ﰡ
فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفةً، فأوحى الله إليهِ أن أَلقِ عصاك، فلما ألقاها صارت ثُعباناً عظيماً فاغرةً فاها/، فجعلت العصا تلبس بالحبال حتى صارت جُرزاً على الثُّعبانِ تدخل فيه، حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتلعتهُ، فلما عرف السحرةُ ذلك، قالوا: لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كُلُّ هذا، ولكنه أمرٌ من اللهِ، آمنَّا باللهِ وبما جاء به موسى، ونتوبُ إلى الله مما كُنَّا عليه. فكسر اللهُ ظهر فرعون في ذلك الموطن وأتباعِهِ، وظهر الحقُّ وبطل ما كانوا يعملون﴿ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ﴾[الأعراف: ١١٩] وامرأةُ فرعون بارزةٌ تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعهِ، فمن رآها من آل فرعون، ظنَّ أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعهِ وإنما كان حُزنها وهمُّها لموسى. فلما طال مُكْثُ موسى بمواعدِ فرعون الكاذبة، كُلَّمَا جاءهُ بآيةٍ وعدهُ عندها أن يرسل معهُ بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده، وقال: هل يستطيع رَبُّكَ أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله عز وجل على قومِهِ﴿ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ ﴾[الأعراف: ١٣٣]، كُلُّ ذلك يشكوا إلى موسى، ويطلب إليه أن يكفها عنهُ، ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه، أخلف موعده، ونكث عهدهُ. حتى أُمر موسى بالخروج بقومِهِ، فخرج بهم ليلاً، فلما أصبح فرعون، فرأى أنهم قد مضوا، أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنودٍ عظيمةٍ كثيرةٍ، وأوحى اللهُ تعالى إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفرق اثنتي عشرة فرقةً، حتى يُجاوز موسى ومن معهُ، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعهِ، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا، فانتهى إلى البحر، وله قصيفٌ مخافة أن يضربهُ موسى بعصاهُ، وهو غافل، فيصير عاصياً للهِ. فلما تراءى الجمعانِ تقاربا، قال قوم موسى: إنا لمدركون، افعل ما أَمَرَكَ به رَبُّكَ فإنه لم يكذب/ ولم تكذب، قال: وعدني ربي إذا أتيتُ البحر انفرق اثنتي عشرةَ فرقةً، حتى أُجاوزهُ، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائلُ جُند فرعون من أواخر جُندِ موسى، فانفرق البحر كما أمرهُ ربُّهُ، وكما وُعِدَ موسى، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر، ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما أُمر، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابُهُ: إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق ولا نؤمنُ بهلاكهِ، فدعا رَبَّهُ فأخرجه له ببدنهِ حتى استيقنوا هلاكهُ، ثم مَرُّوا بعد ذلك﴿ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾[الأعراف: ١٣٨-١٣٩] قد رأيتم من العبر، وسمعتم ما يكفيكم. ومضى فأنزلهم موسى منزلاً وقال لهم: أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم، فإني ذاهبٌ إلى ربيِّ، وأجَّلَهُمْ ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه [أراد] أن يُكلِّمهُ في ثلاثين يوماً، وقد صامَهُنَّ: ليلهُنَّ ونهارهَنَّ، وكره أن يُكلم ربهُ وَرِيحُ فِيهِ ريحُ فمِ الصَّائِمِ، فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضغهُ، فقال له ربه حين أتاهُ: لم أفطرتَ؟ - وهو أعلمُ بالذي كان، قال: يا ربِّ إنِّي كرهتُ أن أُكَلِّمَكَ إلا وفمي طيبُ الريحِ، قال: أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيبُ من ريح المسكِ؟، ارجع فصم عشراً، ثم ائتني، ففعل موسى عليه السلام ما أمرهُ بِهِ، فلما رأى قوم موسى أنهُ لم يرجع إليهم في الأجلِ ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عواري وودائعُ، ولكم فيهم مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا ما لكم عندهم، ولا أُحِلُّ لكم وديعةً استودعتُمُوها، ولا عاريةً، ولسنا برادين إليهم/ شيئاً من ذلك، ولا مُمسيه لأنفسنا، فحفر حفيراً، وأمر كل قومٍ عندهم من ذلك من متاعٍ أو حليةٍ أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقهُ، فقال: لا يكون لنا ولا لهم. وكان السامريُّ من قومٍ يعبدون البقر، جيرانٌ لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا فقُضِيَ له أن رأى أثراً فأخذ منه قبضةً، فمرَّ بهارون فقال له هارون عليه السلامُ: يا سامريُّ ألا تُلقي ما في يدكَ؟ وهو قابضٌ عليه لا يراه أحدٌ طوال ذلك، فقال: هذه قبضةٌ من أثرِ الرسولِ الذي جاوز بكم البحر، فلا أُلقيها بشيءٍ إلا أن تدعو الله إذا ألقيتُ أن يكون ما أُريدُ، فألقاها ودعا له هارونُ، فقال أُريدُ أن تكون عجلاً، فاجتمع ما كان في الحفرةِ من متاعٍ أو حليةٍ أو نحاسٍ أو حديدٍ فصار عجلاً أجوف ليس فيه روحُ لهُ خُوَارٌ. قال ابنُ عباسٍ: لا واللهِ ما كان لهُ صوتٌ قط، إنما كانت الريحُ تدخلُ من دُبُرِهِ وتخرجُ من فيهِ، فكان ذلك الصوتُ من ذلك. فتفرق بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقةٌ: يا سامريُّ، ما هذا وأنت أعلمُ به؟ قال: هذا ربُّكُمْ، ولكن موسى أضلَّ الطَّريق، فقالت فرقةٌ: لا نُكذبُ بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان رَبَّنَا لم نكن ضيعناهُ وعجزنا فيه حين رأينا، وإن لم يكن رَبَّنَا فإنَّا نتبعُ قول موسى. وقالت فرقةٌ: هذا عملُ الشيطانِ، وليس بربنا، ولن نؤمن به، ولا نُصَدِّقُ، وأُشربَ فرقةٌ في قلوبهم الصدق بما قال السامريُّ في العجلِ وأعلنُوا التَّكذيب بهِ، فقال لهم هارون: يا قوم إنما فُتنتم به، وإن ربكم الرحمن، [هكذا] قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا؟ هذه أربعون قد مضت. فقال سُفهاؤُهم: أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه، فلما كلم الله موسى عليه السلام وقال له ما قال، أخبره/ بما لقي قومه من بعده، فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً، قال لهم ما سمعتم في القرآن وأخذ برأسِ أخيه يجره إليه، وألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره، واستغفر له، فانصرف إلى السامريِّ فقال له ما حملك على ما صنعت، قال: قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنتُ إليها، وعميت عليكم، فقذفتها﴿ وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً ﴾[طه: ٩٦-٩٧]، ولو كان إلهاً لم نخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا: - لجماعتهم - يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبةٍ نصنعها فيكفر عنا ما عملنا، فاختار موسى قومه سبعين رجلاً لذلك، لا يأْلُوا الخير، خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة، فرجفت بهم الأرض واستحيا نبي الله صلى الله عليه وسلم من قومه ومن وفده حين فُعل بهم ما فُعل، فقال﴿ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ ﴾[الأعراف: ١٥٥] وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أُشرب قلبه من حُبِّ العجل وإيمانٍ به، فلذلك رجفت بهم الأرض، فقال:﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ ﴾[الأعراف: ١٥٦-١٥٧].
فقال: يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت: إن رحمتي كتبتها لقومٍ غير قومي فليتك أخرتني حتى تُخرجني في أُمة ذلك الرجل المرحومة، فقال له: إن توبتهم أن يقتل كُلُّ رجلٍ منهم كل من لقي/ من والدٍ وولدٍ، فيقتله بالسيف لا يُبالي من قتل في ذلك الموطن، ويأتي أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون، واطلع اللهُ من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أُمروا، وغفر اللهُ للقاتل والمقتول، ثم سار بهم موسى صلى الله عليه وسلم مُتوجهاً نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أُمر به أن يبلغهم من الوظائف، فثقُل ذلك عليهم، وأبوا أن يُقروا بها، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلةٌ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مُصطفون، ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قومٌ جبارون، خلقهم خلق منكرٌ، وذكر من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمِها فقالوا: يا موسى إن فيها قوماً جبارين، لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون - قيل ليزيد هكذا قرأهُ؟ قال: نعم - من الجبارين آمنا بموسى، وخرجا إليه، فقالوا: نحن أعلمُ بقومنا، إن كُنتم إنما تخافون [من] ما رأيتم من أجسامهم وعددهم، فإنهم لا قلوب لهم، ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. ويقول أُناسٌ: إنهما من قوم موسى، فقال الذين يخافون بنو إسرائيل﴿ قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾[المائدة: ٢٤] فأغضبوا موسى عليه السلام، فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذٍ، فاستجاب اللهُ تعالى له، وسماهم كما سماهم موسى فاسقين. فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، يُصبحون كل يومٍ فيسيرون/ ليس لهم قرارٌ، ثم ظلل عليهم الغمام في التِّيهِ، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخُ، وجعل بين أظهرهم حجراً مربعاً، وأمر موسى فضربه بعصاهُ فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كُلَّ سبطٍ عينهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من منقلةٍ إلا وجدوا ذلك الحجر بالمكان الذي كان فيه بالأمسِ. رفع ابن عباسٍ هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباسٍ حدث هذا الحديث، فأنكر عليه أن يكون الفرعونيُّ الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل، فقال: كيف يُفشي عليه ولم يكن علم به، ولا ظهر عليه إلا الإسرائيليُّ الذي حضر ذلك، فغضب ابن عباسٍ فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالكٍ الزُّهري، فقال له: يا أبا إسحاق هل تذكر يوماً حُدِّثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟، الإسرائيليُّ أفشى عليه أم الفرعونيُّ؟ قال: إنما أفشى عليه الفرعونيُّ ما سمع من الإسرائيليِّ شهد على ذلك وحضرهُ.
٣٤٧- أنا محمدُ بن عبد الأعلى، نا خالدٌ، نا عثمانُ، أن أبا نضرة حدثهم، عن أبي سعيد الخُدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" " يُجمعُ الناس عند جسر جهنم، وإن عليه حسكاً وكلاليب، ويمر الناسُ، قال: فيمرُّ منهم مثل البرق، وبعضهم مثل الفرس المُضمرِ، وبعضهم يسعى، وبعضهم يمشي وبعضهم يزحف، والكلاليب تخطفهم والملائكة بجنبتيه: اللَّهُمَّ سلِّم سلِّم، والكلاليبُ تخطفهم "، قال: " فأما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون، وأما أُناسٌ يُؤخذون بذنوبٍ وخطايا يحترقون فيكونون/ فحماً، فيؤخذون ضباراتٍ ضباراتٍ، فيُقذفون على نهر من الجنةِ، فينبتون كما تنبت الحبةُ في حميل السيل "، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل رأيتم الصبغاء؟ بعدُ يُؤذن لهم فيدخلون الجنة " ".