تفسير سورة طه

تفسير ابن أبي زمنين
تفسير سورة سورة طه من كتاب تفسير القرآن العزيز المعروف بـتفسير ابن أبي زمنين .
لمؤلفه ابن أبي زَمَنِين . المتوفي سنة 399 هـ
تفسير سورة طه، وهي مكية كلها

قَوْله: ﴿طه﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: يَا رجل
﴿مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ: إِنَّه شقي
﴿إِلَّا تذكرة لمن يخْشَى﴾ يَقُولُ: إِنَّمَا (أَنْزَلَهُ) تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى اللَّهَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَمْ يقبل التَّذْكِرَة
﴿تَنْزِيلا﴾ (أَيْ: أَنْزَلَهُ تَنْزِيلًا) ﴿مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْض وَالسَّمَوَات الْعلَا﴾ يَعْنِي: نَفسه.
قَالَ مُحَمَّد: (الْعلَا) جَمْعُ: الْعُلْيَا؛ يُقَالُ: سَمَاءٌ عُلْيَا، وسموات علا.
﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحت الثرى﴾ قَالَ أَبُو رَجَاء العطاري: الثَّرَى: الْأَرْضُ الَّتِي تَحْتَ الْمَاءِ الَّتِي يُسْتَقَرُّ عَلَيْهَا؛ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا تَحت ذَلِك الثرى
﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرّ وأخفى﴾ قَالَ قَتَادَةُ: السِّرُّ: مَا حَدَّثْتَ بِهِ نَفْسَكَ، وَأَخْفَى مِنْهُ: مَا هُوَ كَائِن مِمَّا لم يحدث بِهِ نَفسك.
﴿لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى﴾ لله تِسْعَة وَتسْعُونَ اسْما.
110
سُورَة طه من (آيَة ٩ آيَة ١٢).
111
﴿وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى﴾ أَيْ: قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى
﴿إِذْ رأى نَارا﴾ أَيْ: عِنْدَ نَفْسِهِ (وَإِنَّمَا كَانَتْ نُورًا) ﴿فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنست نَارا﴾ أَيْ: رَأَيْتُ ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هدى﴾ يَعْنِي: هُدَاةً يَهْدُونَهُ الطَّرِيقَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقَبَسُ: مَا أَخَذْتَهُ فِي رَأْسِ عُودٍ مِنَ النَّارِ، أَوْ فِي رَأس فَتِيلَة.
قَالَ: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا﴾ أَيْ: النَّارَ الَّتِي ظَنَّهَا نَارًا ﴿نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبك﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْرَأُ: (أَنِّي) بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ؛ الْفَتْحُ عَلَى مَعْنَى: نُودِيَ بِأَنِّي، وَالْكَسْرُ بِمَعْنَى: نُودِيَ: يَا مُوسَى، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: ﴿إِنِّي أَنا رَبك فاخلع نعليك﴾ قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَخَلَعَهُمَا ﴿إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدّس طوى﴾ الْمُقَدَّسُ: الْمُبَارَكُ، وَطُوًى: اسْمُ الْوَادِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِرَاءَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ.
111
سُورَة طه من (آيَة ١٣ آيَة ٢٤).
112
﴿ إني أنا ربك ﴾.
قال محمد : تقرأ :( أني ) بالفتح والكسر١، الفتح على معنى : نودي بأني، والكسر بمعنى : نودي : يا موسى، فقال الله له :﴿ إني أنا ربك فاخلع نعليك ﴾ قال قتادة : كانتا من جلد حمار ميت فخلعهما٢ ﴿ إنك بالواد المقدس طوى ﴾ المقدس : المبارك، وطوى : اسم الوادي.
قال محمد : القراءة عند أهل المدينة بضم أوله بغير تنوين٣.
١ قال أبو حيان: (وقرا الجمهور إني بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين وعلى معاملة النداء معاملة القول لأنه ضرب منه على مذهب الكوفيين وأنا مبتدأ أو فعل أو توكيد لضمير النصب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: وأنى بفتح الهمزة، والظاهر أن التقدير بأنى (أنا ربك). البحر المحيط (٧/٣١٦)..
٢ رواه الطبري في "تفسيره" (٨/٣٩٧)، (٢٤٠٣٤)..
٣ وقال أبو حيان أيضا: وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن إسحاق وأبو السماك وابن محيصن بكسر الطاء منونا، وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منونا، وقرأ الحرميان وأبو عمرو بضمها غير منون، وقرأ أبو زيد عن أبي عمر وبكسرها غير منون، وقرأ عيسى بن عمر والضحاك طاوى أذهب، فمن نون فعلى تأويله المكان، ومن لم ينون وضم الطاء فيحتمل أن يكون معدولا عن فعل نحو رمز وقثم، أو أعجميا أو على معنى البقعة، ومن كسر ولم بنون فمنع الصرف باعتبار البقعة، وقال الحسن: (طوى) بكسر الطاء والتنوين مصدر ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين فهو بوزن الثناء بالكسر والقصر الشيء الذي تكرره، فكذلك الطوى على هذه القراءة (البحر المحيط ٧/٣١٦) وانظر: النشر (٢/٣١٩) والدر المصون (٥/٩)..
﴿وَأَنا اخْتَرْتُك﴾ أَيْ: لِرِسَالَتِي وَلِكَلَامِي ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحى﴾ إِلَيْك
﴿وأقم الصَّلَاة لذكري﴾ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ: إِذَا صَلَّى العَبْد ذكر الله
﴿إِن السَّاعَة﴾ يَعْنِي: الْقِيَامَةَ ﴿آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ: (أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي) ﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ يَقُولُ: إِنَّمَا تَجِيءُ السَّاعَةُ لِتُجْزَى كل نفس بِمَا تعْمل.
﴿فَلَا يصدنك عَنْهَا﴾ أَيْ: عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا ﴿مَنْ لَا يُؤمن بهَا﴾. ﴿فتردى﴾ أَي: تهْلك.
﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ سَأَلَهُ عَنِ الْعَصَا الَّتِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا.
قَالَ مُوسَى: ﴿هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يَخْبِطُ بِهَا وَرَقَ الشَّجَرِ. ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: حَوَائِجَ
112
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ الْمَآرِبِ: مَأْرُبَةٌ، ومأربة أَيْضا.
113
﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ أَيْ: تَزْحَفُ عَلَى بَطْنِهَا بِسُرْعَةٍ.
﴿سنعيدها سيرتها الأولى﴾ أَيْ: هَيْئَتَهَا الْأُولَى؛ يَعْنِي: عَصًا
﴿واضمم يدك إِلَى جناحك﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ كَفه تَحت عضده (ل ٢٠٧) ﴿تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ.
قَالَ الْحَسَنُ: أَخْرَجَهَا وَاللَّهِ كَأَنَّهَا مِصْبَاحٌ، فَعَلِمَ مُوسَى أَنْ قَدْ لَقِيَ رَبَّهُ. ﴿آيَةً أُخْرَى لنريك من آيَاتنَا الْكُبْرَى﴾ كَانَتِ الْيَدُ أَكْبَرُ مِنَ الْعَصَا.
قَالَ مُحَمَّد: (آيَة) بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى: نُرِيَكَ آيَةً أُخْرَى.
سُورَة طه من (آيَة ٢٥ آيَة ٣٦).
﴿ لنريك من آياتنا الكبرى ﴾ كانت اليد أكبر من العصا. قال محمد :( آية ) بالنصب على معنى : نريك آية أخرى.
﴿قَالَ﴾ مُوسَى ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ دَعَا أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ لِلْإِيمَانِ.
﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً من لساني يفقهوا قولي﴾ فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْعُقْدَةُ الَّتِي فِي لِسَانِهِ أَنَّهُ تَنَاوَلَ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ وَهُوَ صَغِيرٌ فَهَمَّ بِقَتْلِهِ، وَقَالَ: هَذَا عَدُوٌّ لِي! فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّ هَذَا صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ؛ فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ ذَلِكَ، فَادْعُ بِتَمْرَةٍ وَجَمْرَةٍ، فَاعْرِضْهُمَا عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِتَمْرَةٍ وَجَمْرَةٍ فَعَرَضَهُمَا
113
عَلَيْهِ، فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَةَ فَأَلْقَاهَا فِي فِيهِ، فَمِنْهَا كَانَتْ [تِلْكَ] الْعُقْدَةُ فِي لِسَانِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي بالعقدة: رتة.
114
﴿ يفقهوا قولي ﴾ ففعل الله به ذلك، وكانت العقدة التي في لسانه أنه تناول لحية فرعون وهو صغير فهم بقتله، وقال : هذا عدو لي، فقالت له امرأته : إن هذا صغير لا يعقل، فإن أردت أن تعلم ذلك، فادع بتمرة وجمرة، فاعرضهما عليه، فأتي بتمرة وجمرة فعرضهما عليه، فتناول الجمرة فألقاها في فيه، فمنها كانت ( تلك ) ١ العقدة في لسانه. قال محمد : يعني بالعقدة : رتة.
١ ما بين ( ) سقط من الأصل وأثبت من البريطانية..
﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي﴾ أَي: عوينا من أَهلِي
﴿هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ أَيْ: ظَهْرِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: أَزَرْتُ فُلَانًا عَلَى الْأَمْرِ؛ أَيْ: قَوَّيْتُهُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا وَازَرْتُهُ: فَصِرْتُ لَهُ وزيرا.
﴿ اشدد به أزري ﴾ أي : ظهري.
قال محمد : يقال : أزرت فلانا على الأمر، أي : قويته عليه، فأما وازرته : فصرت له وزيرا.
﴿وأشركه فِي أَمْرِي﴾ دَعَاءٌ مِنْ مُوسَى لِرَبِّهِ أَنْ يشركهُ فِي أمره.
﴿قَالَ قد أُوتيت سؤلك﴾ أَيْ: مَا سَأَلْتَ ﴿يَا مُوسَى﴾.
سُورَة طه من (آيَة ٣٧ آيَة ٤٨).
﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى﴾ فَذِكْرُهُ النِّعْمَةَ الْأُولَى يَعْنِي: قَوْلَهُ: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحى﴾ شَيْءٍ قُذِفَ فِي قَلْبِهَا أُلْهِمَتْهُ، وَلَيْسَ بِوَحْي نبوة
يعني : قوله ﴿ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ﴾ شيء قذف في قلبها ألهمته، وليس بوحي نبوة.
﴿أَن اقذفيه فِي التابوت﴾ أَيْ: اجْعَلِيهِ ﴿فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ فِي الْبَحْرِ ﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ يَعْنِي: فِرْعَوْنَ ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مني﴾ قَالَ قَتَادَةُ: أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ مَحَبَّةً مِنْهُ، فَأَحَبُّوهُ حِينَ رَأَوْهُ ﴿ولتصنع على عَيْني﴾ أَي: ولتغذى بمرأى مني.
﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ﴾ أَيْ: يَضُمُّهُ. قَالُوا: نَعَمْ. فَجَاءَتْ بِأُمِّهِ، فَقَبِلَ ثَدْيَهَا. ﴿وَقَتَلْتَ نَفْسًا﴾ يَعْنِي: الْقِبْطِيَّ الَّذِي كَانَ قَتَلَهُ خطأ ﴿فنجيناك من الْغم﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: مِنَ الْخَوْفِ؛ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ الْقَوْمُ، وَغَفَرْنَا لَكَ ذَلِكَ الذَّنْبُ ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا﴾ أَيِ: ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً؛ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أهل مَدين﴾ أَقَامَ بِمَدْيَنَ عِشْرِينَ سَنَةً ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ أَيْ: عَلَى مَوْعِدٍ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِد.
﴿واصطنعتك لنَفْسي﴾ اخْتَرْتُك.
﴿وَلَا تنيا فِي ذكري﴾ أَيْ: لَا تَضْعُفَا فِي الدُّعَاءِ إِلَيّ
﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ كفر
﴿فقولا لَهُ قولا لينًا﴾ سَمِعْتُ بَعْضَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: كَنِّيَاهُ ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يخْشَى﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: الْأَلِفُ هَا هُنَا
115
صِلَةٌ يَقُولُ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ وَيَخْشَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (لَعَلَّ) فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهَا: التَّرَجِّي وَالطَّمَعُ، فَالْمَعْنَى: اذْهَبَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا؛ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَا يتَذَكَّر وَلَا يخْشَى.
116
﴿قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يفرط علينا﴾ أَي: يَجْعَل عَلَيْنَا عُقُوبَةً مِنْهُ ﴿أَوْ أَنْ يطغى﴾ فيقتلنا
﴿قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى﴾ يَقُولُ: لَيْسَ بِالَّذِي يَصِلُ إِلَى قتلكما.
﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذبهُمْ﴾ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِنْدَ الْقِبْطِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فِينَا ﴿قَدْ جئْنَاك بِآيَة من رَبك﴾ الْعَصَا وَالْيَدُ ﴿وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتبع الْهدى﴾.
قَالَ يحيى: كَانَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا كَتَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَتَبَ: " السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ".
سُورَة طه من (آيَة ٤٩ آيَة ٥٤).
﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَعْطَاهُ شَكْلَهُ، أَعْطَى الرَّجُلَ الْمَرْأَةَ، وَالْجَمَلَ النَّاقَةَ، وَالذَّكَرَ الْأُنْثَى ﴿ثمَّ هدى﴾ عرفه كَيفَ يَأْتِيهَا
﴿ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ﴾ قال الكلبي : أعطاه شكله، أعطى الرجل المرأة : والجمل الناقة، والذكر الأنثى ﴿ ثم هدى ﴾ عرفه كيف يأتيها.
﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى﴾ الْمَعْنَى: دَعَاهُ مُوسَى إِلَى الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَدْ هَلَكَتْ فَلم تبْعَث
﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا ينسى﴾ لَا يضله (ل ٢٠٨) فَيَذْهَبَ، وَلَا يَنْسَى مَا فِيهِ؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: من قَرَأَ (يضل) بِفَتْحِ الْيَاءِ، فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: ضَلَلْتُ الشَّيْءَ أَضِلُّهُ؛ إِذَا جَعَلْتُهُ فِي مَكَانٍ لَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ.
وَمِنْ قَرَأَ (يُضِلُّ) بِضَمِّ الْيَاءِ، فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: أَضْلَلْتُ الشَّيْء، وَمعنى أضللته: أضعته.
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا﴾ أَيْ: بِسَاطًا ﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سبلا﴾ أَيْ: جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا طُرُقًا ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا﴾ أصنافا ﴿من نَبَات شَتَّى﴾ أَيْ: مُخْتَلِفٍ، فَالَّذِي يُنْبِتُ هَذِهِ الْأَزْوَاجِ الشَّتَّى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يبعثكم بعد الْمَوْت.
﴿إِنَّ فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى﴾ الْعُقُولِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ النُّهَى: نُهْيَةٌ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو نُهْيَةٍ؛ أَيْ: ذُو عَقْلٍ يَنْتَهِي بِهِ عَن القبائح.
سُورَة طه من (آيَة ٥٥ آيَة ٦٤).
﴿وَلَقَد أريناه آيَاتنَا كلهَا﴾ يَعْنِي: التسع.
﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: مُنْصَفًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: يَكُونُ النِّصْفُ فِيمَا بَيْنَ المكانين.
﴿قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة﴾ يَعْنِي: يَوْمُ عِيدٍ كَانَ لَهُمْ يَجْتَمعُونَ فِيهِ ﴿ضحى﴾
﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ يَعْنِي: مَا جمع من سحرة
﴿فيسحتكم بِعَذَاب﴾ أَي: يستأصلكم
﴿فتنازعوا أَمرهم بَينهم﴾ أَيْ: تَنَاظَرُوا؛ يَعْنِي: السَّحَرَةَ
118
﴿وأسروا النَّجْوَى﴾ أَخْفُوُا الْكَلَامَ، قَالَتِ السَّحَرَةُ: إِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ سَاحِرًا؛ فَإِنَّا سَنَغْلِبُهُ، وَإِنْ يَكُ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا زعم فَلهُ أَمر.
119
﴿إِن هَذَانِ لساحران﴾ يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْله: ﴿هَذَانِ﴾ بِالرَّفْعِ؛ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهَا لُغَةٌ لِكِنَانَةَ؛ يَجْعَلُونَ أَلْفَ الِاثْنَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ، وَاخْتِلَافٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ، غَيْرُ الَّذِي ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ. ﴿ويذهبا بطريقتكم المثلى﴾ أَيْ: بِعَيْشِكُمُ الْأَمْثَلِ؛ يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْقِبْطِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فِينَا؛ يَأْخُذُونَ مِنْهُم الْخراج ويستعبدونهم
﴿فَأَجْمعُوا كيدكم﴾ أَيْ: سِحْرَكُمْ، يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ﴿ثمَّ ائتو صفا﴾ أَيْ: تَعَالُوا جَمِيعًا ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْم من استعلى﴾ غلب.
سُورَة طه من (آيَة ٦٥ آيَة ٧٦).
﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسْعَى﴾ أَي: أَنَّهَا حيات تسْعَى
﴿فأوجس فِي نَفسه﴾ أضمر.
﴿تلقف مَا صَنَعُوا﴾ أَيْ: تَبْتَلِعُهُ بِفِيهَا. ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا﴾ أَيْ: أَنَّ الَّذِي صَنَعُوا ﴿كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ حَيْثُ كَانَ.
﴿إِنَّه لكبيركم﴾ فِي السِّحْرِ؛ أَيْ: عَالِمُكُمْ ﴿فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف﴾ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيّنَا﴾ يَعْنِي: أَنَا أَوْ مُوسَى ﴿أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾.
﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ أَيْ: وَعَلَى الَّذِي خَلَقَنَا. ﴿إِنَّمَا تقضي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ قَالَ السُّدِّيُّ يَقُول: افْعَلْ فِي أَمْرِنَا مَا أَنْتَ فَاعِلٌ، إِنَّمَا تَفْعَلُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
﴿وَالله خير﴾ مِنْكَ يَا فِرْعَوْنُ ﴿وَأَبْقَى﴾.
﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا﴾ أَيْ: مُشْرِكًا ﴿فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى﴾.
﴿وَمن يَأْته مُؤمنا﴾ إِلَى قَوْله: ﴿من تزكّى﴾ أَي: من آمن.
سُورَة طه من (آيَة ٧٧ آيَة ٨٩).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٥:﴿ ومن يأته مؤمنا... ﴾ إلى قوله :﴿ من تزكى ﴾ أي : من آمن

﴿ ومن يأته مؤمنا. . . ﴾ إلى قوله :﴿ من تزكى ﴾ أي : من آمن
﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يبسا﴾ قَالَ الْحَسَنُ: أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ؛ فَأَمَرَهُ فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَصَارَ طَرِيقًا يَبَسًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: ذَا يَبَسٍ.
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّهُ صَارَ اثْنَى عَشْرَ طَرِيقًا، لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ.
121
﴿لَا تخَاف دركا﴾ أَنْ يُدْرِكَكَ فِرْعَوْنُ ﴿وَلا تَخْشَى﴾ الْغَرق أمامك
122
﴿فأتبعهم فِرْعَوْن بجُنُوده﴾ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: لَحِقَهُمْ ﴿فَغَشِيَهُمْ من اليم مَا غشيهم﴾ يَقُول: فَغَرقُوا.
﴿وواعدناكم﴾ يَعْنِي: مُوَاعَدَتَهُ لِمُوسَى ﴿جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمن﴾ يَعْنِي: أَيْمَنَ الْجَبَلِ ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ والسلوى﴾ وَقد مضى تَفْسِيره.
﴿وَلَا تطغوا فِيهِ﴾ أَيْ: لَا تَعْصُوا اللَّهَ فِي رَفْعِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَكَانُوا أُمِرُوا أَلَا يَأْخُذُوا مِنْهُ لِغَدٍ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا ﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبي﴾ أَي: (ل ٢٠٩) فَيَجِبَ ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فقد هوى﴾ فِي النَّار.
﴿وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ﴾ مِنَ الشِّرْكِ ﴿وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثمَّ اهْتَدَى﴾ مَضَى بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ حَتَّى يَمُوتَ.
﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي: السَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ؛ فَذَهَبُوا مَعَه لِلْمِيعَادِ
﴿قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي﴾ أَيْ: يَنْتَظِرُونَنِي بِالَّذِي آتِيهِمْ بِهِ، وَلَيْسَ يَعْنِي أَنهم يتبعونه.
﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ من بعْدك﴾ أَي: ابتليناهم.
﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أسفا﴾ أَيْ: حَزِينًا شَدِيدَ الْحُزْنِ مَعَ غَضَبِهِ عَلَى مَا صَنَعَ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدَهُ ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا﴾ فِي الْآخِرَةِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِ ﴿أفطال عَلَيْكُم الْعَهْد﴾ يَعْنِي: الْموعد
﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا﴾ أَيْ: بِطَاقَتِنَا إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَنَسِيَ﴾.
قَالَ يَحْيَى: كَانَ وَعْدُهُمْ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَعَدُّوا عِشْرِينَ يَوْمًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَالُوا: هَذِهِ أَرْبَعُونَ، فَقَدْ أَخْلَفَنَا مُوسَى الْوَعْدَ، وَكَانُوا اسْتَعَارُوا مِنْ
122
آلِ فِرْعَوْنَ حُلِيًّا لَهُمْ [أَظُنُّهُ] لِيَوْمِ الْعِيدِ، وَكَانُوا قَدْ أُمِرُوا أَنْ يُسْرَى بِهِمْ لَيْلًا، فَكَرِهَ الْقَوْمُ أَنْ يَرُدُّوا الْعَوَارِيَ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ، فَيَفْطِنُوا لَهُمْ، فَأَسْرُوا مِنَ اللَّيْلِ وَالْعَوَارِي مَعَهُمْ؛ وَهِيَ الْأَوْزَارُ الَّتِي قَالُوا: ﴿حُمِّلْنَا أَوْزَارًا﴾ أَيْ: أَثْقَالًا، فَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ بعد مَا مَضَت عشرُون يَوْمًا وَعشْرين لَيْلَةً: إِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ بَهَذَا الْحُلِيِّ فَهَاتُوهُ. وَأَلْقَى مَا مَعَهُ مِنَ الْحُلِيِّ، وَأَلْقَى الْقَوْمُ مَا مَعَهُمْ، فَصَاغَهُ عِجْلًا، ثُمَّ أَلْقَى فِي فِيهِ التُّرَابَ الَّذِي كَانَ أَخَذَهُ مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ يَوْمَ جَازَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَجَعَلَ يَخُورُ خُوَارَ الْبَقَرَةِ؛ فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فنسي﴾ أَيْ: نَسِيَ مُوسَى، الْمَعْنَى: أَنَّ مُوسَى طَلَبَ هَذَا وَلَكِنَّهُ (نَسِيَهُ) وَخَالفهُ فِي طَرِيق آخر؛
123
فقال عدو الله :﴿ هذا إلهكم وإله موسى فنسي ﴾ أي : نسي موسى، المعنى : أن موسى طلب هذا ولكنه ( نسيه ) وخالفه في طريق آخر.
قَالَ اللَّهُ: ﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يرجع إِلَيْهِم قولا﴾ يَعْنِي: الْعِجْلَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (أَلا يرجع) بِالرَّفْعِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ ﴿وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نفعا﴾.
سُورَة طه من (آيَة ٩٠ آيَة ٩٨).
﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قبل﴾ أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مُوسَى حِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ﴾ يَعْنِي: الْعِجْلَ ﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾
﴿قَالُوا لن نَبْرَح﴾ أَيْ: لَنْ نَزَالَ ﴿عَلَيْهِ عَاكِفِينَ﴾ نَعْبُدُهُ ﴿حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾.
﴿قَالَ يَا ابْن أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ ترقب قولي﴾ أَي: وَلم تنْتَظر مِيعَادِي، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُكَ فِيهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (يَا ابْنَ أُمَّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَمَوْضِعُهَا جَرٌّ فَإِنَّمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ (ابْنَ وأُمَّ) جُعِلَا شَيْئًا وَاحِدًا، وَبُنِيَا عَلَى الْفَتْح مثل خَمْسَة عشر.
﴿قَالَ﴾ ثُمَّ أَقْبَلَ مُوسَى عَلَى السَّامِرِيِّ؛ فَقَالَ لَهُ: ﴿فَمَا خَطبك﴾ أَيْ: مَا حُجَّتُكَ ﴿يَا سَامِرِيُّ﴾
﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيَلَ، وَكَانَ الَّذِي رَأَى: فَرَسَ جِبْرِيلَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَقُولُ أَهْلُ اللُّغَةِ: بَصُرَ الرَّجُلُ يَبْصُرُ؛ إِذَا صَارَ عَلِيمًا بِالشَّيْءِ،
124
وَأَبْصَرَ يُبْصِرُ؛ إِذَا نَظَرَ. ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَة من أثر الرَّسُول﴾ يَعْنِي: مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيل ﴿فنبذتها﴾ أَيْ: أَلْقَيْتُهَا فِي الْعِجْلِ؛ يَعْنِي: حِينَ صَاغَهُ، وَكَانَ صَائِغًا ﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلت لي نَفسِي﴾ أَيْ: وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنِّي إِذَا أَلْقَيْتُهَا فِي الْعِجْلِ خَارَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا: سَامِرَةٌ، وَلَكِنْ نَافَقَ بَعْدَمَا قَطَعَ الْبَحْرَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيل
125
﴿قَالَ﴾ لَهُ مُوسَى: ﴿فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاة﴾ (يَعْنِي: حَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿أَنْ تَقُولَ لَا مساس﴾ يَعْنِي: لَا تُخَالِطَ النَّاسَ، وَلَا يُخَالِطُونَكَ) فَهَذِهِ عُقُوبَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالسَّامِرَةُ صِنْفٌ مِنَ الْيَهُودِ.
قَالَ قَتَادَةُ: يُقَالُ: السَّامِرَةُ حَتَّى الْآنَ بِأَرْضِ الشَّامِ، يَقُولُونَ: لَا مِسَاسَ.
قَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ لَكَ موعدا لن تخلفه﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَجْزِيَكَ اللَّهُ فِيهِ بأسوإ عَمَلِكَ ﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظلت عَلَيْهِ﴾ أَي: صرت عَلَيْهِ ﴿عاكفا﴾ على عِبَادَته (ل ٢١٠) ﴿لنحرقنه ثمَّ لننسفنه﴾.
مُحَمَّدٌ: النَّسْفُ: التَّذْرِيَةُ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: ذَبَحَهُ مُوسَى، ثُمَّ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، ثمَّ ذراه فِي الْبَحْر.
﴿وسع كل شَيْء﴾ قَالَ قَتَادَةُ: مَلَأَ رَبِّي كُلَّ شَيْء ﴿علما﴾ يَقُولُ: لَا يَكُونُ
125
شَيْء إِلَّا بِعلم الله.
سُورَة طه من (آيَة ٩٩ آيَة ١٠٤).
126
﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قد سبق﴾ أَيْ: مِنْ أَخْبَارِ مَا قَدْ مضى ﴿وَقد آتيناك﴾ أعطيناك ﴿من لدنا﴾ من عندنَا ﴿ذكرا﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن
﴿من أعرض عَنهُ﴾ عَنِ الْقُرْآنِ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ ﴿فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾ ثقلا؛ يَعْنِي: الْإِثْم
﴿خَالِدين فِيهِ﴾ أَيْ: فِي ثَوَابِ ذَلِكَ الْوِزْرِ؛ وَهِي النَّار ﴿وساء لَهُم﴾ أَيْ: وَبِئْسَ لَهُمْ ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ حملا﴾ يَعْنِي: مَا يَحْمِلُونَ عَلَى ظُهُورِهِمْ مِنَ الْوِزْرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (حِمْلا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ؛ الْمَعْنَى: سَاءَ الْوِزْرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا، وَسُمِّيَ (الْوِزْرُ حِمْلًا)؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يحمل بِهِ ثقلا.
﴿يَوْم ينْفخ فِي الصُّور﴾ وَالصُّورِ: قَرْنٌ يَنْفُخُ فِيهِ صَاحِبُ الصُّورِ؛ فَيَنْطَلِقُ كُلَّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهِ، تُجْعَلُ الْأَرْوَاحُ كُلُّهَا فِي الصُّورِ؛ فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ خَرَجَتِ الْأَرْوَاحُ مِثْلَ النَّحْلِ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جسده ﴿ونحشر الْمُجْرمين﴾ الْمُشْرِكِينَ؛ هَذَا حَشْرٌ إِلَى النَّارِ ﴿يَوْمئِذٍ زرقا﴾ أَي: مسودة وُجُوههم
﴿يتخافتون بَينهم﴾ أَي:
126
يتسارون ﴿إِن لبثتم﴾ فِي الدُّنْيَا ﴿إِلَّا عشرا﴾ يُقَلِّلُونَ لَبْثَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْخُفُوتُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: السُّكُونُ؛ يُقَالُ: خَفَتَ الْكَلَامُ وَخَفَتَ الدُّعَاء؛ إِذا سكن.
127
﴿إِذْ يَقُول أمثلهم طَريقَة﴾ أَيْ: أَعْقَلُهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: أَعْقَلَهُمْ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا يَقُول. ﴿إِن لبثتم﴾ أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ ﴿إِلا يَوْمًا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَوَاطِنُ، قَالُوا إِلَّا عَشْرًا، وَإِلَّا يَوْمًا، وَقَالُوا: ﴿لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ وَقَالَ: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المجرمون﴾ يَحْلِفُ الْمُجْرِمُونَ ﴿مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِتَصَاغُرِ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ، وَقَلِّتِهَا فِي طُولِ الْآخِرَة.
سُورَة طه من (آيَة ١٠٥ آيَة ١١٣).
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نسفا﴾ أَيْ: يَذْرِيهَا تَذْرِيَةً مِنْ
127
أُصُولِهَا، تَصِيرُ الْجِبَالُ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ.
128
﴿فيذرها﴾ يَعْنِي: الأَرْض ﴿قاعا صفصفا﴾ الْقَاعُ: الَّذِي لَا أَثَرَ عَلَيْهِ، وَالصَّفْصَفُ: الْمُسْتَوِيَةُ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا نَبَات
﴿لَا ترى فِيهَا عوجا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعِوَجُ: الْوَادِي ﴿وَلَا أمتا﴾ قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: ارتفاعا
﴿يَوْمئِذٍ يتبعُون الدَّاعِي﴾ صَاحِبَ الصُّورِ؛ أَيْ: يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ ﴿لَا عوج لَهُ﴾ أَيْ: لَا يَتَعَوَّجُونَ عَنْ إِجَابَتِهِ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا ﴿وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ للرحمن﴾ أَيْ: سَكَنَتْ ﴿فَلا تَسْمَعُ إِلا همسا﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي صَوْتَ الْأَقْدَامِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْهَمْسُ فِي اللُّغَةِ: الشَّيْء الْخَفي.
﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قولا﴾ يَعْنِي: التَّوْحِيد.
﴿يعلم مَا بَين أَيْديهم﴾ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ من أَمر الدُّنْيَا؛ أَي: إِذْ صَارُوا فِي الْآخِرَةِ ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ علما﴾ أَيْ: وَيَعْلَمُ مَا لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا؛ أَيْ: مَا لَا يعلمُونَ
﴿وعنت الْوُجُوه للحي القيوم﴾ أَيْ: ذَلَّتْ، وَالْقَيُّومُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: عَنَا يَعْنُو؛ إِذَا خَضَعَ. ﴿وَقَدْ خَابَ من حمل ظلما﴾ أَي: شركا.
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤمن فَلَا يخَاف ظلما﴾ يَعْنِي: أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ فِي سيئاته ﴿وَلَا هضما﴾ أَن ينقص من حَسَنَاته.
﴿وصرفنا فِيهِ من الْوَعيد﴾ أَيْ: بَيَّنَّا؛ مِنْ يَعْمَلْ كَذَا فَلَهُ كَذَا ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يحدث لَهُم ذكرا﴾ تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: الْمَعْنَى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وَيُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا؛ الْأَلِفُ هَا هُنَا صلَة.
سُورَة طه من (آيَة ١١٤ آيَة ١٢٧).
﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَن يقْضى إِلَيْك وحيه﴾ أَيْ: لَا تَتْلُهُ؛ حَتَّى نُتِمَّهُ لَكَ؛ كَانَ النَّبِيُّ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَقْرَؤُهُ وَيُدْئِبُ فِيهِ نَفسه؛ مَخَافَة أَن ينسى
﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قبل﴾ يَعْنِي: مَا أُمِرَ بِهِ: أَلَا يَأْكُل من الشَّجَرَة ﴿فنسي﴾ يَعْنِي: فَتَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ. ﴿وَلم نجد لَهُ عزما﴾ أَي: صبرا.
﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي: الْكَدَّ فِيهَا
﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا﴾ يَعْنِي: فِي الْجَنَّةِ ﴿وَلا تَعْرَى﴾ كَانَا كسيا الظفر
﴿وَأَنَّك لَا تظمأ فِيهَا﴾ أَيْ: لَا تَعْطَشُ ﴿وَلا تَضْحَى﴾ أَيْ: لَا تُصِيبُكَ شَمْسٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: ضَحِيَ الرَّجُلُ يَضْحَى؛ إِذَا بَرَزَ إِلَى الضُّحَى، وَهُوَ حر الشَّمْس.
﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجنَّة﴾ (ل ٢١١) يَعْنِي: جَعَلَا يُرَقِّعَانِهِ كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ. ﴿وَعصى آدم ربه فغوى﴾ وَلم يبلغ بمعصيته الْكفْر
﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ من ذَلِك الذَّنب ﴿وَهدى﴾ أَي: مَاتَ على الْهدى.
﴿فَمن اتبع هُدَايَ﴾ يَعْنِي: رُسُلِي وَكُتُبِي ﴿فَلا يَضِلُّ﴾ (فِي الدُّنْيَا) ﴿وَلَا يشقى﴾ فِي الْآخِرَة
﴿وَمن أعرض عَن ذكري﴾ فَلَمْ يُؤْمِنْ ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضنكا﴾.
يَحْيَى: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿مَعِيشَةً ضنكا﴾ " يَعْنِي: عَذَابَ
130
الْقَبْرِ ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ الضَّنْكِ فِي اللُّغَةِ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، يُقَالُ: ضَنُكَ عَيْشُهُ ضَنْكًا، وضَنَكًا، وَقَالُوا: ﴿معيشة ضنكا﴾ أَيْ: شَدِيدَةً.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّبَعَ جَنَازَةَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ؛ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَبْرِهِ وَجَدَهُ لَمْ يُلْحَدْ؛ فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ وَبِيَدِهِ عُودٌ وَهُوَ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَهَا ثَلَاثًا إِنَّ الْمُؤْمِنِ إِذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا أَتَتْهُ مَلَائِكَةٌ وُجُوهُهُمْ كَالشَّمْسِ بِحَنُوطِهِ وَكَفَنِهِ، فَجَلَسُوا بِالْمَكَانِ الَّذِي يَرَاهُمْ (مِنْهُ)؛ فَإِذَا خَرَجَ رَوْحُهُ صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ كُلُّ بَابٍ مِنْهَا يُعْجِبُهُ أَنْ يَصْعَدَ رَوْحُهُ مِنْهُ، فَيَنْتَهِي الْمَلَكُ إِلَى رَبَّهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبُّ،
131
هَذَا رُوحُ عَبْدِكَ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ، وَيَقُولُ: ارْجِعُوا بِعَبْدِي فَأَرُوهُ مَاذَا أَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ؛ فَإِنِّي عَهِدْتُ إِلَى عِبَادِي أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ، فَيَرُدُّ إِلَيْهِ رُوحَهُ حِينَ يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ، فَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِكُمْ حِينَ تَنْصَرِفُونَ عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ رَبُّكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي، فَيَنْتَهِرَانِهِ انْتِهَارًا شَدِيدًا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ رَبُّكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي. فَيُنَادِيهِ مُنَادٍ: ﴿يثبن اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ فَيَأْتِيهِ عَمَلُهُ فِي صُوْرَةٍ حَسَنَةٍ وَرِيحٍ طَيِّبَةٍ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ (بِجَنَّاتٍ) فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ؛ فَقَدْ كُنْتُ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: وَأَنْتَ بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ فَمِثْلُ وَجْهِكَ يُبَشِّرُ بِالْخَيْرِ، وَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْحَسَنُ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: كَانَ هَذَا مَنْزِلُكَ فَأَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ فِي جَانِبِ قَبْرِهِ فَيَرَى مَنْزِلَهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبُّ، مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ كَيْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي؟! فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ وَيَرْقُدُ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الْآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، أَتَتْهُ مَلَائِكَةٌ (سُودُ الْوُجُوهِ) بِسَرَابِيلَ مِنْ قَطْرَانٍ، وَمُقَطَّعَاتٍ مِنْ نَارٍ، فَجَلَسُوا مِنْهُ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَرَاهُمْ مِنْهُ، فَيَنْزِعُ رُوحَهُ كَمَا يَنْتَزِعُ السُّفُّودُ الْكَثِيرُ شُعَبِهِ مِنَ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ مِنْ عُرُوقِهِ
132
وَقَلْبِهِ؛ فَإِذَا خَرَجَ رُوحُهُ لَعَنَهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ السَّمَوَاتِ دُوْنَهُ، كُلُّ بَابٍ يَكْرَهُ أَنْ يَصْعَدَ رُوحُهُ مِنْهُ، فَيَنْتَهِي الْمَلَكُ إِلَى رَبَّهُ فَيَقُولُ: يَا رَبُّ هَذَا رُوحُ عَبْدِكَ فُلَانٍ لَا تَقْبَلُهُ أَرْضٌ وَلَا سَمَاءٌ ﴿فَيَلْعَنُهُ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا بِعَبْدِي فَأَرُوهُ مَاذَا أَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ الْهَوَانِ؛ فَإِنِّي عَهِدْتُ إِلَى عِبَادِي أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُكُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُكُمْ، فَتُرَدُّ إِلَيْهِ رُوحُهُ حِينَ يُوْضَعُ فِي قَبْرِهِ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِكُمْ حِينَ تَنْصَرِفُونَ (ل ٢١٢) عَنهُ، فَيَقُول لَهُ: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ رَبُّكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي، فَيَنْتَهِرَانِهِ انْتِهَارًا شَدِيدًا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ رَبُّكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي﴾ فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ، وَيَأْتِيهِ عَمَلُهُ فِي صُوْرَةٍ قَبِيحَةٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِعَذَابٍ مُقِيمٍ، فَيَقُولُ: وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِشَرٍّ فَمِثْلُ وَجْهِكَ يُبَشِّرُ بِالشَّرِّ. وَمَنْ أَنْتَ؟! فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: كَانَ هَذَا مَنْزِلَكَ لَوْ أَطَعْتَ اللَّهَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ مَنْزَلَهُ مِنَ النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَى مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْهَوَانِ، وَيُقَيَّضُ لَهُ أَصَمُّ أَعْمَى، فِي يَدِهِ مِرْزَبَةٌ لَو تُوضَع على جبل لصار رُفَاتًا، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً فَيَصِيرُ رُفَاتًا، ثُمَّ يُعَادُ فَيَضْرِبُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ضَرْبَةً يَصِيحُ مِنْهَا صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، وَيُنَادِي مُنَادٍ أَنِ افْرِشُوهُ لَوْحَيْنِ مِنَ النَّارِ، فَيُفْرَشُ
133
لَهُ لَوْحَيْنِ مِنْ نَارٍ، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ؛ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ ".
134
قَوْلُهُ: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ عَن حجَّته
135
(قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي
135
أَعْمَى} عَنِ الْحُجَّةِ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ ﴿وَقد كنت بَصيرًا﴾ عَالِمًا بِحُجَّتِي فِي الدُّنْيَا؟! وَإِنَّمَا عِلْمُهُ ذَلِكَ عِنْدَ نَفْسِهِ؛ أَنَّهُ يُحَاجُّ فِي الدُّنْيَا جَاحِدًا لِمَا جَاءَهُ من الله.
136
قَالَ اللَّهُ: ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا﴾ ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ (فنسيتها} أَيْ: فَتَرَكْتَهَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهَا ﴿وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى﴾ أَي: تتْرك فِي النَّار
﴿وَكَذَلِكَ نجزي من أسرف﴾ عَلَى نَفْسِهِ بِالشِّرْكِ ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشد﴾ من عَذَاب الدُّنْيَا ﴿وَأبقى﴾ أَي: لَا يَنْقَطِع أبدا.
سُورَة طه من (آيَة ١٢٨ آيَة ١٣٢).
﴿أفلم يهد لَهُم﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: نُبَيِّنُ لَهُمْ؛ مُقْرَأَةً بِالنُّونِ ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ من الْقُرُون﴾ يُحَذِّرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمُ الْعَذَابَ إِنْ لَمْ يُؤمنُوا ﴿يَمْشُونَ فِي مساكنهم﴾ تَمْشِي هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي مَسَاكِنِهِمْ؛ يَعْنِي: مَنْ مَضَى ﴿إِنَّ فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى﴾ الْعُقُول، وهم الْمُؤْمِنُونَ.
﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ أَلَّا يُعَذِّبَ كُفَّارَ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالْنَفْخَةِ ﴿لَكَانَ لِزَامًا﴾ أَيْ: لَأُلْزِمُوا عُقُوبَةَ كُفْرِهِمْ فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا؛ لِجُحُودِهِمْ مَا جَاءَ
136
بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام ﴿وَأجل مُسَمّى﴾ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمَّى لَكَانَ لزاما.
137
﴿فاصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ أَنَّك سَاحر، وَأَنت شَاعِرٌ، وَأَنَّكَ مَجْنُونٌ، وَأَنَّكَ كَاهِنٌ، وَأَنَّكَ كَاذِبٌ ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قبل طُلُوع الشَّمْس﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: صَلَاةَ الصُّبْحِ ﴿وَقبل غُرُوبهَا﴾ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ﴿وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ﴾ يَعْنِي: سَاعَات اللَّيْل ﴿فسبح﴾ يَعْنِي: الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. [قَالَ مُحَمَّدٌ:] وَاحِدُ الْآنَاءِ إِنَى ﴿وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: التَّطَوُّعَ ﴿لَعَلَّكَ ترْضى﴾ أَيْ: لِكَيْ تَرْضَى فِي الْآخِرَةِ ثَوَاب عَمَلك.
﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا﴾ أَصْنَافًا مِنْهُمْ؛ يَعْنِي: الْأَغْنِيَاءَ. ﴿زَهْرَةَ الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ يَعْنِي: زِينَة ﴿لنفتنهم فِيهِ﴾ أَيْ: نَخْتَبِرُهُمْ؛ أَمْرُهُ أَنْ يَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (زَهْرَةَ) مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى: جَعَلْنَا لَهُمُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا زهرَة. ﴿ورزق رَبك﴾ فِي الْجنَّة ﴿خير﴾ من الدُّنْيَا ﴿وَأبقى﴾ يَقُول: لَا نفاد لَهُ
﴿وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ﴾ أَهْلُهُ: أُمَّتُهُ ﴿لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا﴾ أَنْ تَرْزُقَ نَفْسَكَ ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ أَيْ: لِأَهْلِ التَّقْوَى، وَالْعَاقِبَةُ: الْجَنَّةُ.
سُورَة طه من (آيَة ١٣٣ آيَة ١٣٥).
﴿وَقَالُوا لَوْلَا﴾ هَلَّا ﴿يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ قَالَ الله: ﴿أَو لم تأتهم بَيِّنَة﴾ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: آيَاتٍ ﴿مَا فِي الصُّحُف الأولى﴾ يَعْنِي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل
﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قبله﴾ يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ ﴿لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا﴾ هَلَّا ﴿أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا﴾.
﴿قل كل متربص﴾ نَحن وَأَنْتُم؛ كَانَ الْمُشْركين يَتَرَبَّصُونَ بِالنَّبِيِّ أَنْ يَمُوتَ، وَكَانَ النَّبِي يَتَرَبَّصُ بِهِمْ أَنْ يَجِيئَهُمُ الْعَذَابُ ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ﴾ يَعْنِي: الطَّرِيقَ الْمُعْتَدِلَ ﴿وَمَنِ اهْتَدَى﴾ أَيْ: فَسَتَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى [الصِّرَاطِ السَّوِيِّ، وَأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الْهُدَى].
138
تَفْسِيرُ سُوْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهِيَ مَكِيَّةٌ كلهَا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة ١ آيَة ٥).
139
Icon