تفسير سورة الأنبياء

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

تفسير سورة الأنبياء عدد ٢٣ و ٧٣- ٢١
نزلت بمكة بعد سورة إبراهيم. وهي مئة واثنتا عشرة آية، وألف وثمنمئة وثمانية وستون كلمة، وأربعة آلاف وثمنمئة وتسعون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» على ما عملوه في الدنيا، لأن القرب إما زماني، وإما مكاني، وكونه مكانيا يتعذر هنا. فلزم أن يكون زمانيّا، ولا يقال إنه مرّ عليه ما يقرب من أربعة عشر قرنا ولم يأت لأن يوما عند ربك كألف سنة مما نعدّه، والمراد أن وقت الحساب صار قريبا، ولذلك عبر بالماضي لتحقق وقوعه وقربه وقلة ما بقي بالنسبة لما مضى، لأن كل آت قريب. والبعيد ما وقع ومضى. وقيل في المعنى:
فلا زال ما تهواه أقرب من غد ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
ومناسبة هذه السورة لما قبلها ظاهرة، إذ ما بعد الإنذار بالجزاء إلا الوقوع.
وقد أخبر الله تعالى بقربه ليتيقظ المسيء ويتعظ، ويكثر المحسن ويستزيد من إحسانه، وليكون كل منهما بحالة أدعى للتأهب، وليتنبه الغافل من رقدته، ويتذكر الناس أجمع ويسرعوا بالإقلاع عن المعاصي والإقدام على الطاعات، ولكن مع الأسف لا يتذكرون «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» ١ عن الاستعداد لما يراد بهم في ذلك اليوم، لا هون عنه، غارقون في بحر النسيان، وتراهم يا سيد الرسل «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ» إنزاله أي ما يحدث الله تعالى من تنزيل القرآن شيئا فشيئا، ليذكرهم به تدريجا، ويعظهم أولا فأولا ليتشوقوا إليه ويعره ويعقلوه «إِلَّا اسْتَمَعُوهُ» منك «وَهُمْ يَلْعَبُونَ» ٢ فيسخرون به ويستهزئون عند سماعه «لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ» عنه ساهية أفئدتهم عن معناه كأنه لم ينزل لخيرهم «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى» فيما بينهم بالباطل عند سماعه. وأعلم أن الضمير في أسروا صرف دال على الجمع فقط لأن فاعله «الَّذِينَ» وصلته جملة «ظَلَمُوا» ومن هنا صحت لغة أكلوني البراغيث، ثم بين هذه النّجوى التي بالغوا في إخفائها بينهم بقوله جل قوله «هَلْ هذا» الذي يدعي رسالة الله ويأمركم
294
باتباعه وإبطال دين آبائكم «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أيها الناس ليس بملك ولا إله وإنما بسحركم بما أوتي من بلاغة في المعنى وفصاحة في القول «أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ» بمطلق ادعائه الرسالة وتقبلون قوله بمجرد أن قال لكم إن الذي أتلوه عليكم من الله «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» ٣ بأم أعينكم أنه بشر مثلكم وتعقلون ببصائركم أن ما يأتيكم به سحر، قل يا أكمل الرسل لهؤلاء الكفرة الذين يحوكون لك الدسائس فيما بينهم، ويظنون أنا لا نطلعك على حقيقة أمرهم، والقراءة التي عليها المصاحف «قالَ» لهم جوابا لما تناجوا به «رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ» قليله وكثيره، وخفيه وظاهره، من كل ما وقع أو يقع «فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» فكيف تناجون فيّ ولا يطلعني على نجواكم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لكل ما يقع في أرضه وسمائه مهما رق ودق «الْعَلِيمُ» ٣ به سره وجهره وما تضمرونه إليّ في أي مكان وزمان كان لا يخفى عليه شيء.
مطلب وصف الكفرة كلام الله والنزل عليه ومعنى اللهو وكلمة لا يفترون:
واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء الكفرة لم يكتفوا بقولهم لك ساحر والقرآن سحر «بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أباطيل رآها في نومه، ثم انتقلوا إلى ما هو أفظع فقالوا «بَلِ افْتَراهُ» اختلقه من نفسه، ثم أضربوا فقالوا «بَلْ هُوَ شاعِرٌ» وذلك أن الكفرة تضاربت آراؤهم وتنافت أقوالهم إذ اختلفوا في وصف محمد وما يتلوه عليهم على ثمانية أقوال: ١- منهم من قال إن ما يأتي به من أساطير الأولين وهو ناقل لها، ٢- ومنهم من قال يتعلم من الغير ويتلوه عليكم، ٣- ومنهم من قال القرآن كهانة ومحمد كاهن، ٤- ومنهم من قال إنه سحر وهو ساحر ٥- ومنهم من قال إنه شعر وهو شاعر، ٦- ومنهم من قال إنه نثر مسجع وهو ألفه، ٧- ومنهم من قال اختلقه من نفسه وهو مختلق مبتدع، ٨- ومنهم من قال أباطيل نوم يراعا وينسبها إلى الله. قاتلهم الله وعذبهم في أصناف ناره وحرمهم من أنواع جنته، وقد كذبوا كلهم فيما تقولوه ولمّا عرفوا أنهم لم يصيبوا الهدف تحدوه فقالوا «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ» من لدن ربه تدل على صحة دعواه «كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» ٥ بالآيات مثل موسى وعيسى ومن قبلها، ومن هنا يفهم أن ما قاله بعضهم إن المراد
295
بالذكر المحدث في الآية الثانية المارة هو قول الرسول. قول لا قيمة له ولا يستند إلى قول بل المراد ما ذكرناه في تفسيرها لا غير والله أعلم. قال تعالى رادا عليهم قولهم ومجيبا عن نبيه صلّى الله عليه وسلم «ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» من الأمم السالفة الذين اقترحوا الآيات على أنبيائهم لأنهم كذبوا بها بعد نزولها فأهلكناهم «أَفَهُمْ» قومك هؤلاء العريقون في الكفر إذا أنزلنا عليهم آية «يُؤْمِنُونَ» ٦ كلا لا يؤمنون ولو آتيناهم كل آية، وهذا من إطلاق الكل وإرادة الجزء لأن منهم من آمن ومنهم من أصر فالمخبر عنهم بعدم الإيمان هم المصرّون على كفرهم وقال تعالى في معرض الرد عليهم أيضا «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ» مثلك فكيف يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» جمع الضمير للتعظيم وسببه افتضاء المقام لتعظيمه أمام قومه، أي اسأل يا محمد علماء أهل الكتابين الذين سألهم قومك بماذا يختبرونك وقالوا لهم سلوه عن أهل الكهف وذي القرنين والروح، كما تقدم في الآية ٩ من سورة الكهف المارة، فقل لمثل هؤلاء هل أرسل الله للأولين ملائكة كما يزعمون فإنهم يجيبونك حتما بأن الله لم يرسل إلى البشر إلا بشرا مثلهم «إِنْ كُنْتُمْ» يا رسولنا «لا تَعْلَمُونَ» ٧ ذلك راجع نظيره هذه الآية الآية ٤٧ من سورة النحل المارة بزيادة لفظ من فقط «وَما جَعَلْناهُمْ» أي الرسل قبلك يا حبيبي «جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ» حتى يقولوا (ما لهذا الرسول يأكل الطعام) الآيتين ٨/ ٢٠ من الفرقان في ج ١، وجاءت هذه الآية بمعرض الرد لهذا القول لأنهم لا زالوا يترنمون بهذه الأباطيل وينكرون ما تنلوه عليهم بقولهم المجرد إذ لا حجة لهم ولا برهان على إبطاله لذلك تراهم يتمسكون بهذه الأقاويل الفارغة ويكررونها «وَما كانُوا خالِدِينَ» ٨ في الدنيا بل يموتون كغيرهم وما أنت إلا مثلهم تموت أيضا فلا محل لا نتقادك بذلك «ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ» بنصرهم وإهلاك أعدائهم في الدنيا أما الأنبياء إخوانك «فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ» من أتباعهم الصادقين «وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ» ٩ بالمعاصي والتعدي على الغير هلاك استئصال، قال تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً» عظيما جليلا يا معشر قريش على أشرف رجل منكم وهذا سفر خطير «فِيهِ
296
ذِكْرُكُمْ»
شرفكم بين الأمم وشرعكم الشامل لهم ودينكم الذي تدينون فيه فهو أكبر النعم عليكم إذ جاء بلسانكم فلكم فيه الفخر على غيركم «أَفَلا تَعْقِلُونَ» ١٠ هذه النعم العظيمة وتعضوا عليها بالنواجذ وتعملوا بكتابكم هذا فتحلّوا حلاله وتحرموا حرامه
«وَكَمْ قَصَمْنا» قصفنا والقصم الكسر مع تفريق الأجزاء وإذهاب التئامها، والمعنى أنا عجلنا عقوبتهم لاشتداد غضبنا عليهم ولم نمهلهم لشدة إصرارهم، وقد جرت سنتنا أن لا نمهل ظالما «مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» مصرة بل دككناها بما فيها وما عليها «وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» ١١ فأسكناهم فيها بدلهم فتبعوا أثرهم بالفسق والطغيان قال:
ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى وعرّج على الباقي وسائله لم بقي
قال تعالى «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا» عذابنا وشاهدوه بحاسة بصرهم بعد أن أنذرناهم وحذرناهم «إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» ١٢، هربا من القرية كي لا يصل إليهم العذاب الذي رأوه أظلهم فقيل لهم «لا تَرْكُضُوا» يا قوم فليس بنافع جري إذا جاء القضاء بالعذاب وقد مر في الآية ١٣ من سورة ص في ج ١ أن الركض ضرب الأرض بالرجل أي بعقبها وجاء هنا بمعنى الجري على اللغة الدارجة لأن القرآن العظيم جاء فيه من كافة اللغات مما هو أحسنها «وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ» من التنعم بالعيش والترف في اللباس والترفه في السكنى «وَمَساكِنِكُمْ» التي زخرفتموها في الدنيا أي تقول لهم الملائكة ذلك على طريق الاستهزاء والسخرية بهم «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» ١٣ من قبل الغير عما جرى بكم من العذاب وعن السبب الذي أوقعكم فيه فتجزون به، قيل نزلت هذه في أهل (حصوه) قرية باليمن كان أهلها عربا حينما قتلوا نبيهم بعد أن كذبوه فسلط الله عليهم بختنصر فقتلهم وسباهم فصاروا يهربون منهم فأدركوهم وقد أخذتهم السيوف ونادى مناد من جو السماء بالثارات الأنبياء، ولما لم يروا بدا اعترفوا و «قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» ١٤ بتكذيب الرسل وقتلهم ولكن لم ينفعهم الندم بعد نزول العذاب «فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ» أي قولهم يا ويلنا وهم يقتلون ويذبحون متوالية «حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً» كالزرع المحصود
297
«خامِدِينَ» ١٥ لا حراك بهم، وفي هذه الآية تحذير لأهل مكة وتخويف عظيم وتهديد شديد بأنهم إذا لم يرجعوا عن غيهم يكون مصيرهم مثل مصيرهم، قال تعالى «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما» وما فيهما من العجائب والبدائع «لاعِبِينَ» ١٦ لأن اللعب يروق ساعة أوله ولا ثبات له وإنما خلقناهما لفوائد كثيرة همها الاستطلاع على قدرتنا والتبصّر في باهر حكمتنا وأرسلنا الأنبياء ليكفروا الخلق فيها وإلا لما كان من حاجة لإرسالهم لو كان خلقها لمجرد اللهو، ثم نزّه ذاته المقدسة فقال «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً» نلهو به من امرأة أو ولد أو خدم أو جنات أو أموال وأنعام «لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا» في الجنة من الحور والولدان لا من عندكم ولكنا لم نتخذ «إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» ١٧ ما تنفوهون به وهذا ممتنع علينا لغنانا عنه واحتياج الكل إلينا، فالولد والزوجة لا يكونان إلا عند الأب والزوج لا يكونان عند غيره، وقال بعض المفسرين ان (إن) هنا نافيه أي (ما كنا فاعلين) وعليه يكون الوقف على (لدنا) لا على (فاعلين) والأول أي اعتبار إن شرطية محذوفة الجواب الدال عليه ما قبلها وهو (لا تخذناه) أولى بسبك العبارة والثاني أبلغ في النفي فقط تأمل، وفي هذه الآية رد وتقريع على من ينسب له تعالى الصاحبة والولد تبرأت ذاته المقدسة عنهما، ولذلك بقول بعض النصارى إن مريم صاحبة لله وعيسى ابنه، واليهود يقولون إن عزيزا ابنه، والعرب تقول الملائكة بناته، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا أي لكنا لنا ممن يفعل ذلك لاستحالته في حقنا، وإنما نفى اللهو جل جلاله عنه لأنه نقص وهو مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب منه وهذا ليس من قبيل الوجوب عليه بل القول بالوجوب عنه وهو واجب علينا، ومن أنكر أن اللعب نقص كالكذب فقد كابر، ولا داعي لمن قال إن اللهو يراد به الجماع ويكنّى عنه به وعن المرأة واستشهد بقول امرئ القيس:
الا زعمت بسباسة القوم أنني كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
إذ لا حاجة لقلب الحقيقة إلى المجاز دون صارف. ثم أضرب جلّ اضرابه فقال «بَلْ نَقْذِفُ» نرمي ونطرح «بِالْحَقِّ» القرآن والإيمان به «عَلَى الْباطِلِ»
298
الكفر والشرك «فَيَدْمَغُهُ» يمحقه ويدمره «فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» مضمحل مدحوض ذاهب لا أثر له، وقال بعض المفسرين المراد بالحق هنا الجد وبالباطل اللهو لأن الآية هذه مسوقة لما قبلها، وهو وجيه لولا الإضراب الموجود لأنه ينافي كونها مسوقة لما قبلها بل يفيد الانتقال عنها لمعنى آخر لأن الاضراب لا يأتي إلا لمغزى غير مغزى ما قبله وهو ما ذكرناه والله أعلم «وَلَكُمُ الْوَيْلُ» أيها الكفرة والهلاك «مِمَّا تَصِفُونَ» ١٨ الحضرة الإلهية مما لا يليق بها، قال تعالى «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ» من الملائكة إنما خصهم بالذكر مع أنهم داخلون في معنى من اعتناء بهم، لأنهم لا شغل لهم إلا التقديس والتنزيه لحضرته الكريمة يدل عليه قوله «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ» ١٩ لا يعيون ولا يكلّون «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» بلا انقطاع «لا يَفْتُرُونَ» ٢٠ عن تعظيمه وتكبيره وتسبيحه لأنه جار منهم مجرى التنفس من بني آدم فلا يلحقهم فيه سامة ولا تعب بل يتلذذون به ولا يمنعهم عن التكلم بغيره كما لا يمنع ابن آدم النفس عن الكلام فلا يرد عليه قول القائل إن من الملائكة من هو مشغول بتبليغ الرسل ومنهم من هو موكل بلعن الكفرة ومنهم من هو مشغول بتقليب الرياح وغير ذلك.
مطلب برهان التمانع ومعنى فساد السموات والأرض وما يتعلق بهما:
قال تعالى يا أكمل الرسل قل لهؤلاء الذين يزبتون لخلقي عبادة غيري أتتخذوا إلها من السماء كلا إذ لا إله غيري «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ» من أحجارها وأخشابها ومعادنها لأن الأصنام تعمل منها أو من بعضها ولا إله فيها ولمن فيها غيري وهل ما اتخذوه «هُمْ» أي الآلهة المتخذة من صنع أيديهم «يُنْشِرُونَ» ٢١ يحيون الموتى مثلي، كلا لا يقدرون على ذلك ولا يستحق العبادة إلا من يقدر على الإحياء والإماتة والإيجاد من العدم إلى الوجود ولا قادر على هذا غيري فأنا المستحق للعبادة وحدي، وأنت يا سيد الرسل قل لهم «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» أي السموات والأرض وإذا فسدتا فسد من فيهما وما بينهما، لأن كل أمر يصدر عن اثنين لم يجر على انتظام بل يفضي إلى المحال، فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالا
299
لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد أن يكون كل واحد منهما قادرا على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل منهما قادرا على إماتة زيد مثلا وإحيائه فإذا أراد أحدهما إماتته وأراد الآخر إحياءه أي إبقاءه حيا فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال أيضا لأن المانع من وجود مراد كل منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، فلو امتنعا معا لوجدا معا وذلك محال أيضا، أو يقع مراد أحدهما دون الثاني وذلك أيضا محال لأمرين: الأول لو كان كل واحد منهما قادرا على مالا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر بل لا بد وأن يستويا بالقدرة، فإذا استويا فيها استحال أن يكون مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الآخر النّافي له وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح، الثاني إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده كان قادرا والذي لم يقع مراده يكون عاجزا والعجز نقص والنقص يستحيل وجوده مع الإله. ولو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور واحد من قادرين اثنين مستقلين من وجه واحد وهو محال لأن استناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه، فإذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلا منهما جميعا فيلزم استغناؤه عنهما واحتياجه لهما معا وذلك محال، وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد. قال تعالى (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) الآية ٩١ من المؤمنين الآتية، وهذه وحدها كافية للاستدلال على عدم وجود إله غير الله الواحد لمن كان له قلب حي أو ألقى السمع الواعي، وسيأتي تمام البحث في هذه عند تفسير هذه الآية، قال الإمام فخر الدين الرازي: القول بوجود إلهين يفضي الى امتناع وقوع المقدور بواحد منهما، وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع البتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعا.
أو تقول لو قدرنا وجود إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا على الشيء الواحد فيكون مقدورا لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقعا أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال، فثبت أن الفساد
300
لازم على كل التقديرات. وأعلم رعاك الله ووفقك لهداه وأرشدك لمرماك إنك إذا وقفت على حقيقة هذه الدلائل عرفت أن جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المحدثات، والكائنات دليل على وحدانية الله تعالى عقلا، ولهذا وجبت معرفة الله تعالى بالعقل فضلا عن النقل، فكل من وهيه الله عقلا كاملا ولم يعترف بوجوب وجود الإله الواحد فهو كافر، ولهذا أول بعض المفسرين قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الآية ١٥ من الإسراء في ج ١، بأن الرسول هنا معناه العقل ولكنا فئدنا هذا القول في تفسير هذه الآية فراجعها، وذلك لأن الدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن والسنة غنية عن البيان لأن القرآن كله طافح بها وأقوال المصطفى صائحة فيها، ومن قال إن معنى هذه الآية التي اشتهرت ببرهان التمانع لو كان في السماء والأرض آهة كما يقول عبدة الأوثان لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير شيء مما في هذا العالم فيلزم فساده غفل عن قوله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) الآية المتقدمة لا الآتية بأنها مسوقة للزجر عن عبادة الأوثان وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك. وبعد هذا الزجر أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا واحدا، تنبه، ولهذا نزه نفسه المقدسة بقوله «فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» ٢٢ من الشرك والولد والصاحبة والمثيل وغيرها «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ» في كونه لأنه متفرد فيه «وَهُمْ يُسْئَلُونَ» ٢٣ ما عداه من جميع الكائنات عما يقع منهم وهذا مما لا ريب فيه لأنا نرى بعض ملوك الأرض لا تسأل عما تفعل لأنهم نصوا في دستورهم المطبق على رعاياهم (ذات السلطان مقدسة وغير مسئولة) فكيف بملك الملوك حقيقة في الدنيا والآخرة لا مجارا ولا في الدنيا فقط. قال تعالى «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» استفهام إنكاري وتوبيخ للمشركين لأنه لمّا أبطل كون آلهة غيره بما مر أنكر عليهم اتخاذهم آلهة غيره فقال (أم اتخذوا) إلخ، وكلفهم الحجة على زعمهم فقال يا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الكفرة «هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على وجود إله غير الله وإذا كنتم تحتجون بالكتب القديمة فهو كذب لأن «هذا» القرآن المنزل عليّ فيه «ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ» من أصحابي
301
الموجودين في هذه الدنيا «وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» من الأمم السالفة ومعاني ما أنزل على إخواني الأنبياء من الكتب والصحف موجودة فيه أيضا، لأنه يحتوي على جميع الكتب السماوية المتعلقة بالتوحيد ولا يوجد فيه ما تزعمون، وها هي ذي الكتب الأخرى التوراة والإنجيل والزبور أنظروها هل تجدون فيها شيئا مما يدل على أن الله اتخذ ولدا أو صاحبة أو كان معه إله آخر؟ كلا لا تجدون شيئا من ذلك البتة «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ» المنزل عليك من عندنا «فَهُمْ» لعدم معرفتهم وجهلهم «مُعْرِضُونَ» ٢٤ عن النظر والاستدلال فيما لهم وعليهم.
قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» ٢٥ وحدي وهذا تقرير لما سبق من آي التوحيد لأن هذه الآية تشير إلى أن الله تعالى أخذ العهد على الأنبياء ولرسل كافة بأنه لا إله في الكون غيره وأن يعبده من فيه وحده، فكل ما يقال بخلاف هذا كذب محض وبهت مفترى، ثم طفق يندّد بصنيعهم الفاسد فقال «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً» أول من قال هذا من العرب خزاعة ثم قلدهم غيرهم «سُبْحانَهُ» تبرأ عن ذلك «بَلْ» هم الملائكة الذين يزعمونهم بنات الله «عِبادٌ مُكْرَمُونَ» ٢٦ عنده لاستغراقهم بعبادته وأدبهم معه «لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ» فيستقدمون به عليه بل يتبعونه ويقنفون أثر كلامه الجليل «وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» ٢٧ لا يخالفونه قيد شعرة ولا أقل منها قولا ولا عملا «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» من الأفعال والأقوال التي وقعت منهم أو لم تقع في الحال أو التي ستقع بعد لا يخفى عليه شيء من أمر غيرهم «وَلا يَشْفَعُونَ» لأحد كما يزعم من عبدهم وكذلك بقية الملائكة وجميع الرسل والأنبياء والأولياء «إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» الله الشفاعة له ورضي عنه وأذن لهم أن يشفعوا لمن يشاء، راجع الآية ٥٥ من البقرة في ج ٣ والآية الثانية من سورة يونس المارة والآية ٢٣ من سورة سبأ المارة وما تدلك عليه «وَهُمْ» كغيرهم من العباد العارفين مقام الألوهية الحقة كذلك تراهم «مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» ٢٨ وجلون دائما لا يأمنون على أنفسهم منه لأن من قرب من الملك وعرف عظمته وبطشه صار أكثر الناس خوفا منه، وجاء في
302
الخبر: الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون هلكى إلا العارفون، والعارفون على خطر عظيم.
ثم شرع يهددهم، يا ويل من أغضب الجبار القائل «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ» أي الملائكة والأنبياء والأولياء وغيرهم فضلا عن الرعاع والجماد فأي كان من مخلوقاته جزؤ فقال «إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ» وناهيك بها من جزاء شديد «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الفظيع «نَجْزِي الظَّالِمِينَ» ٢٩ الذين وضعوا مقام الإلهية بغير موضعها. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً» شيئا واحدا ملتصقتين ببعضهما «فَفَتَقْناهُما» عن بعضهما وخللنا الهواء بينهما فجعلنا هيكلا علويا على حدة وهيكلا سفليا، والمراد من السموات طائفتها ولهذا ثني الضمير ولم يجمع ومثل هذا قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) الآية ٤٢ من سورة فاطر في ج ١، وعليه قول الأسود بن يعفر:
إن المنية والحتوف كلاهما دون المحارم يرقبان سواري
وقد أفرد الخبر وهو رتقا لأنه مصدر وأصل الرتق الضم والالتحام خلقة كان أو صنعة، ومنه الرتقاء من كانت ملتحمة محل الجماع، وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا البحث في سورة فاطر المذكورة وله صلة في الآية ٦٦ من سورة الحج في ج ٣ فراجعهما، «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» من حيوان ونبات إذ يدخل في معنى شيء النبات والشجر لأن الماء سبب حياتهما وحياة كل شيء، وقال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) الآية ٤٥ من سورة النور في ج ٣، فيدخل في معنى دابة الإنسان لأن لفظ دابة موضوع لكل ما دب على وجه الأرض، وخرج هذا مخرج الأغلب لأن آدم وحواء وعيسى والملائكة والجن لم يخلقوا من الماء كما ذكرنا ذلك عند ذكر كل منهم «أَفَلا يُؤْمِنُونَ» ٣٠ هؤلاء الكفار بألوهية من يفعل ذلك، وهذه الآية من معجزات القرآن العظيم لأنه لم يكن في مكة ولا في العالم زمن نزول القرآن من يعرف أن الموجودات كانت كتلة واحدة، ثم فتقت فتكونت منها السموات ثم الأرض ثم المخلوقات، ولا من يعلم أن أصل كل الموجودات الماء ولم يعرف أحد شيئا من هذا إلا بالعصور الأخيرة، راجع الآية ٧ من سورة
303
هود المارة.
قال تعالى «وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ» لأنها كانت تتحرك بالهواء كالسفينة في الماء، فأثقلها الله تعالى بالجبال الثوابت، وفيها إشارة إلى ما يعبّر عنه الجغرافيون بالقشرة الباردة، لأن الرواسي هي الصخور الجامدة في أديم الأرض، راجع الآية ٢٢ من سورة الحجر المارة «وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً» طرقا واسعة بين الجبال «سُبُلًا» تفسير للفجاج أي طرق سهلة «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» ٣١ بها إلى مقاصدهم من البلاد والقرى والبوادي إذا سلكوها، والفرق بين هذه الآية وقوله تعالى (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) الآية ٢٠ من سورة نوح المارة، أن هذه للإعلام بأنه جعل فيها طرفا واسعة، وتلك لبيان أنه حين خلقها خلقها على تلك الحالة والصفة، فهو بيان لما أنهم «وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً» من البلى والسقوط والتغير على مدى الدهر المقدر لها، قال تعالى (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الآية ٦٥ من سورة الحج في ج ٣، والآية ٤٢ من سورة فاطر في ج ١، «وَهُمْ» الكفار «عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ» ٣٢ لا يتفكرون بما فيها من الشموس والأقمار والكواكب والنجوم وحركاتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها وترتيبها العجيب الدال على الحكمة الباهرة والنظام البديع المنبئ عن كمال القدرة القاهرة.
مطلب في الأفلاك وما يتعلق بها، وبحث في الشماتة، وما قيل في وزن الأعمال والإخبار بالغيب:
قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» للضياء ونضج الأثمار ومنافع أخرى كثيرة ألمعنا إليها في الآية ١٥ من سورة يونس المارة «كُلٌّ» من هؤلاء «فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» ٢٣ يجرون في الهواء بصورة بديعة لا يعتريها الزيغ، راجع الآية ٤٠ من سورة يس في ج ١ والآية ١٥ من سورة الحجر المارة. على أن العالم الألماني أنشتين اليهودي صاحب النظرية النسبية التي تقوم على معاكسة جميع الافتراضات القديمة في الفلك والحساب يقول: إن كل الحقائق التي أقرها العلم حتى الآن ما هي إلا بالنسبة لفرضيات افترضوها مما خيل لهم أنها حقائق وليست كذلك، وان الأرض يوشك
304
أن لا تكون كروية ولا دائرة حول الشمس، خلافا لما أقره الأكثر على القول بكرويتها، وقال ابن كثير من علماء الإسلام وهو لا ينافي القرآن كما بينا في السورة المارة الذكر، أما القول بدورانها حول الشمس فهو بعيد عن رأي المحققين، وهو يخالف صراحة القرآن لفظا، والله أعلم بالواقع، وما ندري لعل الزمن يظهر مفكرين آخرين يؤيدون نظرية هذا اليهودي، والله تعالى يقول (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) الآية ٧٦ من سورة يوسف المارة. هذا، والفلك هو مدار النجوم الذي يضمها، وهو عرفا كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، والأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة ولا تقبل الخرق والالتئام ولا النموّ ولا الذبول، ولا يعرف كنه أفلاك الله إلا هو أعلمنا بوجودها كما لا يعلم مدى خرابها غيره، وكما أعلمنا بخرابها في قوله جلّ قوله (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) وفي قوله (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وقوله (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) وآيات أخرى كثيرة تدل على ذلك. قال تعالى «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» في الدنيا «أَفَإِنْ مِتَّ» يا سيد الرسل «فَهُمُ الْخالِدُونَ» ٣٤ بعدك؟ كلا، فإنهم ميتون لا يبقى منهم أحد، نزلت هذه الآية حين قال المشركون إنا نتربص بمحمد ريب المنون، فنشمت بموته، فنغى الله تعالى الشماتة عنه في هذه الآية القاضية بعدم تخليد أحد في هذه الدنيا، قال ذو الإصبع العدواني:
إذا ما الدهر جرّ على أناس... كلا كله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا... سيلقى الشّامتون كما لقينا
على أنه لا شماتة في الموت، لأنه محتوم على كل أحد، وتكون بغيره من المصائب، وإن كانت مقدرة لأنها على أناس دون آخرين، قال الشافعي رضي الله عنه:
تمنّى أناس أن أموت وإن أمت... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل الذي يبغي خلاف الذي مضى... تهيأ لأخرى مثلها وكأن قد
وإنما قالوا الموت لا شماتة فيه لأنه لا علاقة للعبد فيه، حتى ان المقتول يموت بأجله، وإنما الشماتة التي تقع على الغير بفعل الغير، ومن قال:
من عاش بعد عدوه... يوما فقد بلغ المنى
305
بالنظر لظاهر الأمر، لأن فيه غياب عدوه عن نظره، فمن هذه الجهة يصدق قوله هذا، ومن قال إن هذه الآية تنفي حياة عيسى والخضر وإدريس والياس وغيرهم، وتثبت موتهم فقد أخطأ، لأن عيسى حي بنص القرآن والأحاديث الصحيحة، والخضر بالأحاديث والتواتر، وأنهما لا بد أن يموتا، راجع الآية ٦١ من سورة الزخرف في ج ٢ وما ترشدك إليه، والآية ٥٧ من سورة مريم المارة في ج ١ تغىء عن رفع إدريس، ووردت أخبار وآثار بحق الياس، راجع الآية ١٣٢ المارة من سورة الصافات والآية ٨٥ الآتية، على أنه لا بد من موت الكل بقوله تعالى «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» والذوق مقدمات الموت وآلامه لأنه به ينقطع ذلك، ويفيد سور الكلية العامة موت كل نفس، إلا أنه مخصوص بقوله تعالى (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) الآية ١١٦ من المائدة في ج ٣، لأن الله تعالى حي لا يموت ولا يجوز عليه الموت، فكما أنه تعالى لا يشبه شيئا من خلقه فكذلك نفسه الكريمة لا تشبه نفوس خلقه، وبعضهم جعل الخصوص أيضا في الجمادات، لأن لها نفوسا لا تموت، هذا والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، وهذا يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية أنها لا تموت، بل تموت أيضا وتدخل في عموم هذه الآية إذا كان لما قالوه من صحة «وَنَبْلُوكُمْ» نختبركم أيها الناس «بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» ابتلاء فهو مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه، أي لننظر كيف شكركم على ما تحبون وصبركم فيما تكرهون «وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» ٣٥ فنجازيكم بحسبها «وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» يا سيد الرسل «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً» كأبي جهل وجماعته من رءوس الكفر، لأنهم كانوا إذا مرّوا به صلّى الله عليه وسلم يضحكون ويقولون هذا نبي بني عبد مناف ويقول بعضهم لبعض «أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ» أي يذمها، والذكر يطلق على المدح والذم «وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» ٣٦ أي كيف يستهزئون بك إذ تستهزء بأصنامهم وهم أحق أن يستهزىء بهم، لأنك تعبد الخالق وهم يعبدون ما يخلقون، ونزلت فيهم هذه الآية. قال تعالى «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» العجلة طلب الشيء قبل
306
أوانه، وهو من مقتضيات الشهوة، فلذلك صارت مذمومة حتى قيل العجلة من الشيطان، والقاعدة الشرعية: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، قال القائل:
لا تعجلن لأمر أنت طالبه فقلما يدرك المطلوب ذو العجل
فذو التأني مصيب في مقاصده وذو التعجل لا يخلو من الزلل
فالإنسان لقلة صبره وفرط استعجاله جعل كأنه مخلوق من العجلة، لأنه يكثر منها، والعرب تقول لكثير الكرم خلق من الكرم «سَأُرِيكُمْ آياتِي» التي تطلبونها أيها الناس «فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» ٣٧ نزولها وذلك أنهم كانوا يقولون لمحمد صلّى الله عليه وسلم هات ما توعدنا به من العذاب أدع ربك فلينزله علينا، فأجابهم الله بأنه لا بد من إنزاله بكم، ولكن لم يحن بعد أجله القدر له «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٣٨ في قولكم يا محمد ويكررون هذه المقالة له على طريق السّخرية والاستهزاء بوعده، وهذا هو الاستعجال المذموم الذي أوعدهم الله سوء عاقبته، راجع الآية ٤٨ من سورة يونس المارة. قال تعالى «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» ما هو ذلك العذاب هو «حِينَ» يحل بهم «لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» ٣٩ إذا حل بهم فلا يقدرون على ردّ شيء منه ولا تأخيره، وجواب لو محذوف تقديره لما كانوا طلبوا ولا استهزأوا ولعلموا أن جهلهم هو الذي أوقعهم في ذلك العذاب وحدا بهم إلى تلك المهالك. قال تعالى «بَلْ تَأْتِيهِمْ» الساعة المقدر فيها نزوله أو الموت «بَغْتَةً» على حين غرة فجأة «فَتَبْهَتُهُمْ» ويهولهم أمرها وتراهم حين تأتيهم حائرين «فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها» عنهم ولا الصبر عليها «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» ٤٠ يمهلون ليتوبوا ويعتذروا كما أنهم لا ينصرون من قبل أحد.
قال تعالى مسليا لحبيبه «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» كما استهزأ بك قومك «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ٤١ من نزول العذاب فلم يحسوا إلا وقد نزل وأحاط بهم وكذلك قومك يا محمد إذا يقوا مصرين على تكذيبهم وسخريتهم يحيق بهم مثلهم، راجع نظيرة هذه الآية
307
الآية ١٣٤ من سورة الأنعام المارة لمناسبة غير هذه المناسبة «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك «مَنْ يَكْلَؤُكُمْ» يحرسكم إذا نمتم «بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ» إذا انصرفتم فيه لمعاشكم «مِنَ الرَّحْمنِ» إذا أراد إبقاع عذابه بكم فيهما، وفي التعريض لعذاب الرحمن دون غيره من الأسماء المقدسة والصفات الطاهرة تنبيه على أنه لا حفيظ لهم غيره بمقتضى رحمته وتلقين للجواب ليقولوا رحمتك تحرسنا، ونظير هذه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآية ٧ من سورة الانفطار الآتية ليقول كرمك يا رب فإذا وفقوا يقولون هنا وهناك ولكن أنى لهم التوفيق وقد فات وقته إذ يقول الله «بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ» ٤٢ فلا يخطر يبالهم لسابق شقائهم، فيا أكمل الرسل قل لمن يجادلك فيهم «أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا» إذا أردنا بهم شرا؟ كلا، آلهتهم التي يزعمونها «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ» فهم عن نصر غيرها عجز «وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» ٤٣ بالنصر والتأييد ليخلفوا وإذا كانوا كذلك فلا محيص لهم من العذاب قال تعالى «بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ» الكفرة «وَآباءَهُمْ» متعناهم أيضا في الدنيا فاغتروا بها ولهوا بنعيمها «حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» وهم في صحة وأمن وسعة فقست قلوبهم وظنوا أنهم خالدون فيها لا يغلبون عليها لفرط جهلهم أخذوا على غفلة «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ» التي هي تحت تصرف الكفار فنسلط عليها المؤمنين و «نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها» فنسلبها منهم ونضمها للمؤمنين وهذا من الإخبار بالغيب، لأنه تقدير لما سيجريه الله تعالى لرسوله من النصر والفتوح في غزواته ومن بعده لأصحابه إذ تدخل عساكرهم أراضي المشركين عنوة أو صلحا غالبة ظافرة فنضمها إلى المسلمين فتكون في حوزتهم فإذا فعل بهم هذا «أَفَهُمُ الْغالِبُونَ» ٤٤ أم نحن؟ كلا بل هم المغلوبون، والغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين، راجع الآية ٨ من سورة المنافقين في ج ٣، وهذا الاستفهام إنكاري جوابه النفي، وكيف لا يكونون غالبين وهم حزب الله الذي لا زال غالبا من قبل للرسل وأتباعهم، فلأن يكون الغلب لخاتم الرسل وأتباعه من باب أولى.
ولهذا البحث صلة في الآية ٤٤ من سورة الرعد الآتية ج ٣، وقد مرّ له بحث في
308
الآية ٨ من سورة المؤمن والآية ٧٥ من الصافات فراجعها. وفي هذه الآية إشارة إلى أن النقص الواقع بطرفي الأرض من جهة قطبيها الشمالي والجنوبي، وهو أيضا من الإخبار بالغيب، إذ لم يكن أحد في عهد نزول القرآن يعلم ذلك، صدق الله العظيم (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ من سورة الأنعام المارة، قيل كان ابن الجوزي يدرس في جامع دمشق في هذه الآية فقال له رجل هل في القرآن ما يدل على أن فأرة حملت عصا بذنبها وتريد أن تدخل جحرها معها؟
قال نعم في قوله تعالى (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً... وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) الآية ٢٥ من سورة النحل المارة، رحمه الله ما أدق فكره، راجع الآية المذكورة في سورة الأنعام المارة، والآية ٢٣ في سورة الشورى المارتين «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ» المنزل عليّ من ربي لا بما تتفوّهون به من السحر والشعر والكهانة وغيرها من الأمور الثمانية المارة من الآية ٥ من هذه السورة «وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ» ٤٥ يخوفون ولكنهم بمعزل عن السماع ولأنهم لا يسمعون مطلقا، وإنما قال بالوحي ليعلمهم أن إنذاره مقتصر على الإخبار الإلهي لا باقتراح الآيات لأنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية، ولأن الإيمان برهاني لا عياني. قال تعالى «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ» شيء قليل وطرف يسير كأدنى شيء «مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» ٤٦ لأقروا على أنفسهم بالظلم حالا فكيف إذا أصابهم معظم العذاب أو صب عليهم كله يا ويل من لم يرجع إلى الله قبل أن لا يقبل منه الرجوع قال تعالى «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» فنزن بها أعمال الخلق فمن أحاطت حسناته بسيئاته فقد فاز ونجى ومن حاقت سيئاته بحسناته فقد خاب وخسر وإذ ذاك يظهر للكافرين قوله تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) الآية ١٠٧ من سورة الكهف المارة، إذ لا أعمال لهم صالحة، وقرىء القصط بالصاد لأنه قد يحل محل السين كما أن السين نحل محله في الصراط راجع تفسيره في سورة الفاتحة في ج ١، واللام هنا في يوم القيامة بمعنى في، وعليه قول مسكين الدارمي:
309
«فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» بذلك الوزن لأن الله تعالى وصفها بالعدل على ما يعرفون أن منها ما يكون في الدنيا مستقيما ومنها ما لا يكون فبين الله تعالى لهم أن موازين الآخرة على العدل والاستقامة فلا يتصور فيها النقص والزيادة اللذان هما من دواعي الظلم «وَإِنْ» وصلية «كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» لا يظلمه وهذا مبالغة في القلة بحسب عرفنا لأنا لا نرى أقل منها وإلا فالله تعالى يجازي ويثيب على أقل منها مما لا يدركه الطرف ولا يوزن «أَتَيْنا بِها» إلى فاعلها ليعلم أنا واقفون على كل حركاته وسكناته، وإنا نحاسبه عليها مهما كانت «وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» ٤٧ عادين محصين ومتقنين أعمالكم عالمين بها حافظيها عليكم فنعفوا عمن نشاء ونعاقب من نشاء إذا شئنا على الفتيل والنقير والقطمير، قال الشبلي وقد رؤي بالمنام بعد مرته رحمه الله ما فعل الله بك فقال:
حاسبونا فدقفوا... ثم منوا فأعتقوا
هكذا عادة الملوك... بالمماليك يرفقوا
وفي رواية يشفقوا، وتشير هذه الآية إلى أن الحساب بعد وضع الموازين، أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذه شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟
فيقول لا يا رب، فيقول ذالك عذر؟ فيقول لا يا رب، فيقول الله تعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول احضر وزنك، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت (خفت) تلك السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء.
هذا لأنه قالها بإخلاص وعقيدة راسخة فخبأها الله له، وفي هذا الحديث دلالة على أن صحائف الأعمال نفسها توزن، لا أن الأعمال تنجسد ثم توزن، والله أعلم بحقيقة الحال لأن أفعال الآخرة فوق العقل لا يعرفها إلا من يشاهدها، لهذا يجب الاعتقاد والتسليم للمخبر بها. قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ»
310
التوراة الفاصلة بين الحق والباطل الفارقة بين الهدى والضلال «وَضِياءً» نورا يعرف به طريق الرشد من الغي «وَذِكْراً» يتذكر به ما يحتاجه بنو إسرائيل من أمور دينهم ودنياهم وعظة يتعظون بها وعبرة «لِلْمُتَّقِينَ» ٤٨ الذين يعتبرون بما فيها ويعملون. ثم وصف هؤلاء المتقين الذين يعملون بالفرقان الموصوف بالأوصاف المذكورة بقوله «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يرونه فيعبدونه في خلواتهم إذا غابوا عن أعين الناس ويمتنعون من مخالفته خوفا من أن يراهم لعلمهم أنه مطلع على سرّهم وجهرهم، لأن من عبد الله وعلم أنه يراه أحسن عبادته وخشع فيها وخضع لربه «وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» ٤٩ خائفون من هولها قبل أن يروها لأنهم آمنوا بها على الغيب تصديقا لرسلهم وكتابهم «وَهذا» القرآن «ذِكْرٌ مُبارَكٌ» عظيم الخير كثير البركات جامع لمنافع الدنيا والآخرة «أَنْزَلْناهُ» عليك يا سيد الرسل كما أنزلنا الكتب على من قبلك عيسى وموسى فمن قبلهم «أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» ٥٠ يا أهل مكة إنزاله على نبيكم وشمول بركته لكم وخيره فيكم، وهل أنتم جاحدون صحبته، وهذا استفهام على طريق الإنكار والتقريع يضاهي ما جاء في الآية ١٧٥ من سورة الأنعام المارة.
قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ» موسى وهارون «وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ» ٥١ بأنه أهل لما آتيناه لما هو عليه من الكمال والإخلاص لنا، قالوا لما ألقي في النار قال له جبريل عليهما السلام سل ربك ينقذك منها، قال له علمه بحالي يغني عن سؤالي، وقال ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا. فهذا كاف على إخلاصه لربه، فاذكر يا محمد لقومك شأنه هذا مع قومه وأهله «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» ٥٢ أراد عليه السلام ما هذه الأصنام، ولكنه تحقيرا لها وتقريعا لهم بعبادتها، عبر عنها بالتماثيل وهي الصور المصنوعة المشبهة بالمخلوقين من إنسان وحيوان وطير وحوت وغيرها، أي ما بالكم مقبلون عليها ملازمون لها منهمكون في عبادتها «قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» ٥٣ فعبدناها تقليدا لهم «قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٥٤ بالعكوف عليها لا يخفى على عاقل وان استنادكم للتقليد
311
عبارة عن هوى متبع وشيطان مطاع وإعجاب بما تصنعون «قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ» أي الصدق لمقابلة قولهم «أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ» ٥٥ الهازئين في قولك لأنا لم نسمع هذا إلا منك «قالَ» يا قوم إن هذه لا تصلح للعبادة وليست برب ينفع ويضر ويحيي ويميت «بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» ٥٦ وجازم بقولي لكم بأنها ليست بآلهة لأنها من عملكم والله خلقكم وما تعملون ولست بهازل ولا من شأني اللعب وأريد لكم ما أريد لنفسي «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ» التي تخوفوني بها ولأفعلن بها فعلا يكيدكم «بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» ٥٧ من هنا إلى عيدكم، وذلك أن أباه كلفه، وقيل الملك أراده أن يذهب مع قومه إلى العيد، فسار معه ثم ألقى نفسه بأثناء سيره معهم لشدة تفكره وتأثره من صنيعهم على الأرض وقال إني سقيم، راجع قصته في الآية ٨٩ من سورة الصافات والآية ٧٨ من سورة الأنعام المارتين، فتركه أبوه ومضى إلى عبده فرجع إبراهيم إلى بيت الآلهة فوجدها في بهو عظيم، وبمستقبل بابه صنم كبير إلى جنبه أصغر منه، وهكذا بقية الأصنام، ورأى بين أيديهم طعاما وضعوه لتحل عليه بركتها، فيأكلوه بعد رجوعهم من مراسم العيد والتبرك بالأصنام، فقال لهم على طريق السخرية ألا تأكلون؟ فلم يردوا عليه فقال لهم استهزاء بهم ما لكم لا تنطقون؟ فلم يردوا عليه، فطفق يكسرها حتى أتى على آخرها، ووضع الفأس في عنق كبيرهم الذي لم يتعرض إليه كما حكى الله عنه «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً» قطعا كبيرة وصغيرة، من الجذ الذي هو القطع، قال الشاعر:
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما قد مضى من قبل عاد وتبّع
بنو المهلب جذ الله دابرهم أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف
«إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ» لعابديها لم يتعرض له، وهذا أولى من عود الضمير لنفس الأصنام، إذ لو كان لها كما مشى عليه بعض المفسرين لقال كبيرها ويؤيده أيضا قوله «لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ» ٥٨ فيسألونه عمن كسرها لأنه بقي صحيحا وآلة التكسير في عنقه، قالوا كانت اثنتين وسبعين صنما منها من ذهب ومنها من فضة ومن نحاس وصفر وحديد وخشب وحجر وطين، فلما رجعوا من عيدهم ودخلوا على البهو رأوا ما هالهم «قالُوا» صائحين بلسان واحد «مَنْ فَعَلَ هذا
312
بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ»
٥٩ في جرأته هذه المؤدية لإهلاكه «قالُوا» الذين سمعوا صياحهم وسمعوا قبل قسم إبراهيم على كيدها «سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ» بسوء ويعيبهم ويسخر بهم «يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» ٦٠
فأوصلوا الخبر إلى النمروذ وملائه فأجمع رأيهم على جلبه واستنطاقه أولا ولهذا «قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ» ٦١ على اعترافه بذلك لئلا يقول الناس إنه أخذ بغير ذنب وقتل بغير بينة، فأتوا به ثم له «قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» ٦٢ ولماذا «قالَ» ما فعلت شيئا وقصد غير تكسيرها وما عملت شيئا يسخط الله فيها «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» ففهموا من كلامه هذا أن الذي كسرها هو الصنم الكبير المشار إليه من قبل إبراهيم، وقد وقف بعضهم على (بل فعله)، ثم ابتدأ فقرأ (كبيرهم هذا) إلخ يريد بذلك عود الضمير على إبراهيم تخلصا من الكذب، ووقف بعضهم على هذا، وأراد أي هذا قولي فاسألوهم إلخ لأجل التخلص من الكذب أيضا، والحال أن الكذب للمصلحة جائز من النبي وغيره إذا كان هناك محذور كما هنا، فلا حاجة للوقفين اللذين لم يردهما إبراهيم نفسه، أي إنما كسرها كبيرهم بسبب غضبه عليكم، لأنكم تعبدون الصغار معه وتساوونها به وهو أكبر منها، فكرهن ليستقل بعبادتكم. قالوا ما بينتك على هذا؟
قال لا بينة لي سوى وجود آلة التكسير لديه كما شاهدتموها، فإن لم تصدقوني «فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» ٦٣ أراد بهذا إقامة الحجة عليهم لأنها إذا قدرت على النطق قدرت على الفعل، وإلا فيظهر لهم عجزها. قال تعالى «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ» لما سمعوا قوله وتفكروا به فلم يكن لهم بد إلا الاعتراف بعجزها «فَقالُوا» أولا لبعضهم «إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» ٦٤ بعبادتكم ما لا يتكلم، لأن من لم يدفع عن رأسه الفأس كيف يدفع عن عابديه البأس، وقد أجرى الله الحق على لسانهم أثناء المذاكرة فيما بينهم على غياب من إبراهيم بدليل ما حكى تعالى عنهم (فرجعوا إلى أنفسهم) وقد لحقهم الشقاء المبعد عن الحق المهوي بهم إلى الباطل المشار إليه بقوله تعالى «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ» أي ردّوا إلى تعصبهم وآرائهم الفاسدة عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليمهم
أنفسهم فقالوا له «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ٦٥ فكيف تكلفنا سؤالهم فلما رأى الحجة اتجهت عليهم «قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ» إن عبدتموه «شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ» ٦٦ إن تركتم عبادتها «أُفٍّ» راجع معناه في الآية ٢٣ من الإسراء في ج ١ «لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» ٦٧ أنها لا تستحق العبادة فتتركونها، ثم طفق يندد بهم وبآلهتهم ويذمها ويحقرها ويسفههم، ولما جابههم بذلك وعرفوا أنه هو الفاعل حكموا عليه بما ذكره الله بقوله «قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» ٦٨ به شيئا يرفع العار عنكم وعن آلهتكم، لأنه طعن فيكم ووصم آلهتكم جهرا ولم يحترم أحدا ولم يقلع عما هو عليه ولم يعتذر، قالوا فقبضوه وحبسوه في حظيرة في قرية كوني، وأمر النمروذ الناس بجمع الحطب مدة ستة أشهر، حتى صار المرضى وذو العاهات والحاجات ينذرون جمع الحطب لإحراقه إذا أجيبت دعواتهم، قاتلهم الله ما أحمقهم، ثم أوقدوا ما جمعوه مدة سبعة أيام حتى صارت الطير في جو السماء تحترق من وهجها، فأخرجوا إبراهيم ليلقوه فيها، فلم يقدروا أن يتقربوا منها ولم يعلموا كيفية إلقائه بوسطها ليتم لهم ما قرروه، قالوا فخرج إبليس على صورة رجل منهم فعلمهم عمل المنجنيق (آلة قاذفة) فعملوه ووضعوه فيه مقيدا مغلولا ورموه في تلك المقذفة من محل عال مشرف على وسط النار، فتداركه الذي ألهمه ما عمل وأنطقه بما قال جلت قدرته بقوله «يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» ٦٩ فكانت كذلك لأنها لا تحرق إلا بخلق الله الإحراق فيها «وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ» ٧٠ في سعيهم وعدم حصول مرادهم
«وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» ٧١ أرض الشام والقدس.
مطلب إلقاء إبراهيم في النار وماذا قال لربه وملائكته وفي مدح الشام:
قالوا لما وضع إبراهيم بالمقذف ليرمى في النار صاحت ملائكة الأرض والسماء، ربنا ائذن لنا في نصرته فليس في الأرض أحد يعبدك غيره، فقال إنه خليلي وأنا إلهه فإن استغاثكم فأغيثوه، قالوا فجاء خازن المياه وقال له إن أردت أخمدت
314
النار، وأتاه خازن الهواء فقال له إن أردت طيّرت النار، فقال لا حاجة لي إليكم، حسبي الله ونعم الوكيل، وقالوا إنه قال حين ألقي بالنار: لا إله إلا أنت لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. فاستقبله جبريل فقال له يا إبراهيم ألك حاجة؟
قال أما إليك فلا، قال اسأل ربك، قال حسبي من سؤالي علمه بحالي. روى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى (وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قال:
قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي بالنار، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الآية ١٧٣ من آل عمران في ج ٣. قالوا وصار كل شيء يسعى ليطفي النار على إبراهيم إلا الوزغ فإنه كان ينفخها، وروى البخاري ومسلم عن أم شريك قالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل الأوزاغ. زاد البخاري قال: وكان ينفخ على إبراهيم. قال ابن عباس: لو لم يقل الله تعالى سلاما لمات إبراهيم من بردها. وجاء في الآثار أنه لم تبق نار في الأرض ذلك اليوم إلا أطفئت، ولو لم يقل على إبراهيم لبقيت باردة أبدا، ولم ينتفع بها أحد، قالوا وبقي إبراهيم فيها سبعة أيام ولم يحترق إلا وثاقه، لأنه من أعدائه وفي حرقه خلاصه من التكتيف فكان لمنفعته، وإلا لم يحرق تبعا للباسه. قالوا وأتبع الله له فيها عين ماء عذب، وأنبت على حافتها الورد الأحمر والنرجس، وبعث الله ملكا يظلل عليه ويؤنسه، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إباه، وبطنفسة فأجلسه عليها، وصار يؤانسه أيضا، قالوا وأشرف نمروذ من الصرح على إبراهيم فرآه جالسا في روضة وسط النار، فناداه كبير إلهك الذي بلغت قدرته هذا يا إبراهيم أتستطيع أن تخرج؟ قال نعم، قال تخشى إن قمت أن تضرك؟ قال لا، قال إذن فاخرج فإنك آمن وإنا لا نجابهك بشيء بعد أن رأينا فعل إلهك معك، قالوا فخرج، ولما وصل إليه قال من الذي كان معك؟ قال ملك يؤانسني، قال إني مقرب إلى ربك أربعة آلاف بقرة، قال لا يقبلها منك إلا أن تكون على ديني، قال لا أستطيع ترك ملكي ولكن سأذبحها لصنيعه بك، فذبحها وترك إبراهيم وشأنه، قالوا واستجاب لإبراهيم رجلان من قومه حين رأى لطف الله فيه، ثم آمنت به سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم، وتبعه لوط ابن أخيه، وكان لها أخ ثالث يسمى ناخورا
315
وثلاثتهم أولاد تارخ وهو آزر، فخرجوا من كوني في أرض العراق، وفروا إلى حران بدينهم، ومنها نزل هاران في أرض الجزيرة، ومكث فيها، ثم ذهبوا إلى مصر ثم إلى الشام، وأول ما نزل هاران أرض على سبيل الإقامة أرض بئر السبع من فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة تبعد عن بئر السبع ثمانية عشر فرسخا فبعثه الله نبيا إلى أهلها وما حولها. أما النمروذ فقد أصر على الكفر فأرسل الله بعرضة فدخلت في منخره إلى دماغه فأهلكته، وفي إهلاكه بهذه الحشرة الصغيرة تقريع لمن يدعي العظمة تجاه ربه عز وجل لأن هذا تعاظم حتى ادعى الإلهية فأهلكه الله بأحقر شيء من خلقه، فاعتبروا يا أولي الأبصار. وسبب تسمية أرض الشام مباركة لأن أكثر الأنبياء خرجوا منها وبعثوا لأهلها ودفنوا فيها. روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقبره الشريف؟ فقال كعب إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين ان الشام كنز الله في أرضه، وبها كنزه من عباده. وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ستكون هجرة بعد هجرة (أراد بالهجرة الثانية إلى الشام إذ يرغب بالمقام فيها) فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم. وأخرج الترمذي عن زيد ابن ثبت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم طوبى لأهل الشام، فقلت وما ذاك يا رسول الله؟ قال لأن الملائكة باسطة أجنحتها عليها. وأخرج أيضا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله أين تأمرني؟ قال هاهنا، ونحى بيده نحو الشام، وقدمنا في الآية ١٣٦ من سورة الأعراف ما يتعلق بهذا فراجعه.
قال تعالى «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً» فرق طلبه لأنه قال (رب هب لي من الصالحين) فأعطاه إسحق وأعطى إسحق يعقوب زياده، والنافلة ولد الولد. وهذا بعد أن أعطاه إسماعيل من الجارية هاجر زوجته، وبعد أن وضعه وأمه في مكة المكرمة، وإن ابنه إسحق من زوجته سارة. وقد بينا التاريخ بينهما في الآية ٩٩ من سورة إبراهيم المارة وهو ثماني عشرة سنة «وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» ٧٢ أنبياء كاملين لاثقين لرسالتنا وإرشاد عبادنا «وَجَعَلْناهُمْ
316
أَئِمَّةً»
قادة «يَهْدُونَ» الناس إلى ديننا «بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ» من كل معروف وعمل صالح وفعل طيب «وَإِقامَ الصَّلاةِ» المحافظة عليها بأوقاتها المعينة لها والمداومة على فعلها «وَإِيتاءَ الزَّكاةِ» لمستحقيها من الفقراء والمساكين وهي أفضل العبادات المالية، كما أن الصلاة أفضل العبادات البدنية، ومنه يعلم أن هذين الفرضين قديمان لم تخل أمة منهما «وَكانُوا» إبراهيم وابنه إسحق وحفيده يعقوب «لَنا عابِدِينَ» ٧٣ لم يعبدوا غيرنا منذ نشأوا «وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً» بين الناس على طريق النبوة بمقتضى شريعته لا على سبيل الملكية، لأنها لم تجمع إلا لداود عليه السلام فمن بعده كما سيأتي في الآية ٢٥١ من سورة البقرة ج ٣ «وَعِلْماً» به وفقها بأنواعه «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ» إتيان الذكران والضراط في المجالس والطرقات وقذف المارة بالحصى والتصفير والتصفيق وعقد أيديهم وراءهم تقليدا لفعل إبليس عند طرده من الجنة، والتباهي بعوراتهم من حيث كبرها وصغرها وغيرها من الفواحش «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ» ٧٤ خارجين عن حدود الله متجاوزين عليها «وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا» كسائر أنبيائنا «إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» ٧٥ للدين والدنيا وتقدمت القصة مفصلة في الآية ٣٩ من سورة هود المارة «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ» إبراهيم ولوط «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» دعوته «فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» ٧٦ الذي لحقه من تكذيب قومه وإهانتهم له ومن الغرق الذي أهلك به قومه «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» فلم يصلوا إليه بسوء قط «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ» منهمكين بالشرور «فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» ٧٧ لعلمنا أنهم لم يؤمنوا، وتقدمت قصة إهلاكهم في الآية ١٤٤ فما بعدها من سورة هود أيضا، «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» الذي انطلقت فيه الأغنام فأهلكته وهو معنى قوله «إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ» لبلاد دخلت فيه فأفسدته كله «وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» ٧٨.
317
مطلب أن الجمع ما فوق الاثنين، وأحكام داود وسليمان، والبساط وسيره وما يتعلق بذلك:
في هذا الجمع دليل المناطقة القائلين أقل الجمع اثنان وعليه اللغات الأجنبية كلها إذ ليس عندهم تثنية بين الجمع والمفرد وعليه قوله تعالى (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية ١١ من سورة النساء في ج ٣، والمراد أخوان، وقرىء لحكمهما قراءة شاذة، وقيل إن الحكم كما يضاف إلى الحاكم يضاف إلى المتحاكمين فيكون معهما جمعا، تأمل وراجع الآية ١١٦ من الصافات المارة. وخلاصة هذه القصة:
قالوا دخل على داود عليه السلام رجلان، قال أحدهما إن غنم هذا قد دخلت في زرعي ليلا فلم تبق منه شيئا، واعترف الآخر بذلك، فحكم عليه السلام بالغنم كلها لرب الزرع، فلما خرجا قال لهما سليمان: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه بالحكم، فقال غير هذا أوفق وأرفق، فعادا فأخبرا داود، فدعاه وقال له بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أولى بهما وأحسن، قال له ادفع لصاحب الحرث، الغنم فينتفع بدرّها ونسلها وصوفها، وأمر صاحبها يزرع لصاحب الحرث مثل حرثه حتى إذا صار كهيئة يوم أكل دفع إلى صاحبه واستعاد صاحب الغنم غنمه، وبهذه الصورة يرتفع الضرر عن الطرفين، ويعود كل لماله كما كان، فقال داود عليه السلام الأمر هو ما قضبت وحكم به، وكان عمر سليمان إذ ذاك إحدى عشرة سنة، ومن ذلك اليوم يقال: الرجوع إلى الحق فضيلة، والاعتراف بالخطأ خير من التمادي في الباطل، والخطأ في البراءة خير من الخطأ بالحكم. والحكم الشرعي في هذا هو أن ما أفسدته الماشية المرسلة من مال الغير نهارا فلا ضمان على ربّها لأن أصحاب الزرع مكلفون يحفظ زرعهم نهارا من المواشي التي تسرح فيه، وإن كان ليلا فعليه الضمان لأن أهل المواشي مكلفون يحفظها ليلا في مراحها لئلا تتسرب إلى مال الغير فتتلفه حال غفلة أهله، يدل على هذا ما رواه حرام بن سعيد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا (بستانا) لرجل من الأنصار فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل- أخرجه أبو داود مرسلا- وما روى الشيخان من قوله صلّى الله عليه وسلم: جرح
318
العجماء جبار ولم يقيده بليل ولا نهار، وقد أخذ أبو حنيفة بهذا ولم يقض بالضمان أصلا، وأخذ الشافعي بالحديث المشار إليه على التفصيل الذي فيه، وكان حكم داود عليه السلام وابنه بالاجتهاد، ولأنه لو كان بالنص لما جاز لسليمان الاعتراض عليه، ولا لداود الرجوع عنه، وان الله تعالى حمد هذا لصوابه، وأثنى على الآخر باجتهاده. قال الحسن: لولا هذه الآيات لهلك الحكام. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال صلّى الله عليه وسلم إذا حكم الحاكم باجتهاده فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر. وهناك من قال إن حكمهما كان بالنص، إلا أن الآخر نسخ الأول وفيه ما فيه فضلا عن أنه يوجب عدم جواز الاجتهاد للأنبياء، لأن سليمان لم يتنبأ بعد لينزل عليه شرع، يدل عليه قوله تعالى «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» أي قضية الحكم بطريق الإلهام، وإنما ركن داود لحكم سليمان، لأنه رآه موافقا وأرفق من حكمه بحق الطرفين، ولأنه علم حذاقته قبل هذه، وذلك على ما قالوا إن امرأة تبتّلت واستغرقت أوقاتها بالعبادة، وكان لها جاريتان جميلتان، قالت إحداهما للأخرى قد طال علينا البلاء، لأن هذه لا تريد الرجال، وإننا بشر فلو فضحناها لرجمت وخلصنا منها، فصرنا إلى الرجال من بعدها، فأخذنا ماء أبيض ونضحتاه على سوءتها وهي تصلي، وخرجنا إلى داود عليه السلام فقالتا له إنها قد بغت، وكان حد الزنى عنده الرجم، فرفعت إلى داود والماء لأبيض في ثيابها، فسألها فأنكرت، وسألها عن الماء، فقالت لا أدري لعله ماء أبيض أو شيء مفتعل، فأراد رجمها، فقال سليمان ائتوني بنار، فإنه إن كان ماء أبيض اجتمع، وإن كان ماء الرجل تفرق، فأتي بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الحد، وهذا من ذكانه عليه السلام وحدة فطنته. ولهذا البحث صلة بعد الآية الآتية. قال تعالى «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ» يسبحن أيضا ويسرن معه حيث سار وهذا هو تسخيرها «وَكُنَّا فاعِلِينَ» ٧٩ أمثال هذه المعجزات لأنبيائنا ومن شأننا أن نفعل أكثر من ذلك فليس ببدع منا وإن كان بديعا وعجيبا عندكم أيها الناس «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ» دروع من حديد بدليل قوله «لِتُحْصِنَكُمْ
319
مِنْ بَأْسِكُمْ»
من أن ينالكم سلاح عدوكم في الحرب «فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» ٨٠ يا آل داود، وهذا استفهام بمعنى الأمر، أي أديموا الشكر لله على ذلك. واللبوس لغة كل ما يلبس، قال ابن السكّيت:
البس لكل حالة لبوسها اما نعيمها واما بوسها
«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ» سخرناها «عاصِفَةً» شديدة الهبوب ولا يرد هنا ما جاء في قوله (رخاء) في الآية ٣٧ من سورة ص في ج والآية ١٢ من سورة سبأ المارة لم يذكر فيها الأمران بل ذكر مدة سيرها حين تحمل البساط على الريح اللينة. أما العاصفة فتقطع أكثر مما ذكر هناك، وبما أن الله تعالى سخرها له فتكون على رأيه إن شاء رخاء لينة وإن شاء شديدة عاصفة تقطع السنة بساعة وأقل.
راجع كيفية جلب عرش بلقيس في الآية ٣٨ من سورة النمل في ج ١، فالريح بالنسبة لسيدنا سليمان كالفرس إن شاء أطلقها فغارت وإن شاء أمسكها فسارت، فإذا أراد أن تشتد اشتدت وإذا أراد أن تلين لانت، يدل عليه قوله تعالى «تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» بالأشجار والأنهار والثمار واعتدال الهواء فضلا عن أنها مهبط الأنبياء ومثواهم «وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ» ٨١ لأن هذه الأشياء وغيرها تجري بمقتضى حكمتنا وتدبيرنا «وَمِنَ الشَّياطِينِ» سخرنا له «مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ» في البحار لاستخراج الدراري «وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ» الغوص، من البناء الرفيع، والتصوير الجميل، وعمل القدور والجفان العظيمة، والقوارير والصابون وغيرها مما عرف ذلك الزمن وما لم يعرف، «وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» ٨٢ فلا يزيغون عن أمره ولا يفسدون في الأرض ولا يبدلون ما أمروا به فلا يخالفونه بشيء ما. قالوا نسجت الشياطين لسليمان بساطا ذهبا في إبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع له منبر من ذهب وسطه فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، يقعد عليها الأنبياء والعلماء وحولهم الوجهاء والأمراء، وحولهم عامة الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وتظلّهم الطير بأجنحتها، وترفع الصبا البساط مسيرة شهر صباحا ومثلها مساء، وذلك بمدة ساعة أو ساعة ونصف على الاختلاف في تقدير الفرسخ، لأن الغدو من
320
مطلع الفجر إلى طلوع الشمس، والرواح مثله من اصفرار الشمس إلى غروبها راجع الآية ١٢ من سورة سبأ المارة. قالوا وكان يسير في الريح الليّنة إلى العراق فيقيل ببلخ وتخلّل بلاد الترك وجاوزها إلى الصين، ثم إلى قرب مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى إلى السند وجاورها الى مكران وكرمان في أرض فارس، وغدا منها فقال في بكسكى، ثم راح الى الشام، وكان مستقره تدمر، وفي ذلك قال النّابغة:
ألا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاصددها عن النفد
وجيّش الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
قالوا وسبب إعطائه البساط هو غضبه على الخيل التي ألهته عن الصلاة وعقره لها عقوبة لنفسه بحرمانها منها وعقوبة لها لتسببها لفوات صلاة العصر، وكان في شريعته جواز عقوبة المتسبب، فأبدله الله تعالى خيرا منها وهو البساط، قالوا وكان عليه السلام يحب الغزو فلا يمر بناحية إلا غزاها، وأذل أهلها وملكها، وكان يمر ببساطه وعظمته على المزرعة فما يحركها ولا يثير ترابها ولا يؤذي طائرا، راجع الآية ١٥ فما بعدها من سورة النمل في ج ١، والآية ١٠ فما بعدها من سورة سبأ المارة، وفي هذا وذاك يبيّن أن وجود الجن وإعمارهم الأرض ثابت بالنص فلا يجوز إنكار وجودهم بوجه من الوجوه، لأنه كفر صريح لمخالفته القرآن، وعدم رؤيتنا لهم في الدنيا يقابله عدم رؤيتهم لنا في الآخرة، راجع الآية ٢٧ من الأعراف في ج ٢ وبقية قصة عظمة ملك سليمان مفصلة هناك، وفي أحكام سليمان عليه السلام ما أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك. فتحا كما الى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان فاخبرتاه، فقال ائتوني بسكين أسقه بينكما، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى، وهذا مما يدل على أن حكمه بالاجتهاد لا بالنص بالقصتين المذكورتين. ونقلوا عنه قصصا أخرى لم نثبتها لعدم التثبت من صحتها، وهناك قصة رابعة نقلها صاحب الإبريز وهي أن امرأة شهد عليها رجلان بأنها مكنت الكلب من وطئها فحكم برجمها، وأن سليمان عليه السلام استشهد
321
الرجلين على الانفراد فاختلف شهادتهما قدرا عنها الحد، ومن ذلك اليوم استحب استشهاد الشهود مفردين وهو الصواب. ومن هنا يعلم أن تمكين الكلاب من النساء قديم، لم تبتدعه بعض عواهر زماننا، وأن آية التبرّج الآتية من سورة الأحزاب ٣٢ في ج ٣ تشير الى أن كل ما أحدثه أهل هذا القرن من الخلاعة قديم أيضا، وهذا من معجزات (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ١٨ من سورة الأنعام المارة، وليعلم أن أحكام داود عليه السلام في هذه القصص الأربع على فرض صحة الثلاث، لأن الأولى ذكرها الله تعالى فلا قول فيها وكلها موافقة لظاهر الشرع وأحكام سليمان كذلك، وإنما جوزها بحكمه، لأن قضية الحرث صارت كالصلح بينهما لرضائهما بحكمه فيها، وقضية الزنى قبيل ظهور كذب الشهادة إذ يقتضي الحكم بمثلها، أما قضية الولد فإنما قضى بها داود للكبيرة لعدم وجود بينة لدى الصغيرة، وكان الولد بيد الكبيرة فحكم باعتبارها ذات اليد والصغيرة خارجة والحكم الشرعي أن البينة على الخارج والقول لذي اليد كما أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وكان عمل سليمان من قبيل الاختبار، لأنه لما رأى الكبيرة وافقت على قسمه شقين عرف أن لا شفقة لها عليه، فلو كان ابنها لما رضيت بموته، ولو أن الصغيرة وافقت على قسمه لما حكم لها به ولأبقاه لدى الكبيرة باعتبار يدها عليه، ولهذا حكم به للصغيرة حكم موافق للواقع مصدره الحذق والفطنة والاجتهاد، تأمل. قال تعالى «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ» قائلا رب «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ٨٣ والضر كلمة جامعة لأنواع الشر أنظر رعاك الله ما أبدع هذا الدعاء إذ ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغايتها، ولم يصرح بمطلوبه عليه السلام أدبا مع ربه وحياء منه وإيذانا بأن ربه عالم بمراده من دعائه، ولا شك أن الأنبياء موفقون، قال تعالى «فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ» الذين فقدهم «وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» ٨٤ ليتأسوا به ويعبروا مثله فيثابوا كثوابه ويعتبروا بطلبه ويتفكروا بعطاء الله له زيادة عما خطر بباله.
322
مطلب قصة أيوب عليه السلام ومن تسمى باسمين من الأنبياء عليهم السلام:
ونظير هذه الآية الآية ٤٢ من سورة ص في ج ١ وخلاصة هذه القصة قالوا إن أيوب ابن اموص بن تارخ بن روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم وامه من ولد لوط بن هاران الأصغر أخي ابراهيم عليه السلام. وكان تنبأ وبسطت له الدنيا في أرض البلقاء، من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها، وكان عنده من أصناف النعم والعبيد ما لم يكن لأحد في عصره، وأعطاه الله مع هذا أهلا وأولادا ذكورا ونساء، وكان برا تقيا لربه رحيما بالمساكين والأيتام والأرامل، مكرما للضيفان مبلغا أبناء السبيل بلادهم وهذا مما يوافق شريعتنا راجع الآية ٦٠ من سورة التوبة في ج ٣ ومن هنا وجب على الأغنياء إعطاء أبناء السبيل من الزكاة ما يوصلهم إلى بلادهم ولو كانوا أغنياء فيها وعلى الحكومة أيضا أن تعطيهم من بيت المال ما يؤمن وصولهم، وكان شاكرا لأنعم الله مؤديا حقوقه وقد آمن به ثلاثة فقط وكان لهم مال أيضا فحده إبليس على ذلك وصار يخاطب ربه فيقول يا رب لو ابتليت أيوب بنزع ما أعطيته لخرج عن طاعتك، فقال إني قد سلطتك على ماله قالوا وكان إبليس لا يحجب عليه شيء في السموات، ولكنه بعد رفع عيسى عليه السلام حجب من أربع منها وفي مبعث محمد صلّى الله عليه وسلم حجب عن الكل إلا في استراق السمع، وكان يسمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، ولذلك حسده فجمع خيله ورجله ونفخوا على الإبل فأحرقوها ورعاتها، فذهب وقال يا أيوب أتت نار فأحرقت إبلك ورعاتها، فقال إنها مال الله أعارنيها ثم نزعها مني وله الحمد، عريانا خرجت من بطن أمي وأحشر إلى الله كذلك، ثم أكثر عليه من الكلام حتى قال له يقول الناس لو كان إلهك يقدر لمنع ذلك، فلم يرد عليه، فرجع خاسئا ثم فعل بالغنم ورعاتها كذلك، وجاء إليه فقال ما قال أولا ورد عليه كما رد عليه أيضا فرجع خائبا ثم فعل بالزرع والأشجار كذلك، وأخبره فكان ما كان أولا وهكذا حتى لم يبق عنده شيء من المال ولم يره تأثر من شيء أصلا، فقال إبليس يا رب ان أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطني على ولده؟ فقال قد سلطتك، فانقض عدو الله حتى أتى ولده جميعا وهم في قصرهم فزلزله فيهم، فتلفوا عن آخرهم، ثم ذهب إلى أيوب
323
عليه السلام بصورة معلمهم، لأنه كان عليه اللعنة كلما فعل شيئا يذهب الى أيوب بصفة الرجل الذي يناسب ذلك الفعل، ففي تلف الإبل والغنم ذهب بصورة راعيها، وفي تلف الأشجار والزروع والثمار بصورة ساقيها، وهكذا، فقال يا أيوب وهو يبكي ليحرك حزنه لو رأيت كيف نكسوا على رءوسهم وسالت دماؤهم وتقطعت أمعاؤهم لتقطع قلبك ألما عليهم، فقال من هم؟ قال كل أولادك وأخبره خبرهم، وقال قد شقت بطونهم وكسرت رءوسهم وتناثرت أدمغتهم، وكذا وكذا، ولم يزل يصفهم ويقول له بتحرق وتأسف إلى أن رأى التأثر بدا بوجهه عليه السلام طفق يصف له مزاياهم ويعظم فظاعة ما حل بهم حتى رق قلبه عليه السلام، فاغتنم إبليس لعنه الله هذه الفرصة وذهب يعرض لربه جزعه، فتنبه أيوب واستغفر ربه حالا وصعدت توبته قبل أن يبثّ إبليس ما عنده، فخسىء إبليس وذل، ولما رأى ذلك قال يا رب إنما هان عليه المال والولد ما متعته بنفسه فإنك تعبد له ما فقده من مال وولد ونشب فهل أنت مسلطني على جسده، فسلطه الله على جسده عدا لسانه وقلبه وعقله، فانقض زاعما أنه فاز ببغيته، فأتى إليه مسرعا ونفخ في منخريه فاعتراه مرض في جميع جسده ما بين العظم والجلد استدام معه سبع سنين وبضعة أشهر وهو صابر لا يشكو، وتفرقت عنه الناس، وجاء أصحابه المؤمنون وأشاروا عليه بأن يدعو ربه بكشف ضره فأعرض عنهم وأنبهم على ما رأى من ضجرهم، وقال إن الله تعالى عافانا سنين كثيرة ومتعنا بكل نعمه الحاضرة، أفلا نصبر على بلائه بمقدار معافاته على الأقل وأطال عليهم الكلام بخطبة بليغة مؤثرة حتى انفضوا عنه، ولم يبق ممن يراجعه إلا زوجته رحمة بنت افرائيم بن يوسف عليه السلام، وصارت تأتيه بطعامه وشرابه، فلما رأى اللعين خيبة سعيه
ومداومة أيوب على ذكر الله تعالى وحمده وشكره صرخ صرخة فاجتمعت إليه الشياطين من كل جانب وقالوا له ما دهاك قال أعياني هذا الرجل، وحكى لهم قصته معه، فقالوا له هل أتيته من المكان الذي جئت به آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال أصبتم، فذهب إلى زوجته وقال لها أين بعلك ذلك الذي كنت ترين، أين أولادك الذين كنت تباهين، أين مالك الذي كنت تفاخرين؟ قد ذهب عنك كل ذلك وتباعدت عنكم أصدقاؤكم
324
وأنفسكم الناس، فانظري لحالك أين جمالك، أين زخارفك، أين قصورك أين أين؟
فلم يزل يعدد لها ويذكرها عزها الذي كانت فيه حتى صاحت صيحة أظهرت فيها جزعها وضجرها، وقالت له ما العمل؟ قال خذي هذه السخلة وقولي لزوجك يذبحها لي وهو يبرأ مما فيه وتخلصين من هذا الحال ويعود إليك جمالك وعزك وما ذهب منك، فاستمالها الملعون بذلك وأذعنت لقوله ظانة أنه ناصح لها وأنه يرجع لها ما ذكر، فأخذت السخلة منه وذكرت لأيوب ما وقع لها وكلفته أن يذبحها لإبليس لأنه هو الذي نفخ فيك فأصابك ما أصابك، قال لها ويلك أغراك عدو الله أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والجمال والعز والصحة، أليست هي من الله؟ قالت نعم، قال كم متعنا به، قالت ثمانون سنة، فقال لها كم لك في البلاء، قالت سبع سنين وأشهر، قال لها ويلك ما أنصفت ربك، ألا صبرت على البلاء ثمانين كما كنت في الرخاء والنعم، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مئة جلدة، تأمريني أذبح لعدو الله اذهبي، طعامك وشرابك عليّ حرام، فذهبت تبكي، وبقي أيوب صابرا ما شاء الله أن يصبر بلا زاد ولا ماء ولا صديق ولا أحد، فخرّ ساجدا لله تعالى، وقال (ربّ إني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وبين عليه السلام في دعائه هذا افتقاره إلى ربه فقط إذ لم يقل ارحمني، وإن أكثر أسئلة الأنبياء ربهم على سبيل التعريض لا على طريق الطلب، لأن حياءهم منه يحول دون طلبهم، قال المتنبي في هذا المعنى:
وفي النفس حاجات وفيك فطالة سكوتي بيان عندها وخطاب
وذلك أن الأنبياء عليهم السلام تحققوا أن كل شيء كان أو يكون مسبوق بالإرادة، والإرادة مسبوقة بالعلم، والعلم تابع المعلوم فيتعلق به على ما هو عليه، في ثبوته غير المجهول مما يقتضيه استعداده الأزلي، ثم بعد أن خلق الخلق على حسب ذلك كلفهم استخراج سرّ ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء اللذين في استعدادهم الأزلي، ولذلك أرسل الرسل إليهم مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي فيهم فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بيّنة، ولئلا يكون للناس على الله حجة، فلا يتوجه عليه اعتراض بخلق الكافر، وإنما يتوجه الاعتراض على الكافر
325
بكفره، إذ أنه من توابع استعداده في ثبوته غير المجهول، ويشير إلى هذا قوله تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ) الآية ١٠٢ من سورة هود المارة، وقوله صلّى الله عليه وسلم: من وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وقد أشار الشافعي رحمة الله إلى بعض هذا في قوله:
خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسن
هذا وبما أن الأنبياء واقفون على هذا وقد أرشدوا الخلق إليه، فإذا دعوا لأنفسهم أو على أعدائهم كان من قبيل التعريض لا التصريح، لأنهم عالمون أن الكائن كائن في الأزل، وإن ما لم يكن لا يكون أبدا سواء دعوا أو لم يدعوا، سعوا أو لم يسعوا، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: علمه بحالي يغني عن سؤالي، راجع الآية ٧١ المارة، قالوا ولما صعدت دعوته هذه التي هي من إلهام الله وكان قضاء الله الأرلي معلقا على وجودها منه وقد صادقت الزمن المقدر لإنقاذ أيوب مما هو فيه، بعد أن بلغ غايته وطمى نهايته، ناداه مناد من السماء أن ارفع رأسك قد استجيب لك، فاركض الأرض برجلك، فرفسها فنبعت عين ماء فاغتسل منها فشفي مما كان فيه، وعاد عليه جماله أحسن مما كان، وقام صحيحا ورأى أن الله تعالى قد أعطاه مالا وولدا كأحسن ما كان أولا، ومشى وقعد على مكان مشرف، فعنّ لزوجته أن تراه حرصا عليه، فجاءت فلم تر أحدا، فصارت تبكي، فناداها من فوق ما يبكيك يا أمة الله؟ قالت بعلي، قال وهل تعرفينه؟ قالت لا يخفى على أحد وانه في حال صحته أشبه بك، فقال أنا هو، تأمريني أذبح لإبليس، ها إني دعوت الله فردّ علي ما ترين، ثم أمره الله أن يأخذ قبضة من النبات فيها مئة عود فضربها بها تحلة يمينه كما تقدم في الآية ٤٤ من سورة ص المارة في ج ١، ففعل، فرد عليها شبابها. هذا، وما قيل إن أيوب عليه السلام حال مرضه دوّد وألقي على الزبل وغير ذلك من الترهات التي عنها تتحاشى ساحة الأنبياء، فهو كذب لا نصيب له من الصحة، لأن الأنبياء معصومون من العاهات المنفّرة، وإن الذي أصابه هو ما بين الجلد والعظم بحيث لم يظهر عليه ما ينفر الناس عنه، وما قيل من ان النفرة بسبب سلب ما كان عنده من النعم فقد يكون بالنسبة للناس. وما قيل
326
أيضا إن زوجته باعت شعرها وحلف عليها ذلك اليمين هو محض كذب وافتراء وإنما حلف عليها للسبب المار ذكره وهو تكليفه ذبح السخلة لإبليس، وما نقلناه في هذه القصة هو أصح ما ورد فيها ولو لم نعتمد على صحتها، إذ لا اعتماد إلا على ما يأتي في كتاب الله وسنة رسوله. روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينما أيوب يغتسل عريانا خرّ عليه جواد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال بلى يا رب ولكن لا غنى عن بركتك. هذا واختلف في معنى (وآتيناه أهله) إلخ، فقيل إن الله تعالى أحيى له أهله وأولاده بأعيانهم وزاده مثلهم، وقيل إنه آتاه أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة، وقيل إن الله آتاه مثل أهله وماله وولده وأنعامه وبيوته ومثلها ثانيا والله أعلم. والآية تحتمل المعنيين والله قادر على كل شيء. قال تعالى «وَإِسْماعِيلَ» بن إبراهيم الذي استسلم لربه وانقاد لأمر أبيه ليذبحه تنفيذا لإرادة الله، راجع قصته في الآية ١١٧ من الصافات المارة. أما قصة وضعه في مكة وأمه فستأتي في الآية ١٢٣ من سورة البقرة في ج ٣، إن شاء الله «وَإِدْرِيسَ» ابن أخوخ، وقد مرت قصته في الآية ٥٧ من سورة مريم في ج، وفيها كيفية رفعه إلى السماء «وَذَا الْكِفْلِ» الحظ والنصيب واسمه الياس وهو أحد الأنبياء الخمس الذين تسموا باسمين بالقرآن العظيم، هذا وإسرائيل ويعقوب، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد، عليهم الصلاة والسلام، وهو ابن ياسين بن فنحاص ابن العيران بن هرون أخي موسى بن عمران عليهم الصلاة والسلام، راجع الآية ١٤٣ من سورة البقرة ج ٣ بشأن ذى الكفل والآيات من ١٢٤ إلى ١٣٢ من سورة الصافات المارة. قالوا إنه لما كبر اليسع قال إني استخلف رجلا على الناس ليعمل عليهم في حياتي على أن يصوم النهار ويقوم الليل ويقضي ولا يغضب، فقال إلياس أنا فرده أولا، ثم قال مثلها في اليوم الثاني فلم يتعهد بهذه الشروط غيره، فاستخلفه ووفى بعهده ولقبه بذي الكفل لأنه وفى ما تكفل به. وما قيل ليس بنبي ينفيه قوله تعالى «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» ٨٥ على ما ابتليناهم به راجع قصته مفصلة في الآيات المذكورة أعلاه من سورة الصافات المارة «وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا
327
إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ»
٨٦ أي إسماعيل وإدريس وذا الكفل. وقد ذكر الله تعالى هؤلاء الأنبياء الممتحنين بأنواع البلاء بسياق قصة أيوب عليهم الصلاة والسلام لأنهم صبروا على ما امتحنوا به كما ذكر في قصصهم. قال تعالى «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» من قومه لأجل ربه واسمه يونس واسم الحوت الذي ابتلعه نون فسمي ذا النون وصاحب الحوت «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» بفتح أول نقدر وتخفيفه وقرىء بضم أوله وتشديده من التقدير وعلى الأول من القدر وهو التضييق وهي القراءة المشهورة أي ظن أنا لا نضيق عليه بلزوم الإقامة مع قومه، ولذلك تركهم وذهب، راجع قصته في الآية ١٢٣ من الصافات المارة أيضا، «فَنادى فِي الظُّلُماتِ» ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت «أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» ٨٧ بمفارقتي قومي دون أمرك، فلا تؤاخذني يا رب على ما وقع مني، ولم يقل نجني أو خلّصني أو غير ذلك لما مر آنفا من أن الأنبياء يفوضون أمرهم لربهم «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» لأن قوله هذا تعريض لدعائنا وتنويه بالالتجاء إلينا «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ» الذي لحقه في بطن الحوت «وَكَذلِكَ» مثل هذه الإجابة «نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» ٨٨ بنا مما يهمهم، ولا يوجد في هذه الآية بما يتمسك به من قال بوقوع الذنب من الأنبياء بعد رسالتهم، لأنه عليه السلام لم يذهب مغاضبا من ربه كما قاله بعضهم، حاشاه، وإنما ذهب مغاضبا من قومه لأجل ربه، وإن ظنّه بعدم التضييق عليه لوثوقه بربه، ولأنه لم يظن أنه أذنب معه بترك قومه، بل كان يظن أنه مخير بين الإقامة معهم والخروج من بينهم عند عدم قبولهم دعوته، لذلك فإن فعله هذا لا يستوجب الذنب لو كان من سائر البشر، أو أن ظنه أن الله لم يقدر عليه شيئا، وهذا على القراءة بالتشديد أي لن نقدر عليه عقوبته، لتركه قومه، والمعنيان متقاربان، إلا أن القراءة بالتخفيف وتفسيرها على ما ذكرنا تبعا لغيرنا أولى وأنسب بالمقام، لأن نقدر بمعنى نضيق شائع، ومثله في القرآن كثير، قال تعالى (اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) الآية ٤٣ من سورة الروم الآتية، وجاء في الآية ٧ من سورة الطارق في ج ٣ (ومن قدر عليه رزقه) وفي الآية ١١
328
من سورة الفجر في ج
(فقدر عليه رزقه) وغيرها كثير وكلها بمعنى التضييق، وعليه فلم يبق حجة لمن يقول إن نقدر لا تأتي إلا بمعنى القدرة، لأنا إذا جرينا على هذا المعنى فلا يجوز نسبته إلى آحاد الناس، فكيف إلى نبي الله؟ وقد تردد في هذه معاوية بن أبي سفيان فسأل عنها ابن عباس رضي الله عنهما فقال له إنها من القدر لا من القدرة. وفيها قراءات أخرى ومعان بنسبتها ضربنا عنها صفحا لأنا ذكرنا أصح ما فيها، والله أعلم. أما ما حكى عنه بقوله (إني كنت من الظالمين) يريد نفسه لعدم انتظاره أمر ربه قومه وفي أمر بقائه أو خروجه عنهم لا لشيء آخر، على أن ابن عباس قال إن هذه الحادثة كانت قبل النبوة والرسالة مستدلا بقوله تعالى بعد ذكر خروجه من بطن الحوت (وأرسلنا إلى مائة ألف أو يزيدون) الآية ١٤٥ من الصافات المارة، مما يدل على أنه قبل النبوة والرسالة وصححه الخازن. ومن قال إنه بعد النبوة وهو ما ذهبت إليه في تفسيري هذا استدل بقوله تعالى (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)
الآيتين ١٣٩/ ١٤٠ من الصافات أيضا، فالجواب عنه ما تقدم، إذ تفيد هذه الآية صراحة أنه مرسل إليهم قبل هروبه بالفلك، والاستدلال بها أقوى من الاستدلال بتلك، لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، تأمل. قوله تعالى «وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ» قائلا في ندائه «رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً» بلا ولد يرثني «وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ» ٨٩ لي إن لم ترزقني وارثا، وإن رزقني فأنت خير الوارثين له، لأنك ترت الأرض ومن عليها والسماء وما فيها، وأنت الذي لا وارث في الحقيقة غيرك لمن تحت الأرض وما عليها، ومن في السماء وما فوقها «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» بأن جعلناها صالحة للحمل والولادة بعد أن كانت عجوزا عقيما، فولدته كأنها حدثة «إِنَّهُمْ كانُوا» أولئك الأنبياء «يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» إلى مخلوقاتنا طلبا لخيرنا «وَيَدْعُونَنا رَغَباً» بنا ورهبا «وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» ٩٠ مخبتين لعظمتنا، خاضعين لهيبتا، فعلى العاقل أن يستديم الخوف حالة الصحة، والرجاء حالة المرض، إذ يقول صلّى الله عليه وسلم لرجل دخل عليه وهو في حالة النزع: كيف تجدك؟ قال أخاف
329
ذنوبي وأرجو رحمة ربي، فقال صلّى الله عليه وسلم ما اجتمعا في عبد في هذا الموطن إلا أعطاه ما رجا وآمنه مما يخاف. ومعنى الآية رغبا بذات الله ورجاء عفوه، وطمعا برحمته وخوفا من عذابه، ولهذا يقول الله تعالى لتحليهم بتلك الصفات الأربع العظيمة:
نجيناهم من السوء وأجبنا دعاءهم ونصرناهم على أعدائهم. واذكر يا سيد الرسل لقومك أيضا بسياق ذكر هؤلاء الصالحين من الرجال المرأة الطاهرة الكاملة الصالحة البتول، وهو معنى
«وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها» من التزوج بالحلال السيدة مريم بنت عمران «فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا» المراد من الروح هنا معناه المعروف والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف، ونفخ الروح عبارة عن الإحياء لعيسى عليه السلام الذي قدر الله تكوينه في بطنها، وليس هناك نفخ حقيقة، ولهذا صح أن يقال نفخنا فيها، لأن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه، فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها أي مريم، كما قاله بعض المفسرين، وليس هذا بمراد، وهو كما يقول الزّمار نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته، وقدمنا القصة ومعنى النفخ في الآية ٢٤ من سورة مريم في ج ١، وأوضحنا هناك معنى الروح أيضا فراجعه، ولبحثه صلة في الآية الأخيرة من سورة التحريم في ج ٣ فراجعه، «وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ» ٩١ على كمال قدرتنا إذ خلفناه من غير أب، ولم يقل آيتين كما في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) الآية ١٢ من سورة الإسراء في ج ١، لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل، أي وجعلنا شأنها وأمرها آية. أخبر الله تعالى في هذه الآيات وأمثالها من القرآن العظيم وهو أصدق المخبرين بأن مريم عليها السلام محصنة من الحلال، والتي تحصن نفسها من الحلال لا يتصور أن لا تحصنه من الحرام، قاتل الله اللئام الذين يفترون عليها ويبهتونها، تنزهت وتبرأت عما يقول الظالمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون «إِنَّ هذِهِ» ملة الإسلام وأمة الإيمان «أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» وملة واحدة وهي ملة جميع الأنبياء ودينهم، لا دين غيره اختاره الله لكم أيها الناس لتمسكوا به وتعبدوا الله وحده وهي التي أدعوكم إليها لتعضوا عليها بالنواجذ، لأن جميع الكتب نازلة في شأنها، والأنبياء كلهم مبعوثون للدعوة
330
إليها ومتفقون عليها. قال تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الآية الأخيرة من سورة الحج في ج ٣ «وَأَنَا رَبُّكُمْ» واحد لا إله غيري «فَاعْبُدُونِ» ٩٢ وحدي لا تشركوا بي أحدا ولا شيئا، وهذا الخطاب للناس كافة لا يختص به واحد دون آخر. قال تعالى «وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» أي البعداء عن الحق الذين لم يجيبوا الدعوة جعلوا الدين الواحد قطعا ووزعوه بينهم كما يتوزع الجماعة الشيء الواحد، فاختلفوا فيه وصاروا أحزابا. وسياق الكلام يفهم على أن المعنى وتقطعتم، إلا أن الالتفات من الخطاب إلى الغيبة أوجب ذلك، وفي تخصيص لفظ الرب ترجيح جانب الرحمة بهم وإيذان بأنه يدعوهم إلى عبادته بلسان الترغيب والبسط، لأنه رب كل مربوب، وهو المقيض على عباده جوده ولطفه. ثم انه توعدهم على ذلك التفريق الذي ابتدعوه بقوله «كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» ٩٣ لا يفلت منهم أحد ولا مرجع له غيري، وإذ ذاك أجازي كلّا بما يستحقه «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ» في دنياه «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» قيد العمل بالإيمان، لأن الكافر لا ينفعه عمله الطيب في الآخرة لمكافأته عليه في الدنيا «فَلا كُفْرانَ» حرمان وبطلان ولا جحود «لِسَعْيِهِ» الذي سعاه في الدنيا كيف «وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ» ٩٤ فلا يضيع له شيئا من عمله الحسن ولو مثقال ذرة بل نعطيه أضعافها من أحسن ما يستحقه طبقا لقوله تعالى (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الآية ٩٧ من سورة النحل المارة «وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ» ممتنع على أهل قرية «أَهْلَكْناها» بحسب واقتضاء حكمنا وقضائنا الأزلي لغاية طغيانهم ونهاية بغيهم وتجبرهم «أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» ٩٥ من الكفر إلى الإيمان البتة.
والجملة في تأويل مصدر خبر وحرام أي رجوعهم إلينا وتوبتهم حرام. ولا هنا مثلها في قوله تعالى (أَلَّا تَسْجُدَ) الآية ١٢ من سورة الأعراف في ج ١، وهذا على قراءة فتح همزة أنهم وهو الأفصح، وعلى كسرها يكون معناها التعليل، والمعنيان متقاربان. وقيل إن حراما بمعنى واجب، وعليه قول الخنساء:
وان حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوة إلا بكيت على صخر
وقد مشى بعض المفسرين في قوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)
331
الآية ١٥١ من سورة الأنعام المارة، أي ما أوجب، لأن ترك الشرك واجب، وعلى هذا قال الحسن ومجاهد لا يرجعون أي لا يتوبون عن الشرك، وقال قتادة ومقاتل لا يرجعون إلى الدنيا، وقال غيرهم لا يرجعون إلى الجزاء، إلا أنه على هذا المعنى الأخير يكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد، وأنه يجرى على ذلك يوم القيامة، وفيه ما فيه، والأول أولى، والله أعلم، فليحرر. قال تعالى «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» أي سدهما المشار إليه في الآية ٩٩ من سورة الكهف المارة «وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» ٩٦ سراعا والحدب كل ما ارتفع ونشر في الأرض روى مسلم عن حذيفة بن أسيد العفاري قال: اطلع النبي صلّى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، قال ما تذكرون؟ قالوا تذكر الساعة، قال إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاث خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. وفي رواية ودابة الأرض، فتكون مع ذكرها عشرا. قال تعالى «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ» لقيام الساعة «فَإِذا» الفاء للمفاجأة واقعة في جواب إذا «هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا» فلا تكاد تطرف من هول ما ترى في ذلك اليوم، يقولون بلسان واحد «يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا» اليوم لم نقدره في الدنيا على هذه الحالة الفظيعة، ثم انتقلوا عن هذا القول فقالوا «بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» ٩٧ أنفسنا لعدم اصغائنا إلى الذين خوفونا منه ولم نطع الرسل برفض الكفر وإلزام التوحيد، ثم يقال لهم «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ» وقود «جَهَنَّمَ» وأصل الحصب الرمي والوقود يرمى بالنار رميا بل يقذف قذفا في جهنم إهانة لهم، ولهذا عبر عنه بالحصب «أَنْتُمْ لَها» أيها الكفرة «وارِدُونَ» ٩٨ ورود دخول، راجع الآية ٩٨ من سورة هود المارة «لَوْ كانَ هؤُلاءِ» الأوثان كما زعم عابدوها «آلِهَةً» تعبد وتشفع لهم مما حل بهم «ما وَرَدُوها» الآن ولما دخلوا فيها وعذبوا في جهنم بسبب عبادتها،
332
ولمّا كانت ليست بآلهة ولا تستحق العبادة يقول الله تعالى «وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ» ٩٩ العابدون والمعبودون «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ» هو خروج النفس بشدة حتى يظهر له صوت عال من ألم العذاب «وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ» ١٠٠ شيئا مما يقال لهم لانشغالهم بأنفسهم.
مطلب إخساء عبد الله بن الزبعرى وجماعته، ومن كان كافرا في أصل الخلقة:
ولما نزلت هذه الآيات الثلاث دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسجد وصناديد قريش في الخطيم، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فعرض له النفر من قريش منهم النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه هذه الآيات الثلاث، وقام فأقبل عبد الله الزبعرى السهمي، فأخبره الوليد بن المغيرة بما قاله حضرة الرسول، فقال ابن الزبعرى أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله فقال له ابن الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون الآيات؟ قال نعم، قال أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة، أهؤلاء في النار؟
قالوا فضحكت قريش وارتفعت أصواتهم وفرحوا على زعمهم أنه حجّ محمدا، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين، قال تعالى في حق عيسى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية ١١٧ من المائدة في ج ٣، وقال بحق الملائكة (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) الآية ٤١ من سورة سبأ المارة، وقال تعالى في حق عزير (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الآية ٢٥٩ من البقرة في ج ٣، بعد أن ضرب الله به المثل، ثم التفت صلّى الله عليه وسلم إلى ابن الزبعرى وقال بل هم يعبدون الشيطان لا هؤلاء، ثم قال له ما أجهلك بلغة قومك، وذلك أن ما وضعت لما لا يعقل، فيكون ما ذكر غير داخل في الآية، لأنها لم تأت بلفظ من الموضوعة لمن يعقل ليصح الاحتجاج بها، لأنها جاءت لحمل الآية على حقيقتها ورفع احتمال المجاز لا لتخصيص العام المتأخر عن الخطاب كما قاله بعض المفسرين، وبما أن ما صريحة هنا بأنها لغير العقلاء فلم يتجه خلط ابن الزبعرى، وهذا بعد أن قال له ذلك حضرة الرسول نكس رأسه، وخسىء هو ومن معه، وتفقئوا خجلا وحياء بعضهم من بعض،
ثم أنزل الله بعدها «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى» كعيسى وعزير
333
وإخوانهم من الأنبياء والملائكة وأصنافهم وكل صالح محسن مطيع من المؤمنين ممن سبقت لهم السعادة «أُولئِكَ» الأفاضل الأكارم «عَنْها» أي جهنم «مُبْعَدُونَ» ١٩١ لا يردونها ورود دخول أبدا. وهذه الآية عامة يدخل فيها كل من قدر الله له دخول الجنة وهؤلاء المحسنون «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» صوت لهيبها «وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ» من نعيم الجنة وكرامة ربهم «خالِدُونَ» ١٠٢ في جنة ربهم المقدرة لهم «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» في هول الموقف ودخول النار «وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» على أبواب الجنة يحيونهم ويقولون لهم «هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» ١٠٣ في الدنيا، وما قيل إنه بعد ذلك ذهب أبو جهل وجماعة من قريش إلى أبي طالب وكلفوه منع ابن أخيه من التعرض لآلنهتهم على الصورة المارة في الآية ١٠٧ من سورة الأنعام المارة، وعلى الصورة التي ذكرناها في الآية ٢٦ من السورة نفسها لا يصح، لأن أبا طالب توفي قبل هاتين الحادثتين بكثير كما أشرنا إليه في الآيتين المذكورتين، وأن هذه متأخرة عن وفاة أبي طالب، لذلك فإنه قيل لا قائل له، واذكر لقومك يا سيد الرسل «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» مثل طي الصحف والطي ضد النشر وهو تكويرها ولفها ومحو رسومها بعد أن كانت مبسوطة منشورة بحيث لا يبقى لها اسم ولا رسم، لأن طي الشيء كناية عن نسيانه وإعدامه وعدم تذكره بالمرة. وقال بعض المفسرين إن السجل اسم ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان دفع كتابه إليه فطواه ورفعه، والأول أولى، لأن السجل هو مجموع الصحائف التي تسجل فيها الأعمال، ومنه أخذ أهل الدنيا تسميتهم ما يدون به وقائع الأحوال الدنيوية سجلا في المحاكم وغيرها «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» بعد الموت مثل ما خلقناه أولا على هيئته، وقد وعدنا الرسل بذلك «وَعْداً» حقا ثابتا لا يبدل ولا يغير وهو لازم «عَلَيْنا» بأن من خلقناه في الأزل كافرا نعيده بعد الموت كافرا، ومن خلقناه مؤمنا نعيده يوم الحشر مؤمنا، وهذا واجب علينا إنجازه على طريق الوفاء بالوعد «إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» ١٠٤ لما نعد به لا نخلفه البتة، وهذه الآية والآية ٣٠ من سورة الأعراف في ج ١ تؤيدان ما مشينا
334
عليه من تفسيرهما بأن الذي خلق يوم خلق الذر كافرا يموت كافرا ويحشر كافرا ولو عمل ما عمل من الخير كإبليس، والذي خلق مؤمنا يموت ويحشر مؤمنا، ولو فعل ما فعل من الشر، كسحرة فرعون، والحديث الصحيح الذي ذكرناه في الآية ٨٤ من سورة الإسراء في ج ١، يؤيد هذا بزيادة فيما يبدو للناس، كما هو في صحيح البخاري، وعليه فلا عبرة فيما يقع للعبد في متوسط عمره من أفعال الخير والشر، وإنما العبرة بالخاتمة نسأل الله حسنها. قال تعالى «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ» المنزل على داود عليه السلام «مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ» أي التوراة لنزوله بعدها، وقيل الذكر اللوح أو أم الكتاب أو غير ذلك، والأول أولى «أَنَّ الْأَرْضَ» أل فيها للعهد والمعهود من أرض الدنيا الأرض المقدسة «يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ١٠٥ لعمارتها وحفظها بإعلاء شأن دين الله وإقامة العدل بين الناس، قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية ٥٦ من سورة النور في ج ٣، وهناك أقوال أخر بأن المراد بالصالحين الصالحون بعمارتها الدنيوية، وعليه فيراد بالأرض الأرض كلها قال تعالى (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الآية ١٢٧ من سورة الأعراف في ج ١ ولفظ العباد لا يختص بالمؤمنين وأقوال أخر بأنها أرض الجنة، قال تعالى (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) الآية ٧٤ من سورة الزمر المارة وأولاها أوسطها والله أعلم، وقد جاء في الزبور الموجود الآن عند النصارى وغيرهم في المزمور ٣٧ والآية ٢ ما نصه: اسكن الأرض وارع الأمانة. وفي الآية ١١ أما الورعاء فيرثون الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة. وفي الآية ٢٤ لأن المباركين يرثون الأرض، والملعونين يقطعون. وفي الآية ٢٧ صدّ عن الشر وافعل الخير واسكن إلى الأبد. وفي الآية ٢٩ الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد. وفي الآية ٣٤ انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض إلى انقراض الأشرار.
هذا أيها الناس كتابنا ينطق بالحق عما في كتب الأنبياء السالفين، مصدقا لما جاء فيه كما أخبرنا الله على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فاعتبروا رحمكم الله في هذه العبرة العظيمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد «إِنَّ
335
فِي هذا»
المتلو عليكم أيها الناس، «لَبَلاغاً» اخطارا كافيا وانذارا شافيا ووعظا وافيا، «لِقَوْمٍ عابِدِينَ» ١٠٦ الله وحده مخلصين له العمل الموصل إلى البغية والمؤدي إلى المطلوب ولا بعد هذا البلاغ والبلاغ المار ذكره آخر سورة إبراهيم المارة بلاغ لمن يعتبر ويتذكر «وَما أَرْسَلْناكَ» يا خاتم الرسل «إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» ١٠٧ اجمع، لأن هذه الآية عامة لمن آمن به واتبعه ومن لم يؤمن به لأنه أتى من عند نفسه فضيّع نصيبه من هذه الرحمة، وإنما كان إرساله صلّى الله عليه وسلم رحمة لأنه حينما بعث كان الناس في كفر وجهالة، وكان أهل الكتاب في حيرة لما وقع من الاختلاف بينهم في أمر دينهم وكتبهم، ولم يكن لطالب الحق من سبيل، فدعاهم صلّى الله عليه وسلم كلهم إلى الهدى وبين لهم طريق الصواب وشرع لهم الأحكام، ووضح لهم الحلال من الحرام، وأظهر حقائق ما اختلفوا فيه، ورفع الله عن العباد المسخ والخسف وعذاب الاستئصال الذي كان يقع على الأمم السابقة، ببركته صلّى الله عليه وسلم القائل إنما بعثت رحمة مهداة، ففاز من فاز برشده، وخسر من خاب بغيّه، لأنه صلّى الله عليه وسلم مرسل إلى الخلق كافة إنهم وجنّهم وملائكتهم، بنص هذه الآية والآية ٢٨ من سورة سبأ المارة والآية ١٥٨ من سورة الأعراف في ج ١، لدخولهم في عموم لفظيّ الناس والعالمين وهو كذلك أما كونه رحمة للأنس والجن فظاهرا لأنه هداهم إلى الحق وأنفذهم من الكفر وشرفهم بالإيمان وسبب لهم دخول الجنان، وأما الملائكة فرحمة لهم لأنهم وقفوا بواسطته على علوم جمة وأسرار عظيمة مما أودع الله في كتابه الذي فيه ما كان وسيكون عبارة وإشارة، وأي سعادة أفضل من التحلي بمزية العلم وقد أظهر من فضلهم على لسانه الشريف ما أظهره وأمنهم مما ابتلى به هاروت وماروت، وأيد هذا صاحب الشفاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إلى السيد جبريل عليه السلام هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال نعم، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى علي في القرآن. وقال ابن القيم في كتابه مفتاح السعادة لولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معشية ولا قوام لمملكة، ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض، وكل خير في العالم من آثار النبوة، وكل شر وقع في العالم أو سيقع بسبب
336
إخفاء آثار النبوة ودرسها، فالعالم جسد روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه. ولهذا فإذا انكسفت شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من آثارها انشقت سماؤه وانتثرت كواكبه وكورت شمسه وخسف قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها، فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة، وإذا سلم هذا علم منه بواسطة كونه صلّى الله عليه وسلم أكمل النبيين، وما جاء به أجمل مما جاءوا به عليهم السلام وإن لم يكن في الأصول اختلاف. ووجه كونه صلّى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين أجمع أسودهم وأحمرهم عربهم وعجمهم هو أنه أكرمهم على الله، وأحبهم إليه، وأنفعهم لعباده وأتقاهم، وأرضاهم إليه، وأسخاهم فيما لديه، وأوفرهم نصيبا عنده وأكثرهم مروءة بخلقه وغيرة على دينه وكونه خاتم الرسل. وما قبل إن العالمين خاص بالمؤمنين غير وجيه لعدم وجود ما يخصصه بهم، بل إنه عام مطلق، وقد بعث صلّى الله عليه وسلم رحمة لكل فرد من أفراده إنسهم وجنهم وملائكهم، إلا أن الرحمة متفاوتة فتكون لكل بحسبه بمقتضى أعماله، كما أن العذاب والعقاب يكون كذلك. هذا وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله أدع على المشركين، قال إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة. قال تعالى «قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» إنما أداة حصر، والحصر قصر الحكم على شيء، أو قصر
الشيء على حكم، وعليه يكون المعنى أن الإله إله واحد لا غير البتة، وهو الذي أوحى إلي ما تلوته عليكم «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ١٠٨ منقادون إلى توحيد الله.
وهذا استفهام بمعنى الأمر، مثله في قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) الآية ٩١ من المائدة في ج ٣ أي هلا تنتهون عن شرب الخمر واللعب بالميسر وكل ما نهى الله عنه؟
والمعنى هنا هلا أسلمتم بعد ما أوضحنا إليكم الدلائل، فأسلموا تسلموا خير لكم، ولهذا يقول الله «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا محمد ولم يذعنوا لك «فَقُلْ آذَنْتُكُمْ» أعلمتكم وأنذرتكم أيها الناس ما أمرني به ربي. وكلمة آذن تتضمن الإنذار والتحذير من الحرب، ولا سيما قد تقدمه الإنذاران المشار إليهما آنفا، وهذه كلها من مقدمات الهجرة التي آن أوانها والتي ستكون سببا للحروب معهم وغيرهم كما يدل عليه قوله تعالى «عَلى سَواءٍ» أي لم أخص أحدا منكم بذلك الإعلام المسبوق
337
بالإنذارين، وإنما أعمكم جميعا لأنكم في المعاداة سواء. على وجه نستوي فيه نحن وأنتم بالإعلام والإخطار، وهذه طريقة الأنبياء قبلي إذ كانوا يخوفونهم وينذرونهم عذاب الله، لا يخصون بإنذارهم أحدا، وهانذا أنصحكم فتأهبوا لما يراد بكم «وَإِنْ أَدْرِي» وما أعلم يا قوم «أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ» ١٠٩ به من العذاب الذي تجازون به على أعمالكم القبيحة، لأن الله لم يطلعني عليه ولا على وقت وقوعه، فأنا وأنتم بعدم العلم به سواء، ولكنه كائن لا محالة «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ» ١١٠ لا يعزب عنه شيء فكل ما تكنّونه لي من الحقد والإحن وما تطعنون بي وبديني معلوم عند الله، ولا بد أن ينتقم لي منكم إن لم تتوبوا وترجعوا عن غيكم في الدنيا أو في الآخرة، وإني لأرجو أن ينتقم منكم فيهما إن بقيتم مصرين
«وَإِنْ أَدْرِي» وما أدري «لَعَلَّهُ» أي تأخير العذاب عنكم «فِتْنَةٌ لَكُمْ» امتحان واختبار يختبركم به الله لتعلموا أنتم وليعلم بعضكم بعضا أن الحجة عليكم، وإلا فإن الله تعالى عالم بما هو واقع منكم قبل وقوعه، وما أدري هل هذا الإمهال استدراج تغترون به «وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» ١١١ معلوم عنده تتمتعون به أياما قليلة، ثم يريكم سوء صنيعكم قبيح عملكم وخبث فعلكم «قالَ» وقرىء قل يا أكمل الرسل «رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ» بيني وبينهم والله تعالى يحكم بالحق بين جميع خلقه على السواء، ومعنى هذا الطلب ظهور الرغبة من الطالب وإعلام المطلوب أنه لا يريد غير الحق من ربه، لتطمئن نفسه بأن إلهه لا يحب إلا طلب الحق، ولكن طلب الرسول هذا يفيد الاستعجال، بنزول العذاب بقومه لما رأى من تضاعف عنادهم وتكاثر عتوهم وتوالي أذيتهم له ولقومه وتطاولهم على دينه وكنابه وإن الله تعالى قد أقر عينه فيهم، إذ عذبهم في واقعة بدر، وقهرهم في فتح مكة في الدنيا، ولعذاب الآخرة المخبوء لهم أشد وأدهى، كما أنه أقر عينه بمن آمن منهم، لأن إيمانهم أحب إليه من كل شيء «وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ» به «عَلى ما تَصِفُونَ» ١١٢ به حضرته المقدسة من الشرك وتصمونه من التكذيب وتوقعونه بنبيه وأصحابه من الأذى والإهانة ولا عون لرسوله عليكم غيره، أضاف صلّى الله عليه وسلم لفظ الرب لنفسه وحده، لأنه في معرض الدعاء
Icon