تفسير سورة الأنبياء

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنبياء هذه السورة مكية بإجماع وكان عبد الله بن مسعود يقول : الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهي من تلادي١ يريد من قديم ما كسبت وحفظت من القرآن كالمال التلاد٢.
١ أخرجه البخاري، وابن الضريس، عن ابن مسعود، والرواية كما في الدر المنثور وفتح القدير: (بنو إسرائيل، والكهف، ومريم،... الخ الحديث)..
٢ المال التلاد: المال الأصلي القديم، وقيل: هو الموروث..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأنبياء
هذه السورة مكية بإجماع وكان عبد الله بن مسعود يقول الكهف، ومريم، وطه، والأنبياء من العتاق الأول وهي من تلادي يريد من قديم ما كسبت وحفظت من القرآن كالمال التلاد.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢)
روي أن رجلا من أصحاب النبي ﷺ كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة فقال الذي كان يبني الجدار ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر نزل اليوم اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ فنفض يده من البنيان وقال والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب، وقوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ عام في جميع الناس، المعنى وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش ويدل على ذلك ما بعد من الآيات، وقوله وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ يريد الكفار.
قال القاضي أبو محمد: ويتجه من هذه الألفاظ على العصاة من المؤمنين قسطهم، وقوله ما يَأْتِيهِمْ وما بعده مختص بالكفار، وقوله مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ قالت فرقة المراد منا ينزل من القرآن ومعناه مُحْدَثٍ نزوله وإتيانه إياهم لا هو في نفسه، وقالت فرقة المراد ب «الذكر» أقوال النبي ﷺ في أمر الشريعة ووعظه وتذكيره فهو محدث على الحقيقة وجعله من ربه من حيث إن النبي ﷺ لا ينطق عن الهوى ولا يقول إلا ما هو من عند الله، وقالت فرقة «الذكر» الرسول نفسه واحتجت بقوله تعالى قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ [الطلاق: ١١] فهو محدث على الحقيقة ويكون، قوله اسْتَمَعُوهُ بمعنى استمعوا إليه، وقوله تعالى:
وَهُمْ يَلْعَبُونَ جملة في موضع الحال أي أسماعهم في حال لعب فهو غير نافع ولا واصل النفس.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣ الى ٤]
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
قوله تعالى: لاهِيَةً حال بعد حال، واختلف النحاة في إعراب قوله وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا
فذهب سيبويه رحمه الله إلى أن الضمير في أَسَرُّوا فاعل وأن الَّذِينَ بدل منه وقال رحمه الله لغة أكلوني البراغيث ليست في القرآن، وقال أبو عبيدة وغيره الواو والألف علامة أن الفاعل مجموع كالتاء في قولك قامت هند والَّذِينَ فاعل ب أَسَرُّوا وهذا على لغة من قال أكلوني البراغيث، وقالت فرقة الضمير فاعل والَّذِينَ مرتفع بفعل مقدر تقديره أسرها الذين أو قال الذين ع والوقوف على النَّجْوَى في هذا القول وفي الأول أحسن ولا يحسن في الثاني، وقالت فرقة الَّذِينَ مرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هم الذين ظلموا، والوقف مع هذا حسن، وقالت فرقة الَّذِينَ في موضع نصب بفعل تقديره أعني الذين، وقالت فرقة الَّذِينَ في موضع خفض بدل من «الناس» [الأنبياء: ١] ع وهذه أقوال ضعيفة ومعنى أَسَرُّوا النَّجْوَى تكلموا بينهم في السر والمناجاة بعضهم لبعض، وقال أبو عبيدة أَسَرُّوا أظهروا وهو من الأضداد، ثم بين تعالى الأمر الذي يتناجون به وهو قول بعضهم لبعض هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، ثم قال بعضهم لبعض على جهة التوبيخ في الجهالة أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ أي ما يقول شبهوه بالسحر، المعنى أفتتبعون السحر وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي تدركون أنه سحر وتعلمون ذلك، كأنهم قالوا تضلون على بينة ومعرفة، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم وللناس جميعا قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي يعلم أقوالكم هذه وهو بالمرصاد في المجازاة عليها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «قل ربي»، وقرأ حمزة والكسائي «قال ربي يعلم» على معنى الخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واختلف عن عاصم، قال الطبري رحمه وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الإهماز.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥ الى ٨]
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨)
لما اقتضت الآية التي قبل هذه أنهم قالوا إن ما عنده سحر، عدد الله في هذه جميع ما قالته طوائفهم ووقع الإضراب بكل مقالة عن المتقدمة لها ليتبين اضطراب أمرهم، فهو إضراب عن جحد متقدم لأن الثاني ليس بحقيقة في نفسه، و «الأضغاث» الأخلاط وأصل الضغث القبضة المختلطة من العشب والحشيش، فشبه تخليط الحلم بذلك، وهو ما لا يتفسر ولا يتحصل، ثم حكى من قال قول شاعر وهي مقالة فرقة عامية منهم لأن نبلاء العرب لم يخف عليهم بالبديهة أن مباني القرآن ليست مباني شعر ثم حكى اقتراحهم وتمنيهم آية تضطرهم وتكون في غاية الوضوح كناقة صالح وغيرها، وقولهم كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ دال على معرفتهم بإتيان الرسل الأمم المتقدمة. وقوله تعالى: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مقدرا كلام يدل عليه المعنى، تقديره والآية التي طلبوا عادتنا أن القوم إن كفروا بها عاجلناهم. وما آمنت قرية من القرى التي نزلت بها هذه النازلة أفهذه كانت تؤمن وقوله تعالى: أَهْلَكْناها جملة في موضع الصفة ل قَرْيَةٍ
والجملة إذا اتبعت النكرات فهي صفة لها وإذا اتبعت المعارف فهي أحوال منها، وقوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا رد على فرقة منهم كانوا يستبعدون أن يبعث الله من البشر رسولا يشف على نوعه من البشر بهذا القدر من الفضل، فمثل الله تعالى في الرد عليهم بمن سبق من الرسل من البشر، وقرأ الجمهور «يوحى» على بناء الفعل للمفعول، وقرأ حفص عن عاصم «نوحي» بالنون، ثم أحالهم على سؤال أَهْلَ الذِّكْرِ من حيث لم يكن عند قريش كتاب ولا إثارة من علم، واختلف الناس في أَهْلَ الذِّكْرِ من هم، فروى عبد الله بن سلام أنه قال أنا من أهل الذكر، وقالت فرقة هم أهل القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا موضع ينبغي أن يتأمل، وذلك أن الذكر هو كل ما يأتي من تذكير الله تعالى عباده فأهل القرآن أهل ذكر، وهذا ما أراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأما المحال على سؤالهم في هذه الآية فلا يصح أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خصومهم، وإنما أحيلوا على سؤال أخبار أهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لهم على ترك الإيمان بمحمد عليه السلام فتجيء شهادتهم بأن الرسل قديما من البشر لا مطعن فيها لازمة لكفار قريش وقوله تعالى: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً قيل الجسد من الأشياء يقع على ما لا يتغذى، ومنه قوله تعالى: عِجْلًا جَسَداً [الأعراف: ١٤٨].
فمعنى هذا ما جعلناهم أجسادا لا تتغذى، وقيل الجسد يعم المتغذي وغير المتغذي. والمعنى ما جعلناهم أجسادا وجعلناهم مع ذلك لا يأكلون الطعام كالجمادات أو كالملائكة، ف جَعَلْناهُمْ جَسَداً على التأويل الأول منفي، وعلى الثاني موجب، والنفي واقع على صفته. وقوله تعالى: لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ كناية عن الحدث، ثم نفى عنهم الخلد لأنه من صفات القديم وكل محدث فغير خالد في دار الدنيا.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩ الى ١٢]
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢)
هذا وعيد في ضمن وصفه تعالى سيرته في الأنبياء من أنه يصدق مواعيدهم فكذلك يصدق لمحمد عليه السلام ولأصحابه ما وعدهم من النصر وظهور الكلمة وقوله تعالى: وَمَنْ نَشاءُ معناه من المؤمنين بهم، و «المسرفون» الكفار المفرطون في غيهم وكفرهم وكل من ترك الإيمان مفرط مسرف، ثم وبخهم تعالى بقوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا الآية و «الكتاب» القرآن. وقوله تعالى: فِيهِ ذِكْرُكُمْ يحتمل أن يكون في الذكر الذي أنزله الله تعالى إليكم بأمر دينكم وآخرتكم ونجاتكم من عذابه، فأضاف الذكر إليهم حيث هو في أمرهم ويحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الآية. كما تذكر عظام الأمور، وفي هذا تحريض ثم تأكد التحريض بقوله أَفَلا تَعْقِلُونَ وحركهم ذلك إلى النصر، ثم مثل لهم على جهة التوعد بمن سلف من الأمم المعذبة، وكَمْ للتكثير وهي في موضع نصب ب قَصَمْنا ومعناه أهلكنا، وأصل القصم الكسر في الأجرام فإذا استعير للقوم أو القرية ونحوه فهو
ما يشبه الكسر وهو إهلاكهم وأوقع هذه الأمور على «القرية» والمراد أهلها وهذا مهيع كثير، ومنه ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ [الأنبياء: ٦] وغيره وقوله تعالى: وَأَنْشَأْنا أي خلقنا وبثثنا أمة أخرى غير المهلكة، وقوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا وصف عن قرية من القرى المجملة أولا قيل كانت باليمن تسمى حصورا بعث الله تعالى إلى أهلها رسولا فقتلوه، فأرسل الله تعالى بخت نصر صاحب بني إسرائيل فهزموا جيشه مرتين، فنهض في الثالثة بنفسه فلما مزقهم وأخذ القتل فيهم ركضوا هاربين، ويحتمل أن لا يريد بالآية قرية بعينها وأنه واصف حال كل قرية من القرى المعذبة وأن أهل كل قرية كانوا إذا أحسوا العذاب من أي نوع كان أخذوا في الفرار. وأَحَسُّوا باشروه بالحواس، و «الركض» تحريك القدم على الصفة المعهودة، فالفار والجاري بالجملة راكض إما دابة وإما الأرض تشبيها بالدابة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٣ الى ١٦]
لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦)
يحتمل قوله تعالى: لا تَرْكُضُوا إلى آخر الآية أن يكون من قول رجال بخت نصر على الرواية المتقدمة فالمعنى على هذا أنهم خدعوهم واستهزؤوا بهم بأن قالوا للهاربين منهم لا تفروا وَارْجِعُوا إلى مواضعكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ صلحا أو جزية أو أمرا يتفق عليه، فلما انصرفوا أمر بخت نصر أن ينادى فيهم يا لثارات النبي المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم ع، هذا كله مروي، ويحتمل أن يكون لا تَرْكُضُوا إلى آخر الآية من كلام ملائكة العذاب، على التأويل الآخر أن الآيات وصف قصة كل قرية وأنه لم يرد تعيين حصورا ولا غيرها، فالمعنى على هذا أن أهل هذه القرى كانوا باغترارهم يرون أنهم من الله تعالى بمكان وأنه لو جاءهم عذاب أو أمر لم ينزل بهم حتى يخاصموا أو يسألوا عن وجع تكذيبهم لنبيهم فيحتجون هم عند ذلك بحجج تنفعهم في ظنهم، فلما نزل العذاب دون هذا الذي أملوه وركضوا فارين نادتهم الملائكة على وجه الهزء بهم لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ كما كنتم تطمعون بسفه آرائكم، ثم يكون قوله حَصِيداً أي بالعذاب تركضوا كالحصيد، و «الإتراف» التنعيم، ودَعْواهُمْ معناه دعاؤهم وكلامهم أي لم ينطقوا بغير التأسف، والحصيد يشبه بحصيد الزرع بالمنجل الذي ردهم الهلاك كذلك، وخامِدِينَ أي موتى دون أزواج مشبهين بالنار إذا طفيت، ولما فرغ وصف هذا الحال وضع الله تعالى السامعين بقوله وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي ظن هؤلاء الذين نزل بهم ما نزل وكما تظنون أنتم أيها الكفرة الآن ففي الآية وعيد بهذا الوجه والمعنى إنما خلقنا هذا كله ليعتبر به وينظر فيه ويؤمن بالله بحسبه، قال بعض الناس تُسْئَلُونَ معناه تفهمون وتفقهون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ، وقالت فرقة تُسْئَلُونَ معناه شيئا من أموالكم وعرض دنياكم على وجه الهزء.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٧ الى ١٨]
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)
ظاهر هذه الآية الرد على من قال من الكفار أمر مريم وما ضارعه من الكفر تعالى الله عن قول المبطلين، و «اللهو» في هذه الآية المرأة وروي أنها في بعض لغات العرب تقع على الزوجة، وأَنْ في قوله إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ يحتمل أن تكون الشرطية بمعنى لو كنا أي ولسنا كذلك، وللمتكلمين هنا اعتراض وانفصال ويحتمل أن تكون نافية بمعنى ما وكل هذا قد قيل، و «الحق» عام في القرآن والرسالة والشرع وكل ما هو حق، والْباطِلِ أيضا عام كذلك ويدمغه معناه يصيب دماغه وذلك مهلك في البشر فكذلك الحق يهلك الباطل، والْوَيْلُ الخزي والهم وقيل هو اسم واد في جهنم فهو المراد في هذه الآية وهذه مخاطبة للكفار الذين وصفوا الله تعالى بما لا يجوز عليه ولا يليق به تعالى الله عن قولهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
قوله تعالى: وَلَهُ يحتمل أن يكون ابتداء كلام يحتمل أن يكون معادلا لقوله وَلَكُمُ الْوَيْلُ [الأنبياء: ١٨] كأنه تقسيم الأمر في نفسه أي للمختلقين هذه المقالة الويل ولله تعالى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واللام في لَهُ لام الملك، وقوله تعالى: مَنْ فِي السَّماواتِ يعم الملائكة والنبيين وغيرهم، ثم خصص من هذا العموم من أراد تشريفه من الملائكة بقوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لأن «عند» هنا ليست في المسافات إنما هي تشريف في المنزلة فوصفهم تعالى بأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادة الله ولا يسأمونها ولا يكلون فيها. والحسير من الإبل المعيي ومنه قول الشاعر: [الطويل].
لهن الوجى لم يكن عونا على النوى ولا كان منها طالع وحسير
وحسر واستحسر بمعنى واحد، وهذا موجود في كثير من الأفعال وإن كان الباب في استفعل أن يكون لطلب الشيء، وقوله تعالى: لا يَفْتُرُونَ، روي عن كعب الأحبار أنه قال جعل الله التسبيح كالنفس وطرف العين للبشر منهم دائبا دون أن يلحقهم فيه سآمة، وقال قتادة ذكر لنا أن رسول الله ﷺ بينما هو جالس مع أصحابه إذ قال «أتسمعون ما أسمع» قالوا: ما نسمع من شيء يا رسول الله، قال «إني لأسمع أطيط السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع راحة إلا وفيه ملك ساجد أو قائم».
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
77
هذه أَمِ التي هي بمنزلة ألف الاستفهام، وهي هاهنا تقرير وتوقيف، ومذهب سيبويه أنها بمنزلة بل مع ألف الاستفهام، كأن في القول إضرابا عن الأول ووقفهم الله تعالى هل اتَّخَذُوا آلِهَةً يحيون ويخترعون، أي ليست آلهتكم كذلك فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة. وقرأت فرقة «ينشرون» بضم الياء بمعنى يحيون غيرهم، وقرأت فرقة «ينشرون» بمعنى يحيونهم وتدوم حياتهم يقال نشر الميت وأنشره الله تعالى، ثم بين تعالى أمر التمانع بقوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض ويذهب بما خلق، واقتضاب القول في هذا أن الإلهين لو فرضا فوقع بينهما الاختلاف في تحريك جرم وتسكينه فمحال أن تتم الإرادتان ومحال أن لا تتم جميعا، وإذا تمت الواحدة كان صاحب الأخرى عاجزا، وهذا ليس بإله، وجواز الاختلاف عليهما بمنزلة وقوعه منهما ونظر آخر وذلك أن كل جزء يخرج من العدم إلى الوجود فمحال أن يتعلق به قدرتان، فإذا كانت قدرة أحدهما موجدة بقي الآخر فضلا لا معنى له في ذلك الجزء، ثم يتمادى النظر هكذا جزءا جزءا ثم نزه تعالى نفسه عما وصفه أهل الجهالة والكفر، ثم وصف نفسه تعالى بأنه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهذا وصف يحتمل معنيين: إما أن يريد أنه بحق ملكه وسلطانه لا يعارض ولا يسأل عن شيء يفعله إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء، وإما أن يريد أنه محكم الأفعال واضع كل شيء موضعه فليس في أفعاله موضع سؤال ولا اعتراض، وهؤلاء من البشر يسألون لهاتين العلتين لأنهم ليسوا مالكين ولأنهم في أفعالهم خلل كثير، ثم قررهم تعالى ثانية على اتخاذ الآلهة، وفي تكرار هذا التقرير مبالغة في نكره وبيان فساده، وفي هذا التقرير زيادة على الأول وهي قوله تعالى: مِنْ دُونِهِ فكأنهم قررهم هنا على قصد الكفر بالله عز وجل، ثم دعاهم إلى الحجة والإتيان بالبرهان. وقوله تعالى: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يحتمل أن يريد به هذا جميع الكتب المنزلة قديمها وحديثها، أي ليس فيها برهان على اتخاذ آلهة من دون الله، بل فيها ضد ذلك، ويحتمل أن يريد هذا القرآن والمعنى فيه ذكر الأولين والآخرين، فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم وردهم على طريق النجاة، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم، ومعنى الكلام على هذا التأويل عرض القرآن في معرض البرهان أي هاتُوا بُرْهانَكُمْ فهذا برهاني أنا ظاهر في ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي وقرأت فرقة «هذا ذكر من» «وذكر من» بالإضافة فيهما، وقرأت فرقة «هذا ذكر من» بالإضافة «وذكر من قبلي» بتنوين «ذكر» الثاني وكسر الميم من قوله تعالى: مَنْ قَبْلِي وقرأ يحيى بن سعيد وابن مصرف بالتنوين في «ذكر من» في الموضعين وكسر الميم من قوله «من» في الموضعين، وضعف أبو حاتم هذه القراءة كسر الميم في الأولى ولم ير لها وجها، ثم حكم عليهم تعالى بأن أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ لإعراضهم عنه وليس المعنى فَهُمْ مُعْرِضُونَ لأنهم لا يعلمون بل المعنى فَهُمْ مُعْرِضُونَ ولذلك لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وقرأ الحسن وابن محيصن «الحق» بالرفع على معنى هذا القول هو الحق والوقف على هذه القراءة على لا يَعْلَمُونَ.
78
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)
لما أخبرهم تعالى أنهم لا يعلمون الحق لإعراضهم أتبع ذلك بإعلامهم أنه ما أرسل قط رسولا إلا أوحى إليه أن الله تعالى فرد صمد، وهذه عقيدة لم تختلف فيها النبوات، وإنما اختلفت في الأحكام. وقرأ حمزة والكسائي «نوحي» بنون مضمومة، وقرأ الباقون «يوحى» بياء مضمومة. واختلف عن عاصم ثم عدد بعد ذلك نوعا آخر من كفرهم وذلك أنهم مع اتخاذهم آلهة كانوا يقربون بالله تعالى هو الخالق الرازق إلا أنهم قال بعضهم اتخذ الملائكة بنات، وقال نحو هذه المقالة النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام، واليهود في عزير، فجاءت هذه الآية رادة على جميعهم منبهة عليهم، ثم نزه تعالى نفسه عن مقالة الكفرة وأضرب عن مقالهم ونص ما هو الأمر في نفسه بقوله بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ وهذه عبارة تشمل الملائكة وعزيرا وعيسى. وقوله تعالى: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ عبارة عن حسن طاعتهم ومراعاتهم لامتثال الأمر، وقوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي ما تقدم من أفعالهم وأعمالهم، والحوادث التي لها إليهم تنسب وما تأخر، ثم أخبر تعالى أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله أن يشفع له، قال بعض المفسرين لأهل لا إله إلا الله، «والمشفق» البالغ في الخوف المحترق من الفزع على أمر ما.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)
المعنى من يقل منهم كذا أن لو قاله وليس منهم من قال هذا، وقال بعض المفسرين المراد بقوله وَمَنْ يَقُلْ الآية، إبليس.
قال القاضي أبو محمد: هذا ضعيف لأن إبليس لم يرو قط أنه ادعى ربوبية، وقرأ الجمهور «نجزيه» بفتح النون، وقرأ أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد «نجزيه» بضم النون والهاء ووجهها أن المعنى نجعلها تكتفي به من قولك أجزاني الشيء ثم خففت الهمزة ياء. وقوله تعالى: كَذلِكَ أي كجزائنا هذا القائل جزاؤنا الظالمين، ثم وقفهم على عبرة دالة على وحدانية الله جلت قدرته، و «الرتق» الملتصق بعضه ببعض المبهم الذي لا صدع فيه ولا فتح ومنه امرأة رتقاء، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما فقالت فرقة كانت السماء ملتصقة بعضها ببعض والأرضون كذلك ففتقهما الله تعالى سبعا
سبعا، وعلى هذين القولين ف «الرؤية» الموقف عليها رؤية القلب، وقالت فرقة السماء قبل المطر رتق والأرض قبل النبات رتق ففتقهما تعالى بالمطر والنبات، كما قال الله تعالى وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق: ١١- ١٢] وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بين ويناسب قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي من الماء الذي أوجده الفتق فيظهر معنى الآية ويتوجه الاعتبار، وقالت فرقة السماء والأرض رتق بالظلمة وفتقهما الله تعالى بالضوء ع و «الرؤية» على هذين القولين رؤية العين، والْأَرْضَ هنا اسم الجنس فهي جمع، وقرأ الجمهور «رتقا» بسكون التاء، والرتق مصدر وصف به كالزور والعدل، وقرأ الحسن والثقفي وأبو حيوة «كانتا رتقا» بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالنفض والنفض والخبط والخبط وقال كانتا من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شيم. ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا.
وقوله كانَتا في القولين الأولين بمنزلة قولك كان زيد حيا، أي لم يكن، وفي القولين الآخرين بمنزلة قولك كان زيدا عالما أي وهو كذلك، وقرأ ابن كثير وحده «ألم ير» بإسقاط الواو. وقوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ بين أنه ليس على عموم فإن الملائكة والجن قد خرجوا عن ذلك، ولكن الوجه أن يحمل على أعم ما يمكن فالحيوان أجمع والنبات على أن الحياة فيه مستعارة داخل في هذا، وقالت فرقة المراد ب «الماء» المني في جميع الحيوان، ثم وقفهم على ترك الإيمان توبيخا وتقريعا.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
«الرواسي» جمع راسية أي ثابتة يقال رسا يرسو إذا ثبت واستقر ولا يستعمل إلا في الأجرام الكبار كالجبال والسفينة ونحوه، ويروى أن الأرض كانت تكفأ بأهلها حتى ثقلها الله تعالى بالجبال فاستقرت، و «الميد» التحرك، و «الفجاج» الطرق المتسعة في الجبال وغيرها، وسُبُلًا جمع سبيل، والضمير في قوله تعالى: فِيها يحتمل أن يعود على الرواسي ويحتمل أن يعود على الْأَرْضِ وهو أحسن، ويَهْتَدُونَ معناه في مسالكهم وتصرفهم، و «السقف» ما علا، و «الحفظ» هنا عام في الحفظ من الشياطين ومن الرمي وغير ذلك من الآفات، وآياتِها كواكبها وأمطارها، والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك مما يشبه، وقرأت فرقة «وهم عن آيتها» بالإفراد الذي يراد به الجنس، و «الفلك» الجسم الدائر دورة اليوم والليلة فالكل في ذلك سابح متصرف، وعن بعض المفسرين أن الكلام فيما هو الفلك فقال بعضهم كحديد الرحى، وقال بعضهم كالطاحونة مما لا ينبغي التسور عليه، غير أنا نعرف أن الفلك جسم يستدير.
ويَسْبَحُونَ معناه يتصرفون، وقالت فرقة «الفلك» موج مكفوف ورأوا قوله يَسْبَحُونَ من السباحة وهو العوم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)
قيل إن سبب هذه الآية أن بعض المسلمين قال إن محمدا لن يموت وإنما هو مخلد فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكره ونزلت هذه الآية والمعنى لم نخلد أحدا ولا أنت لا نخلدك وينبغي أن لا ينتقم أحد من المشركين عليك في هذا أهم مخلدون إن مت أنت فيصح لهم انتقام، وقيل إن سبب الآية أن كفار مكة طعنوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه بشر وأنه يأكل الطعام ويموت فكيف يصح إرساله فنزلت الآية رادة عليهم، وألف الاستفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط وقدمت في أول الجملة لأن الاستفهام له صدر الكلام والتقدير أفهم الْخالِدُونَ إن مت، والفاء في قوله «فإن» عاطفة جملة على جملة، وقرأت فرقة «مت» بضم الميم، وفرقة «مت» بكسرها، وقوله كُلُّ نَفْسٍ عموم يراد به الخصوص، والمراد كل نفس مخلوفة، و «الذوق» هاهنا مستعار، وَنَبْلُوكُمْ معناه نختبركم وقدم الشر لأن الابتداء به أكثر ولأن العرب من عادتها أن تقدم الأقل والأردى فمنه قوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً [الكهف: ٤٩] ومنه قوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: ٣٢] فبدأ في تقسيم أمة محمد بالظلم وقال الطبري عن ابن عباس أنه جعل الْخَيْرِ و «الشر» هنا عاما في الغنى والفقر والصحة والمرض والطاعة والمعصية والهدى والضلالة.
قال القاضي أبو محمد: إن المراد من الْخَيْرِ و «الشر» هنا ما يصح أن يكون فتنة وابتلاء وذلك خير المال وشره وخير الدنيا في الحياة وشرها، وأما الهدى والضلال فغير داخل في هذا ولا الطاعة ولا المعصية لأن من هدى فليس نفس هداه اختبار بل قد تبين خبره، فعلى هذا ففي الخير والشر ما ليس فيه اختبار، كما يوجد أيضا اختبار بالأوامر والنواهي، وليس بداخل في هذه الآية. وفِتْنَةً معناه امتحانا وكشفا، ثم أخبر عز وجل عن الرجعة إليه والقيام من القبور، وفي قوله وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ وعيد، وقرأت فرقة «ترجعون» بضم التاء، وقرأت فرقة «ترجعون» بفتحها، وقرأت فرقة «يرجعون» بالياء مضمومة على الخروج من الخطاب إلى الغيبة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
روي أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المسجد
81
فاستهزآ به فنزلت الآية بسببهما، وظاهر الآية أن كفار قريش وعظماءهم يعمهم هذا المعنى من أنهم ينكرون أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمر آلهتهم وذكره لهم بفساد، وإِنْ بمعنى ما وفي الكلام حذف تقديره يقولون أَهذَا الَّذِي وقوله يَذْكُرُ لفظة تعم المدح والذم لكن قرينة المقال أبدا تدل على المراد من الذكر وتم ما حكي عنهم في قوله تعالى: آلِهَتَكُمْ، ثم رد عليهم بأن قرن بإنكارهم ذكر الأصنام كفرهم بذكر الله أي فهم أحق وهم المخطئون. وقوله تعالى: بِذِكْرِ أي بما يجب أن يذكر به ولا إله إلا الله منه.
وقوله بِذِكْرِ الرَّحْمنِ روي أن الآية نزلت حين أنكروا هذه اللفظة وقالوا ما نعرف الرحمن إلا في اليمامة، وظاهر الكلام أن الرحمن قصد به العبارة عن الله تعالى كما لو قال وَهُمْ بِذِكْرِ الله وهذا التأويل أغرق في ضلالهم وخطاهم. وقوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، توطئة للرد عليهم في استعجالهم العذاب وطلبهم آية مقترحة وهي مقرونة بعذاب مجهز إن كفروا بعد ذلك، ووصف تعالى الإنسان الذي هو اسم الجنس بأنه «خلق من عجل» وهذا على جهة المبالغة كما تقول للرجل البطال أنت من لعب ولهو وكما قال رسول الله ﷺ «لست من دد ولا دد مني»، وهذا نحو قول الشاعر:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه تلقي اللسان على الفم
كأنه مما كانوا أهل ضرب الهام، وملازمة الضرب قال إنهم من الضرب ع وهذا التأويل يتم به معنى الآية المقصود في أن ذمت عجلتهم وقيل لهم على جهة الوعيد إن الآيات ستأتي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ إنه على المقلوب كأنه أراد خلق العجل من الإنسان على معنى أنه جعل طبيعة من طبائعه وجزءا من أخلاقه ع وهذا التأويل ليس فيه مبالغة وإنما هو إخبار مجرد وإنما حمل قائليه عليه عدمهم وجه التجوز والاستعارة في أن يبقى الكلام على ترتيبه ونظير هذا القلب الذي قالوه قول العرب: إذا طلعت الشعرى استوى العود على الحرباء، وكما قالوا عرضت الناقة على الحوض وكما قال الشاعر: [البسيط]
حسرت كفي على السربال آخذه فردا يخر على أيدي المفدينا
وأما المعنى في تأويل من رأى الكلام من المقلوب فكالمعنى الذي قدمناه، وقالت فرقة من المفسرين قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ إنما أراد أن آدم عليه السلام خلقه الله تعالى في آخر ساعة من يوم الجمعة فتعجل به قبل مغيب الشمس، وروى بعضهم أن آدم عليه السلام قال يا رب أكمل خلقي فإن الشمس على الغروب أو غربت ع وهذا قول ضعيف ومعناه لا يناسب معنى الآية، وقالت فرقة العجل الطين والمعنى خلق آدم من طين. وأنشد النقاش: والنخل ينبت بين الماء والعجل. وهذا أيضا ضعيف ومعناه مباين لمعنى الآية، وقالت فرقة معنى قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي بقوله كن فهو حال عجلة وهذا أيضا ضعيف وفيه تخصيص ابن آدم بشيء كل مخلوق يشاركه فيه، وليس في هذه الأقوال ما يصح معناه ويلتئم مع الآية إلا القول الأول، وقرأت فرقة «خلق» على بناء الفعل للمفعول، وقرأت فرقة «خلق الإنسان» على معنى خلق الله الإنسان، فمعنى الآية بجملتها خلق الإنسان من عجل على معنى التعجب من تعجل
82
هؤلاء المقصودين بالرد، ثم توعدهم بقوله سَأُرِيكُمْ آياتِي أي سآتي ما يسوءكم إذا دمتم على كفركم، يريد يوم بدر وغيره، ثم فسر استعجالهم بقولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وكأن استفهامهم على جهة الهزء والتكذيب، وقوله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يريدون محمدا ﷺ ومن آمن به لأن المؤمنين كانوا يتوعدونهم على لسان الشرع وموضع مَتى رفع عند البصريين وقال بعض الكوفيين موضعه نصب على الظرف والعامل فعل مقدر تقديره يكون أو يجيء والأول أصوب.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
حذف جواب لَوْ إيجازا لدلالة الكلام عليه وأبهم قدر العذاب لأنه أبلغ وأهيب من النص عليه وهذا محذوف نحو قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ [الرعد: ٣١]، ويقدر المحذوف في جواب هذه الآية لما استعجلوه ونحوه، وقوله حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ يريد يوم القيامة، وذكر «الوجوه» خاصة لشرفها من الإنسان وأنها موضع حواسه وهو أحرص على الدفاع عنه، ثم ذكر «الظهور» ليبين عموم النار لجميع أبدانهم، وقوله بَلْ تَأْتِيهِمْ استدراك مقدر قبله نفي تقديره أن الآيات لا تأتي بحسب اقتراحهم بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً، والضمير للساعة التي تصيرهم إلى العذاب ويحتمل أن يكون ل النَّارَ، وقرأت فرقة «يأتيهم» بالياء على أن الضمير للوعد «فيبهتهم» بالياء أيضا، والبغتة الفجأة من غير مقدمة، ويُنْظَرُونَ معناه يؤخرون ثم آنس تعالى محمدا ﷺ بما جرى على سائر الأنبياء من استهزاء قومهم بهم وحلول العذاب بالمستهزئين، و «حاق» معناه نزل وحل وهي مستعملة في العذاب والمكاره، وقوله ما كانُوا فيه محذوف تقديره جزاء ما كانوا أو نحوه ومع هذا التأنيس الذي لمحمد ﷺ وعيد للكفرة وضرب مثل لهم بمن سلف من الأمم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤)
المعنى قُلْ يا محمد لهؤلاء الكفرة المستهزئين بك وبما جئت به الكافرين بذكر الرحمن
الجاهلين به قل لهم على جهة التوبيخ والتقريع من يحفظكم، و «كلأ» معناه حفظ ومنه قول النبي ﷺ لبلال «اكلأ لنا الفجر» وفي آخر الكلام تقدير محذوف كأنه قال ليس لهم مانع ولا كالىء وعلى هذا النفي تركبت بَلْ في قوله بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ثم يقضي عليهم التقدير في أنه لا مانع لهم من الله بأن كشف أمر آلهتهم والمعنى أيظنون أن آلهتهم التي هي بهذه الصفة تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا بل ما يمنعهم أحد إلا نحن، وقوله تعالى: وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ يحتمل تأويلين أحدهما يجارون ويمنعون، والآخر وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ بخير ولا تزكية ونحو هذا، وفي الكلام تقدير بعد محذوف كأنه قال ليس ثم شيء من هذا كله بل ضل هؤلاء لأنا متعناهم ومتعنا آباءهم فنسوا عقاب الله وظنوا أن حالهم لا تبيد والمعنى طالَ الْعُمُرُ في رخاء ثم وقفهم الله تعالى على مواضع العبر في الأمم وفي البشر بحسب الخلاف والأطراف، والرؤية في قوله يَرَوْنَ رؤية العين تتبعها رؤية القلب، ونَأْتِي معناه بالقدرة والبأس، والْأَرْضَ عامة في الجنس. وقوله مِنْ أَطْرافِها إما أن يريد فيما يخرب من المعمور فذلك نقص للأرض وإما أن يريد موت البشر فهو تنقص للقرون ويكون المراد حينئذ نأتي أهل الأرض، وقال قوم النقص من الأطراف موت العلماء ثم وقفهم على جهة التوبيخ أهم يعلمون من غلب أهل الأرض قهر الكل بسلطانه وعظمته أي إن ذلك محال بين بل هم مغلوبون مقهورون.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦)
المعنى قُلْ أيها المقترحون المتشططون إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بوحي يوحيه الله إلى وبدلالات على العبر التي نصبها الله تعالى لينظر فيها كنقصان الأرض من أطرافها وغيره ولم أبعث بآية مضطرة ولا ما تقترحون، ثم قال وَلا يَسْمَعُ بمعنى وأنتم معرضون عما أنذر به فهو غير نافع لكم ومثل أمرهم ب الصُّمُّ، وقرأ جمهور القراء «ولا يسمع» بالياء وإسناد الفعل إلى الصّم وقرأ ابن عامر وحده «ولا تسمع» بضم التاء وكسر الميم ونصب «الصمّ»، وقرأت فرقة «ولا تسمع» بتاء مضمومة وفتح الميم وبناء الفعل للمفعول والفرقتان نصبت الدُّعاءَ، وقرأت فرقة «ولا يسمع الصم الدعاء» بإضافة «الصم» إلى «الدعاء» وهي قراءة ضعيفة وإن كانت متوجهة، ثم خاطب تعالى محمدا ﷺ متوعدا لهم بقوله وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ، والنفحة الخطرة والمسة كما تقول نفح بيده إذا قال بها هكذا ضاربا إلى جهة، ومنه نفحة الطيب كأنه يخطر خطرات على الحاسة، ومنه نفح له من عطايا إذا أجراه منها نصيبا، ومنه نفح الفرس برجله إذا ركض، والمعنى ولئن مس هؤلاء الكفرة صدمة عذاب في دنياهم ليندمن وليقرن بظلمهم.
قوله عز وجل:

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]

وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
لما توعدهم بنفحة من عذاب الدنيا عقب ذلك بتوعد بوضع الْمَوازِينَ وإنما جمعها وهو ميزان واحد من حيث لكل أحد وزن يخصه ووحد الْقِسْطَ وهو جاء بلفظ الْمَوازِينَ مجموعا من حيث الْقِسْطَ مصدر وصف به كما تقول قوم عدل ورضى وقرأت فرقة «القصط» بالصاد، وقوله تعالى: لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي لحساب يوم القيامة أو لحكم يوم القيامة فهو بتقدير حذف مضاف والجمهور على أن الميزان في يوم القيامة بعمود وكفتين توزن به الأعمال ليبين المحسوس المعروف عندهم، والخفة والثقل متعلقة بأجسام ويقرنها الله تعالى يومئذ بالأعمال فإما أن تكون صحف الأعمال أو مثالات تخلق أو ما شاء الله تعالى. وقرأ نافع وحده «مثقال» بالرفع على أن تكون كانَ تامة، وقرأ جمهور الناس «مثقال» بالنصب على معنى وإن كان الشيء أو العمل، وقرأ الجمهور «أتينا» على معنى جئنا، وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما «آتينا» على معنى «وآتينا» من المواتاة ولا يقدر تفسير آتينا بأعطينا لما تعدت بحرف جر.
قال القاضي أبو محمد: ويوهن هذه القراءة أن بدل الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف وإنما يعرف ذلك في المضمومة والمكسورة، وفي قوله وَكَفى بِنا حاسِبِينَ توعد، ثم عقب بالتمثيل بأمر موسى عليه السلام، والْفُرْقانَ فيما قالت فرقة التوراة وهي الضياء والذكر، وقرأ ابن كثير وحده «ضيئاء» بهمزتين قبل الألف وبعدها، وقرأ الباقون «ضياء» بهمزة واحدة بعد الألف، وقرأ ابن عباس «ضياء» بغير واو وهي قراءة عكرمة والضحاك وهذه القراءة تؤيد قول من قال المراد بذلك كله التوراة، وقالت فرقة الْفُرْقانَ هو ما رزقه الله من نصر وظهور حجة وغير ذلك مما فرق بين أمره وأمر فرعون، و «الضياء» التوراة و «الذكر» بمعنى التذكرة، وقوله تعالى: بِالْغَيْبِ يحتمل ثلاث تأويلات أحدها في غيبهم وخلواتهم وحيث لا يطلع عليهم أحد وهذا أرجحها، والثاني أنهم يخشون الله تعالى على أن أمره تعالى غائب وإنما استدلوا بدلائل لا بمشاهدة، والثالث أنهم يخشون الله ربهم بما أعلمهم به مما غاب عنهم من أمر آخرتهم ودنياهم. و «الإشفاق» أشد الخشية والسَّاعَةِ القيامة، وقوله تعالى: وَهذا إشارة إلى القرآن، وأَنْزَلْناهُ إما أن يكون بمعنى أتيناه كما تقول أنزل السلطان فلانا بمكان كذا إذا أثبته له، وإما أن يتعلق النزول بالملك، ثم وقفهم الله تعالى تقريرا وتوبيخا هل يصح لهم إنكار بركته وما فيه من الدعاء إلى الله تعالى وإلى صالح العمل.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٥٨]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)
الرشد عام في هدايته إلى رفض الأصنام وفي هدايته في أمر الكوكب والشمس والقمر وغير ذلك من النبوءة فما دونها، وقال بعضهم معناه وفق للخير صغيرا وهذا كله متقارب، ومِنْ قَبْلُ معناه من قبل موسى وهارون، فبهذه الإضافة هو قبل كما هي نسبة نوح منه، قوله وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ مدح ل إِبْراهِيمَ أي بأنه يستحق ما أهل له وهذا نحو قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] والعامل في إِذْ قوله آتَيْنا والتَّماثِيلُ الأصنام لأنها كانت على صورة الإنسان من خشب، و «العكوف» الملازمة للشيء وقوله فَطَرَهُنَّ عبارة عنها كأنها تعقل وهذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد وصفت من مواضع بما يوصف به من يعقل، وقوله تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ الآية، روي أنه حضرهم عيد لهم فعزم قوم منهم على إبراهيم في حضوره طمعا منهم أن يستحسن شيئا من أخبارهم فمشى معهم فلما كان في الطريق أثنى عزمه على التخلف عنهم فقعد وقال لهم إني سقيم فمر به جمهورهم ثم قال في خلوة من نفسه وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وسمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس، وقوله بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ معناه إلى عيدهم ثم انصرف إبراهيم عليه السلام إلى بيت أصنامهم فدخله ومعه قدوم فوجد الأصنام وقفت أكبرها أول ثم الذي يليه فالذي يليه وقد جعلوا أطعمتهم في ذلك اليوم بين يدي الأصنام تبركا لينصرفوا من ذلك العيد إلى أكله، فجعل عليه السلام يقطعها بذلك القدوم حتى أفسد أشكالها كلها حاشى الكبير فإنه تركه بحاله وعلق القدوم من يده وخرج عنها، وجُذاذاً معناه قطعا صغارا، والجذ القطع. وقرأ الجمهور «جذاذا» بضم الجيم، وقرأ الكسائي وحده بكسرها، وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال بفتحها وهي لغات والمعنى واحد، وقوله فَجَعَلَهُمْ ونحوه معاملة للأصنام بحال من يعقل من حيث كانت تعبد وتنزل منزلة من يعقل، والضمير في إِلَيْهِ أظهر ما فيه أنه عائد على «إبراهيم» أي فعل هذا كله توخيا منه أن يعقب ذلك منهم رجعة إليه وإلى شرعه ويحتمل أن يعود الضمير على الكبير المتروك ولكن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)
المعنى فانصرفوا من عيدهم فرأوا ما حدث بآلهتهم فأكبروا ذلك وحينئذ قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا على جهة البحث والإنكار، وقالُوا الثانية الضمير فيها للقوم الضعفة الذي سمعوا إبراهيم حين قال وَتَاللَّهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ
[الأنبياء: ٥٧] واختلف في وجه رفع قوله إِبْراهِيمُ فقالت فرقة هو مرتفع بتقدير النداء كأنهم أرادوا الذي يقال له عند ما يدعى يا إبراهيم، وقالت فرقة رفعة على إضمار الابتداء تقديره هو إبراهيم.
قال القاضي أبو محمد: والأول أرجح، وقال الأستاذ أبو الحجاج الإشبيلي الأعلم هو رفع على الإهمال ع لما رأى وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه ذهب إلى رفعه بغير شيء كما قد يرفع التجرد والعرو عن العوامل الابتداء ع والوجه عندي أنه مفعول لم يسم فاعله على أن يجعل إبراهيم غير دال على الشخص بل تجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة وهذا كما تقول زيد وزن فعل أو زيد ثلاثة أحرف فلم تدخل بوجه على الشخص بل دللت بنطقك على نفس اللفظة وعلى هذه الطريقة تقول قلت إبراهيم ويكون مفعولا صحيحا أنزلته منزلة قول وكلام فلا يتعذر بعد ذلك أن بني الفعل للمفعول، وقوله عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ يريد في الحفل وبمحضر الجمهور، وقوله يَشْهَدُونَ يحتمل أن يراد به الشهادة عليه يريدون بفعله أو بقوله لَأَكِيدَنَّ [الأنبياء: ٥٧] ويحتمل أن يريد به المشاهدة أي يشاهدون عقوبته أو غلبته المؤدية إلى عقوبته، المعنى فجاء إبراهيم حين أوتي به فقالوا له أنت فعلت هذا بالآلهة فقال لهم إبراهيم عليه السلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا على معنى الاحتجاج عليهم أي إنه غار من أن يعبد وتعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك، وقالت فرقة هي الأكثر إن هذا الكلام قاله إبراهيم عليه السلام لأنها كذبة في ذات الله تؤدي إلى خزي قوم كافرين والحديث الصحيح يقتضي ذلك وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم، «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: قوله إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٩] وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وقوله للملك هي أختي» ثم تطرق إلى موضع خزيهم بقوله فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ على جهة التوقيف ع وذهبت فرقة إلى نفي الكذب عن هذه المقالات، وقالت فرقة معنى قول رسول الله ﷺ «لم يكذب إبراهيم» أي لم يقل كلاما ظاهره الكذب أو يشبه الكذب وذهبت إلى تخريج هذه المقالات فخرجت هذه الآية على معنى أنه أراد تعليق فعل الكبير بنطق الآخرين كأنه قال بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء ولم يخرج الخبر، على أن الكبير فعل ذلك، وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله فَسْئَلُوهُمْ وذهب الفراء إلى جهة أخرى بأن قال قوله فَعَلَهُ ليس من الفعل وإنما هو فلعله على جهة التوقع حذف اللام على قولهم عله بمعنى لعله ثم خففت اللام ع وهذا تكلف.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٤ الى ٧٠]
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨)
قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
87
المعنى فظهر لهم ما قال إبراهيم من أن الأصنام التي قد أهلوها للعبادة ينبغي أن تسأل وتستفسر «فقالوا إنكم الظالمون» في توقيف هذا الرجل على هذا الفعل وأنتم معكم من تسألون، ثم ارتكبوا في ضلالهم ورأوا بالفكرة وبديهة العقل أن الأصنام لا تنطق فسامهم ذلك حتى نطقوا عنه إلى موضع قيام الحجة عليهم، وقوله تعالى: نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ استعارة للذي يرتطم في غيه كأنه منكوس رأسه فهي أقبح هيئة للإنسان وكذلك هذا هو في أسوأ حالات النظر فقالوا لإبراهيم حين نكسوا في حيرتهم لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي فما بالك تدعو إلى ذلك فوجد إبراهيم عليه السلام عند هذه المقالة موضع الحجة ووقفهم موبخا على عبادتهم تماثيل لا تنفع بذاتها ولا تضر ثم حقر شأنها وأزرى بها في قوله أُفٍّ لَكُمْ وقرأ ابن كثير «أفّ لكم» بالفتح، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر «أف لكم» بالكسر وترك التنوين فيهما، وقرأ نافع وحفص عن عاصم «أفّ» بالكسر والتنوين وأُفٍّ لفظة تقال عند المستقذرات من الأشياء فيستعار ذلك للمكروه من المعاني كهذا وغيره فلما غلبهم إبراهيم عليه السلام من جهة النظر والحجة نكسوا رؤوسهم وأخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة ف قالُوا حَرِّقُوهُ وروي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس أي من باديتها فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ تحريض كما تقول أعزم على كذا إن كنت عازما، وروي أنهم لما أجمع رأيهم على تحريقه حبسه نمرود الملك وأمر بجمع الحطب فجمع في مدة أشهر وكان المريض يجعل على نفسه نذرا إن هو برىء أن يجمع كذا وكذا حزمة حتى اجتمع من الحطب مما تبرع به الناس ومما جلب الملك من أهل الرساتيق كالجبل من الحطب ثم أضرم نارا فلما أرادوا طرح إبراهيم فيه لم يقدروا على القرب منه، فجاءهم إبليس في صورة شيخ فقال لهم أنا أصنع لكم آلة يلقى بها في النار، فعلمهم صنعة المنجنيق، ثم أخرج إبراهيم عليه السلام فشد رباطا ووضع في كفه المنجنيق ورمي به فوقع في النار وقد قيل لها كُونِي بَرْداً وَسَلاماً فاحترق الحبل الذي ربط به فقط.
وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقال له ألك حاجة فيروى أنه قال له أما إليك فلا.
ويروى أنه قال له إني خليل وإنما أطلب حاجتي من خليلي لا من رسوله فقال الله تعالى: يا إبراهيم قطعت الواسطة بيني وبينك لأقطعنها بيني وبين النار، يا نار.
وروي أنه حين خوطبت النار خمدت كل نار في الأرض.
وروي أن الغراب كان ينقل الحطب إلى نار إبراهيم.
وروي أن الوزغة كانت تنفخ عليه لتضرم وكذلك البغل.
وروي أن العضرفوط والخطافة والضفدع كانوا ينقلون الماء لتطفأ النار فأبقى الله على هذه الوقاية وسلط الله على تلك الأخرى النوائب والأيدي وقال بعض العلماء إن الله تعالى لو لم يقل وَسَلاماً لهلك إبراهيم من برد النار.
قال القاضي أبو محمد: وقد أكثر الناس في قصص حرق إبراهيم وذكروا تحديد مدة بقائه في النار
88
وصورة بقائه ما رأيت اختصاره لقلة صحته، والصحيح من ذلك أنه ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه بَرْداً وَسَلاماً فخرج منها سالما وكانت أعظم آية.
وروي أنهم قالوا إنها نار مسحورة لا تحرق فرموا فيها شيخا منهم فاحترق.
وروي أن العيدان أينعت وأثمرت له هنالك ثمارها التي كانت أصولها، وقوله وَسَلاماً معناه وسلامة، وقال بعضهم هي تحية من الله تعالى لإبراهيم (ع) : وهذا ضعيف وكان الوجه أن يكون مرفوعا، و «الكيد» هو ما أرادوه من حرقه وكانوا في خسارة من كفرهم وغلبته لهم وحرق الشيخ الذي جربوا به النار.
وروي أن الملك بنى بناء واطلع منه على النار فرأى إبراهيم عليه السلام ومعه ناس فعجب وسأل هل طرح معه أحد فقيل له فناداه فقال من أولئك فقال هم ملائكة ربي ع والمروي في هذا كثير غير صحيح.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
روي أن إبراهيم عليه السلام لما أخرج من النار أحضره النمرود وكلمه ثم ختم الله عليه بالكفر فلج وقال لإبراهيم في بعض قوله يا إبراهيم أين جنود ربك الذي تزعم، فقال له سيريك فعل أضعف جنوده، فبعث الله تعالى على نمرود وأصحابه سحابة من بعوض، فأكلتهم عن آخرهم ودوابهم حتى كانت العظام تلوح بيضا، ودخلت منها بعوضة في رأس نمرود فكان رأسه يضرب بالعيدان ودام يعذبه بها زمانا طويلا وهلك منها وخرج إبراهيم عليه السلام وابن أخيه لوط من تلك الأرض مهاجرين وهي كوثا من العراق ومع إبراهيم ابنة عمه سارة زوجته، وفي تلك السفرة لقي الجبار الذي رام أخذها منه واختلف الناس في الْأَرْضِ التي بورك فيها ولجأ إليها إبراهيم ولوط عليهما السلام، فقالت فرقة هي مكة وذكروا قول الله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً [آل عمران: ٩٦] وقال الجمهور من أرض الشام وهي الأرض التي بارك فيها أما من جهة الآخرة فبالنبوءة وأما من جهة الدنيا ففي أطيب بلاد الله أرضا وأعذبها ماء وأكثرها ثمرة ونعمة وهو الموضع المعروف بسكنى إبراهيم وعقبه.
وروي أنه ليس في الأرض ماء عذب إلا وأصله وخروجه من تحت صخرة بيت المقدس ع وهذا ضعيف وهي أرض المحشر وبها مجمع الناس وبها ينزل عيسى ابن مريم وبها يهلك المسيح الدجال.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال يوما في خطبته: إنه كان بالشام جند وبالعراق جند وباليمن جند فقال رجل يا رسول الله خر لي فقال عليك بالشام فإن الله تعالى قد تكفل لي بالشام وأهله فمن بقي فليلحق مأمنه وليس بعدره، وقال عمر لكعب الأحبار ألا تتحول إلى المدينة، فقال يا أمير المؤمنين إني أجد في كتاب الله تعالى المنزل أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده.
وروي أن إبراهيم ولوطا هاجرا من كوثا ومرا بمصر وليست بالطريق ولكنهم نكبوا خوف الإتباع حتى جاؤوا الشام فنزل إبراهيم السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام ونزل لوط بالمؤتفكة، وإِسْحاقَ بن إبراهيم ويَعْقُوبَ ولد إسحاق و «النافلة» العطية كما تقول نفلني الإمام كذا ونافلة الطاعة كأنها عطية من الله تعالى لعباده يثيبهم عليها، وقالت فرقة الموهوب إِسْحاقَ و «النافلة» يَعْقُوبَ والأول أبين، ويَهْدُونَ معناه يرشدون غيرهم و «الإقام» مصدر وفي هذا نظر.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٤ الى ٧٧]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
التقدير وآتينا لوطا آتَيْناهُ فهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه الظاهر، و «الحكم» فصل القضاء بين الناس، والْخَبائِثَ إتيان الرجال وضراطهم في مجالسهم إلى غير ذلك من كفرهم، وقوله تعالى في نوح مِنْ قَبْلُ بالإضافة إلى إبراهيم ولوط، والْكَرْبِ الْعَظِيمِ الغرق وما نال قومه من الهلكة بدعائه عليهم الذي استجيب، وقوله تعالى: وَنَصَرْناهُ لما كان جل نصرته النجاة وكانت غلبة قومه بغير يديه بل بأمر أجنبي منه حسن أن يكون «نصرناه من» ولا يتمكن هنا «على» كما يتمكن في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، مع قومه ع وذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ضرب مثل لقصة محمد صلى الله عليه وسلم، مع قومه ونجاة الأنبياء وهلاك مكذبيهم ضمنها توعد للكفار من قريش.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩)
المعنى «واذكر داود وسليمان» هكذا قدره جماعة من المفسرين.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل عندي ويقوى أن يكون المعنى وآتينا داود عطفا على قوله تعالى:
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: ٧٤] والمعنى على هذا التأويل متسق، وَسُلَيْمانَ هو ابن داود وَداوُدَ من بني إسرائيل وكان ملكا عدلا نبيا يحكم بين الناس فوقعت بين يديه هذه النازلة، وكان ابنه إذ ذاك قد كبر وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم وكانوا يدخلون إلى داود على باب آخر
90
فتخاصم إلى داود عليه السلام رجل له زرع وقيل كرم ع والْحَرْثِ يقال فيهما وهو في الزرع أبعد عن الاستعارة، دخلت حرثه غنم رجل آخر فأفسدت عليه، فرأى داود عليه السلام أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فقالت فرقة على أن يبقى كرمه بيده، وقالت فرقة بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث، والحرث إلى صاحب الغنم ع فيشبه على هذا القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت، وعلى القول الثاني رآها تقاوم الحرث وغلته ع ولا يظن بداود عليه السلام إلا أن حكمه بنظر متوجه فلما خرج الخصمان على سليمان عليه السلام تشكى له صاحب الغنم فجاء سليمان إلى داود فقال يا نبي الله إنك حكمت بكذا وإني رأيت ما هو أوفق بالجميع، قال وما هو، قال أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل وغير ذلك فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله صرف كل واحد مال صاحبه فرجعت الغنم إلى ربها، والحرث إلى ربه، فقال داود. وفقت يا بني وقضى بينهما بذلك. ع ولا شك أن سليمان رأى أن ما يتحمله صاحب الغنم من فقد مرافق غنمه تلك المدة ومن مؤونة إصلاح الحرث يوازي ما فسد في الحرث وفضل حكمه حكم أبيه في أنه أحرز أن يبقى ملك كل واحد منهما على متاعه وتبقى نفسه بذلك طيبة ع وذهبت فرقة إلى أن هذه النازلة لم يكن الحكم فيها باجتهاد وإنما حكم داود بوحي وحكم سليمان بوحي نسخ الله تعالى به حكم داود وجعلت فرقة ومنها ابن فورك، قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أي فهمناه القضاء الفاصل الناسخ الذي أراد الله تعالى أن يستقر في النازلة ع وتحتاج هذه الفرقة في هذا اللفظة إلى هذا التعب ويبقى لها المعنى بعد قلقا، وقال جمهور الأمة إن حكمهما كان باجتهاد، وأدخل العلماء هذه الآية في كتبهم على مسألة اجتهاد العالمين فينبغي أن نذكر هنا تلخيص مسألة الاجتهاد، اختلف أهل السنة في العالمين فما زاد يفتيان من الفروع والأحكام في المسألة فيختلفان، فقالت فرقة الحق في مسائل الفروع في طرف واحد عند الله تعالى وقد نصب على ذلك أدلة وحمل المجتهدين على البحث عنها والنظر فيها، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق وله أجران أجر في الاجتهاد وأجر في الإصابة، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده، مخطئ في أن لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور، وهذا هو الذي قال النبي ﷺ فيه «إذا اجتهد العالم فأخطأ فله أجر» وكذلك أيضا يدخل في قوله عليه السلام «إذا اجتهد العالم فأخطأ»، العالم يجتهد فيخالف نصا يمر به كقول سعيد بن المسيب في النكاح إنه العقد في مسألة التحليل للزوج المطلق ونحوه وهذا يجمع بين قوله «إذا اجتهد العالم فأخطأ» وبين قوله «كل مجتهد مصيب» أي أخطأ العين المطلوب وأصاب في اجتهاده، ورأت هذه الفرقة أن العالم المخطئ لا إثم عليه في خطئه وإن كان غير معذور، وقالت فرقة الحق في طرف واحد، ولم ينصب الله تعالى عليه دليلا، بل وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه، أصابه ومن أخطأ فهو معذور ومأجور، ولم يتعبد بإصابة العين بل تعبد بالاجتهاد فقط، وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه الحق في مسائل الفروع في الطرفين وكل مجتهد مصيب والمطلوب إنما هو الأفضل في ظنه والدليل على هذه المقالة ممن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون مخالف قوله، ومنه رد مالك رحمه الله للمنصور عن حمل الناس على الموطأ إلى كثير من هذا
91
المعنى، وإذا قال عالم في أمر ما حلال فذلك هو الحق فيما يخص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله
، فأما من قال إن الحق في طرف فرأى مسألة داود وسليمان مطردة على قوله وأن سليمان صادف العين المطلوبة وهي التي فهم، ومن رأى الحق في الطرفين رأى أن سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي هي أرجح، لا أن الأولى خطأ وعلى هذا يحملون قول النبي صلى الله عليه وسلم، «إذا اجتهد العالم فأخطأ» أي فأخطأ الأفضل ع وكثير ما يكون بين الأقوال في هذه المسائل قليل تباين إلا أن ذلك الشفوف يشرف القول، وكثيرا ما يبين الفضل بين القولين بأدنى نظر ومسائل الفروع تخالف مسائل الأصول في هذا ومسألة المجتهدين في نفسها مسألة أصل، والفرق بين مسائل الفروع ومسائل الأصول أن مسائل الأصول الكلام فيها إنما هو في وجود شيء ما كيف هو كقولنا يرى الله تعالى يوم القيامة، وقالت المعتزلة لا يرى، وكقولنا الله واحد، وقالت النصارى ثلاثة، وهكذا هل للمسائل عين أو ليس لها عين مطلوبة.
ومسائل الفروع إنما الكلام فيها على شيء متقرر الوجود كيف حكمه من تحليل أو تحريم ونحو هذا، والأحكام خارجة عن ذات وجوده وإنما هي بمقاييس واستدلالات، وتعتبر مسائل الفروع بأنها كل ما يمكن أن ينسخ بعضه ببعض ومسائل الأصول ما لو تقرر الوجه الواحد لم يصح أن يطرأ الآخر ناسخا عليه.
قال القاضي أبو محمد: ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة إلا أن هذه النبذة تليق بالآية ويقتضيها حرصنا على الإيجاز، ويتعلق بالآية فصل آخر لا بد من ذكره وهو رجوع الحاكم بعد قضاء من اجتهاد إلى اجتهاد آخر أرجح من الأول، فإن داود عليه السلام، فعل ذلك في هذه النازلة، واختلف فقهاء المذهب المالكي في القاضي يحكم في قضية ثم يرى بعد ذلك أن غير ما حكم به أصوب فيريد أن ينقض الأول ويقضي بالثاني، فقال عبد الملك ومطرف في الواضحة ذلك له ما دام في ولايته، فأما إن كانت ولاية أخرى فليس ذلك له وهو بمنزلة غيره من القضاة، وهذا هو ظاهر قول مالك رحمه الله في المدونة، وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى غيره مما رآه أصوب ليس ذلك له وقاله ابن عبد الحكم قالا ويستأنف الحكم بما قوي عنده أحرى من ذي قبل، قال سحنون إلا أن يكون نسي الأقوى عنده أو وهم فحكم بغيره فله نقضه، وأما إن حكم بحكم وهو الأقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوي عنده غيره بعد ذلك فلا سبيل له إلى نقض الأول، قال سحنون في كتاب ابنه وقال أشهب في كتاب ابن المواز إن كان رجوعه إلى الأصوب في مال فله نقض الأول وإن كان في طلاق أو نكاح أو عتق فليس له نقضه، وقد تقدم القول في الْحَرْثِ روت فرقة أنه كان زرعا وروت فرقة أنه كان كرما. و «النفش» تسرب البهائم في الزرع وغيرها بالليل والهمل تسربها في ذلك بالنهار والليل، قال ابن سيده لا يقال الهمل في الغنم وإنما هو في الإبل ومضى الحكم في الإسلام بتضمين أرباب النعم ما أفسدت بالليل لأن على أهلها أن يثقفوها وعلى أهل الزرع وغيرهم حفظها بالنهار هذا هو مقتضى الحديث في ناقة البراء بن عازب وهو مذهب مالك وجمهور الأمة، ووقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة وبساتين كذلك فيضمن أرباب الغنم ما أفسدت من ليل أو نهار ع كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف الحيوان في مثل هذه البلاد بعيد لأنها ولا بد تفسد وقال أبو حنيفة في ذلك لا ضمان وأدخله في
92
عموم قول النبي ﷺ جرح العجماء جبار فقاس جميع أفعالها على جرحها. وقوله تعالى:
وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً تأول قوم منهم أن داود لم يخطىء في هذه النازلة بل فيها أوتي الحكم، والعلم، وقالت فرقة بل لأنه لم يصب العين المطلوبة في هذه مدحه الله تعالى بأن له حُكْماً وَعِلْماً يرجع إليه في غير هذه النازلة، وقوله وَكُنَّا فاعِلِينَ مبالغة في الخير وتحقيق له، وفي اللفظ معنى، وكان ذلك في حقه وعند مستوجبه منا فكأنه قال وَكُنَّا فاعِلِينَ لأجل استجابة ذلك، وحذف اختصارا لدلالة ظاهر القول عليه على ما حذف منه. وقوله تعالى: لِحُكْمِهِمْ يريد «داود سليمان» والخصمين لأن الحكم يضاف إلى جميعهم وإن اختلفت جهات الإضافة. وقرأت فرقة «لحكمهما» واختلف الناس في قوله تعالى: يُسَبِّحْنَ فذهبت فرقة وهي الأكثر إلى أنه قول سبحان الله وذهبت فرقة، منها منذر بن سعيد إلى أنه بمعنى يصلين معه بصلاته.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١)
عدد الله تعالى على البشر أن علم داود صَنْعَةَ الدروع فكان يصنعها أحكم صنعة لتكون وقاية من الحرب وسبب نجاة من العدو، و «اللبوس» في اللغة السلاح فمنه الدرع والسيف والرمح وغير ذلك ومنه قول الشاعر [عامر بن الحليس] :[الكامل]
ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة ذي لقاح مجفل
يعني الرمح. وقرأ نافع والجمهور «ليحصنكم» بالياء على معنى ليحصنكم داود واللبوس، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «لتحصنكم» بالتاء على معنى الصنعة أو الدروع التي أوقع عليها اللبوس، وقرأ أبو بكر عن عاصم «لنحصنكم» على معنى رد الفعل إلى الله تعالى، ويروى أنه كان الناس قبل تتخذ القوي لباسا من صفائح الحديد فكان ثقله يقطع بأكثر الناس، وقرأت فرقة «الريح» بالنصب على معنى وسخرنا لسليمان الريح، وقرأت فرقة «الريح» بالرفع على الابتداء والخبر في المجرور قبله، ويروى أن الريح العاصفة تهب على سرير سليمان الذي فيه بساطه وقد مد حول البساط بالخشب والألواح حتى صنع سرير يحمل جميع عسكره وأقواته، فتقله من الأرض في الهواء، ثم تتولاه الريح الرخاء بعد ذلك، فتحمله إلى حيث أراد سليمان. وقوله تعالى: إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها اختلف الناس فيها، فقالت فرقة هي أرض الشام وكانت مسكنه وموضع ملكه، وخصص في هذه الآية انصرافه في سفراته إلى أرضه لأن ذلك يقتضي سيره إلى المواضع التي سافر إليها، و «البركة» في أرض الشام بينة الوجوه، وقال بعضهم إن العاصفة هي في القفول على عادة البشر والدواب في الإسراع إلى الوطن والرخاء كانت في البداءة، حيث أصاب، أي حيث يقصده بأن ذلك وقت تأن وتدبير وتقلب رأي، وقال منذر بن سعيد في الآية تقديم وتأخير والكلام تام عند قوله إِلى الْأَرْضِ، وقوله الَّتِي بارَكْنا فِيها صفة ل الرِّيحَ ع ويحتمل أن يريد
الأرض التي يسير إليها سليمان عليه السلام كائنة ما كانت، وذلك أنه لم يكن يسير إلى أرض إلا أصلحها وقتل كفارها وأثبت فيها الإيمان وبث فيها العدل. ولا بركة أعظم من هذا، فكأنه قال إلى أي أرض باركنا فيها بعثنا سليمان إليها.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٢ الى ٨٤]
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
يحتمل أن يكون قوله تعالى: يَغُوصُونَ في موضع نصب على معنى وسخرنا، ويحتمل أن يكون في موضع رفع على الابتداء، ويتناسب هذا مع القراءتين المتقدمتين في قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ [سبأ: ١٢] بالنصب والرفع وقوله تعالى: يَغُوصُونَ جمع على معنى مِنَ لا على لفظها.
و «الغوص» الدخول في الماء والأرض والعمل دون ذلك البنيان وغيره من الصنائع والخدمة ونحوه، وقوله تعالى: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ قيل معناه من إفسادهم ما صنعوه فإنهم كان لهم حرص على ذلك لولا ما حال الله تعالى: «بينهم وبين ذلك»، وقيل معناه عادين وحاصرين أي لا يشذ عن علمنا وتسخيرنا أحد منهم وقوله: وَأَيُّوبَ أحسن ما فيه النصب بفعل مضمر تقديره واذكر أيوب، وفي قصص أيوب عليه السلام طول واختلاف من المفسرين، وتلخيص ذلك أنه روي أن أيوب عليه السلام، كان نبيا مبعوثا إلى قوم، وكان كثير المال من الإبل والبقر والغنم، وكان صاحب البثنية من أرض الشام يغمر كذلك مدة، ثم إن الله تعالى، لما أراد محنته وابتلاءه، أذن لإبليس في أن يفسد ماله، فاستعان بذريته فأحرقوا ماله ونعمه أجمع، فكان كلما أخبر بشيء من ذلك حمد الله تعالى وقال هي عارية استردها صاحبها والمنعم بها، فلما رأى إبليس ذلك جاء فأخبر بعجزه عنه، وأذن الله له في إهلاكه بنيه وقرابته ففعل ذلك أجمع، فدام أيوب على شكره وصبره، فأخبره إبليس بعجزه، فأذن الله له في إصابته في بدنه وحجر عليه لسانه وعينيه وقلبه، فجاءه إبليس وهو ساجد، فنفخ في أنفه نفخة احترق بدنه منها وجعلها الله تعالى أكلة في بدنه، فلما عظمت وتقطع أخرجه الناس من بينهم وجعلوه على سباطة ولم يبق معه بشر حاشى زوجته، ويقال كانت بنت يوسف الصديق، وقيل اسمها رحمة، وقيل في أيوب إنه من بني إسرائيل، وقيل من الروم من قرية عيصو، فكانت زوجته تسعى عليه وتأتيه يأكل وتقوم عليه، فدام في هذا العذاب مدة طويلة قيل ثلاثين سنة، وقيل ثماني عشرة، وقيل اثنتي عشرة، وقيل تسعة أعوام، وقيل ثلاثة، وهو في كل ذلك صابر شاكر، حتى جاءه فيما روي ثلاثة ممن كان آمن به فوقذوه بالقول وأنبوه ونجهوه. وقالوا ما صنع بك ربك هذا إلا لخبث باطنة فيك، فراجعهم أيوب في آخر قولهم بكلام مقتضاه أنه ذليل لا يقدر على إقامة حجة ولا بيان ظلامة، فخاطبه الله تعالى معاتبا على هذه المقالة ومبينا أنه لا حجة لأحد مع الله ولا يسأل عما يفعل ثم عرفه تعالى بأنه قد أذن في صلاح حاله وعاد عليه بفضله، فدعا أيوب عند ذلك فاستجيب له، ويروى أن أيوب لم يزل
صابرا لا يدعو في كشف ما به، وكان فيما روي تقع منه الدود فيردها بيده، حتى مر به قوم كانوا يعادونه فشمتوا به، فتألم لذلك ودعا حينئذ فاستجيب له، وكانت امرأته غائبة عنه في بعض شأنها فأنبع الله تعالى له عينا وأمر بالشرب منها فبرىء باطنه، وأمر بالاغتسال فبرىء ظاهره، ورد إلى أفضل جماله، وأتي بأحسن الثياب، وهب عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحثي منها في ثوبه فناداه الله تعالى يا أيوب ألم أغنيتك عن هذا، قال بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك، فبينما هو كذلك إذ جاءت امرأته فلم تره على السباطة فجزعت وظنت أنه أزيل عنها، وجعلت تتوله فقال لها ما شأنك أيتها المرأة فهابته لحسن هيئته، وقالت إني فقدت مريضا كان لي في هذا الموضع ومعالم المكان قد تغيرت، وتأملته في أثناء المقاولة، فرأت أيوب، فقالت له أنت أيوب، فقال لها نعم واعتنقها وبكى فروي أنه لم يفارقها حتى أراه الله تعالى جميع ماله حاضرا بين يديه، واختلف الناس في أهله وولده بأعيانهم وجعل مثلهم له عدة في الآخرة، وقيل بل أتى جميع ذلك في الدنيا من أهل ومال وقوله تعالى: وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي وتذكرة وموعظة للمؤمنين، ولا يعبد الله تعالى إلا مؤمن والذكرى إنما هي في محنته والرحمة في زوال ذلك، وقوله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ تقديره «بأني مسني» فحذف الجار وبقيت أَنِّي في موضع نصب، وروي أن سبب محنة أيوب أنه دخل مع قوم على ملك جار عليهم فأغلظ له القوم ولين له أيوب القول خوفا منه على ماله، فعاقبه الله تعالى على ذلك، وروي أنه كان يقال له ما لك لا تدعو في العافية فكان يقول إني لأستحيي من الله تعالى أن أسأله زوال عذابه حتى يمر علي
فيه ما مر من الرخاء، وأصابه البلاء فيما روي وهو ابن ثمانين سنة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)
المعنى واذكر إسماعيل وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل وهو أبو العرب المعروفين اليوم في قول بعضهم وَإِدْرِيسَ هو خنوخ وهو أول نبي بعثه الله تعالى من بني آدم وروي أنه كان خياطا وكان يسبح الله تعالى عند إدخال الإبرة ويحمده عند إخراجها و «ذو الكفل» كان نبيا.
وروي أنه بعث إلى رجل واحد وقيل لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا، وروي أن أليسع جمع بني إسرائيل فقال من يتكفل لي بصيام النهار وقيام الليل وأن لا يغضب وأوليه النظر للعباد بعدي، فقام إليه شاب فقال أنا لك بذلك فراجعه ثلاثا في كل ذلك يقول أنا لك بذلك فاستعمله، فلما مات أليسع قام بالأمر فجاء إبليس ليغضبه وكان لا ينام إلا في القائلة فكان يأتيه وقت القائلة أياما فيوقظه ويشتكي ظلامته ويقصد تضييق صدره فلم يضق به صدرا ومضى معه لينصفه بنفسه فلما رأى إبليس ذلك غلس عنه وكفاه الله شره فسمي ذَا الْكِفْلِ لأنه تكفل بأمر فوفى به وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
التقدير واذكر «ذا النون»، والنون الحوت وصاحبه يونس بن متّى عليه السلام، ونسب إلى الحوت الذي التقمه على الحالة التي يأتي ذكرها في موضعها الذي يقتضيه وهو نبي من أهل نينوى وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب»، وفي حديث آخر «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى»، وهذا الحديث وقوله «لا تفضلوني على موسى» يتوهم أنهما يعارضان قوله عليه السلام على المنبر «أنا سيد ولد آدم ولا فخر». والانفصال عن هذا بوجهين أحدهما ذكره الناس وهو أن يكون قوله «أنا سيد ولد آدم» متأخرا في التاريخ وأنها منزلة أعلمه الله تعالى بها لم يكن علمها وقت تلك المقالات الأخر، والوجه الثاني وهو عندي أحرى مع حال النبي عليه السلام، أنه إنما نهي عن التفضيل بين شخصين مذكورين وذهب مذهب التواضع ولم يزل سيد ولد آدم ولكنه نهى أن يفضل على موسى كراهية أن تغضب لذلك اليهود فيزيد نفارها عن الإيمان، وسبب الحديث يقتضي هذا، وذلك أن يهوديا قال لا والذي فضل موسى على العالمين، فقال له رجل من الأنصار تقول هذا ورسول الله ﷺ بين أظهرنا ولطمه فشري الأمر وارتفع إلى النبي ﷺ فنهى عن تفضيله على موسى ونهى عليه السلام عن تفضيله على يونس لئلا يظن أحد بيونس نقص فضيلة بسبب ما وقع له، فنهيه عليه السلام عن التفضيل على شخص معين وقوله في حديث ثالث «لا تفضلوا بين الأنبياء». وهذا كله مع قوله «أنا سيد ولد آدم» وإطلاق الفضل له دون اقتران بأحد، بيّن صحيح وتأمل هذا، فإنه يلوح وقد قال عمر رضي الله عنه للحطيئة امدح ممدوحك ولا تفضل بعض الناس على بعض.
قال القاضي أبو محمد: ولفظة سيد ولفظة خير شيئان، فهذا مبدأ جمع آخر بين الأحاديث يذهب ما يظن من التعارض، وقوله مُغاضِباً قيل إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه وقد كان الله تعالى أمره بملازمتهم والصبر على دعائهم فكان ذنبه في مخالفة هذا الأمر، وروي أنه كان شابا فلم يحمل أثقال النبوءة وتفسخ تحتها كما يتفسخ الربع تحت الحمل ولهذا قيل للنبي ﷺ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم: ٤٨] أي اصبر ودم على الشقاء بقومك، وقالت فرقة إنما غاضب الملك الذي كان على قومه ع وهذا نحو من الأول فيما يلحق منه يونس عليه السلام، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره إنما ذهب مُغاضِباً ربه واستفزه إبليس، ورووا في ذلك أن يونس لما طال عليه أمر قومه طلب من الله تعالى عذابهم فقيل له إن العذاب يجيئهم يوم كذا، فأخبرهم يونس بذلك فقالوا إن رحل عنا فالعذاب نازل وإن أقام بيننا لم نبال، فلما كان سحر ذلك اليوم قام يونس فرحل فأيقنوا بالعذاب فخرجوا بأجمعهم إلى البراز، وفرقوا بين صغار البهائم وأمهاتها وتضرعوا وتابوا، فرفع الله تعالى عنهم العذاب وبقي يونس في موضعه الذي خرج إليه فنظر فلما عرف أنهم لم يعذبوا ساءه أن عدوه كاذبا وقال والله لا انصرفت
إليهم أبدا. وروي أنه كان من دينهم قتل الكذاب فغضب حينئذ على ربه وخرج على وجهه حتى دخل في سفينة في البحر ع وفي هذا القول من الضعف ما لا خفاء به مما لا يتصف به نبي، واختلف الناس في قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فقالت فرقة استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان أن لا يقدر الله عليه بمعاقبة ع وهذا قول مردود، وقالت فرقة ظن أن لن يضيق عليه في مذهبه من قوله تعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الإسراء: ٣٠]، وقالت فرقة هو من القدر، أي ظن أن لن يقدر الله عليه بعقوبة، وقالت فرقة الكلام بمعنى الاستفهام، أي أفظن أن لن يقدر الله عليه، وحكى منذر بن سعيد أن بعضهم قرأ «أفظن» بالألف، وقرأ الزهري «تقدّر» بضم النون وفتح القاف وشد الدال، وقرأ الحسن «يقدر» وعنه أيضا «نقدر»، وبعد هذا الكلام حذف كثير اقتضب لبيانه في غير هذه الآية، المعنى فدخل البحر وكذا حتى التقمه الحوت وصار في ظلمة جوفه، واختلف الناس في جمع الظُّلُماتِ ما المراد به فقالت فرقة ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الحوت، وقالت فرقة ظلمة البحر وظلمة الحوت التقم الحوت الأول الذي التقم يونس ع ويصح أن يعبر ب الظُّلُماتِ عن جوف الحوت الأول فقط كما قال في غيابات الجب وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ، وروي أن يونس سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر ثم قال في دعائه «اللهم إني قد اتخذت لك مسجدا في موضع لم يتخذه أحد قبلي» وأَنْ مفسرة نحو قوله تعالى أَنِ امْشُوا [ص: ٦] وفي هذا نظر وقوله تعالى: مِنَ الظَّالِمِينَ يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم هذا أحسن الوجوه وقد تقدم ذكر غيره فاستجاب الله تعالى له وأخرجه إلى البر، ووصف هذا يأتي في موضعه، والْغَمِّ ما كان ناله حين التقمه الحوت، وقرأ جمهور القراء «ننجي» بنونين الثانية ساكنة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «نجي» بنون واحدة مضمومة وشد الجيم، ورويت عن أبي عمرو، وقرأت فرقة «ننجّي» بنونين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة والجيم مشددة، فأما القراءة الأولى والثالثة فبينتان الأولى فعلها معدى بالهمزة والأخرى بالتضعيف، وأما القراءة الوسطى التي هي بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة وياء ساكنة فقال أبو علي لا وجه لها وإنما هي وهم من السامع، وذلك أن عاصما قرأ «ننجي» والنون الثانية لا يجوز إظهارها لأنها تخفى مع هذه الحروف يعني الجيم وما جرى مجراها فجاء الإخفاء يشبهها بالإدغام، ويمتنع أن يكون الأصل «ننجي» ثم يدعو اجتماع النونين إلى إدغام إحداهما في الجيم لأن اجتماع المثلين إنما يدعو إلى ذلك إذا كانت الحركة فيهما متفقة، ويمتنع أن يكون الأصل «نجي» وتسكن الياء ويكون المفعول الذي لم يسم فاعله المصدر كأنه قال «نجي
»
النجاء المؤمنين لأن هذه لا تجيء إلا في ضرورة فليست في كتاب الله والشاهد فيها قول الشاعر: [الوافر]
ولو ولدت قفيزة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا
وأيضا فإن الفعل الذي يبنى للمفعول إذا كان ماضيا لم يسكن آخره ع والمصاحف فيها نون واحدة كتبت كذلك من حيث النون الثانية مخفية.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)
تقدم أمر زكرياء عليه السلام في سورة مريم، وإصلاح الزوجة قيل بأن جعلها ممن تحمل وهي عاقر قاعد فحاضت وحملت وهذا هو الذي يشبه الآية وقيل بأن أزيل بذاء كان في لسانها ع وهذا ضعيف وعموم اللفظ يتناول جميع وجوه الإصلاح، وقرأت فرقة «يدعوننا»، وقرأت فرقة «يدعونا»، وقرأت فرقة «رغبا» بفتح الراء والغين «ورهبا» كذلك، وقرأت فرقة بضم الراء فيهما وسكون الغين والهاء، وقرأت فرقة بفتح الراء وسكون الغين والهاء، والمعنى أنهم يدعون في وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء، ورهبة وخوف في حال واحدة لأن الرغبة والرهبة متلازمان، وقال بعض الناس الرغب أن ترفع بطون الأكف نحو السماء والرهب أن ترفع ظهورها ع وتلخيص هذا أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه، فالرغب من حيث هو طلب يحسن معه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه إذ هي موضع الإعطاء وبها يتملك، والرهب من حيث هو دفع مضرة يحسن معه طرح ذلك والإشارة إلى إذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه و «الخشوع» التذلل بالبدن المتركب على التذلل بالقلب.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩١ الى ٩٥]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥)
المعنى واذكر الَّتِي أَحْصَنَتْ وهي مريم بنت عمران أم عيسى، و «الفرج» فيما قال الجمهور وهو ظاهر القرآن الجارحة المعروفة وفي إحصانها هو المدح، وقالت فرقة الفرج هنا هو فرج ثوبها الذي منه نفخ الملك وهذا ضعيف، وأما نفخ الولد فيها فقال كثير من العلماء إنما نفخ في جيب درعها وأخاف الروح إضافة الملك إلى المالك، وَابْنَها هو عيسى ابن مريم عليه السلام، وأراد تعالى أنه جعل مجموع قصة عيسى وقصة مريم من أولها إلى آخرها آيَةً لمن اعتبر ذلك، ولِلْعالَمِينَ يريد لمن عاصره فيما بعد ذلك، وقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ يحتمل الكلام أن يكون منقطعا خطابا لمعاصري محمد ﷺ ثم أخبر عن الناس أنهم تقطعوا ثم وعد وأوعد، ويحتمل أن يكون متصلا أي جعلنا مريم وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ بأن بعث لهم بملة وكتاب وقيل لهم إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أي دعي الجميع إلى الإيمان بالله تعالى وعبادته، ثم أخبر تعالى أنهم بعد ذلك اختلفوا وتقطعوا أمرهم ثم فرق بين المحسن والمسيء فذكر المحسن بالوعد أي فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فهو بنعيمه مجازى وذكر المسيء في
قوله، وَحَرامٌ إلى آخر الآية فتأمل الوعيد فيها على كل قول تذكرة فإنه بين، و «الكفران» مصدر كالكفر ومنه قول الشاعر: [الطويل]
رأيت أناسا لا تنام جدودهم وجدي ولا كفران لله نائم
واختلف القراء في قوله تعالى وَحَرامٌ، فقرأ عكرمة وغيره «وحرم» بفتح الحاء وكسر الراء، وقرأ جمهور السبعة و «حرام»، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، و «حرم» بكسر الحاء وسكون الراء، وقرأ ابن العباس بخلاف عنه «وحرم» بفتح الحاء وسكون الراء، وقرأت فرقة «وحرّم» بفتح الحاء وشد الراء، وقرأت فرقة «وحرّم» بضم الحاء وكسر وشدها، وقرأ قتادة ومطر الوارق «وحرم» بفتح الحاء وضم الراء، والمستفيض من هذه القراءات قراءة من قرأ و «حرم»، وقراءة من قرأ و «حرام» وهما مصدران بمعنى نحو الحل والحلال، فأما معنى الآية فقالت فرقة «حرام وحرم» معناه جزم وحتم فالمعنى وحتم عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ إلى الدنيا فيتوبون ويستعتبون بل هم صائرون إلى العقاب، وقال بعض هذه الفرقة الإهلاك هو بالطبع على القلوب ونحوه والرجوع هو إلى التوبة والإيمان، وقالت فرقة المعنى وَحَرامٌ أي ممتنع، و «حرم» كذلك، عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ وقالوا لا زائدة في الكلام واختلفوا في الإهلاك والرجوع بحسب القولين المذكورين، قال أبو علي يحتمل أن يرتفع «حرام» بالابتداء والخبر رجوعهم ولا زائدة، ويحتمل أن يرتفع «حرام» على خبر الابتداء كأنه قال والإقالة والتوبة «حرام» ثم يكون التقدير «بأنهم لا يرجعون» فتكون لا على بابها كأنه قال هذا عليهم ممتنع بسبب كذا فالتحريم في الآية بالجملة ليس كتحريم الشرع الذي إن شاء المنهي ركبه.
قال القاضي أبو محمد: ويتجه في الآية معنى ضمنه وعيد بيّن وذلك أنه ذكر من عمل صالحا وهو مؤمن ثم عاد إلى ذكر الكفرة الذين من كفرهم ومعتقدهم أنهم لا يحشرون إلى رب ولا يرجعون إلى معاد فهم يظنون بذلك أنه لا عقاب ينالهم فجاءت الآية مكذبة لظن هؤلاء أي وممتنع على الكفرة المهلكين أن لا يرجعون بل هم راجعون إلى عقاب الله وأليم عذابه فتكون لا على بابها والحرام على بابه وكذلك الحرم فتأمله.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧)
تحتمل حَتَّى في هذه الآية أن تكون متعلقة بقوله وَتَقَطَّعُوا [الأنبياء: ٩٣] وتحتمل على بعض التأويلات المتقدمة أن تعلق ب يَرْجِعُونَ [الأنبياء: ٩٥] وتحتمل أن تكون حرف ابتداء وهو الأظهر بسبب إِذا لأنها تقتضي جوابا وهو المقصود ذكره، واختلف هنا في الجواب، فقالت فرقة الجواب قوله اقْتَرَبَ الْوَعْدُ
99
والواو زائدة، وقالت فرقة منها الزجاج وغيره الجواب في قوله يا وَيْلَنا التقدير قالوا يا وَيْلَنا وليست الواو بزائدة، والذي أقول إن الجواب في قوله فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره لأنه رجوعهم الذي كانوا يكذبون به وحرم عليهم امتناعه، وقرأ الجمهور «فتحت» بتخفيف التاء، وقرأ ابن عامر وحده «فتحت» بتثقيلها، وروي أن يأجوج ومأجوج يشرفون في كل يوم على الفتح فيقولون غدا نفتح ولا يردون المشيئة إلى الله تعالى فإذا كان غدا وجدوا الردم كأوله حتى إذا أذن الله تعالى في فتحه قال قائلهم غدا نفتحه إن شاء الله فيجدونه كما تركوه قريب الانفتاح فيفتحونه حينئذ، وقرأ عاصم وحده «يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» بالهمز، وقرأ الجمهور بالتسهيل، وقد تقدم في سورة الكهف توجيه ذلك وكثير من حال يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فغنيناها هنا عن إعادة ذلك. و «الحدب» كل متسنم من الأرض كالجبل والظرب والكدية والقبر ونحوه. وقالت فرقة المراد بقوله، وَهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ لأنهم يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويعمون الأرض وذلك أنهم من الكثرة بحيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم أخرج بعث النار من ذريتك فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين» قال ففزع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «إن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل» ويروى أن الرجل منهم لا يموت حتى يولد له ألف بين رجل وامرأة وقالت فرقة المراد بقوله وَهُمْ جميع العالم وإنما هو تعريف بالبعث من القبور وقرأ ابن مسعود «من كل جدث» وهذه القراءة تؤيد هذا التأويل ويَنْسِلُونَ معناه يسرعون في تطامن ومنه قول الشاعر: [الرمل]
عسلان الذئب أمسى قاربا برد الليل عليه فنسل
وقرأت فرقة بكسر السين، وقرأت بضمها، وأسند الطبري عن أبي سعيد قال يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون أحدا إلا قتلوه إلا أهل الحصون فيمرون على بحيرة طبرية فيمر آخرهم فيقول كان هنا مرة ما، قال فيبعث الله عليهم النغف حتى تكسر أعناقهم فيقول أهل الحصون لقد هلك أعداء الله فيدلون رجلا ينظر فيجدهم قد هلكوا قال فينزل الله تعالى من السماء ماء فيقذف بهم في البحر فيطهر الأرض منهم، وفي حديث حذيفة نحو هذا وفي آخره قال وعند ذلك طلوع الشمس من مغربها، وروي أن ابن عباس رأى صبيانا يلعبون وينزوا بعضهم على بعض فقال هكذا خروج يأجوج ومأجوج.
وقوله تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ يريد يوم القيامة، وروي في الحديث «أن الرجل ليتخذ الفلو بعد يأجوج ومأجوج فلا يبلغ منفعته حتى تقوم الساعة»، وقوله تعالى: هِيَ، مذهب سيبويه أنها ضمير القصة كأنه قال فإذا القصة أو الحادثة شاخِصَةٌ أَبْصارُ وجوز الفراء أن تكون ضمير الأبصار تقدمت لدلالة الكلام ويجيء ما يفسرها وأنشد على ذلك: [الطويل]
فلا وأبيها لا تقول حليلتي ألا فرّعني مالك بن أبي كعب
والشخوص بالعين إحداد النظر دون أن يطرف، وذلك يعتري من الخوف المفرط أو علة أو نحوه، وقوله: يا وَيْلَنا تقديره يا ويلنا لقد كانت بنا غفلة عما وجدنا الآن وتبينا الآن من الحقائق ثم تركوا الكلام الأول ورجعوا إلى نقد ما كان يداخلهم من تعهد الكفر وقصد الإعراض فقالوا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ.
100
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩)
هذه مخاطبة لكفار مكة أي إنكم وأصنامكم حَصَبُ جَهَنَّمَ والحصب ما توقد به النار، إما لأنها تحصب به أي ترمى وإما أن تكون لغة في الحطب إذا رمي وأما قبل أن يرمى به فلا يسمى حصبا إلا بتجوز، وقرأ الجمهور «حصب» بالصاد مفتوحة، وسكنها ابن السميفع وذلك على إيقاع المصدر موقع اسم المفعول، وقرأ علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعائشة وابن الزبير «حطب جهنم» بالطاء، وقرأ ابن عباس «حضب» جهنم بالضاد منقوطة مفتوحة وسكنها كثير غيره، والحضب أيضا ما يرمى به في النار لتوقد به والمحضب العود الذي تحرك به النار أو الحديدة أو نحوه ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
فلا تك في حربنا محضبا لتجعل قومك شتى شعوبا
وقوله وَما تَعْبُدُونَ يريد الأصنام وحرقها في النار على جهة التوبيخ لعابدها ومن حيث تقع «ما» لمن يعقل في بعض المواضع اعترض في هذه الآية عبد الله بن الزبعرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال إن عيسى وعزيرا ونحوهما قد عبدوا من دون الله فيلزم أن يكونوا حصبا لجهنم فنزلت إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ [الأنبياء: ١٠١] ثم قرر الأمر بالإشارة إلى الأصنام التي أرادها في قوله ما تَعْبُدُونَ، فقال لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً وعبر عن الأصنام ب هؤُلاءِ من حيث هي عندهم بحال من يعقل، و «الورود» في هذه الآية ورود الدخول.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٣]
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)
الضمير في لَهُمْ عائد على من يعقل ممن توعد، و «الزفير» صوت المعذب وهو كنهيق الحمير، وشبهه إلا أنه من الصدر، وقوله: لا يَسْمَعُونَ قالت فرقة معناه لا يسمعون خيرا ولا سارا من القول، وقالت فرقة إن عذابهم أن يجعلوا في توابيت في داخل توابيت أخرى فيصيرون هنالك لا يسمعون شيئا ولما اعترض ابن الزبعرى بأمر عيسى ابن مريم وعزير نزلت إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى مبينة أن هؤلاء ليسوا تحت المراد لأنهم لم يرضوا ذلك ولا دعوا إليه، والْحُسْنى يريد كلمة الرحمة والحتم بالتفضيل، و «الحسيس» الصوت وهو بالجملة ما يتأدى إلى الحس من حركة الأجرام وهذه صفة لهم بعد دخولهم الجنة لأن الحديث يقتضي أن في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا جثا على ركبتيه،
والْفَزَعُ الْأَكْبَرُ عام في كل هول يكون في يوم القيامة فكأن يوم القيامة بجملته هو الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وإن خصص بشيء من ذلك فيجب أن يقصد لأعظم هوله، قالت فرقة في ذلك هو ذبح الموت، وقالت فرقة هو وقوع طبق جهنم على جهنم، وقالت فرقة هو الأمر بأهل النار إلى النار، وقالت فرقة هو النفخة الآخرة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وما قبله من الأوقات أشبه أن يكون فيها الْفَزَعُ لأنها وقت لترجم الظنون وتعرض الحوادث، فأما وقت ذبح الموت ووقوع الطبق فوقت قد حصل فيه أهل الجنة في الجنة فذلك فزع بين إلا أنه لا يصيب أحدا من أهل الجنة فضلا عن الأنبياء، اللهم إلا أن يريد لا يحزنهم الشيء الذي هو عند أهل النار فزع أكبر، فأما إن كان فزعا للجميع فلا بد مما قلنا من أنه قبل دخول الجنة وقد ذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى يعم كل مؤمن.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال عثمان منهم ع ولا مرية أنها مع نزولها في خصوص مقصود تتناول كل من سعد في الآخرة وقوله تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يريد بالسلام عليهم والتبشير لهم، أي هذا يومكم الذي وعدتم فيه الثواب والنعيم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)
قرأت فرقة «نطوي» بنون العظمة، وقرأت فرقة «يطوي السماء» بياء مفتوحة على معنى يطوي الله تعالى، وقرأ فرقة «تطوى السماء» بتاء مضمومة ورفع «السماء» على ما لم يسم فاعله، واختلف الناس في السِّجِلِّ فقالت فرقة هو ملك يطوي الصحف، وقالت فرقة السِّجِلِّ رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، ع وهذا كله وما شاكله ضعيف، وقالت فرقة السِّجِلِّ الصحيفة التي يكتب فيها، والمعنى كَطَيِّ السِّجِلِّ أي كما يطوى السجل من أجل الكتاب الذي فيه، فالمصدر مضاف إلى المفعول ويحتمل أن يكون المصدر مضافا إلى الفاعل، أي كما يطوي السجل الكتاب الذي فيه، فكأنه قال يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كالهيئة التي فيها طي السجل للكتاب، ففي التشبيه تجوز، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «السّجل» بشد السين وسكون الجيم وتخفيف اللام وفتح أبو السمال السين فقرأ «السّجل» وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير «السّجل» بضم السين وشدها وضم الجيم، وقرأ الجمهور «للكتاب»، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «للكتب» وقوله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون خبرا عن البعث أي كما اخترعنا الخلق أولا على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى فنبعثهم من القبور، والثاني أن يكون خبرا عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا، ويؤيد هذا التأويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده» وقوله تعالى: كَما بَدَأْنا الكاف متعلقة بقوله نُعِيدُهُ، وقوله إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ تأكيد للأمر بمعنى
أن الأمر واجب في ذلك، وقالت فرقة الزَّبُورِ اسم يعم جميع الكتب المنزلة لأنه مأخوذ من زبرت الكتاب إذا كتبته، قالت هذه الفرقة والذِّكْرِ أراد به اللوح المحفوظ، وقال بعضهم الذِّكْرِ الذي في السماء، وقالت فرقة الزَّبُورِ هو اسم زبور داود، والذِّكْرِ أراد به التوراة، وقالت فرقة الزَّبُورِ ما بعد التوراة من الكتب، والذِّكْرِ التوراة، وقرأ حمزة وحده «الزّبور» بضم الزاي، وقالت فرقة الْأَرْضَ أراد بها أرض الدنيا أي كل ما يناله المؤمنون من الأرض، وقالت فرقة أراد أرض الجنة، واستشهدت بقوله تعالى وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: ٧٤] وقالت فرقة إنما أراد بهذه الآية الإخبار عما كان صنعه مع بني إسرائيل أي فاعلموا أنا كما وفينا لهم بما وعدناهم فكذلك ننجز لكم ما وعدناكم من النصرة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٩]
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩)
قالت فرقة الإشارة بقوله فِي هذا إلى هذه الآيات المتقدمة، وقالت فرقة الإشارة إلى القرآن بجملته، و «العبادة» تتضمن الإيمان بالله تعالى، وقوله إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قالت فرقة عم العالمين وهو يريد من آمن فقط، وذلك أن النبي ﷺ ليس برحمة على من كفر به ومات على الكفر، وقالت فرقة «العالمون» عام ورحمته للمؤمنين بينة وهي للكافرين بأن الله تعالى رفع عن الأمم أن يصيبهم ما كان يصيب القرون قبلهم من أنواع العذاب المستأصلة كالطوفان وغيره.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل الكلام أن يكون معناه «وما أرسلناك للعالمين إلا رحمة» أي هو رحمة في نفسه وهذا بين أخذ به من أخذ، وأعرض عنه من أعرض، وقوله تعالى آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ معناه عرفتكم بنذارتي وأردت أن تشاركوني في معرفة ما عندي من الخوف عليكم من الله تعالى، ثم أعلمهم بأنه لا يعرف تعيين وقت لعقابهم بل هو مترقب في القرب والبعد وهذا أهول وأخوف.
قوله عز وجل:
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١١٠ الى ١١٢]
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
الضمير في قوله إِنَّهُ عائد على الله عز وجل، وفي هذه الآية تهديد أي يعلم جميع الأشياء الواقعة منكم وهو بالمرصاد في الجزاء عليها، وقرأ يحيى بن عامر «وإن أدري لعله وإن أدري أقريب» بفتح الياء فيهما وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء ووجهه أبو الفتح، قوله لَعَلَّهُ الضمير فيه عائد على الإملاء لهم
103
وصفح الله تعالى عن عذابهم وتمادي النعمة عليهم، وفِتْنَةٌ معناه امتحان وابتلاء، و «المتاع»، ما يستمتع به مدة الحياة الدنيا، ثم أمره تعالى أن يقول على جهة الدعاء رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ والدعاء هنا بهذا فيه توعد، أي إن الحق إنما هو في نصرتي عليكم، وأمر الله تعالى له بهذا الدعاء دليل على الإجابة والعدة بها، وقرأت فقر «رب احكم» وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «ربّ» بالرفع على المنادى المفرد وقرأت فرقة «ربي أحكم» على وزن أفعل وذلك على الابتداء والخبر، وقرأت فرقة «ربي أحكم» على وزن أنه فعل ماض، ومعاني هذه القراءات بينة، ثم توكل في آخر الآية واستعان بالله تعالى، وقرأ جمهور القراء «قل رب»، وقرأ عاصم فيما روي عنه «قال رب»، وقرأ ابن عامر وحده «يصفون» بالياء، وقرأ الباقون والناس «تصفون» بالتاء من فوق على المخاطبة.
104
Icon