تفسير سورة طه

بيان المعاني
تفسير سورة سورة طه من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

تفسير سورة طه ٤٥- ٢٠
نزلت بمكة بعد سورة مريم عدا الآيتين ١٣٠ و ١٣١ فإنهما نزلنا بالمدينة، وهي مائة وخمس وثلاثون آية، والف وستماية واحدي وأربعون كلمة، وخمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة أو مختومة بما بدأت وختمت به (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى «طه» اسم من أسمائه ﷺ كما مرّ في سورة يس، واسم للسورة، ومفتاح أسماء الله تعالى الهادي، هو الباسط المعطي، وقال بعض المفسرين ان معناه طأها أي الأرض، لأنه ﷺ كان يقوم إلى ربه على رجل واحدة في تهجده، وقيل أصله يا رجل بلغة عكّ، أو أصلها يا هذا، فتصرفوا فيها بالقلب والاختصار، مستدلين بقول القائل:
إن السفاهة طاها في خلائقكم لا قدس الله أخلاق الملاعين
أقول غير جدير بالقبول لعدم الاستناد فيها إلى شيء صحيح، وما ذكرناه هو الأولى والأنسب، لاستناده للحديث الذي أوردناه أول سورة يس، يؤيده الخطاب في قوله تعالى «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» في المبالغة في مكابدة العبادة قد يعتريك فيه التعب الشديد، أو في هلاك نفسك في محاورة العتاة ومجادلة الطغاة من قومك من فرط الأسى والتحسر على عدم إيمانهم «إِلَّا» أي ما أنزلناه عليك يا أكرم الرسل لشقائك به، ولكن «تَذْكِرَةً» تذكرهم به وعفة «لِمَنْ يَخْشى» ٣ الله ويتأثر بالإنذار به لرفة قلبه ولين عريكته لينتفع به، لا كما زعم المشركون، وذلك أن رسول الله ﷺ كان يجتهد في عبادة ربه في مكة حتى تورمت قدماه، فلما رأى ذلك منه المشركون قالوا ما أنزل الله عليه الوحي الذي يزعم إلا لشقائه، وكان ﷺ يجهد نفسه بالعبادة من جهة ومن أخرى بدعوة قومه إلى ربه ويلح على نفسه في هذين الأمرين، لأنهما غاية مطلبه ونهاية قصده في الدنيا، فأنزل الله عليه هذه الآية ليخفف عن نفسه الشريفة ما حملها من الأعباء، ويقتصد بالعبادة والدعوة
181
«تَنْزِيلًا» مفعول مطلق أي أن هذا القرآن نزل عليك يا محمد «مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى» ٤ كما يقوله كفرة قومك من كونه سحر أو كهانة أو من خرافات الأولين أو من تعليم الغير، بل هو من الله الخالق لهذين الحرمين العظيمين وهو «الرَّحْمنُ» الذي وسعت رحمته كل شيء عزت قدرته وجلت عظمته «عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» ٥ استواء يليق بذاته ويراد ممنه الظهور والاستيلاء والتمكن.
مطلب العرش ومعنى الاستيلاء عليه:
والعرش لغة السرير ذو القوائم، أما عرش الرحمن فهو شيء يليق بذاته لا يعلم حقيقته على الحقيقة إلا الله، إلا أنه شيء يحمل لقوله تعالى (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الآية ١٥ من سورة الحاقة- في ج ٢ وهذه الآية تدل على عظمته، لأن الملك الواحد يقوى على حمل الأرض بما فيها، فكيف إذا كانوا ثمانيه أملاك، ومن هاهنا تعلم عظمته، قالوا هو كالقبة فوق السموات له قوائم، بدليل ما رواه البخاري عن أبي سعيد، قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي ﷺ قد لطم وجهه، فقال يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهي! فقال صلى الله عليه وسلم: أدعوه فقال لم لطمت وجهه؟ فقال يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول والذي اصطفى موسى على البشر، فقلت يا خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأخذتني غضبة فلطمته. فقال ﷺ لا تميزوا بين الأنبياء، فان الناس يصعقون وأكون أول من يفيق، فإذا بموسى عليه السلام أخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور. أي لم يصعق وهو فوق السموات بدليل ما رواه ابو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتي رسول الله ﷺ أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس، ونهكت الأموال، فاستق لنا، فإنا نستشفع بك إلى الله ونستشفع بالله تعالى عليك فقال ﷺ ويحك أتدري ما تقول؟ وسبّح رسول الله ﷺ فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجهه أصحابه، ثم قال ويحك انه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه، شأن الله تعالى أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله؟ إن الله تعالى فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته
182
هكذا وقال بأصابعه مثل القبة، وانه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب، أي من عظمة الرّب جل وعلا وهيبته، وهو منزه عن الثقل والخفة وسائر أوصاف خلقه، وهذا مما يدل على عظمته ايضا. وقد روى أبو ذر عن النبي ﷺ انه سمعه يقول ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض. وجاء في خبر آخر: إن أرضكم هذه بالنسبة لعرش الرحمن كحلقة ملقاة في فلاة، هذا وقد وصفه الله تعالى في قوله جل قوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية ٢٥٦ من البقرة في ج ٣، ووصفه بالمعظم في آيات، وناهيك بذلك. هذا، وقد روى عن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، والحاكم في مستدركه، وقال على شرط الشيخين، عن سعد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره الا الله، وبما أن من هذه من آيات الصفات التي جرى السلف على ظاهرها دون تأويل أو تفسير، ومشى الخلف على خلافه، فقال بعضهم إن العرش كناية عن ملك الله وسلطانه، وهو غير سديد لمنافاته ظاهر القرآن والحديث، لأنه إذا كان كما قيل فكيف نقنع بقول الله (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) إلخ الآية المذكورة آنفا، وقوله تعالى (يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) الآية ١٨ من سورة المؤمن في ج ٢، أيقال يحملون ملكه وسلطانه؟
كلا، وهل كان موسى آخذا بقوائم الملك والسلطان في الحديث المار؟ كلا وما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن جابر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ رضي الله عنه، فهل يقال اهتز ملكه وسلطانه؟ كلا لا يقال شيء من ذلك أصلا لأن ذلك أمر معنوي لا يحمل ولا يمسك ولا يهتز لذلك فلا يقوله من له أدنى مسكة من علم أو ذوق، فإن صاحب هذا القول على فرض صحته أراد به تنزيه الله تعالى على طريقة الخلف من كل ما يدل على المكان، لأنه جل ذكره لا يحويه مكان، ولكنه لم يصب الهدف، وإن ما قاله أهل الكلام من أنه مستدير محيط بالعالم، وأنه فلك من الأفلاك أو الفلك الأطلس أو الفلك التاسع، فليس بصحيح، لأن قولهم مبني على
183
الحدس والظن، كيف وقد ثبت أنه له قوائم وأنه محمول وممسوك، والفلك التاسع عندهم متحرك بحركة متشابهة وهو لا ثقيل ولا خفيف كما يزعمون، وقد جاء في صحيح مسلم في حديث جويرية بنت الحارث ما يدل على أن له زنة هي أثقل الأوزان، ولأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب لا تفهم منه الفلك وما جاء في خبر أبي ذر عن جبير بن مطعم المتقدم ذكره من أنه مثل القبة، لا يستلزم أن يكون مستديرا محيطا كما قالوا، وهؤلاء القوم مازالوا قبلا والى اليوم والى أن ينفخ في الصور لا يقدرون على حصر الأفلاك بأنها تسعة، وان التاسع أطلس ولا كوكب فيه، وانه غير الكرسي علمت قال امية بن الصلت:
مجّدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا لايناله طرف عين وترى حوله الملائك صورا
جمع اصور وهو المائل العنق لنظره الى العلو، والشرجع العالي المفرط بعلوه، واستوى بمعنى استولى على اكثر أقوال المفسرين أوضحناه في الآية ٥٤ من الأعراف المارة، ودللنا عليه بشواهد كثيرة اتباعا لغيرنا، الا أنه مع شواهده لا يطمئن له الضمير، كما أن ما جاء أنه بمعنى العلو والارتفاع في رواية البخاري، أو أنه بمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) الآية ٤٤ من سورة هود، وبقوله تعالى (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) الآية ١٣ من الزخرف في ج ٢، ممنوع، لأنه مستحيل على الله تعالى، وذلك لأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وهو محال في حقه تعالى، ولأنه لا يقال استولى على كذا إلا إذا كان له منازع فيه: وهذا في حقّه تعالى محال أيضا، وإنما يقال استولى إذا كان المستولى عليه موجودا قبل، والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه له، وأيضا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات، فلا يبقى إلى تخصيص العرش بالذكر فائدة، لذلك فالأولى أن يفسر بما فسرناه هنا من أنه استواء يليق بذاته كما هو الحال في آيات الصفات، من المجيء، واليد، والقبضة، وغيرها، لأن
184
القانون الصحيح وجوب حمل كل لفظ ورد في القرآن العظيم على ظاهره، إلا إذا قامت الأدلة القطعية على وجوب الانصراف عن الظاهر، ولا داعي للتأويل بما قد يوجب الوقوع في الخطأ وزلة القدم. وانظر ما قاله السلف الصالح في هذا الباب. روى البيهقي بسنده عن عبد الله بن وهب أنه قال كنا عند مالك بن أنس، فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله قال تعالى: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فكيف استواؤه؟ قال فأطرق مالك وأخذته الرّحصاء (العرق الذي يحصل من أثر الحمى) ثم رفع رأسه فقال الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعه، أخرجوه، فأخرج الرجل، وفي رواية سمي بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى، فكيف استواؤه فأطرق مالك رأسه حتى علته الرحصاء ثم قال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج. وروي عن علي عليه السلام أنه قال: الاستواء غير مجهول (لم يقل معلوما تأدبا، وكان مالك أخذ هذه الجملة عنه رضي الله عنه إن لم نقل أنها من توارد الخاطر) والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وأخرج اللالكائي في كتاب السنة عن طريق الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به ايمان، والجحود به كفر. وجاء من طريق ربيعة بن عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى ربنا على العرش؟ فقال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله تعالى إرساله، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، وروى البيهقي بسنده عن أبي عينية قال كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه. قال البيهقي والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة واليه ذهب أبو حنيفة وأحمد بن حنبل والحسن بن الفضل الجبلي، ويدل عليه مذهب الشافعي ومشى عليه من المتأخرين أبو سليمان الخطابي، وأهل السنة يقولون في الاستواء على
185
العرش صفة لحمله بلا كيف، يجب على الرجل الايمان به ويكل العلم به الى الله، وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيفية وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء أهل السنة أن هذه الآيات التي فيها الصفات المتشابهة تقرأ كما جاءت بلا كيف، هذا والذي ذهب اليه الإمام الرازي أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، والاستيلاء بمعنى الاقتدار، وهو كما ترى وأقوال السنة وبعض العلماء في هذا الباب لا تحصى، وقد قدمنا غير مرة بأن طريقتنا في هذا التفسير الجليل حمل كل لفظ ورد في القرآن العظيم على ظاهره، إلّا إذا لم نتوصل لفهمه وورود الدليل القاطع النقلي والعقلي يصرفه عن ظاهره، فإنما نعدل عنه ضرورة ونرجع الى التأويل بما نقتبسه أولا من القرآن لأن في بعضه تفسيرا لبعض، ثم في الحديث لأن قول الرسول شرح له، ثم إلى أقوال الأصحاب الكرام الخزامى الذين قال بحقهم ﷺ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. لأنهم يغرفون من مشكاة النبوة ثم لأقوال أتباعهم من السلف الصالح ولأقوال العلماء المفسرين له الأمناء عليه الأتقياء الذين نور الله قلوبهم بمعرفته قال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ) الآية ٢٨٤ من سورة البقرة في ج ٣، وقال تعالى (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) الآية ١٩ من سورة الأنفال في ج ٣ أيضا وقال تعالى (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) الآية ٦٤ من سورة الكهف في ج ٢ وقال جل قوله (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) الآية ٧٤ الآتية وهذا ما عليه السلف الصالح والخلف الناجح والاقتداء بهم أسلم، والأخذ بقولهم أحكم، والله أعلم الذي «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى» ٦ التراب الرطب الذي يظهر بعد حفر وجه الأرض، فإن الله تعالى مالك لجميع ذلك وما فوق السموات أيضا، ومتصرف فيه كيف يشاء، ولم يبق غير ذلك الا المالك «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ» يا سيد الرسل أو تسر به على حد سواء «فَإِنَّهُ» مولاك ومالك أمرك «يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» ٧ منه مما يخطر ببالك أو تتصوره في قلبك فيما بعد قبل تخطره وتصوره لأن السر موجود في صدرك أو لأن السر ما تسره للغير حالا، وهذا
186
مما لا يعلمه غيرك، لأنه لم تتفوه به أو ما أسررته لنفسك، والأخص ما ستسره فيما بعد، ولا تعلمه الا بعد أن يحوك في صدرك، لأن الله يعلم أنه سيحدث في سرك قبل أن تحس به، والأول أولى. تشير هذه الآية بأن الجهر ليس لإسماعه تعالى بل لفرض آخر من تصوير النفس بالذكر، ومنعها من الاشتغال بغيره قطعا للوسوسة، وهذا أولى من قول من قال إنه نهى عن الجهر كقوله تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) الآية ٢٠٤ من الأعراف المارة لان غايته الإرشاد وهضم النفس بالتضرع الى خالقها، وهذا المالك الجليل والعالم العظيم هو «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» ٨ الدالة على معنى التقديس والتحميد والتبجيل لتعظيم الربوبية والأفعال التي هي نهاية في الحسن من الأسماء التي فضلت على سائر الأسماء، والله تعالى واحد في ذاته وان افترقت عبارات صفاته، وفيها رد على قول الكفرة القائلين حينما سمعوا حضرة الرسول يقول يا رحمن. إنك تنهانا عن تعدد الآلهة وتدعو آلهة متعددة. فأجابهم بأن الإله واحد وهو المعني بقوله لا إله إلا هو وإن له أسماء أخر، هنّ صفاته جل شأنه وعظمت صفاته، قال صلى الله عليه وسلم:
إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها وفي رواية من حفظها دخل الجنة وكلها موجودة في القرآن صراحة، ويوجد اسم آخر له مكنون في غيبه وعلمه يعلمه الراسخون في العلم وهو اسمه الأعظم الذي لا يرد من دعاه به، وهي هو الله لا إله إلا هو ١ الرحمن ٢ الرحيم ٣ الملك ٤ القدّوس ٥ السلام ٦ المؤمن ٧ المهيمن ٨ العزيز ٩ الجبار ١٠ المتكبر ١١ الخالق ١٢ البارئ ١٣ المصور ١٤ الغفار ١٥ القهار ١٦ الوهاب ١٧ الرزاق ١٨ الفتاح ١٩ العليم ٢٠ القابض ٢١ الباسط ٢٢ الخافض ٢٣ الرافع ٢٤ المعز ٢٥ المذل ٢٦ السميع ٢٧ البصير ٢٨ الحكم ٢٩ العدل ٣٠ اللطيف ٣١ الخبير ٣٢ الحليم ٣٣ العظيم ٣٤ الغفور ٣٥ الشكور ٣٦ العلي ٣٧ الكبير ٣٨ الحفيظ ٣٩ المغيث ٤٠ الحسيب ٤١ الجليل ٤٢ الكريم ٤٣ الرقيب ٤٤ المجيب ٤٥ الواسع ٤٦ الحكيم ٤٧ الودود ٤٨ المجيد ٤٩ الباعث ٥٠ الشهيد ٥١ الحق ٥٢ الوكيل ٥٣ القوي ٥٤ المتين ٥٥ الوليّ ٥٦
187
المجيد ٥٧ المحيي ٥٨ المميت ٥٩ المحصي ٦٠ المبدي ٦١ الباقي ٦٢ المعيد ٦٣ الحي ٦٤ القيوم ٦٥ الواجد ٦٦ الماجد ٦٧ الواحد ٦٨ الأحد ٦٩ الصمد ٧٠ المقتدر ٧١ القادر ٧٢ المقدم ٧٣ المؤخر ٧٤ الأول ٧٥ الآخر ٧٦ الظاهر ٧٧ الباطن ٧٨ الوالي ٧٩ المتعالي ٨٠ البر ٨١ التواب ٨٢ المنتقم ٨٣ العفو ٨٤ الرؤوف ٨٥ مالك الملك ٨٦ ذو الجلال والإكرام ٨٧ المقسط ٨٨ الجامع ٨٩ الغني ٩٠ المغني ٩١ المعطي ٩٢ المانع ٩٣ الضار ٩٤ النافع ٩٥ النور ٩٦ الهادي ٩٧ البديع ٩٨ الوارث ٩٩ الصبور ١٠٠ المرشد واعلم أن بعضهم لم يعد المعطى من الأسماء الحسنى، لذلك بلغت هنا ١٠٠ وبحذفه تبقى ٩٩ وسنأتي على معانيها في محالها كل في موضعه إن شاء الله من آيات الذكر الحكيم، فمن هذه الأسماء الدالة على المعاني الحسنة ما يستحقه الله تعالى بحقائقه كالقديم قبل كل شيء والباقي بعد كل شيء، والقادر على كل شيء، والعالم بكل شيء، والواحد الذي ليس كمثله شيء، ومنها ما تستحسنه الأنفس لآثارها، كالغفور والرحيم والشكور والحليم، ومنها ما يوجب التخلق به كالكرم والعفو والصبر والستر، ومنها ما يوجب مراقبة الأحوال كالسميع والبصير والمقتدر والرقيب، ومنها ما يوجب الإجلال كالعظيم والجبار والمتكبر والجليل. والله جل شأنه له أسماء غير هذه لا تعد ولا تحصى لأنه له في كل شيء اسم كما أن له في كل شيء آية على وحدانيته وعلى كل أحد حجة في معانيها، وقد سبق أن بينا في الآية ١٧٩ من سورة الأعراف المارة شيئا من هذا فراجعه. قال تعالى «وَهَلْ أَتاكَ» يا سيد الخلق «حَدِيثُ مُوسى» ٩ في بداية نبوته وما لاقاه من قومه عند إرساله إليهم.
مطلب فوائد تكرار القصص:
والقصد من تكرار هذه القصص ونحوها طورا باختصار، وتارة بإسهاب، ومرة بتوسط، أمور: (١) التفنن بالبلاغة لأن إفادة المعنى بالموجز منها بوجه أبلغ كإفادته بصورة مطنبة من نوع الإعجاز والتحدّي (٢) تسلية حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم
188
بإطلاعه على ما قاسته الأنبياء قبله من أقوامهم ليهون عليه ما يلاقيه من قومه (٣) أن تكون العاقبة بالنصر والظفر لحضرته كما كانت للأنبياء الذين يعلم بقصصهم على طريق البشارة (٤) إعلام قومه بأن ما يوحى اليه هو من الإخبار (بالغيب) وانه من الله حق لأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يفارقهم ليظن به أنه تعلم أو سمعه من الغير (٥) أن يعلم حضرة الرسول أن الصبر على الشدائد وتحمل الأذى هو من شأن الأنبياء كلهم لا من خصائصه وحده. هذا، وقد سبق أن بيّنا فوائد التكرار وأسبابه في الآية ١٧ من الأعراف المارة فراجعها، واعلم أن قصة السيدين موسى وهرون مع قومهما وقصة آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة تكررت في المكي والمدني من القرآن العظيم، أما قصص سائر الأنبياء فلم تكرر إلا بالمكي منه على التفصيل وقد يأتي ذكرها في المدني في بعض السور إشارة وإلماعا بسائق تعداد ما وقع للأنبياء مع قومهم وسياق تعداد فضائلهم وما منحهم الله من الكرامات، وسنأتي على بيان هذا ان شاء الله عند ذكر كل قصة «إِذْ رَأى ناراً» حال مجيئه وأهله من مدين بلدة شعيب عليه السلام وذهابه إلى مصر لزيارة أمه وأخيه «فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا» مكانكم هذا لا تبرحوه، وكان الوقت ليلا وشتاء باردا «إِنِّي آنَسْتُ» أبصرت ما يؤنس به ورأيت هناك «ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ» شعلة تستدنؤن بها، وقد جمع الضمير لأنه كان مع أهله ولد وخادم أو على طريق التفخيم كقوله:
وإن شئت حرمت النساء سواكم «أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» ١٠ نهتدي به إلى الطريق لأنهم ضلّوه بسبب ظلمة الليل، وكأن الله تعالى أنطقه بهذا اللفظ إلى التوصل للهدى الحقيقي الذي هو سبب تشريفه بالنبوة العظمى والرسالة الكبرى، وكان كذلك لأنه عليه السلام لما قضى الأجل إلى عمه السيد شعيب كما سيأتي ذكره في الآية ٤٩ من سورة القصص الآتية فما بعدها، وتزوج ابنته وبقي مدة بعد زواجه بها، استأذنه بالرجوع إلى مصر بلده ومسقط رأسه فخرج بأهله ونعمه، وأخذ يمشي بهم على غير الطريق المسلوكة ليلا لئلا يتعرضه أحد لعدم أمن الطريق، وكانت امرأته في شهرها
189
لا يدري أتضع ليلا أم نهارا، فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن بالنسبة له، لأن الجبل لا يمين له ولا شمال، فأخذ امرأته الطلق وولدت، فجمع حطبا وصار يقدح زنده (وتسميه العامة زنادا ويقال أورى إذا قدح، وصلد إذا لم يقدح) فلم يور فنظر إلى جهة الطور، فإذا هو بنور ظنه نارا، وما أحسن هذا الضلال إذ كان فيه الهدى، وكان ابن الفارض رحمه الله ألمع إلى هذا بقوله:
ما بين ظال المنحنى وظلاله ضل الميتم واهتدى بضلاله
وما أحسن هذا الجناس والمقابلة بين ظال وضل وظلاله وضلاله
«فَلَمَّا أَتاها» أي النار التي رآها عن بعد ليقتبس منها فنأت عنه، فنأى عنها، فدنت إليه، فوقف متحيرا، إن أقدم إليها تأخرت وإن تأخر عنها دنت منه، فعند ذلك «نُودِيَ» من قبل حضرة القدس «يا مُوسى ١١ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ» وهذا هو الإرهاص بعينه، راجع معناه في بحث الوحي في المقدمة، وذلك لأنه لم يتنبأ بعد حتى تظهر له الخوارق على طريق التحدي الذي هو من شأن النبوّة، فوقف ولم يعلم ما يفعل، فأمره ربه بقوله «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» لتباشر رجلاك الأرض المقدسة فتصيبها بركة الوادي الذي هو فيه إذ انتشر فيه نور الإله، وإجلالا لنور تلك الحضرة المقدسة، إذ لا يليق أن يخوض ذلك النور وهو متنعّل. وما قيل إنها كانتا من جلد حمار ميت فغير ثابت، وما استدل به على هذا في الحديث الذي أخرجه الترمذي بسنده عن النبي ﷺ قال: كان على موسى عليه السلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبّة صوف وكمة صوف (أي قلنصوة صغيرة) وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار. ولم يذكر فيه أنه ميت والرواية التي فيها لفظة ميت غريبة لم تثبت، وأنه عليه السلام خلعهما حالا وطرحهما وراء الوادي، يدل على هذا قوله عز قوله «إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» ١٢ فإن هذه الآية جاءت تعليلا لذلك الأمر، إذ لا ينبغي أن يداس هذا الوادي المقدس بنور الإله من قبل أحد ما وهو متنعل «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ» من قومك ومن الناس أجمعين، لأن أشرفك بنبوتي ورسالتي وأرسلك لهداية خلقي «فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى» ١٣
190
إليك فيما يتعلق بأمرها، قال وهب بن منبه: قال موسى عليه السلام بعد أن وطنه ربه بما تقدم من النداء والأمر والاصطفاء رب إني اسمع كلامك ولا أراك ولا أعلم مكانك، فأين أنت رب؟ فقال يا موسى أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي» وحدي فأنا المستحق للعبادة وأرفض ما سواي، فإنهم خلقي وصنع خلقي.
مطلب جواب إمام الحرمين عن المكان ورفع الأيدي إلى السماء:
يروى أن إمام الحرمين- رفع الله درجته في الدارين- نزل ضيفا عند بعض الأكابر، فاجتمع عنده العلماء فقام واحد من المجلس وقال له: ما الدليل على تنزيه الله تعالى عن المكان وقد قال (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ؟ فقال: الدليل عليه قول يونس عليه السلام في بطن الحوت فتعجب الحاضرون، والتمس صاحب البيت بيان ذلك، فقال الإمام إن في الباب فقيرا عليه ألف درهم أدّها عنه وأنا أبيّن لك ذلك، فقبل، فقال إن رسول الله ﷺ لما عرج به إلى ما شاء الله من العلى قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. ولما ابتلى يونس بالظلمات في قعر البحر ببطن الحوت قال (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الآية ٨٧ من سورة الأنبياء في ج ٢، فكل منهما خاطب الإله بقوله أنت خطاب الحضور، فلو كان هو في مكان لما صح ذلك، فدل هذا على أنه جلت قدرته ليس في مكان بل هو في كل مكان بآثاره وصفاته وأنواره، لا بذاته، كما أن الشمس في كل مكان بنورها وظهورها لا بوجودها وعينها، ولو كان في كل مكان بالمعنى الذي أراده بعض الجهلة لقيل أين هو، كان قبل خلق هذه العوالم، ألم يكن له وجود متحقق؟ فان قالوا لا، فقد كفروا، وإن قالوا بالحلول والانتقال فكذلك، لأن الواجب لا يقارن الحادث إلا بالتأثير والفيض وظهور الكمالات فيه، لكن لا من حيث أنه حادث مطلقا، بل من حيث أن وجوده مستفاض منه، ولعلك تقول أيها المعترض لماذا ترفع له الأيدي نحو السماء إذا لم يكن فيها، فاعلم أيها
191
العاقل هداك الله لتوفيقه وأرشدك لسلوك طريقه، أن معنى رفع الأيدي إلى السماء هو طلب الاستعطاء من الخزانة التي نوه بها في قوله عز قوله (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية ٢٣ من الذاريات في ج ٢، وقوله جل قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) الآية ٢١ من سورة الحجر في ج ٢ أيضا، وإن الذي استوى على العرش هو مظهر الصفة الرحمانية، ومن أثبت له مكانا بالمعنى المعلوم فهو من المجسمة، والله منزه عن الجسم اه بتصرف عن روح البيان. هذا ولما سمع موسى عليه السلام هذا النداء المتكرر والأمر بالاستماع عقبه الأمر بالعبادة، علم بإلهام الله إياه أن ذلك لا يكون ولا ينبغي أن يكون إلا من الله، وأيقن به، وتأهب لمقام الهيبة والجلال لاستماع الأمر العظيم الذي أمره به، واعترف له بالعبودية وأصغى لما يكون بعدها من الأمر، قال تعالى «وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» ١٤ خاصة لأني ذكرتها في الكتب القديمة وأمرت اخوانك الأنبياء بإقامتها فأقمها مثلهم.
هذا، ومن قال إن المراد بهذا الأمر، إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها، أي اقضها، لا وجه له، لأن الصلاة لم تفرض عليه بعد حتى يعلمه ما يتعلق بها.
مطلب فضل الصلاة الفائتة:
ان ما احتج به هذا القائل في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس قال قال رسول الله ﷺ من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها لا كفارة له إلا ذلك.
وتلا قتادة (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) وفي رواية عن أبي هريرة أنه ﷺ نام عن صلاة الصبح فلما قضاها قال: من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها. وفي رواية إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل قال (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) لا يصح دليلا على ما نحن فيه لما قدمناه، وإنما يصح دليلا لنا إذا قدر مضافا محذوفا أي لذكر صلاتي، وقد ظن هذا القائل أن الحديث لو لم يحمل على هذا لم يصح التعليل به، وهو من بعض الظن، لأن التعليل صحيح من غير أن يحمل الحديث على الآية، وأنه عليه السلام أراد بهذا الحديث أنه إذا
192
ذكر الصلاة انتقل من ذكرها إلى ذكر ما شرعت له، وهو ذكر الله تعالى المأمور به في هذه الآية، فيحمله على إقامتها لاشتمالها على الذكر، وقد صادف هذا البحث حادثة غريبة عن التفسير المبارك مناسبة للمقام فأحببت ذكرها، وهي اني كنت في المحكمة في الساعة الرابعة من يوم الخميس ١ جمادى الآخرة سنة ١٣٥٧ واشتغلت كعادتي في هذا التفسير وأجهدت نفسي في مطالعة التفاسير في آية الاستواء المارّة ولم أحس بأني لم أصل الظهر إلا عند كتابة هذه الأحاديث، وكان العصر يؤذن فتفاءلت بها بأن الله تعالى لم يؤاخذني وتسليت بما وقع لحضرة الرسول يوم الخندق ويوم الأحزاب، وإلى سليمان في حادثة الخيل وقد ألمعنا إليها في الآية ٣٣ من سورة ص المارة، لأنه لم يفتني والحمد لله وقت قط، فمقت وصليت الظهر ثم العصر واستغفرت الله تعالى من هذه الغفوة، ثم عدت لما أنا فيه قال تعالى «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ» لا محالة لأن خراب الكون متوقف عليها، وجاء بذكر الساعة هنا لأن قوم موسى الذي أمره الله في هذه الآية بدعوتهم للايمان ينكرونها، لأن فرعون وقومه القبط يعبدون الأوثان، ولأن الاعتقاد بوجودها من أصول الدين ومتعلق آمال الموحدين، جعلها الله في الدرجة الثالثة إذ ذكرها بعد توحيده وإقامة الصلاة لذكره، وأكدها بحرف التوكيد، وكأن موسى عليه السلام تشوف ليعلم وقت مجيء الساعة لأن من أرسله إليهم ينكرونها أسوة بمن تقدم من الكفرة أمثالهم فقال تعالى «أَكادُ أُخْفِيها» حتى عن نفسي فكيف أظهرها لك أو أظهرك عليها وكيف يعلمها مخلوق وهي من خصائص الخالق، وهذا جري على عادة العرب المنزل عليهم هذا القرآن بلغتهم، إن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان السر قال كدت أخفيه عن نفسي، ويؤيد هذا التفسير الذي اخترته على غيره قوله ﷺ في حديث الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها (عن نفسه) حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه- مبالغة في الإخفاء- وبه قال ابن عباس وجعفر الصادق، أما ما جاء في مصحف أبيّ ومصحف ابن خالويه وعبد الله بزيادة (فكيف أظهرها) فليس من القرآن وإنما هو من تفسيرهم لهذه الآية إذ كانوا يكتبون بهامش مصاحفهم أو بين
193
سطوره ما يقفون عليه من بعض الكلمات التي يتلقونها من حضرة الرسول أو مما اجتهادهم لمعناها، ومن شواهد قوله:
أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر
وقبل إن خبر كاد محذوف تقديره آتي بها على حد قول صائبي الرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أفعل ثم استأنف وقال وليتني وليس بشيء، وما جرينا عليه أو هذا، وقد ذكرت غير مرة أن كل قراءة فيها زيادة حرف أو نقصه على القرآن الذي بأيدينا لا عبرة بها، ولا تجوز قراءتها لأن هذا القرآن هو بعيد أنزله الله لا زيادة ولا نقص فيه. واعلم يقينا أن كل ما نقل عن بعض العلم القراء زيادة كلمة أو حرف على ما في القرآن هي شروح وتفاسير كتبها القائلون بها على هوامش مصحفهم ليس إلا، إذ لا يجوز أن يقال في بعض المصاحف زيادة أو نقص على بعضها قطعا، والقول به حرام راجع تفسير الآية ١٩ من سورة الحجر في ج ٢. وبحث القراءات في مطلب الناسخ والمنسوخ في المقدمة المارة. قال تعالى «لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» ١٥ تعمل في هذه الدنيا إن خيرا فخير وإن فشر «فَلا يَصُدَّنَّكَ» يا رسول «عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها» من قوم فرعون وغيرهم الجاحدين وجودها المتوغلين في الغفلة المعنيين بقوله «وَاتَّبَعَ هَواهُ» بما تسول له نفسه من النزغات الشيطانية واللذات البهيمية والشهوات الخسيسة فتصده عن الإيمان بها «فَتَرْدى» توقع نفسك في الردى والهلاك، لأن إغفالها إغفال تحصيل ما ينجي من هولها. ثم أراد جل شأنه أن يريه آية على رسالته فقال «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» ١٧ وهذا سؤال لتقرير الحكم منه أن يوقفه أولا على ماهية ما بيده وينبهه على ما يريد بها وما سيظهره له بها من العجائب، حتى إذا صيّرها لا يهوله أمرها، ويوطن نفسه عليها، وليعلم أنها معجزة له وبرهان على نبي «قالَ هِيَ عَصايَ» أضافها لنفسه لأنها بيده.
194
مطلب عصا موسى وإعطاء محمد من نوع ما حدث للرسل وأعظم:
قيل كان للعصا شعبتان وفي أسفلها سنان واسمها نبعة، أخذها من بيت شعيب عليه السلام، وقيل إنها من آس الجنة وقد هبط بها آدم عليه السلام. واعلم أن زيادة التاء قبل الياء لحن، قالوا أول لحن وقع في العرب (هذه عصاتي) ثم بيّن ما يروم بها عفوا فقال «أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها» أي أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه «عَلى غَنَمِي» فترعاه، وهذا معنى الهش «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» ١٨ كحمل الزاد وشد الحبل عند استقاء الماء من البئر وقتل الهوام ومحاربة السباع وتعليق الثوب بها للاستظلال تحتها وغيرها، ولكنه عليه السلام لم يعلم المأرب الأعظم الذي يريده الله تعالى بها وهو معجزته العظيمة التي يرفع الله بها شأنه، ويهدي بها قومه «قالَ أَلْقِها يا مُوسى» ١٩ لأريك ماذا أريد بها مما لا يقع ببالك بما يؤول إليه عزّك وسلطانك وإنقاذ قومك وإرشادهم «فَأَلْقاها» ليرى الذي يريده ربه منها «فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» ٢٠ تمشي بسرعة وقد سماها الله ثعبانا في الآية ١٠٧ من الأعراف المارة، وجانّا في الآية ١٠ من سورة النحل الآتية، والحية تطلق على الصغيرة والكبيرة، لأنه أول ما ألقاها رآها بنظره صغيرة، ثم انتفخت حتى صارت كأعظم ثعبان، تلقف الحجر وتبلع الشجر وتلقم ما تراه، فترعب من لا يعرف الرعب، فخاف منها وتباعد عنها موليا إذ رأى ما لم يكن بالحسبان، فأراد ربه أن يوطنه ويؤمنه
«قالَ» يا موسى إرجع إليها وادن منها «خُذْها وَلا تَخَفْ» منها، لأنها حجة لك على صحة دعوتك عند ما يطلب منك برهانا لتقوية دعوتك على عدوك، أما وقد أطلعناك على ما ينجم من إلقائها فاعلم يا رسولي أننا بمطلق مناداتك لها (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) ٢١ التي كانت عليها قبل الإلقاء، فأخذها، فعادت كما هي عصا، ثم نبهه على آية أخرى برهانا على نبوته أيضا بقوله «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ» اجعلها تحت إبطك، والجناح لغة اليد والعضد والإبط والجانب، وهو حقيقة في الطير ثم توسع فيه فأطلق على اليد، وسمي جناحا لأنه يجنح بالطائر فيميله إذا طار، ثم أخرجها «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص
195
والسوء يطلق على العيب، والبرص لا اعيب منه، وهو بياض شديد يضرب إلى الحمرة أعيا الأطباء زواله، فأدخل يده اليمنى تحت إبطه الأيسر وأخرجها فإذا هي تبرق بياضا ناصعا مع أنها سمراء، فقال له انظر هذه «آيَةً أُخْرى» ٢٢ على صدق دعوتك إلى القبط وقومك، وهاتان الآيتان توطئة «لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى» ٢٣ الدالة على عظمتنا، راجع الآية ١٢٩ من الأعراف المارة وما بعدها، تقوية لجنانك وتكريما لجنابك، فتقابلهم بالجزم والعزم لأنك مستند إلينا في دعوتك، فلا تخش تهويلهم فإنهم مغلوبون، ولا يخفى أن كل آية آتاها الله رسله، فقد أعطى من نوعها رسوله محمدا ﷺ وأعظم، وقد قال في حقه (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) الآية ١٨ من سورة النجم المارة، ووجه أفضليتها، أن معجزاته عليه السلام هذه كانت في الأرض ومعجزة محمد ﷺ في السماء، والفرق بينهما كالفرق بين الأرض والسماء، ويقابل معجزة اليد في الأرض نبع الماء من إصبعه في غزوة تبوك فقد شرب الجيش منه، ورمي التراب في وجوه القوم في غزوة أحد فانهزموا، وتسبيح الحصى في يده، وذر التراب على رؤوس شبان المشركين يوم أحاطوا به ليقتلوه فخرج من بينهم ولم يروه، وسنأتي على تفصيل هذا كله وغيره في موضعه إن شاء الله في القسم المدني. هذا، وبعد أن شرفه الله بالنبوة وقوى عزمه بما منّ عليه من تلك المعجزات، وشحه بالرسالة العظمى وقال له «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» ٢٤ وبغى وتجاوز الحد في التّمرد وحتى ادعى الإلهية بطرا، ودعته نفسه الخبيثة إلى هذا التجبّر والتكبر الذي لم يسبقه به إلا أخوه نمرود، الآتية قصّته في الآية ٧١ من سورة الأنبياء في ج ٢، وفرعون علم لملك مصر واسمه الوليد بن الريان، ولما رأى موسى فضل ربه عليه وعطفه ولطفه به استمطر خيره، وطلب من فيضه ما ألهمه به «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» ٢٥ وسّعه لتحمل مشاق سيئي الأخلاق وإملائه معرفة بك وعرفانا منك لأجابهه بقوة سلطانك وعظمة قهرك «وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» ٢٦ بالوصول إليه وسهل لي كل صعب ألاقيه في طريقي إليه وفي مقابلتي له «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ٢٧ يَفْقَهُوا قَوْلِي» ٢٨ لأعبّر عما في جناني بطلاقة وفصاحة لمن أرسلتني إليهم
196
ولأبلغ رسالتك على الوجه الأتم الأكمل، وسبب حصول هذه العقدة على ما قيل ان موسى عليه السلام لما كان في حجر فرعون حال صغره لطمه، وأخذ بلحيته فتطيّر منه وهم بقتله فمنعته زوجته آسيا رحمها الله قالت له أتركه فإنه لا يعقل، وجربه إن شئت، فقال كيف وقد فعل ما فعل؟ فقالت على رسلك وانظر، فوضعت في طست جمرا وتمرا وياقوتا وقدمته له ثم أشارت إليه أن يأخذ أحدها فأراد أن يأخذ الياقوت ومد يده إليها فحرفها جبريل عليه السلام إلى الجمر فأخذ جمرة ووضعها في فمه فحرقت لسانه وسببت هذه العقدة فيه، فلما رأى فرعون ذلك تركه إذ ظهر له ما قالت آسيا رحمها الله. واعلم أن هذه ليست من العيوب المستحيل وجودها في الأنبياء لأن ثقل اللسان قد لا ينقص قدر الإنسان ولا يخل في أمر التبليغ وليس فيه ثغرة، بل قد تكون مما يستعذب في بعض الاشخاص ولا سيما في حضرة السيد موسى عليه السلام، وما قيل إن هرون أفصح منه، فمن هذه الجهة، وإلا فهو على غاية من الفصاحة والبلاغة، وقول فرعون (وَلا يَكادُ يُبِينُ) الآية ٥٣ من سورة الزخرف في ج ٢ تمويه على قومه ليصرفهم عنه ليس إلا، وقد ذكروا أنه كان في لسان المهدي المنتظر
مجيئه حبسة، وقد جاء في فضله ما لم يحصره القلم، لأن فصاحة الذات لا يقاومها إعراب الكلمات، وفي هذا قال:
سر الفصاحة كامن في المعدن لخصائص الأرواح لا في الألسن
وقال الآخر:
لسان فصيح معرب في كلامه فياليته في موقف الحشر يسلم
وما ينفع الإعراب ما لم يكن تقى وما ضرّ ذا التقوى لسان معجم
والمراد باللسان الآلة الجارحة نفسها، وفسره بعضهم بالقوة الناطقة القائمة فيه، والفقه العلم بالشيء والفهم له، وقال الراغب هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم قال تعالى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي» ٢٩ يعاونني في أعباء ما كلفتني به، فالوزر بكسر فسكون، بمعنى الحمل الثقيل.
197
مطلب الوزير والوزر دائرة بلطف الله بموسى واجابة مطالبه: ؟؟
وسمي القائم ببعض الأمور الملكية وزيرا لأنه يحمل عن الملك بعض ثقلها، أما الوزر بفتحتين فراجع معناه في الآية ١١ من سورة القيمة المارة، ثم بيّن الوزير الذي يريده بقوله «هارُونَ أَخِي ٣٠ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي» ٣١ قوّ به ظهري وأحكم به قوتي ليساعدني على مهمتي «وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» ٣٢ الذي شرفتني به، وهو الرسالة ليقوم مقامي عند غيابي في إرشاد من أرسلتني إليهم، ويعاضدني في حضوري عند دعوتي إليهم، هذا وإن موسى عليه السلام أول من طلب هذا الطلب من ربه فأجابه:
وإذا سخر الإله سعيدا... لأناس فإنهم سعداء
«كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً» ٣٣ أنا وإياه ليل نهار «وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً» ٣٤ وهذه غاية للأدعية الثلاثة في هذه الآية، لأن انضمام فعل هرون لعمل موسى مكثر له ومؤيد «إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً» ٣٥ عالما بأحوالنا مشاهدا لها وإن ما دعوتك به مما يصلحنا ويقوينا، لإنفاذ أمرك ويسهل علينا تبليغ رسالتك، فأجابه جلت إجابته بقوله «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى» ٣٦ كله فقد أزلنا العقدة من لسانك ونبأتا أخاك هرون وجعلناه معاونا لك تتقوى به كما طلبت، وهذا دليل كاف على رسالة هرون عليه السلام، فلا وجه لمن نفاها لأن السؤال معاد بالجواب قال تعالى «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى» ٣٧ قبل هذه المنن الثلاث بلا سؤال منك، إذ لم تكن إذ ذاك مميزا إذ كنت في بدء رضاعك، وقد خافت أمك من اطلاع قوم فرعون عليك فيأخذونك ويقتلونك، ثم بين تلك المنة بقوله عز قوله «إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى» ٣٨ بأن ألهمناها وأنت جنين حينما كانت خائفة من وضعك أن يكون نصيبك نصيب أمثالك من القتل، حين ولادتك، لأن فرعون كان يقتل المولودين أمثالك، ما يحفظك به منه، فأشرنا لها «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ» بعد أن ولدته وقد حفظناك من شرطة فرعون، لعلمنا بأن أمك لا تزال قلقة من أجلك، والتابوت
198
هو الصندوق، واليم البحر بالسريانية والعبرية والعربية، وكل نهر كبير يسمى يمّا كالنيل ودجلة والفرات وغيرها، وقد أعلمناها بأنا حافظوه مما تخاف عليه، ونتيجة هذا الإلقاء وهو «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ» لأنا أمرنا البحر أن لا يأخذه بل يطرحه على الشاطئ قريبا من فرعون «يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ» وهو فرعون إذ يمر قسم من النيل في داره، وكان ذلك، ولما رأى فرعون ذلك التابوت رسا في ساحله، أمر الجواري بإخراجه، فأخرجوه ففتحه فإذا فيه غلام ألقى الله محبته في قلبه، بحيث لم يتمالك نفسه وعقله من فرط محبته له، وذلك قوله تعالى «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» وأنساه الله في تلك الساعة أمره بقتل الأولاد ليتم مراد الله فيه، وأمر بتربيته في حجره، قال تعالى «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» ٣٩ ترّبى بمرأى مني عند عدوك وعدوّي، وإني مراقبك ومراعيك كما يراقب ويرعى الرجل الحريص شيئا بعينه، ولكن شتان بين مراعاتي ومراعاة عبدي، واذكر يا موسى ترادف منني عليك «إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ» مريم بنت عمران وهذه التي شبهت بها مريم أم عيسى عليه السلام في الآية ٢٨ من سورة مريم المارة، لما بين الاثنتين من الشبه في العفة والطهارة والكرامة والمحتد وعلو النّسب والحسب، وذلك أن أمك بعد أن طرحتك في اليم ضاق ذرعها، فأرسلتها لتعرف خبرك لشدة ما حل بها من الخوف عليك، فوجدتك في بيت فرعون يتحرون لك ظئرا، فألهمناها أن تتطفل بالكلام «فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ» يقوم بإرضاعه وتربيته كما تريدون، وذلك لأنه أبى قبول ثدي المرضعات اللاتي أحضرنهن له، كما سيأتي في الآية ١٢ من سورة القصص، فقالوا لها نعم، فأحضرت لهم أمك، فأخذت ثديها وأعماهم الله ربك عن التحقيق عنها فلم يعلموا أنها أمك وهذه أعظم منة عليك وعليها «فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ» على فراقك ولتربيك في حنوها، إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم، إلا رأفة ربك على عباده، ورأفة الرسول على أمته، «وَ» من جملة ألطافي عليك، أنك بعد أن كبرت «قَتَلْتَ نَفْساً» من قوم فرعون سنأتي قصته في الآية ٦٩ من سورة القصص
199
الآتية «فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ» الذي لحقك بسبب قتله، وآمنّاك من القصاص «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» في الوقوع من محنة إلى أخرى، لأنك ولدت في السنة التي يذبح بها فرعون المواليد، ثم ألقيت في البحر تخلصا من القتل، ثم التقطك عدوك الذي قتل الألوف ليحظى بقتلك، ثم حرمنا عليك المراضع حتى أحضرنا لك أمك فربتك في بيت عدوك، ثم لطمت فرعون وأخذت بلحيته حتى هم بقتلك، فنجيناك بما ألهمنا آسية زوجته، ثم قتلت القبطي انتصارا لرجل من قومك، ثم هاجرت إلى مدين خوفا من فرعون وآله «فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ» اسم لجد القبيلة، سميت باسمه وهي واقعة على بحر القلزم محاذية لمدينة تبوك الواقعة بين الشام والمدينة على بعد ست مراحل منها، وقيل هي في كورة مصر أو بين دمشق وفلسطين، وقد شدّدنا هذا التشديد، وامتحناك
هذا الامتحان، وغفرنا لك ما وقع منك في الدنيا، وسنثيبك الثواب العظيم في الآخرة ولتعلم بأنا منجوك وناصروك من جميع محن الدنيا، وهذا من نعمتنا الجزيلة عليك تمهيدا للنعمة الكبرى التي هي الرسالة المؤيدة بالآيات العظام والتي يؤول أمرها إلى دار السلام، فنزلت عند نبيّنا شعيب، فزوجك ابنته وأكرم مثواك «ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى» ٤٠ وهو بلوغك رشدك وأشدك وهو سن الأربعين المقدر في علمنا تتويجك فيه بالرسالة، وكان مكثك عنده ورعيك لأغنامه وتزويج ابنته انتظارا لهذا الوقت والموعد والمكان الذي خصّصته لك لتلقّيها
«وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» ٤١ خاصة فقد اخترتك لتنفيذ أمرى، وأهلتك لتلقي وحيي، وجعلتك قائما بحجتي.
مطلب لا صحة لما ورد من أن الله لم ينبىء نبيا إلا بعد الأربعين:
قالوا كان عمره عليه السلام حين هاجر اثنتي عشرة سنة، وبقي راعيا عند شعيب عشر سنين ثم تزوج بنته في هذه السن، وبقي بعد زواجه ثماني عشرة سنة، ثم أخذها وسافر إلى مصر بعد إكمال الأربعين، وهي السن التي يتمكن معها أمثاله من تحمل خطاب الله تعالى، عدا يوسف عليه السلام فإنه نبىء في البير لثماني عشرة سنة من عمره، كما جاء في الآية ٢٢ من سورته في ج ٢ ويحيى في السابعة من عمره سمي نبيّا
200
في الآية ١٢ من سورة مريم المارة، وعيسى نبيّء في المهد كما تشير إليه الآية ٣٠ من سورة مريم أيضا، فيكون عمره والله أعلم إذ ذاك أربعين يوما، أي حين مغادرتها بيت لحم محل ولادته، ولهذا فإن ما ورد في الحديث بأن الله تعالى لم ينبىء نبيا أو يرسل رسولا إلا بعد الأربعين سنة من عمره لا صحة له لمخالفته نص القرآن كما هو مبين في الآيات المشار إليها، قال تعالى بعد أن أجاب طلبه وعدد نعمه عليه «اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ» إلى فرعون وقومه (بآياتي) التي أظهرتها لك والتي سنظهرها بعد علامة على رسالتك «وَلا تَنِيا» تقصّرا أو تفترا أو تنأخرا «فِي ذِكْرِي» ٤٢ بل داوما عليه حال دعوتكما له ومجداني بما يليق بجلالي واذكرا عظمتي» وعزتي وكبريائي وصفاتي الجليلة واسمائي الحسنى وأفعالي الجميلة عند تبليغ الرسالة فرعون لكما عليها وهذا ملاك ذكر الله «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» ٤٣ على عبادي وتجبر عليّ ولكن عند ما تكلمانه تقدما اليه بالنصح وتلطفا به وتعطفا عليه «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» من غير تعسف ولا عنف وقد أجدر بالقبول من جهة، ومن اخرى جزاء حق تربيته لأحدكما وإكراما لمقامه بين قومه، وفائدة أخرى وهي «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ» في وعظكما ويتأمل معناه عله يذعن للحق الذي أمرتماه به «أَوْ يَخْشى» ٤٤ عاقبة الأمر فيسلم لكما على رغبة فيما يراه ورهبة مما يتوقعه، وإنما ذكر الله رسوله بهذا وأمرهما بالتراخي وعدم الغلظة دفعا للحجة وتقديما للمعذرة، وإلا فهو عالم أنه لا تنفعه الذكرى لأن إرسال الرسل الى من يعلم أنهم لا يؤمنون لالزام الحجة عليهم، وقطع طرق المعذرة لهم راجع الآية ١٤٤ من الأعراف المارة ولمعناها صلة في الآية ١٣٤ من هذه السورة، هذا، وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ (فَقُولا لَهُ) إلخ فبكى وقال إلهي هذا رفقك بمن قال أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله «قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا» فلا يقبل منا ويعجل عقوبتنا قبل إتمام الدعوة إليه لأن الفرط هو ما يتقدم الشيء «أَوْ أَنْ يَطْغى» ٤٥ علينا فيتجاوز الحد ويقول في شأنك مالا ينبغي أن يقال وهو أعظم من التفريط بحقنا والافراط بما يقع منه علينا
201
«قالَ لا تَخافا» من هذين الأمرين ولا من غيرهما «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ» دعاء كما فأجبيه «وَأَرى» ٤٦ ما يراد بكما إن كان خير فأمضيه وان كان شرا فأمنعه «فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ» إليك أمرنا أن نقول لك «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ» بالأشغال الشاقة كحفر الآبار وقطع الأشجار ونقل الأحجار والخدمة الشاقة وغيرها «قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ» عظيمة «مِنْ رَبِّكَ» تثبت صدقنا، وهذا إيذان بأن دعواه الربوبية زور، إذ لا ربّ إلا الله، وتنويه بكذب دعواه إياها أمام قومه، لذلك سكت عن هذه الجهة، لأنه يعرفها، وقال لها ما هي الآية، فأخرج له موسى يده لها شعاع كالشمس، فأعرض عنهما ولم يلق لهما بالا ولم يلتفت لتلك الآية، فقالا له «وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى» ٤٧ الذي يأتيه من ربه وليس المراد سلام التحية، إذ لا محل له هنا بل سلام المتاركة المار ذكره في الآية ٤٢ من سورة مريم أي الأمن من العذاب في الدارين لمن يهتدي بالهدى ثم قالا له «إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا» من قبل الله الذي أرسلنا إليك «أَنَّ الْعَذابَ» في الآخرة «عَلى مَنْ كَذَّبَ» بالله ورسوله وكتبه «وَتَوَلَّى» ٤٨ أعرض عن ذلك «قالَ» فرعون بعد أن رآهما جاهرا بذلك وعلم أن قومه أصغوا لقولهما «فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى» ٤٩ إضافة إليهما لغاية عتوه ونهاية طغيانه. وخص موسى لأنه علم أنه الأصل وهرون تابع له «قالَ رَبُّنَا» ربي ورب أخي وربك ورب الناس أجمع «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجونه من أمر دينهم ودنياهم «ثُمَّ هَدى» ٥٠ كلا
إلى ما يحتاج إليه وما خلق له، وألهم كل واحد كيفية نفعه وقيل أن خلقه بمعنى صلاحه، أي أعطى اليد البطش، والرجل المشي، والعين النظر، والأذن السمع، واللسان النطق، ثم هدى كلا إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح والأخذ والعطاء. وقيل أعطى كل شيء خلقه أي اعطى الرجل زوجة من جنسه، وهكذا كل حيوان، وألهم كلا كيف يأتي زوجته، والأول أولى.
«قالَ فَما بالُ» حال وأصل البال الفكر،
202
يقال خطر ببالي كذا. أي فكرت به، ثم أطلق على الحال التي يعتريها وهو مفرد لا يثّنى ولا يجمع، وشذّ قولهم بالآت ومن هذا قول بعض الناس عند خروجه من مجلسهم، خاطركم أي أبقوني في بالكم لا تذكروني الّا بخير، أي إذا كنت رسولا وتدعي وجود إله غيري أخبرني عن أحوال «الْقُرُونِ الْأُولى» ٥١ التي كانت تعبد الأصنام وتنكر البعث، لأنا على طريقتهم، وهذا على طريق المحاجّة معهما «قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» لأنه عليه السلام لم يعلم شيئا عن أحوالهم ولم يعلمه ربه أخبارهم والتوراة لم تنزل بعد عليه لذلك رد العلم إلى الله وأكده بقوله إن أخبارهم كلها مدوّنة «فِي كِتابٍ» عند ربي «لا يَضِلُّ رَبِّي» شيئا منها «وَلا يَنْسى» ٥٢ ما يستحقونه من ثواب وعقاب، ونظير هذه الآية في المعنى الآية ٤٥ من سورة الكهف في ج ٢، فهو «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» فراشا ومنه المهد السرير للطفل، فهي مهد الأحياء والأموات «وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» طرقا بين الأودية والجبال كما في السهل ليتيسر لكم المشي فيها «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» فيه حياة كل شيء لكمال المنافع. ثم التفت من الخطاب إلى التكلم فقال «فَأَخْرَجْنا بِهِ» بذلك الماء «أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» ٥٣ مختلف اللون والطعم والرائحة والشكل والمنفعة «كُلُوا» أيها الناس ما تشهون منها «وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ» مما يصلح لها منه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي ذكرته لكم «لَآياتٍ» عظيمات «لِأُولِي النُّهى» ٥٤ العقول تنهاهم عن عبادة غير الإله الواحد، وعن جحود البعث والنبوة، وتأمرهم بالإيمان بذلك. وسمى العقل نهى لأنه ينهى صاحبه عما يضره مادة ومعنى، وعقلا لأن يعقل صاحبه عما نهى الله ورسوله، وحجى لأن يحاجج به ويدعم حجته لإلزام الخصم، وإدراكا لأن يدرك به الحسن من القبيح والضار من النافع، وحجرا لأنه يحجر صاحبه عن الوقوع في المهالك، والحجر بمعنى المنع.
203
مطلب لكل نفس حظ من نشأة آدم، وقبر الإنسان من محل الذرة التي خلق منها:
واعلموا أن هذه الأرض التي فيها منافعكم في الدين «مِنْها خَلَقْناكُمْ» أي خلقنا أصلكم آدم، لأنه من ترابها، أو لأن النطفة من الأغذية والأغذية من الأرض، فيشمل خلقكم منها أيضا أو من ضمن خلق آدم، لأن كل فرد من البشر له حظ من خلقه، لأن فطرته لم تقتصر عليه فهو أنموذج منطو على فطرة سائر البشر انطواء الجنس على أفراده انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل، فكان خلقه منها خلقا للكل، يشهد عليه قوله تعالى «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» الآية ٩٨ من ج ٢، راجع تفسير الآية ٩ من سورة مريم المارة في هذا البحث.
وقيل إن الله تعالى إذا أراد تكوين النطفة من الرحم أمر الملك الموكل بذلك أن يأخذ ذرة من التراب الذي تدفن فيه فيذرها في النطفة فتخلق منها ومن التراب قال تعالى (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) الآية الأخيرة من سورة لقمان في ج ٢، لأنها لا تدري من أي ذرة من ذرات الأرض تكونت، وقيل في هذا المعنى:
إذا ما حمام المرء كان ببلدة... دعته إليها حاجة فيطير
وقال الآخر:
مشيناها خطا كتبت علينا... ومن كتبت عليه خطا مشاها
وأرزاق لنا متفرقات... فمن لم تأته منّا أتاها
ومن كانت منيّته بأرض... فليس يموت في أرض سواها
ومن علم أن الله قادر على كل شيء لا يستبعد هذا لأن العقائد لم تقتصر على المحسوسات وليس كل ما يقوله العقل جائزا على الله، تدبر قول ابن الفارض رحمه الله:
واني وان كنت ابن آدم صورة... فلي منه معنى شاهدا بأبوتي
«وَفِيها نُعِيدُكُمْ» نقبركم إذا متم كما أن من تأكله الطيور والوحوش والحيتان ومن يموت حرقا وغرقا تضمه الأرض ايضا لا يفلت منها أحد، لان مصير الكلّ التراب وهو من الأرض حيث تنظم تلك الذرات الطائرة والمأكولة إليها، ثم
204
يعيدها الله الى جسمها يوم البعث المذكور بقوله تعالى «وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» ٥٥ بعد الموت والاندراس نحييكم للحساب والجزاء، قال تعالى «وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها» المبينة في الآية ١٠٦ فما بعدها من الأعراف المارة التي أظهرها الله على يد موسى عليه السلام، وما قص عليه من آيات الأنبياء قبله التي أهلك بها أقوامهم بإلهام من الله تعالى بعد ما وقع منه في الآية ٥٢ المارة لأنه لم يكن يعلم شيئا عنها ولم يخبره بها ربه، ودام يدعو فرعون وقومه عشرين سنة ولم ينجع به، حتى أراه آية انفلاق البحر، ولما لم يرتدع أغرقه ومن معه فيه.
مطلب معجزات موسى وأدب الرسل مع أقوامهم:
ولسيدنا موسى آيات أخر مع قومه بني إسرائيل أولها انفلاق البحر الذي نجاهم الله من الغرق فيه وأغرق أعداءهم، ثم ضربه الحجر وانفجاره اثنتي عشرة عينا من الماء ورفع الجبل فوقهم لما أبوا الأخذ بأحكام التوراة والمن والسلوى والغمام في أرض التيه، وإحياء الميت في قضية البقرة، وخسف الأرض بقارون، وآيات أخرى كثيرة نأتي على ذكرها في تفسير الآية ١٠١ من سورة الإسراء الآتية إن شاء الله قال تعالى «فَكَذَّبَ» فرعون ما أريناه من الآيات «وَأَبى» ٥٦ عن الايمان برسولنا وأصر على كفره «قالَ» محاججا لموسى ومنددا به «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى» ٥٧ وتتغلّب على مصر وما فيها، ويكون لك ملكها؟ كلا لا نتابعك «فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ»
ندفع به الذي جئتنا به من اليد والعصا لأن هذا كان بعد إراءته هاتين الآيتين، ولهذا قال «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً» أجلا وميقاتا نتقابل به ونتبارى «لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» ٥٨ غير هذا المكان عدلا سويا كبيرا لا يحجب الناظرين عما يقع فيه ليشهدوا بما يروا فيظهر الأمر للناس كلهم وإذ ذاك يعلم الغالب أنحن أم أنتم فضرب موسى طلبه ورضي بحكمه و «قالَ مَوْعِدُكُمْ» على جهة التعظيم أو لأن الخطاب له ولملأه، والأول أولى بأدب الرسل لأنهم لا يقابلون
205
إلا بالأحسن ولأن الخبيث يعظم نفسه بكلامه فيقول نحن ولم يقل لموسى أنتم مع أنه أولى منه بالتعظيم من جهة ولأن الخطاب له ولهرون بل قال أنت راجع خطاب سيدنا إبراهيم مع أبيه في الآية ٤٥ فما بعدها من سورة مريم ومخاطبة الأنبياء مع أقوامهم في الآية ٥٨ فما بعدها من سورة الأعراف المارتين «يَوْمُ الزِّينَةِ» العيد حيث يجتمع فيه القريب والبعيد من الحاضرة والبادية ولقب بالزينة لأن الناس يتزينون فيه عادة كل بحسبه وقدرته «وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» ٥٩ أي والوقت الذي يجتمعون فيه من ذلك اليوم ضمان لانه أبعد عن الريبة وأبين للحق حتى لا يقول الناس كان الوقت ليلا فلم نر الغالب أو الوقت حرا فلم نتمكن فيه من الحضور، فرضي فرعون بما ذكره موسى «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ» بعد الموافقة على الموعد والمباراة «فَجَمَعَ كَيْدَهُ» سحرته الذين يريد بهم كيد موسى «ثُمَّ أَتى» ٦٠ بهم ممتّعين بأدواتهم في الموعد والمكان صباحا واجتمع الناس وجاء موسى وأخوه وتداول مع السحرة وباشر بنصحهم
«قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ» ما هي هذه العصي والأخشاب والحبال التي جئتم بها لتقابلوا عظمة الله تعالى ارجعوا «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بهذه الأشياء وإنّ شعوذتكم وأخذكم أبصار الناس بدمدمتكم لا تغنيكم شيئا من أمر الله الذي هو معي، وإن لم تنتهوا «فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» عظيم لا تقدرون أن تتخلّصوا منه يعدمكم فيه ويهلككم، لأن سحركم بمقابلة آياته بهت وافتراء «وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» ٦١ على الله الكذب وخسر، فانظروا ما أقول لكم وتداولوه بينكم لئلا يحلّ عليكم عذاب الله إن أصررتم على ذلك، وقد أعذر من أنذر. ولما سمعوا منه ما سمعوا تداولوا بينهم وتذاكروا بشأنه وماهيّته ولم يتفقوا «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» قال بعضهم ما هذا بساحر ولا قوله قول ساحر ولا هو معتمد على السحر، وقال آخر كلا إنه ساحر ومن عادة السحرة التمويه بالكلام وادعاء ما ليس عندهم تهويلا، ثم كثر اللغط بينهم «وَأَسَرُّوا النَّجْوى» ٦٢ أخفوها بينهم وهي عبارة عن الإقدام لمباراته أو الإحجام عنها، ثم اتفقوا على مناظرته على أنه إذا كان ساحرا غلبناه بكثرتنا، وإن كان
206
ما معه من السماء فلنا أمر آخر ننظر به، وكلمة أسرّ، من الأضداد، بمعنى أخفى وأظهر ومثلها أودعت بمعنى دفعت الوديعة وقبلتها، وأطلبت بمعنى أحوجته إلى الطلب وأسعفته بما طلب، وأفزعت بمعنى أحللت فيهم الفزع وأخرجتهم إلى الفزع، وأشكيت بمعنى أحوجتهم للشكاية، ونزعت عن الأمر الذي شكوني به وهكذا كثير، وبأثناء المناجاة «قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى» ٦٣ أي شريعتكم الحسنة الفضلى التي لا أمثل منها، تبعا لقول فرعون الآنف الذكر وإظهارا لطاعته في أمرهم به، وإن هنا مخفّفة من الثقيلة وأسمها ضمير الشان، وعلى هذا المصاحف، وقرىء (إن هذين) إلخ بأعمال إنّ و (إِنْ هذانِ) إلخ على أن إن بمعنى نعم كقوله:
ويقلن شيب قد علاك... وقد كبرت فقلت إنّه
وقرىء إن بمعنى ما النافية، وعليه فتكون اللام في (لساحران) بمعنى إلا، كالتي في الآية ١٠٤ من الأعراف المارة، أي ما هذان إلا ساحران، قراءات أربع أرجحها الأولى على قراءة عاصم ورواية حفص وابن كثير والخليل، ثم قال بعضهم لبعض بعد انتهاء النجوى ومراجعة فرعون «فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا» واحدا على قلب واحد ومقصد واحد، لأنه أهيب لكم بأنظار المجتمعين، ولا تتفرقوا بالرأي والإقدام «وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى» ٦٤ على خصمه فإنه يربح ويفوز بالمرتبة العظمى من الملك ويكسب حمد الناس أجمع، وهذا من جملة ما تشاوروا به، ولما أجمع أمرهم على المقابلة «قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» ما لديك أولا لنلقي عليه ما يبطله «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى» ٦٥ ما لدينا ثم تلقي أنت ما تراه مبطلا لعملنا، وقد استعملوا مع موسى الأدب بتفويض الأمر إليه، لأنه حين المداولة شكّوا في كونه ساحرا مثلهم، وظنّوا أن ما عنده من الله فاختاروا تقديمه احتراما له، ولكن الله تعالى ألهمه بأن يتقدّموا بما عندهم أولا ليظهر الله سلطانه بقذف الحق على الباطل ليمحق إفكهم ويزهق باطلهم ويعلي شأن رسوله على الناس، ولو ألقى هو أولا ثم ألقوا بعده لما ظهر للناظرين شيء
207
له شأن، بل لبقيت عصاه حية كما هي عليه، وبقيت عصيهم وأخشابهم وحبالهم على ما هي عليه أيضا، لأنها لا تؤثر في عصا موسى، ولقال الناس إن كلا من الطرفين أتى بشيء عجيب ولكن لم يغلب أحد الآخر، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه ووفق إليه أحبابه «قالَ بَلْ أَلْقُوا» ما عندكم فألقوه «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ» وإلى الناس أجمع «مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» ٦٦ فرأوا الأرض امتلأت حيات وروابي، وأخذوا أعين الناس بما صاروا يدمدمون، حتى بهت الكل مما رأوا وتطاولت أعناق فرعون وملئه «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» ٦٧ من أن يلتبس على الناس الأمر فيصدقوا بعمل السحرة ويشكوا في أمره، لأن ما جاءوا به من جنس معجزة موسى من جهة العصا وزيادة عليها الأخشاب والحبال التي صارت كالجبال، فأوحى اليه ربه بأمره «قُلْنا لا تَخَفْ» مما تصورته ورآه الناس من عمل السحرة «إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى» ٦٨ القائمة بالعلو عليهم، الظافر الغالب حسبما هو مقدر في أزلنا «وَ» لأجل أن يعلم الناس والملك واتباعه غلبك عليهم وصدقك ويؤمنوا أن ما جاء به السحرة شعوذة لا قيمة لها، لأنها زائلة، وان ما جئت به هو من عند الله لا سرية فيه، وليذهب من قلوب الناس ما تصوروه وما القى من الخوف في قلبك خشية ميل الناس إليهم وتصديقهم، ولاظهار إخفاقهم «أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ» عصاك لم يسمها تعظيما لها وليعلمه أنها أعظم مما جاءوا به كله ثم بشره ليزداد طمأنينة بقوله «تَلْقَفْ ما صَنَعُوا» من الإفك الذي سحروا به أعين الناس، فتلتقم الزئبق الذي دسوه فيها حتى أروهم الحبال والعصي حيات، والأخشاب جبالا وتبتلعه، وأكّد له هذا على طريق الحصر بقوله عز قوله «إِنَّما صَنَعُوا» من إراءة الجبال حيات والأخشاب جبالا هو «كَيْدُ ساحِرٍ» حيله ومكره لا حقيقة لها، وكل عمل يقوم به الساحر غير دائم «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى» ٦٩ أينما أقبل وحل فتكون عاقبته الخسران والخيبة، فألقاها فكان ما كان كما أخبر الله، فعجب الناس وذهب بهم العجب أقصاه إلى حد لم يخطر ببال، ولم يتصوره أحد، ورأى السحرة ما هالهم أمره،
208
وتيقنوا أن هذا من قبل الله، وأن موسى ليس بساحر، فلم يسعهم إلا أن وقعوا على الأرض خاضعين لله مخبتين كما أخبر عنهم بقوله عز قوله «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً» على الأرض وبلسان واحد «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى» ٧٠ وانقدنا لأمرهما، وأخر موسى رعاية لسجع الآي، على أن الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا أي برب موسى وهرون، كما مر في سورة الأعراف في الآية ١٢٢ التي ذكرنا فيها هذه القصة إلا انها كررت هنا بأوسع مما هناك.
مطلب قوة الإيمان وثمرته:
قال جار الله الزمخشري سبحان الله ما أعجب أمرهم. قد القوا حبالهم وعصيهم والجحود ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة بالشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! فذهب الغيظ بفرعون أقصاه «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» بالايمان به ولهذا أقول «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» وأنتم تلاميذه فيه «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» اليد اليمنى مع الرجل اليسرى وبالعكس مبالغة في الضرر «وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» جزاء عملكم هذا، وفي هنا دالة على الاستعلاء لأن حروف الجر تخلف بعضها كما قدمناه في تفسير الآية ١٠٤ من سورة الأعراف المارة «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً» نحن فرعون ملك مصر أم موسى وهرون الذين آمنتم بهما «وَأَبْقى» ٧١ أدوم هددهم بهذا لأنهم خذلوه خذله الله وعلى أمل أنهم يرجعون عن إيمانهم «قالُوا» بلا خوف ولا جزع «لَنْ نُؤْثِرَكَ» مهما كنت وملكك فلا نفضلك ولا نختارك أبدا «عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ» الواضحات على صدق موسى وأخيه «وَالَّذِي فَطَرَنا» لا نفعل ذلك ولا نرجع عن إيماننا حيث تبين لنا أنك مبطل بدعواك الربوبية وأن إله موسى هو الإله الحق الذي لا رب غيره لهذا الكون وقد اقسموا على أحقية موسى لأنهم رأوا الحق معه وقد حلت بهم الهداية ومن يهد الله فلا مضل له، وجواب
209
القسم مقدم عليه وهو لن نؤثرك ويجوز العطف على ما جاءنا وعليه يكون المعنى لن نختارك على ما جاءنا ولا نختار عبادتك على عبادة الذي خلقنا والاول اولى قيل انهم لما سجدوا كشف الله عن بصيرتهم قرأوا منازلهم في الجنة لذلك صارحوه بقولهم «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» به من تعذيبنا لنلحق بربنا، فإنك «إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا» ٧٢ الفانية التي لم يبق لنا بها رغبة ولم تعد تخالج قلوبنا رهبة مما فيها من العذاب بعد أن رأينا من إله موسى ما رأينا «إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا» السابقة «وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ» أيضا لعله يغفره لنا لأنا عرفنا موسى ليس بساحر حين المناظرة معه قبل المباراة، وذلك أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى قائما، فأراهموه، فرأوا عصاه تحرسه، فقالوا لفرعون إن الساحر إذا نام بطل سحره فهذا ليس بساحر، وأرادوا الامتناع عن مناظرته، فأكرههم عليها، ولقد تناجوا فيما بينهم وتنازعوا ولم يلقوا له بالا ولم يؤثر فيهم تهديده، فقالوا «وَاللَّهُ خَيْرٌ» ثوابا وأعظم عقابا منك «وَ» خيره «أَبْقى» ٧٣ وأدوم من خيرك لأنه باق، وخيرك وشرك زائل، والخير الباقي خير من الفاني، والشر الفاني أهون من الباقي وهذه الجملة بمقابلة «أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى» قال الحسن رض الله عنه سبحان الله لقوم كفارهم أشد الكافرين كفرا ثبت في قلوبهم الإيمان بطرفة عين، ولم يتعاظم عندهم أن قالوا لفرعون في أبهته «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» في ذات الله، والله ان أحدهم (يريد أهل زمانه) اليوم ليصحب القرآن ستين عاما ثم يبيع دينه بشيء حقير. هذا قوله رضي الله عنه في زمنه قبل الف ومئتى سنة وكسور، فكيف بأهل زماننا هذا الذي عمّت فيه البلايا وكسرت به الرزايا، وقل فيه الحياء، وازداد فيه العناء وكثر فيه الشقاء، فالتّقي يعاب، والشقي يهاب، وصاحب الحق مقصور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، ثم أنظر رعاك الله كيف تنورت بصائرهم إذ قالوا له «إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً» بما اكتسبه من أعمال قبيحة في هذه الدنيا «فَإِنَّ لَهُ» في الآخرة جزاء إجرامه «جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها» فيستريح من عذابها «وَلا
210
يَحْيى»
٧٤ حياة طيبة تركن نفسه إليها، تقدم نظيرتها من الآية ١٣ من سورة الأعلى المارة «وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً» في الآخرة «قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ» في دنياه علاوة على إيمانه «فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى» ٧٥ ثم بين هذه الدرجات بقوله «جَنَّاتُ عَدْنٍ» خلود دائمة كثيرة «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» أبدا لا تحول لهم عنها وذلك الجزاء الحسن عند الله «جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى» ٧٦ في دنياه وتطهر من الشرك والمعاصي. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء. وفي رواية: كما ترون الكوكب الدريّ، وان أبا بكر وعمر منهم وأنعما. يقال فلان أحسن من فلان وأنعم أي أفضل، يعنى أن أبا بكر وعمر منهم وازداد تناهيا
الى الغاية فهما أهل لهذا، انتهى ما حكى الله عن هؤلاء السحرة البررة أهل التقوى وأهل المغفرة الذين أصبحوا كفارا وأمسوا أبرارا، قال تعالى «وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى» بعد أن حصل له اليأس من إيمان فرعون لعدم تأثير تلك الآيات العظام فيه وهي المار ذكرها في الآية ١٢٩ فما بعدها من سورة الأعراف بعد آيتي العصا واليد المارتين قلبها، ثم بين ذلك الإيحاء بقوله عز قوله «أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل واترك فرعون وقومه لأنه مصر على الكفر «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً» لا ماء فيه ولا طين بمجرد ضربك يكون كذلك، ثم سر أنت وإياهم فيه (لا تَخافُ دَرَكاً) من فرعون وقومه إن يلحقوكم «وَلا تَخْشى» ٧٧ غرقا فيه أنت ولا قومك، فامتثل أمر ربه وامر بني إسرائيل فتهيأوا وسار بهم الى جهة البحر (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) حين بلغه أمرهم ولكنه لم يلحقهم حتى دخلوا البحر كلهم، فدخله على أثرهم هو وجنوده فصار بنو إسرائيل يخرجون من الطرف الآخر والقبط يدخلون من طرفه الأول، لذلك بقي منفرجا حتى لم يبق من بني إسرائيل نسمة فيه، ولم يبق أحد من قوم فرعون خارجه، لأن بني إسرائيل لما لحقهم القبط بقوا سائرين في البحر وتعقبهم القبط حتى توسطوه ليتم
211
مراد الله، فأطبقه عليهم دفعة واحدة، وذلك قوله تعالى، «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ» ٧٨ كلمة تهويل لكيفية الفرق الذي أصابهم فعلاهم وغمرهم بأمواجه وزبده الناشئ من شدة تلاطم أمواجه بسبب انهيار المياه بعضها على بعض التي كان الله أوقفها كالجبال الشامخة، حيث شق منها اثنى عشر طريقا لكل سبط طريق كما سيأتي بيانه في الآية ٦٠ فما بعدها من سورة الشعراء الآتية، لذلك، بقي منفرجا على حاله ولم ينطبق شيئا فشيئا. قال تعالى «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى» ٧٩ نفسه ولا قومه الصواب وأكذب الله قوله «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» كما سيأتي في الآية ٢٩ من سورة المؤمن من ج ٢، ونجى الله موسى وقومه وصدق له وعده بإهلاك عدوه وإعلاء كلمته، ثم شرع يعدد نعمه على بني إسرائيل فقال «يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ» فرعون وقومه الذين استرقوكم وأذلوكم «وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» حيث وعد الله موسى أنه يأتيه في ذلك المكان المبارك والبقعة المقدسة لينزل عليه التوراة، وإنما نسب المواعدة إليهم لأن منافعها لهم إذ فيها عزهم وفوزهم وشريعتهم ومعالم دينهم «وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» ٨٠ راجع ماهيتها في الآية ١٦٠ من سورة الأعراف المارة،
وقلنا لهم حينما طلبوا منا في التيه أكلا وشربا «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» من لذاته وحلاله واشربوا من الماء الذي انبعته لكم من الصخرة وتظللوا بالغمام الذي سخرناه لكم من دون كسب ولا تعب، ولذلك سماه الله طيبا إذ لم تتطرق اليه الشبهة «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» فتتجاوزوا الحد الذي سننّاه لكم فتبطروا بسبب هذا الرزق الطيب المبارك فتكفروا بنعمته بعدم الشكر والرضاء أو تتقووا فيه على المعاصي فيزول عنكم «فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي» عقوبتي لعدم تقديركم فضلي «وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» ٨١ في النار وهلك هلاكا لا نجاة بعده «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ» كثير المغفرة كما إني شديد العقوبة على الكافر عظيم العفو «لِمَنْ تابَ» من الشرك والمعاصي «وَآمَنَ» بي وبرسولي وكتابي «وَعَمِلَ صالِحاً» بأداء ما فرضته عليه
212
والشكر بما أنعمت به عليه «ثُمَّ اهْتَدى» ٨٢ بقي مستقيما على الحق شاكرا للنعم حتى الوفاة، ثم ان موسى عليه السلام أمر قومه بالدوام على عبادة الله وأوصى أخاه هرون بمراقبتهم على النحو المبين في الآية ١٤٣ من سورة الأعراف المارة واختار جماعة من أشراف قومه ليذهب بهم إلى مناجاة ربه وتلقي التوراة الشريفة حسبما أمره بذلك وتقدمهم على أن يأتوا بعده على أثره، ولما وصل وناجاه ربه بقوله «وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى» ٨٣ وقد اخترتهم بأمرى، وأمرتك أن تأتي بهم معك لأشرفك بكتابي «قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي» مقبلين إليك يا رب «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ» فقد مر عليهم يا «رَبِّ لِتَرْضى» ٨٤ عليّ زيادة على رضاك وكان تقدمه عليهم بسائق شدة شوقه إلى مناجاة ربه، وأمرهم أن يتبعوه دون توان، وهذا هو الميقات الأول الذي ذكره في الآية ١٤٣ من سورة الأعراف المارة، ولا ميقات غير هذين، وقال بعض العلماء إن المواقيت أكثر من اثنين وأوصلها بعضهم إلى ستة، ولكن لم أقف على ما يثبت ذلك، لأن المواقيت التي عينها الله لموسى هي عبارة عن ميقات تلقي التوراة وميقات طلب المغفرة عن الذين عبدوا العجل فقط، أما المواقيت التي ناجى بها ربه عفوا فقد تزيد على ذلك، وسيأتي لهذا البحث صلة عند ذكر الآيات التي فيها ذكر الميقات إن شاء الله، وبينما سيدنا موسى ينتظر تشريفه بكلام ربه من أجل التوراة، وقد مضت ايام ولم تأت جماعته الذين اختارهم للحضور معه، إذ باغته ربه بقوله جل قوله «قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ» بسبب استعجالك ذلك «وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» ٨٥ موسى بن ظفر وكان منافقا مظهرا للإسلام، وهو من عظماء بني إسرائيل من قبيلة السامرة الموجود بقاياهم الآن في جبل نابلس، قيل إنهم أربعون بيتا لم يزيدوا ولم ينقصوا حتى الآن حيث صاغ لهم عجلا وزعم أنه آلهتهم وأمرهم بعبادته راجع كيفية صياغته وإضلالهم به في الآية ١٤٨ من سورة الأعراف المارة، وإضافة الإضلال إلى السامري من قبيل اضافة الأشياء إلى مسبب في الظاهر، أما في الحقيقة فإن الموجد لها في الأصل هو الله تعالى وحده. ثم أمره الله أن يعود إليهم وينقذهم مما هم فيه،
213
لأنهم عكفوا على عبادته ولم يصغوا، لقول هرون ونقبائهم، قال تعالى حكاية عن حال موسى عليه السلام بعد أن أنزل عليه التوراة الشريفة وأسمعه ما أسمعه من أمر قومه «فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً» شديد الغضب على ما فاته من كلام ربه وعلى ما وقع من قومه، وكان حاملا صحف التوراة كما تفيده الآية ١٥١ من سورة الأعراف المارة، ولما وصل «قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً» بإنزال الكتاب عليكم، قيل كانت ألف سورة وكل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا إلا أن ظاهر القرآن يخالفه ويفيد أن موسى حملها، بدليل قوله (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) في الآية المارة وقوله (أَخَذَ الْأَلْواحَ) في الآية ١٥٢ من الأعراف أيضا. ثم قال موبخا صنيعهم «أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ» بمفارقتي حتى فعلتم ما فعلتم، ألم أترك عندكم من تسترشدون به، أعصيتم أمره، واشتد غضبه حتى ألقى الألواح على الأرض، وزاد في تقريعهم فقال «أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي» ٨٦ الذي أعطيتمونيه بأنكم تبقون على ديني حتى أرجع من ميقات ربي «قالُوا» الذين عبدوا العجل «ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا» باختيارنا لأن السامري غلب على أمرنا بكيده ولو أنا ملكنا أمرنا لما خالفناك، وان الذي يفتن لا يملك نفسه «وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً» أثقالا هو الحلي الذي استعرناه «مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ» القبط
حين خرجنا من مصر فعدها السامري علينا أوزارا وجمعه منا، وأوقد نارا وألقاه فيها، وبقينا ننتظرك حتى تحضر فنرى رأيك فيه، ولم نعلم ما يكنّه لنا ولا ما يؤول إليه أمر الحلي «فَقَذَفْناها» في تلك النار تبعا لأمره «فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ» ٨٧ ما معه في النار أيضا على زعمنا أن ما ألقاه من الحلي، ولم نعلم أنه من تراب وطء فرس جبريل عليه السلام الذي كان احتفظ به قبلا لهذه الغاية «فَأَخْرَجَ لَهُمْ» للقائلين المذكورين «عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» صراخ وذلك بعد أن صاغ العجل من الحلي وضع فيه ذلك التراب «فَقالُوا» للسامري وجماعة من بني إسرائيل الذين انقادوا إليه «هذا» العجل الذي ظهر لكم من من حلي القبط «إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى»
214
الذي ذهب إليه «فَنَسِيَ» ٨٨ غفل موسى عنه هنا، وذهب إلى الطور بطلبه، قال تعالى مبكتا قلة عقولهم «أَفَلا يَرَوْنَ» يا موسى هؤلاء الجهلة العتاة «أَلَّا يَرْجِعُ» أن العجل الذي صاغه لهم السامري لا يرجع «إِلَيْهِمْ قَوْلًا» إذا كلموه، ولا يجيبهم إذا دعوه «وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا» بدفعه عنهم «وَلا نَفْعاً» ٨٩ بجلبه إليهم فكيف يعتقدون إلهيته «وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ» عبادتهم له عند ما أرادوا العكوف عليه حال وجودك في المناجاة «يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ» بإضلال السامري لكم بأنه إله فأعرضوا عنه فإنه ليس بشيء بعد «وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ» الذي هو أهل لأن يعبد وخص الرحمن من أسمائه تعالى ليستميلهم عنه ويعلمهم انهم إذا رجعوا يغفر لهم ما فرط منهم (فَاتَّبِعُونِي» على دين الحق دين موسى، واتركوه فإنه ليس بإله ولا يليق أن يكون إلها «وَأَطِيعُوا أَمْرِي» ٩٠ فيما نهيتكم عنه، تأمل أيها القارئ هل ترى أحسن من هذا الوعظ؟ بدا بزجرهم، ثم دعاهم إلى معرفة الله، ثم إلى معرفة النبوة، ثم إلى اتباع الشرع. وانظر كيف قابلوه
«قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى» ٩١ فاعتزلهم هرون، والذين لم يشتركوا معهم في العبادة وقد سبب هذا الحادث تخلف الوفد الذي انتقاه موسى بحضور إنزال التوراة، بعد أن أخبر الله موسى بهذا الحادث رجع إلى قومه حاملا التوراة، فسمع صراخهم، فقال هذا صوت الفتنة التي أخبرني بها ربي، ورأى أخاه هرون واقفا مع جماعته بعيدا عنهم، فألقى التوراة وبادر فأخذ شعر رأسه بيمينه وشعر لحيته بشماله «قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ» من المجيء إليّ واخباري بما فعلوا «إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا» ٩٢ عن الهدى وعبدوا العجل ولم يصغوا لنهيك «أَلَّا تَتَّبِعَنِ» حالا فتعلمني بفعلهم «أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي» ٩٣ بوجوب القيام بما يعلمهم؟ وهذا أمر عظيم كان يجب عليك أن تتداركه قبل كل شي ءالَ يَا بْنَ أُمَّ»
يستعطفه ويسترحمه ليكف عنه، ولم يقل يا بن أبي لما قاست أمه من الهم والغم والخوف بسببه، فيحمله على العطف عليه فقال تلطف بي تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي»
لأني لم آل جهدا بنصحهم وصدهم، فقد أمرتهم
215
وزجرتهم فلم يقبلوا منيِ نِّي خَشِيتُ»
إن تركتهم على ما هم عليه وأتيتكَ نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ»
لأنهم صاروا حزبين حزبا معي وحزبا مع السامري وبقيت معهم خوفا من أن تقول لي تركتهمَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي»
٩٤ تراعيه وتعمل بوصيّتي فيهم، لأني رأيت من المصلحة بقائي بينهم حتى لا يتقاتلوا من من أجل عبادته، وأن لا يلحق من لم يعبده إلى من عبده. فلما رأى موافقة قوله للواقع وانه لم يقصر في مهمته، تركه، وأقبل على السامري «قالَ فَما خَطْبُكَ» الخطب هو الأمر العظيم الذي يكثر التخاطب فيه وهو مقلوب الخبط ففيه اشارة لعظم خبط السامري في الأمر، أي ما حملك على ما فعلت «يا سامِرِيُّ» ٩٥ أصدقني «قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» علمت شيئا لم يعلمه بنو إسرائيل «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ» فرس «الرَّسُولِ» جبريل لأني رأيت المحل الذي يدوسه يخضر حالا، فعلت أن لذلك شأنا، وهذا هو الذي أشار اليه عن بني إسرائيل في قوله ما لم يبصروا به أي لم يفقهوه ولم يلقوا له بالا «فَنَبَذْتُها» أي تلك القبضة في جوف العجل الذي صنعته من حليّ القبط التي كانت مع بني إسرائيل جمعتها وألقيتها في حفرة لحضورك، كي ترى رأيك فيها ثم عنّ لي أن أصوغها عجلا، ففعلت ثم طرحت فيها ذلك التراب فدبت فيها الحياة وصرخ فقلت لهم هذا هو إله موسى الذي ذهب اليه فعكفوا عليه وصاروا يسجدون له كلما صاح، وكان ما كان على النحو الذي تقدّم في القصة في تفسير الآية ٤٨ من الأعراف «وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» ٩٦ وزينته ولم يسبقني على ذلك أحد بل من اختراعي هذا ما أخبر به عدو الله السامري من صياغة العجل فمن أين جاز اليهود تحريفه ونسبته الى هرون، وحاشاه، كما جاء في الإصحاح ٢٢ من التوراة في فصل الخروج، لأن الله أخبرنا بأن هرون براء من ذلك، وان السامري معترف به، والله أصدق القائلين. وهذا من جملة التحريف الذي أوقعه اليهود وأخبرنا الله عنه في القرآن «قالَ» موسى بعد أن سمع قوله «فَاذْهَبْ» من بيننا «فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ» ما عشت «أَنْ تَقُولَ» لمن يريد أن يقربك
216
ولم يعرفك «لا مِساسَ» لا تمسني، وذلك أن موسى عليه السلام حرم على الناس ملاقاته، ومكالمته، ومبايعته، ومخالطته ومقاربته، فصار يهيم بالبرية مثل الهوام ورماه الله بداء عضال عقام، فكان إذا لمسه أحد أو لمس أحدا صمّا جميعا، ولذلك نهى عن مقاربته ولمسه وهذه عقوبته في الدنيا وهي عقوبة وحشة جدا لا أعظم منها، لأن الناس تحاموا عنه بالكلية وتقذروه قال «وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ» في الآخرة فستوافيه حتما وتذوق العذاب الأكبر على فعلتك هذه «وَانْظُرْ» أيها الخبيث المضل «إِلى إِلهِكَ» الذي صنعته «الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً» أنت ومن تبعك وداومتم على عبادته، وأصل ظلت بلامين حذفت الثانية تخفيفا وقرأت بكسر الظاء بنقل حركة ما بعدها إليها أي أقسمت على عبادته «لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ» نذريه أمامك وأمامهم «فِي الْيَمِّ نَسْفاً» ٩٧ لتعلموا أنه ليس بشيء ويظهر لكم ضلالكم فيه ثم شرع يوضح لهم الدين الحق فقال «إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ» وحده الذي يجيب دعاءكم، ويدفع ضركم، ويجلب لكم الخير «الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» خالق الكون وما فيه، ومالك أمر الخلق
، المحي المميت المستحق العبادة والتعظيم، لا معبود سواه، ولا رب الا إياه، الذي أنجاكم من الغرق وأغرق أعدائكم بآن واحد، الذي «وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» ٩٨ أي وسع علمه كل شيء، لأن علما تمييز محول عن الفاعل والى هنا ما يتعلق بالميقات الاول.
مطلب من اين عرف جبريل السامري:
وهنا فائدة وهي أن لك أن تقول من أين عرف السامري جبريل حتى وقع منه ما وقع؟ فأذكر لك ما قاله السيد إسماعيل حقي في تفسيره الكبير روح البيان وهو أن أم السامري حملته سنة قتل الأولاد من قبل فرعون كسيدنا موسى عليه السلام، ولما وضعته خافت عليه الذبح فوضعته في غار وأطبقت عليه، وتركته فيه، فأمر الله جبريل عليه السلام أن يغذيه بأصابعه لبنا وعسلا وسمنا حتى نشأ
217
وصار من قوم موسى، واسمه موسى بن ظفر السامري وصار يظهر الإيمان بموسى ويبطن الكفر به حسدا له، ويرى جبريل حينما يأتي اليه لأنه يعرفه حق المعرفة لتوليه تربيته، فانظر رعاك الله الى هذا الذي رباه جبريل أقرب المقربين الى الله من الملائكة، والى موسى الذي رباه فرعون اكفر الكافرين بالله، تقنع قناعة تامة أن لا حول للعبد عما قدره الله له أزلا، وقيل في هذين:
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيّرت عقول مربيه وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل
والحكمة من تربيته إظهار ما وقع منه مما هو مقدر في الأزل الذي هو غيب عما سوى عالم الغيب، ليعلم الناس أن لا مضل لمن هداه الله، ولا هادي لمن أضلّه، وان ما يختص به بعض البشر من الأمور الدنيوية لا قيمة لها ولا تأثير لها في محو ما هو مكتوب، ولا إثبات ما هو ممحو، جفت الأقلام ورفعت الصحف بما هو كائن إلى يوم القيامة- راجع تفسير أول سورة نون المارة- قال تعالى «كَذلِكَ» مثل ما قصصنا عليك عجبا من أمر موسى وقومه والسامري مع قومه في غيابه «نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا أكرم الرسل «مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ» من أحوال الأمم الخالية وأنبيائهم والحوادث التي جرت بينهم «وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً» ٩٩ كتابا فيه ذكر ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، فهو جدير أن تتذكر به وتذكر به قومك، وحقيق بأن يتفكر في معانيه من يتفكر، ويعتبر فيها من يعتبر. واعلم يا حبيبي أن «مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ» ولم يتعظ بما فيه فيأتمر بما أمر وينتهي عما نهى «فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً» ١٠٠ عظيما وإثما كبيرا
«خالِدِينَ فِيهِ» الذين أعرضوا عما فيه دائمين في عذابه «وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا» ١٠١ ما حملوا به أنفسهم وأثقلوا به ظهورهم من جزاء الإعراض عن هذا القرآن حتى استحقوا الخلود بالنار عقوبة لهم ذلك العذاب العظيم والتوبيخ الأليم يكون لهؤلاء المعرضين عن ذكر الله «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» النفخة الثانية بدليل قوله تعالى «وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ» أمثال هؤلاء «يَوْمَئِذٍ
218
زُرْقاً
١٠٢ عيونهم وأبدانهم من هول وخوف ما يلاقونه من الشدائد، لأن النفخة الأولى تكون للموت لا للحشر، فلا وجه لقول من قال إن المراد بها الأولى، وكلمة زرقا لم تكرر في القرآن «يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ» يتشاورون سرا عن مدة مكثهم في الدنيا، فيقول بعضهم لبعض «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً» ١٠٣ من الليالي في برزخكم ما لبثتم غيرها، استقصروا مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ أي القبر بعد الموت إلى البعث بالنسبة لما عاينوه من هول البعث، قال تعالى «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ» في مشاورتهم عن مدة لبثهم وما يسرونه وما هو أخفى منه ومن غيره من جميع أحوالهم، راجع الآية ٧ المارة من هذه السورة «إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً» أحسنهم قولا وأوفاهم عقلا، وأوفرهم حسّا، وأكبرهم رأيا، وأكثرهم إدراكا «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» ١٠٤ ما لبثتم غيره، قصر في عينه ما مضى في جنب ونسبة ما استقبل، لأن ما دهمهم من الأهوال أنساهم مدة لبثهم فيها وإن ذلك ما بين النفختين إذ يرفع العذاب عنهم، قال ابن عباس سأل رجل من ثقيف رسول الله ﷺ عن الجبال كيف يكون حالها في الآخرة، فأنزل الله «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ» بعد هذه النفخة العظيمة التي تميت الخلق أجمع قبلها عدا ما استثنى الله ويراد بها النفخة الأولى، «فَقُلْ» يا حبيبي لهذا السائل «يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً» ١٠٥ يقلعها ويذريها بالهواء «فَيَذَرُها» يجعل أمكنتها «قاعاً صَفْصَفاً» ١٠٦ مستوية ملساء لا نبات فيها ولا غيره «لا تَرى فِيها عِوَجاً» انخفاضا وأودية وحفرا ومغاور «وَلا أَمْتاً» ١٠٧ ارتفاعا ولا صخورا ولا روابي، والعوج بكسر العين هو ما لا يرى بالبصر بل بالبصيرة، لأنه عبارة عما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المسافة الهندسية المدركة بالعقل، فألحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك، وبالفتح هو ما يدرك بالبصر كعوج الجدار والعود، وقيل لا فرق بينهما ويطلق كل منهما على الآخر حسيا كان أو معنويا. والأمت هو التنور والشقوق في الأرض ومطلق الميل، وله معان كثيرة غير هذه في اللغة، وأطلقه بعضهم على الرابية وأسنده لابن عباس رضي الله عنهما «يَوْمَئِذٍ» يوم يكون النفخ والخسف
219
يخرج الناس من أجداثهم مهرولين «يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ» الملك الذي يدعو الناس الى موقف الحشر فيسلكون وراءه طريقا «لا عِوَجَ لَهُ» فلا يزيغون عنه قيد شعرة يمينا ولا شمالا ولا يلوون على شيء أبدا تراهم كلهم سراعا مستوين «وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ» هناك وذلت الأنفس وخضعت الجوارح «لِلرَّحْمنِ» الذي وسعت رحمته من في السموات والأرض «فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» ١٠٨ أصواتا دقيقة رقيقة في غاية الخفاء، وتراهم من شدة الفزع وهيبة الموقف قد سكنت أصواتهم وضعفت قوتهم «يَوْمَئِذٍ» في ذلك اليوم المهيب يلتمسون من يلوذون به ليشفع لهم ولكن «لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ» لأحد ما، من أحد ما «إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» ١٠٩ بذلك فهذا الصنف الجليل يشفع بإذن الله لمن يأذن له بشفاعته فالذي يأذن هو الله الذي «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» ما تقدم من أعمالهم الشافعين والمشفوع لهم وما تأخر وما استهلكوه في حياتهم وما خلفوه لاولادهم فانه جل وعلا يحاسبهم على ذلك كله لأنه محيط بهم كمحاسبة رجل واحد مثل طرف العين وهو عالم بما وقع منهم على الانفراد «وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» ١١٠ أي لا يحيط علم الشافعين والمشفوع لهم بمعلومات الله الشاملة كما في الآية ٩٨ المارة
«وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ» خضعت وذلت الخلق أجمع، وهذا من إطلاق الجزء وارادة الكل، ويسمى الأسير عانيا لذلته، ومعنى القيوم القائم على كل نفس بما كسبت في دنياها لأنه حيّ حياة أبدية لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه وهم سائرون تحت مراقبته في هذه الدنيا، ويوم القيامة يختص بالملك والقهر فتظهر إذ ذاك على الوجوه علائم السرور وإمارات الشرور «وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» ١١١ في ذلك اليوم الذي يقول الله فيه على ملأ الأشهاد لمن الملك اليوم؟ فيسكت جميع الخلق ويحجبون حتى من التنفس فلا يستطيع أحد أن يحرك شفتيه، ثم يقول ملك الملوك عزّت قدرته وتعالت عظمته: لله الواحد القهار الآية ١٦ من سورة المؤمن في ج ٢ ويقول جل قوله «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ» بالله
220
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر في دار دنياه «فَلا يَخافُ ظُلْماً» من أحد ولا نقصا من ثوابه على عمله الصالح ولا زيادة في عقابه على عمله السيء «وَلا هَضْماً» ١١٢ لشيء مما يستحقه من الخير أو الحسن، بل يأخذه وافيا مضاعفا «وَكَذلِكَ» عطف على كذلك نقصّ أي كما أنزلنا على الرسل قبلك كتبا مقدسة «أَنْزَلْناهُ» هذا القرآن عليك وجعلناه «قُرْآناً عَرَبِيًّا» بلغتك ولغة قومك ليفهموه ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق البشر منزلا من ربهم «وَصَرَّفْنا» كررنا «فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ» بالأمور المخوفة كما كررنا فيه من الوعد بالأشياء المفرحة «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» الشرك ويجتنبون المحارم «أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً» ١١٣ يجدوا لهم ما يوقظهم من غفلتهم ويزيد في اعتبارهم عند سماع أسباب إهلاك من قبلهم اعتبارا يؤدي الى التقوى ويرغب في الطاعة والاقتصار على التمسك بما أحل لهم والسلوك الى توحيد الله «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ» عما يقول الجاحدون علوا كبيرا، ثم التفت إلى رسوله ﷺ إذ علم وهو عالم من قبل أنه يبادر جبريل عليه السلام حين يلقي اليه الوحي فيقرأه معه قبل أن يفرع من قراءته عليه لشدة حرصه على حفظه، وقال «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ» حين انزاله عليك فتقرأه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» من قبل أميننا جبريل بل اصطبر حتى يفرغ من تلاوته عليك، ثم أقرأ أنت «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ١١٤ به وفهما بمعانيه وحفظا بمبانيه، وذلك أن الله تعالى تكفل له بحفظه راجع الآية ٦٧ من سورة القيامة المارة والآية ١٠ من سورة الحجر من ج ٢ وإنما فعل حضرة الرسول هذا مع علمه بتكفيل الله تعالى له بحفظه وقراءته زيادة في حرصه عليه خشية النسيان عند الحاجة لبعض الآيات، ولهذه المناسبة ذكره الله تعالى ما وقع لآدم عليه السلام بقوله «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ» عهدنا لقومك في عالم الذّر الذي نقضوه ولم يحافظوا عليه بأن لا يأكل من الشجرة التي عيّناها له فأكل منها إنه نسى العهد الذي أخذناه وغفل عنه بتقديرنا عليه من الأزل، وأما
221
أنت يا حبيبي فلا تخش النسيان لما نوحيه إليك لأنك محفوظ منه في هذا الشأن كما هو ثابت لك في الأزل، وفي هذه الآية إشارة إلى قوله تعالى «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ» الآية ١١٣ المارة، أي أنا كررنا الوعيد لهؤلاء الجاحدين ذلك العهد لعلهم يرجعون اليه، فلم يفعلوا ولم يلتفوا اليه ونسوه. هذا وما قيل إن في هذا غضاضة في مقام آدم عليه السلام إذ جعلت قصته مثلا للجاحدين، قيل لا مبرر له، إذ لا يشترط أن يكون المشبه كالمشبه به من كل وجه، ألا ترى أن الأصحاب لما قالوا لحضرة الرسول كيف نصلي عليك يا رسول الله قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل إبراهيم إلخ... ، فهل يتصور أن إبراهيم أفضل من محمد وأن آل إبراهيم أفضل من آل محمد؟ كلا، لهذا فلا معنى لهذا القيل وقائله، والتفسير على هذا الوجه هو الموافق لنفس الأمر لمناسبة السياق والسباق والله أعلم «فَنَسِيَ» آدم ذلك العهد وأكل من الشجرة، وقيل في المعنى.
يا أكثر الناس إحسانا الى الناس... يا أحسن الخلق إعراضا عن الناس
نسيت وعدك والنسيان مغتفر... فاغفر فأول ناس أول الناس
هذا وأن النسيان لا يوأخذ عليه بشريعتنا قال صلى الله عليه وسلم: رفع عن أمتي ثلاث الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. ولعله هو من خصائص هذه الأمّة بدليل قوله رفع بما يدل على أن الأمم قبل محمد ﷺ يؤاخذون على ذلك كله، وأن هذه الآية خصت بالعفو عنها، إذ ما عموم إلّا وخصص، وقد خص الأنبياء بالمؤاخذة على أشياء لم تؤاخذ بها أممهم، ورحم الله القائل حسنات الأبرار سيئات المقربين «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» ١١٥ ثباتا وحزما على ما عهدنا به اليه، ولو صبر عما نهى عنه لكان من أولي العزم ولكن لم يرد الله منه ذلك، بل أراد ما وقع كما وقع «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى» ١١٦ عن السجود راجع قصّته في الآية ١١ من الأعراف المارة (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حسدا منه على ما أنعمنا به عليك فتحذر منه «فَلا يُخْرِجَنَّكُما
222
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى»
١١٧ أنت وزوجك وذريتك إذ يكون عيشك من كد يمينك وعرق جبينك، فتزرع وتحصد وتطحن وتعجن وتخبز بعد أن كنت في غنى عن هذه الأتعاب، ومن ضمن شقائك شقاء ذريتك من بعدك وزوجتك معك، لأن شقاء الرجل شقاء لأهله وسعادته سعادتهم، أسند جل شأنه الخروج الى اللعين بسبب وسوسته لهما وقبولهما منه وإلا ففي الحقيقة هو الفاعل وحده، وانما يؤاخذ الفاعل على ما نهي عنه بقصده ورغبته وبما أوتي من عقله بلزوم اجتناب القبيح وعمل المليح، كما بيّنه في الآية ١٢٢ الآتية، ثم بين فوائد بقائه في الجنة بقوله عز قوله «إِنَّ لَكَ» يا آدم مادمت في الجنة «أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى» ١١٨ بل تأكل ما تشتهي وتلبس ما تريد بلا تعب ولا مشقة «وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» ١١٩ بل تشرب أنواع الأشربة اللذيذة وتستظل بظل دائم لا ترى وهج الشمس ولا حرها، يقال ضحى الرجل إذا برز في الضحى فأصابته الشمس، قال عمرو بن ربيعة في هذا:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر
يخصر أي يبرد، فهذه الأمور التي يدور عليها كفاف الإنسان مؤمنة لكما، فلماذا أخرجتما أنفسكما الى مباشرتها بالتعب والمشقة بسبب عدم صبركما عما نهيتما عنه! «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ» ثم بين صفة هذه الوسوسة بقوله «قالَ» إبليس يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ» التي من يأكل منها لا يموت بل يخلد في الجنة «وَمُلْكٍ لا يَبْلى» ١٢٠ ولا يفنى زيادة على التخليد فيها أبدا فراق لهما ذلك وقالا بلى فما هو؟ قال تأكلان من هذه الشجرة ولم يزل يحسّن لهما أكلها حتى أغراهما وغرهما
«فَأَكَلا مِنْها» مع كون علمهما بعداوة إبليس لهما بإخبار الله تعالى لهما نسيانا وغرورا من إبليس الذي القي الوسوسة لهما وأقسم بأنه ناصح لهما ولم يريدا بعملهما ذلك مخالفة أمر الله حقيقة، لأن الحقيقة هي طبق مراد الله أزلا ومن تأمل هذا عرف أن لا دافع لقضاء الله. فعجل الله عقوبتهما على هذه المخالفة الظاهرة لما أمرهما الله به «فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما» حال أكلهما بدليل العطف بالفاء
223
فأزيل عنهما لباسهما الساتر لهما فظهرت عورتهما فاستوحشا منظرهما «وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» بقصد سترهما إذ استبشعا ما رأياه من عورتهما، ولم يكن لهما ما يسترانها إلا أوراق الجنة.
مطلب معصية آدم والحكم الشرعي فيها ومعنى القضاء والقدر.
«وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ» على هذه الصورة «فَغَوى» ١٢١ ضل عن طريق الحق وأخطأ الصواب بمخالفته هذه فخسر الجنة والخلد فيها في الدنيا، أمّا الآخرة فمضمونة له، وكذلك خسر الملك الذي غرّرهما به إبليس مدة حياتهما وصار حالهما من الراحة الى التعب، ومن الصفاء الى الكدر ومن الرفاه الى الهم، ومن الفراغ الى الشغل، ومن الأمن الى الخوف، ومن الصحة الى المرض، واعتراهما ما يعتري أهل الدنيا وفارقهما ما يعترى أهل الجنة. الحكم الشرعي: قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال عصى آدم ولا يجوز أن يقال عاص لمن اعتاد المعصية لا لمن لم يعتدها، كالرجل يخيط ثوبه فيقال خاط ثوبه ولا يقال له خياط. وقد أجمع العلماء على أن ما وقع من آدم قبل النبوة بدليل قوله تعالى (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ) تجاوز عما وقع منه «وَهَدى» وفقه للهداية بأن علمه كلمات كما يأتي ذكرها في الآية ٢٧ من البقرة في ج ٣ وهي من حيث المعنى مثل هذه الآية، إلا أن العطف جاء هنا يثم الدالة على التراخي، أي اصطفاه نبيا بعد ما وقع منه ذلك، وهناك بالفاء الدالة على الفور أي أنه تاب عليه حالا، وعلى كل فالتوبة بعد وقوع المخالفة والنبوة بعدها، وما جاء على غير هذا لا قيمة له ولا عبرة به روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ احتج آدم وموسى «أي جادل وخاصم يقال حاججته جادلته فغلبته» فقال موسى يا آدم أنت أبونا أخرجتنا من الجنة! فقال آدم أنت اصطفاك الله بكلامه وخطّ لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاما، فحج آدم موسى. وفي رواية لمسلم: قال آدم بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق، قال موسى بأربعين سنة، قال وهل وجدته
224
فيها وعصى آدم ربه؟ قال له نعم، قال فهل تلومني على أني عملت عملا كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله فحج آدم موسى عليهما السلام.
قال أبو سليمان الخطابي: يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر من الله على معنى الأجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدّره، ويتوهم بعضهم أنه حجّ آدم موسى من هذه الوجهة، وليس كذلك، وانما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم وصدورها على تقدير منه وخلقه لها خيرها وشرها. والقدر أسم لما صدر مقدارا عن فعل القادر، والقضاء في هذا معناه الخلق، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم لهم وأكسابهم ومباشرتهم الأمور وممارستهم إياها عن قصد وتعمد وتقدم ارادة واختيار، لأن الزاني لا يزني إلا وهو راغب للزنا مختار فيه، والشارب لا يشرب إلا وهو راغب فيه، وهكذا، فكيف يكون ذلك جبرا. أخزى الله المعاندين إذا فالحجة انما تلزمهم من هذا الوجه والملامة تلحقهم عليها منه، وجماع القول في هذا أن القضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمثابة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء، وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله تعالى قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعلّة ذلك، وإنما كان تناوله الثمر من الشجرة سببا لنزوله الى الأرض التي خلق إليها، وأنما أدلى آدم بالحجة على هذا المعنى وأوقع لائمة موسى على نفسه، ولذلك قال أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما ومن هنا حصل الاختلاف في عصمة الأنبياء.
مطلب في عصمة الأنبياء ووقتها فيهم:
واعلم أن خبط القول فيها على ما قاله الإمام فخر الدين الرازي يرجع الى أربعة أقسام: الأول ما يقع في باب الاعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز في حقهم البتة. الثاني ما يقع بالتبليغ فكذلك ممتنع في حقهم
225
حتى الخطأ والنسيان فضلا عن التعمد على الصحيح، لأن الآية أجمعت على عصمتهم من الكذب ومواظبتهم على التبليغ والتحريض، والا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا ولا سهوا ولا خطأ ولا نسيانا، ومن الناس من جوز سهوا لأن الاحتراز منه غير ممكن وليس بشيء ولا عبرة ولا قيمة له. الثالث ما يقع بالفتيا فقد أجمعوا أيضا على أنه لا يجوز قطعا خطاهم فيها ونسيانهم وسهوهم سواء، فعدم جواز العمد من باب اولى، وما أجازه بعضهم على طريق السهو لا صحة له، لأن الفتيا من قسم التبليغ بالنسبة إليهم، إذ لا فرق في وجوب اتباعهم في أفعالهم وأقوالهم. الرابع ما يقع من أفعالهم.
قال الإمام الفخر والمختار عندنا أهل السنة والجماعة أنه لم يصدر منهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين تنبأهم، لأن الذنب لو صدر عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة، إذ قد يجوز حفظ البعض منها من اقتراف الذنب واسناد هذا إليهم غير جائز، لأن درجتهم غاية في الرفعة والشرف، ولو جاز صدوره منهم لأدى الى عدم قبول شهادتهم، ولوجب الافتداء بهم فيما صدر منهم وهو محال، فيكونون وحاشاهم أقل حالا من عدول الأمة، وهذا أيضا غير جائز، لأن معنى النبوة والرسالة أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم مثلا، وهو يوم القيامة شاهد على الكل، راجع الآية ٤٠ من سورة النساء في ج ٣ والآية ٨٩ من سورة النحل في ج ٢ تجد ما يتعلق في هذا البحث مفصلا، وهذا ما عليه اجماع أهل السنة والجماعة، أما ما قاله بعض المعتزلة بجواز صدور الكبائر منهم، وما قاله بعضهم بمنع الكبائر وجواز صدور الصغائر منهم فقط على جهة العمد فلا عبرة به إذ لا مستند لهم به من الكتاب والسنة، فضلا عن أنه مخالف لهما فضلا عن عدم اتفاقهم عليه، لأن منهم الجبائي قال بعدم جواز صدور الكبيرة والصغيرة منهم موافقا لقول أهل السنة والجماعة، الا أنه زاد إلا على جهة التأويل كما وقع لآدم عليه السلام من أكل الشجرة على أنها غير المنهي عنها إما لمظنّة الخلد وإما لملك، ومنهم من جوز وقوعها سهوا وخطأ لا فرق عنده بين الكبيرة والصغيرة، ومنهم
226
من منع وقوع الكل سهوا وخطأ وتأويلا، وهو قال الشيعة، فاذا علمت هذا فاعلم أنه قد ثبت ببديهة العقل ان لا شيء أقبح بمن رفع الله درجته وأعلى مقامه وائتمنه على وحيه، وجعله خليفة في عباده وبلاده، يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحا لغرضه. واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله، فلو لم يطيعوه هم لدخلوا تحت قوله تعالى «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» الآية ٤٤ من سورة البقرة، وقد قال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» الآية ٨٨ من سورة هود في ج ٢، وقال تعالى «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» الآية ٩٠ من سورة الأنبياء في ج ٢ واللفظ للعموم فيتناول الكل ويدل على ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه، فثبت لك من هذا ومما سيأتي في تفسير الآيات الآنفة الذكر أن الأنبياء كلهم فاعلون لكل خير تاركون كل شر، وهذا ينافي صدور الذنب منهم، كيف وقد قال تعالى (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) الآية ٥٥ من سورة الحج في ج ٣، وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) الآية ٣٣ من آل عمران ج ٣ وقال في حق موسى (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) الآية ١٤٣ من الأعراف المارة وقال تعالى «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) الآيات ٤٦ فما بعدها من سورة ص المارة) وهذه الأدلة القاطعة تدل على وصفهم بالاصطفاء والأخيرية صراحة وذلك كله ينافي اقتراف الذنب مهما كان بعد النبوة لا عمدا ولا سهوا ولا نسيانا ولا خطأ قال في بدء الأمالي:
وان الأنبياء لفي أمان عن العصيان عمدا وانعزال
وأن من خالف هذا الإجماع وتمسك بظاهر بعض الآيات كالآية المفسرة وقال بصدور الذنب منهم على طريق التأويل أو غيره فإن كلامه إنما يتم إذا أثبت بالدلائل أن ما وقع من آدم عليه السلام كان حال النبوة أو بعدها، وذلك
227
محال قطعا لا دليل فيه ولا حجة له البته حتى لا يوجد نقل صحيح يستند إلى دليل والقاعدة إذا كنت ناقلا فصحة النقل، وإلا فكلامك مردود عليك. وإذا كان كذلك وهو كذلك فلم لا تقول إن ما وقع من آدم كان قبل النبوة، وأن الله تعالى قبل توبته وشرّفه بالنبوة والرسالة، فتطمئن وتنفي الشك من النفوس الخبيثة وتروضها على الطهارة والفضيلة وتنزه الأنبياء العظام عما لا يليق بمكانتهم، فتحصل رضاء الله تعالى، لأن رضاء الأنبياء في رضائه، ولا توقع نفسك بسبب الوهم والشك بالهلاك بسبب ما تصمهم به مما ليس فيهم، فتستوجب سخط الله باختيارك ورضاك؟ قال القاضي عياض قد أخبر الله بعذره فقال «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» أي نسي عداوة إبليس له فقبل نصحه ونسي ما عهد اليه بشأنها وشأن الشجرة ولم ينو المخالفة ولم يستعملها، ولكنه اغتر بحلف إبليس وظن أن أحدا لا يحلف بالله كذبا وتأول أن المأكول منها غير المنهي عنها وإذا قلت حينئذ (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) وما تكرر في القرآن والحديث من اعتراف الأنبياء بذنوبهم وتوبتهم واستغفارهم وإشفاقهم وبكائهم على ما سلف منهم، فلو لم يكن لهم ذنوب فكيف يتوبون ويستغفرون، فأقول بما أن درجة الأنبياء في الرفعة والعلوّ والمعرفة بالله وسنة عباده وعظيم سلطانه وقوة بطشه مما يحملهم على شدة الخوف منه جل جلاله أو الإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم، وأن تصرفهم بأمورهم ما لم ينهوا عنه ولم يؤمروا به وقد أتوه على وجه التأويل والسهو، وقد تزودوا من الدنيا وأمورها المباحة، فأوخذوا عليها وعوتبوا بسببها أو حذروا من المؤاخذة بها، فهم خائفون وجلون على أنها تسمى ذنوبا بالإضافة الى سمو منصبهم وعلو مكانتهم، ومعاص بالنسبة لكمال طاعتهم وتمام انقيادهم الى ربهم، لأنها ذنوب كذنوب غيرهم التي يأتونها رغبة بلا تأويل، وحاشاهم من ذلك، وحاشاهم مما هنا لك. هذا، وقد اختلف في وقت العصمة: قالت الشيعة انهم معصومون من وقت الولادة، وقالت المعتزلة من وقت البلوغ، وقال أهل السنة والجماعة من وقت النبوة، وقال بهذا القول الهزيل واليافعي من المعتزلة، وهذا هو قول الحق الوسط وخير الأمور
228
أوساطها «قالَ» لآدم وزوجته حواء بعد أن انتهى أمد مكثهما في الجنة وحان أمر إقامتهما في الدنيا على أثر ما وقع منهما «اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً» انحدروا الى الأرض لأن الهبوط معناه الانحدار من العلو الى السفل على طريق القهر كهبوط الحجر، وإذا استعمل في الإنسان فعلى طريق الاستخفاف به «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» بالتحاسد في الدنيا والاختلاف بالدين وفي أمر المعاش وإنما جمع ضمير بعضكم مع أن الخطاب لآدم وحواء فقط لأن العداوة نشأت في ذريتهما لا فيهما، وما قيل أن الخطاب لهما ولإبليس ينافيه قوله تعالى «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» من كتاب ورسول وهذا الهدى الى ذريتهما لأن إبليس مقطوع بعدم هدايته وعدم إتيان الهدى اليه بكتاب او رسول، لأن الله تعالى حذر رسله منه وأمرهم أن يحذروا أممهم منه «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ» من كافة خلقي «فَلا يَضِلُّ» في دنياه «وَلا يَشْقى» ١٢٣ بآخرته وإبليس محروم ومقطوع له بالشقاء بالدنيا ومجزوم بعذابه في الآخرة، قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ولهذا البحث صلة في الآية ٣٤ فما بعدها من سورة البقرة في ج ٣، قال تعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي» أي الكتاب المعبر عنه بالهدى الذي فيه ذكره، وأعرض عن الرسول المذكر به «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً» في هذه الدنيا «ضَنْكاً» ضيّقة وضنك وصف يستوي فيه المذكر والمؤنث، قال ابن عباس كل ما أعطي لعبد في هذه الدنيا قل أو كثر ولم يتق فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وإن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة في الدنيا مكثرين فكانت معيشتهم ضنكا لأنهم
يرون أن الله ليس بمخلف عليهم ما ينفقونه، وينسون ما أنعمه عليهم ابتداء وقد ولدتهم أمهاتهم مجرّدين فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله. وقال ابن جبير: يسلبه القناعة حتى لا يشبع فمع الدين التسليم والقناعة والتوكل فتكون حياتهم طيبة، ومع الاعراض الحرص والشح فعيشته ضنك، وحالته مظلمة، كما قال بعض الصوفية لا يعرض أحدكم عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه ولهذا قال تعالى «وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
229
الْقِيامَةِ أَعْمى»
١٢٤ فاقد البصر لأنه يحشر على وجهه فلا يرى ببصره ما يراه غيره، لأنه منكوس، وإلا فإن الله تعالى يعيد للأعمى بصره يوم القيامة، وكذلك مقطوع اليد والرجل وغيرها من القلعة بحيث يحشر كاملا كما ولد، ونظير هذه الآية الآية ٣٢ من سورة الفرقان المارة والآية ٩٧ من سورة الإسراء الآتية، قال بعض المفسرين فاقد الحجة جاهل بوجود الحق كما كان في الدنيا إذ يطلق على الجاهل في الأمر أعمى لأنه لا يعرف المخلص مما يقع فيه، كما أن الأعمى لا يعرف الطريق الى مبتغاه، قال عليه الصلاة والسلام من لا يعرف الله في الدنيا لا يعرفه في الآخرة، الا أن سياق الآية يؤيد التفسير الأول لموافقته لظاهرها وعليه المعول إذ لا يعدل عن الظاهر إلا عند إمكان التفسير به «قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى» اليوم في الآخرة «وَقَدْ كُنْتُ» في الدنيا «بَصِيراً» «قالَ كَذلِكَ» مثل ما فعلت بنا في الدنيا فعلنا بك في الآخرة حيث «أَتَتْكَ آياتُنا» فيها «فَنَسِيتَها» ولم تعمل بها ولم تتبع من أتاك بها «وَكَذلِكَ» مثل نسيانك هذا لآياتنا في الدنيا «الْيَوْمَ تُنْسى» ١٢٦ في الآخرة من خيرنا، ولهذا حرمناك الآن نعمة النظر فيها جزاء وفاقا، فتركك الآن على عماك الذي كنت عليه في الدنيا لأنك لم تستعمل نعمة النظر فيها بآياتنا ومكوناتنا، فتعتبر وتؤمن بل حرفتها لغير ذلك «وَكَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الواقع بالمقابلة «نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ» في دنياه ولم يستعمل جوارحه فيما خلقت لها بل صرفها الى المعاصي ولم ينتفع بالنعم التي خلقت لها «وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ» أما من آمن بها واستعمل جوارحه وحواسّه فيما خلقت لها، فأولئك لم ننسهم من الرحمة ولم نحرمهم من الخير، بل نرفعهم الى الدرجات العلى مثل السحرة المار ذكرهم في الآية «٧٠» من الأعراف والآية ٧٣ من هذه السورة «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى» ١٢٧ من عذاب الدنيا وأعظم مهما رأيتموه شديدا، وأدوم لأن عذاب الدنيا له نهاية ولا نهاية لعذاب الآخرة فضلا عن فظاعته التي لا تكيف، فان قلت قد ورد وان الله تعالى يري الكافر مقعده في الجنة ثم يدخله النار ليزداد عذابا على عذابه وحسرة على حسرته، فمن يحشر أعمى لا يرى ذلك فيكون بحقه
230
أقل عذابا وحسرة، قلت لأن الله تعالى يرد عليه بصره حتى يريه مقعده ذلك، ثم يسلبه منه، وكذلك الأصم والأبكم، قال تعالى «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ» أي لا أسمع ولا أبصر منهم يوم يأتونه، راجع الآية ٣٨ من سورة مريم المارة والآية ٣، من سورة الكهف في ج ٢، وقال ابن عباس إن الكافر يحشر أولا بصيرا ثم يعمى، فيكون الإخبار بأنه كان بصيرا إخبارا مما كان عليه أول حشره، لانه لو لم يردّ عليه بصره كيف يقرأ كتابه؟ كما يأتي في الآية ١٤ من الإسراء الآتية، ولا يخفى أن ذلك اليوم يوم طويل تختلف فيه أحوال الكفار فمرة يجادلون وأخرى يشكون، وطورا يعمون، وتارة يبصرون أجارنا الله من ذلك، قال تعالى ملتفتا الى كفار مكة «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» وقرىء بالنون أي ألم يبين لهم هذا القرآن «كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ» الماضية وهم الآن «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» إذا سافروا للشام إذ يمرون بالحجر ديار ثمود وقريات قوم لوط ولا يتفكرون فيما كان عليهم أهلها، وكيف صار تدميرهم، وسببه «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ» واضحات موجبة للاعتبار «لِأُولِي النُّهى» ١٢٨ العقول السليمة يتعظون بها حيث كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة، فلما عصوا رسلهم أهلكهم الله «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» وهي الوعد بتأخير العذاب ليؤمن من يؤمن منهم ويصر من يصر على كفره وفق ما هو مقدر في الأزل بالتقدير المبرم الذي لا يبدل ولا يقدم ولا يؤخر «لَكانَ لِزاماً» حتما نزوله بهم حالا لا ينفك عنهم أبدا، وكلمة لزام لم تكرر في القرآن إلا هنا وآخر سورة الفرقان، وهي بمعنى
لازم وصف به للمبالغة، وهكذا يؤتى بالمصادر بدل اسم الفاعل بقصد المبالغة «وَأَجَلٌ مُسَمًّى» ١٢٩ بالرفع عطف على كلمة في (ولولا كلمة) أي لولا كلمة سبقت بتأخير عقوبتهم وضرب أجل لوقوعها اما بانقضاء أعمارهم أو بحلول يوم القيامة لما تأخر عنهم العذاب، بل لنزل بهم حالا، ولكن حال دون ذلك تلك الكلمة والأجل اللذان لا يتبدلان، وهنا فيه المقدم والمؤخر وفيه مظنة الغلط لمن لا يعلم ذلك، وهو من أنواع البديع المستحسن وجوده في الكلام البليغ الفصيح، قال تعالى مخاطبا رسوله
231
صلى الله عليه وسلم «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» فيك وفي كتابك وربك، الى أن يأتي ذلك الوقت المقدر لإيقاع العذاب فيهم في الدنيا، وسترى عذابهم الأكبر يوم القيامة «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى» ١٣٠ هذه الآية والتي بعدها نزلتا في المدينة، ولهذا فسرت بالصلوات الخمس، فصلاة الصبح قبل طلوع الشمس، والعصر قبل غروبها، وآناء الليل أول ساعاته المغرب والعشاء، وأطراف النهار صلاة الظهر، لأنها تدخل أول الزوال وهو انتهاء طرف النصف الأول وابتداء طرف النصف الثاني وهي بينهما، لذلك قال وأطراف النهار، وقرىء ترضى بضم التاء أي تعطى الثواب الذي يرضيك به ربك، وبالفتح ترضى ما يعطيكه من الثواب وترضي نفسك بالشفاعة بالآخرة وبالظفر وانتشار دعوتك بالدنيا، والآناء جمع أني وهو الوقت، ولذلك فسر بالساعات في قوله تعالى (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) الآية ٥٤ من سورة الأحزاب في ج ٣، أي وقته
قال تعالى «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» فتطيل النظر بها إعجابا واستحسانا وتمنّيا يا حبيبي إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» من قومك وغيرهم بالأموال والرياش والأثاث والأنعام والأولاد وغيره، لأن ذلك لا قيمة له عندنا ولذلك لم نزودك منه لكونه «زَهْرَةَ» أي بهجة وزينة وزخرف «الْحَياةِ الدُّنْيا» الفانية بما فيها لأنه من جملة الغرور الذي حذرناك منه، ولذلك لم نجعل لك ميلا إليها لانها ليست بشيء يركن اليه، وإنا إنما أعطيناهم ذلك «لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» لا لغير ذلك، بل نريد أن نمتحنهم ونختبرهم ابتلاء من عندنا ليزدادوا إثما بكفرانها فيستوجبوا العذاب الشديد «وَرِزْقُ رَبِّكَ» الذي رزقه في الدنيا بالنسبة لما بترتب عليه من الثواب في الآخرة وما أنعم به عليك من النبوة والرسالة وما وعدك به من فتح البلاد وارشاد العباد، وانقياد الأمم للايمان بك، وما أدخره لك من الأجر لقاء دعوتك لهم وصبرك على أذاهم، وقناعتك بالقناعة من الرزق، وتجملك يحسن الخلق ولين الجانب «خَيْرٌ» لك مما أعطيناهم من النعم الدنيوية التي لا قيمة لها مهما كانت كثيرة «وَأَبْقى» ١٣١ أدوم لأن ما أعطاكه باق لا يزول في الدنيا والآخرة، وما
232
أعطيناهم فان معذبون عليه فيهما، هذا، والدليل على نزول هاتين الآيتين في المدينة ما قاله ابو رافع نزلت هذه الآية حينما نزل ضيف برسول الله ﷺ وبعثني الى يهودي استلف منه له دقيقا فلم يفعل إلا برهن، فأرسل معي درعه الحديدي فرهنته عنده، وقال صلى الله عليه وسلم: والله لئن باعني أو أسلفني لقضيته واني لأمين في السماء وأمين في الأرض لأن مكة لا يهود فيها. فثبت أنهما مدنيتان قال أبيّ بن كعب: من لم يعتزّ بالله تقطعت نفسه حسرات، ومن اتبع بصره ما في أيدي النّاس بطل حزنه، ومن ظن أن نعمة الله عليه في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه، وقد قال ﷺ انظروا الى من هو دونكم في أمور دنياكم وفي رواية: انظروا الى من هو أسفل منكم ولا تنظروا الى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعم الله، وفي رواية نعمة ربكم. أما في أمور الآخرة فينبغي للعاقل أن ينظر الى من هو فوقه ويقتفي أثره، فهو أجدر لأن يكون من أولياء الله، وقد نظم هذا في بيتين قال:
من شاء عيشا رغيدا يستفيد به في دينه ثم في دنياه إقبالا
فلينظرن الى ما فوقه أدبا ولينظرن الى من دونه مالا
ولهذا فان المتقين تردّدوا في وجوب غض النظر عن ابنية الظلمة، وعدد الفسقة، في ملابسهم ومراكبهم قال الحسن لا تنظروا إلى دقدقة (جلبة الناس وأصوات حوافر دوابهم) هماليج (الذين لا مخ لهم أو المذللين المنقادين) الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية في تلك الرقاب لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالنظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها. ومعنى هذا الخطاب هو أن الله تعالى يقول لحبيبه محمد ﷺ استمر يا حبيبي على ترك ذلك كله، واعلق بالك بما هو عند الله، واترك ما سواه، ويراد به غيره صلى الله عليه وسلم، لأنه أبعد من أن تمتد عينه لشيء من تلك الزخارف، وجاء الخطاب له لأنه أكثر تأثيرا لانقياد أمته إليه، وأعظم إلهابا في الصدور لمتابعته، كيف وهو القائل: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله.
وكان ﷺ شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زهرتها، لهذا يكون المراد به أمته، مثل قوله تعالى «لَئِنْ أَشْرَكْتَ» الآية ٦٥ وما بعدها من سورة الزخرف
233
في ج ٢ قال تعالى «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ» الركعتين المفروضتين عليه خاصة ليمرن أعمامه وأولادهم وأصهاره وبناته عليها، إذ نفث في روعه أنها ستفرض صلاة على الكل أشد منها، ولهذا خصّ الأمر بأهله بما يشمل زوجاته، ولو كان المراد بها الصلاة المفروضة لما خصّ أهله بها، بل لأمره بأمر العامة بها لأن التكليف بها عام، لهذا لم يرد بها الصلاة المكتوبة لأنها لم تفرض بعد، ولا ينافي هذا المعنى ما أخرجه ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ» كان ﷺ يجيء الى باب علي كرم الله وجهه صلاة الغد ثمانية أشهر يقول الصلاة رحمكم الله تعالى «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»
الآية ٢٢ من الأحزاب في ج ٣ لأنه من أصهاره والمراد بأهل البيت هم أعمامه وأولاد عمه وبناته، وزوجاته تبع لهم، لأن الزوجات غيرهن لا يعدون من أهل الرجل لابتعادهن عنه بالطلاق، أما زوجات النبيّ فلا طلاق عليهن راجع الآية ٥١ من سورة الأحزاب في ج ٣ أيضا، ولا ما جاء عنه ﷺ أنه كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية، لانه لا يبعد أن ذلك كان قبل فرض الصلاة مطلوب منه عند كل حادثة ومأمور بها.
انظر ما بعد هذه الآية «وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» داوم أنت عليها وتحمل مشاقها لان الصبر مجاز مرسل عن الداومة والتحمل، لأنهما ملارمان معنى الصبر، وفيه اشارة الى أن من رعاية الصلاة والمحافظة عليها بصورة جدية حقيقة مشقة على النفس، ولذلك أمر بالصبر عليها «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» لنفسك وأهلك بل نسألك عملا لأنا «نَحْنُ نَرْزُقُكَ» وإياهم ونكفيك مؤنة الرزق في الدنيا، لأن من كان في عمل الله كان الله في عمله، ففرغ بالك لعمل الآخرة وما تحتاجه من الدنيا فهو مضمون لك قال تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون الآية ٢٣ من الذاريات في ج ٢ «وَالْعاقِبَةُ» المحدودة «لِلتَّقْوى» ١٣٢ لأهلها قال تعالى «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» الآية ٨٣ من سورة القصص الآتية، والقرآن يفسر بعضه بعضا، والمتقون هم أولياء الله وهو وليهم، راجع الآية ١٨ من سورة الجاثية في ج ٢، كان عروة
234
ابن الزبير إذا رأى ما عند السلاطين قرأ هذه الآية ثم ينادى الصلاة الصلاة يرحمكم الله. وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله شيء من خصاصة قال قوموا فصلوا، بهذا أمرنا الله ورسوله. وعن مالك بن دينار مثله، وهذا كله لا يؤيد أن هذا الأمر في هذه الآية في الصلوات الخمس ولا مانع من أن يستدل بها بعد نزول فرض الصلاة. على الصلاة عند كل حادثة، ثم طفق يندد في أهل مكة بعد سماعهم هذه الآيات وعدم اتعاظهم بها بقوله جل قوله «وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ» مثل موسى وعيسى لأن أممهما كلها اقترحوا آية عليهما أجابوهما، وكذلك من قبلها مثل صلح وهود عليهما السلام حتى إذا أجاب طلبهم هذا وأظهر الله لهم على يده ما اقترحوه استدلوا على صحة نبوته وصدق رسالته قال تعالى مجيبا لهم على لسان رسوله «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى» ١٣٣ وهو القرآن المنوه به فيها المحتوى على ما في التوراة والإنجيل والزبور وعلى كل ما في الصحف الأولى المنزلة على إدريس وابراهيم من قبلهم وبعدهم من الآيات البينات فضلا عن فصاحته وبلاغته وما فيه من أخبار الأمم السالفة وما اقترحه عليهم من الآيات وسبب إهلاكهم، فآية القرآن هذه فيها كل آية وهو نفسه آية كافية لمن أراد أن يعتبر لانه أم الآيات وأسس المعجزات وقيل المراد بالبينة هو محمد ﷺ إذ جاء ذكره في الصحف الاولى والكتب أيضا قال تعالى «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ» هؤلاء المقترحين طلب نزول الآيات «بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ» أي أرسال محمد إليهم أو إنزال القرآن عليه الدال على صدقه المغني عن أي آية «لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا» يدعونا لعبادتك وتوحيدك لنهتدي بهذه «فَنَتَّبِعَ آياتِكَ» المنزلة معه أو على يده «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ» بعذاب الدنيا بالأسر والقتل والجلاء «وَنَخْزى» ١٣١ في عذاب الآخرة من هوان وافتضاح، فيا أكمل الرسل «قُلْ كُلٌّ» منا ومنكم «مُتَرَبِّصٌ» ينتظر العاقبة التي يؤول إليها أمره «فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ» غدا إذا جاء أمر الله بانقضاء الاجل المضروب لعذابكم في الدنيا والأخرى «مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ» العدل المستقيم «وَمَنِ اهْتَدى» ١٣٥
235
أنحن أم أنتم ولا شك أن محمدا وأصحابه وأتباعه هم أهل الطريق العدل المهتدون بهدى الله وستقول لهم قول القائل:
سوف ترى إذا انجلى الغبار... أفرس تحتك أم حمار
مطلب الاحتجاج على الله ورده:
واعلم أن الله تعالى قطع المعذرة بالإمهال والإرشاد فله الحجة البالغة روى سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال يحتج على الله ثلاثة الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول، وتلا هذه الآية والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلا انتفع به، ويقول الصغير كنت صغيرا لا أعقل، فترفع لهم نار ويقال أدخلوها فيدخلها من كان في علم الله أنه سعيد وينكل عنها من كان في علم الله أنه شقي، فيقول الله إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتوكم. فقد أراهم الله من هذا أنهم لو أرسل إليهم الرسول، ولو أمهلوا للبلوغ، لما دخلوا في طاعة الله لأن النفس الخبيثة أزلا تبقى على خبثها ولهذا البحث صلة في الآية ١٥ من سورة الإسراء الآتية فراجعه. وهناك ثلاثة آخرون (١) الملك يقول يا رب شغلتني بمصالح عبادك ففاتني ما كنت تريده من عمل صالح. فيؤتى له بسليمان عليه السلام إذ لم يشغله ملكه وهو أوسع ملكا في الأرض عن عبادة الله. (٢) المريض يقول يا رب لو عافيتني ما سبقني أحد بما يرضيك فيؤتى له بسيدنا أيّوب عليه السلام إذ لم يمنعه مرضه وهو أشد مرضا عن عبادة الله.
(٣) الفقير يقول يا رب شغلني الكدّ في المعيشة عن عبادتك، ولو أغنيتني ما فاتني أحد بما تريده فيؤتى له بسيدنا عيسى عليه السلام إذ لم يشغله فقره عن عبادة الله والدعوة اليه، وهو أفقر الناس، فلا عذر إذن لأحد أبدا. وروي عنه أيضا أنه لا يقرأ أهل الجنة من القرآن الا سورة طه ويس، وانظر أيها القارئ ما أشد مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها، لأنها بدأت بخطاب الرسول ﷺ بأنه لم ينزل عليك هذا القرآن لتحمل تعب الإبلاغ وأنهاك نفسك، وحيث بلغت فلا عليك الا أن يقبلوا منك، وعليك الإقبال على طاعة الله وختمت بما هو في معناه بأمره بالتقوى وعدم الاكتراث بالدنيا والصبر على الذين لا ينجع بهم الإنذار، وأن المخالف سيندم من حيث لا ينفعه الندم. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
236
Icon