء عن بعض السلف: من لم يكن له ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب - وتلا هذه الآية، وهذا الرسوخ هو الإحسان الذي يدور عليه مقصود السورة؛ ثم رتب عليه الجزاء فقال: ﴿فأولئك﴾ أي العالو الرتبة لجمعهم الشرائط الثلاثة ﴿كان﴾ أي كوناً لا بد منه ﴿سعيهم مشكوراً *﴾ أي مقبولاً مثاباً عليه بالتضعيف مع أن بعضهم نفتح عليه أبواب الدنيا كداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام ونستعمله فيها بما يحب، وبعضهم نزويها عنه كرامة له لا هواناً، فالحاصل أنها إن وجدت عند الوالي لم تشرفه، وإن عدمت عنه لم تحقره، وإنما الشرف وغيره عند الله بالأعمال.
ولما أخبر عن نفسه الشريفة بما يشير إلى التوسعة على من يريد من أهل الباطل، أخبر بأنه قضى بذلك في الأزل تفضلاً فقال تعالى: ﴿كلاًّ﴾ أي من الفريقين: مريد الدنيا ومريد الآخرة ﴿نمد﴾ أي بالعطاء؛ ثم أبدل من ﴿كلاًّ﴾ قوله تعالى: ﴿هؤلاء﴾ أي الذين طلبوا الدنيا نمد ﴿وهؤلاء﴾ الذين طلبوا الآخرة نمد ﴿من عطاء ربك﴾ أي المحسن إليه بجميع قضائه، إن ضيق على مؤمن فبالحماية من الدنيا
397
الفانية التي إنما هي لهو ولعب، وإن وسع فبالاستعمال فيها على حسب ما يرضيه ويعلي كلمته ﴿وما كان عطاء ربك﴾ أي الموجد لك المدبر لأمرك ﴿محظوراً *﴾ أي ممنوعاً في الدنيا عن مؤمن ولا كافر، بل هو ملء السهل والجبل من الذهب والفضة والحديد والنحاس والجواهر والثمار وأقوات الناس والبهائم، وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله حتى لو اجتمع كل الناس على جمعه ليلاً ونهاراً، ولم يكن لهم شغل سوى ذلك، لأعياهم ولم يقدروا عليه، فسبحان الجواد الواسع المعطي المانع، ثم أمر بالنظر في عطائه هذا على وجه مرغب في الآخرة مزهد في الدنيا، فقال تعالى آمراً بالاعتبار: ﴿انظر﴾ وبين أن حالهم لغرابته أهل لأن يسأل عنه فقال تعالى: ﴿كيف فضلنا﴾ أي بما لنا من العظمة القاهرة ﴿بعضهم على بعض﴾ في هذه الحياة الدنيا بالعطاء، فصار الفاضل يسخر المفضول، والمفضول يرغب في خدمة المفضل ويتشرف بالتقرب إليه، مع أن رزق الله - وهوعطاءه - بالنسبة إلى الكل على حد سواء، خلق ما هو موجود في هذه الدنيا للبر والفاجر، وكل حريصون على أن يأخذوا فوق كفايتهم من الأرزاق التي هي أكثر منهم، فما كان هذا التفاضل إلا بقسر قادر قهرهم على ذلك، وهو من تنزه عن النقص وحاز
398
على كمال، فاستحق أن لا توجه رغبة راغب إلا إليه.
ولما نبه على أن ما نراه من التفضيل إنما هو بمحض قدرته، أخبر أن ما بعد الموت كله كذلك من غير فرق فقال: ﴿وللآخرة﴾ أكد الإخبار عما فيها المستلزم لتأكيد الإعلام بوجودها لهم من إنكاره ﴿أكبر درجات﴾ من هذه الحياة الدنيا ﴿وأكبر تفضيلاً *﴾ أولاً بالجنة والنار أنفسهما، وثانياً بالدرجات في الجنة والدركات في النار؛ ولما كان العلم هنا مقيداً بالذنوب، ذكر بعد المفاضلة في الدنيا، ولعل في ذلك إشارة إلى أن أكثر من يزاد في الدنيا تكون زيادته نقصاً من آخرته بسبب ذنب اكتسبه أو تقصير ارتكبه، ولما كان العلم فيما يأتي في قوله تعالى: ﴿وربك أعلم﴾ مطلقاً، طوى بعده الرذائل، وعطف على ذلك المطوي الفضائل، فقال تعالى: ﴿ولقد فضلنا بعض، النبيين على بعض﴾ الآية، فمن كانت له نفس أبيه وهمة علية كان عليه أن يزهد في علو فانٍ لأجل العلو الباقي.
399
ولما تقرر بما مضى أن له سبحانه الأمر كله، وأنه متصف بجميع الكمال منزه عن شوائب النقص، أنتج أنه لا إله غيره، فقال تعالى يخاطب الرأس لأن ذلك أوقع في أنفس الأتباع، وإشارة إلى أنه لا يوحده
399
حق توحيده سواه، ويجوز أن يكون خطاباً عاماً لكل من يصح أن يخاطب به: ﴿لا تجعل مع الله﴾ الذي له جميع صفات الكمال ﴿إلهاً﴾ وسيأتي قريباً سر قوله: ﴿ءاخر﴾ أنه مفهوم من المعية ﴿فتقعد﴾ أي فيتسبب عن ذلك أن تقعد أي تصير في الدنيا قبل الآخرة ﴿مذموماً﴾.
ولما كان الذم قد يحتمله بعض الناس مع بلوغ الأمل، بين أنه مع الخيبة فقال تعالى: ﴿مخذولاً *﴾ أي غير منصور فيما أردته من غير أن يغني عنك أحد بشفاعة أو غيرها. ولما قرع الأسماع بهذا النهي المحتم لتوحيده، أتبعه الإخبار بالأمر بذلك جمعاً في ذلك بين صريحي الأمر والنهي تصريحاً بعد التنزيه له عن الشريك بالإفراد له في العبادة في أسلوب الخبر، إعلاماً بعظم المقام فقال تعالى: ﴿وقضى﴾ أي نهاك عن ذلك وأمر ﴿ربك﴾ أي المحسن إليك أمراً حتماً مقطوعاً به ماضياً لا يحتمل النزاع؛ ثم فسر هذا الأمر بقوله تعالى: ﴿ألا تعبدوا﴾ أي أنت وجميع أهل دعوتك، وهم جميع الخلق ﴿إلا إياه﴾ فإن ذلك هو الإحسان.
ولما أمر بمعرفة الحق المحسن المطلق منبهاً على وجوب ذلك باسم الرب، أتبعه الأمر بمعرفة الحق لأول المربين من الخلق فقال:
400
﴿وبالوالدين﴾ أي وأحسنوا، أي أوقعوا الإحسان بهما ﴿إحساناً﴾ بالإتباع في الحق إن كانا حنيفين شاكرين لأنعمه كإبراهيم ونوح عليهما السلام فإن ذلك يزيد في حسناتهما، وبالبراءة منهما في الباطل فإن ذلك يخفف من وزرهما واللطف بهما ما لم يجر إلى فساد ليكون الله معكم فإنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
ولما كان سبحانه عليماً بما في الطباع من ملال الولد لهما عند أخذهما في السن، قال تعالى: ﴿إما﴾ مؤكداً بإدخال «ما» على الشرطية لزيادة التقرير للمعنى اهتماماً بشأن الأبوين ﴿يبلغن عندك﴾ أي بأن يضطر إليك فلا يكون لهما كافل غيرك ﴿الكبر﴾ ونفى كل احتمال يتعلق به المتعنت بقوله تعالى: ﴿أحدهما أو كلاهما﴾ فيعجزا بحيث يكونان في كفالتك ﴿فلا تقل لهما أف﴾ أي لا تتضجر منهما، وفي سورة الأحقاف ما ينفع كثيراً هنا؛ ثم صرح بما ينهى عنه الكلام من باب الأولى تعظيماً للمقام فقال: ﴿ولا تنهرهما﴾ فيما لا ترضاه؛ والنهر: زجر بإغلاظ وصياح. وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي رحمه الله في كتابه في أصول الفقه: وقد أولع الأصوليون بأن يذكروا
401
في جملة هذا الباب - أي باب الاستدلال بالملزوم على اللازم والأدنى على الأعلى - قوله تعالى: ﴿ولا تقل لهما أف﴾ بناء على أن التأفيف عندهم أقل شيء يعق به الأب، وذلك حائد عن سنن البيان ووجه الحكمة، لأنه ليس في العقوق شيء أشد من التأفيف لأنه إنما يقال للمستقذر المسترذل، ولذلك عطف عليه ﴿ولا تنهرهما﴾ لأنه لا يلزم منه لزوم سواء ولا لزوم أحرى، ولا يصلح فيما يقع أدنى أن يعطف عليه ما يلزمه سواء أو أحرى، كما لو قال قائل: من يعمل ذرة خيراً يره، ومن يعمل قيراطاً يره، لم يصلح عطفه عليه لإفادة الأول إياه، ولعل ذلك شيء وهل فيه واهل فسلك إثره من غير اعتبار لقوله - انتهى.
ولما نهاه عن عقوقهما تقديماً لما تدرأ به المفسدة، أمره ببرهما جلباً للمصلحة، فقال تعالى: ﴿وقل لهما﴾ أي بدل النهر وغيره ﴿قولاً كريماً *﴾ أي حسناً جميلاً يرضاه الله ورسوله مع ما يظهر فيه من اللين والرقة والشفقة وجبر الخاطر وبسط النفس، كما يقتضيه حسن الأدب وجميل المروءة،
402
ومن ذلك أنك لا تدعوهما بأسمائهما، بل بيا أبتاه ويا أمتاه - ونحو هذا ﴿واخفض لهما﴾ ولما كان الطائر يخفض جناحه عند الذل، استعار لتعطفه عليهما رعياً لحقوقهما قوله تعالى: ﴿جناح الذل﴾ أي جناح ذلّك، وبين المراد بقوله تعالى: ﴿من الرحمة﴾ أي لا من أجل امتثال الأمر والنواهي وما تقدم لهما من من أجل الرحمة لهما، بأن لا تزال تذكر نفسك بالأوامر والنواهي وما تقدم لهما من الإحسان إليك، فصارا مفتقرين إليك وقد كنت أفقر خلق الله إليهما، حتى يصير ذلك خلقاً لازماً لك فإن النفس لأمارة بالسوء، وإن لم تقد إلى الخير بأنواع الإرغاب والإرهاب والإمعان في النظر في حقائق الأمور وعجائب المقدور، ولذلك أتبعه قوله تعالى آمراً بأن لا يكتفي برحمته التي لا بقاء لها، فإن ذلك لا يكافىء حقهما بل يطلب لهما الرحمة الباقية: ﴿وقل رب﴾ أي أيها المحسن إليّ بعطفهما عليّ حتى ربياني وكانا يقدماني على أنفسهما ﴿ارحمهما﴾ بكرمك برحمتك الباقية وجودك كما رحمتهما أنا برحمتي القاصرة مع بخلي وما فيّ من طبع اللوم ﴿كما ربياني﴾ برحمتهما لي ﴿صغيراً *﴾ وهذا مخصوص
403
بالمسلمين بآية ﴿ما كان للنبي﴾ لا منسوخ، ولقد أبلغ سبحانه في الإيصاء بهما حيث بدأه بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ونظمه في سلكه، وختمه بالتضرع في نجاتهما، جزاء على فعلهما وشكراً لهما، وضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى شيء من امتهانهما، مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يدخل الصبر إليها في حد الاستطاعة إلا بتدريب كبير.
ولما كان ذلك عسراً جداً حذر من التهاون به بقوله تعالى: ﴿ربكم﴾ أي المحسن إليكم في الحقيقة، فإنه هو الذي عطف عليكم من يربيكم وهو الذي أعانهم على ذلك ﴿أعلم﴾ أي منكم ﴿بما في نفوسكم﴾ من قصد البر بهما وغيره، فلا يظهر أحدكم غير ما يبطن، فإن ذلك لا ينفعه ولا ينجيه إلا أن يحمل نفسه على ما يكون سبباً لرحمتهما ﴿إن تكونوا﴾ أي كوناً هو جبلة لكم ﴿صالحين﴾ أي متقين أو محسنين في نفس الأمر؛ والصلاح: استقامة الفعل على ما يدعو إليعه الدليل، وأشار إلى أنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة النفس وترجيعها كرة بهد فرة بقوله تعالى: ﴿فإنه كان للأوابين﴾ أي الرجاعين
404
إلى الخير مرة إثر مرة بعد جماع أنفسهم عنه ﴿غفوراً *﴾ أي بالغ الستر، تنبيهاً لمن وقع منه تقصير، فرجع عنه على أنه مغفور.
405
ولما حث على الإحسان إليهما بالخصوص، عم بالأمر به لكل ذي رحم وغيره، فقال تعالى: ﴿وءات ذا القربى﴾ من جهة الأب أو الأم وإن بعد ﴿حقه و﴾ آت ﴿المسكين﴾ وإن لم يكن قريباً ﴿وابن السبيل﴾ وهو المسافر المنقطع عن ماله لتكون متقياً محسناً.
ولما رغب في البذل، وكانت النفس قلما يكون فعلها قواماً بين الإفراط والتفريط، أتبع ذلك قوله تعالى: ﴿ولا تبذر﴾ بتفريق المال سرفاً، وهو بذله فيما لا ينبغي، وفي قوله ﴿تبذيراً *﴾ تنبيه على أن الارتقاء نحو ساحة التبذير أولى من الهبوط إلى مضيق الشح والتقتير؛ والتبذير: بسط اليد في المال على حسب الهوى جزافاً، وأما الجود فبمقدار معلوم، لأنه اتباع أمر الله في الحقوق المالية، ومنها معلوم بحسب القدر، ومنها معلوم بحسب الوصف كمعاضدة أهل الملة وشكر أهل الإحسان إليك ونحو ذلك، وقد سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن التبذير فقال: إنفاق المال من غير حقه، وعن مجاهد رضي الله عنه: لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً، ولو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً. ثم علل ذلك بقوله:
405
﴿إن المبذرين﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿كانوا﴾ أي كوناً هم راسخون فيه ﴿إخوان الشياطين﴾ أي كلهم، البعيدين من الرحمة، المحترقين في اللعنة، فإن فعلهم فعل النار التي هي أغلب أجزائهم، وهو إحراق ما وصلت إليه لنفع وغير نفع، فإذا لم يجدوا أخذوا ما ليس لهم، والعرب تقول لكل ملازم سنة قوم وتابع أمرهم: هو أخوهم.
ولما كان الاقتصاد أدعى إلى الشكر، والتبذير أقود إلى الكفر، قال تعالى: ﴿وكان الشيطان﴾ أي هذا الجنس البعيد من كل خير، المحترق من كل شر ﴿لربه﴾ أي الذي أحسن إليه بإيجاده وتربيته ﴿كفوراً *﴾ أي ستوراً لما يقدر على ستره من آياته الظاهرة، ونعمه الباهرة، مع الحجة.
ولما أمر بما هو الأولى في حالة الوجدان، أمر بمثل ذلك حالة العدم، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه ينبغي أن يكون الإعراض عنهم في حيز الاستبعاد والاستنكار: ﴿وإما تعرضن عنهم﴾ أي عن جميع من تقدم ممن أمرت بالبذل له، لأمر اضطرك إلى ذلك لا بد لك منه، لكونك لا تجد ما تعطيه، فأعرضت حياء لا لإرادة المنع، بل ﴿ابتغاء﴾ أي طلب ﴿رحمة﴾ أي إكرام وسعة ﴿من ربك﴾ الكثير الإحسان ﴿ترجوها﴾ فإذا أتتك واسيتهم فيها ﴿فقل لهم﴾ في حالة الإعراض ﴿قولاً ميسوراً *﴾ أي ذا يسر يشرح صدورهم، ويبسط رجاءهم، لأن ذلك أقرب إلى طريق المتقين المحسنين الذين أنا
406
معهم؛ قال أبو حيان: وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال: يرزقنا الله وإياكم من فضله - انتهى.
وقد وضع هنا الابتغاء موضع الفقر لأنه سببه، فوضع المسبب موضع السبب.
ولما أمر بالجود الذي هو لازم الكرم، نهى عن البخل الذي هو لازم اللوم، في سياق ينفر منه ومن الإسراف، فقال ممثلاً بادئاً بمثال الشح: ﴿ولا تجعل يدك﴾ بالبخل ﴿مغلولة﴾ أي كأنها بالمنع مشدودة بالغل ﴿إلى عنقك﴾ لا تستطيع مدها ﴿ولا تبسطها﴾ بالبذل ﴿كل البسط﴾ فتبذر ﴿فتقعد﴾ أي توجد كالمقعد، بالقبض ﴿ملوماً﴾ أي بليغ الرسوخ فيما تلام بسببه عند الله، لأن ذلك مما نهى عنه، وعند الناس، وبالبسط ﴿محسوراً *﴾ منقطعاً بك لذهاب ما تقوى به وانحساره عنك، وكل من الحالتين مجاوز لحد الاعتدال.
407
ولما كان سبب البخل خوف الفقر، وسبب البسط محبة إغناء المعطي، قال مسلياً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما كان يرهقه من الإضافة عن التوسعة على من يسأله بأن ذلك إنما هو لتربية العباد بما يصلحهم، لا لهوان بالمضيق عليه، ولا لإكرام للمسوع عليه: ﴿إن ربك﴾
407
أي المحسن إليك ﴿يبسط الرزق لمن يشاء﴾ البسط له دون غيره ﴿ويقدر﴾ أي يضيق كذلك سواء قبض يده أو بسطها ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض﴾ [الشورى: ٢٧] ولكنه تعالى لا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده، ولا بالمقبوض عنه أقصى مكروهه، فاستنوا في إنفاقكم على عباده بسنته في الاقتصاد ﴿إنه كان﴾ أي كوناً هو في غاية المكنة ﴿بعباده خبيراً﴾ أي بالغ الخبر ﴿بصيراً *﴾ أي بالغ البصر بما يكون من كل القبض والبسط لهم مصلحة أو مفسدة.
ولما أتم سبحانه ما أراد من الوصية بالأصول وما تبع ذلك، وختمه بما قرر من أن قبض الرزق وبسطه منه من غير أن ينفع في ذلك حيلة، أوصاهم بالفروع، لكونهم في غاية الضعف وكانوا يقتلون بناتهم خوف الفقر، وكان اسم البنت قد صار عندهم لطول ما استهجنوه موجباً للقسوة، فقال في النهي عن ذلك مواجهاً لهم، إعلاماً ببعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن هذا الخلق قبل الإسلام وبعده: ﴿ولا تقتلوا أولادكم﴾ معبراً بلفظ الولد هو داعية إلى الحنو والعطف ﴿خشية إملاق﴾ أي فقر متوقع لم يقع بعد؛ ثم وصل بذلك استئنافاً قوله: ﴿نحن نرزقهم وإياكم﴾ مقدماً ضمير الأولاد لكون الإملاق مترقباً من الإنفاق عليهم غير حاصل في حال القتل، بخلاف
408
آية الأنعام فإن سياقها يدل على أن الإملاق حاصل عند القتل، والقتل للعجز عن الإنفاق، ثم علل ذلك بما هو أعم منه فقال تعالى: ﴿إن قتلهم﴾ أي مطلقاً لهذا أو غيره ﴿كان خطأً﴾ أي إثماً ﴿كبيراً *﴾ قال الرماني: والخطأ - أي بكسر ثم سكون - لا يكون إلا تعمداً إلى خلاف الصواب، والخطأ - أي محركاً - قد يكون من غير تعمد.
ولما كان في قتل الأولاد حظ من البخل، وفي فعل الزنا داعٍ من الإسراف، أتبعه به فقال تعالى: ﴿ولا تقربوا﴾ أي أدنى قرب بفعل شيء من مقدماته ولو بإخطاره بالخاطر ﴿الزنى﴾ مع أن السبب الغالب في فعل النساء له الحاجة وطلب التزيد، وفيه معنى قتل الولد بتضييع نسبه، وفيه تسبب في إيجاد نفس الباطل، كما أن القتل تسبب في إعدامها بالباطل، وعبر بالقربان تعظيماً له لما فيه من المفاسد الجارّة إلى الفتن بالقتل وغيره؛ ثم علله بقوله مؤكداً إبلاغاً في التنفير عنه لما للنفس من شدة الداعية إليه: ﴿إنه كان﴾ أي كوناً لا ينفك عنه ﴿فاحشة﴾ أي زائدة القبح، وقد نهاكم عن الفحشاء في آية العدل والإحسان ﴿وساء﴾ الزنا ﴿سبيلاً *﴾ أي ما أسوأه من طريق!
409
والتعبير عنه بالسبيل يدل على كثرة متعاطيه بالدلالة على سعة منهجه.
ولما أتم النهي عن هذين الأمرين المتحدين في وصف الفحش وفي السبب على تقدير، وفي إهلاك الولد بالقتل وما في معناه، أتبعهما مطلق القتل الذي من أسبابه تحصيل المال فقال تعالى: ﴿ولا تقتلوا النفس﴾ أي بسبب ما جعل خالقها لها من النفاسة ﴿التي حرم الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله بالإسلام أو العهد ﴿إلا بالحق﴾ أي بأمر يحل الله به تلك الحرمة التي كانت، فصارت الأسباب المنهي عنها بتحريم مسبباتها منع الموجود بخلاً ثم بذله إسرافاً ثم تحصيل المفقود بغياً؛ ثم عطف على ما أفهم السياق تقديره وهو: فمن قتل نفساً بغير حق فقد عصى الله ورسوله ﴿ومن قتل﴾ أي وقع قتله من أيّ قاتل كان ﴿مظلوماً﴾ أي بأيّ ظلم كان، من غير أن يرتكب إحدى ثلاث: الكفر، والزنا بعد الإحصان، وقتل المؤمن عمداً، عدواناً ﴿فقد جعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿لوليه﴾ أي سواء كان قريباً أو سلطاناً ﴿سلطاناً﴾ أي أمراً متسلطاً ﴿فلا يسرف﴾ الولي، أو فلا تسرف أيها الولي ﴿في القتل﴾ بقتل غير القاتل، ولا يزد على حقه بوجه ﴿إنه﴾ أي القتيل ﴿كان منصوراً *﴾
410
في الدنيا بما جبل الله في الطباع من فحش القتل، وكراهة كل أحد له، وبغض القاتل والنفرة منه، والأخذ على يده، وفي الآخرة بأخذ حقه منه من غير ظلم ولا غفلة، فمن وثق بذلك ترك الإسراف، فإنه لخوف الفوت أو للتخويف من العود.
411
ولما نهى عن الإغارة على الأرواح والأبضاع التي هي سببها، أتبعه النهي عن نهب ما هو عديلها، لأن به قوامها، وهو الأموال، وبدأ بأحق ذلك بالنهي لشدة الطمع فيه لضعف مالكه فقال تعالى: ﴿ولا تقربوا﴾ أي فضلاً عن أن تأكلوا ﴿مال اليتيم﴾ فعبر بالقربان الذي هو قبل الأخذ تعظيماً للمقام ﴿إلا بالتي هي أحسن﴾ من طرائق القربان، وهو التصرف فيه بالغبطة تثميراً لليتيم ﴿حتى يبلغ﴾ اليتيم ﴿أشده﴾ وهو إيناس الرشد منه بعد بلوغه.
ولما كانت الوصية نوعاً من أنواع العهد، أمر بوفاء ما هو أعم منها فقال تعالى: ﴿وأوفوا﴾ أي أوقعوا هذا الجنس في الزمان والمكان، وكل ما يتوقف عليه الأمر المعاهد عليه ويتعلق به ﴿بالعهد﴾
411
أي بسببه ليتحقق الوفاء به ولا يحصل فيه نقص ما، وهو العقد الذي يقدم للتوثق.
ولما كان العلم بالنكث والوفاء متحققاً، كان العهد نفسه كأنه هو المسؤول عن ذلك، فيكون رقيباً على الفاعل به، فقال تعالى مرهباً من المخالفة: ﴿إن العهد كان﴾ أي كوناً مؤكداً عنه ﴿مسؤولاً *﴾ أي عن كل من عاهد هل وفى به؟ أو مسؤولاً عنه من كل من يتأتى منه السؤال.
ولما كان التقدير بالكيل أو الوزن من جملة الأمانات الخفية كالتصرف لليتيم، وكان الائتمان عليه كالمعهود فيه، أتبعه قوله: ﴿وأوفوا الكيل﴾ أي نفسه فإنه أمر محسوس لا يقع فيه إلباس واشتباه؛ ولما كان صالحاً لمن أعطى ومن أخذ، قال: ﴿إذا كلتم﴾ أي لغيركم، فإن اكتلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم توفوا الكيل ﴿وزنوا﴾ أي وزناً متلبساً ﴿بالقسطاس﴾ أي ميزان العدل الذي هو أقوم الموازين، وزاد في تأكيد معناه فقال تعالى: ﴿المستقيم﴾ دون شيء من الحيف على ما مضى في الكيل سواء ﴿ذلك﴾
412
أي الأمر العالي الرتبة الذي أمرناكم به ﴿خير﴾ لكم في الدنيا والآخرة وإن تراءى لكم أن غيره خير ﴿وأحسن تأويلاً *﴾ أي عاقبة في الدارين، وهو تفعيل من الأول وهو الرجوع، وأفعل التفضيل هنا لاستعمال النصفة لإرخاء العنان، أي على تقدير أن يكون في كل منهما خير، فهذا الذي أزيد خيراً والعاقل لا ينبغي أن يرضى لنفسه بالدون.
ولما كان ذلك مما تشهد القلوب بحسنه، وأضداده مما تتحقق النفوس قبحه، لأن الله تعالى جبل الإنسان على ذلك كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «البر ما سكن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك المفتون وأفتوك» وقال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» وكان قد جمع الضمائر سبحانه، تلاه سبحانه بما يعمه وغيره فقال تعالى مفرداً الضمير ليصوب النهي إلى كل من الجمع
413
والإفراد في حالتي الاجتماع والانفراد على حد سواء: ﴿ولا﴾ أي افعلوا ما أمرتم به من ذلك، وانتهوا عما نهيتم عنه منه، لما تقرر في الجبلات من العلم الضروري بخيريته وحسنه، ولا ﴿تقف﴾ أي تتبع أيها الإنسان مجتهداً بتتبع الآثار ﴿ما ليس لك به علم﴾ من ذلك وغيره، كل شيء بحسبه، لا سيما البهت والقذف، فما كان المطلوب فيه القطع لم يقنع فيه بدونه، وما اكتفى فيه بالظن وقف عنده؛ ثم علل ذلك مخوفاً بقوله: ﴿إن السمع والبصر﴾ وهما طريقا الإدراك ﴿والفؤاد﴾ الذي هو آلة الإدراك؛ ثم هوّل الأمر بقوله تعالى: ﴿كل أولئك﴾ أي هذه الأشياء العظيمة، العالية المنافع، البديعة التكوين، وأولاء وجميع أسماء الإشارة يشار بها للعاقل وغيره كقوله:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
﴿كان﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿عنه﴾ أي وحده ﴿مسؤولاً *﴾ بسؤال يخصه، هل استعمله صاحبه في طلب العلم مجتهداً في ذلك، ليعمل عند الوقوف على الحقائق بما يرضي الله، ويجتنب ما يسخطه أو لا؟ وأول حديث النفس السابح ثم الخاطر ثم الإرادة والعزيمة، فيؤاخذ بالإرادة والعزيمة لدخولهما تحت الاختيار فيتعلق بهما التكليف،
414
ولعدم دخول الأولين خفف عنا بعدم المؤاخذة بهما، كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسهم ما لم تعمل به أو تكلم».
415
ولما كان الكبر والأنفة أعظم موقف عن العلم الداعي إلى كل خير، ومرض بمرض الجهل الحامل على كل شر، قال تعالى: ﴿ولا تمش﴾ أي مشياً ما، وحقق المعنى بقوله تعالى: ﴿في الأرض﴾ أي جنسها ﴿مرحاً﴾ وهو شدة الفرح التي يلزمها الخيلاء، لأن ذلك من رعونات النفس بطيش الهوى وداعي الشهوة وما طبعت عليه من النقائص، فإنه لا يحسن إلا بعد بلوغ جميع الآمال التي تؤخذ بالجد ولن يكون ذلك لمخلوق، ولذلك علله بقوله تعالى: ﴿إنك لن تخرق﴾ أي ولو بأدنى الوجوه ﴿الأرض﴾ أي تقطعها سيراً من مكانك إلى طرفها ﴿ولن تبلغ﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿الجبال طولاً *﴾ أي طول الجبال كلها بالسير فيها، فإذا كنت تعجز في قدرتك وعلمك عن خط مستقيم من عرض الأرض
415
مع الجد والاجتهاد وعن التطاول على أوتادها فبماذا تفخر؟ وبأيّ شيء تتكبر حتى تتبختر؟ وذلك من فعل من بلغ جميع ما أمل؛ ثم عظم جميع ما مضى من المنهيات وأضداد المأمورات بقوله تعالى: ﴿كل ذلك﴾ أي الأمر البعيد من المكارم ﴿كان﴾ أي كوناً غير مزايل.
ولما كانت السيئة قد صارت في حكم الأسماء كالإثم والذنب وزال عنها حكم الصفات، حملها على المذكر ووصفها به فقال تعالى: ﴿سيئه﴾ وزاد بشاعته بقوله تعالى: ﴿عند ربك﴾ أي المحسن إليك إحساناً لا ينبغي أن يقابل عليه إلا بالشكر ﴿مكروهاً *﴾ أي يعامله معاملة المكروه من النهي عنه والذم لفاعله والعقاب، والعاقل لا يفعل ما يكرهه المحسن إليه حياء منه، فإن لم يكن فخوفاً من قطع إحسانه، وخضوعاً لعز سلطانه، ويجوز أن يكون المراد بهذا الإفراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إشارة إلى أنه لا يقدر أحد غيره على امتثال هذا المعنى على ما ينبغي، لأنه لا يعلم أحد العلم على ما هو عليه سواء، ولأن الرأس إذا خوطب بشيء
416
كان الأتباع له أقبل وبه أعنى.
ولما تمت هذه الأوامر والزواجر على هذا الوجه الأحكم والنظام الأقوم، أشار إلى عظيم شأنه ومحكم إتقانه بقوله على طريق الاستئناف، تنبيهاً للسامع على أن يسأل عنه: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي جداً ﴿مما أوحى﴾ أي بعث في خفية ﴿إليك ربك﴾ أي المحسن إليك ﴿من الحكمة﴾ التي لا يستطاع نقضها ولا الإتيان بمثلها من الدعاء إلى الخير والنهي عن الشر، ومن حكمة هذه الأشياء المشار إليها من الأوامر والنواهي أنها لم تقبل النسخ في شريعة من الشرائع، بل كانت هكذا في كل ملة.
ولما بين أن الجهل سبب لكل سوء، وكان الشرك أعظم جهل، أتبعه - ليكون النهي عنه بدءاً وختاماً، دلالة على فرط شناعته عطفاً على ما مضى من النواهي - قوله تعالى: ﴿ولا تجعل﴾ أو يقدر له ما يعطف عليه نحو: فالزمه ولا تجعل ﴿مع الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله ﴿إلهاً﴾.
ولما كانوا لتعنتهم ربما جعلوا تعداد الأسماء تعداداً للمسميات كما ورد في سبب نزول ﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن﴾ قال تعالى مع إفهام المعية للغيرية: ﴿ءاخر﴾ فإن ذلك أعظم الجهل الذي نهى
417
عن قفوه ﴿فتلقى﴾ أي فيفعل بك في الآخرة في الحبس ﴿في جهنم﴾ من الإسراع فيه وعدم القدرة على التدارك فعل من ألقى من عالٍ، حال كونك ﴿ملوماً﴾ أي معنفاً على ما فعلت بعد الذم ﴿مدحوراً *﴾ أي مطروداً بعد الخذلان، فهذان الوصفان أشنع من وصفي الذم والخذلان في الآية الأولى كما هي سنته تعالى أن يبدأ بالأخف تسليكاً لعباده، وإنما كان الشرك أجهل الجهل لأن من الواضح أن الإله لا يكون إلا واحداً بالذات فلا ينقسم، وبالاعتبار فلا يجانس؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها ﴿لا تجعل مع الله إلهاً ءاخر﴾ وهي عشر آيات في التوراة، جعل فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك، لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء، وحك بيافوخه السماء، ما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهم عن دين الله أضل من النعم.
ولما كان ادعاءهم أن الملائكة بنات الله ادعاء لأن له مناسباً ومجانساً في أخص الصفات وهي الإلهية، وكانت عبادتهم لهم تحقيقاً لذلك، وكان ذلك أزيد من مجرد الشرك في الجهل، ساقه مساق التقريع والتوبيخ تنبيهاً على ظهور فساده متصلاً بما مضى من النهي عن الشرك
418
بالعطف بفاء السبب على ﴿ما﴾ بعد الاستئناف بهمزة الإنكار، فكان كأنه قيل: لا تفعل ذلك كما فعل هؤلاء الذين أفرطوا في الجهل فنسبوا إليه من خلقه أدنى الجزءين كما تقدم في النحل في قوله تعالى ﴿ويجعلون لله البنات﴾ [النحل: ٥٤] ثم عبدوا ذلك الجزء وهم لا يرضونه لأنفسهم؛ ثم التفت إليهم مخاطباً بما دل على تناهي الغضب فقال: ﴿أفأصفاكم ربكم﴾ أي أخلق المحسن إليكم بنين وبنات فأصفاكم إحساناً إليكم وأنتم تكفرون به ﴿بالبنين﴾ الذين هم أفضل صنفي الأولاد، ﴿و﴾ لم يحسن إلى نفسه بأن شارككم في البنين، بل ﴿اتخذ﴾ عبر بالافتعال لأن من عدل إلى أحد الصنفين مع التمكن من الآخر لا يكون إلا شديد الرغبة فيما عدل إليه ﴿من الملائكة﴾ الذين هم أقرب عباده أولاداً، ثم ما كفاه نقص الولدية ومعالجة أسبابها حتى جعل ما اتخذه ﴿إناثاً﴾ فرضي لنفسه - وهو إلهكم الخالق الرازق - با لا ترضونه لأنفسكم، ووصلتم في كراهته في بعض الحالات إلى القتل، فصار مشاركاً لكم في البنات مخصصاً لكم دونه بالبنين، وذلك خلاف
419
عادتكم، فإنه العبيد لا يؤثرون بالأجود ويكون الأدون للسادات، وعبر أولاً بالبنين دون الذكور لأن اسم الابن ألذ في السمع، مرض لمن بشر به من غير نظر في العاقبة، وقد يكون أنثى الأفعال، ولأن اسم الذكر مشترك المعنى، وعبر في الثاني بالإناث لإفهام الرخاوة بمدلول اللفظ، ولأنهن بنات بالمعادلة، ويمكن أن تنزل الآية على الاحتباك، فيكون التقدير: بالبنين ورضي لنفسه بالبنات، وخصكم في نوعكم الذي هو أضعف ما يكون بالذكور، واتخذ من الملائكة الذين منهم من يقدر على حمل الأرض وقلب أسفلها على أعلاها إناثاً في غاية الرخاوة، ولذلك استأنف الإنكار عليهم معظماً لذلك بقوله تعالى: ﴿إنكم لتقولون﴾ وأكده لما لهم من التهاون له والاجتراء عليه بقوله تعالى: ﴿قولاً﴾ وزاد في ذلك بقوله: ﴿عظيماً *﴾ أي في الجهل والإفك، عليه وعلى ملائكة الذين لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فتضيفون إليه الأولاد وهم من خصائص الأجسام ثم تفضلون أنفسكم عليه
420
فتجعلون له ما تكرهون.
421
ولما كان في هذا من البيان ما لا يخفى على الإنسان ولم يرجعوا، أشار إلى أن لهم أمثال هذا الإعراض عن أمثال هذا البيان فقال تعالى: ﴿ولقد صرفنا﴾ أي طرقنا تطريقاً عظيماً بأنواع طرق البيان من العبر والحكم، والأمثال والأحكام، والحجج والأعلام، في قوالب الوعد والوعيد، والأمر والنهي، والمحكم والمتشابه - إلى غير ذلك ﴿في هذا القرءان﴾ من هذه الطرق ما لا غبار عليه، ونوعناه من جهة إلى جهة، ومن مثال إلى مثال؛ والتصريف لغة: صرف الشيء من جهة إلى أخرى، ثم صار كناية عن التبيين - قاله أبو حيان.
ولما كان ذلك مركوزاً في الطباع، وله في العقول أمثال تبرز عرائسها من خدورها بأدنى التفات من النفس، سمي الوعظ بها تذكيراً بما هو معلوم فقال تعالى: ﴿ليذكروا﴾ أي نوعاً من التذكير - بما أشار إليه الإدغام، فإنه سبحانه كريم يرضى باليسير - هذا في قراءة الجماعة، وقرأ حمزة والكسائي بإسكان الذال وضم الكاف إشارة إلى أن جميع ما في القرآن لا يخرج شيء منه عن العقل، بل هو مركوز في الطباع، وله شواهد في الأنفس والآفاق، يستحضرها الإنسان بأدنى إشارة وأيسر تنبيه، إذا أزيل عنها ما سترها عن العقل من الحظوظ
421
والشواغل، وأتبعه قوله تعالى معجباً منهم: ﴿وما يزيدهم﴾ التصريف ﴿إلا نفوراً *﴾ عن السماع فضلاً عن التذكير، لاعتقادهم أن ذلك ليس ببراهين، بل هو شبه وخيل إلى صرفهم عما هم فيه مما ألفوه وتلقوه عن آبائهم وتمادت عليهم الدهور في اعتقاد كونه حقاً، فكأنه قيل: فما يفعل بهم؟ فقال تعالى: ﴿قل﴾ لهم ولا تيأس من رجوع بعضهم: ﴿لو كان معه﴾ أي ربكم الذي تقدم وصفه بالإحسان والتنزيه ﴿ءالهة كما يقولون﴾ من هذه الأقوال التي لو قالها أعظمكم في حق أدناكم وهو يريد بها حقيقتها لصار ضحكة للعباد ﴿إذاً لابتغوا﴾ أي طلبوا طلباً عظيماً ﴿إلى ذي العرش﴾ أي صاحب السرير الأعظم المحيط الذي من ناله كان منفرداً بالتدبير ﴿سبيلاً *﴾ أي طريقاً سالكاً يتوصلون به إليه ليقهروه ويزيلوا ملكه كما ترون من فعل ملوك الدنيا بعضهم مع بعض، أو ليتخذوا عنده يداً تقربهم إليه، وصرح بالعرش تصويراً لعظمته وتعييناً للمبتغي والمبتغى؛ ثم نزه نفسه تعظيماً عن ذلك وعن كل نقص فقال تعالى: ﴿سبحانه﴾ أي تنزه التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص ﴿وتعالى﴾ أي علا
422
أعظم العلو بصفات الكمال ﴿عما يقولون﴾ من هذه النقائض التي لا يرضاها لنفسه أحد من عقلاء خلقه فضلاً عن رئيس من رؤسائكم، فكيف بالعلي الأعلى! وأتى بالمصدر المجرد في قوله تعالى: ﴿علواً﴾ إيذاناً بأن الفعل مجرد في الحقيقة وإن أتى به على صيغة التفاعل إيذاناً بالمبالغة ﴿كبيراً *﴾ لا تحتمل عقولكم الوقوف على حقيقته ولا تدركون منه أكثر من مفهوم هذا الوصف عندكم بحسب ما تتعارفونه:
والأمر أعظم من مقالة قائل إن رقق البلغاء أو إن فخموا
ثم استأنف بيان عظمة هذا التنزيه مقروناً بالوصف بالكمال فقال تعالى: ﴿تسبح﴾ أي توقع التنزيه الأعظم ﴿له﴾ أي الإله الأعظم الذي تقدم وصفه بالجلال والإكرام خاصة ﴿السماوات السبع﴾ كلها ﴿والأرض﴾ أيضاً ﴿ومن فيهن﴾ من ذوي العقول ﴿وإن﴾ أي وما، وأعرق في النفي فقال تعالى: ﴿من شيء﴾ أي ذي عقل وغيره ﴿إلا يسبح﴾ أي ينزه له متلبساً ﴿بحمده﴾ أي بوصفه بما له من صفات الكمال بما له تعالى في ذلك الشيء من الآيات الدالة
423
على كل من السلب والإيجاب، وهذا تسبيح بلسان المقال ممن يصح منه، وبلسان الحال منه ومن غيره، كما قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ فقال: سل من يدقني. وهو تسبيح من جهات شتى ليسمعها العارفون بسمع الفهم وصفاء الذهن من جهة ذاتها في خلقها ثم في معنى صفتها بحاجتها من جهة حدوثها إلى صانع أحدثها قديم غير مصنوع، ومن جهة إتقانها إلى كونه مدبراً حكيماً، ومن جهة فنائها إلى كونه مع ذلك قادراً مختاراً، قاهراً جباراً - إلى غير ذلك، بخلاف ما لو قصر التسبيح على لسان المقال فإنه يكون من نوع واحد، وأوضح مرشداً إلى ذلك قوله تعالى: ﴿ولكن لا تفقهون﴾ دون «تسمعون» ﴿تسبيحهم﴾ لإعراضكم عن النظر ونفوركم عن سماع الذكر الذي هو أعظم أسبابه، على أن هذا إنما هو بالنسبة لعامة الخلق، وأما الخاصة فإنهم يسمعون تسبيح الجمادات؛ روى البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر فقل الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل: فأدخل يده في الإناء وقال:
424
حيّ على الطهور المبارك والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وشرف وكرم وبجل وعظم - ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وتسبيح الحصى مشهور، وفي زبور داود عليه السلام تكرير كثير لهذه الآية وحث على تأملها، قال في المزمور الثامن والستين: تسبح له السماوات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها. وفي المزمور الخامس والثمانين: فليس مثلك يا ربي وإلهي ولا مثل أعمالك، لأن جميع الأمم الذين خلقت يأتون ويسجدون أمامك يا رب ويسبحون لاسمك، لأنك عظيم صانع الآيات. وفي الثامن والثمانين: بذراعك العزيزة فرقت أعداءك، لك السماوات ولك الأرض، أنت أسست الدنيا بكمالها، خلقت البر والبحر، تابور وحرمون باسمك يسبحان، لك القوة والجبروت، تعتز يدك، وتعلو يمينك، بالعدل والحكم أتقنت كرسيك، الرحمة والعدل ينطلقان أمامك، طوبى للشعب الذي يعرف
425
تسبيحك.
وفي الخامس والتسعين: سبحوا الرب تسبيحاً جديداً، الأرض كلها تسبح الرب، اسجدوا للرب في هياكل قدسه لأن جميع الأرض تتزلزل بين يديه، قولوا في الشعوب: إن الله هو الملك أتقن الدنيا لكيلا تزول، يقضي بين الشعوب بالعدل، تفرح السماوات وتبتهج الأرض، ينقلب البحر في عمقه، تتهلل البقاع وما فيها، هنالك يسبح جميع شجر الغياض قدام الرب. وفي السابع والتسعين: ولله تسبح كل الأرض، مجدوا وهللوا وسبحوا الرب. وفي الثامن والأربعين بعد المائة: سبحوا الرب من السماوات، سبحوه من العلى يا جميع ملائكته! وكل جنوده تسبحه، الشمس والقمر يسبحانه، وجميع الكواكب والنور تسبحه، يسبح الرب سماء الدنيا والمياه التي فوق السماوات، تسبح جميعاً اسم الرب لأنه قال فكانوا، وأمر فخلقوا، وأقامهم إلى الأبد والدهر، جعل لها مقدراً لا تتجاوزه، يسبح الرب من في الأرض: التنانين
426
وجميع الأعماق، النار والبرد والثلج والجليد والريح العاصفة عملت كلمته، الجبال وكل الآكام، الشجر المثمرة وجميع الأرز، السباع وكل البهائم والوحوش وكل حيوان وكل طائر ذي جناح، ملوك الأرض وسائر الشعوب العظماء وجميع حكام الأرض، الشبان والعذارى والشيوخ والصبيان يسبحون اسم الرب، لأن اسمه قد تعالى وحده. وفي الخمسين بعد المائة: سبحوا الله في كل قديسيه، سبحوه في جلد قوته، سبحوه كمثل جبروته، سبحوه بكثرة عظمته، سبحوه بصوت القرن، وسبحوه بأصوات عالية، كل نسمة تسبح الرب.
ولما كان تسبيح جميع المخلوقات أمراً واضح الفهم ظاهر الشأن، فكانوا مستحقين للعقاب في عدم فهمه بعدم التأمل في المصنوعات حق التأمل، نبههم على أن عافيتهم إنما هي لحلمه عنهم، فهو ينظرهم إلى المدة التي ضربها لهم لأنه لا يعجل لتنزهه عن شوائب النقص الذي نطق كل شيء بتنزيهه عنها فقال تعالى: ﴿إنه كان حليماً﴾ حيث لا يعاجلكم بالعقوبة على إعراضكم عن صرف الأفكار فيما
427
أمركم بصرفها إليه.
ولما كان الغالب على أحوال البشر أن حليمهم إذا غضب لا يغفر، وإن عفا كان عفوه مكدراً، قال تعالى: ﴿غفوراً *﴾ مشيراً بصيغة المبالغة إلى أنه على غير ذلك ترغيباً في التوبة.
428
ولما قرر في سياق التوحيد أنهم في الحضيض من الغباوة، التفت إلى سيد أولي الفهم، فقال مشيراً إلى النبوة عاطفاً على ﴿لا تفقهون﴾ منبهاً على أنهم لا يفهمون لسان القال فضلاً عن لسان الحال: ﴿وإذا قرأت القرءان﴾ الذي لا يدانيه واعظ، ولا يساويه مفهم، وهو تبيان لكل شيء ﴿جعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿بينك﴾ وبينهم، ولكنه أظهر هذا المضمر بالوصف المنبه على إعراضهم عن السماع على الوجه المفهم فقال تعالى: ﴿وبين الذين لا يؤمنون﴾ أي لا يتجدد لهم إيمان ﴿بالآخرة﴾ أي التي هي قطب الإيمان ﴿حجاباً﴾ مالئاً لجميع ما بينك وبينهم مع كونه ساتراً لك عن أن يدركوك حق الإدراك على ما أنت عليه ﴿مستوراً *﴾ عنهم وعن غيرهم، لا يراه إلا من أردنا، وذلك أبلغ في العظمة وأعجب في نفود الكلمة ﴿وجعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿على قلوبهم أكنة﴾ أي أغطية، كراهة ﴿أن يفقهوه﴾ أي يفهموا القرآن حق فهمه ﴿وفي ءاذانهم وقراً﴾ أي شيئاً ثقيلاً يمنع سماعهم السماع النافع بالقصور في إدراكهم
428
لا في بيانه، فرؤيتهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حال التلاوة غير صحيحة كما أن سمعهم وإدراكهم لما يقرأه كذلك كما قال تعالى ﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة﴾ [البقرة: ٧] ﴿وإذا ذكرت ربك﴾ أي المحسن إليك وإليهم ﴿في القرءان﴾ حال كونه ﴿وحده﴾ مع الإعراض عن آلهتهم ﴿ولوا﴾ وحقق المعنى وصوره بما يزيد في بشاعته تنفيراً عنه فقال: ﴿على أدبارهم نفوراً *﴾ مصدر من غير اللفظ مؤكد لأنه محصّل لمعناه، أو جمع نافر كقاعد وقعود.
ومادة «وقر» بجميع تقاليبها عشر تدور على الجمع كما مضى في آخر يوسف وأول الحجر، فالوقر - بالفتح: ثقل في الأذن أو ذهاب السمع كله - لأن ذلك يوجب اجتماعاً في النفس وسكوناً يحمل على الوقار الذي هو السكينة بفقد بعض ما كان يشعّب الفكر من السمع، ومن ذلك ذلك الوقر - بالكسر: الحمل مطلقاً أو الثقيل، أو لأن الحمل جامع لما فيه والأذن جمعت ما سدها، فكأنه جمع خرقها فصيرها صلداً كالصخرة الصماء لا ينفذ فيها شيء، ولذلك يسمى الطرش الصمم ونخلة موقرة، أي مستجمعة حملاً، واستوقرت الإبل: سمنت أي جمعت
429
الشحم واللحم، ووقر كوعد: جلس - لاستجماع بعض أعضائه إلى بعض، والوقير: القطيع من الغنم أو صغارها أو خمسمائة منها أو عام، أو الغنم بكلبها وحمارها وراعيها كالقرة - لاستجماع بعضها إلى البعض، والوقري - محركة: راعي الوقير أو مقتني الشاء وصاحب الحمير وساكنو المصر، والقرة - كعدة: العيال والثقل والشيخ الكبير - لأن الكبر والثقل يثمران الوقار الناشىء عن استجماع النفس والعزم وترك الانتشار بالطيش، وما قبلهما واضح في الجمع، والموقر - كمعظم: المجرب العاقل قد حنكته الدهور - لأن ذلك يثمر استجماع العقل، ووقرت الرجل توقيراً: بجلته ورزنته، والدابة: سكنتها - فكان كأنه جمع إليها حمل ثقيل، والتيقور فيعول من الوقار تاءه مبدلة من واو، يقال: وقر في بيته يقر، أي جمع نفسه فيه لاجتماع همه، والموقر - كمجلس: الموضع السهل عند سفح الجبل - لعله شبه بالرجل الوقور المطمئن الساكن النفس، والحامل الذي يوطئه الحمل، والوقرة: وكتة - أي حفرة - تكون في الحافر والعين والحجر - لأن من شأن
430
الحفرة أن تجمع ما تودعه، ومنه توقير الشيء: أن تصير له وقرات، أي آثاراً، والوقر: الصدع في الساق وكالوكتة أو الهزمة تكون في العظم والحجر والعين، وأوقر الله الدابة: أصابها بوقرة، وفقير وقير، أي مكسور العظام أو الفقار، أو تشبيه بصغار الشاء أو اتباع، أو المعنى أن الدين أوقره، والوقير: النقرة العظيمة في الصخرة تمسك الماء - وهو واضح في الجمع.
والروق: القرن - لشدة اجتماعه لصلابته واستدارته، ولأنه يجمع إقدام صاحبه وعزمه، والروق أيضاً: عزم الرجل وفعاله - لجمعهما أمره، والروق من الليل: طائفة - لاجتماع ساعاتها، والروق من البيت: رواقه، أي شقته التي دون الشقة العليا - لأنها تكمل جمعه لما يقصد منه من الستر، ورواق البيت - ككتاب وغراب. ما أطاف به، قال القزاز: وقيل: الرواق كالفسطاط يحمل على عمود واحد في وسطه، قال في القاموس: أو سقف في مقدم البيت وحاجب العين - ولعله شبه بالستر، ومن الليل: مقدمه وجانبه - شبه بجانب البيت، والروق من الشباب: أوله كالريق بالفتح، والريق ككيس، وأصله ريوق - لأنه ينبني عليه ما بعده ويجتمع إليه كأنه الأصل الذي يجمع
431
جميع الفروع، والريق أيضاً أن يصيبك من المطر شيء يسير - كأنه أول المطر، والروقة: الشيء اليسير، وهي من ذلك، والروق أيضاً: العمر - لأنه الجامع للحال، وراقني الشيء: أعجبني - لأن الفكر يجمع الخواطر لأجله فلا يظهر له وجه ما صار به معجباً، ووصيف روقة - إذا أعجبك، وجارية روقة وغلمان روقة، جمع رائق، والروقة: الشيء الجميل جداً، والروق - بالفتح العجب والإعجاب بالشيء، ومن الخيل: الحسن الخلق يعجب الرائي، والجمال الرائق، والريق والروق والرواق: الستر - لأنه يجمع البصر والهم عما وراءه، وهو أيضاً موضع الصائد - لأنه يجمعه على ما يريد ويوصله إليه، والروق: الرواق ومقدم البيت والشجاع لا يطاق - لاجتماع همه لما يريد، والفسطاط والسيد - لجمع الفضائل، والصافي من الماء وغيره - لأن الصفاء أجدر باجتماع الأجزاء، والروق: الجماعة والحب الخالص ومصدر راق عليه، أي زاد عليه فضلاً - لأن الزيادة لا تكون إلا عن جمع، والروق: البدن من الشيء - لجمعه له، والحية - لتحويها أي تجمعها، وداهية ذات روقين، أي عظيمة مشبهة
432
بالثور، ورمى بأرواقه على الدابة: ركبها، أي بجميع أعضائه، ورمى بأرواقه عنها: نزل، وألقى أرواقه: عدا فاشتد عدوه - كأنه خرج من جميع أعضائه - فعدا روحاً بلا بدن فصار أعظم من الطائر، أي غلبت روحه على بدنه، وألقى أوراقه: أقام بالمكان مطمئناً؛ قال في القاموس: كأنه ضد - انتهى.
والمفعول فيه في هذا محذوف، كأنه قال: في مكان كذا، ومن المعلوم أن بدنه إذا كان في مكان وهو حي فقد أقام به، وألقى عليك أرواقه، وهو أن تحبه شديداً، والمعنى أنه ألبسك بدنه فصارت روحك مديرة له فصرت إياه. وتعبير القزاز بقوله «وهو أن تحبه حتى تستهلك في حبه» يدل على ذلك، وألقت السحابة أرواقها، أي مطرها ووبلها أو مياهها الصافية - وذلك هو مجموع ما فيها، وأرواق الليل: أثناء ظلمته بأرواقه - إذا قام وثبت، وقيل: أرواقه: مقاديمه، وأسلبت العين
433
أرواقها: سالت دموعها، أي جميع ما فيها - كأن ذلك كناية عن اشتداد البكاء، وروق الفرس: الذي يمده الفارس من رمحه بين أذنيه - تشبيه له بقرن الثور، وذلك الفرس أروق، ومنه الروق - محركة، وهو طول الأسنان - تشبيهاً لها بالروق أي القرن - قال القزاز: وقيل: الروق: طول الأسنان وانثناءها إلى داخل الفم، وإشراف العليا على السفلى، والقوم روق - إذا كانوا كذلك، وهو يصلح لأن يكون تشبيهاً بما ذكر، ولأن يكون من الجمع من أجل الانثناء، ومنه أكل فلان روقه - إذا أسن فطال عمره حتى تتحات أسنانه - المشبهة بالقرن، والترويق: التصفية - وقد تقدم أن الشيء إذا خلص من الأغيار كانت أجزاؤه أشد تلاصقاً، والترويق: أن يبيع سلعة ويشتري أجود منها - مشبهة بالتصفية، والراووق: المصفاة يروق بها الشراب بلا عصر والكأس بعينها، والباطية وناجود الشراب الذي يروق به - لأنها تجمع الشراب.
والقرو: القصد والتتبع كالاقتراء والاستقراء والطعن
434
وهو واضح في الجمع، والقرو: حوض طويل ترده الإبل، وعبارة القزاز: شبه حوض ممدود مستطيل إلى جنب الحوض، يفرغ منه في الحوض الأعظم، ترده الإبل والغنم، وكذا إن كان من خشب. والقرو: الأرض لا تكاد تقطع - كأنها حمت اجتماع أجزائها عن أن يفرقها أحد، والقرو: مسيل المعصرة ومثعبها - لاجتماع ما يسيل فيه، وأسفل النخلة ينقر فينتبذ فيه أو يتخذ منه المركن والإجانة للشرب، وقدح أو إناء صغير، وميلغة الكلب، وحق عليه طبق، ومنقع الماء، والعرب تقول: أصبحت الأرض قرواً واحداً - إذا كثر الخصب والمطر، وكل ذلك واضح في الجمع، وأن يعظم جلد البيضتين لريح أو ماء، أو نزول الأمعاء كالقروة، وذلك إما لشبههما بالقدح أو لجمعهما ما أوجب كبرهما، وقرّى كفعلى: ماء بالبادية - لجمعه الناس، والقرى: القرع يؤكل - لأنه صالح لأن يجعل إناء، والقرا: الظهر - لجمعه الأعضاء، وناقة قرواء: طويلة السنام، والمقروري: الطويل الظهر، وأقرى: اشتكى - إما أن يكون من شكاية القرا، وإما أن يكون للسلب، أي أزال اجتماع همه وعزمه، والقرواء:
435
العادة - لجمعها أهلها، والدبر - لجمعها ما فيها، وأقرى: طلب القرى، ولزم القرى، وأقرى الجل على الفرس: ألزمه، والمقاري: رؤوس الإكام - لأنها تجمع، وتركتهم قرواً واحداً على طريقة واحدّة - أي مجتمعين وشاة مقروة: جعل رأسها في خشبة لئلا ترضع نفسها - أي جمع فكاها، وقروة الرأس: طرفه، وعبارة القزاز: وقروان الرأس وقروة الرأس: أعلاه - كأنه مجتمع أمره لأنه موضع المفكرة، وقروة الأنف: طرفه - لأنه آخر جامع لجماله، واستقرى الدمل: صارت فيه المدة - أي اجتمعت، والقيروان: معظم العسكر ومعظم القافلة - وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية المادة في
﴿بورقكم هذه﴾ في [الكهف: ١٩].
436
ولما كانوا ربما ادعوا السمع والفهم فشككوا بعض من لم يرسخ إيمانه -، أتبعه تعالى ما يؤكد ما مضى ويثبت السامعين فيه فقال تعالى على طريقة الجواب مهدداً ودالاً على أن مداركهم معروفة: ﴿نحن أعلم﴾ أي من كل عالم ﴿بما يستمعون﴾ أي يبالغون في الإصغاء والميل لقصد السمع ﴿به﴾ من الآذان والقلوب، أو بسببه
436
من إرادة الوقوع على سقطة يجعلونها موضع تكذيبهم واستهزائهم ﴿إذ﴾ أي حين ﴿يستمعون﴾ أي يصغون بجهدهم، وبين بعدهم المعنوي بقوله تعالى: ﴿إليك وإذ﴾ أي وحين ﴿هم﴾ ذوو ﴿نجوى﴾ أي يتناجون بأن يرفع كل منهم سره على صاحبه بعد إعراضهم عن الاستماع: ثم ذكر ظرف النجوى فقال تعالى: ﴿إذ يقول﴾ مبرزاً لضميرهم بالوصف الدال على حملهم على ما تناجوا به، وهم ﴿الظالمون﴾ ومقولهم: ﴿إن تتبعون﴾ أي أيها التابعون له بغاية جهدكم ﴿إلا رجلاً مسحوراً *﴾ مختلط العقل، فامتطوا في هذا الوصف ذروة الظلم، وسيأتي في آخر السورة سر استعمال اسم المفعول موضع اسم الفاعل؛ ثم وصل بذلك الدليل على نسبته سبحانه لهم إلى الجهل الذي كان نتيجة قولهم هذا فقال تعالى: ﴿انظر﴾ ولما كان أمرهم بما يزيد العجب منه وتتوفر الدواعي على السؤال عنه قال تعالى: ﴿كيف ضربوا﴾ أي هؤلاء الضلال ﴿لك الأمثال﴾ التي هي أبعد شيء عن صفتك من قولهم: ساحر وشاعر ومجنون ونحوه ﴿فضلوا﴾ عن الحق في جميع ذلك ﴿فلا﴾ أي فتسبب عن ضلالهم أنهم لا ﴿يستطيعون سبيلاً *﴾ أي يسلكون فيه، إلى إصابة المحن
437
في مثل، أو إحكام الأمر في عمل، وهذا بعد أن نهاهم الله بقوله تعالى ﴿فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ [النحل: ٧٤] فكأن هذا أول دليل على ما وصفناهم به من عدم الفهم والسمع فضلاً عن أن يكون لهم إلى مقاومة هذا القرآن - الذي يدعون أنه قول البشر - سبيل أو يغبروا في وجهه بشبهة فضلاً عن دليل.
ولما جرت عادة القرآن بإثبات التوحيد والنبوة والمعاد، وقدم الدلالة على الأولين، وختم بإثبات جهلهم في النبوة مع ظهورها، أتبع ذلك أمراً جلياً في ضلالهم عن السبيل في أمر المعاد وقرره غاية التقرير، وحرره أتم تحرير، فقال تعالى معجباً منهم: ﴿وقالوا﴾ أي المشركون المنكرون للتوحيد والنبوة والبعث مع اعترافهم بأنا ابتدأنا خلقهم ومشاهدتهم في كل وقت أنا نحيي الأرض بعد موتها: ﴿أإذا﴾ استفهاماً إنكارياً كأنهم على ثقة من عدم ما ينكرونه، والعامل في ﴿إذا﴾ فعل من لفظ ﴿مبعوثون﴾ لا هو. فإن ما بعد ﴿إن﴾ لا يعمل فيما قبلها. فالمعنى: أنبعث إذا ﴿كنا﴾ أي بجملة أجسامنا كوناً لازماً ﴿عظاماً ورفاتاً﴾ أي حطاماً مكسراً مفتتاً وغباراً ﴿إنا لمبعوثون﴾ حال كوننا مخلوقين ﴿خلقاً جديداً *﴾ فكأنه قيل: فماذا يقال لهم في الجواب؟ فقيل: ﴿قل﴾ لهم: لا تكونوا رفاتاً، بل ﴿كونوا﴾
438
تراباً، بل كونوا أصلب التراب ﴿حجارة﴾ أي هي في غاية اليبس ﴿أو حديداً *﴾ زاد على يبس الحجارة شدة اتصال الأجزاء ﴿أو خلقاً﴾ غيرهما ﴿مما يكبر﴾ أي يعظم عظمة كبيرة ﴿في صدوركم﴾ عن قبول الحياة ولو أنه الموت، حتى تعلموا حال الإعادة، كيف يكون حالكم في الإجابة إلى ما يريد؟ فإن الكل أصله التراب، فالذي فضل طينكم - الذي خلقتم منه على سائر الطين بالنمو ثم بالحياة ثم بالنطق وفضل بعض الناطقين على بعض بمواهب لا تحصى - قادر أن ينقل تلك الفضيلة إلى الطين الذي نقله طوراً بعد طور إلى أن جعله حجراً أو حديداً ﴿فسيقولون﴾ تمادياً في الاستهزاء: ﴿من يعيدنا﴾ إذا كنا كذلك ﴿قل الذي فطركم﴾ أي ابتدأ خلقكم ﴿أول مرة﴾ ولم تكونوا شيئاً يعيدكم بالقدرة التي ابتدأكم بها، فكما لم تعجز تلك القدرة عن البداءة فهي لا تعجز عن الإعادة ﴿فسينغضون﴾ أي مصوبين بوعد لا خلف فيه مشيرين ﴿إليك رؤوسهم﴾ أي يحركونها من شدة التعجب والاستهزاء كأنهم في شدة جهلهم على غاية البصيرة من العلم بما يقولون؛ والنغض والإنغاض: تحريك بارتفاع وانخفاض
439
﴿ويقولون﴾ استهزاء: ﴿متى هو﴾ ثم وصل به قوله تعالى: ﴿قل﴾ قول مقتصد غير ممتعض بحالهم ولا ضيق بقولهم: ﴿عسى أن يكون﴾ أي كوناً لا انفكاك عنه ﴿قريباً *﴾ مطرقاً إليه الاحتمال لإمكانه غير جازم، ثم استأنف جازماً بقوله: ﴿يوم﴾ أي يكون ذلك يوم ﴿يدعوكم﴾ أي يناديكم المنادي من قبله بالنفخة أو بغيرها كأن يقول: يا أهل القبور! قوموا إلى الجزاء - أو نحو ذلك ﴿فتستجيبون﴾ أي توافقون الداعي فتفعلون ما أراد بدعائه وتطلبون إجابته وتوجدونها، أو استعار الدعاء والاستجابة للبعث والانبعاث تنبيهاً على سرعتهما وتيسر أمرهما، أو أن القصد بهما الإحضار للحساب ﴿بحمده﴾ أي بإحاطته سبحانه بكل شيء قدرة وعلماً من غير تخلف أصلاً، بل لغاية الإذعان كما يرشد إليه صيغة استفعل، وأنتم مع سرعة الإجابة تحمدون الله تعالى، أي تثبتون له صفة الكمال ﴿وتظنون﴾ مع استجابتكم وطول لبثكم ﴿إن﴾ أي ما ﴿لبثتم﴾ ميتين ﴿إلا قليلاً *﴾ لشدة ما ترون من [الأهوال التي أحاطت بكم
440
والتي تستقبلكم، أو جهلاً منكم بحقائق الأمور كما هي حالكم اليوم كما ترون من - جدة خلقكم وعدم تغيره.
ولما أمره سبحانه بإبلاغهم هذا الكلام، وفيه من التهكم بهم والتبكيت لهم والاستخفاف بعقولهم ما لا يعلم مقداره إلا مثلهم من البلغاء والعرب العرباء، وكان لكونه كلام العليم بالعواقب، الخبير بما تجن الضمائر - ربما استن به المؤمنون فخاطبوهم بنحوه من عند أنفسهم، نهاهم عن ذلك لئلا يقولوا ما يهيج شراً أو تثير ضراً، فقال تعالى: ﴿وقل﴾ أي قل لهم ذلك من الحكمة والموعظة الحسنة، وقل ﴿لعبادي﴾ أي الذين هم أهل للإضافة إليّ، واعظاً لهم لئلا يتجاوزوا الحد من شدة غيظهم من المشركين، إن تقل لهم ذلك ﴿يقولوا﴾ الموعظة والحكمة والمجادلة ﴿التي هي أحسن﴾ لأكون معهم لأني مع الذين اتقوا والذين هم محسنون؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى: ﴿إن الشيطان﴾ أي البعيد من الرحمة، المحترق باللعنة ﴿ينزغ بينهم﴾ أي يفسد ويغري ويوسوس، وأصل النزغ الطعن، وهم غير معصومين، فيوشك أن
441
يأتوا بما لا يناسب الحال أو الوقت بأن يذكروا مساوىء غيرهم أو محاسن أنفسهم فيوقع في شر؛ ثم علل هذه العلة بقوله تعالى: ﴿إن الشيطان كان﴾ أي في قديم الزمان وأصل الطبع كوناً هو مجبول عليه ﴿للإنسان عدواً﴾ أي بليغ العداوة ﴿مبيناً *﴾ ثم فسر «التي هي أحسن» مما علمهم ربهم من النصفة بقوله تعالى: ﴿ربكم أعلم بكم﴾ ثم استأنف فقال تعالى: ﴿إن يشأ﴾ رحمتكم ﴿يرحمكم﴾ بأن ييسر لكم أفعال الخير ﴿أو إن يشأ﴾ عذابكم ﴿يعذبكم﴾ بأن ييسركم لأفعال الشر، فإذا قالوا لهم ذلك كانوا جديرين بأن يعرضوا - أو من أراد الله منهم - أفعالهم على ما يعلمونه من الخير والشر فينظروا أيهما أقرب إليها، وربما ردهم ذلك من أنفسهم عن الفساد، لحسم مادة العناد، ويجوز - وهو - عندي أحسن - أن تكون الآية استئنافاً واقعاً موقع التعليل للأمر بقول الأحسن، أي ﴿ربكم﴾ أيها العباد ﴿أعلم بكم﴾ وبما يؤول أمركم إليه من سعادة وشقاوة ﴿إن يشأ يرحمكم﴾ بهدايتكم ﴿أو إن يشأ يعذبكم﴾ بإضلالكم، فلا تحتقروا أيها المؤمنون المشركين فتقطعوا بأنهم من أهل النار فتعيروهم بذلك، فإنه يجر إلى الإحن وحر الصدور وغيظ القلوب بلا فائدة، لأن الخاتمة
442
مجهولة، ولا تتجاوزوا فيهم ما آمركم به من قول وفعل فإنه الأحسن؛ ثم رقى الخطاب إلى أعلى الخلق ورأس أهل الشرع ليكون من دونه أولى بالمعنيّ منه فقال تعالى: ﴿وما﴾ أي فما أرسلناك إلا للدعاء بمثل ذلك على حسب ما نأمرك به، وما ﴿أرسلناك﴾ أي مع ما لنا من العظمة الغنية عن كل شيء ﴿عليهم وكيلاً *﴾ أي حفيظاً وكفيلاً لغيرهم على ما يرضي الله، وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارهم وأمر أصحابك بمداراتهم.
ولما أمرهم بأن ينسبوا الأعلمية بهم إليه سبحانه، أخبر بما هو أعم من ذلك فقال تعالى عاطفاً على ﴿ربكم﴾ إعلاماً بأن علمه ليس مقصوراً عليهم، بل هو محيط، قاصراً الخطاب على أعلم الخلق به سبحانه إشارة إلى أنه لا يعلم هذا حق علمه غيره: ﴿وربك﴾ أي المحسن إليك بأن جعلك أكمل الخلق ﴿أعلم﴾ أي من كل عالم ﴿بمن في السماوات﴾ أي كلها ﴿والأرض﴾ منهم ومن غيرهم، بأحوالهم ومقاديرهم وآجالهم وما يستأهل كل واحد منهم، لأنه هو الذي خلقهم وفاوت بينهم في أخلاقهم وهيئاتهم فكيف يستبعدون أن يكون يتيم أبي طالب - على ما كانوا يقولون - نبياً، وأن يكون أصحابه العراة الجياع أفضل منهم.
ولما كان قد فهم من هذا السياق تفضيل بعض الأشياء على بعض
443
حتى تصير قابلة الروح الحياة بدءاً وإعادة، بعد أن فهم من أول السورة وآخر التي قبلها اختصاص بعض الأنبياء بفضائل من روح العلم والحكمة لم يحزها غيره، صرح بهذا هنا فقال تعالى عطفاً على ما أرشد إليه سياق الإخبار بالأعلمية، ملتفتاً إلى مقام العظمة الداعي إليه الحال، وهو الوصف بالأعلمية: ﴿ولقد﴾ أي فميزنا بينهم بالرذائل والفضائل تفضيلاً لبعضهم على بعض على حسب إحاطة علمنا بهم وشمول قدرتنا لهم في تأهلهم للسعادة والشقاوة ففضلنا بعض الناس على بعض، ففضلنا العلماء على غيرهم، وفضلنا النبيين منهم على غيرهم، ولقد ﴿فضلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿بعض النبيّن﴾ أي سواء كانوا رسلاً أو لا ﴿على بعض﴾ بعد أن جعلنا الكل فضلاء لتقوى كل منهم وإحسانه، فلا ينكر أحد من العرب أو بني إسرائيل أو غيرهم تفضيلنا لهذا النبي الكريم الذي صدرنا السورة بتفضيله على جميع الخلائق، فإنا نفعل ما نشاء، بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل، والحاصل أن من أعظم ثمرات العمل التفضيل بإعطاء كل واحد بل كل شيء ما يستحقه، وبذلك يستدل على تمام - حكمته في شمول علمه وكمال قدرته، فلذلك ذكر
444
التفضيل هنا بعد ذكر العلم المطلق، وصرح بتفضيل أشرف الخلائق وطوى ذكر غيرهم، كما ذكر التفضيل في الدنيا بعد إثبات العلم المقيد بالذنوب في قوله: ﴿من كان يريد العاجلة - إلى قوله تعالى: انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض﴾.
ولما كان القصد إلى بني إسرائيل في هذه السورة سابقها ولاحقها ظاهراً، والتعريض بهم في كثير منها بيناً، وكان داود عليه السلام هو المؤسس للمسجد الأقصى الذي وقع الإسراء إليه، وكان قد خص بأن ألين له الحديد الذي أمر المشركون أن يكونوه، لاستبعادهم الإعادة، وكان - مع كونه ملكاً - من أشد الناس تواضعاً، وأكثرهم بكاء، وأبعدهم من المرح في الأرض، قال تعالى: ﴿وءاتينا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿داود﴾ أي الذي هو من أتباع موسى الذي آتيناه الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا يتخذوا من دوني وكيلاً ﴿زبوراً *﴾ لأنهم قاطعون بأن من بين موسى وعيسى من أنبياء بني إسرائيل دون موسى في الرتبة، وكل منهم داعٍ إلى شريعته، عامل بحكم التوراة التي شرفه الله بها، غير خارج عن شيء من سنتها، فكان القياس
445
يقتضي أن يكونوا في الفضيلة سواء، فلم يجر ذلك على مقتضى عقول الناس، بل فاوت سبحانه بينهم على حسب علمه بأحوالهم حتى في الوحي، فخص من بينهم داود عليه السلام بكتاب كله مواعظ، والمواعظ أشد شيء منافاة للمشي في الأرض مرحاً، ونهياً عنه، وأعظم شيء أمراً بالقول الذي هو أحسن من الإخلاص والمراقبة والإحسان، هذا إلى ما ذكر فيه من التسبيح من كل شيء الذي هو من أعظم مقاصد السورة كما تقدم نص الزبور به قريباً، فكان ذكر تفضيله به هنا أنسب شيء لهذا المقام، وفي ذلك أعظم إشارة وأجل تنبيه على فضل بيت المقدس الذي جعله سبباً لتفضيل الأنبياء تارة بالهجرة إليه كإبراهيم عليه السلام وتارة بقصد تطهيره من الشرك وتنويره بالتوحيد كموسى عليه السلام، وتارة بتأسيس بنيانه وتشييد أركانه كداود عليه السلام، وتارة بالإسراء إليه والإمامة بالأنبياء عليهم السلام به والعروج منه إلى سدرة المنتهى والمقام الأعلى، وأما تفضيله وتفضيل ابنه سليمان - على نبينا محمد وعليهما الصلاة والسلام - بالملك وسعة الأمر فدخل في قوله تعالى: ﴿انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض﴾ وروى البخاري في التفسير
446
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: خفف على داود القراءة فكان يأمر بدوابه لتسرج، فكان يقرأ قبل أن يفرغ - يعني القرآن، ومن أعظم المناسبات لتخصيص داود عليه السلام وزبوره بالذكر هنا ذكر البعث الذي هذا مقامه فيه صريحاً، وكذا ذكر النار مع خلو التوراة عن ذلك، أما البعث فلا ذكر له فيها أصلاً، وأما النار فلم يذكر شيء مما يدل عليها إلا الجحيم في موضع واحد، وأما الزبور فذكر فيه النار والهاوية والجحيم في غير موضع، وأما البعث فصرح به، وهو ظاهر في كونه بالروح والجسد، قال في المزمور الثالث بعد المائة: نفسي تبارك الرب، الرب إلهي عظيم جداً، لبس المجد، وعظيم البهاء، وتجلل بالنور كالرداء، ومد السماء كالخباء، جعل الماء أساسها، واستوى على السحاب، ومشى على أجنحة الرياح، خلق ملائكته أرواحاً وخدمه ناراً واقدة، وتجلل بالغمر كالرداء، وعلى الجبال تقف المياه، ومن رجزك قهرت، ومن صوت رعدك تجزع الجبال عالية، والبقاع منهبطة في الأماكن التي أسست، جعلت حداً لا تتجاوزه، لا تعود تغطي الأرض، أرسل الماء عيوناً في الأودية، وبين الجبال
447
تجري المياه لتسقي حيوان البر، وتروي عطاش الوحوش، يقع عليها طائر السماء إلى أن قال: وكل بحكمة صنعت، امتلأت الأرض من خليقتك، هذا البحر العظيم السعة فيه حيتان لا تحصى كبار وصغار، وفيه تسلك السفن، وهذا التنين الذي خلقته ليتعجب منه، والكل إياك يرجون لتعطيهم طعامهم في حينه، فإذا أنت أعطيتهم يعيشون، وعند بسط يدك بالطيبات يشبعون، وحين تصرف وجهك يجزعون، تنزع أرواحهم فيموتون، وإلى التراب يرجعون، ترسل روحك فيخلقون، وتجدد وجه الأرض دفعة أخرى، ويكون مجد الرب إلى الأبد - انتهى.
فكأن ذلك جواب لقول من لعله يقول للعرب من اليهود: إن الأمر كما تقولون في أنه لاقيامة - كما يقوله بعض زنادقتهم كما ذكر عنهم في نص الإنجيل وكما نقل عنهم في سورة النساء أنهم قالوا: أنتم أهدى سبيلاً، ودينكم خير من دين محمد، وفي الزبور - كما تقدم في أول السورة عن توراة موسى عليه الصلاة والسلام -
448
ألا تتخذوا من دون الله وكيلاً، وذلك من أعظم مقاصد السورة، قال في المزمور الخامس والأربعين بعد المائة: لا تتوكلوا على الرؤساء ولا على بني البشر الذين ليس عندهم خلاص، فإن أرواحهم تفارقهم ويعودون إلى ترابهم، في ذلك اليوم تبطل أعمالهم.
449
ولما أثبت أن شأنه تعالى فعل ذلك وأمثاله من التفضيل والتحويل على حسب علمه وقدرته، ثبت بغير شبهة أن لا مفزع إلا إليه، فأمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحقيقاً لذلك أن يأمرهم بما يظهر به عجز شركائهم، رداً عليهم في قولهم: لسنا بأهل لعبادته استقلالاً، فنحن نعبد بعض المقربين ليشفع لنا عنده، فقال تعالى: ﴿قل ادعوا الذين﴾ وأشار إلى ضعف عقولهم وعدم تثبتهم بالتعبير بالزعم فقال تعالى: ﴿زعمتم﴾ أنهم آلهة؛ وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى: ﴿من دونه﴾ أي من سواه كالملائكه وعزير والمسيح والأصنام، ليجلبوا لكم خيراً، أو يدفعوا عنكم ضراً ﴿فلا﴾ أي فإن دعوتموهم أو لم تدعوهم فإنهم لا ﴿يملكون كشف الضر﴾ أي البؤس الذي من شأنه أن يرض الجسم كله ﴿عنكم﴾ حتى لا يدعوا شيئاً منه ﴿ولا تحويلاً *﴾ له من حالة إلى ما هو أخف منها، فضلاً عن أن يبدلوه بحالة حسنة أو يحولوه إلى عدوكم، والآية نحو قوله تعالى: {فما يستطيعون
449
صرفاً ولا نصراً} [الفرقان: ١٩] فكيف يتخذ أحد منهم دوني وكيلاً؟ قالوا: وسبب نزولها شكوى قريش إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما نزل بهم من القحط حين دعا عليهم بسبع كسبع يوسف عليه السلام. ولم ينضب ﴿يملكون﴾ لئلا يظن أن النفي مسبب عن الدعاء فيتقيد به.
ولما بين أنه لا ضر لهم ولا نفع، بين أنهم يتسابقون إلى القرب إليه رجاء أن ينفعهم وخوف أن يضرهم فقال تعالى: ﴿أولئك﴾ أي الذين أعلوا مراتبهم بالإقبال على طاعة الله، وكان المشركون يعلون مراتبهم بتألههم، وعبر عن ذلك واصفاً للمبتدإ بقوله تعالى: ﴿الذين يدعون﴾ أي يدعوهم الكفار ويتألهونهم؛ ثم أخبر عن المبتدإ بقوله تعالى: ﴿يبتغون﴾ أي يطلبون طلباً عظيماً ﴿إلى ربهم﴾ المحسن إليهم وحده ﴿الوسيلة﴾ أي المنزلة والدرجة والقربة بالأعمال الصالحة ﴿أيهم أقرب﴾ أي يتسابقون بالأعمال مسابقة من يطلب كل منهم أن يكون إليه أقرب ولديه أفضل ﴿ويرجون رحمته﴾ رغبة فيما عنده ﴿ويخافون عذابه﴾ تعظيماً لجنابه، المكلف منهم كالملائكة والمسيح وعزير بالفعل، وغيرهم كالأصنام بالقوة من حيث إنه قادر
450
على أن يخلق فيها قوة الإدراك للطاعة والعذاب فتكون كذلك فالعابدون لهم أجدر بأن يعبدوه ويبتغوا إليه الوسيلة؛ وروى البخاري في التفسير عن عبد الله رضي الله عنه ﴿إلى ربهم الوسيلة﴾ قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم. ثم علل خوفهم بأمر عام فقال تعالى: ﴿إن عذاب ربك﴾ أي المحسن إليك برفع انتقام الاستئصال منه عن أمتك ﴿كان﴾ أي كوناً ملازماً له ﴿محذوراً *﴾ أي جديراً بأن يحذر لكل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم، لما شوهد من إهلاكه للقرون ومن صنائعه العظيمة.
ولما كان المعنى: فاحذرونا فإنا أبدنا الأمم السالفة ودمرنا القرى المشيدة، عطف عليه قوله تعالى: ﴿وإن﴾ أي وما؛ وأعرق في النفي فقال تعالى: ﴿من قرية﴾ من القرى هذه التي أنتم بها وغيرها ﴿إلا نحن﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿مهلكوها﴾ بنوع من الهلاك، لما هم عليه من الكفر أو العصيان، وعن مقاتل أنها عامة للصالحة بالموت
451
والطالحة بالعذاب.
ولما كان الممكن ليس له من ذاته إلا العدم، وذلك مستغرق لزمان القبل، حذف الجار فقال تعالى: ﴿قبل يوم القيامة﴾ الذي أنتم به مكذبون، كما فعلنا في بيت المقدس في المرتين المذكورتين أول السورة لإفساد أهلها فاحذروا مثل ذلك ﴿أو معذبوها﴾ أي القرية بعذاب أهلها ﴿عذاباً شديداَ﴾ مع بقائها.
ولما أكد ذلك بالاسمية، زاده تأكيداً في جواب من كأنه قال: هل في ذلك من ثنيا لأن مثله لا يكاد يصدق؟ فقال تعالى: ﴿كان ذلك﴾ أي الأمر العظيم ﴿في الكتاب﴾ الذي عندنا ﴿مسطوراً *﴾ على وجه الخبر، والأخبار لا تنسخ، فلو لم يكن حشر كان أمرنا جديراً بأن يمتثل حذراً من سطواتنا، ولا بد من أن نخيفكم بعد طول أمنكم ونهلك كثيراً من أعزائكم على يد هذا الرجل الواحد الذي أنتم كلكم متمالئون عليه مستهينون بأمره، مع أنا أرسلناه لعزكم وعلو ذكركم، ولا بد أن ندخله إلى بلدكم هذا بجنود
452
أولي بأس شديد، لإفسادكم فيه واستهانتكم به كما فعلنا ببني إسرائيل حين أفسدوا في مسجدهم كما تقدم؛ قال الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني في كتاب الفتن: حدثنا عبد بن أحمد بن محمد الهروي في كتابه ثنا عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين ثنا محمد بن هارون الحضرمي ثنا علي بن عبد الله التميمي ثنا عبد المنعم بن إدريس قال: أخبرنا أبي عن وهب بن منبه قال: الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب إرمينية، وإرمينية آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت القسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم، وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من قبل الجوع
453
والسيف، وخراب الكوفة من قبل عدو من ورائهم يحقرهم حتى لا يستطيعوا أن يشربوا من الفرات قطرة، وخراب البصرة من قبل العراق، وخراب الأبلة من قبل عدو يحفزهم مرة براً ومرة بحراً، وخراب الريّ من قبل الديلم، وخراب خراسان من قبل تبت، وخراب تبت من قبل الصين، وخراب الصين من قبل الهند، وخراب اليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من قبل الحبشة، وخراب المدينة من قبل الجوع؛ حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا علي بن محمد بن نصير حدثنا محمد بن خلف أخبرنا سالم بن جنادة أخبرنا أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «آخر قرية من قرى الإسلام خراباً المدينة» انتهى. وقد أخرجه الترمذي من هذا الوجه.
454
ولما كانت كفار قريش تكرر اقتراحهم للآيات بعد أن اشتد أذاهم، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لشدة حرصه على إيمان كل أحد فكيف بقومه العرب فكيف ببني عمه منهم - ربما أحب أن
454
الله تعالى يجيبهم إلى مقترحهم طمعاً في إيمانهم وإراحة له ولأتباعه من أذاهم، وكان ما رأوه من آية الإسراء أمراً باهراً ثم لم يؤمنوا، بل ارتد بعض من كان آمن منهم، كان المقام في قوة اقتضائه أن يقال بعد ذكر آية العذاب: ما لهم لا يعجل عذابهم أو يجابون إلى مقترحاتهم ليقضى الأمر؟ فيقال في الجواب: ما منعنا من تعجيل عذابهم إلا أنا ضربنا لهم أجلاً لا بد من بلوغه ﴿وما منعنا﴾ أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ولا يمنعها مانع ﴿أن نرسل﴾ أي إرسالاً يظهر عظمتنا على وجه العموم ﴿بالآيات﴾ أي التي اقترحتها قريش، فكان كأنه لا آيات عندهم سواها ﴿إلا﴾ علمنا في عالم الشهادة بما وقع من ﴿أن كذب بها﴾ أي المقترحات ﴿الأولون﴾ وعلمنا في عالم الغيب أن هؤلاء مثل الأولين في أن الشقي منهم لا يؤمن بالمقترحات كما لم يؤمن بغيرها، وأنه يقول فيها ما قال في غيرها من أنها سحر ونحو هذا، والسعيد لا يحتاج في إيمانه إليها، فكم أجبنا أمة إلى مقترحها فما زاد ذلك أهل الضلالة منهم إلا كفراً، فأخذناهم لأن سنتنا جرت أنا لا نمهل بعد الإجابة إلى المقترحات من كذب بها، ونحن قد قضينا برحمة هذه الأمة وتشريفها على الأمم السالفة بعدم استئصالها، لما يخرج من أصلاب
455
كفرتها من خلص عبادنا، والمنع هنا مبالغة مراد بها نفي إجابتهم إلى مقترحاتهم، ولا يجوز أخذه على ظاهره، لأنه وجود ما يتعذر معه وقوع الفعل من القادر عليه، ثم عطف على ما دل عليه المقام وهو: فكم أجبنا - إلى آخر ما ذكرته، قوله تعالى: ﴿وءاتينا﴾ أي بما لنا من العزة الباهرة ﴿ثمود الناقة﴾ حال كونها ﴿مبصرة﴾ أي مضيئة، جديرة بأن يستبصر بها كل من شاهدها ﴿فظلموا بها﴾ أي فوقعوا في الظلم الذي هو كالظلام بسببها، بأن لم يؤمنوا ولم يخافوا عاقبتها، وخص آية ثمود بالذكر تحذيراً بسبب أنهم عرب اقترحوا ما كان سبباً لاستئصالهم، ولأن لهم من علمها وعلم مساكنهم بقربها إليهم وكونها في بلادهم ما ليس لهم من علم غيرها، وخص الناقة لأنها حيوان أخرجه من حجر، والمقام لإثبات القدرة على الإعادة ولو كانوا حجارة أو حديداً، ودل على سفههم في كلا الأمرين على طريق النشر المشوش بذكر داود عليه السلام إشارة إلى الحديد، والناقة إشارة إلى الحجارة، فلله هذه الإشارة ما أدقها! وهذه العبارة ما أجلها وأحقها! ﴿وما نرسل﴾ أي بما لنا من الجلالة التي هي بحيث تذوب لها الجبال ﴿بالآيات﴾ أي المقترحات وغيرها ﴿إلا تخويفاً *﴾ أي للمرسل إليهم بها، فإن خافوا نجوا وإلا هلكوا فإذا كشف الأمر لكم في عالم الشهادة عن أنهم
456
لا يخافونها وفق ما كان عندنا في عالم الغيب، علم أنه لا فائدة لكم فيها.
ولما كان التقدير للتعريف بمطابقة الخبر الخبر: اذكر أنا قلنا لك ﴿إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل ءاية﴾ [يونس: ٩٦] واذكر ما وقع من ذلك ماضياً من آيات الأولين وحالاً من قصة الإسراء، عطف عليه قوله تعالى: ﴿وإذ﴾ أي واذكر إذ ﴿قلنا﴾ على ما لنا من العظمة المحيطة ﴿لك إن ربك﴾ المتفضل بالإحسان إليك بالرفق بأمتك ﴿أحاط بالناس﴾ علماً وقدرة، تجد ذلك إذا طبقت بعضه على بعض أمراً سوياً حذو القذة لا تفاوت فيه، واعلم أنه مانعك منهم وحائطك ومظهر دينك كما وعدك؛ ثم عطف على ﴿وما نرسل﴾ قوله تعالى: ﴿وما جعلنا﴾ أي بما لنا من القوة الباهرة التي لها الغنى المطلق ﴿الرءيا التي أريناك﴾ أي بتلك العظمة التي شاهدتها ليلة الإسراء ﴿إلا فتنة﴾ أي امتحاناً واختباراً ﴿للناس﴾ ليتبين بذلك في عالم الشهادة المتقي المحسن والجاهل المسيء كما هو عندنا في عالم الغيب، فنقيم بها عليهم الحجة، لا ليؤمن أحد من حقت عليهم الكلمة ولا لنزداد نحن علماً
457
بسرائرهم، ولا شك في أن قصة الإسراء إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات العلى كان يقظة لا مناماً بالدليل القطعي المتواتر من تكذيب من كذب وارتداد من ارتد، وهذا مذهب الجمهور وأهل السنة والجماعة، وقد ورد في صحته ما لا يحصى من الأخبار - هذا النقل، وأما الإمكان العقلي فثابت غير محتاج إلى بيان، فإن كل ذرة من ذرات الموجودات فيها من العجائب والغرائب والدقائق والرقائق ما يتحير فيه العقول، لكن لما كان على وفق العادة ألفته الطباع، فلم تنكره الأبصار ولا الأسماع، وأما مثل هذا فلما كان على خلاف العادة استنكره ضعفاء العقول الذين لا يتجاوز فهمهم المحسوسات، على ما ألفوا من العادات، وأما أولو الألباب الذين سلموا من نزعات الشيطان ووساوس العادة، ونظروا بأعين البصائر إلى آثار رحمة الله في صنع المصنوعات وإحداث المحدثات في الملك والملكوت، والشهادة والغيب، والخلق والأمر، فاعترفوا به، وأنه من عظيم الآيات، وبدائع الدلائل النيرات، وأدل دليل على ذلك قوله تعالى ﴿فتنة﴾ لأنه لو كان رؤيا منام لم يكن بحيث يستبعده أحد فلم يكن فتنة، ولعله إنما سماه رؤيا - وهي للمنام - على وجه
458
التشبيه والاستعارة، لما فيه من الخوارق التي هي بالمنام أليق في مجاري العادات، روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿وما جعلنا الرءيا التي أريناك﴾ الآية، قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسري به.
ولما كان كل ما خفي سببه وخرج عن العادة فتنة يعلم به في طبعه الحق ومن في طبعه الباطل، ومن هو سليم الفطرة ومن هو معكوسها، وكان قد أخبر أن شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم، وكان ذلك في غاية الغرابة، ضمه إلى الإسراء في ذلك فقال تعالى: ﴿والشجرة﴾ عطفاً على الرؤيا ﴿الملعونة في القرءان﴾ بكونها ضارة، والعرب تسمي كل ضار ملعوناً، وبكونها في دار اللعنة، وكل من له عقل يريد بعدها عنه، وهي كما رواه البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما شجرة الزقوم جعلناها أيضاً فتنة للناس نقيم بها عليهم الحجة في الكفر والإيمان، فنثبتهم أي من أردنا إيمانه منهم بالأول وهو الإسراء ﴿ونخوفهم﴾ بالثاني وأمثاله ﴿فما يزيدهم﴾ أي الكافرين منهم التخويف حال التخويف، فما بعده من أزمنة الاستقبال أجدر بالزيادة
459
﴿إلا طغياناً﴾ أي تجاوزاً للحد هو في غاية العظم ﴿كبيراً *﴾ فيقولون في الأول ما تقدم في أول السورة، وفي الثاني: إن محمداً يقول: إن وقود النار الناس والحجارة، ثم يقول: إن فيها شجراً، قد علمتم أن النار تحرق الشجر، ولم يقولوا ما هم أعلم الناس به من أن الذي جعل لهم من الشجر الأخضر ناراً قادر على أن يجعل في النار شجراً، ومن أنسب الأشياء استحضاراً هنا ما ذكره العلامة شيخ مشايخنا زين الدين أبو بكر بن الحسين المراغي بمعجم العين المدني في تأريخ المدينة الشريفة في أوائل الباب الرابع في ذكر الأودية فإنه قال: وادي الشظاة - أي بمعجمتين مفتوحتين - يأتي من شرقي المدينة من أماكن بعيدة عنها إلى أن يصل السد الذي أحدثته نار الحرة التي ظهرت في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة - يعني: وهي المشار إليها بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار بالحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى» قال: وكان ظهورها من واد يقال به أحيليين في الحرة الشرقية، وصارت من مخرجها إلى جهة الشمال مدة ثلاثة أشهر
460
تدب دبيب النمل، تأكل ما مرت عليه من جبل وحجر ولا تأكل الشجر، فلا تمر على شيء من ذلك إلا صار سداً لا مسلك لإنسان فيه ولا دابة إلى منتهى الحرة من جهة الشمال - فذكر القصة وهي غريبة، وأسند فيها عن المطري فيما يتعلق بعدم أذاها للخشب.
461
ولما تقدم أنهم استبعدوا الإعادة من أجل صيرورتهم بعد الموت رفاتاً، وأخبر تعالى بقدرته على ذلك ولو صاروا إلى ما هو أعسر عندهم في الإعادة من الرفات بأن يكونوا حجارة أو حديداً، وأشار إلى قدرته على التصرف بخرق العادة في الحديد بإلانته لعبد من عبيده، ثم في الحجارة على سبيل الترقي في النشر المشوش بما هو أعجب من ذلك، وهو إفاضة الحياة عليها لعبد آخر من عبيده، أشار إلى تصرفه في التراب الذي هو نهاية الرفات الذي حملهم على الاستبعاد بما هو أعجب من كل ما تقدمه، وذلك بإفاضة الحياة الكاملة بالنطق عليه
461
من غير أن تسبق له حالة حياة أصلاً، وذلك بخلق آدم عليه السلام الذي هو أصلهم، مع ما في ذلك من حفظ السياق في التسلية بأن الآيات لا تنفع المحكوم بشقاوته وبأن آدم عليه السلام قد سلط عليه الحاسد واشتد أذاه له مع أنه صفي الله وأول أنبيائه، مع البيان لأن أغلب أسباب الطغيان الحسد الذي حمل إبليس على ما فعل فقال تعالى: ﴿إذ﴾ أي واذكر أيضاً ما وقع من الطغيان مع رؤية الآيات في أول هذا الكون من إبليس الذي هو من أعلم الخلق بآيات الله وعظمته، ثم ممن اتبعه من ذرية آدم عليه السلام بعد تحقق عداوته في مخالفة ربهم المحسن إليهم مع ادعاء ولايته إذ ﴿قلنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا يعصي مرادها شيء ﴿للملائكة﴾ حين خلقنا أباكم آدم وفضلناه: ﴿اسجدوا لآدم﴾ امتثالاً لأمري ﴿فسجدوا إلا إبليس﴾ أبى أن يسجد لكونه ممن حقت عليه الكلمة ولم ينفعه ما يعلمه من قدرة الله وعظمته، وذلك معنى قوله: ﴿قال﴾ أي لنا منكراً متكبراً: ﴿ءأسجد﴾ أي خضوعاً ﴿لمن خلقت﴾ حال كون أصله
462
﴿طيناً *﴾ فكفر بنسبته لنا إلى الجور وعدم الحكمة، متخيلاً أنه أكرم من آدم عليه السلام من حيث إن الفروع ترجع إلى الأصول، وأن النار التي هي أصله أكرم من الطين، وذهب عليه إن الطين أنفع من النار فهو أكرم، وعلى تقدير التنزل فإن الجواهر كلها من جنس واحد، والله تعالى الذي أوجدها من العدم يفضل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض، كما تقدمت الإشارة إليه في ﴿ولقد فضلنا بعض النبيّن على بعض﴾ [الإسراء: ٥٥].
ولما أخبر تعالى بتكبره، كان كأنه قيل: إن هذه لوقاحة عظيمة واجتراء على الجناب الأعلى، فهل كان غير هذا؟ فقيل: نعم! ﴿قال أرءيتك﴾ أي أخبرني ﴿هذا الذي كرمت عليّ﴾ بم كرمته عليّ مع ضعفه وقوتي؟ فكأنه قيل: لقد أتى بالغاية في إساءة الأدب، فما كان بعد هذا؟ فقيل: قال مقسماً لأجل استبعاد أن يجترىء أحد هذه الجراءة على الملك الأعلى: ﴿لئن أخرتن﴾ أي أيها الملك الأعلى تأخيراً ممتداً ﴿إلى يوم القيامة﴾ حياً متمكناً ﴿لأحتنكن﴾ أي بالإغواء ﴿ذريته﴾ أي لأستولين عليهم بشدة احتيالي كما يستولي الآكل على ما أخذه في
463
حنكه، بتسليطك لي عليهم ﴿إلا قليلاً *﴾ وهم أولياؤك الذين حفظتهم مني، فكأنه قيل: لقد أطال في الاجتراء فما قال له ربه بعد الثالثة؟ فقيل: ﴿قال﴾ مهدداً له: ﴿اذهب﴾ أي امض لثباتك الذي ذكرته بإرادتي لا بأمري، فإنك لن تعدو أمرنا فيك وقد حكمنا بشقاوتك وشقاوة من أردنا طاعته لك، ولذلك سبب عنه قوله تعالى: ﴿فمن تبعك﴾ أي أدنى اتباع ﴿منهم﴾ أي أولاد آدم عليه السلام، ويجوز أن يراد بتجريد الفعل أن من تبعه بغير معالجة من فطرته الأولى لا يكون إلا عريقاً في الشر.
ولما كان التقدير: أذقته من خزيك، عبر عنه بقوله تعالى: ﴿فإن جهنم﴾ أي الطبقة النارية التي تتجهم داخلها ﴿جزاؤكم﴾ أي جزاءك وجزاءهم، تجزون ذلك ﴿جزاء موفوراً *﴾ مكملاً وافياً بما تستحقون على أعمالكم الخبيثة.
ومادة «وفر» بجميع تراكيبها - وهي خمسة عشر، في الواوي ستة: وفر، ورف، فور، فرو، رفو، روف، وفي اليائي ثلاثة: فري، رفي، ريف، وفي المهموز ستة: رفأ، رأف، فرأ، فأر، أفر، أرف - تدور على السعة، والمجاوزة للحد، والعلو على المقدار، والفضل عن الكفاية؛ فالوفر: المكان الكبير، وسقاء وفر: لم ينقص من أديمه شيء، وإداوة وفراء، والوفرة: ما بلغ الأذنين من الشعر، والوافر:
464
ضرب من العروض وزنه مفاعلتن ست مرات، والوفر: الغنى، ومن المال: الكثير الواسع، والعام من كل شيء، ووفره توفيراً: أكثره، ووفر له عرضه: لم يشتمه، ووفر عطاءه: رده عليه وهو راضٍ، ووفره توفيراً: أكمله وجعله وافراً - لأن الكمال لا يكاد يتحقق إلا مع زيادة، والثوب: قطعه وافراً، والوافرة: ألية الكبش إذا عظمت، والدنيا، والحياة، وكل شحمة مستطيلة، وهم متوافرون: فيهم كثرة، واستوفر عليه حقه: استوفاه.
وورف النبت يرف إذا رأيت له بهجة من ريه، ولا يكون ذلك إلا من نضارته واتساعه وكونه ملء العين، وورف الظل يرف ورفاً ووريفاً ووروفاً: اتسع وطال وامتد كأورف وورّف والورف: ما رق من نواحي الكبد - لزيادته واسترخائه، والرفة - كعدة: الناضر من النبت، وورفته توريفاً: مصصته، والأرض: قسمتها - كأنه من الإزالة.
وفارت القدر - إذا غلت حتة يعلو ما فيها فتفيض، وكل حارّ يفور فوراً، وفار العرق - إذا انتفخ، زاد في القاموس: وضرب،
465
والمسكُ، انتشر، وفارة الإبل: فوح جلودها إذا نديت بعد الورد، والفائر: المنتشر العصب من الدواب وغيرها، وأتوا من فورهم: من وجههم أو قبل أن يسكنوا - لأن حركتهم توسع وانتشار فسميت فوراً والفار: عضل الإنسان - لأنه أثخن مما دونه، والفور - بالضم: الظباء، جمع فائر - لأنه من أسرع الحيوان نفاراً، وأشدها وثباً، وأوسعها عدواً، وقال القزاز: والفارة والفورة: ريح تكون في رسغ الفرس تنفش إذا مسحت وتجتمع إذا تركت، وقال في فأر: فإذا مشى انفشت، وأعاده في القاموس في المهموز فقال: والفأرة له - أي للذكر من الحيوان المعروف - وللأنثى، وريح في رسغ الدابة تنفش إذا محست وتجتمع إذا تركت كالفورة بالضم، والفور: ولد الحمار - لخفته وسرعة حركته ووثبه، وفوارتا الكرش: غدتان في جوف لحمتين، وقيل: الفوارة: اللحمة - التي في داخلها الغدة، وقيل: تكونان لكل ذي لحم، وذلك لوجوب الزيادة سواء قلنا: إنها لحمة أو غدة،
466
وقال القزاز: وقالوا: ماء الرجل إنما يقع في الكلية ثم في الفوارة ثم في الخصية، فعلى هذا سمي لأنه يقذف ما فيه إلى الخصية، والفياران - بالكسر: حديدتان تكتنفان لسان الميزان لاتساعهما عن اللسان، والفيرة - بالكسر بالهمز وبغيره: تمر يغلى ويمرس ويطبخ بحلبة تشربها النفساء قاله القزاز، وفي مختصر العين: حلبة تطبخ؛ فإذا فارت فوارتها ألقيت في معصرة ثم صفيت وتحسيها النفساء، وأعاده في القاموس في المهموز وقال: والفئرة - بالكسر - والفؤارة كثمامة والفئيرة والفئرة كعنبة ويترك همزها: حلبة تطبخ للنفساء - سميت إما لغليانها وإما للاتساع بجمع التمر والحلبة.
والفرو والفروة: لبس معروف - لخروج صوفها وزيادة الرفق به، كأنها أصل المادة كلها، وفروة الرأس: جلدته بشعرها، والفروة: الأرض البيضاء ليس لها نبات - لأنه أوسع لها من حيث هي، والفروة:
467
الغنى والثروة وقطعة نبات مجتمعة يابسة، وجبة شمر كماها - لأنه لولا زيادتهما ما شمرا، ونصف كساء يتخذ من أوبار الإبل - كأنه شبه بالفروة لطول وبره، وخريطة يجعل السائل فيها صدقته، والتاج - لاتساعه وعلوه وكماله ولغنى صاحبه، وخمار المرأة - لزيادته على كفايتها ولسبوغه وفضله عن رأسها.
ورفا الثوب يرفوه: أصلحه ولأم خرقه: وقال في القاموس: في المهموز: وضم بعضه إلى بعض، قال القزاز: والهمز أكثر؛ والرفاء - ككساء: الالتحام والاجتماع والاتفاق، ومنه ما يدعى به للمتزوج: بالرفاء والبنين، وأعادوه في المهموز. وقال في القاموس: أي بالالتئام وجمع الشمل، قال القزاز: ومعنى رفا: تزوج، والأرفى: العظيم الأذنين في استرخاء، قال القزاز: والأذن الرفواء هي التي تقبل على الأخرى حتى تكاد تماس أطرافهما؛ ورفوت الرجل: إذا سكنته من رعب، وأعاده في القاموس في المهموز - لأن ذلك
468
أوسع لفكره لأنه أقر لعينه.
والروف: السكون - وهو أوسع من الاضطراب لأنه لا يكون إلا عن قرار العين، قال في القاموس: وليس من الرأفة، والروفة: الرحمة، وراف يراف لغة في رأف يرأف - وستأتي بقيتها قريباً إن شاء الله تعالى.
469
ولما بدأ سبحانه بالوعيد لطفاً بالمكلفين، عطف على «اذهب» قوله ممثلاً حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع بقوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم، ويقلعهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم: ﴿واستفزز﴾ أي استخف، والفز أصله القطع، أي استزله بقطعه عن الصواب - قاله الرماني ﴿من استطعت منهم﴾ وهم الذين سلطناك عليهم ﴿بصوتك﴾ أي دعائك بالغنى والمزامير وكل ما تزينه بالوساس ﴿وأجلب﴾ أي اجمع أو سق بغاية ما يمكنك من الصياح ﴿عليهم بخيلك﴾ أي ركبان جندك ﴿ورجلك﴾ أي ومشاتهم؛ والمعنى: افعل جميع ما تقدر عليه، ولا تدع شيئاً من قوتك، فإنك لا تقدر على شيء لم أقدره لك.
ولما كان الشيطان طالباً شركة الناس في جميع أمورهم بوساوسه الحاملة
469
لهم على إفسادها، فإن أطاعوه كانوا طالبين لأن يشركوه وإن كانوا لا شعور لهم بذلك، عبر بصيغة المفاعلة فقال تعالى: ﴿وشاركهم﴾ أي بوثوبك على مخالطتهم عند ما يشاركونك بفعل ما يوافق هواك ﴿في الأموال﴾ أي التي يسعون في تحصيلها ﴿والأولاد﴾ أي التي ينسلونها، إن اقتنوها بوجه محرم أو لم يذكروا اسمي عليها، وكذا قرابينهم لغير الله وإنفاقهم في المحرمات وتعليمهم أولادهم المعاصي والكفر مشاركة فيها ﴿وعدهم﴾ من المواعيد الباطلة ما يستخفهم ويغرهم من شفاعة الآلهة والكرامة على الله تعالى وتسويف التوبة - ونحو ذلك؛ ثم التفت إلى الصالحين من عباده فأخبرهم تثبيتاً لهم وتنبيهاً لغيرهم على أنه ليس بيده شيء، فقال تعالى مظهراً لضميره بما يدل على تحقيره، تقبيحاً لأمره وتنفيراً منه: ﴿وما يعدهم الشيطان﴾ أي المحترق المطرود باللعنة، من عدم البعث وطول الأجل وشفاعة الآلهة ونحو ذلك ﴿إلا غروراً *﴾ والغرور: تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب، ثم رجع إلى مواجهته بما يحقر أمره، فإن المواجهة بالتحقير أنكأ، مصرحاً بنتيجة ذلك، وهي أنه غير قادر إلا بإذنه سبحانه، وممنوع عنه ما لم يقدره له، دفعاً لما قد يوهمه ما مضى
470
من أنه يؤثر شيئاً استقلالاً فقال تعالى: ﴿إن﴾ أي اجهد جهدك، لأن أهل الشهوات سلطتك عليهم زيادة في شقائك بما أردته منهم قبل خلقك وخلقهم، لا تقدر أن تتعدى شيئاً منه إلى خالصتي ومن ارتضيته لعبادتي، إن ﴿عبادي﴾ الذين أهّلتهم للإضافة إليّ فقاموا بحق عبوديتي بالتقوى والإحسان ﴿ليس لك﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿عليهم سلطان﴾ أي فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر، فإني وفقتهم للتوكل عليّ فكفيتهم أمرك ﴿وكفى بربك﴾ أي الموجد لك المدبر لأمرك ﴿وكيلاً *﴾ يحفظ ما هو وكيل فيه من كل ما يمكن أن يفسده.
471
ولما ذكر أنه الوكيل الذي لا كافي غيره في حفظه، لاختصاصه بشمول علمه وتمام قدرته، أتبعه بعض أفعاله الدالة على ذلك فقال تعالى، عوداً إلى دلائل التوحيد الذي هو المقصود الأعظم بأحوال البحر الذي يخلصون فيه، في أسلوب الخطاب استعطافاً لهم إلى المتاب: ﴿ربكم﴾ أي المحسن إليكم، هو ﴿الذي يزجي﴾ أي يسوق ويدفع وينفذ ﴿لكم﴾ أي لمنفعتكم ﴿الفلك﴾ التي حملكم فيها مع أبيكم نوح عليه السلام ﴿في البحر لتبتغوا﴾ أي تطلبوا طلباً عظيماً بذلك أنواع المنافع التي يتعذر أو يتعسر الوصول إليها في البر ﴿من فضله﴾ ثم علل فعله
471
ذلك بقوله تعالى: ﴿إنه﴾ أي فعل ذلك لكم لأنه ﴿كان﴾ أي أزلاً وأبداً ﴿بكم﴾ أي أيها المؤمنون خاصة ﴿رحيماً *﴾ أي مكرماً بالتوفيق إلى فعل ما يرضيه في المتجر وغيره، لا لشيء غير ذلك، أو يكون ذلك خطاباً لجميع النوع فيكون المعنى: خصكم به من بين الحيوانات.
ولما كان المراد المؤمنين خاصة وإن كان خطاباً للمجموع، خص المشركين كذلك فقال: ﴿وإذا﴾ أي فإذا نعمكم بأنواع الخير كنتم على إشراككم به سبحانه، وإذا ﴿مسكم﴾ ولم يقل: أمسكم - بالإسناد إلى نفسه، تأديباً لنا في مخاطبته بنسبة الخير دون الشر إليه، مع اعتقاده أن الكل فعله، وتنبيهاً على أن الشر مما ينبغي التبرؤ منه والبعد عنه ﴿الضر في البحر﴾ من هيج الماء واغتلامه لعصوف الريح وطمو الأمواج ﴿ضل﴾ أي ذهب وبطل عن ذكركم وخواطركم ﴿من تدعون﴾ من الموجودات كلها ﴿إلا إياه﴾ وحده، فأخلصتم له الدعاء علماً منكم أنه لا ينجيكم سواه ﴿فلما نجّاكم﴾ من الغرق وأوصلكم بالتدريج ﴿إلى البر أعرضتم﴾ عن الإخلاص له ورجعتم إلى الإشراك ﴿وكان الإنسان﴾ أي هذا النوع ﴿كفوراً *﴾ أي بليغ التغطية لما حقه أن يشهر، فأظهر في موضع الإضمار تنبيهاً على أن هذا الوصف لا يخصهم، بل يعم هذا النوع لطبعه على النقائص إلا من أخلصه الله له.
472
ولما كان التقدير: أعرضتم بعد إذ أنجاكم فكفرتم بذلك وكان الكفر وصفاً لكم لازماً، فتسبب عن ذلك أنكم أمنتم، أي فعلتم بذلك فعل الآمن، أنكر عليهم هذا الأمر لكونه من أجهل الجهل فقال تعالى: ﴿أفأمنتم﴾ أي أنجوتم من البحر فأمنتم بعد خروجكم منه ﴿أن نخسف﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿بكم﴾ ودل على شدة إسراعهم بالكفر عند وصولهم إلى أول الساحل بقوله تعالى: ﴿جانب البر﴾ أي فنغيبكم فيه في أيّ جانب كان منه، لأن قدرتنا على التغييب في التراب في جميع الجوانب كقدرتنا على التغييب في الماء سواء، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب ﴿أو﴾ أمنتم إن غلظت أكبادكم عن تأمل مثل هذا أن ﴿يرسل عليكم﴾ من جهة الفوق شيئاً من أمرنا ﴿حاصباً﴾ أي يرمي بالحصباء، أي بالحصى الصغار - قاله الرازي في اللوامع، وقال الرماني: حجارة يحصب بها، أي يرمي بها، حصبه - إذا رماه رمياً متتابعاً - انتهى.
يرميكم
473
ذلك الحاصب في وجوهكم أو فوق رؤوسكم رمياً يهلك مثله كما وقع لقوم لوط أنا أرسلنا عليهم حاصباً، وقيل: الحاصب: الريح، ولم يقل: حاصبة لأنه وصف لزمها، ولم يكن لها، مذكر تنتقل إليه في حال فكان بمنزلة حائض ﴿ثم لا تجدوا﴾ أيها الناس ﴿لكم﴾ وأطلق ليعم فقال تعالى: ﴿وكيلاً *﴾ ينجيكم من ذلك ولا من غيره كما لم تجدوا في البحر وكيلاً غيره ﴿أم أمنتم﴾ إن جاوزت بكم الغباوة حدها فلم تجوزوا ذلك ﴿أن يعيدكم فيه﴾ أي البحر بما لنا من العظمة التي تضطركم إلى ذلك فتقركم عليه وإن كرهتم ﴿تارة أخرى﴾ بأسباب تضطركم إلى ذلك ﴿فنرسل عليكم﴾ أي بما لنا من صفة الجلال ﴿قاصفاً﴾ وهو الكاسر بشدة ﴿من الريح﴾ كما عهدتم أمثاله يا من وقفت أفكارهم مع المحسوسات فرضوا بذلك أن يكونوا كالبهائم لا يفهمون إلا الجزئيات المشاهدات ﴿فيغرقكم﴾ أي في البحر الذي أعدناكم فيه، لعظمتنا ﴿بما كفرتم﴾ كما يفعل
474
أحدكم إذا ظفر بمن كفر إحسانه ﴿ثم لا تجدوا لكم﴾ وإن أمعنتم في الطلب، وطالت أزمانكم في إتقان السبب. ولما كان إطلاق النفي في ختام الآية الماضية - وإن كان لإرادة التعميم - يحتمل أن يدعي تقييده بما يخالف المراد، وكان المقصود هنا التخويف بسطوته سبحانه تارة بالخسف وتارة بغيره، قيد بما عين المراد، وقدم قوله تعالى: ﴿علينا﴾ دلالة على باهر العظمة ﴿به﴾ أي بما فعلنا بكم ﴿تبيعاً *﴾ أي مطالباً يطالبنا به.
475
ولما قرر سبحانه بهذه الجمل ما يسر لهم من البر، وسهل من شدائد البحر في معرض التهديد، أتبعه أنه فعل ذلك تكريماً لهم على سائر مخلوقاته، كما هو شأنه في القدرة على ما يريد في المفاوتة بين الأمور التي كانت متساوية عند أول خلقه لها، ليستدلوا بذلك على سهولة الإعادة، مشيراً إلى أنه ركب جوهر الإنسان من نفس هي أشرف النفوس بما فضلها على قوى النفس النباتية من الاغتذاء والنمو والتوليد بالحس ظاهراً وباطناً وبالحركة بالاختيار، وخصه على سائر الحيوان بالقوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي، ويتجلى بها نور معرفة الله، ويشرق فيها ضوء كبريائه وتطلع على عالمي الخلق والأمر، وتحيط بأقسام المخلوقات من الأرواح
475
والأجسام كما هي، فكانت بذلك النفس الإنسانية أشرف نفوس هذا العالم، وبدنه كذلك باختصاصه باعتدال القامة وامتدادها والتناول باليد وغير ذلك، فقال تعالى عاطفاً على ما يرشد إليه السياق من مثل أن يقال: فلقد كرمناكم بذلك من إزجاء الفلك وإنجائكم في وقت الشدائد، أو على: ولقد فضلنا: ﴿ولقد كرمنا﴾ أي بعظمتنا تكريماً عظيماً ﴿بني ءادم﴾ أي على سائر الطين بالنمو، وعلى سائر النامي بالحياة، وعلى سائر الحيوان بالنطق، فكان حذف متعلق التكريم دالاً على عمومه لجميع الخلق، وذلك كله تقديراً للقدرة على البعث ﴿وحملناهم في البر﴾ على الدواب وغيرها ﴿والبحر﴾ على السفن وغيرها ﴿ورزقناهم﴾ أي رزقاً يناسب عظمتنا ﴿من الطيبات﴾ أي المستلذات من الثمرات والأقوات التي يأكل غيرهم من الحيوان قشّها ﴿وفضلناهم﴾ في أنفسهم بإحسان الشكل، وفي صفاتهم بالعلم المنتج لسعادة الدارين، وفي رزقنا لهم بما تقدم.
ولما حذف متعلق التكريم دلالة على التعميم، وكان أغلب أفراده ضالاً، قال لذلك: ﴿على كثير ممن خلقنا﴾ أي بعظمتنا التي خلقناهم بها وأكد الفعل بالمصدر إشارة إلى إعراقهم في الفضيلة فقال تعالى: ﴿تفضيلاً *﴾ هذا ما للمجموع، وأما الخلص فهم أفضل الخلائق لما علمنا من معالجتهم بالإخلاص وجهادهم لأهويتهم، لما طبعت عليه نفوسهم من النقائص،
476
ولما لها من الدسائس حتى امتطوا بعد رتبة الإيمان درجتي التقوى والإحسان، وتقديم الأمر للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام توطئة لهذه الآية أدل دليل على هذا.
ولما قرر سبحانه قدرته على التفضيل في الحياة الحسية والمعنوية، والمفاضلة بين الأشياء في الشيئين فثبت بذلك قدرته على البعث، وختم ذلك بتفضيل البشر، وكان يوم الدين أعظم يوم يظهر في التفضيل، أبدل من قوله ﴿يوم يدعوكم﴾ مرهباً من سطواته في ذلك اليوم، ومرغباً في اقتناء الفضائل في هذا اليوم قوله تعالى: ﴿يوم ندعوا﴾ أي بتلك العظمة ﴿كل أناس﴾ أي منكم ﴿بإمامهم﴾ أي بمتبوعهم الذي كانوا يتبعونه، فيقال: يا أتباع نوح! يا أتباع إبراهيم! يا أتباع عيسى! يا أتباع محمد! فيقومون فيميز بين محقيهم ومبطليهم، ويقال: يا أتباع الهوى! يا أتباع النار! يا أتباع الشمس! يا أتباع الأصنام! ونحو هذا، أو يكون المراد بسبب أعمالهم التي ربطناهم بها ربط المأموم بإمامه كما قال تعالى ﴿وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه﴾ وسماها إماماً لكونهم أموها واجتهدوا في قصدها، وندفع إليهم الكتب التي أحصت
477
حفظتنا فيها تلك الأعمال ﴿فمن أوتي﴾ منهم من مؤتٍ ما ﴿كتبه بيمينه﴾ فهم البصراء القلوب لتقواهم وإحسانهم، وهم البصراء في الدنيا، ومن كان في هذه الدنيا بصيراً فهو في الآخرة أبصر وأهدى سبيلاً ﴿فأولئك﴾ أي العالو المراتب ﴿يقرءون كتابهم﴾ أي يجددون قراءته ويكررونها سروراً بما فيه كما هو دأب كل من سر بكتاب ﴿ولا يظلمون﴾ بنقص حسنة ما من ظالم ما ﴿فتيلاً *﴾ أي شيئاً هو في غاية القلة والحقاره، بل يزادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاء الأعمال، ومن أوتي كتابه بشماله فهو لا يقرأ كتابه لأنه أعمى في هذه الدار ﴿ومن كان﴾ منهم ﴿في هذه﴾ الدار ﴿أعمى﴾ أي ضالاً يفعل في الأعمال فعل الأعمى في أخذ الأعيان، لا يهتدي إلى أخذ ما ينفعه وترك ما يضره، ولا يميز بين حسن وقبح ﴿فهو في الآخرة﴾ لأن كل أحد يقوم على ما مات عليه ﴿أعمى﴾ أي أشد عمى مما كان عليه في هذه الدار، لا ينجح له قصد، ولا يهتدي لصواب، ولا يقدر على قراءة كتاب، لما فيه من موجبات العذاب، ولم يقل: أشد عمى، كما يقولونه في الخلق اللازمة لحالة واحدة من العور والحمرة والسواد ونحوها، لأن هذا مراد به عمى القلب الذي من شأنه التزايد والحدوث في كل لحظة شيئاً بعد شيء، فخالف
478
ما لا يزيد؛ ولم يمله أبو عمرو مع إمالة الأول ليدل على أن معناه: أفعل من كذا، فهو وسط، والإمالة إنما يحسن في الأواخر، ولأن هذا معناه، عطف عليه قوله تعالى: ﴿وأضل سبيلاً *﴾ لأن هذه الدار دار الاكتساب والترقي بالأسباب، وأما تلك فليس فيها شيء من ذلك؛ فالآية من الاحتباك: أثبت الإيتاء باليمين والقراءة أولاً دليلاً على حذف ضدهما ثانياً، وأثبت العمى ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً.
479
ولما قرر أن من ترك سبيل الرشد كان كالأعمى، ومن تبعها كان كالبصير، أتبعه دليله فقال محذراً للبصراء عن الاغترار بوساوس الأشقياء: ﴿وإن﴾ أي وأكثر هؤلاء أعمى، قد افتتن في نفسه بهواه مع بياننا لطريق الرشد بما أوحينا إليك من هذه الحكمة حتى صارت أوضح من الشمس وإن الأعداء ﴿كادوا﴾ أي قاربوا في هذه الحياة الدنيا لعماهم في أنفسهم عن عصمة الله لك بسبب عماهم عما جبلت عليه من الفطنة، وجودة الفطرة، وذكاء القريحة، وثقوب الفهم، وبعد المرمى في الوقوف على خداع المخادعين، ومكر الماكرين،
479
لتجلي الدقائق في مرآة قلبك الصقيلة وصافي فكرتك الشفافة. ولما كانت «إن» مخففة من الثقيلة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية فقال تعالى: ﴿ليفتنونك﴾ أي ليخالطونك مخالطة تمليك إلى جهة قصدهم بكثرة خداعهم بإطماعهم لك في الموافقة لما يعلمون من ظاهر الحياة الدنيا ﴿عن الذي أوحينا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿إليك﴾ من الحكمة ﴿لتفتري﴾ أي تقطع متعمداً ﴿علينا﴾ على عظمتنا ﴿غيره﴾ من طرد من أوحينا إليك الأمر بمصابرتهم، إطماعاً منهم في إسلام من هو بحيث يرجى إسلامه إسلام الجم الغفير منهم لشرفه ونحو ذلك مما عناه الله سبحانه وهو أعلم بمراده؛ قال الرماني: وأصل الفتنة ما يطلب به خلاص الشيء مما لابسه ﴿وإذا﴾ أي لو ملت إليهم ﴿لاتخذوك﴾ أي بغاية الرغبة ﴿خليلاً *﴾ ومن كان خليل الكفار لم يكن خليل الله، ولكنك أبصرت رشدك فلزمت أمر الله، واستمروا على عماهم إتماماً لتفضيلنا لك على كل مخلوق، وقد تقدم قريباً ما تدور عليه مادة «فرا» وأنه السعة، وقد بقي من تقاليبها اليائي والمهموز، فمعنى فريت الأديم: شققته فاسداً أو صالحاً - لأنه يتسع بذلك،
480
وقال القزاز: الفري مصدر فريت الأديم - إذا شققته للإصلاح، وأفريته - إذا شققته للإفساد - كأن همزته للإزالة، وحكى أبو عبيدة: فريت الشيء وأفريته: قطعته، وفرى الكذب وافتراه: اختلقه - لأنه اتساع في القول وزيادة على ما يكفي من الصدق وتجاوز للحد، وفرى المزادة: خلقها وصنعها، وقال القزاز: خرزها - لأنها تسع ما لا تسعه قبل الخرز، قال: وأصل الفري الشق - يعني: والخرز واقع في الشق، فالعلاقة المحل، وفرى الأرض: سارها وقطعها - تشبيهاً لها بالأديم، وفرى - كرضي: تحير ودهش - من التسمية باسم السبب، لأن سبب الدهش كثرة وعظم في المحسوس، وأفراه، أصلحه أو أمر بإصلاحه - لأن الإصلاح سعة بالنسبة إلى الإفساد، وأفرى فلاناً: لامه - لأنه يلزم منه الزيادة في الكلام لما يحاج به الملوم، والفرية: الجلبة - لأنها زيادة عن الكلام المعتاد، وبالكسر: الكذب، وكغنى: الأمر المختلق المصنوع أو العظيم، والواسعة من الدلاء كالفرية، والحليب ساعة تحلب - لارتفاع الرغوة، وتفرى الشيء: انشق، والعين: انبجست، وهو يفري الفرى كغنى:
481
يأتي بالعجب في عمله.
وقال القزاز: وتركت فلاناً يفري ويقد، أي حادّ في الأمر، وفلاناً يفري منذ اليوم - إذا جاء بالعجب، لأنه لا يعجب إلا ما زاد على الكفاية.
والرفة: التبن - لأنه ما فضل عن الحب، والرفة: دويبة تصيد تسمى عناق الأرض - لأن حالها أوسع من حال ما لا يصيد، ذكر هذا صاحب مختصر العين في المعتل بالياء فوزنه ثبة، وساقه صاحب القاموس في الهاء وقال فيما مدلوله التبن: إنه كصرد، ثم ساقه في المعتل الواوي في ورف وقال: والرفة كثبة: التبن، فاضطرب كلامه فوجب قبول مختصر العين، لكن ذكره الإمام أبو غالب بن التباني - وهو من يخضع له - في كتابه الموعب في مقلوب رهف فقال ناسباً له إلى كتاب العين ما نصه: والرفة: التبن، قال غيره: ويقال في مثل من الأمثال: استغنت التفه عن الرفه، والتفه: عناق الأرض، وهي دويبة كالثعلب خبيثة، تصيد كل شيء، وذلك أنها لا تأكل
482
إلا اللحم - أبو حنيفة مثله، كله انتهى بحروفه، وقال صاحب القاموس في المعتل: والتفة ذكر في ت ف ف، وقال في الهاء: والتفه كثبه: عناق الأرض، وقال في الفاء: والتفة - كقفة: دويبة كجرو الكلب أو كالفأرة، واستغنت التفة عن الرفة؛ ويخففان، يضرب للئيم إذا شبع. فلعل هذا الاختلاف لغات - والله أعلم.
قال في مختصر العين: والأرفي مثل كركي: اللبن المحض الطيب - لفيضه كالغائر، جعله المختصر يائياً، والقاموس واوياً، ثم أعاده في المهموز فقال: والأرفي - كقمري: اللبن الخالص، وساق القزاز في اليائي: رافيت الرجل أرافيه مرافاة - إذا وافقته - لأن ذلك أوسع في العشرة، والريف بالكسر - الخصب، وقال في القاموس: أرض فيها زرع وخصب، والسعة في المأكل والمشرب، وما قارب الماء من أرض العرب، أو حيث الخضر والمياه والزروع، وراف البدوي: أتى الريف، والراف: الخمر - وهو لا يكون إلا عن سعة، وأرض ريفة ككيسة: خصبة، وأرافت الأرض: أخصبت.
ومن المهموز: رفأ السفينة - كمنع وأرفأها: أدناها من الشط -
483
لاتساع من فيها بالبر، وبالنسبة إليها يكون للسلب، والموضع مرفأ، ويضم، ورفأ بينهم: أصلح، وأرفأ، جنح، وامتشط ودنى وأدنى وحابى ودارأ كرافأ وإليه لجأ، وترافؤوا: توافقوا وتواطؤوا، واليرفيء كاليلمعي: راعي الغنم والظليم النافر والظبي القفوز المولى والمنتزع القلب فزعاً - كأنه شبه بالظليم في اتساع حركته وعدم ثباته، وذلك شبيه أيضاً بفوران القدر في مجاوزة الحد، ورفأت العروس ترفئة وترفيئاً - تقدم في الواوي، والرأف: الخمر والرجل الرحيم، أو الرأفة: أشد الرحمة أو أرقها، ولا شك في دخول ذلك في السعة، ورأف: موضع أو رملة - ولعلهما واسعان، والفرأ - كجبل وسحاب: حمار الوحش أو الفتيّ منه - لشدة نفاره كالقدر في فورانها، وأمر فريء كفريّ، وكل الصيد في جوف الفرا، أي كله دونه، وفرأ - محركة: جزيرة باليمن - لعله بها بكثرة، والفأر معروف، والواحدة فأرة، والجمع فئران - سمي لقفزه في جرية، ولأنه وسع من الحشرات تصرفاً بالمشي في الجدر والسقوف ونحوها، والفأرة: شجرة ونافجة
484
المسك، قال في القاموس: أو الصواب إيراد فارة المسك في ف ور لفوران رائحتها، أو يجوز همزها لأنها على هيئة الفأرة، وفأر كمنع: حفر وخبأ ودفن - يمكن أن يكون من السعة ومن سلبها؛ ولبن فئر - ككتف: وقعت فيه الفأرة، وأرض فئرة ومفأرة: كثيرة الفأر، وأفرت القدر بالفتح تأفر أفراً: اشتد غليانها، والإنسان: وثب وعدا، والبعير: نشط وسمن بعد الجهد كأفر كفرح فيهما، وخف في الخدمة، والذي يسعى بين يدي الإنسان ويخدمه مئفر، والأفرة - بضمتين وتشديد الراء: الجماعة - وقيدها في مختصر العين بذات الجلبة - والبلية والاختلاط، وكل ذلك واضح في الاتساع والزيادة على الكفاية، والأفرة أيضاً شدة الشر - لشدة فورانه كالقدر، وشدة الشتاء أو مطلق الشدة، ومن الصيف: أوله - لأنه يتسع به، قال في القاموس: ويفتح أولها ويحرك في الكل؛ والأرفة - بالضم: الحد بين الأرضين والعقدة - وكأن هذا سلب الاتساع، والأرفي كقمري: الماسح، وأرف على الأرض تأريفاً: جعلت لها حدود وقسمت،
485
وتأريف الحبل: عقده، وهو مؤارفي حده إلى حدي في السكنى والمكان - والله الموفق.
ولما ذكره سبحانه بما كان في ذلك من رشده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أتبعه ببيان أنه إنما كان بعصمة الله له ليزداد شكراً، فقال تعالى: ﴿ولولا أن ثبتناك﴾ أي بما لنا من العظمة على ما أمرنا لما تقدم من أنا مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنت رأس المتقين والمحسنين ﴿لقد كدت﴾ أي قاربت ﴿تركن إليهم﴾ أي الأعداء ﴿شيئاً قليلاً *﴾ لمحبتك في هدايتهم وحرصك على منفعتهم، وكنا عصمناك فلم تركن إليهم لا قليلاً ولا كثيراً، ولا قاربت ذلك، كما أفادته ﴿لولا﴾ لأنها تدخل على جملة اسمية فجملة فعلية لربط امتناع الثانية بوجود الأولى، فامتناع قرب الركون مرتبط بوجود التثبيت، وذلك لأن ﴿لولا﴾ لانتفاء الثاني لأجل انتفاء الأول، وهي هنا داخلة على لا النافية، فتكون لانتفاء قرب الركون لأجل انتفاء التثبيت، وانتفاء النفي وجود، فإذن التثبيت موجود، وقرب الركون منتف. ويجوز أن يكون المراد الدلالة على شدة مكرهم وتناهي خداعهم إلى حالة لا يدرك وصفها،
486
فيكون الفعل مسنداً إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمراد إسناده إليهم ليكون المعنى: كادوا أن يجعلوك مقارباً للركون إليهم، كما تقول لصاحبك: لقد كدت تقتل نفسك، أي فعلت ما قاربت به أن يقتلك غيرك لأجل فعلك، وهذه الآية من الأدلة الواضحة على ما خص به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الفضائل في شرف جوهره، وزكاء عنصره، ورجحان عقله، وطيب أصله، لأنها دلت على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو وكل إلى نفسه وما خلق الله في طبعه وجبلته من الغرائز الكاملة والأوصاف الفاضلة، ولم يتداركه بما منحه من التثبيت زيادة على ذلك حال النبوة لم يركن إليهم، وهم أشد الناس أفكاراً، وأصفاهم أفهاماً، وأعلمهم بالخداع، مع كثرة عددهم، وعظم صبرهم وجلدهم - ركوناً ما أصلاً، وإنما كان قصاراهم أن يقارب الركون شيئاً قليلاً، فسبحان من يخص من يشاء بما يشاء، وهو ذو الفضل العظيم ﴿إذاً﴾ أي لو قاربت الركون الموصوف إليهم ﴿لأذقناك﴾ أي بعظمتنا ﴿ضعف﴾ عذاب ﴿الحياة وضعف﴾ عذاب ﴿الممات﴾ أي ذلك العذاب مضاعفاً.
وهذه المادة تدور على الوهي، ويلزمه التقوية بالضعف - بكسر الضاد أي المثل وما زاد، وكل شيء له مكاثر فهو ضعيف بدونه،
487
ويلزم الضعف الذي هو المثل المضموم إلى مثله: القوة، فمن الوهي: الضعف والضعف بالفتح والضم، وهو خلاف القوة، وقيل: الضعف بالفتح في العقل والرأي، وبالضم في الجسد، والضعيف: الأعمى - حميرية، وأرض مضعفة للمفعول: أصابها مطر ضعيف، وضعف الشيء بالكسر: مثله - لأن كل ما له مثل فهو ضعيف، وضعفاه مثلاه. ويقال: لك ضعفه، أي مثلاه، وثلاثة أمثاله، لأن أصل الضعف زيادة غير محصورة، وضاعفت الشيء، أي ضممت إلى الشيء شيئين فصار ثلاثة، وأضعاف الكتاب: أثناء سطوره - لأنها أمثال للسطور من البياض وزيادة عليها ومن القوة التي تلزم المثل: أضعاف البدن وهي أعضاؤه - لأن غالبها مثنى، أو هي عظامه - لأنها أقوى ما فيه، ومن الضعف أيضاً مقلوبة الذي هو ضفع - إذا أحدث وضرط، وكذا مقلوبة فضع، والضفع نجو الفيل، والضفعانة: تمرة السعدانة ذات الشوك مستديرة - كأنها فلكة، فالمعنى - والله أعلم: أذقناك وهي الحياة ووهي الممات مضاعفاً أضعافاً كثيرة.
ولما كانت القوة بعد هذا في غاية البعد، عبر بأداة التراخي في قوله تعالى: ﴿ثم لا تجد لك﴾ أي وإن كنت أعظم الخلق وأعلاهم همة
488
﴿علينا نصيراً *﴾ والآية دالة على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظيم شأن مرتكبه وارتفاع منزلته، وعلى أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته، فعلى من تلاها أن يتدبرها وأن يستشعر الخشية وعظيم التصلب في الدين.
ولما بين أنهم استمالوه بالرفق حتى كادوا - لولا العصمة - أن يميلوه، دل على أنهم أخافوه بعد ذلك حتى كادوا أن يخرجوه من وطنه قبل الإذن الخاص بالهجرة فقال تعالى: ﴿وإن﴾ أي وإنهم ﴿كادوا﴾ أي الأعداء ﴿ليستنفرونك﴾ أي يستخفونك بكثرة الأذى الذي من شأنه ذلك فيما جرت به العوائد ﴿من الأرض﴾ أي المكية التي هي الأرض كلها لأنها أمها ﴿ليخرجوك منها﴾ مع أن وجودك عندهم رحمة لهم، فلا أعمى منهم! وأصل الفز القطع بشدة - قاله الرماني ﴿وإذاً﴾ أي وإذا أخرجوك ﴿لا يلبثون خلافك﴾ أي بعد إخراجك لو أخرجوك ﴿إلا قليلاً *﴾ وسيعلمون إذا أذنا لك في النزوح كيف نصبّ عليهم العذاب بعد خروجك بقليل، برمحك الطويل، وسيفك الصقيل، وسيوف أتباعك المؤمنين، لثبوت هذا الدين، وقد حقق الله سبحانه هذا الوعيد بقتل صناديدهم في غزوة
489
بدر في رمضان من السنة الثانية من الهجرة بعد ثمانية عشر شهراً من مهاجرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحرم على المشركين الذين أخرجوه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة المشرفة الدخول إليها والإقامة في حريمها من جزيرة العرب، إكراماً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وانتقاماً ممن يعتقد شيئاً من كفر من أخرجوه؛ ورفع ﴿يلبثون﴾ لأن ﴿إذن﴾ إذا وقعت بعد الواو والفاء جاز فيها الإلغاء، لأنها متوسطة في الكلام كما أنه لا بد من أن تلغى في آخر الكلام، وفي الآية بيان لأن الجاهل لا يزال ينصب للعالم الحبائل، ويطلب له الغوائل، فيعود ذلك عليه بالوبال، في الحال والمآل.
490
ولما أخبره بذلك، أعلمه أنه سنته في جميع الرسل فقال تعالى: ﴿سنة﴾ أي كسنة أو سنتنا بك سنة ﴿من قد أرسلنا﴾ أي بما لنا من العظمة.
ولما كان الإرسال قد عمت بركته بهذه العظمة جميع الأزمان بما حفه به من قويم الفطرة، أسقط الجار فقال تعالى: ﴿قبلك﴾ أي في الأزمان الماضية كلها ﴿من رسلنا﴾ بأن جعلنا وجودهم بين ظهراني قومهم رحمة لقومهم، فإذا أخرجوهم عاجلنا من رضي بإخراجهم
490
بالعقوبة ﴿ولا تجد لسنتنا﴾ أي لما لها من العظمة ﴿تحويلاً﴾ أي بمحول غيرنا يحولها، لكنهم خصوا عن الأمم السالفة بأنهم لا يعذبون عذاب الاستئصال تشريفاً لهم بهذا النبي الكريم.
ولما قرر أمر أصول الدين بالوحدانية والقدرة على المعاد، وقرر أمرهم أحسن تقرير، واستعطفهم بنعمه، وخوفهم من نقمه، وقرر أنه سبحانه عصمه عليه الصلاة والسلام من فتنتهم بالسراء والضراء بما أنار به من بصيرته، وأحسن من علانيته وسريرته، صار من المعلوم أنه قد تفرغ للعبادة، وتهيأ للمراقبة، فبدأ بأشرفها فوصل بذلك قوله تعالى: ﴿أقم﴾ أي حقيقة بالفعل ومجازاً بالعزم عليه ﴿الصلاة﴾ بفعل جميع شرائطها وأركانها ومبادئها وغاياتها، بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها، فإنها لب العبادة بما فيها من خالص المناجاة بالإعراض عن كل غير، وفناء كل سوى، بما أشرق من أنوار الحضرة التي اضمحل لها كل فان، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى أن الصلاة أعظم ناصر على الأعداء الذين يريدون بمكرهم استفزاز الأولياء، وأدفع الأشياء للضراء، وأجلبها لكل سراء، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة كما تقدم تخريجه في آخر الحجر؛ ثم عين له الأوقات بقوله تعالى:
491
﴿لدلوك الشمس﴾ أي زوالها واصفرارها وغروبها، قال في القاموس: دلكت الشمس: غربت أو اصفرت أو مالت أو زالت عن كبد السماء. فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استعمال المشترك في معانيه، أما في الظهر والمغرب فواضح، وأما في العصر فلأن أول وقتها أول أخذ الشمس في الاصفرار، وأدل دليل على ذلك أنه غيّا الإقامة بوقت العشاء فقال تعالى: ﴿إلى﴾ حثاً على نية أن يصلي كلما جاء الوقت ليكون مصلياً دائماً، لأن الإنسان في صلاة ما كان ينتظر الصلاة، فهو بيان لأن وقت المغرب من الدلوك الذي هو الغروب إلى أن يذهب الشفق ﴿غسق الّيل﴾ فالغسق: ظلمة أول الليل، وهو وقت النوم؛ وقال الرازي في اللوامع: وهو استحكام ظلمة الليل، وقال الرماني: ظهور ظلامه؛ ثم عطف عليه بتغيير السياق قوله تعالى: ﴿وقرءان﴾ فكأنه قال: ثم نم وأقم قرآن ﴿الفجر﴾ إشارة إلى الصبح، وقيل: نصب على الإغراء، وكأنه عبر عنها بالقرآن لأنه مع كونه أعظم أركان الصلاة يطول فيها القراءة ما لا يطول في غيرها، ويجهر به فيها دون أختها العصر وتشويقاً بالتعبير به إليها لثقلها بالنوم.
ولما كان القيام من المنام صعباً، علل مرغباً مظهراً غير مضمر
492
لأن المقام مقام تعظيم فقال تعالى: ﴿إن قراءن الفجر كان مشهوداً *﴾ يشهده فريقا الملائكة، وهو أهل لأن يشهده كل أحد، لما له من اللذة في السمع، والإطراب للقلب، والإنعاش للروح، فصارت الآية جامعة للصلوات؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، يقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم ﴿إن قرءان الفجر﴾ - الآية. قالوا: وهذا دليل على وجوب الصلاة بأول الوقت، وأن التغليس بصلاة الفجر أفضل؛ ثم حث بعدها على التهجد لأفضليته وأشديته فقال تعالى: ﴿ومن﴾ أي وعليك بعض، أو قم بعض ﴿الّيل فتهجد﴾ أي اترك الهجود - وهو النوم - بالصلاة ﴿به﴾ أي بمطلق القرآن، فهو من الاستخدام الحسن ﴿نافلة لك﴾ أي زيادة مختصة بك؛ قال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب: وأصل النفل الزيادة، ومنه الأنفال الزائدة على الغنائم التي أحلها الله لهذه الأمة، وقال أبو عبد الله القزاز: النوافل: الفواضل، ومن هذا يقولون: فلان ممن ترجى نوافله - انتهى. فهو زيادة للنبي
493
صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الفرض وللأمة في التطوع، وخص به ترغيباً للأمة لأنهم يعلمون أنه لا يخص إلا بخير الخير، لأنه الوقت الذي كني فيه عن استجابة الدعاء بالنزول إلى السماء الدنيا اللازم منه القرب الوارد في الأحاديث الصحيحة أنه يكون في جوف الليل، لأن من عادة الملوك في الدنيا أن يجعلوا فتح الباب والقرب منه ورفع الستر والنزول عن محل الكبرياء أمارة على قضاء الحوائج، وكل ما يعبر به عن الله تعالى مما ينزه سبحانه عن ظاهره يكون كناية عن لازمه، وبين ذلك حديث رويناه في جزء العبسي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن في الليل ساعة يفتح فيها أبواب السماء فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له؟» إلى آخره، فهذا شاهد عظيم لهذا التأويل.
ولما أمره سبحانه بالتهجد والتذلل، وكان السياق للعظمة رجاء في النوال بما يليق بالسياق فقال تعالى: ﴿عسى أن﴾ أي لتكون بمنزلة الراجي لأن ﴿يبعثك﴾ ولما كان السياق قد انصرف للترجية، عبر بصفة الإحسان فقال تعالى: ﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بعد الموت الأكبر وقبله، كما بعث نفسك من الموت الأصغر إلى خدمته ﴿مقاماً﴾ نصب على الظرف ﴿محموداً *﴾ وذلك لأن «عسى» للترجي
494
في المحبوب والإشفاق في المكروه، وقد يضعف ذلك فيلزم الشك في الأمر، وقد يقوى فيأتي اليقين، وهي هنا لليقين، قالوا: إن عسى تفيد الإطماع، ومن أطمع أحداً في شيء ثم حرمه كان عاراً، والله تعالى أكرم من أن يفعل ذلك، وعبر بها دون ما يفيد القطع لأن ذلك أقعد في كلام الملوك لأنه أدل على العظمة، وللبخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع! يا فلان اشفع! حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
أي فيظهر ما له من الحظ من اسمه أحمد ومحمد في ذلك الحين بحمد كل ذي روح بإيصال الإحسان إلى كل منهم بالفعل، وله في التفسير وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة! آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة» يعني - والله أعلم - الشفاعة الخاصة، وأما العامة فللكل بغير شرط.
ولما كان هذا المقام صالحاً للشفاعة ولكل مقام يقومه، وكان كل مقام يحتاج إلى التوفيق في مباشرته والانفصال عنه، تلاه حاثاً
495
على دوام المراقبة واستشعار الافتقار بقوله مقدماً المدخل لأنه أهم: ﴿وقل رب﴾ أي أيها الموجد لي، المدبر لأمري، المحسن إليّ ﴿أدخلني﴾ في كل مقام تريد إدخالي فيه حسي ومعنوي دنيا وأخرى ﴿مدخل صدق﴾ يستحق الداخل فيه أن يقال له: أنت صادق في قولك وفعلك، فإن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً ﴿وأخرجني﴾ من كل ما تخرجني منه ﴿مخرج صدق﴾.
ولما كان الصدق في الأمور قد لا يقارنه الظفر، قال تعالى: ﴿واجعل لي﴾ أي خاصة ﴿من لدنك﴾ أي عندك من الخوارق التي هي أغرب الغريب ﴿سلطاناً﴾ أي حجة وعزاً ﴿نصيراً *﴾ وفيه إشعار بالهجرة وأنها تكون على الوجه الذي كشف عنه الزمان من العظمة التي ما لأحد بها من يدان.
496
ولما كان الدعاء قد لا يستجاب، قال مبشراً له بأنه ليس بين دعائه وبين استجابته إلا قوله، ومحققاً لتلك البشرى بالأمر بأن يخبر بها: ﴿وقل﴾ أي لأوليائك وأعدائك: ﴿جاء الحق﴾ وهو كل ما أمرني به ربي وأنزله إليّ ﴿وزهق﴾ أي اضمحل وبطل وهلك ﴿الباطل﴾ وهو كل ما خالفه؛ ثم علل زهوقه بقوله: ﴿إن الباطل كان﴾ في نفسه بجبلته وطبعه ﴿زهوقاً *﴾ قضاء قضاه الله تعالى من الأزل؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه
496
قال: دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول ﴿جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً﴾، ﴿جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد﴾ [سبأ: ٤٩].
ولما كان القرآن الذي نوه به في آية ﴿أقم الصلاة﴾ هو السبب الأعظم في إزهاق الباطل الذي هو كالسحر خيال وتمويه، وهو الجامع لجميع ما مضى من الإلهيات والبعث وما تبع ذلك، قال عاطفاً على ﴿ولقد كرمنا﴾ :﴿وننزل﴾ أي بعظمتنا؛ ثم بين المنزل بقوله تعالى: ﴿من القرءان﴾ أي الجامع الفارق الذي هو أحق الحق ﴿ما هو شفاء﴾ للقلوب والأبدان ﴿ورحمة﴾ أي إكرام وقوة ﴿للمؤمنين﴾ أي الراسخين في الإيمان، لإنارته لقلوبهم من صدإ الجهل، وحمله لهم على سبيل الرشد الذي هو سبب الرحمة، ولحراسته لهم من كل شيطان ومرض ومحنة إذا وقع الصدق في الاستشفاء به، هو كله كذلك وكذا جميع أبعاضه؛ قال الرازي في اللوامع: وهو أنس المحبين، وسلوة المشتاقين، وإنه النور المبين، الذي من
497
استبصر به انكشف له من الحقائق ما كان مستوراً، وانطوى عنه من البوائق ما كان منشوراً، كما أن الباطل داء ونقمة للكافرين ﴿و﴾ من أعجب العجب أن هذا الشفاء ﴿لا يزيد الظالمين﴾ أي الراسخين في هذا الوصف، وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه، بإعراضهم عما يجب قبوله ﴿إلا خساراً *﴾ أي نقصاناً، لأنهم إذا جاءهم وقامت به الحجة عليهم، أعرضوا عنه، فكان إعراضهم ذلك زيادة في كفرانهم، كما أن قبول المؤمنين له وإقبالهم على تدبره زيادة في إيمانهم، وفي الدارمي عن قتادة قال: ما جالس القرآن أحد فقام عنه بزيادة أو نقصان - ثم قرأ هذه الآية؛ ثم عطف على هذا المقدر المعلوم تقديره ما هو أعم منه وأبين في الفتنة والاجتراء فقال تعالى: ﴿وإذا أنعمنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿على الإنسان﴾ أي هذا النوع هؤلاء وغيرهم بأيّ نعمة كانت، من إنزال القرآن وغيره ﴿أعرض﴾ أي عن ذكر المنعم كإعراض هؤلاء عند مجيء هذه النعمة التي لا نعمة مثلها ﴿ونأ﴾ أي تباعد
498
تكبراً ﴿بجانبه﴾ بطراً وعمى عن الحقائق ﴿وإذا مسه الشر﴾ أي هذا النوع وإن قل ﴿كان يئوساً *﴾ أي شديد اليأس هلعاً وقلة ثقة بما عنده من رحمة الله إلا من حفظه الله وشرفه بالإضافة إليه فليس للشيطان عليه سلطان.
ولما كان المفرد المحلى باللام يعم، كان هذا ربما اقتضى من بعض المتعنتين اعتراضاً بأن يقال: إنا نرى بعض الإنسان إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر، وكان هذا الاعتراض ساقطاً لا يعبأ به، أما أولاً فلأنه قد تقدم الجواب عنه في سورة يونس عليه السلام في قوله تعالى ﴿كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون﴾ [يونس: ١٢] بأن هذا في المسرفين دون غيرهم، وبقوله تعالى في سورة هود عليه السلام ﴿إلا الذين صبروا﴾ [هود: ١١] ولعله طواه في هذا المقام إشارة إلى أنه لقلة أفراده كأنه عدم، وأما ثانياً فلأن المحلى باللام سواء كان مفرداً أو جمعاً في قوة الجزئي حتى يرد ما يدل على أنه كلي، فلذلك أعرض تعالى عنه وأمره بالجواب عن القسمين المشار إليه والمنصوص عليه فقال تعالى: ﴿قل﴾ أي يا أشرف خلقنا! ﴿كل﴾ من الشاكر والكافر ﴿يعمل على شاكلته﴾
499
أي طريقته التي تشاكل روحه وتشاكل ما طبعنا عليه من خير أو شر ﴿فربكم﴾ أي فتسبب عن ذلك أن الذي خلقكم ودرجكم في أطوار النمو، لا غيره ﴿أعلم﴾ مطلقاً ﴿بمن هو﴾ منكم ﴿أهدى سبيلاً *﴾ أي أرشد وأقوم من جهة المذهب بتقواه وإحسانه، فيشكر ويصبر احتساباً فيعطيه الثواب، ومن هو أضل سبيلاً، فيحل به العقاب، لأنه يعلم ما طبعهم عليه في أصل الخلقة وغرزه فيهم من الخلائق، وغيره إنما يعلم أمور الناس في طرائقهم بالتجربة؛ وقد روى الإمام أحمد - لكن بسند منقطع - عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به، فإنه يصير إلى ما جبل عليه» هذا كله الإعراض بالفعل، وإن كان بالقوة التزمنا أنها كلية، والله أعلم بالمهتدي فيحفظه من الإعراض واليأس بالفعل هو فيه بالقوة.
ولما بين سبحانه - بعد التعجيب من إنكارهم البعث - جهل الإنسان، وما هو عليه من الضلال والنسيان، إلا من فضله على أنباء نوعه
500
كما فضل طينته على سائر الطين، وختم بآية المشاكلة التي منها مشاكلة بعض الأرواح لبعض ومشاكلتها للطباع، وبان بذلك أنه سبحانه وتعالى قادر على فعل ما يشاء عالم بكل معلوم، رجع إلى التعجب منهم بما هو من شأن الأرواح التي من شأنها التشاكل فقال تعالى عاطفاً على ﴿وقالوا إذا كنا عظاماً﴾ :﴿ويسئلونك﴾ أي تعنتاً وامتحاناً ﴿عن الروح﴾ الذي تقدم أنها تعاد إلى أجسادهم يوم البعث ولو كانوا حجارة أو حديداً: ما هي؟ هل هي جسم أم لا؟ وهل هي متولدة من امتزاج الطبائع التي في البدن أم امتزاجه مبتدأ؟ وهل هي قديمة أم حادثة؟ ولما كان ذلك تعنتاً، مع أنه لا يفتقر إليه في صحة اعتقاده، أمره بأن يجيبهم عنه بما يليق بحالهم بقوله تعالى: ﴿قل الروح﴾ أي هذا النوع الذي تصير به الأجسام حية ﴿من أمر ربي﴾ أضافها إلى الأمر وهو الإرادة وإن كانت من جملة خلقه، تشريفاً لها وإشارة إلى أنه لا سبب من غيره يتوسط بينها وبين أمره، بل هو يبدعها من العدم، أو يقال - وهو أحسن: إن الخلق قسمان: ما كان بتسبيب وتنمية وتطوير، وهو الذي يترجم في القرآن بالخلق، والثاني ما كان إخراجاً من العدم بلا تسبيب ولا تطوير، وهو المعبر عنه بالأمر، ومنه هذه الروح المسؤول عنها وكل روح في القرآن، وكذا ما هو للحفظ والتدبير
501
كالأديان، والجامع لذلك القيومية كما مضى عن الحرالي عند روح القدس في البقرة، فأفادت هذه العبارة أنها محدثة، وأنها غير مطورة ولا مسببة، وهي جسم لطيف سار في البدن كماء الورد في الورد على الصحيح عند أهل السنة، وأمسك السلف عن الإمعان في الكلام على الروح أدباً، لأنهم علموا أن في عدم الجواب لسؤالهم بغير هذا إشارة إلى أن السكوت عنه أولى لهم؛ ثم أتبعه التنبيه على جهلهم لتعكيسهم في الأسئلة بتركهم الإقبال على ما لا يفهمونه بلا شك وينفعهم في الدارين من هذا الروح المعنوي وهو القرآن، وإقبالهم على ما لا يفهمونه من الروح المحسوس لقلة علمهم، ومن فهمه منهم لا يفهمه إلا بعسر عظيم، وفيه أسئلة كثيرة جداً لا برهان على أجوبتها، منها أنه متحيز أم لا؟ وأنه مغاير للنفس أم لا؟ وهل تبقى بعد الموت أم لا؟ فعلمنا به أنه إنما هو على الإجمال، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه، فإن أكثر حقائق الأشياء مجهولة، وهي موجودة.
فالسكنجبين خاصيته قمع الصفراء، وحقيقة تلك الخاصية مجهولة، وهي معلومة الوجود، وليس وراء العلم بما سألوا عنه من الروح بعد فهمه من الفائدة ما لذلك الذي تركوه ولا قريب منه، فقال تعالى دالاً على حدوثه بتغيره، فإنه يكون في المبدإ جاهلاً ثم يحدث له العلم شيئاً بعد شيء،
502
وكل متغير حادث: ﴿وما أوتيتم﴾ أي من أيّ مؤت كان بعد أن كنتم لا تعلمون شيئاً ﴿من العلم﴾ أي مطلق هذه الحقيقة، فكيف بالمشكل منها ﴿إلا قليلاً *﴾ ومما تجهلونه أمور ضرورية لكم، لأن تماديكم على الجهل بها سبب لهلاككم في الدارين، فمن أجهل الجهل وأضل الضلال أن تسألوا عما لا يضركم الجهل به، ويتوقف إثباته على أمور دقيقة، ومقدمات صعبة، وتتركوا ما يضركم الجهل به في الدين والدنيا، مع كونه في غاية الوضوح، لكثرة ما قام عليه من الأدلة، وله بحضرتكم من الأمثلة، والذي سألتموه منزه عن الغش والضيق، فهو ينبهكم على عبثكم نصيحة لكم ويعدل عن جوابكم عنه إلى ما ينفعكم رفقاً بكم، ولفهم هذا سكت السلف عن الخوض في أمره، والخطاب لليهود والعرب، أما العرب فواضح، وأما اليهود فإنهم وإن كانوا أهل الكتاب فذلك إشارة إلى تلاشي علمهم في جنب علم الله؛ كما ستأتي الإشارة إليه بقول الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام في العصفور الذي نقر من البحر نقرة أو نقرتين، فحيث ورد تعظيم على أحد وتكثره فهو بالنسبة إلى غيره من الخلق، وحيث ورد تقليله - كما في هذه الآية - فهو من حيث إضافته إلى
503
علم الله تعالى، وهذه الآية ورد في سبب نزولها ما يظن أنه متناقض، فإنه روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة، فسأله اليهود عن الروح فأوحى إليه، فلما انجلى عنه الوحي تلا عليهم - الآية.
وفي السيرة الهشامية والدلائل للبيهقي وتفسير البغوي وغيره من التفاسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قريشاً أرسلت إلى اليهود قبل الهجرة تسألهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عند قريش، فأمروهم أن يسألوه عن الروح، وعن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أخبركم بما سألتم عنه غداً» - ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث فيما يذكرون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً، حتى أرجف به أهل مكة، وحتى حزن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، وروي أيضاً أن لبث الوحي كان أربعين ليلة. وروي: اثنتي عشرة
504
ليلة، وفي مسند أبي يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل! فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، ونزلت ﴿ويسئلونك﴾ - الآية. وليس ذلك وأمثاله بحمد الله بمشكل، فإنه محمول على أنه نزل للسبب الأول، فلما سئل عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثانياً لم يجب فيه بالجواب الأول، إما لرجاء أن يؤتى بأوضح منه، أو خشية أن يكون نسخ - أو نحو ذلك لأمر رآه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيعيد الله سبحانه إنزاله عليه تثبيتاً له وإعلاماً بأنه هو الجواب، وفيه مقنع، وفي تأخير الجواب في هذا الأمر برهان قاطع لقريش وكل من له أدنى لب على صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أن هذا القرآن من عند الله، لا يقدر عليه غيره، لأنه لو كان قادراً على الإتيان بشيء منه من عند نفسه أو من عند أحد من الخلق لبذل جهده في ذلك، تنزيهاً لنفسه الشريفة، وهمته المنيفة، وعرضه الطاهر، عن مثل ما خاضوا فيه بسبب إخلاف موعدهم.
ولما كانت الروح من عالم الأمر الذي هو من سر الملكوت، ضمت إلى سورة الإسراء الذي هو من أبطن سر الملكوت لاسيما بما علا به من المعراج الذي جعل لغرابته كالرؤيا
505
﴿وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس﴾ ولذلك فصلت عن السؤالين الآخرين، لأنهما من عالم الملك، وسيأتي بقية الكلام على هذا في سورة الكهف إن شاء الله تعالى.
506
ولما شرح إرادتهم الفتنة عما جاءهم من العلم بتبديل المنزل، وإخراج المرسل، وما تبع ذلك حتى ختم بتجهيلهم إذ سألوا تعنتاً عن الروح الحسي، وكان الأنفع لهم سؤالهم استفادة وتفهماً عن دقائق الروح المعنوي الذي أعظم الله شرفهم به بإنزاله إليهم على لسان رجل منهم هو أشرفهم مجداً، وأطهرهم نفساً، وأعظمهم مولداً، وأزكاهم عنصراً، وأعلاهم همة، وختم بتقليل علمهم إشارة إلى أنهم لا يفهمون إلا أن يفهمهموه سبحانه وهو أعلم بما يفهمونه وما لا يفهمونه، قال عاطفاً على ﴿وإن كادوا ليفتنونك﴾ تنبيهاً لهم على أنه لو شاء لذهب بسبب هذا العلم القليل الذي وهبهموه، فعمهم الجهل كما كانوا، وعلى أنه لم يكفهم ترك السؤال عما يعنيهم حتى سألوا عما لا يعنيهم، وأرادوا تبديل ما ينفعهم ويعنيهم بما يبيدهم ويفنيهم، فضلوا قولاً وفعلاً: ﴿ولئن شئنا﴾ ومشيئتنا لا يتعاظمها شيء، ولامه موطئة للقسم، وأجاب عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال تعالى: ﴿لنذهبن﴾ أي بما لنا من العظمة ذهاباً محققاً ﴿بالذي أوحينا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿إليك﴾ مما أرادوا الفتنة
506
فيه من القرآن على أن فيه من العلم ما يغنيهم - لو أقبلوا على تفهمه - عن شيء من الأشياء فلا تبقى عندك نحن ولا وحينا، ولإفادة هذا لم يقل: لأذهبنا. ﴿ثم﴾ أي بعد الذهاب به ﴿لا تجد لك﴾ ولما كان السياق هنا للروح الذي هو الوحي، فكانت العناية به أشد، قدم قوله: ﴿به﴾ ولما كان السياق لمن يأخذ ما يريد طوعاً وكرهاً، قال تعالى: ﴿علينا﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا تعارض ﴿وكيلاً *﴾ يأتيك به أو بشيء منه.
ولما كان لا ملجأ منه سبحانه إلا إليه، قال تعالى: ﴿إلا﴾ أي لكن تجد ﴿رحمة﴾ مبتدئة وكائنة ﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك بأن أوجدك ورباك، ولم يقطع إحسانه قط عنك، يعيد بها إليك ويأتيك بما يقوم مقامه، وعبر عن أداة الانقطاع بأداة الاتصال إشارة إلى أن رحمته سبحانه له - التي اقتضتها صفة إحسانه إليه لعظمها - كالوكيل الذي يتصرف بالغبطة على كل حال.
ولما كان في إنزاله إليه ثم إبقائه لديه من النعمة عليه وعلى أمته ما لا يحصى، نبه على ذلك بقوله تعالى مستأنفاً مؤكداً لأن كون الرحمة هكذا من أغرب الغريب، فهو بحيث لا يكاد
507
يصدق، وهو مما يتلذذ بذكره ﴿إن فضله كان﴾ أي كوناً ثابتاً ﴿عليك﴾ أي خاصة ﴿كبيراً *﴾ أي بالغ الكبر، وقد ورد أنه يذهب بالقرآن في آخر الزمان، يسري بما في المصاحف وبما في القلوب، وقد أفهمت ذلك هذه الآية لأن كلام الملوك يفهم أصل الشيء ولو كان في سياق الشرط.
ولما كان بمعرض أن يقولوا: إن ذهب عليك من شيء فائت بمثله من عند نفسك ومما اكتسبته منه من الأساطير، أمره أن يجيبهم عن هذا بقوله دلالة على مضمون ما قبله: ﴿قل﴾.
ولما أريد هنا المماثلة في كل التفصيل إلى جميع السور في المعاني الصادقة، والنظوم الرائقة، كما دل عليه التعبير بالقرآن، زاد في التحدي قيد الاجتماع من الثقلين وصرف الهمم للتظاهر والتعاون والتظافر بخلاف ما مضى في السور السابقة، فقال تعالى مؤكداً باللام الموطئة للقسم لادعائهم أنهم لو شاؤوا أتوا بمثله، والجواب حينئذ للقسم، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم: ﴿لئن اجتمعت الإنس﴾ الذين تعرفونهم وتعرفون ما أتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم، وقدمهم لسهولة اجتماعهم بهم ولأنهم عندهم الأصل في البلاغة ﴿والجن﴾ الذين يأتون كهانكم ويشجعون لهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم،
508
وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من كلامهم ﴿على أن يأتوا﴾ أي يجددوا إيتاءً ما في وقت ما في حال اجتماعهم ﴿بمثل هذا القرآن﴾ أي جميعه على ما هو عليه من التفصيل، وخصه بالإشارة تنبيهاً على أن ما يقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الله وحي من الله، ليس فيه شيء من عند نفسه، وأن المراد في هذا السياق المتحدى به الذي اسمه القرآن خاصة ﴿لا يأتون﴾.
ولما كانت هذه السورة مكية، فكان أكثر ما يمكن في هذه الآية أن يكون آخر المكي فيختص التحدي به، وكان المظهر إذا أعيد مضمراً أمكن فيه الخصوص، وكان المراد إنما هو الشمول، ومتى أريد الشمول استؤنف له إحاطة باستئناف إظهار محيط كما يأتي عن الحرالي في أواخر سورة الكهف، لم يقل هنا «به» لذلك، ولئلا يظن أنه يعود على القرآن لا على مثله، بل أظهر فقال دالاً على أن المراد جميع المكي والمدني: ﴿بمثله﴾ أي لا مع التقيد بمعانيه الحقة الحكيمة حتى يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة، مبيناً لأحسن المعاني بأوضح المباني، ولا مع الانفكاك عنها إلى معانٍ مفتراة؛ ثم أوضح أن المراد الحكم لعجزهم مجتمعين ومنفردين متظاهرين وغير متظاهرين فقال تعالى: ﴿ولو﴾ ولما كان المكلفون مجبولين على المخالفة
509
وتنافي الأغراض قال تعالى: ﴿كان﴾ أي جبلة وطبعاً على خلاف العادة ﴿بعضهم لبعض ظهيراً *﴾ أي معيناً بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه، وقد تقدم في السور المذكور فيها التحدي ما يتم هذا المعنى.
ولما تمت هذه الجمل على هذا الوجه الجميل، والوصف الجليل، نبه على ذلك سبحانه بقوله عطفاً على نحو: صرفنا هذه الأمثال كما ترون على أعلى منهاج وأبلغ سياق في أبدع انتظام: ﴿ولقد صرفنا﴾ أي رددنا وكررنا تكريراً كثيراً بما لنا من العظمة، ولما كان مبنى السورة على بيان العناية بالناس الذين اتقوا والذين هم محسنون، اقتضى المقام لمزيد الاهتمام تقديم قوله تعالى: ﴿للناس﴾ أي الذين هم ناس ﴿في هذا القرءان﴾ الهادي للتي هي أقوم ﴿من كل مثل﴾ أي من كل ما هو في غرابته وسيره في أقطار الأرض وبلاغته ووضوحه ورشاقته كالمثل الذي يجب الاعتبار به؛ والتصريف: تصيير المعنى دائراً في الجهات المختلفة بالإضافة والصفة والصلة ونحو ذلك ﴿فأبى﴾ أي فتسبب عن ذلك الذي هو سبب للشفاء والشكر والهدى، تصديقاً لقولنا ﴿ولا يزيد الظالمين إلا خساراً﴾ أنه أبى
510
﴿أكثر الناس﴾ وهم من هم في صورة الناس وقد سلبوا معانيهم.
ولما كان «أبى» متأولاً بمعنى النفي، فكان المعنى: فلم يرضوا مع الكبر والشماخة، استقبله بأداة الاستثناء فقال تعالى: ﴿إلا كفوراً *﴾ لما لهم من الاضطراب.
ولما كان هذا أمراً معجباً، عجب منهم تعجيباً آخر، عاطفاً له على ﴿ويسئلونك﴾ إن كان المراد بالناس في قوله ﴿فأبى أكثر الناس﴾ الكل، وعلى «فأبى» إن كان المراد بهم قريشاً فقال تعالى: ﴿وقالوا﴾ أي كفار قريش ومن والاهم تعنتاً بعد ما لزمهم من الحجة ببيان عجزهم عن المعارضة ولغير ذلك فعل المبهوت المحجوج المعاند، مؤكدين لما لزمهم من الحجة التي صاروا بها في حيز من يؤمن قطعاً من غير توقف: ﴿لن نؤمن﴾ أي نصدق بما تقول مذعنين ﴿لك حتى تفجر﴾ أي تفجيراً عظيماً ﴿لنا﴾ أي أجمعين ﴿من الأرض ينبوعاً *﴾ أي عيناً لا ينضب ماءها ﴿أو تكون لك﴾ أي أنت وحدك ﴿جنة من نخيل و﴾ أشجار ﴿عنب﴾ عبر عنه بالثمرة لأن الانتفاع منه بغيرها قليل ﴿فتفجر﴾ أي بعظمة زائدة ﴿الأنهار﴾ الجارية ﴿خلالها تفجيراً *﴾ وهو تشقيق عما يجري من ماء أو ضياء أو نحوهما؛ فالفجر: شق الظلام من عمود الصبح، والفجور:
511
شق جلباب الحياء بما يخرج إلى الفساد ﴿أو تسقط السماء﴾ أي نفسها ﴿كما زعمت﴾ فيما تتوعدنا به ﴿علينا كسفاً﴾ أي قطعاً جمع كسفه وهي القطعة، ويجوز أن يكون المراد بذلك الحاصب الآتي من جهة العلو وغيره مما توعدوا به في نحو قوله ﴿أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم﴾ [الأنعام: ٦٥] وتسمية ذلك سماء كتسمية المطر بل والنبات سماء:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
﴿أو تأتي﴾ معك ﴿بالله﴾ أي الملك الأعظم ﴿والملائكة قبيلاً *﴾ أي إتياناً عياناً ومقابلة ينظر إليه لا يخفى على أحد منا شيء منه، وكان أصله الاجتماع الذي يلزم منه المواجهة بالإقبال من قبائل الرأس الجامعة ﴿أو يكون لك﴾ أي خاصاً بك ﴿بيت من زخرف﴾ أي ذهب كامل الحسن والزينة ﴿أو ترقى﴾ أي تصعد ﴿في السماء﴾ درجة درجة ونحن ننظر إليك صاعداً ﴿ولن نؤمن﴾ أي نصدق مذعنين ﴿لرقيك﴾ أي أصلاً ﴿حتى تنزل﴾ وحققوا معنى كونه ﴿من السماء﴾ بقولهم: ﴿علينا كتاباً﴾ ومعنى كونه، ﴿في رق﴾ أو نحو قولهم: ﴿نقرؤه﴾ يأمرنا فيه باتباعك.
فلما تم تعنتهم فكان لسان الحال طالباً من الله تعالى الجواب عنه، أمره الله تعالى بجوابهم بقوله: ﴿قل سبحان ربي﴾ أي تنزه عن أن
512
يكون له شريك في ملكه يطلب منه ما لا يطلب إلا من الإله، فهو تنزيه لله وتعجيب منه لوضوح عنادهم بطلبهم ما لا قدرة عليه إلا للإله ممن لا قدرة له على شيء منه إلا بإذن الله، ولم يدّع قط أنه قادر على شيء منه، فحسن الاستفهام جداً في قوله تعالى: ﴿هل كنت إلا بشراً﴾ لا يقدر على غير ما يقدر عليه البشر ﴿رسولاً *﴾ كما كان من قبلي من الرسل، لا أتعدى ما أمرت به من التبليغ، فلا آتي بشيء إلا بإذن الله، ولم أقل: إني إله، حتى يطلب مني ما يطلب من الإله ورتبوا أنفسهم هذا الترتيب لأنهم حصروا حاله في دعوى أن يكون عظيماً بالرسالة أو غيرها ليتبعه الناس، فإن كان الأول كان مقبول القول عند مرسله، وحينئذ فإما أن يسأله في نفع عام بالينبوع، أو خاص به بالجنة إن بخل بالعام، أو ضر بالكشف أو يسأله في الإتيان مع جنده لأن يصدقه، وإن كانت عظمته بغير ذلك فإما أن يكون ملكاً ليكون له البيت المذكور بما جرت العادة أن يكون تابعاً له، أو يكون ممن يجتمع بالملك الذي أرسله فيرقى على ما قالوا.
513
ولما أمر بما تضمن أنه كإخوانه من الرسل في كونه بشراً،
513
أتبعه قوله تعالى عطفاً على: ﴿فأبى﴾ أو ﴿فقالوا﴾ :﴿وما منع الناس﴾ أي قريشاً ومن قال بقولهم لما لهم من الاضطراب ﴿أن يؤمنوا﴾ أي لم يبق لهم مانع من الإيمان، والجملة مفعول «منع» ﴿إذ جاءهم الهدى﴾ أي الدليل القاطع على الإيمان وهو القرآن وغيره من الأدلة ﴿إلا﴾ وفاعل منع ﴿أن قالوا﴾ أي منكرين غاية الإنكار متعجبين متهكمين: ﴿أبعث الله﴾ أي بما له من العظمة الباهرة من صفات الجلال والإكرام ﴿بشراً ورسولاً *﴾ وسبب اتباع الضلال - مع وضوح ضره - وترك الهدى - مع ظهور نفعه - وقوع الشبهة أو الشهوة لضعفاء العقول - وهم أكثر الناس - في أوله ثم تقليد الرؤساء وتمكن العادة السيئة فيما بعد ذلك، فلما أنكروا كون الرسول بشراً بعد أن جعلوا الإله حجراً، علمه جوابهم بقوله تعالى: ﴿قل﴾ لهم: قال ربي سبحانه وتعالى: ﴿لو كان﴾ أي كوناً متمكناً ﴿في الأرض﴾ التي هي مسكن الآدميين ﴿ملائكة يمشون﴾ عليها كالآدميين من غير طيران كالملائكة إلى السماء ﴿مطمئنين﴾ باتخاذهم لها قراراً كما فعل البشر ﴿لنزلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿عليهم﴾ مرة بعد مرة كما فعلنا في تنزيل جبريل عليه السلام على الأنبياء من البشر، وحقق الأمر بقوله تعالى: ﴿من السماء ملكاً رسولاً *﴾ لتمكنهم من التلقي منه لمشاكلتهم له بخلاف
514
البشر كما هو مقتضى الحكمة، لأن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم، إذ الشيء عن شكله أفهم، وبه آنس، وإليه أحسن، وله آلف، إلا من فضله بتغليب نفسه وعقله على شهوته فأقدره بذلك على التلقي من الملك.
ولما نصب البرهان القاطع على أن القرآن الموحى إليه من عند الله، ونفى شبهتهم في إنكار كون الرسول بشراً، بأنه ما خرج عن عادة من قبله ممن كانوا مقرين بأنهم أنبياء، وبأن الجنس لا يفهم عن جنس آخر، فالبشر لا يفهم عن الملك إلا بخارقة، ولا يكون ذلك إلا للرسل ومن أراد الله من أتباعهم، لم يبق إلا محض العناد الذي لا رجوع فيه إلا إلى السيف عند القدرة، وإلى الله عند فقدها، وكان في مكة المشرفة غير قادر على السيف، أمره الله تعالى بالرجوع إلى السيف فقال تعالى: ﴿قل كفى بالله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿شهيداً﴾ أي فيصلاً يكون ﴿بيني وبينكم﴾ يعامل كلاًّ منا بما يستحق؛ ثم علل كفايته لذلك بقوله تعالى: ﴿إنه كان بعباده﴾ قبل أن يخلقهم ﴿خبيراً﴾ بما يؤول إليه أمرهم بعد إيجاده لهم ﴿بصيراً *﴾ بما يكون منهم بعد وجوده.
ولما تقدم أنه سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدي والضال، وكان ختم هذه الآية مرشداً إلى أن المعنى: فمن علم منه بجوابه قابلية للخير وفقه للعمل على تلك المشاكلة، ومن علم منه قابلية للشر أضله، عطف
515
عليه قوله تعالى: ﴿ومن يهد الله﴾ أي الذي له الأمر كله لأنه لا شريك له، بخلق الهداية في قلبه، وأشار إلى قلة المهتدي على طريقة الإحسان بإفراد ضميره، وإلى كثرة الضال بجمعه فقال تعالى: ﴿فهو﴾ أي لا غيره ﴿المهتد﴾ لا يمكن أحداً غيره أن يضله ﴿ومن يضلل﴾ فهو الضال لا هادي له، وذلك معنى قوله تعالى: ﴿فلن تجد لهم﴾ أي للضالين ﴿أولياء﴾ أي أنصاراً في هذه الدنيا ﴿من دونه﴾ يهدونهم ولا ينفعونهم بشيء أراد الله غيره، ولذلك نفوا أصلاً ورأساً، لأنهم إذا انتفى نفعهم كانوا كالعدم، وإذا انتفى على الجمع انتفى عن المفرد من باب الأولى؛ فالآية من الاحتباك: خبر الأول يدل على حذف ضده ثانياً، ونتيجة الثاني تدل على حذف ضدها من الأول.
ولما كان يوم الفصل يوماً يظهر فيه لكل أحد في كل حالة من عظمته تعالى ما يضمحل معه كل عظمة قال تعالى: ﴿ونحشرهم﴾ بنون العظمة أي نجمعهم بكره ﴿يوم القيامة﴾ أي الذي هو محط الحكمة ﴿على وجوههم﴾ يمشون أو مسحوبين عليها إهانة لهم فيها كما لم يذلوها بالسجود لنا ﴿عمياً وبكماً وصماً﴾ كما كانوا في الدنيا لا ينتفعون بأبصارهم ولا نطقهم ولا أسماعهم، بل يكون ضرراً عليهم لما ينظرون من المعاطب، ويسمعون من المصائب، وينطقون به من المعايب؛ قال الرازي في اللوامع إذ يحشر المرء على ما مات عليه،
516
فلم يكن له في الآخرة شيء إلا حصل أوله ومبدأه في الدنيا وتمامه في الآخرة - انتهى.
ولما كان المقام للانتقال من مقام إلى آخر، قدم البصر لأنه العمدة في ذلك، وثنى بالنطق لأنه يمكن الأعمى الاسترشاد، وختم بالسمع لأنه يمكن معه وحده نوع رشاد، وعطفها بالواو إن كان لتشريك الكل في كل من الأوصاف فللتهويل، لأن المتكلم إذا نطق بالعاطف ظن السامع الانتقال إلى شيء آخر، فإذا أتى بالوصف كان أروع للعلم بأن صاحبه عريق فيه، لما تقدم في براءة، وإن كان للتنويع فلتصويرهم بأقبح صورة من حيث إنه لا ينتفع فريق منهم بالآخر كبير نفع، فكأنه قيل: إلى أيّ مكان يحشرون؟ فقال تعالى: ﴿مأواهم جهنم﴾ تستعر عليهم وتتجهمهم، كل واحد منهم يقاسي عذابها وحده وإن كان وجهه إلى وجه صاحبه، لأنه لا يدرك سوى العذاب للختم على مشاعره، فيا طولها من غربة! ويا لها من كربة! فكأنه قيل: هل يفتر عنهم عذابها؟ فقيل: لا بل هم كل ساعة في زيادة، لأنها ﴿كلما خبت﴾ أي أخذ لهبها في السكون عند إنضاجها لجلودهم ﴿زدناهم﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿سعيراً *﴾ بإعادة الجلود؛ ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته فقال تعالى: ﴿ذلك﴾ أي العذاب العظيم ﴿جزاؤهم بأنهم﴾ أهل الضلالة ﴿كفروا بآيتنا﴾
517
القرآنية وغيرها، مع ما لها من العظمة بنسبتها إلينا، وكانوا كل يوم يزدادون كفراً، وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا ﴿وقالوا﴾ إنكاراً لقدرتنا ﴿إذا كنا عظاماً ورفاتاً﴾ ممزقين في الأرض؛ ثم كرروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم: ﴿أإنا لمبعوثون﴾ أي ثابت بعثنا ﴿خلقاً جديداً *﴾ فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرر الخلق الجديد في جلودهم مكرراً كل لحظة
﴿كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب﴾ [النساء: ٥٦] ثم أتبعه بقاطع في بيان جهلهم فقال منبهاً على أنهم أولى بالإنكار عاطفاً على ما تقديره: ألم يروا أن الله الذي ابتدأ خلقهم قادر على أن يعيدهم ﴿أو لم يروا﴾ أي يعلموا بعيون بصائرهم علماً هو كالرؤية بعيون أبصارهم لما قام عليه من الدلائل، ونادى بصحته من الشواهد الجلائل ﴿أن الله﴾ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لا غيره ﴿الذي خلق السماوات﴾ جمعها لما دل على ذلك من الحسن، ولما لم يكن للأرض مثل ذلك أفردها مريداً الجنس الصالح للجمع فقال تعالى: ﴿والأرض﴾ على كبر أجرامها، وعظم أحكامها، وشدة أجزائها، وسعة أرجائها، وكثرة ما فيها من المرافق والمعاون التي يمزقها ويفنيها ثم يجددها ويحييها ﴿قادر على أن يخلق﴾ أي يجدد في
518
أي وقت أراد ﴿مثلهم﴾ بدءاً فكيف بالإعادة وهم أضغف أمراً وأحقر شأناً ﴿و﴾ أنه ﴿جعل لهم أجلاً﴾ لعذابهم أو موتهم أو بعثهم لأنه معلوم في نفسه ﴿لا ريب فيه﴾ بوجه من الوجوه لما تكرر لهم من مشاهدة أنه لا تؤخر نفس إذا جاء أجلها، وكذا لا تقدم على أجلها، فكم ممن اجتهد الضراغمة الأبطال وفحول الرجال في ضره أو قتله؛ وهم قاطعون أنه في قبضتهم فلم يقدروا على ذلك، ثم كان ذلك بأضعف الناس أو بأوهى سبب فعلم بذلك أنه المنفرد بالقدرة على الإيجاد والإعدام ﴿فأبى﴾ أي بلى قد علموا ذلك علماً كالمحسوس المرئي فتسبب عن ذلك السبب للإيمان أن أبوا - هكذا كان الأصل فأظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال: ﴿الظالمون﴾ أي أبى هؤلاء المتعنتون لظلمهم ﴿إلا كفوراً *﴾ أي جحوداً لعدم الشركة.
ولما قدم في هذه السورة أنه هو المعطي وأن عطاءه الجم - الذي فات الحصر، وفضل عن الحاجة، وقامت به الحجة على العباد في تمام قدرته وكمال علمه - غير محظور عن أحد، وأنهم يقتلون أولادهم مع ذلك خشية الإملاق، وهم يطلبون أن يظهر لهم من جنس ما خلق من الينابيع والجنات والذهب والزخرف على كيفيات مخصوصة لغير حاجة ما تقدم ذكره، وقد امتنعوا بخلاً وأنفة وجهلاً عن الاعتراف له بما أوجبه عليهم شكراً لنعمته، واستدفاعاً لنقمته، بعد قيام الدلائل وزوال
519
الشبه فلا أبخل منهم لأنهم بخلوا مما يجب عليهم من الكلام كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
«أبخل الناس من بخل بالسلام» أمره أن ينبههم على سفههم في ذلك بقوله تعالى: ﴿قل لو﴾.
ولما كان من حق «لو» الدخول على الأفعال، علم أن بعدها فعلاً من جنس ما بعد تقديره: تملكون ولكنه حذفه وفصل الضمير لأن المقصود الحكم عليهم بادىء بدء فقال تعالى: ﴿أنتم﴾ أي دون غيركم ﴿تملكون خزائن﴾ عبر بصيغة منتهى الجموع، لأن المقام جدير المبالغة ﴿رحمة﴾ أي إرزاق وإكرام ﴿ربي﴾ المحسن إليّ بإيتائي جميع ما ثبت أمري وأوضحه، وهي مقدوراته التي يرحم بها عباده بإضافتها عليهم ﴿إذاً لأمسكتم﴾ أي لوقع منكم الإمساك عن الإنفاق في بعض الوجوه التي تحتاجونها ﴿خشية﴾ عاقبة ﴿الإنفاق﴾ أي الموصل إلى الفقر، ثم استدل على صحة هذا المفروض بالمشاهد من مضمون قوله تعالى: ﴿وكان﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿الإنسان﴾ أي الذي من شأنه الإنس بنفسه، فهو لذلك لا يعقل الأمور حق عقلها ﴿قتوراً *﴾ أي بخيلاً ممسكاً غاية الإمساك لإمكان أن يكون فقيراً فلا تراه إلا مضيقاً في النفقة على نفسه، ومن
520
تلزمه نفقته، شديداً في ذلك وإن اتسعت أحواله، وزادت على الحد أمواله، لما فيه من صفة النقص اللازمة بلزوم الحاجة له، طبع على ذلك فهو في غريزته بالقوة، فكلهم يفعله إلا من وفقه الله تعالى فغلب عقله على هواه وقليل ما هم! أي فإذا كان هذا أمركم فيما تملكونه مع الحاجة إلى الوجوه المنفق فيها فكيف تطلبون من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لا يملكه، ولا ادعى القدرة عليه؟ أو من الخالق الحكيم أن يفعل ما تتعنتون به عبثاً بغير حاجة أصلاً، لأنه إن كان لإثبات قدرته فأنتم لا تمترون فيها، وإن كان لإثبات رسالة نبيكم فقد ثبت بأمور أعظمها هذا القرآن الذي مر آنفاً إقامة الدليل عليها به، وهتك أستار شبهتكم في استبعاد كون الرسول بشراً، والله تعالى قد أكرمكم بنبيكم عن أن يعاجلكم بالاستئصال عند العصيان بعد كشف الغطاء كما جرت به سنته في جميع الأمم، وإن كان لإثبات غناكم فهو شيء لا يغني نفوسكم فيردها عن طلب المزيد وعن التقتير لما طبعتم عليه. بل تكونون عند حصول ذلك لكم لحصول الغنى كالمستجير من الرمضاء بالنار، وهو قد قضى أنه يظهر أمره على كل من ناواه وإن كره الكافرون، وقد علم من يؤمن فييسر له الإيمان ويجعله
521
عوناً لحزب الرحمن، ومن لا يؤمن فهو يجعله مع أولياء الشيطان، ويذيق الكل الهوان، ويجعلهم وقوداً للنيران، فلم يبق بعد هذا كله في إجابتكم إلى تعنتكم إلا العبث الذي هو سبحانه متعال عنه، فلا وجه يحصل به الإنسان الغني إلا اتباع السنة والانسلاخ عن الهوى، فمن وصل إلى ذلك استوى عنده الذهب والحصباء.
522
ولما قدم سبحانه أن أكثر الناس جحد الآيات لكونه حكم بضلاله، ومن حكم بضلاله لا يمكن هداه، وختم بأن من جبل على شيء لم ينفك عنه، شرع يسلي نبيه عليه الصلاة والسلام بما اتفق لمن قبله من إخوانه الأنبياء، مع التنبيه على أنه يجود بالآيات على حسب المقتضيات، وعلى أن خوارق العادات لا تنفع في إيمان من حكم عليه بالضلال، وتوجب - كما في سنه الله - إهلاك من عصى بعد ذلك بعذاب الاستئصال، فقال عاطفاً على قوله ﴿ولقد صرفنا للناس﴾ :﴿ولقد ءاتينا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿موسى﴾ بن عمران المتقي المحسن عليه السلام لما أرسلناه إلى فرعون ﴿تسع آيات بينات﴾ وهي - كما في التوراة: العصى، ثم الدم، ثم الضفادع، ثم القمل، ثم موت البهائم، ثم البرد
522
الكبار التي أنزلها الله مع النار المضطرمة، فكانت تهلك كل ما مرت عليه من نبات وحيوان، ثم الجراد، ثم الظلمة، ثم موت الأبكار من الآدميين وجميع الحيوان - كما مضى ذلك في هذا الكتاب عن التوراة في سورة الأعراف، وكأنه عد اليد مع العصى آية، ولم يفرد اليد لأنه ليس فيها ضرر عليهم، وقد نظمتها ليهون حفظها فقلت:
عصى قمل موت البهائم ظلمة جراد دم ثم الضفادع والبرد
وموت بكور الآدمي وغيره من الحيّ آتاها الذي عز وانفرد
وهي ملخصة في الزبور فإنه قال في المزمور السابع والسبعين: صنع آياته وعجائبه في مصارع صاعان، وجعل أنهارهم دماً وصهاريجهم لكيلا يشربوا الماء: أرسل عليهم الهوام وذباب الكلاب فأكلهم الضفادع وأفسدهم، أطعم القمل ثمارهم والجراد كدهم، كسر بالبرد كرومهم، وبالجليد تبنهم، أسلم للبرد مواشيهم وللحريق أموالهم، أرسل عليهم شدة حنقه سخطاً وغضباً، أرسل ملائكة الشر، فتح طرق سخطه، ولم يخلص من الموت أنفسهم،
523
أسلم للموت دوابهم، قتل جميع أبكار مصر وأول أولادهم في مساكن حام. وقال في المزمور الرابع بعد المائة بعد أن ذكر صنائع الله عند بني إسرائيل وآبائهم: بعث جوعاً على الأرض، حطم زرع أرضهم، أرسل أمامهم رجلاً، بيع يوسف للعبودية، وأوثقوا بالقيود رجليه، صارت نفسه في الحديد حتى جاءت كلمته، وقول الرب ابتلاه، أرسل الملك فأطلقه، وجعله رئيساً على شعبه، وأقامه رباً على بنيه، وسلطانه على كل ما له، ليؤدب أراجينه كنفسه ويفقه مشايخه، دخل إسرائيل مصر، وتغرب يعقوب في أرض حام، وكثر شعبه جداً، وعلا على أعدائه، وصرف قلبه ليبغض شبعه ويغدر بعبيده، أرسل موسى عبده وهارون صفيه، فصنعا فيهم آياته وعجائبه في أرض حام، بعث ظلمة فصار ليلاً، وأسخطوا كلامه، فحول مياههم دماً، وأمات حيتانهم، وانبعثت أرضهم ضفادع في قياطين ملوكهم، أمر الهوام فجاء وذباب الكلب والقمل في جميع تخومهم، جعل أمطارهم برداً، واشتعلت النار في أرضهم، ضرب كرومهم وتبنهم، وكسر شجر تخومهم، أذن للجراد فجاء وذباب لا يحصى، فأكل جميع عشب الأرض وثمارها، وقتل كل أبكار مصر وأول ولد ولد لهم غير أنه لم يذكر العصى، وكأن ذلك لشهرتها
524
جداً عندهم، ولأن جميع الآيات كانت بها، فهي في الحقيقة الآية الجامعة للكل، وإنما قلت: إن الآيات هذه، لأن السياق يدل على أن فرعون رآها كلها، وعاند بعد رؤيتها، وذلك إشارة إلى أنه لو أعطى كفار قريش ما اقترحوه من تفجير الينبوع وما معه، لم يكفهم عن العناد، فالإتيان به عبث لا مصلحة فيه.
ولما كان اليهود الذين أمروا قريشاً بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الروح التي مضى الجواب عنها - كما في بعض الروايات - وعن أهل الكهف وذي القرنين الآتي شرح قصتيهما في الكهف، نبههم على سؤالهم - إن كانوا يقبلون كلامهم - عن أمر موسى عليه السلام في كونه كهذا النبي الكريم في أنه بشر مع كونه رسولاً وفي كونه أتى بالخوارق فكذب بها المعاندون فاستؤصل المكذب، فقال تعالى: ﴿فسئل﴾ أي يا أعظم خلقنا! ﴿بني إسراءيل﴾ أي عامة الذين نبهوا قريشاً على أمر الروح عن حديث موسى عليه السلام أو المؤمنين كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿إذ﴾ أي عن ذلك حين ﴿جاءهم﴾ أي جاء آباءهم، فوقع له من التكذيب بعد إظهار المعجزات الباهرات ما وقع لك، ولم يكذب لخلل من أمره ولا لقوة من عدوه على مدافعة
525
العذاب، وإنما كان جهلاً وعناداً، ليكون ذلك مسلاة لك وعلماً على خبث طباعهم وحجة قاطعة عليهم ﴿فقال﴾ أي فذهب إلى فرعون فأمره بإرسالهم معه فأبى فأظهر له الآيات واحدة بعد أخرى فتسبب عن ذلك ضد ما يقتضيه الحال، وهو أن قال ﴿له فرعون﴾ عتواً واستكباراً: ﴿إني لأظنك﴾ أكد قوله لما أظهر موسى عليه السلام مما يوجب الإذعان له والإيمان والإنكار لأن يكذبه أحد ﴿يا موسى مسحوراً *﴾ أي فكل ما ينشأ عنك فهو من آثار السحر الذي بك، خيال لا حقيقة له، وأنت في الحقيقة مسحور، ولوجود السحر عنك ساحر، قال أبو عبيد: كما يقال: ميمون - بمعنى يأمن. وكأنه موه على جنوده لما أراهم آية اليد بهذه الشبهة، وهذا كما قالت قريش ﴿إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً﴾ وقالوا في موضع آخر: ساحر، فإنهم ربما أطلقوا اسم المفعول مريدين اسم الفاعل مبالغة في أنه كالمجبر على الفعل، وفي الأمر بسؤال اليهود تنبيه على ضلالهم، قال الشيخ ولي الدين الملوي: ولعل منه اقتباس الأئمة في المناظرة مطالبة اليهود والنصارى ونحوهم بإثبات نبوة أنبيائهم، فكل طريق يسلكون يسلك مثله في تقرير
526
نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكل اعتراض يوردونه يورد عليهم مثله، وما كان جواباً لهم فهو جواب لنا، ومن تفطن للآية الكريمة رأى منها العجب في ذلك - انتهى ولم يؤمن فرعون على تواتر تلك الآيات وعظمها، فكأنه قيل: فما قال موسى عليه السلام؟ فقيل: ﴿قال﴾ لفرعون: ﴿لقد علمت﴾ أي أنا بضم التاء على قراءة الكسائي ليفيد أن عنده العلم القطعي بأن ما أتى به منزل من ربه، فهو أعقل أهل ذلك الزمان وليس على ما ادعاه فرعون، أو بفتح التاء - على قراءة الباقين أي أنك يا فرعون صرت بما أظهرته أنا من الأدلة في عداد من يعلم أنه ﴿ما أنزل﴾ على يدي ﴿هؤلاء﴾ الآيات ﴿إلا رب السماوات والأرض﴾ أي خالقهما ومدبرهما حال كون هذه الآيات ﴿بصائر﴾ أي بينات ثابتاً أمرها علياً قدرها، يبصر بها صدقي، وأما السحر فإنه لا يخفى على أحد أنه خيال لا حقيقة له ﴿وإني﴾ أي وإن ظننتني يا فرعون مسحوراً ﴿لأظنك﴾ أكد لما كان مع فرعون من ينكر قوله ويظهر القطع بسعادة فرعون ﴿يا فرعون مثبوراً *﴾ أي ملعوناً مطروداً مغلوباً مهلكاً ممنوعاً من الخير فاسد العقل، وظني قريب إلى الصحة بخلاف ظنك لعنادك لرب العالمين، لوضوح مكابرتك للبصائر التي كشف عنها وبها الغطاء، فهي أوضح من الشمس، وذلك لإخلادك إلى الحال
527
التي أنت بها وكسلك عن الانتقال عنها إلى ما هو أشرف منها، وقد بينت مدار «ثبر» في ﴿لا تثريب﴾ في سورة يوسف عليه السلام، فإذا راجعتها اتضح لك ما أشرت إليه ﴿فأراد﴾ أي فما تسبب عن هذا الذي هو موجب الإيمان في العادة إلا أن فرعون أراد ﴿أن يستفزهم﴾ أي يستخف موسى ومن آمن معه ويخرجهم فيكونوا كالماء إذا سال، من قولهم: فز الجرح: سال ﴿من الأرض﴾ بالنفي والقتل للتمكن من استعباد الباقين كما أراد هؤلاء أن يستفزوك من الأرض ليخرجوك منها للتمكن مما هم عليه من الكفر والعناد؛ ثم أخذ يحذرهم سطواته بما فعل بمن كانوا أكثر منهم وأشد فقال: ﴿فأغرقناه﴾ أي فتسبب عن ذلك أن رددنا - بما لنا من العظمة - كيده في نحره: فلم نقدره على مراده واستفززناه نحن فلم يقدر على الامتناع، بل خف غير عالم بما نريد به حتى أدخلناه في البحر حيث أدخلنا بني إسرائيل فأنجيناهم وأغرقناه ﴿ومن معه جميعاً *﴾ كما جرت به سنتنا فيمن عاند بعد أن
528
رأى الخوارق وكفر النعمة وأفرط في البغي بعد ظهور الحق، فليحذر هؤلاء مثل ذلك ولا سيما إذا أخرجنا رسولنا من بين ظهرانيهم ففي هذه الآية وأمثالها بشارة له بإسلاكنا له في النصرة، والتمكن سبيل إخوانه من الرسل عليهم السلام ﴿وقلنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا يتعاظمها شيء.
529
ولما كان هذا القول غير مستغرق لزمان البعد، أثبت الجار فقال تعالى: ﴿من بعده﴾ أي الإغراق ﴿لبني إسراءيل﴾ الذين كانوا تحت يده أذل من العبيد لتقواهم وإحسانهم: ﴿اسكنوا الأرض﴾ أي مطلق الأرض إشارة إلى أن فرعون كان يريد محوهم عن الأرض أو إلى أن سكناهم مع وجوده كانت عدماً، لما بهم من الذل - والأرض التي أراد أن يستفزهم منها، وهي أرض مصر، أي صيروا بحيث تسكنونها لا يد لأحد عليكم، ولا مانع لكم مما تريدون منها، كما كان فرعون وجنوده إذا شئتم مملكين فيها بعد أن كنتم عبيداً تسامون سوء العذاب ﴿فإذا جاء﴾ أي مجيئاً محققاً ﴿وعد الآخرة﴾ أي القيامة بعد أن سكنتم الأرض أحياء ودفنتم فيها أمواتاً ﴿جئنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿بكم﴾ منها ﴿لفيفاً *﴾ أي بعثناكم وإياهم مختلطين، لا حكم لأحد على آخر، ولا دفع لأحد عن آخر على غير الحالة التي كانت في الدنيا، ثم ميزنا
529
بعضكم عن بعض، ونعمنا الطيب منكم بإهانة الخبيث، أن يسأل بنو إسرائيل الذين يقبل هؤلاء المشركون الجهلة كلامهم ويستنصحونهم في أمورهم - عن هذا الذي تلوناه عليك يخبروا به كما أخبرناك، فيثبت حينئذ عندهم أمر الآخرة، وإلا كان قبولهم لبعض كلامهم دون بعض بغير دليل تحكماً وترجيحاً من غير مرجح.
ولما ثبت أمر الحشر بإثبات القدرة على كل ممكن تارة، وبإخبار بني إسرائيل الذين ألزموا أنفسهم قبول كلامهم وقطع المفاوز إليهم لسؤالهم عن بعض الأمور أخرى، ثبت أن هذا القرآن المخبر بذلك حق، وكانوا قد سألوه عن المسائل المذكورة فأجابهم عن أولها وهي الروح بأمر مجمل وعقبه بأنهم سألوه في أشياء اقترحوها وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفعلها، وأشار تعالى بالإخبار عن آيات موسى عليه السلام إلى أنه لم يترك إجابتهم بخلاً ولا عجزاً، فإنها من جنس ما سألوا من التصرف في المياه تارة بإنزالهما وتارة بتبديلها دماً الموجب للقدرة على إنبات الأشجار بها، ومن إسقاط السماء كسفاً بإسقاط البرد المهلك، فثبت بذلك صحة الإخبار بتصريف الأمثال في هذا الكتاب،
530
فعطف على قوله: ﴿ولقد صرفنا﴾ قوله تعالى: ﴿وبالحق﴾ أي من المعاني الثابتة التي لا مرية فيها لا بغيره ﴿أنزلناه﴾ نحن القرآن أو هذا الذي أخبر منه بالحشر لبني إسرائيل ملتفين بالقبط وبما قبله على ما لنا من العظمة ﴿وبالحق﴾ لا بغيره ﴿نزل﴾ هو ووصل إليهم على لسانك بعد إنزاله عليك كما أنزلنا سواء غضاً طرياً محفوظاً لم يطرأ عليه طارىء، فليس فيه شيء من تحريف ولا تبديل كما وقع في كتاب اليهود الذين يسألهم قومك، فأفاد هذا أن القرآن معجز بكونه مع إعجازه بالبلاغة في تصريف الأمثال، وغيرها من نظم المقال ﴿وما أرسلناك﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿إلا مبشراً ونذيراً *﴾ على غاية التمكن في كل من الوصفين - بما أشار إليه الواو والصيغة، تبلغهم ما فيه من بشارة لمن آمن بذلك اليوم، ونذارة لمن لم يؤمن به، فإن قبلوا فهو حظهم، وإن لم يقبلوا كان عليهم وزرهم، ولم يكن عليك لوم، فإنا ما أرسلناك عليهم وكيلاً، وسنزهق باطلهم بهذا الحق لا محالة، فلا تستعجل لهم ﴿إن الباطل كان زهوقاً﴾ ولم نرسلك لتفجير الأنهار ولا إنبات الأشجار؛ ثم أخبر أن الحكمة في إنزال القرآن منجماً فقال تعالى: ﴿وقرءاناً﴾ أي وفصلنا أو وأنزلنا قرآناً ﴿فرقناه﴾ أي أنزلناه منجماً في أوقات
531
متطاولة وميزناه بالحقيقة عن كل باطل، وبالإعجاز عن كل كلام ﴿لتقرأه على الناس﴾ أي عامة كل من أمكنك منهم، فإنك مرسل إليهم كلهم.
ولما كانوا لما لهم من النوس في غاية الزلزلة، لا يتهذبون إلا في أزمان طويلة وعلاج كبير، قال مشيراً إلى ذلك: ﴿على مكث﴾ أي تؤدة وترسل بأن تقرأ منه كل نجم في وقته الذي أنزلناه فيه مدة ثلاث وعشرين سنة ﴿ونزلناه﴾ من عندنا بما لنا من العظمة ﴿تنزيلاً *﴾ بعضه في إثر بعض، مفرقاً بحسب الوقائع لأنه أتقن في فصلها، وأعون على الفهم لطول التأمل لما نزل من نجومه في مدة ما بين النجمين لغزارة ما فيه من المعاني، وكثرة ما تضمنه من الحكم، وذلك أيضاً أقرب للحفظ، وأعظم تثبيتاً للفؤاد، وأشرح للصدر، لأن أخبار الحبيب إذا كانت متواصلة كان المحب كل يوم في عيد، بهناء جديد، فعلنا بك ذلك لما تقدم من أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فلما طالت الدلائل، وزالت الشبه، وعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فلما طالت الدلائل، وزالت الشبه، وعلم أن الحظ لمن أقبل، والخيبة لمن أدبر، أمره أن يقول منبهاً لهم على ذلك
532
مبكتاً لهم بتقاعسهم عنه وعنادهم فيه بقوله تعالى: ﴿قل آمنوا به﴾ أي القرآن ﴿أو لا تؤمنوا﴾ فالإيمان به غير محتاج إليكم ولا موقوف عليكم لأنكم إن آمنتم به كان الحظ لكم، وإلا لم تضروا إلا أنفسكم، وهو احتقار لهم حيث صرف لهم من كل مثل فأبوا إلا كفوراً، ثم علل ذلك بما يقبل بكل ذي لب إليه، فإن كان ل «قل» فهو تسلية له صل الله عليه وعلى آله وسلم، وإن كان لما بعدها فهو تبكيت لهم وتحقير، فقال تعالى: ﴿إن الذين أوتوا العلم﴾ وبني للمفعول دلالة على أن العلم الرباني - وهو العلم في الحقيقة من أيّ مؤتٍ كان، حاث على الإيمان بهذا القرآن، وتنبيهاً على أن من كان يعلم ولا يحمله علمه على الإيمان بهذا الكتاب الذي لا شيء أبين من حقيقته بمصادقته لكتب الأنبياء الذين ثبتت رسالاتهم ومضت عليها الدهور، واطمأنت بها النفوس، وزيادته عليها بما أودعه الله من الإعجاز والحكم - فعلمه كلا علم بل هو أجهل الجهلة، سواء كان ممن سألتموه عني أو من غيرهم - كما سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في الزمر.
ولما كان المراد أن من اتصف بهذا الوصف ولو زمناً يسيراً نفعه، أدخل الجار فقال مرغباً في العلم ليحمل على الإيمان بالقرآن: ﴿من قبله﴾ أي قبل إنزاله ممن آمن من بني إسرائيل
533
الذين أمرني الله بسؤالهم تسميعاً لكم وتثبيتاً لكونكم أقبلتم عليهم بالسؤال وجعلتموهم محط الوثوق: ﴿إذا يتلى﴾ أي من أيّ تالٍ كان ﴿عليهم﴾ في وقت من الأوقات، ينقلهم من حال إلى حال، فيرقيهم في مدارج القرب ومعارج الكمال، إلى أعلى الرتب، بأنهم ﴿يخرون﴾ أي يسقطون بسرعة؛ وأكد السرعة وأفاد الاختصاص بقوله تعالى: ﴿للأذقان﴾ باللام دون إلى أو على، دالاً بالأذقان على أنهم من شدة ما يحصل لهم من الخشوع يسقطون سقوط من ليس له اختيار، وأول ما يلاقي الأرض ممن يسقط كذلك ذقنه، وهو مجتمع اللحيين من منبت لحيته - فإن الإنسان مجبول بالطبع على صيانة وجهه، فهو يرفع رأسه فتصير ذقنه وفمه أقرب ما في وجهه إلى الأرض حال السقوط، ولهذا قال شاعرهم: فخر سريعاً لليدين وللفم.
ثم بين أن ذلك ليس سقوطاً اضطرارياً من كل جهة بقوله تعالى: ﴿سجداً *﴾ أي يفعلون ذلك لما يعلمون من حقيته بما أوتوا من العلم السالف، وما في قلوبهم من الإذعان، والخشية للرحمن ﴿ويقولون﴾ أي على وجه التحديد المستمر: ﴿سبحان ربنا﴾ أي تنزه
534
الموجد لنا، المدبر لأمورنا، المحسن إلينا، عن شوائب النقص، لأنه وعد على ألسنة رسلنا أن يبعثنا بعد الموت ووعده الحق، فلا بد أن يكون، ووعد أن يأتي بهذا الكتاب على لسان هذا النبي العربي، وأوصل هذا الوعد إلينا في الكتب السالفة فأنجز ما سبق به وعده ﴿إن﴾ أي أنه ﴿كان﴾ أي كوناً لا ينفك ﴿وعد ربنا﴾ أي المحسن إلينا بالإيمان، وما تبعه من وجوه العرفان ﴿لمفعولاً *﴾ دون خلف، ولا بد أن يأتي جميع ما وعد به من الثواب والعقاب، وهو تعريض بقريش حيث كانوا يستهزئون بالوعيد في قولهم ﴿أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً﴾ ونحوه مما معناه الطعن في قدرة الله القادر عل كل شيء ﴿ويخرون﴾ عند تكرار سماعه ﴿للأذقان﴾ مع سجودهم ﴿يبكون ويزيدهم﴾ تكراره ﴿خشوعاً *﴾ أي خضوعاً وتواضعاً وإخباتاً، فإن كان سؤالكم إياهم لتؤمنوا إذا أخبروكم أني على الحق فآمنوا، وإن كان لغير ذلك فقد تبين سفهكم وضعف أمركم وسوء رأيكم، وعبر في البكاء بالفعل إشارة إلى تجدده في بعض الأحيان لما لهم في بعضها من السرور ببعض ما أبيح من الملاذ، وفي السجود بالاسم إشارة إلى دوام ذلهم بالسجود المشروع، أو بمطلق الخضوع، وسيأتي في سورة مريم ما يزيده وضوحاً.
535
ولما كان إيمان أهل العلم الأول به وإذعانهم له وتركهم لأديانهم - التي أخذوها عن الأنبياء الآتين إليهم بالكتب لأجله بعد إقامة الدليل القاطع على أنه من عند الله - موجباً لكل من له أدنى إنسانية أن يؤمن به ويقبل عليه ويدعو من أنزله دون غيره دائماً، لا في أوقات الشدة فقط ﴿وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه﴾ وكانت أوقات الإجابة أولى بالدعاء من غيرها، وكانت حالة السجود لا سيما مع البكاء والخشوع أولاها «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» كان المعاندون من العرب كأنهم قالوا لأن ذلك من شأنهم ومن حقهم بعد ما قام من الأدلة: آمناً فعلِّمنا كيف ندعو وبأيّ اسم نهتف؟ ولما كان الجلالة هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، وكان قد ورد في النحل من التنويه به ما لم يرد في غيرها لما تقدم من الأسرار مع أنه عد فيها من النعم ما لم يعد في غيرها، ومنها تعليم الإنسان البيان، وذلك أليق باسم الرحمن ﴿الرحمن علم القرآن﴾ [الرحمن: ١] الآيات، وكانت الرحمة دنيوية وأخروية من الخالق ومن الخلائق قد كررت في هذه السورة ثماني مرات ﴿عسى ربكم أن يرحمكم﴾، ﴿جناح الذل من الرحمة﴾،
536
﴿وقل رب ارحمهما﴾ ﴿ابتغاء رحمة من ربك﴾، ﴿ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم﴾، ﴿إنه كان بكم رحيماً﴾، ﴿إلا رحمة من ربك﴾ خزائن رحمة ربي وكان ذلك ظاهراً في إرادة عمومها، فكان اسم الرحمن به أليق، وقع الجواب بقوله تعالى: ﴿قل ادعوا الله﴾ أي الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في ذات إحاطته ﴿أو ادعوا الرحمن﴾ في معنى استغراقه بالرحمة، أي سموا - أي أوقعوا الدعاء مسمين في حال دعائكم - ربكم الذي سبحتموه في السجود بأي اسم أردتم مما أذن فيه، فاهتفوا بهذا الاسم الدال على الجلال، واستحقاق مسماه الدعاء لذاته، أو بهذا الاسم الدال على الجمال واستحقاقه الدعاء لإنعامه، مطلقاً وفي حالة السجود ﴿أيّاً ما تدعوا﴾ أي به من أسمائه فقد حصلتم به على القصد، فإن المسمى واحد وإن تعددت أسماؤه الدالة على الشرف. ولما كان في الرحمن جمال ظاهر في باطنه جلال، لأن عموم الرحمة لبعض نعمة، ولبعض استدراج ونقمة، فكان لذلك جامعاً لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، سبب عن ذكر كل من الاسمين: العلم الجامع، والوصف الواقع موقعه، قوله: ﴿فله﴾ أي المسمى بهذين الاسمين وحده، وهو الواحد الأحد ﴿الأسماء الحسنى﴾ هذان الاسمان
537
وغيرهما مما ورد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو دال على التحميد والتمجيد والتقديس والتعظيم، فهذا الضمير استخدام، وقد تضمن هذا القول أن معنى اسم الرحمن أشمل من اسم الرحيم وإن كان بناء كل منهما للمبالغة؛ قال الإمام أبو الحسن الحرالي رحمه الله في شرحه للأسماء الحسنى: الرحمانية استغراق الخلق بالرحمة في إنشائهم، والرحيمية إجراء الخلق على ما يوافق حسهم ويلائم خَلقهم وخُلقهم ومقصد أفئدتهم، فإذا اختص ذلك بالبعض كان رحيمية، وإذا استغرق كان رحمانية ولاستغراق معنى اسم الرحمن لم يكن لتمام معناه وجود الخلق، فلم يجر بحق على أحد منهم، وإنما يوجد فيهم حظ خاص من معناه يجري عليهم به اسم الرحيم لا اسم الرحمن، فلذلك لحق اسم الرحمن في معنى استغراقه باسم الله في ذات إحاطته فقال تعالى ﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن﴾ فإذا تحقق القلب اختصاصه بالله علماً كان أصلاً للفظ به قولاً فعلمت أنه لا رحمن إلا الله كما أنه لا إله إلا الله، ولحق باسم الإله فقد علم فقد التمام لمعناه في الخلق كما قد فقد أصل علم الاعتبار من معناه في اسم إله، والتوحيد في اسم الرحمن واجب لاحق بالفرض في توحيد الإله، ولذلك ولي اسم الله في موارده في الكتب وفي هذا التعديد أي الوارد في
538
حديث الترمذي والبزار وغيرهما من أسماء الله الحسنى عن أبي هريرة رضي الله عنه - انتهى.
وقد مر في آخر الحجر ما ينفع هنا.
ولما ذكر السجود وعقبه بالدعاء، أشار إلى أنه في كل حالة حسن، وفي الصلاة أولى وأحسن، بعد أن ذكر قريباً الصلوات الخمس، وكان ربما فهم من قوله ﴿إن قرءان الفجر كان مشهوداً﴾، ومن قوله: ﴿إذا يتلى عليهم﴾ قوة الجهر به قال تعالى: ﴿ولا تجهر بصلاتك﴾ أي بقراءتك فيها، أو سمى القراءة صلاة لأنها شرط فيها جهراً قوياً حتى تسمعه المشركون، فإن المخالفين قد عرف عنادهم فلا يؤمن سبهم للقرآن ولمن أنزله ولمن جاء به، بل كانوا يفعلون ذلك ويلغون، وربما صفقوا وصفروا ليغلطوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويخلطوا عليه قراءته ﴿ولا تخافت﴾ أي تسر ﴿بها﴾ إسراراً بليغاً كأنك تناظر فيه آخر بحيث لا تسمع من وراءك ليأخذوه عنك ﴿وابتغ﴾ أي اطلب بغاية جهدك ﴿بين ذلك﴾ أي الجهر والمخافتة التي أفهمت أداة البعد عظمة شأنهما ﴿سبيلاً *﴾ أي طريقاً وسطاً؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مختفٍ بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن،
539
فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿ولا تجهر بصلاتك﴾ أي بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ﴿ولا تخافت بها﴾ عن أصحابك فلا تسمعهم - انتهى.
أطلق هنا اسم الكل على الجزء إشارة إلى أن المقصود الصلاة وفيما تقدم اسم الجزء على الكل لأن المقصود الأعظم هناك القراءة في الفجر، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في الدعاء، وقد تقدم غير مرة أنه ليس ببدع أن يكون للشيء أسباب كثيرة.
ولما تقدم إحاطة هذين الاسمين، أما الله فبجميع معاني الأسماء الحسنى، وأما الرحمن فبالرحمانية، المأمور بالدعاء بهما كل مخاطب، خصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالأمر بالتحميد الذي معناه الإحاطة واسمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مشتق منه لاتصافه به حامداً ومحموداً، وبالتكبير عن كل ما يفهمه العباد من أسمائه الحسنى فقال تعالى: ﴿وقل الحمد﴾ أي الإحاطة بالأوصاف الحسنى ﴿لله﴾ أي الملك الأعظم ﴿الذي لم يتخذ﴾ لكونه محيطاً بالصفات الحسنى ﴿ولداً﴾ فإن ذلك لا يكون إلا للحاجة وبالحاجة وهي من أسوأ الأوصاف ﴿ولم يكن﴾ أي يوجد بوجه من الوجوه ﴿له شريك في الملك﴾
540
ولا ولد ولا غيره فإن ذلك لا يكون إلا بالعجز ﴿ولم يكن له ولي﴾ ناصر أعم من أن يكون ذلك الناصر ولداً أو شريكاً أو غيره: ثم قيده واصفاً بقوله تعالى: ﴿من الذل﴾ إفهاماً بأن له أولياء جاد عليهم بالتقريب وجعلهم أنصاراً لدينه رحمة منه لهم لا احتياجاً منه إليهم ﴿وكبره﴾ عن أن يشاركه أحد في شيء من الأشياء وعن كل ما يفهمه فاهم، ويصفه به واصف، والتكبير أبلغ لفظ للعرب في معنى التعظيم والإجلال - قاله أبو حيان. وأكد بالمصدر تحقيقاً له وإبلاغاً في معناه، أي فقال: ﴿تكبيراً﴾ عن أن يدرك أحد كنه معرفته أو يجهله أحد من كل وجه، بل احتجب سبحانه بكبريائه وجلاله فلا يعرف، وتجلى بإكرامه وكماله فلا ينكر، فكان صريح اتصافه بالحمد أنه تعالى متصف بجميع صفات الكمال، وصريح وصفه بنفي ما ذكر أنه منزه عن شوائب النقص وأنه أكبر من كل ما يخطر للعباد المطبوعين على النقص المجبولين على غزائز العجز، ولذلك وغيره من المعاني العظمى سمى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الآية آية العز كما رواه الإمام أحمد عن سهل عن أبيه رضي الله عنهما، وذلك عين ما افتتحت
541
به السورة من التنزيه وزيادة - والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
542
مقصودها وصف الكتاب بأنه قيم، لكونه زاجراً عن الشريك الذي هو خلاف ما قام عليه الدليل في) سبحان (من أنه لا وكيل دونه، ولا إله إلا هو، وقاصّاً بالحق أخبار قوم قد فضلوا في أزمانهم وفق ما وقع الخبر به في) سبحان (من أنه يفضل من يشاء، ويفعل ما يشاء، وأدل ما فيها على هذا المقصد قصة أهل الكهف لأن خبرهم أخفى ما فيها من القصص مع أن سبب فراقهم لقومهم الشرك، وكان
1
أمرهم موجباً - بعد طول رقادهم - للتوحيد وإبطال الشرك) بسم الله (الذي لا كفوء له ولا شريك) الرحمن (الذي أقام عباده على أوضح الطرق بقيم الكتاب) الرحيم (بتفضيل من اختصه بالصواب.
2
Icon