تفسير سورة الأنبياء

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

سورة الأنبياء
في السورة حملات شديدة على الكفار وزعمائهم بسبب عنادهم واستخفافهم بالنبي ودعوته وحكاية لأقوالهم وتحدياتهم ومؤامراتهم، وردود قوية في البرهنة على وحدة الله وتنزهه عن الولد والشريك وطبيعة إرسال الرسل من البشر، وثناء على الملائكة وتقرير عبوديتهم لله ولفت نظر إلى مشاهد قدرة الله في السموات والأرض للتدليل على وحدة الله واستحقاقه وحده للعبادة وقدرته على تحقيق وعده الحق. وفيها سلسلة تتضمن ذكر بعض الأنبياء ورسالاتهم وثناء على إخلاصهم وعناية الله بهم في معرض التذكير والتثبيت والتطمين والبشرى، وبيان مصائر الكفار والصالحين في الآخرة وتقرير لمهمة الرسالة وأهدافها.
وفصول السورة مترابطة مما يسوغ القول إنها نزلت متتابعة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)
. (١) اقترب: صيغة الماضي تنطوي على التوكيد بالوقوع.
253
(٢) ذكر: بمعنى الآيات القرآنية.
(٣) محدث: جديد.
(٤) أسرّوا النجوى: كناية عن اجتماعاتهم الخفية في صدد التآمر على تكذيب النبي.
(٥) الذين ظلموا: جملة معترضة بسبيل التنديد بالمشركين.
(٦) إن هذا إلّا بشر مثلكم: هذا كلام الزعماء- الذين ظلموا- للناس عن النبي.
في الآيات:
١- تنديد بالناس وتعجّب من موقفهم- والمعنى مصروف إلى الكفار- فبينما موعد وقوفهم أمام الله ومحاسبتهم يقترب ووقوعه أمر لا يتحمل الريب يظلون معرضين عن دعوة الله مرتكسين في غفلتهم وكلما تلا عليهم النبي ﷺ آيات جديدة من القرآن استمعوها بقلوب لاهية وبالاستخفاف والسخرية.
٢- وحكاية لما كانوا يفعلونه ويقولونه: حيث كانوا يعقدون الاجتماعات السرية للتآمر على النبي ﷺ ودعوته. ويقول بعضهم لبعض أو زعماؤهم لعوامهم إنه ليس إلّا بشرا مثلكم ومظهره مظهر الساحر والسحر فكيف يصحّ تصديقه والانخداع به والاستماع إليه من ذوي عقل وبصيرة. وكانوا يقولون أيضا إنه يخترع ما يقول وينسبه إلى الله افتراء أو إن ما يقوله من تخاليط الأحلام أو إنه شاعر.
وكانوا يحاولون التأثير في السامعين ليتحدوا النبي ﷺ بإحداث المعجزات كما حدثت على أيدي الرسل السابقين إن كان صادقا في دعواه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال: «كنّا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ بعض القرآن فجاء عبد الله بن أبيّ بن سلول ومعه نمرقة وزريبة فوضع واتكأ وكان صبيحا فصيحا جدلا فقال يا أبا بكر قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون. جاء موسى بالألواح وجاء داود بالزبور. وجاء صالح بالناقة. وجاء عيسى بالمائدة
254
والإنجيل فبكى أبو بكر فخرج رسول الله ﷺ فقال أبو بكر قوموا بنا إلى رسول الله نستغيث به من هذا المنافق فقال رسول الله ﷺ إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل.
فقلنا يا رسول الله إنا لقينا من هذا المنافق. فقال إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك وفضيلته التي فضلت بها فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود وأمرني أن أنذر الجنّ وأتاني كتاب وأنا أمّي وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر.
وذكر اسمي في الأذان وأمدني بالملائكة. وأتاني النصر وجعل الرعب أمامي.
وأتاني الكوثر. وجعل حوضي من أكثر الحياض يوم القيامة ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعو رؤوسهم. وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي بغير حساب وأتاني السلطان والملك وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم. فليس فوقي أحد إلّا الملائكة الذين يحملون العرش. وأحلّ لي ولأمتي الغنائم ولم تحلّ لأحد كان قبلنا».
وعقب ابن كثير على الحديث فقال إنه غريب جدا. ومعظم ما جاء في الحديث قد ورد في أحاديث صحيحة أخرى كما ورد إلى بعض ما جاء فيه إشارات عديدة في القرآن. وحين يصف علماء الحديث حديثا بالغرابة فإنهم يعنون في الغالب غرابة طرق روايته ورواته.
ومهما يكن من أمر فليس في الحديث ما يفيد أن الآية نزلت لتحكي قول المنافق. فالصورة فيه مدنية ولا خلاف في مكية الآية. وليس هناك روايات أخرى فيما اطلعنا عليه في مناسبة الآيات التي احتوت صورا من المواقف العنيدة التي كان يقفها الكفار وبخاصة زعماؤهم والأقوال التي كانوا يقولونها في معرض مناوأة النبي وتحديه كلما تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله. وقد احتوت تنديدا وإنذارا والمتبادر أنها جاءت مقدمة للسياق الذي جاء بعدها والذي احتوى حكاية أقوال ومواقف أخرى لهم وتنديدا بهم وإنذارا لهم عليها.
ولقد تكررت حكاية هذه الصور والأقوال مما يدل على أنها كانت تتكرر بتكرر المناسبات والمواقف. حيث كانت هذه تتكرر نتيجة لاستمرار النبي في دعوته ورسالته.
255
ولقد أوردنا تعليقات متنوعة عليها في المناسبات السابقة فلا نرى ضرورة للإعادة.
والمتبادر أن الآية الثالثة هي حكاية لما كان يقوله النبي أو يؤمر بقوله حينما كانوا ينسبون إليه الافتراء حيث كان يشهد الله على صدق ما يبلغ وهو السميع العليم الذي يعلم كل ما يقال ويجري في السماء والأرض، وهذا مما تكرر أيضا في الفصول المماثلة السابقة.
ولقد قرأ بعضهم فعل قال بصيغة الأمر والراجح أن اختلاف القراءة ناتج عن طريقة الإملاء القديمة حيث كانت تحذف ألف المد. على أن في أوائل سورة الفرقان آية مماثلة لهذه الآية. والفعل فيها بصيغة الأمر بمعنى أن الله أمر النبي بأن يقول ما في الآية ردا على الكفار وقد تطمئن النفس أكثر بكون الصيغة هنا صيغة أمر.
وجملة ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ قد جاءت بصيغة قريبة في سورة الشعراء وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦ الى ١٠]
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
. (١) أهل الذكر: كناية عن أهل الكتب السماوية.
(٢) المسرفين: هنا بمعنى المتجاوزين حدود الله ببغيهم وانحرافهم.
(٣) ذكركم: قيل إنها بمعنى تذكيركم وعظتكم. وقيل إنها بمعنى شرفكم
256
ورفعة شأنكم والقول الأول أكثر اتفاقا مع السياق.
صلة الآيات بسابقاتها واضحة وقد احتوت ردودا على أقوال الكفار المحكية في الآيات السابقة وتبكيتا وانطوى فيها تطمين للنبي ﷺ والمؤمنين كما يلي:
١- إن الذين أهلكهم الله من قبلهم لم يؤمنوا بالآيات التي طلبوها فهل يؤمن هؤلاء وهم مثلهم في الكفر والعناد.
٢- إن الرسل الذين أرسلهم الله قبل النبي هم بشر مثله اختصهم بوحيه. ولم يجعل الله أحدا منهم متصفا بصفة خارقة لصفات البشر فيعيش بدون طعام أو يبقى خالدا لا يموت. وعلى الذين يمارون في ذلك أن يسألوا أهل الكتب السماوية.
٣- ولقد حقق الله وعده لرسله الأولين فأهلك الظالمين المسرفين في العناد والآثام ونجّى رسله ومن وفقه الله فاهتدوا بهديهم.
٤- ولقد أنزل الله إليهم كتابا فيه من المواعظ البالغة والحجج الدامغة والبيان الواضح ما فيه هدايتهم وتذكيرهم وتبصيرهم. فهل فقدوا عقولهم حتى لم يعودوا يفهمون ويتبينون الحق والحقيقة.
وما احتوته الآيات قد جاء في آيات سابقة نزلت في مواقف مماثلة.
ولقد علقنا على الردود في المناسبات السابقة بما يغني عن تعليق جديد إلّا القول إن فيما ظلّ يتكرر حكايته من مواقف الكفار وتحدياتهم يدل على ما كان من شدّة عنادهم. وإن النبي ﷺ ظلّ يقوم بمهمته ويتلو آيات القرآن ويقذف بما احتواه من ردود قوية عنيفة في وجوههم دون مبالاة بقوتهم ومواقفهم حتى صدق الله وعده له وتمّ انتصار دينه على يده.
وقد يكون في الآية الأولى معنى من معاني عدم احتمال إيمان الكفار. غير أن المتبادر أنها في صدد تسجيل واقع أمرهم وشدة مناوأتهم وعنادهم عند نزول الآية. لأن معظمهم قد آمنوا وحسن إيمانهم كما هو ثابت يقينا، إلّا إذا كان المقصود منهم الزعماء الذين هلك كثير منهم دون أن يؤمنوا.
257

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١١ الى ١٥]

وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
. (١) قصمنا: حطمنا وسحقنا.
(٢) تلك دعواهم: تلك أقوالهم يكررونها.
(٣) حصيدا خامدين: مقلوعين هالكين لا نأمة ولا حركة لهم.
في الآيات:
١- تساؤل يتضمن التنبيه إلى كثرة من صبّ الله عليهم عذابه وتدميره من القرى الظالمة وأنشأ بعدهم غيرهم.
٢- وبيان لما كان من أمر الذين صبّ الله عليهم عذابه حيث حاولوا الفرار من قراهم أملا بالنجاة فحيل بينهم وقيل لهم في معرض التبكيت بل ارجعوا إلى مساكنكم وما كنتم فيه من ترف حتى ينالكم عذاب الله فلم يكن منهم إلّا أن أخذوا بالعويل والندب واعترفوا بما كان منهم من ظلم وإثم ثم حاق بهم العذاب حتى خمدت منهم الأنفاس وأصبحوا كالزرع المحصود المطروح.
والاتصال قائم بين هذه الآيات وسابقاتها كما هو واضح أيضا. وقد استهدفت إنذار السامعين أو الكفار في بيان أسلوب الله في إهلاك المسرفين الذين أشير إليهم في الآية الأخيرة السابقة.
ولقد ذكر البغوي أن الآيات نزلت في أهل حضرموت قرية باليمن بعث الله إليهم نبيا يدعوهم فكذبوه وقتلوه فسلّط عليهم الله بختنصر حتى قتلهم وسباهم فلما استمر فيهم القتل ندموا وهربوا فقالت لهم الملائكة استهزاء لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم وقد اتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف ونادى مناد في
جو السماء يا ثارات الأنبياء فلما رأوا ذلك أقروا بذنوبهم حين لم ينفعهم ذلك.
ومن المحتمل أن تكون القصة مما كان العرب يتداولونه قبل البعثة فشاءت حكمة التنزيل الإشارة إليها والتذكير بها في معرض التنديد والإنذار.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
. (١) لا يستحسرون: لا يتعبون ولا يملّون.
(٢) لا يفترون: لا ينقطعون.
في الآيات:
١- تقرير بأن الله تعالى لم يخلق السماء والأرض وما بينهما عبثا بدون غاية وحكمة ولو أراد العبث واللهو لكان له من القدرة والوسائل ما يحقق له مراده.
وإنما خلق الكون وما فيه لحكمة وغاية سامية ومن ذلك تأييد الحق على الباطل وإحباطه.
٢- وإنذار للكفار: فالويل لهم مما يصفون الله به من صفات ويلصقونه به من أولاد وشركاء مما يتنافى مع ربوبيته الشاملة وصفاته الكاملة، وهو الذي يخضع من في السموات والأرض من خلقه لحكمه ومشيئته وتصرفه والذين عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يتعبون ولا يملّون وهم يسبّحونه بالليل والنهار دون فتور وانقطاع.
والآيات بمثابة تعقيب على الآيات السابقة. والاتصال بينها وبين سابقاتها قائم، والمتبادر أن المقصود من جملة وَمَنْ عِنْدَهُ هم الملائكة. وقد استهدف
259
فيما ذكر من عبادتهم وتسبيحهم الدائم لله تنبيه الكفار وتكبيتهم على ما هو الراجح. فإذا كانوا هم يستكبرون عن عبادة الله وينأون عن دعوته فالملائكة الذين يشركونهم معه في العبادة والدعاء لا يستكبرون عن ذلك وهم دائبون عليه في الليل والنهار. وقد تكرر هذا في آيات عديدة مرّ بعضها، وفي الآيات التي تأتي بعد قليل قرينة مؤيدة لذلك.
ولقد ذكر بعض المفسرين «١» أن اللهو المذكور في الآية الثانية يعني اتخاذ الزوجة أو الولد وأن فيها ردّا على عقيدة النصارى. ومنهم من قال «٢» عزوا إلى ابن عباس إن اللهو هو المرأة والولد. وروح الآيات ومضمونها وسياقها لا تساعد على تصويب ذلك. وتسوغ القول إن اللهو هنا بمعنى العبث أو ضد الحق والحكمة وإن الآيات بسبيل تقرير كون الله لم يخلق الكون والناس عبثا ولا بد من محاسبتهم على أعمالهم. وذلك بسبيل الإنذار والموعظة والإفحام أيضا. وهذا المعنى بل والتعبير قد ورد في آيات سابقة يبرز فيها المعنى الذي ذكرناه مثل آية سورة [ص: ٢٧] وآيات سورة الدخان [٢٧- ٢٨].
ولقد روى الطبري في سياق الآيتين [١٩- ٢٠] حديثا عن قتادة جاء فيه:
«بينما كان النبيّ جالسا مع أصحابه إذ قال لهم تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء يا نبيّ الله، قال: إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وليس فيها موضع راحة إلّا وفيه ملك ساجد أو قائم». وقد أخرج هذا الحديث ابن أبي حاتم عن حكيم بن حزام على ما ذكره ابن كثير أيضا. فإذا صحّ ففيه إخبار غيبي نبوي متساوق مع صدى الآيتين. وروى ابن كثير في سياقهما أيضا عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام فقلت أرأيت قول الله تعالى عن الملائكة يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل فقال لي يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس
(١) البغوي.
(٢) الخازن والزمخشري.
260
أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس. وهذا الجواب هو من قبيل الاجتهاد. والله أعلم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
. (١) ينشرون: يخرجون الناس من قبورهم أحياء بعد الموت أو يخلقونهم بدءا. ولعل هذا أوجه لأن الكفار الذين يرجع إليهم الضمير في (اتخذوا) ينكرون البعث.
(٢) هذا ذكر من معي: هذا هو القرآن الذي يؤمن به الذين معي.
(٣) ذكر من قبلي: كناية عن الكتب السماوية التي آمن بها اليهود والنصارى.
في الآيات:
١- سؤال تنديدي منطو على التسخيف والإنكار والتحدي عن الآلهة التي يتخذها المشركون من دون الله وعن مدى قدرتها وعما إذا كان في قدرتها خلق الناس ونشرهم من الأرض بدءا أو بعد الموت.
٢- وتقرير في معرض الردّ والإفحام بأنه لو كان في السماء أو في الأرض آلهة عديدون لفسدت الأمور فيهما لما يكون بينهم من تنازع ولما يقتضيه النظام فيهما من وحدة نسق لا يمكن أن تحصل إلّا من وحدانية المدبر.
٣- وتنزيه لله ربّ العرش عما يظنه الكفار ويذهبون إليه من تعدد
261
المعبودات. فهو المتصرف في الكون كما يشاء وليس هو مسؤولا عما يفعل في حين أن خلقه مسؤولون عما يفعلون. ومن كان هذا شأنه لا يمكن أن يكون له شريك وندّ.
٤- وسؤال تنديدي آخر منطو كذلك على التحدي عن سندهم في الزعم الذي يزعمونه وهو صواب اتخاذهم آلهة من الأرض.
٥- وأمر للنبي ﷺ بطلب البرهان منهم فيما أنزل الله إليه أو إلى الأنبياء من قبله.
٦- وتقرير بحقيقة واقع الكفار فيما يدعون ويعتقدون. فهم لا يعرفون الحق ولا يعترفون به ويلقون كلامهم جزافا ولا تقوم عقائدهم على أي أساس ويعرضون عن الحقّ مكابرة وجهلا.
٧- وتقرير حاسم بأن الله لم يرسل رسولا من قبل النبي محمد ﷺ إلّا أوحى إليه أنه لا معبود ولا إله إلّا هو وأمره بالدعوة إلى عبادته وحده.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا من حيث تضمنها صورا لعقائد كفار العرب ومواقفهم وأقوالهم وردودا عليها.
والمتبادر أن جملة هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي قد تضمنت تحديا للمشركين الذين كانوا يحتجون بأن عقائدهم مستندة إلى أساس ديني سماوي وتقريرا ضمنيا يكذب احتجاجهم لأنه ليس في الكتب المنزّلة عليه وعلى من قبله أي سند يسندهم. وحجتهم المذكورة قد تضمنت حكايتها عنهم آية سورة الأنعام [١٤٨] وآيات سورة الزخرف [٢٠- ٢١] على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين.
تعليق على جملة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ
وقد توسع بعض المفسرين وعلماء بعض المذاهب الكلامية في تخريج هذه الآية حتى صارت في عداد الحجج التي يحتج بها على كون الله تعالى قد قدر على
262
الناس أفعالهم وكتب على الضالين الضلال وقضى عليهم بالعذاب وليس لأحد أن يسأله عما يبدو في هذا من تناقض أو عدم اتساق مع العدل أو حكمة إرسال الرسل لأن لله مطلق التصرف في خلقه على الوجه الذي تقترن به مشيئته فليس لأحد أن يسأله فيما يقضي ويفعل في خلقه في حين هم مسؤولون أمامه.
والذي يتبادر لنا أن سياق الآيات وروحها لا يتحملان هذا التوسع ولا يستدعيانه فالآية إنما جاءت في معرض تدعيم الردّ على اتخاذ آلهة من دون الله وتزييفه وبيان عجز الآلهة وعدم اتساق تعددها مع المنطق والعقل وتضمنت بيان مطلق تصرف الله في الكون من دون أن يكون لأحد حقّ في سؤاله في حين لو كان له شركاء لكان لهم حقّ في هذا السؤال. ولقد كان المشركون يعتقدون ذلك فيه ويعبدون الشركاء لا على أساس أن لهم حقّ سؤال الله ولكن على أساس أنهم شفعاؤهم لديه فجاءت الحجة ملزمة مفحمة. ومن الحقّ أن تبقى الآية في هذا النطاق. وإذا كان حقا أنه ليس لعبد من عباد الله حقّ في سؤال الله عما يفعل وحكمته فيما يفعل فإن القرآن قد تضمّن آيات كثيرة صريحة تقرر حكمة إرسال الرسل ودعوة الناس وتقرر مسؤولية الناس عن أعمالهم وحرية اختيارهم فيها وترتب ثوابهم وعقابهم وفقا لذلك بل وتقرر أن الله كتب على نفسه وعدا بنصر المرسلين والمؤمنين وكان وعده مفعولا وكان وعده مسؤولا مما مرت منه أمثلة عديدة بحيث يكون التوسع في تخريج هذه الآية على ذلك النحو مؤديا إلى تناقض يجب تنزيه الله وقرآنه عنه.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
. في الآيات:
١- حكاية تنديدية لعقيدة كفار العرب حيث أشارت إلى ما كانوا ينسبونه إلى الله من اتخاذ الأولاد.
٢- وردّ عليهم وتنزيه لله عن هذه النسبة وتوضيح لحقيقة أمر الذين ينسبونهم بالنبوة إليه: فهم عباده ولهم مقام التكريم عنده. وهم مطيعون لأوامره يقومون بما يأمرهم به. وهو محيط بهم كل الإحاطة مطلع على أحوالهم وسرّهم وعلنهم ولا يستطيع أحد منهم أن يتجاوز الحدّ المرسوم له أو يشفع لأحد لا يكون قد نال رضاء الله وهم دائمو الاستشعار بخوفه. وكل من يجرؤ منهم على دعوى الألوهية يكون جزاؤه جهنّم كما هو جزاء كل ظالم باغ متجاوز لحدوده.
والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. وواضح أن المعني فيها هم الملائكة الذين كان العرب ينسبونهم بالنبوة إلى الله ويقولون إنهم بناته ويعبدونهم ويستشفعون بهم على هذا الأساس. وقد تكررت حكاية ذلك عنهم وعلقنا على الموضوع بما يغني عن التكرار. وكل ما يحسن أن نزيده أن الآيات قد تضمنت تزييفا لمشركي العرب ودعوة لهم للارعواء. فالذين يشركونهم مع الله هم عبيده الخاضعون له. فالأولى والأنفع لهم أن يحذوا حذوهم فيعبدوا الله ويتجهوا إليه وحده. وهذا المعنى وارد في الآيات السابقة لهذه الآية.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
. (١) فجاجا سبلا: معابر وطرقا واسعة. والفج هو الطريق الواسع بين جبلين على ما ذكره بعض المفسرين.
264
تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من التابعين وتابعيهم في مدى الرتق والفتق في الآية الأولى «١». منها أن الرتق بمعنى الالتصاق والفتق بمعنى فصل الملصق. وأن السموات والأرض كانت ملتصقة أو كتلة واحدة ففصلهما الله عن بعضهما وجعل بينهما الهواء. ومنها أن الرتق بمعنى الجفاف وأن السماء كانت لا تمطر والأرض لا تنبت ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات واستأنس أصحاب هذا القول بجملة وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ التي جاءت في نفس الآية. وجمهورهم على أن كلمة سَقْفاً تعني كون السماء فوق الأرض بمثابة السقف. أما معنى مَحْفُوظاً فقد روي أنها بمعنى محروس من الشياطين مما ذكر بصراحة في آيات أخرى ورد بعضها في سور سبق تفسيرها مثل سورتي الحجر والصافات. كما روي أنها بمعنى المحفوظ من السقوط.
ورووا في صدد الفلك أن معنى الكلمة في الأصل الشكل الدائري وأنها تعني المدار السماوي الذي تجري فيه الشمس والقمر والنجوم وهو بين السماء والأرض كما قيل أنها تعني البروج التي تجري فيها الكواكب السماوية.
وقالوا في معنى أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ لئلا تنكفئ الأرض أو تنكفئ الجبال فجعلها الله رواسي ثابتة أو مثبتة.
ومهما يكن من أمر فالآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. وقد تضمنت تنديدا بالكفار لأنهم يغفلون عن مشاهد قدرة الله وعظمته ونواميسه في السماء والأرض وما بينهما وفي الجبال والشمس والقمر والليل والنهار الدالة على استحقاقه وحده للعبادة والاتجاه وينصرفون عن استجابة الدعوة إليه ويضلّون في تيه العقائد الباطلة.
وقد تكرر ما في هذه الآيات في سور أخرى مرّ تفسيرها. وتكرارها يفيد أن المناسبات التي تقيضها كانت تتكرر. وهي تكرر أو تجدد مواقف الدعوة النبوية مع
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
265
الناس والإيمان بما احتوته الآيات من تقريرات غيبية تكوينية واجب. ومع ذلك فإن جملة أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا التي بدئت بها الآيات قد تفيد أن السامعين ومنهم الكفار كانوا يشاهدون ويحسون ويتصورون الشؤون التي احتوتها وفاق ما جاء فيها فشاءت حكمة التنزيل أن تذكرهم بما يعرفون ويعترفون من مظاهر قدرة الله وبديع نواميس كونه في مقام التنديد.
ونقول هنا ما قلناه في المناسبات المماثلة إن الآيات يجب أن تبقى في نطاقها التذكيري والتنديدي دون تمحّل لاستنباط القواعد الفنية من بعضها ودون توهم في تناقض بعضها مع ما عرف من حقائق هذه القواعد، فإن هذا وذاك لا يتصل بالهدف القرآني.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)
. (١) الخلد: الخلود.
(٢) نبلوكم: نختبركم ونمتحنكم.
(٣) فتنة: اختبارا.
في الآيات:
١- تقرير بأن الله قد كتب الموت على كل نفس ولم يجعل لأحد من قبل النبي خلودا.
٢- وتساؤل يتضمن معنى التنديد عما إذا كان الكفار يظنون أنهم خالدون إذا ما مات النبي وفقا لسنة الله في خلقه.
٣- وتقرير بأنّ كلّ نفس ذائقة الموت حقا وبأنّ جميع الناس راجعون إلى الله حتما. وبأنهم في الدنيا أمام اختبار رباني بالخير والشر حتى تتبين قابلية كل واحد
واختباره فيما يعرض عليه ويتعرض له في الحياة ثم يحاسب به أمام الله حينما يرجع الناس إليه.
وقد قال بعض المفسرين إنّ في الآيات ردا على الكفار الذين كانوا يقولون نتربص بالنبي ريب المنون وأنه لن يلبث أن يموت فتقف حركته وننتهي منه. ومع اقتضابها فإنها تلهم صحة هذا القول ووجاهته. وتوجيه الخطاب للنبي قرينة على ذلك. وهو متسق مع آية أخرى وردت في سورة الطور وهي: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠).
وقول الكفار دليل على أنهم قد حاروا في أمر النبي الذي استمر يقذفهم بقوارع الآيات وقواصم النذر دون مبالاة بعنادهم وتحديهم ولم يستطيعوا إسكاته وحمله على الكفّ عن تسفيههم ووقفوا منه موقف العاجز. ولم يبق أمل لخلاصهم منه في نظرهم إلا في موته الذي صاروا يتمنونه ويطمئن بعضهم بعضا به.
وننبه على أن المفسرين لم يرووا رواية خاصة بما قالوه وإنما هو على ما يبدو استلهام من فحوى الآيات. والمتبادر لنا أن الآيات غير منقطعة عن السياق السابق وفيها استئناف لحكاية ما كان يقوله الكفار وردّ عليهم.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس تأويلا لكلمتي الخير والشر، وهو أنهما تعنيان الصحة والسقم والرخاء والشدة والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلالة. وكل هذا مما تتحمّله العبارة القرآنية التي فيها إنذار شامل للناس في جميع الأوقات أيضا وتنبيه لهم بأنهم معرضون في حياتهم للاختبار الرباني في مثل هذه الحالات وأن الله محاسبهم على مواقفهم تجاه هذا الاختبار حينما يرجعون إليه.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
267
(١) تبهتهم: تذهلهم.
(٢) لا ينظرون: لا يمهلون.
في الآيات:
١- حكاية لاستهزاء الكفار أو بالأحرى زعمائهم بالنبي ﷺ حيث كان بعضهم يتساءل حينما يمرّ به النبي ﷺ أو حينما يراه تساؤل المستخف عن هذا الذي بلغت جرأته على ذكر آلهتهم بالسوء ويرى في ذلك قحة تستدعي الاستهزاء والسخرية. وردّ عليهم، فهم أولى بذلك لأنهم كافرون بالله مع أنه صاحب الفضل والنعم عليهم.
٢- وحكاية ثانية لتساؤلهم عن موعد تحقيق العذاب الذي يوعدون به في معرض التحدي والجحود. وردّ عليهم فيه تبكيت بعجلتهم التي هي من أخلاق الإنسان الغالبة، وفيه إنذار رهيب لهم: فلسوف يرون آيات الله الصاعقة. ولو علموا ما سوف يحلّ بهم من هول النار التي تنصبّ عليهم بغتة فتذهلهم ولن يستطيعوا أن يكفّوها عن وجوههم ولا عن ظهورهم ولا يجدون لهم منها نصيرا ولن يكون سبيل إلى إمهالها عنهم لما استعجلوا هذه العجلة.
٣- التفات إلى النبي في معرض التطمين والتسكين. فإذا كان الكفار يبدون استخفافهم به وبدعوته فقد نال رسل الله من قبله مثل ذلك فحلّ بالمستهزئين شرّ استهزائهم ووباله وأن هذا هو شأن هؤلاء الكفار وعاقبتهم أيضا.
268
والآيات كما هو ظاهر متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وموقف الاستخفاف والتساؤل عن العذاب الموعود واستعجاله مما تكررت حكايته عن الكفار حيث يدل ذلك على أن هذه المواقف كانت تتكرر منهم. والردّ قوي عنيف مفزع حقا وهو متناسب مع موقف الإصرار والهزء الذي حكته الآيات عن الكفار.
ولقد ذهب بعض المفسرين «١» في التعليق على جملة خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ إلى بعيد فقالوا عزوا إلى بعض التابعين إن آدم لما خلقه الله من طين ونفخ فيه الروح استعجل في النهوض قبل أن تسري الحياة إلى جميع أعضائه وأن ذلك هو معنى الجملة حيث ورث بنو آدم العجلة من أبيهم... والمتبادر أن الآية إنما جاءت في معرض التبكيت والتقريع وبأسلوب مألوف من أساليب التخاطب والجدل كما هو المتبادر.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٢ الى ٤٧]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦)
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)
. (١) يكلؤكم: يحفظكم.
(١) انظر تفسير الآية في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبري يورد أقوالا متعددة في ذلك معزوة إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم.
269
(٢) تمنعهم: تحميهم.
(٣) ولا هم منا يصحبون: ليس لهم منا صاحب مجير أو ليس لهم معنا صحبة خير. ومن التعبيرات العربية القديمة أنا لك صاحب بمعنى أنا لك مجير.
(٤) أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها: قيل إنها بمعنى انتقاص أرض الكفر وأهلها بانتصار رسول الله. وقيل إنها بمعنى موت الناس وخراب البلاد حقبة بعد حقبة مطلقا. وقيل إنها تذكير بما كان من إهلاك الله للأمم السابقة التي كفرت به وتدمير بلادها. والقول الأخير هو الأوجه عندنا لا تساقه مع روح الآيات وفحواها.
(٥) نفحة: شيء يسير.
(٦) الموازين القسط: الموازين المضبوطة العادلة.
في الآيات:
١- أمر للنبي بسؤال الكفار منددا مقرعا عمن يستطيع أن يحفظهم من عذاب الله إذا باغتهم وعما إذا كانت آلهتهم التي يشركونها معه تستطيع أن تحميهم في حين أنها ليست مستطيعة أن تحمي نفسها وليس لها من الله صاحب ولا مجير.
٢- وتعنيف للكفار على إعراضهم عن تدبر الأمور والاتعاظ بآيات القرآن.
٣- وإشارة إلى ما داخلهم من غرور بسبب ما نالوه هم وآباؤهم من الجاه والمال فظنوا أنهم أصبحوا في أمان، وسؤال تنديدي عما إذا كانوا لم يروا ما يفعله الله بالكفار وبلادهم حيث يهلكهم ويدمر بلادهم وعما إذا كان يصحّ لمن يرى ذلك أن يغترّ ويأمن ويظنّ أنه يعجز الله ويفلت منه ويغلبه.
٤- وأمر للنبي بأن يقول للكفار إنما هو نذير لهم ليذكرهم بالقرآن الموحى إليه من الله حيث يكون بذلك قد قام بواجبه لأنه غير مكلّف بإقناع من قسا قلبه واشتد عناده وأصبح كالأصمّ الذي لا يسمع النداء والنذر.
٥- وإنذار للكفار بسوء المصير: فلسوف يلقون عذاب الله. ولسوف يشعرون بالندم لأول مسّ لأيسر هذا العذاب فيأخذون في الندب والعويل ويعترفون
270
بما كان منهم من إثم وبغي وانحراف حيث لا ينفع الندم ولا يفيد الاعتراف والعويل. ولسوف يزن الله أعمال الناس بموازينه العادلة يوم القيامة. ويوفي كلا استحقاقه دون ما ظلم ولا إجحاف حتى لو كان مثقال حبة من خردل من خير وشرّ حوسب صاحبها عليها حسابا عدلا وكفى الله حسيبا فهو المحيط بكل شيء.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو ظاهر. وهي قوية نافذة استهدفت التذكير والموعظة وإثارة الخوف والارعواء في الكفار وتنبيههم إلى ما هم فيه من ضلال وما في اغترارهم بقوتهم وارتكانهم على شركائهم من سخف وباطل.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وعلماء التابعين لمدى جملة أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها «١» من ذلك أنها بسبيل الإثارة إلى ما ينقص من بلاد الشرك والكفر بفتحها للنبي ﷺ وللمسلمين بعده. ومنها أنها بسبيل التذكير بموت الناس جيلا بعد جيل. ومنها أنها بمعنى ذهاب خيارها وفقهائها أو بركتها. ومنها أنها بمعنى ما يطرأ على البلاد من خراب ودمار.
ويتبادر لنا أن كل هذه الأقوال لا تتسق مع مقام الجملة وظرف نزولها وأن المتسق مع ذلك هو ما ذكرناه في شرحها بقصد لفت نظر الكفار الذين هم موضوع السياق إلى ما كان يوقعه الله من تدمير وتخريب وإهلاك للأقوام الذين وقفوا من أنبيائهم موقفهم من النبي ﷺ وبلادهم على سبيل الإنذار والتحذير. وهي من باب آية سورة طه هذه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨). ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [٤٧] حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «قال رسول الله ﷺ إنّ الله عزّ وجل يستخلص رجلا من أمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة
(١) انظر تفسير الآية [٤١] من سورة الرعد المماثلة لهذه الجملة في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
271
وتسعين سجلا كلّ سجل مدّ البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون قال لا يا ربّ. قال: أفلك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرجل فيقول: لا يا ربّ، فيقول: بلى إنّ لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فيقول أحضروه فيقول يا ربّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفّة والبطاقة في كفّة قال فطاشت السجلات وثقلت البطاقة. قال ولا يثقل شيء مع بسم الله الرّحمن الرّحيم». وحديثا ثانيا رواه الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو على الأرجح مختصر عن هذا الحديث قال: «قال رسول الله ﷺ توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ويوضع ما أحصي عليه فيما يلي به الميزان. قال فيبعث الله به إلى النار قال فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرّحمن عزّ وجل يقول لا تعجلوا فإنه قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلّا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل الميزان». وحديثا ثالثا رواه الإمام أيضا عن عائشة جاء فيه: «إنّ رجلا من أصحاب رسول الله جلس بين يديه فقال يا رسول الله إنّ لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك. وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتصّ لهم منك الفضل الذي بقي عليك. فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله ويهتف، فقال رسول الله: ما له لا يقرأ كتاب الله... وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)، فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئا خيرا من فراق هؤلاء يعني عبيده، إني أشهدك أنهم أحرار كلّهم». والحديث الأول من مرويات الترمذي بصيغة قريبة «١». بحيث يمكن القول إن صحة الأحاديث الثلاثة محتملة.
(١) انظر التاج ج ٥ ص ٣٤٢- ٣٤٣.
272
والأحاديث مدنية والآية مكية. وفضلا عن ذلك فإن الآية تتمة للإنذار والتنديد الموجهين للكفار في الآيات السابقة لها. ومع ذلك فللأحاديث صلة بموضوع الآية بوجه عام.
والإيمان واجب بما يصحّ عن رسول الله من أخبار المشاهد الأخروية، ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث بيان ما لشهادة التوحيد من نفع للإنسان في آخرته وحثّ على الإقرار لله بالوحدانية والعمل الصالح وتحذر من أي عمل فيه إساءة أو أذى مهما كان تافها.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
. (١) يخشون ربهم بالغيب: قيل إنها بمعنى يخشون ربهم المغيب عنهم تصديقا لأنبيائهم. وقيل إنها بمعنى يخشون عذاب ربهم المغيب عنهم كذلك الذي أوعد به الأنبياء وكلا القولين وجيه.
هذه الآيات حلقة من سلسلة من قصص أنبياء ذكروا في سور سابقة.
واقتضت حكمة التنزيل ذكرهم ثانية في هذه السلسلة عقب الفصول التي احتوت حكاية مواقف الكفار وأقوالهم وعقائدهم ونددت بهم وأنذرتهم جريا على الأسلوب القرآني.
والآيتان الأولى والثانية منها احتوتا إشارة مقتضبة إلى موسى وهرون.
تضمنت ذكر ما آتاهما الله من الفرقان الذي فيه التفريق بين الحق والباطل والضياء الذي يهتدى به في الظلمات والتذكير للمتقين الذين يخشون عذاب الله الموعود ويشفقون من هول القيامة. والآية الثالثة جاءت بمثابة التعقيب على ذلك. فهذا
القرآن المبارك أنزله الله كذلك تذكرة وهدى فهل يصح أن ينكره الكفار وقد عرفوا أن من عادة الله أن ينزل الذكر على أنبيائه لهداية الناس.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل قولين في (الفرقان) أحدهما أنه التوراة التي آتاها لموسى والتي فيها بيان الحقّ والباطل والحلال والحرام. وثانيهما أنه النصر الذي أوتيه موسى وهرون على فرعون. وأيد قائل القول الثاني قوله بأن القرآن وصف يوم بدر بالفرقان في آية سورة الأنفال هذه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [٤١] والإشارة إلى القرآن في الآية الثالثة تجعل الرجحان مع ذلك للقول الأول كما هو المتبادر لنا.
والعبرة هي المقصودة كما هو المتبادر من الإشارة إلى ما آتاه الله لموسى وهرون التي اقتضت حكمة التنزيل أن تكون مقتضبة جدا، وتلمح هذه العبرة في التماثل بين ما أنزل الله على موسى وهرون وما أنزل على محمد عليهم السلام وفي التنديد بالكفار الذين ينكرون ما أنزل على محمد مع أنهم يعرفون عادة الله وفي التنويه بالمؤمنين المتقين الذين يؤمنون بما أنزل الله ويتقون عذابه بصالح الأعمال.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٧٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠)
قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
274
(١) التماثيل: كناية عن الأصنام. وقد تدل الكلمة على الأصنام المخلقة أي المشابهة للإنسان أو الحيوان.
(٢) اللاعبين: الهازلين أو العابثين في القول.
(٣) فطرهن: خلقهن.
(٤) لأكيدن أصنامكم: لأدبرن لها مكيدة.
(٥) جذاذا: قطعا صغيرة.
(٦) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون: قيل إنها بمعنى أنهم ترووا في كلام إبراهيم فأدركوا سخف عقيدتهم في الأصنام فقالوا لبعضهم أنتم الظالمون. وقيل إنها بمعنى أنهم لاموا أنفسهم لأنهم تركوا أصنامهم بدون حراسة.
(٧) ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون: ثم انقلبوا إلى عنادهم وأخذوا يجادلونه بالباطل ويقولون له كيف تقول لنا اسألوهم وأنت تعرف أنهم لا ينطقون.
(٨) نافلة: زيادة فضل ونعمة.
275
تعليق على قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه في هذه السورة
وهذه حلقة ثانية فيها قصة إبراهيم مع قومه. وعبارتها واضحة. وجلّ ما فيها جاء في سور الصافات والشعراء ومريم وهود والأنعام. وعلقنا عليه بما يغني عن تعليق جديد. وواضح من أسلوبها أنها سيقت لتذكير العرب بما كان من سخف قوم إبراهيم باتخاذ الأصنام وبما كان من حجته القوية عليهم وتنجية الله إياه من نارهم وعنايته به وبلوط وبإسحاق ويعقوب الذين وهبهم له لما كانوا عليه من صلاح وتقوى وهدى.
وهذه الحلقة هي أطول حلقات السلسلة. والمتبادر أن حكمة ذلك متصلة بما كان العرب يتداولونه من نسبتهم إلى إبراهيم وملته حيث اقتضت حكمة التنزيل دمغهم بالحجة فيها.
والجديد في القصة ذكر تنجية لوط مع إبراهيم إلى الأرض التي بارك الله فيها. وقد ذكر خروج لوط مع إبراهيم عليهما السلام من حاران في الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين المتداول اليوم مع أن قصة إبراهيم مع قومه لم تذكر فيه. وقد يؤيد هذا ما قلناه قبل من أن قصص إبراهيم عليه السلام مع قومه التي لم ترد في سفر التكوين المتداول اليوم قد ورد في أسفار وقراطيس كان اليهود يتداولونها في زمن النبي ﷺ ولم تصل إلينا.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن الأرض المقصودة في جملة الَّتِي بارَكْنا فِيها منها أنها الشام ومنها أنها مكة والذين قالوا القول الأول قالوا إن إبراهيم ذهب منها إلى فلسطين. والإصحاح المذكور آنفا من سفر التكوين ذكر أنه ذهب إلى أرض كنعان بأمر الله وهي ما يعرف اليوم بفلسطين.
ولقد أورد المفسرون روايات عديدة على هامش قصة إبراهيم في سياق هذه الآيات معزوة إلى ابن عباس وابن إسحق وغيرهم أوردوا معظمها في سياق آيات قصص إبراهيم في السور المذكورة آنفا. ومما أوردوه في سياق العبارات الجديدة
276
في هذه الحلقة ولم نورده سابقا أن القوم ذهبوا إلى عيد لهم بعد أن وضعوا الطعام أمام أصنامهم فاغتنم إبراهيم الفرصة وتمارض وأقسم ليكيدن أصنامهم. وإن أحد الأشخاص سمعه فوشى به. وإن إبراهيم علّق الفأس التي حطم بها الأصنام في عنق كبيرها وقال لقومه فيما قال: إن هذا الكبير غضب من عبادتكم للصغار معه فحطمها. وإن الذي أمر بتحريقه رجل من أكراد فارس، وإن كل شيء اشترك في إطفاء النار عدا الوزغ الذي كان ينفخ فيها حيث يسوغ القول إن هذه البيانات أيضا مما كان متداولا في بيئة النبي ﷺ وليس لها مصدر إلّا اليهود وما كان في أيديهم من قراطيس.
ولقد عللنا في سياق تفسير سورتي ص وهود ذكر إسحق ويعقوب فقط مع إبراهيم مع أن إسحق ليس هو الولد البكر ولا الوحيد لإبراهيم ومع أن يعقوب ليس هو الولد البكر ولا الوحيد لإسحق عليهم السلام جميعا فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة في هذا الموضوع بمناسبة وروده في هذه الآيات أيضا.
ومن مواضع العبرة في الحلقة حكاية موقف إبراهيم الشديد من وثنية قومه وأوثانهم المشابه لموقف النبي ﷺ وعناية الله به وتنجيته من النار لما كان من إخلاصه وصلاحه ورشده. وهبة الله له بسبب ذلك إسحق ويعقوب وجعلهما أئمة يهدون بأمر الله ويفعلون الخير ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وإخلاصهم لله تعالى في الإيمان والعبادة. وفي كل ذلك دعوة مستمرة إلى التأسي بهم.
ولقد روى البغوي في سياق هذه الآيات عن أمّ شريك أنّ رسول الله ﷺ أمر بقتل الوزغ وقال إنه كان ينفخ النار على إبراهيم. وفي ذيل الصفحة ٩٠ من الجزء الثالث من التاج ذكر المؤلف أن هناك حديثا رواه البخاري في بدء الخلق عن النبي ﷺ أنه قال: «اقتلوا الوزغ فإنّه كان ينفخ على نار إبراهيم». حيث ينطوي في هذا توافق ما كان يتداوله الناس في زمن النبي على ما ذكرناه آنفا. وهناك حديثان نبويان آخران يأمر النبي ﷺ فيهما بقتل الوزغ بدون ذكر علاقة ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام أحدهما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن سعد جاء فيه «إنّ
277
النبي ﷺ أمر بقتل الوزغ وسمّاه فويقا». وثانيهما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «من قتل وزغة في أوّل ضربة فله كذا وكذا حسنة. ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى. ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة لدون الثانية» «١».
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
. (١) حكما: بمعنى حكمة.
وهذه حلقة ثالثة فيها إشارة مقتضبة إلى لوط وقومه الفاسقين الذين كانوا يعملون الخبائث وتنجية الله إياه منهم وعنايته به لأنه من الصالحين. حيث يبدو في أسلوبها هدف العظة والتمثيل والتذكير والتنويه واضحا.
ولقد وردت قصة لوط مع قومه في سور عديدة سابقة وعلّقنا عليها بما يغني عن التكرار.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
. وهذه حلقة رابعة فيها كذلك إشارة مقتضبة إلى نوح وما كان من استغاثته بالله واستجابة الله له وتنجيته مع أهله ونصره إياهم على قومه البغاة وإغراقهم، وهدف العظة والتمثيل والتذكير والتنويه واضح فيها أيضا.
(١) التاج ج ٣ ص ٩٠- ٩١.
ولقد وردت قصة نوح في سور عديدة مرّ تفسيرها وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ الى ٨٢]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
. (١) الحرث: الزرع.
(٢) نفشت فيه غنم القوم: انتشرت فيه.
(٣) صنعة لبوس لكم: كناية عن صناعة دروع الحرب التي ذكرت في قصة داود في سورة سبأ.
(٤) لتحصنكم من بأسكم: لتقيكم في الحروب.
تعليق على قصة داود وسليمان عليهما السلام في هذه السورة
وهذه حلقة خامسة فيها إشارة إلى شيء من سيرة داود وسليمان. وعبارتها واضحة وقد ورد أكثر ما فيها في سور سابقة. وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
وموضع العبرة فيها عناية الله تعالى بداود وسليمان عليهما السلام لإخلاصهما وما في ذلك من أسوة وبشرى.
وقضية الحرث والغنم جديدة. وهذه أيضا لم ترد في الأسفار المتداولة اليوم التي فيها سيرة داود وسليمان مثل أشياء كثيرة أخرى وردت عنهما في القرآن. وكما
279
علّقنا في المناسبات السابقة أن ما ورد في القرآن من أخبار لم ترد في الأسفار المتداولة قد وردت في أسفار وقراطيس كانت متداولة بين يدي اليهود في زمن النبي ﷺ وضاعت نقول ذلك بالنسبة لهذه القصة.
وقد يؤيد هذا ما روي من تفصيل هذه القصة عزوا إلى ابن عباس حيث يفيد أن ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي عن طريق أهل الكتاب على ما هو المتبادر.
ولقد روى المفسرون القصة في صيغ مختلفة مع الاتفاق في الجوهر حيث رووا أن غنما لجماعة دخلت كرم جماعة أخرى أو حقل زرع لها فأفسدته فشكى صاحب الكرم أو الحقل أمره لداود فقضى له بالغنم فراجعه سليمان وقال غير هذا يا نبي الله أو قال سليمان لو كان الأمر إليّ لقضيت بغير هذا فسأله أبوه رأيه في القضية فقال: تدفع الكرم أو الحقل إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم لصاحب الكرم أو الحقل فيصيب منها حتى إذا صار الكرم أو الحقل كما كان دفعت الغنم لصاحبها والكرم أو الحقل لصاحبه.
ولقد علق المفسرون «١» على القصة تعليقات ورووا في مناسبتها روايات وأحاديث يمكن أن تكون قواعد وتشريعات إسلامية.
من ذلك جواز الاجتهاد للأنبياء فيما ليس فيه وحي رباني وتفهيم الله لنبي بحكم أصوب من حكم نبي آخر وعدم تعارض ذلك مع تقرير الحكم والعلم لكل منهم. وعدم إثم المجتهد إذا أخطأ في اجتهاده والحاكم إذا أخطأ في حكمه وجواز رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه وإن الاختلاف في الاجتهاد يعني تعدد الصواب في القضية. فالصواب الذي في علم الله واحد لا يختلف باختلاف الاجتهاد. وقد أوردوا حديثا نبويا رواه البخاري عن عمرو بن
(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي. وأكثر هذه التعليقات والقواعد في تفسير القاسمي.
280
العاص جاء فيه: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» «١». كما أوردوا حديثا فيه حكم نبوي في حادث مشابه للحادث الذي روته القصة، حيث روي: «أنّ ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا- أي بستانا- فأفسدت فيه فقضى رسول الله ﷺ على أهل الحوائط حفظها بالنهار وضمان ما أفسدته المواشي فيها بالليل على أصحابها» «٢» فصار ذلك تشريعا إسلاميا يحكم به قضاة المسلمين حيث كانوا يبرئون صاحب الماشية إذا دخلت الأرض نهارا ويضمنونه ما أفسدته إذا دخلتها ليلا.
ولقد روي عن الحسن في سياق هذه الآيات قوله: «لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن الله حمد هذا بصوابه- يعني سليمان- وأثنى على هذا باجتهاده- يعني داود» وأن الله اتخذ على الحكام والحكماء ثلاثا أن لا يشتروا بآيات الله وعهده ثمنا. ولا يتبعوا الهوى ولا يخشوا أحدا وهو ما جاء في آية سورة ص هذه: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [٢٦] وفي آية سورة المائدة هذه فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [٤٤] وفي آية سورة البقرة هذه: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [٤١] وهناك حديث نبوي سيق في هذا السياق رواه أبو داود والترمذي عن بريدة عن النبي ﷺ قال: «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحقّ فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار.
ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار»
«٣».
هذا ولقد أورد المفسرون «٤» في سياق تفسير هذه السورة وعلى هامش هذه الآيات أيضا بيانات مسهبة عن تسخير الجبال والطير لداود وتعليمه صنعة الدروع.
(١) انظر التاج ج ٣ ص ٥٩.
(٢) ورد هذا الخبر في تفسير الطبري والبغوي مرويا عن سلمة عن ابن اسحق عن الزهري عن حرام عن محيصة بن مسعود راوي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٣) أورد هذا الحديث مؤلف التاج أيضا انظر ج ٣ ص ٥٣. [.....]
(٤) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.
281
وعن تسخير الريح والشياطين لسليمان والبساط العظيم الذي كان يمتطيه هو ورجال دولته وجنوده وينتقلون عليه من صقع إلى صقع. والأبهة العظيمة التي كانت لمظاهره وما كان الجن يصنعون له من عظائم معزوة إلى علماء التابعين والأخبار مشوبة بالخيال والغلوّ وإن كانت تدور في نطاق ما جاء في القرآن من قصص داود وسليمان. وفيها على كل حال كما قلنا في المناسبات السابقة دلالة على أن هذه القصص مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم. وليس له مصدر إلا اليهود وما كان في أيديهم من أسفار لم تصل إلينا. ونقول هنا ما قلناه في المناسبات السابقة أننا لم نر طائلا من إيراد ذلك لأنه غير متصل بالهدف القرآني الذي هو العبرة والموعظة وأننا نفضل الوقوف عند ما شاءت حكمة التنزيل ذكره في القرآن منها.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
. وهذه حلقة سادسة فيها إشارة مقتضبة إلى قصة أيوب وما كان من الضرّ الذي أصابه واستغاثته بالله وحده وما كان من رحمة الله به جزاء إخلاصه في العبادة.
وهدف التذكير والعبرة فيها واضح. ولقد ذكرت قصة أيوب في سورة ص بشيء من التفصيل وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد.
ولقد أورد المفسرون في هذه السورة أيضا في سياق هذه القصة بيانات مسهبة منها ما هو متطابق مع ما جاء في سفر أيوب ومنها غير المتطابق. ولم نر إضافة شيء جديد على الخلاصة التي أوردناها في سورة ص لأننا لم نر من ذلك طائلا في هدف القصة.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)
وهذه حلقة سادسة فيها إشارة مقتضبة إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل وما كان من صبرهم ورحمة الله بهم لصلاحهم وإخلاصهم.
وهدف التذكير والعبرة فيها واضح أيضا. وقد ذكر الأنبياء الثلاثة في سور أخرى سابقة وعلقنا على شخصياتهم بما يغني عن تعليق جديد.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
. (١) ذا النون: النون بمعنى الحوت. والجملة كناية عن يونس عليه السلام على ما هو المتفق عليه. وقد ذكر في سورة القلم بصيغة (صاحب الحوت).
(٢) إذ ذهب مغاضبا: إذ خرج من بلده غاضبا وساخطا. وقد ذكرنا ما رواه المفسرون وما ورد في سفر يونان من سبب غضبه في سياق سورة الصافات، فلا ضرورة للإعادة.
(٣) فظن أن لن نقدر عليه: أوجه التأويلات على ضوء ما ورد من قصته في سورة الصافات أنه ظنّ أن لا يلحقه غضبنا إذا ترك قومه وفرّ. فلما لحقه غضبنا وجعلنا الحوت يلتقمه أدرك خطأه وندم وهتف من باطن الحوت وهذا معنى فَنادى فِي الظُّلُماتِ إنه من الظالمين فتاب الله عليه ونجاه من الغم.
ولقد قلنا في التعليق إن قصة أيوب عليه السلام مفصلة في سفر مسمّى باسمه من أسفار العهد القديم. ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الحلقة بيانات مسهبة مروية عن علماء الصدر الإسلامي الأول منها المتطابق مع هذا السفر ومنها غير المتطابق وفيها على كل حال دلالة على أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي ﷺ قبل البعثة. ومصدر ذلك هو الجاليات الكتابية على ما هو المتبادر. ولقد
أوردنا ما رأيناه مفيدا وكافيا عن القصة ونبهنا على ما فيها من عبر ومواعظ في سياق تعليقنا الأول فنكتفي بهذه الإشارة.
وهذه حلقة سابعة فيها إشارة مقتضبة إلى قصة يونس وما كان من اعترافه بخطئه وظلم نفسه واستغاثته بربّه وهو في بطن الحوت واستجابة الله له وتنجيته من كربه لأنّ من دأب الله سبحانه أن ينجي المؤمنين.
وهدف العبرة والتذكير واضح في الآيات. وقد ذكرت قصة يونس بشيء من الإسهاب في سورة الصافات وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد. ولقد روى المفسرون «١» في سياق هذه الآيات بيانات مسهبة عن قصة يونس منها ما هو المتطابق مع سفر يونان ومنها غير المتطابق. وفيه على كل حال دلالة على أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي ﷺ وليس له مصدر إلّا الأسفار التي كانت متداولة في أيدي الكتابيين من يهود ونصارى. ولم نر طائلا ولا ضرورة إلى زيادة شيء جديد على ما أوردناه من هذه القصة في سياق سورتي القلم والصافات.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)
. وهذه حلقة ثامنة فيها إشارة إلى ما كان من دعاء زكريا واستجابة الله له وهبته له ابنا رغم شيخوخته وعقم زوجته لأنهم كانوا يسارعون في عمل الخير ويدعون ربهم راجين رضاءه خائفين من غضبه وكانوا خاشعين له.
وهدف العبرة والتذكير واضح في الآيات أيضا. وقصة زكريا ذكرت بشيء من التفصيل في سورة مريم وعلقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد.
(١) انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.

[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩١]

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)
. (١) التي أحصنت فرجها: كناية عن مريم.
وهذه حلقة تاسعة وأخيرة فيها إشارة إلى مريم وابنها الذي ولدته نتيجة لنفخ الله فيها من روحه وما كان في ذلك من المعجزة التي جعلها الله للعالمين ليشهدوا فيها مظهرا من مظاهر قدرة الله.
تعليق على قصة مريم وجملة فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا
وقصة مريم وولادتها لعيسى قد ذكرت بشيء من الإسهاب في سورة مريم.
وقد علّقنا عليها بما يغني عن تعليق جديد. إلّا أن نقول إن حكمة التنزيل كما اقتضت أن تذكر هذه القصة في سورة مريم عقب ولادة يحيى ذكرت هنا عقب ذلك أيضا حيث أريد هنا كما أريد هناك تقرير كون كل من الولادتين معجزة ربانية فلا ينبغي أن يترتب على معجزة ولادة عيسى اتخاذه إلها أو ابنا لله بمعنى النبوة.
ونقطة أخرى في الآيات تأتي لأول مرة وهي جملة فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا. وقد عبر عن ذلك في آية سورة آل عمران بجملة يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [٤٥] وفي آية في سورة النساء بجملة إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [١٧١] وفي آية سورة التحريم بجملة وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [١٢] وتعليقا على ذلك نقول إن القرآن استعمل تعبير وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [٧٢] في صدد خلق آدم في سورة ص، وتعبير ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ في صدد خلق الإنسان في سورة السجدة الآية [٩] هذا أولا.
285
وثانيا: إن القرآن ذكر في سورة مريم أن روح الله تمثل لمريم بشرا ليهب لها غلاما ولم يذكر أسلوب الهبة. وروح الله في سورة مريم يعني على ما تلهمه العبارة بكل قوة بل وصراحة ملك الله وبين هذا وبين فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وفَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم: ١٢] فرق واضح.
وثالثا: إن القرآن لم يذكر في سورة آل عمران في سياق ذكر قصة ولادة عيسى نفخا ولا روحا مرسلا وإنما بشرى من الملائكة بكلمة الله كما ترى في هذه الآيات: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧).
ورابعا: إن روح الآيات التي وردت فيها هذه التعبيرات تلهم قصد تقرير كون خلقة عيسى عناية ربانية ومعجزة ربانية ونفي أي جزئية إلهية عنه وقصد تقرير كون عيسى عبدا من عباد الله ورسوله ولا يصح أن يكون ولدا له أو مندمجا معه في الألوهية أو صورة من صورها وتنزيه الله عن هذه المعاني وتقرير وحدانيته وكمال صفاته كما جاء ذلك في آيات سورة النساء هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [١٧٢].
فالواجب والحالة هذه الوقوف عند الحدّ الذي وقف عنده القرآن دون تزيد مع ملاحظة ما تلهمه روح الآيات ومع اعتبار أن التنوع الذي يبدو في التعبيرات هو بقصد التقريب والتمثيل وملاحظة أن ما قصد تقريره متصل بالدعوة النبوية إلى الله
286
وحده وتنزيهه عن الولد والشرك بأي معنى من المعاني وصورة من الصور وأن الله ليس كمثله شيء وأن كل صفاته وما يصحّ أن ينسب إليه أو يعبر به عنه بما في ذلك تعبير (روحنا) و (روحه) و (روحه منه) بمعنى حياته يجب أن يكون مندمجا في معنى وضابط ليس كمثله شيء وأن عدم المماثلة مما يمتنع أن يكون شيء ما منه منتقلا إلى غيره.
ولقد جاء وفد من نصارى نجران إلى النبي ﷺ في المدينة فتناظر معه في أمر عيسى عليه السلام فقرر لهم ما جاء عنه في السور المكية مثل سورة مريم وسورة الأنبياء التي نحن في صددها فأصرّوا على عقيدتهم فقال لهم تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) كما أمرته آية سورة آل عمران [٦١] فأحجموا ثم قالوا له:
ألست تقول إن عيسى من روح الله وكلمته؟ قال: بلى فقالوا هذا حسبنا كأنهم رأوا فيه حجة عليه فأنزل الله فيما أنزل في صدد هذه المناظرة آية سورة آل عمران هذه:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ «١» [٧] كأنما أريد أن يقال فيها ردا على قولهم إن القرآن إذا كان يقرر أن عيسى من روح الله أو كلمة منه فلا يصح أن يستنبط إن القرآن إذا كان يقرر أن عيسى من روح الله أو كلمة منه فلا يصح أن يستنبط من ذلك حجة على أنه ابن الله أو جزء منه أو صورة عنه. فهذا تمحّل في التأويل ابتغاء تبرير الهوى والباطل وغير متسق مع المحكم من القرآن الذي يقرّر بصراحة وقطعية أن الله واحد لا شريك له ولا ولد وأنه ليس ثالث ثلاثة وأن المسيح ليس إلها ولا ابنا لله ولا صورة عنه ولا جزءا منه. وكل ما في الأمر أنه يقرر كون ولادته معجزة ربانية بالأسلوب الذي يمكن أن يعبر به عن ذلك بلسان البشر. حيث ينطوي في هذا توكيد لما قلناه من أن العبارة القرآنية هي للتقريب والتمثيل.
(١) اقرأ تفسير سورة آل عمران في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والمنار.
287
هذا، ويحسن أن نزيد على ما قلناه في سياق كل حلقة أن تعبير (التنجية) لأنبياء الله و (استجابة الله) لهم وعنايته بهم بسبب إخلاصهم وصبرهم وخشوعهم وعبادتهم وشكرهم قد تكرر في هذه الحلقات: مما قد يجعل من مقاصد تشجيع النبي والمسلمين وتطمينهم والتنويه بهم ودعوتهم إلى التأسي بأنبياء الله.
والسورة بعد مما يقدر أنها نزلت في الثلث الأخير من العهد المكي الذي ماتت فيه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها التي كانت من أعظم مشجعيه ومؤاسييه في مواقفه العصيبة، ومات فيه كذلك أبو طالب عمّه ومناصره حيث يحتمل أن يكون ضغط زعماء المشركين قد اشتد واشتد نتيجة لذلك غمّ النبي وخوف المؤمنين فجعله هذا كما روته الروايات يذهب إلى الطائف لعلّه يجد نصيرا ويتصل بزعماء القبائل في المواسم وبزعماء الأوس والخزرج أهل يثرب من أجل ذلك وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الحلقات بما فيه البشرى والتطمين بالنجاة والنصر «١».
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٢]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)
. (١) أمتكم أمة واحدة: أولا الأمة هنا بمعنى الملّة أو الطريقة أو الدين والجملة بسبيل الإيذان بأن ملّة المسلمين أو دينهم أو طريقتهم وملّة أنبياء الله السابقين أو دينهم أو طريقتهم واحدة لا تعدد لها. وثانيا قرئت التاء بأمتكم وأمّة بالفتح وقرئت بالضم وقرئت تاء أمتكم بالضم وتاء أمة بالفتح. وفي القراءة الأولى تكون أمتكم بدلا من (هذه) التي هي في مقام اسم إن وتكون أمة بدلا من أمتكم أو في مقام الحال ويكون خبر (إن) مقدرا وهو غير متفرقة. وفي القراءة الثانية تكون أمتكم خبر إن وتكون أمة بدلا من أمتكم. وفي القراءة الثالثة تكون أمتكم خبر إن
(١) انظر سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٥- ٣٨.
وأمة في مقام الحال على ما علّله المفسرون، وكل من هذه التعليلات وارد والله أعلم.
هذه الآية موجهة على ما يبدو من ضمير الجمع المخاطب إلى النبي والمؤمنين كالتفات وتعقيب بعد سلسلة قصص الأنبياء. واحتوت هتافا لهم بأن طريقة عبادة الله وحده والخضوع له وحده والإخلاص له وحده والاستعانة به وحده وعمل الصالحات والخيرات التي سار عليها أنبياء الله هي الطريقة الوحيدة التي يجب عليهم أن يسيروا عليها ويثبتوا فيها.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥)
. في الآية الأولى: إشارة إلى ما كان من افتراق الناس واختلافهم في أمور دينهم وملتهم وتقرير بأن الجميع راجعون إلى الله.
وفي الآية الثانية: إشارة إلى الفريق الذي سار على الطريقة القويمة وآمن بالله وعمل الصالحات وتقرير بأن عمله لن يضيع وأن الله قد سجله له.
وفي الآية الثالثة: إشارة إلى الفريق الذي انحرف عن الطريقة القويمة فاستحق غضب الله وهلاكه فإنها بعد أن يكون هلاك الله حل فيه لا يقبل منه رجوع ولا توبة.
أما الآية الثالثة فقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لها «١». منها أن القرى التي يهلكها الله تعالى لا يرجع منهم راجع ولا يتوب منهم تائب ومنها أنه محرم عليهم أن يرجعوا إلى دنيا. ومنها أن القرى التي استحقت هلاك الله فأهلكها لم يكن مقصورا رجوعها وإنابتها إلى الله.
(١) انظر تفسيرها في كتب الطبري والبغوي والطبرسي والزمخشري.
ومنها أن القرى التي أهلكها الله لا يبقى منهم أحد وفي هذا تخويف لأهل مكة.
والتأويل الأخير وتعليله هما الأوجه فيما يتبادر لنا. وقد خطر لنا تأويل آخر أن القرية التي حقّ عليها القول قد فاتتها الفرصة فلم يبق لها مجال لرجوع وتوبة. وفي هذا كذلك إنذار وتخويف لكفار العرب.
والآيات جاءت معقبة على الآية السابقة كما هو المتبادر وقد توخى فيها على ما تلهمه روحها تثبيت النبي ﷺ والمؤمنين وتبشيرهم وتطمينهم بحسن العاقبة مع تنبيه وإنذار للكفار بأنهم يوشكون أن يضيعوا الفرصة فيندمون ولات ساعة مندم.
وهذا التنبيه والإنذار قد انطويا في آيات عديدة ومرّت أمثلة منها في سور سابقة.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧)
. (١) من كل حدب: من كل مرتفع والمقصد من كل جهة.
(٢) ينسلون: يأتون ويسرعون.
في الآيتين توكيد لإنذار الكفار الذي رجحنا أن الآية السابقة لهما قد تضمنته ووصف لما ينتظرهم من هول يوم القيامة: فحينما يحين الموعد المعين في علم الله لقيام الساعة وتبدو علائمها التي منها انفتاح يأجوج ومأجوج وزحفهم من كل ناحية أو إلى كل ناحية يكون قد اقترب تحقيق وعد الله. ولسوف تشخص حينئذ أبصار الكفار ذهولا وهلعا فيأخذون في العويل والندم لأنهم لم يحسبوا حساب هذا اليوم وغفلوا عنه ويعترفون بأنهم كانوا آثمين ظالمين.
والآيات متصلة بالسياق السابق كما هو المتبادر، والمتبادر كذلك أن الكلام في الآية الأولى متصل بالسد الذي أنشأه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج والذي ذكر في سورة الكهف ووردت الأحاديث بأن انهياره وخروج يأجوج ومأجوج منه
من علامات الساعة مما ذكرناه وعلقنا عليه في سورة الكهف تعليقا يغني عن التكرار.
وقد استهدفت الآيات إنذار الكفار وزجرهم وإرهابهم وحملهم على الارعواء قبل فوات الوقت كما استهدفت ذلك الآيات السابقة لها.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
. (١) حصب: الواضح أن الكلمة متصلة بكلمة الحصباء وهي الحجارة الصغيرة التي تكون في الأرض فتتوهج من حرارة الشمس وتغدو كأنها جمرات من نار. والمقصد منها في مقامها تقرير كون الكفار ومعبوداتهم سيكونون وقودا للنار وقد قرئت (حطب) وقرئت (حضب) والحضب كل ما وضع في النار لتأجيجها.
(٢) زفير: هنا بمعنى الأنين الذي يخرج من المتألمين.
وجه الخطاب في الآيات إلى الكفار السامعين في معرض التنديد والتقريع:
فهم وما يعبدون من دون الله واردون جهنّم وصائرون لها وقودا ومكتوون بنارها وخالدون فيها ولسوف يصرخون ويئنّون من شدة عذابها وألمه ولن يسمعوا فيها أية بشارة بالنجاة. ولو كان ما يعبدون من دون الله آلهة حقيقيين لما وردوها بطبيعة الحال.
والآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا كما هو ظاهر. وقد صرف بعض المفسرين جملة وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى الشياطين والجنّ ومنهم من صرفها إلى الأوثان. وكلا الاحتمالين وجيه. ولا وجه غيرهما أي إنه لا يصحّ صرفها إلى الملائكة الذين هم من معبودات الكفار بطبيعة الحال. وعلى كل حال فالآيات جاءت كما قلنا بسبيل التنديد والتقريع والإنذار.

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)
. (١) حسيسها: صوتها والضمير عائد إلى جهنّم.
(٢) الفزع الأكبر: الخوف العظيم من المصير الرهيب.
في هذه الآيات: ذكر لمصير الذين كتب الله لهم السعادة بإيمانهم وأعمالهم الصالحة هم ناجون مبعدون عن النار لا يسمعون صوتها ولا يشعرون بأثرها. وهم متمتعون بما تشتهيه أنفسهم خالدون في النعم لا يخيفهم ولا يحزنهم الهول الأكبر الذي يخيف الكفار. وتستقبلهم الملائكة مبشرين قائلين لهم هذا يوم نعيمكم الحقيقي الذي كنتم توعدون به في الدنيا.
ولقد روى المفسّرون «١» روايات عديدة متغايرة في التفصيل متفقة في الجوهر خلاصتها أن الآيات نزلت في مناسبة جدل نشأ عن الآيات السابقة لها حيث وعظ النبي ﷺ قريشا في فناء الكعبة الذي كان غاصّا بالأصنام فأشار إليها وتلا الآية:
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) فانبرى له شخص اسمه ابن الزبعري، فقال له إن العرب يعبدون الملائكة والنصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون العزير وهم من عباد الله المقربين حسب اعترافك فهل هم أيضا حصب جهنم؟ فنزلت الآيات لتستثني هؤلاء من شمول الآيات السابقة «٢» ولا نريد أن ننفي الرواية، ولكن الذي نرى أن الآيات تلهمه أكثر وخاصة الثالثة منها هو قصد الثناء والتنويه والتطمين للمؤمنين مقابلة لما احتوته الآيات السابقة لها جريا على الأسلوب القرآني. ومن المحتمل أن الحادث الذي
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والزمخشري والبغوي وابن كثير والخازن.
روته الروايات قد وقع فتليت الآيات بسبيل الرد على ابن الزبعري فالتبس الأمر على الرواة. ولقد احتوت آيات عديدة ما احتوته الآيات بسبيل ذكر مصير المؤمنين المخلصين وتطمينهم في المناسبات المماثلة حيث يدعم هذا ترجيحنا. وتكون الآيات بذلك متصلة سياقا وموضوعا بسابقاتها كما هو واضح.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)
. (١) السجلّ: قيل إنه اسم كاتب من كتّاب النبي وقيل إنه اسم الملك الذي يطوي كتب أعمال الناس وقيل إنه صحيفة الورق التي يكتب عليها وأنكر الطبري القولين الأولين وقال إنه لا سند لهما ورجح القول الثالث وهو الصواب. وتكون الجملة بمعنى كطي الصحيفة التي يكتب عليها الكتب حين ما يريد كاتب أن يكتب وهذا هو الوجه والصواب فيما هو المتبادر.
(٢) الزبور: أكثر المفسرين على أن الكلمة هنا تعني كتب الله المنزلة مطلقا وهو الأوجه المتسق مع الآيات.
(٣) الذكر: قيل إن الكلمة كناية عن القرآن. أو كناية عن اللوح المحفوظ أو كناية عن التوراة أو إنها الكتب المنزلة مطلقا. ويتبادر لنا أنها في مقامها بمعنى التذكير، وورود كلمة الزبور قبلها قرينة على ذلك فيما نرى.
في الآية الأولى: وعد يقطعه الله على نفسه بأنه سوف يعيد الخلق ثانية كما بدأهم أول مرة، وإيذان بأنه محقق وعده وقادر عليه. وسيطوي السماء حينئذ كما تطوى صحيفة الورق المعدة للكتابة.
وفي الآية الثانية: إيذان بأن الله قرر في كتبه المنزلة بعد ما ذكر الناس وبين
293
لهم طريق الحق والهدى أن الأرض إنما يرثها عباده الصالحون.
وفي الآية الثالثة: تقرير بأن فيما يذكر من ذلك بلاغا كافيا لمن استنار قلبه فآمن وعبد الله وحده.
وفي الآية الرابعة: وجّه الخطاب إلى النبي ﷺ بأن الله إنما أرسله ليكون رحمة للعالمين بما يقوم به من تبليغ الناس أوامره ونواهيه وتوضيح طريق الحق والهدى والدعوة إليه.
وأسلوب الآيات قوي نافذ. وفي الآية الأخيرة معان قوية من التحبب والثناء والتطمين للنبي. ثم فيها إشارة قوية إلى مدى الرسالة المحمدية وما توخّى الله فيها من الرحمة الشاملة للعالمين في كل مكان وزمان.
والمتبادر أن طيّ السماء وتمثيلها بالورقة التي تطوى للكتابة إنما قصد به توكيد قدرة الله. فالناس يستعظمون ما يرونه من مشاهد الكون وبخاصة السماء ويستعظمون البعث بعد الموت: فكأنما أريد أن يقال لهم إن ما تستعظمونه ليس هو بالنسبة إلى قدرة الله إلّا شيئا تافها وأن يمثل لهم بمثل يستطيعون فهمه. وهذا المعنى قد تكرر في مواضع كثيرة في صدد القيامة وأحداثها بأساليب متنوعة.
والتنويع دليل على صحة ما نقرره إن شاء الله. وقصد تقرير قدرة الله على ذلك بارز في آية في سورة الزمر فيها عبارة مماثلة وهي: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧).
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس تأويلا لجملة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ مفاده أن هذه الرحمة شاملة للمؤمنين وغير المؤمنين فيكون للأولين رحمة في الدنيا والآخرة. أما رحمة الآخرين فتتمثل في المعافاة مما أصاب الأمم السابقة من الخسف والقذف والمسخ والاستئصال. ويتبادر لنا أن في هذا التأويل تكلفا وبخاصة في شقه الثاني. وأن هدف الجملة هو تقرير كون الله قد جعل رسالة رسوله رحمة للعالمين جميعهم بسبيل تقرير ما فيها من هدى والحثّ على الانضواء إليها.
294
ولقد أورد المفسر نفسه بعض أحاديث نبوية في سياق الجملة منها حديث عزاه إلى مسلم عن أبي هريرة قال: «قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة». وحديث أخرجه الحافظ بن عساكر عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا رحمة مهداة». وحديث أخرجه كذلك ابن عساكر عن ابن عمر جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين». وصحة الأحاديث محتملة وينطوي فيها إيذان بمدى مهمة الرسالة النبوية وما فيها من هدى ورحمة للناس. وفي هذا تساوق مع الجملة القرآنية.
تعليق على جملة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ
ولقد تعددت أقوال أهل التأويل من الصدر الإسلامي الأول التي يرويها المفسرون لجملة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ منها أنها الجنة الأخروية ومنها أنها الدنيا أو أنها أرض الكفار التي يفتحها المسلمون. ومنهم من رأى فيها بشرى فوز النبي والمؤمنين على قريش في النهاية. ويلحظ أن الكلام هو في صدد مصائر الناس في الآخرة وتوكيد وعد الله بتحقيق ذلك مما يجعلنا نرجح الاحتمال الأول. ولا سيّما إن جملة عِبادِيَ الصَّالِحُونَ لا يمكن أن تنصرف إلّا إلى عباد الله المؤمنين الموحدين السالكين طريق الحق في حين أن كثيرا ما يتمكن في الأرض أناس غير متّصفين بذلك. وفي أوائل سورة (المؤمنون) التي تأتي بعد هذه السورة آيتان يمكن أن تكونا قرينة على تفسير كلمة يَرِثُها بما يتفق مع الاحتمال الأول وهما: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)، بل وفي سورة الزمر آية أكثر تأييدا لهذا التفسير وهي:
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وهذه السورة مكيّة ولم يكن المؤمنون قد انتصروا وصاروا أصحاب السلطان في الأرض.
295
وبعض الباحثين يستلهمون من هذه الجملة مبدأ اجتماعيا ويقولون إنها تنطوي على تقرير كون التمكن في الأرض هو من حظّ كل شخص أو أمّة صالحة سالكة طريق الحق والعدل والخير والتعاون سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين ويستدلون على ذلك بواقع الدنيا من حيث تمكن كثير من الأفراد والأمم من مسلمين وغير مسلمين في الأرض ثروة وطمأنينة وسعادة وحكما وسلطانا حينما يكونون متصفين بذلك. وقد لا يخلو هذا من وجاهة متساوقة فعلا مع واقع الحياة ومع الشرح الذي شرحناه به جملة وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ الآية [١١٧] من سورة هود. على أن جملة إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ قد تسوغ القول إن المقصود هنا هم المخلصون لله تعالى في الإيمان والعبادة والعمل الصالح. وهم بعد البعثة المحمدية المسلمون الذين يخلصون دينهم لله ويلتزمون حدود أوامره ونواهيه وأوامر رسوله ونواهيه. ولقد وعدهم الله في آية أخرى بالاستخلاف في الأرض إذا اتصفوا بهذه الصفات وهي:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ سورة النور الآية [٥٥] وقد حقق الله لهم وعده فكانوا ورثة الأرض وحكامها في بعض حقبهم وبخاصة في زمن النبي عليه السلام بالنسبة لجزيرة العرب ثم في زمن الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين لشطر عظيم مما كان معروفا من مشارق الأرض ومغاربها، ولسنا نرى تعارضا مع ذلك بين هذا وبين الحكمة الاجتماعية التي تحتمل أن تلهمها الجملة.
وقد يرد أن من واقع الحياة أيضا أن يكون الظالمون والمجرمون والمنحرفون وغير الصالحين متمكنين في الأرض أفرادا كانوا أم ملوكا أم أمما. ولسنا نرى في هذا ما ينقض تلك الحكمة العامة الملموحة في الآية. وفي القرآن آيات فيها إقرار بذلك الواقع وإلى جانبها آيات كثيرة جدا فيها إيذان بأن الله أهلك بعضهم فورا أو
296
إنه إنما يؤخرهم إلى أجل ثم يأخذهم. ويكون أخذه لهم أليما شديدا أو إنه إنما يملي لهم إملاء وتنديد بالذين يظنون أن ما هم فيه حظوة من الله وإنذارات قارعة لهم بالعذاب والبلاء في الدنيا والآخرة ووعد بنصر المؤمنين والصالحين مما مرّ منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها. والجملة بعد تنطوي على تقرير كون العاقبة والنصر وإرث الأرض في النهاية هي لهؤلاء مهما كان للأولين من نجاح وتمكّن.
تأويل الشيعة للجملة السابقة واستطراد إلى موضوع المهدي وما ورد فيه من أحاديث وتعليق عليها
لقد روى الطبرسي المفسر الشيعي عن أحد الأئمة الاثني عشر أبي جعفر قوله: إن الصالحين في الآية هم المهدي وأصحابه في آخر الزمان وإن مما يدل على ذلك ما رواه الخاص والعام عن النبي ﷺ أنه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلا صالحا من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا». وروى المفسر حديثا مرويا عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: «لا يزداد الأمر إلّا شدة ولا الناس إلّا شحّا ولا الدنيا إلّا إدبارا ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس ولا مهدي إلّا عيسى». ثم قال إن الحديث منقطع وإن بعض رواته متروكون أو مهمولون. وإن الأحاديث في ظهور المهدي صحيحة الأسناد. وساق حديثين واحدا رواه أبو داود عن عبد الله فيه نصّ الحديث الذي رواه أبو جعفر مع زيادة هي: «وفي رواية يواطىء اسمه اسمي» «١». وواحدا رواه أبو داود كذلك عن أم سلمة قالت: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة». والحديثان واردان في التاج أيضا أولهما معزوّ إلى أبي داود والترمذي وثانيهما إلى أبي داود والحاكم «٢». وفي
(١) انظر التاج ج ٥ ص ٣١١- ٣١٢.
(٢) المصدر نفسه.
297
هذا المصدر أحاديث أخرى في هذا الصدد منها حديث رواه الترمذي عن أبي سعيد قال: «خشينا أن يكون بعد نبيّنا حدث فسألناه فقال إن في أمتي المهديّ يخرج يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا قلنا ما ذاك قال: سنين قال فيجيء إليه الرجل فيقول يا مهديّ أعطني أعطني فيحمله في ثوبه ما استطاع أن يحمله» «١» وحديث رواه أبو داود عن أبي سعيد أيضا عن النبي ﷺ قال: «المهديّ مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ويملك سبع سنين» «٢».
ولقد كانت هذه الأحاديث حافزا لغير واحد من المنتسبين إلى سلالة فاطمة الطاهرة المتسمين باسم محمد- لأنها هي وحدها التي خلّفت ذرية يمكن أن تنتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم- للخروج من آن لآخر على السلطان الإسلامي القائم أولهم محمد بن عبد الله المسمّى بالنفس الزكيّة الذي خرج باسم المهدي في زمن المنصور ثاني الخلفاء العباسيين وآخرهم محمد بن عبد الله مهدي السودان في أواخر القرن الماضي. كما كانت هذه الأحاديث مددا للشيعة الإمامية الاثني عشرية والسبعية ليعتبروا إمامهم المختفي في الكهف هو المهدي الذي سوف يخرج يوما ويحكم الأرض. ونخشى كثيرا أن يكون الهوى الحزبي قد لعب دوره في هذه المرويات ليتسلح الذي حدثته أو تحدثه نفسه بالخروج على السلطان بها كخبر نبوي يجب الإيمان به أو ليتسلح بها الشيعة الإمامية أو السبعية ليستمدوا منها الأمل والثبات على عقيدتهم. والله أعلم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٨ الى ١١٢]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢).
(١) المصدر السابق نفسه.
(٢) المصدر نفسه.
298
(١) آذنتكم على سواء: روى المفسرون عن أهل التأويل أن الجملة بمعنى أعلمكم أني وأنتم على حرب لا صلح بيننا.
(٢) إن أدري: لا أدري.
(٣) فتنة: اختبار وابتلاء.
في الآيات: أمر للنبي بتبليغ الناس بأن ما يوحى إليه هو أن إلههم واحد لا شريك له وبأن يسألهم سؤال دعوة وتنبيه عما إذا كانوا مستعدين للاعتراف بذلك وإسلام أنفسهم لله وحده وبأن يقول لهم إذا امتنعوا عن ذلك أني قد أعلمتكم بالأمر وأبلغتكم وحي الله وصار بيننا حرب لا صلح له ولست أدري موعد تحقيق وعد الله هل هو قريب أم بعيد. ولست أدري إذا كان الله أراد اختباركم فجعل لكم مهلة إلى وقت معين في علمه. وأن الله على كل حال يعلم ما تقولونه وتبيتونه في جهركم وسرّكم وقصارى مهمتي إبلاغكم وإنذاركم وقد قمت بها.
ولقد قرىء فعل القول في الآية الأخيرة بصيغة الماضي كما قرىء بصيغة الأمر. وتضمنت الآية دعاء النبي لله بأن يحكم بينه وبين قومه بالحق والاستعانة به على ما يقوله الكفار افتراء على الله وزورا. وعلى قراءة فعل القول بصيغة الأمر يكون ذلك أمرا من الله بأن يدعو ويستعين. وعلى القراءة الثانية يكون ذلك حكاية لدعائه واستعانته. والنفس تطمئن لصيغة الأمر لأنها متسقة مع صيغة الآيات الأخرى أكثر، وقد رجّح هذا الطبري وقال إن عامة الأنصار عليه.
والآيات متصلة كذلك بسابقاتها. وأسلوبها قوي نافذ. وقد جاءت خاتمة للسياق الذي جاء معقبا على سلسلة آيات الأنبياء وجاءت في ذات الوقت خاتمة للسورة، وطابع الختام عليها بارز مماثل لكثير من خواتم السور.
299
Icon