تفسير سورة العنكبوت

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ
تفسير سورة العنكبوت
وهي مكية في قول عطاء والحسن، ومدنية في أحد قولى ابن عباس، وعنه في رواية أخرى أنها مكية، فبعضها نزل بالمدينة وبعضها نزل بمكة، وعن الشعبي أنها مكية إلا عشر آيات من أولها مدنية.
وعن علي أنه قال : نزلت بين مكة والمدينة. وهذه رواية غريبة.

قَوْله تَعَالَى: ﴿الم﴾ قد بَينا مَعْنَاهُ.
وَقَوله: ﴿أَحسب النَّاس﴾ الحسبان وَالظَّن قريبان، وَهُوَ تَغْلِيب أحد النقيضين على الآخر، وَالشَّكّ وقف بَين نقيضين، وَالْعلم قطع بِوُجُود أَحدهمَا.
وَقَوله: ﴿أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا﴾ مَعْنَاهُ: أظنوا أَن يقنع مِنْهُم بِأَن يَقُولُوا آمنا، وَقَوله: ﴿وهم لَا يفتنون﴾ أَي: لَا يبتلون. قَالَ مُجَاهِد: لَا يبتلون فِي أَمْوَالهم وأنفسهم. وَيُقَال مَعْنَاهُ: لَا يؤمرون وَلَا ينهون، وابتلاء الله عباده بِالْأَمر وَالنَّهْي.
وَقَالَ بَعضهم: إِن الله تَعَالَى أَمر النَّاس أَولا بِمُجَرَّد الْإِيمَان، ثمَّ إِنَّه فرض عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَسَائِر الشَّرَائِع فشق عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَعَن الشّعبِيّ وَغَيره أَنه قَالَ: لما هَاجر أَصْحَاب رَسُول الله بَقِي قوم بِمَكَّة مِمَّن آمنُوا وَلم يهاجروا؛ فَكتب (إِلَيْهِم) من هَاجر أَن الله الله تَعَالَى لَا يقبل أَيْمَانكُم حَتَّى تهاجروا، فَهَاجرُوا، فَتَبِعهُمْ قوم من الْمُشْركين وآذوهم، (فَقتل من) قتل، وتخلص، من تخلص فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن بَعضهم: أَن الْآيَة نزلت فِي عَيَّاش بن أبي ربيعَة، وَكَانَ قد هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، فجَاء أَخَوَاهُ لأمه أَبُو جهل والْحَارث ابْنا هِشَام، وَقَالا لَهُ: إِن أمنا قد عَاهَدت إِن لم ترجع لَا تَأْكُل وَلَا تشرب، وَلَا يَأْوِيهَا سقف بَيت؛ وَإِن مُحَمَّدًا يَأْمر بِالْبرِّ، فَارْجِع مَعنا فَرجع مَعَهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الطَّرِيق غدراه وأوثقاه وحملاه إِلَى
165
﴿الَّذين من قبلهم فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين (٣) أم حسب الَّذين﴾ مَكَّة، وَجلده كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة سَوط، ثمَّ لما وصل إِلَى أمه جعلت تضربه بالسياط حَتَّى رَجَعَ عَن دينه، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَقد حسن إِسْلَامه بعد ذَلِك.
وَمن الْمَشْهُور الثَّابِت: " أَن النَّبِي كَانَ يَدْعُو فِي الْقُنُوت فَيَقُول: " اللَّهُمَّ، انج سَلمَة بن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة والوليد بن الْوَلِيد وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وَاشْدُدْ وطأتك على مُضر، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كسنين يُوسُف. فَدَعَا (هَكَذَا) شهرا ثمَّ ترك، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: أَلا تراهم قد قدمُوا ".
166
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد فتنا الَّذين من قبلهم﴾ أَي: ابتلينا الَّذين من قبلهم، يَعْنِي الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ، وَيُقَال: ابتلينا بني إِسْرَائِيل بفرعون، وَكَذَلِكَ ابتلينا كل نَبِي بعدو لَهُ. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: حِين شكا إِلَيْهِ أَصْحَابه مَا يلقون من الْكفَّار: " إِنَّكُم تعجلون، وَقد كَانَ فِيمَن قبلكُمْ ينشر بالمناشير فَمَا يصرفهُ ذَلِك عَن دينه، وليتمن الله أمره ".
وَقَوله: ﴿ [فليعلمن] الله الَّذين صدقُوا﴾ يَعْنِي: نبتليهم ابتلاء من يستعلم حَالهم، وَيُقَال: وليعلمن الله الَّذين صدقُوا أَي: علم الشَّيْء وَاقعا، وَهُوَ الَّذِي يجازي عَلَيْهِ، وَقيل: فليعلمن الله الَّذين صدقُوا أَي: فليظهرن الله الصَّادِقين من الْكَاذِبين.
وَقَوله: ﴿ [وليعلمن] الْكَاذِبين﴾ قد ذكرنَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم حسب الَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات﴾ والسيئة: كل خصْلَة تسوء عَاقبَتهَا، والحسنة: كل خصْلَة تسر عَاقبَتهَا.
166
﴿يعْملُونَ السَّيِّئَات أَن يسبقونا سَاءَ مَا يحكمون (٤) من كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله فَإِن أجل الله لآت وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (٥) وَمن جَاهد فَإِنَّمَا يُجَاهد لنَفسِهِ إِن الله لَغَنِيّ عَن الْعَالمين (٦) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنكفرن عَنْهُم سيئاتهم ولنجزينهم﴾
وَقَوله: ﴿أَن يسبقونا﴾ أَن يفوتونا، وَمن سبق شَيْئا فقد فَاتَهُ، وَقَوله: ﴿سَاءَ مَا يحكمون﴾ أَي: بئس الحكم حكمهم).
167
قَوْله تَعَالَى: ﴿من كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله﴾ قَالَ الزّجاج: يخْشَى لِقَاء الله. وَقَالَ غَيره: يأمل لِقَاء الله، وَقيل: لِقَاء الله هُوَ لِقَاء جَزَائِهِ، وَيُقَال: لِقَاء الله هُوَ الرُّجُوع إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿فَإِن أجل الله لآت﴾ مَعْنَاهُ: إِن وعد الله لآت، وَالْأَجَل هُوَ الْوَعْد الْمَضْرُوب، وَمعنى الْآيَة: أَن من يخْشَى أَو يأمل فليستعد. وَقد روى مَكْحُول: " أَن النَّبِي قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة لعَلي وَفَاطِمَة: يَا عَليّ، وَيَا فَاطِمَة، قد أنزل الله تَعَالَى قَوْله: ﴿من كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله فَإِن أجل الله لآت﴾ فَاسْتَعدوا ". وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن جَاهد فَإِنَّمَا يُجَاهد لنَفسِهِ﴾ الْجِهَاد هُوَ الصَّبْر على الشدَّة، ثمَّ قد يكون الصَّبْر على الشدَّة فِي الْحَرْب على مَا أَمر بِهِ الشَّرْع، وَقد يكون الصَّبْر على الشدَّة فِي مُخَالفَة النَّفس بِأَيّ معنى كَانَ.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّمَا يُجَاهد لنَفسِهِ﴾ أَي: مَنْفَعَة ذَلِك رَاجِعَة إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَغَنِيّ عَن الْعَالمين﴾ أَي: لَا يعود إِلَيْهِ ضرّ وَلَا نفع فِي طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنكفرون عَنْهُم سيئاتهم﴾ التَّكْفِير إذهاب السَّيئَة بِالْحَسَنَة، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات﴾
167
﴿أحسن الَّذين كَانُوا يعلمُونَ (٧) وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حسنا وَإِن جَاهَدَاك لتشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم فَلَا تطعهما إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٨) ﴾ والإحباط هُوَ إذهاب الْحَسَنَة بِالسَّيِّئَةِ.
وَقَوله: ﴿ولنجزينهم أحسن الَّذِي كَانُوا يعلمُونَ﴾ هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا﴾ وَمَعْنَاهُ: ويعطيهم أَكثر مِمَّا عمِلُوا وَأحسن.
168
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حسنا﴾ مَعْنَاهُ: يفعل حسنا، وَقُرِئَ: " إحساناً " أَي: يحسن إحساناً.
وَقَوله: ﴿وَإِن جَاهَدَاك لتشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم فَلَا تطعهما﴾ أَي: فَلَا تطعهما فِي معصيتي، وَمن الْمَعْرُوف عَن النَّبِي أَنه قَالَ " لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق ".
وَقَوله: ﴿مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم﴾ إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَن الشّرك كُله عَن جهل، فَإِن الْعَالم لَا يُشْرك بِاللَّه.
وَقَوله: ﴿إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
أَكثر الْمُفَسّرين (أَن) الْآيَة نزلت فِي سعد بن أبي وَقاص، وَهُوَ سعد بن مَالك أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ، وَأمه حمْنَة من بني أُميَّة. فروى أَنه لما أسلم - وَقد كَانَ من السَّابِقين
168
﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لندخلنهم فِي الصَّالِحين (٩) وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه فَإِذا أوذي فِي الله جعل فتْنَة النَّاس كعذاب الله وَلَئِن جَاءَ نصر من رَبك ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ أَو لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا فِي صُدُور الْعَالمين (١٠) وليعلمن الله الَّذين آمنُوا﴾ الْأَوَّلين فِي الْإِسْلَام - فَكَانَ بارا بِأُمِّهِ، فَلَمَّا سَمِعت أمه بذلك دَعَتْهُ، وَقَالَت لَهُ: مَا هَذَا الدّين الَّذِي أحدثته؟ وَالله لَا آكل وَلَا أشْرب حَتَّى ترجع عَن دينك أَو أَمُوت، فتعير بذلك أَبَد الدَّهْر، ثمَّ إِنَّهَا مكثت يَوْمًا وَلَيْلَة لم تَأْكُل، فجهدت جهدا شَدِيدا، ثمَّ مكثت يَوْمًا وليله أُخْرَى لم تَأْكُل وَلم تشرب، فجَاء سعد إِلَيْهَا، وَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، لَو كَانَ لَك مائَة نفس فَخرجت، لم أرجع عَن ديني، فَلَمَّا أَيِست مِنْهُ أكلت وشربت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأمره بِالْبرِّ بِوَالِديهِ، وَنَهَاهُ أَن يُشْرك طَاعَة لَهما. وَقيل: الْآيَة عَامَّة.
169
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لندخلنهم فِي الصَّالِحين﴾ أَي: فِي زمرة الصَّالِحين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه فَإِذا أوذي فِي الله جعل فتْنَة النَّاس كعذاب الله﴾ أَي: جزع من عَذَاب النَّاس كَمَا (يجزع] من عَذَاب الله.
وَقَوله: ﴿وَلَئِن جَاءَ نصر من رَبك ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ﴾ الْآيَة فِي الْقَوْم الَّذين تخلفوا بِمَكَّة مِمَّن أَسْلمُوا، فَلَمَّا آذاهم الْمُشْركُونَ لم يصبروا، وأعطوهم مَا طلبُوا.
وَقَوله: ﴿نصر من رَبك﴾ أَي: فتح من رَبك ودولة للْمُؤْمِنين.
وَقَوله: ﴿ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ﴾ يَعْنِي: كُنَّا مُسلمين، وَإِنَّمَا أكرهنا حَتَّى قُلْنَا مَا قُلْنَا.
وَقَوله: ﴿أَو لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا فِي صُدُور الْعَالمين﴾ أَي: يعلم مَا فِي صُدُورهمْ، فيميز صدقهم من كذبهمْ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وليعلمن الله الَّذين آمنُوا وليعلمن الْمُنَافِقين﴾ قد بَينا، وَيُقَال:
169
﴿وليعلمن الْمُنَافِقين (١١) وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا اتبعُوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شئ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (١٢) وليحملن أثقالهم وأثقالا مَعَ أثقالهم وليسألن يَوْم الْقِيَامَة عَمَّا كَانُوا يفترون (١٣) وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه﴾ آمنُوا أَي: وفوا بِمَا عهدوا، وحققوا أَقْوَالهم بأفعالهم، وَأما المُنَافِقُونَ خالفوا أَقْوَالهم بأفعالهم.
170
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا﴾ روى أَن أَبَا سُفْيَان وَذَوِيهِ قَالُوا للَّذين أَسْلمُوا: اتبعُوا سبيلنا أَي: الطَّرِيق الَّذِي نَحن عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿ولنحمل خطاياكم﴾ أَي: وَنحن نحمل خطاياكم إِن خِفْتُمْ من عُقُوبَته، فَنحْن كفلا بكم، ونتحمل عَنْكُم الْعقُوبَة.
وَقَوله: ﴿وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شئ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ﴾ يَعْنِي: فِي ضَمَان تحمل الْخَطَايَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وليحملن أثقالهم﴾ أَي: أوزارهم، والأوزار: الذُّنُوب.
وَقَوله: ﴿وأثقالا مَعَ أثقالهم﴾ أَي: أوزارا مَعَ أوزارهم.
فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَالله تَعَالَى قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: ﴿وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى﴾ ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: ﴿وأثقالا مَعَ أثقالهم﴾ أَي: إِثْم دُعَائِهِمْ إِلَى ترك الْإِيمَان، وَيُقَال: إِن الْأَشْرَاف فيهم [يحملون] ذنُوب الأتباع؛ لأَنهم سنوا لَهُم الضَّلَالَة ودعوهم إِلَيْهَا. وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من دَعَا إِلَى ضَلَالَة فَاتبع عَلَيْهَا، فَعَلَيهِ وزر من اتبعهُ من غير أَن ينقص من أوزارهم شئ ".
وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يُؤْتى بِعَبْد يَوْم الْقِيَامَة وَقد ظلم هَذَا، وَشتم هَذَا، وَأخذ مَال هَذَا، فتؤخذ حَسَنَاته ويعطون، فَيُقَال: يَا رب، قد بَقِي
170
﴿فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما فَأَخذهُم الطوفان وهم ظَالِمُونَ (١٤) فأنجيناه﴾ عَلَيْهِ سيئات، وَلم تبْق لَهُ حَسَنَات، فَيَقُول الله تَعَالَى: احملوا ذنوبهم عَلَيْهِ، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: ﴿وليحملن أثقالهم﴾ الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وليسألن يَوْم الْقِيَامَة عَمَّا كَانُوا يفترون﴾ أَي: يكذبُون.
171
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه﴾ روى أنس أَن النَّبِي قَالَ: " إِن نوحًا أول نَبِي بعث إِلَى أهل الأَرْض ".
وَقَوله: ﴿فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما﴾ روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: بعث نوح وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة، وَمكث بعد خُرُوجه من السَّفِينَة سِتِّينَ سنة، [وتوفاه] الله تَعَالَى وَهُوَ ابْن ألف وَخمسين سنة، وَفِي رِوَايَة: أَن عمر نوح كَانَ ألف وَأَرْبَعمِائَة [وَخمسين] [سنة]، بعث وَهُوَ ابْن مِائَتي وَخمسين سنة، وَقد قيل غير هَذَا، وَالله أعلم.
وروى أَن ملك الْمَوْت لما جَاءَ إِلَى نوح ليقْبض روحه قَالَ: يَا أطول الْأَنْبِيَاء عمرا، كَيفَ وجدت الدُّنْيَا؟ وَكَانَ لَهُ دَار لَهَا بَابَانِ، فَدخل من أَحدهمَا وَخرج من الآخر، وَقَالَ: هَكَذَا وجدت.
171
﴿وَأَصْحَاب السَّفِينَة وجعلناها آيَة للْعَالمين (١٥) وَإِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله﴾
وروى أَنه كَانَ لَهُ بَيت من شعر، وَكَانَ [يُقَال] لَهُ: لَو بنيت بَيْتا من طين، فَكَانَ يَقُول: أَمُوت غَدا، أَو أَمُوت بعد غَد. فَخرج من الدُّنْيَا على ذَلِك، وَلم يبن بَيْتا. فَإِن قيل: قَوْله: ﴿فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما﴾ أيش فَائِدَة الِاسْتِثْنَاء فِي هَذِه الْآيَة؟.
وهلا قَالَ: فَلبث فيهم تِسْعمائَة وَخمسين عَاما؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فَائِدَة الِاسْتِثْنَاء هُوَ التَّأْكِيد؛ فَإِن الْعَرَب إِذا قَالَت: جَاءَنِي اخوتك، يجوز أَن تُرِيدُ بِهِ جَمِيع الاخوة، وَيجوز أَن تُرِيدُ بِهِ الْأَكْثَر، فَإِذا قَالَ: جَاءَنِي اخوتك إِلَّا زيدا فتعلم قطعا أَنه جَاءَ كل الاخوة إِلَّا زيدا، فقد أَفَادَ الِاسْتِثْنَاء التَّأْكِيد من هَذَا الْوَجْه، وَقد قَالَ بَعضهم: قد كَانَ الله تَعَالَى جعل عمر نوح ألف سنة، فاستوهب بعض بنيه مِنْهُ خمسين عَاما فَوَهَبَهَا لَهُ، ثمَّ لما لما بلغ الْأَجَل طلب تَمام الْألف فَلم يُعْط، فَذكر الله تَعَالَى بِلَفْظ الِاسْتِثْنَاء ليدل على أَن النَّقْص كَانَ من قبله، وَهَذَا قَول غَرِيب.
وَقَوله: ﴿فَأَخذهُم الطوفان﴾ الطوفان: كل شئ كثير يطِيف بِالْجَمَاعَة مثل: غرق، أَو موت، أَو غير ذَلِك. قَالَ الراجز:
(أفناهم طوفان موت جارف... )
وَقَوله: ﴿وهم ظَالِمُونَ﴾ أَي: مشركون.
172
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأنجيناه وَأَصْحَاب السَّفِينَة﴾ قد بَينا عدد من كَانَ فِي السَّفِينَة.
وَقَوله: ﴿وجعلناها آيَة للْعَالمين﴾ أَي: جعلنَا عقوبتنا إِيَّاهَا بِالْغَرَقِ آيَة للْعَالمين، وَيُقَال: جعلنَا السَّفِينَة آيَة للْعَالمين، فَإِنَّهَا كَانَت ملقاه على الجودى مُدَّة (مديدة).
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِبْرَاهِيم﴾ مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيم ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه﴾ أَي: أطِيعُوا الله واحذروا مَعْصِيَته.
172
﴿واتقوه ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (١٦) إِنَّمَا تَعْبدُونَ من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إِن الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله لَا يملكُونَ لكم رزقا فابتغوا عِنْد الله الرزق واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ ترجعون (١٧) وَإِن تكذبون فقد كذب أُمَم من قبلكُمْ﴾
وَقَوله: ﴿ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ﴾ أَي: عبَادَة الله وتقواه خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ، وَقد قيل: إِن قَوْله: ﴿اعبدوا الله﴾ أَي: وحدوا الله، وكل عبَادَة فِي الْقُرْآن بِمَعْنى التَّوْحِيد.
173
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا تَعْبدُونَ من دون الله أوثانا﴾ أَي: أصناما.
وَقَوله: ﴿وتخلقون إفكا﴾ أَي: وتصنعون كذبا، وَقَالَ قَتَادَة: تخلقون إفكا؛ أَي: أصناما. وسمى الْأَصْنَام إفكا لأَنهم سَموهَا آلِهَة. فَإِن قيل: قد قَالَ: ﴿وتخلقون﴾ وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿هَل من خَالق غير الله﴾ أَي: لَا خَالق غير الله، فَكيف وَجه التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْخلق بِمَعْنى التَّقْدِير هَاهُنَا، قَالَ الشَّاعِر:
(ولأنت تفرى مَا خلقت وَبَعض الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفرى.)
وَيُقَال: وتخلقون إفكا أَي: تنحتون الْأَصْنَام بِأَيْدِيكُمْ وتعبدونها. وَحكى أَن بنى حنيفَة اتَّخذُوا صنما من الخيس - وَهُوَ التَّمْر مَعَ السّمن - ثمَّ إِنَّه أَصَابَتْهُم مجاعَة فأكلوه، قَالَ الشَّاعِر:
(أكلت حنيفَة رَبهَا زمن التفحم والمجاعة)
(لم يحذروا من رَبهم سوء العواقب والتباعة)
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله لَا يملكُونَ لكم رزقا فابتغوا عِنْد الله الرزق﴾ أَي: فَاطْلُبُوا عِنْد الله الرزق.
وَقَوله: ﴿واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ ترجعون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن تكذبوا فقد كذب أُمَم من قبلكُمْ﴾ وهم مثل، عَاد، وَثَمُود،
173
﴿وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين (١٨) أَو لم يرَوا كَيفَ يُبْدِي الله الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ إِن ذَلِك على الله يسير (١٩) قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ بَدَأَ الْخلق ثمَّ الله ينشئ النشأة الْآخِرَة إِن الله على كل شَيْء قدير (٢٠) يعذب من يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء وَإِلَيْهِ﴾ وَقوم لوط، وَغَيرهم.
وَقَوله: ﴿وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين﴾ مَعْنَاهُ: إِلَّا الإبلاغ الْوَاضِح.
174
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو لم يرَوا كَيفَ يُبْدِي الله الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ﴾ فَإِن قيل: أيش معنى قَوْله: ﴿أَو لم يرَوا﴾ وهم لم يرَوا إِعَادَة الْخلق؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن قَوْله: ﴿أَو لم يرَوا كَيفَ يبدئ الله الْخلق﴾ قد تمّ الْكَلَام، وَقد كَانُوا يقرونَ بِهَذَا، (وَقَوله) :﴿ثمَّ يُعِيدهُ﴾ ابْتِدَاء كَلَام. وَمِنْهُم من قَالَ: أَو لم يرَوا كَيفَ يبدئ الله الْخلق بإنشاء النَّهَار، ثمَّ يُعِيد بِإِدْخَال اللَّيْل وإعادة النَّهَار بعده. حكوه عَن الرّبيع بن أنس. وَمِنْهُم من قَالَ: أَو لم يرَوا كَيفَ يبدئ الله الْخلق بِالْإِحْيَاءِ ثمَّ يعيدهم بالإماتة وجعلهم تُرَابا كَمَا كَانُوا.
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِك على الله يسير﴾ أَي: هَين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ بَدَأَ الْخلق﴾ أَي: خلق الْخلق.
وَقَوله: ﴿ثمَّ الله ينشئ النشأة الْآخِرَة﴾ وَقُرِئَ: " النشاءة الْآخِرَة "، وهما بِمَعْنى وَاحِد كَقَوْلِهِم: رأفة ورآفة.
وَقَوله: ﴿إِن الله على كل شئ قدير﴾ أَي: على النشأة الأولى والنشأة الْآخِرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يعذب من يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَعَن بَعضهم: يعذب من يَشَاء بالحرص، وَيرْحَم من يَشَاء بالقناعة. وَقيل: يعذب من يَشَاء بِسوء الْخلق، وَيرْحَم من يَشَاء بِحسن الْخلق، وَيُقَال: يعذب من يَشَاء بِبَعْض النَّاس لَهُ، وَيرْحَم من يَشَاء بمحبة النَّاس لَهُ.
174
﴿تقلبون (٢١) وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير (٢٢) وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله ولقائه أُولَئِكَ يئسوا من رَحْمَتي وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم (٢٣) فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَو حرقوه فأنجاه الله من﴾
وَيُقَال: يعذب من يَشَاء بِقبُول الْبِدْعَة، وَيرْحَم من يَشَاء بملازمة السّنة.
وَقَوله: ﴿وَإِلَيْهِ تقلبون﴾ أَي: تردون.
175
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء﴾ (أَي: بمعجز الله عَن عذابكم، وَمَعْنَاهُ: أَنكُمْ لَا تفوتونه كَمَا يفوت عَن الْإِنْسَان مَا يعجز، فَإِن قيل: قد قَالَ: ﴿وَلَا فِي السَّمَاء﴾ وَالْخطاب مَعَ الْآدَمِيّين، وَلَيْسوا فِي السَّمَاء، فَكيف يَسْتَقِيم هَذَا الْكَلَام؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض، وَلَا فِي السَّمَاء معجز. قَالَ الْفراء: وَهَذَا من غامض الْعَرَبيَّة. قَالَ حسان بن ثَابت شعرًا:
(وَمن يهجو رَسُول الله مِنْكُم ويمدحه وينصره سَوَاء)
أَي: وَمن يمدحه وينصره مِنْكُم سَوَاء، وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ﴿وَلَا فِي السَّمَاء﴾ أَي: لَو كُنْتُم فِي السَّمَاء لم تعجزوه أَيْضا كَالرّجلِ يَقُول: مَا أَنْت هَاهُنَا بمعجزي وَلَا بِالْبَصْرَةِ أَي: وَلَو كنت بِالْبَصْرَةِ لم تعجزني أَيْضا.
وَقَوله: ﴿وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير﴾ أَي: من وَال وَلَا مَانع.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله ولقائه﴾ قَالَ قَتَادَة: ذمّ الله أَقْوَامًا هانوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ يئسوا من رَحْمَتي وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: موجع مؤلم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا﴾ اعْلَم أَن الْآيَات الَّتِي تقدّمت مُعْتَرضَة من قصَّة إِبْرَاهِيم ودعائه قومه إِلَى الله وجوابهم لَهُ، وَتلك الْآيَات فِي النَّبِي وحجاجه مَعَ الْمُشْركين، ثمَّ وَقع الْعود فِي هَذِه الْآيَة إِلَى جَوَاب قوم إِبْرَاهِيم لَهُ.
175
﴿النَّار إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (٢٤) وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم من دون الله أوثانا مَوَدَّة بَيْنكُم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يكفر بَعْضكُم بِبَعْض ويلعن بَعْضكُم بَعْضًا ومأواكم النَّار وَمَا لكم من ناصرين (٢٥) فآين لَهُ لوط وَقَالَ إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي إِنَّه هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (٢٦) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب وَجَعَلنَا فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب﴾
وَقَوله: ﴿إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَو حرقوه فأنجاه الله من لنار﴾ قَالَ مُجَاهِد: حرقت النَّار وثَاقه وَلم تحرقه.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ﴾ أَي: يصدقون.
176
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم من دون الله أوثانا﴾ أَي: أصناما، وَقَوله: ﴿مَوَدَّة بَيْنكُم﴾ أَي: هِيَ مَوَدَّة (بَيْنكُم)، أَو تِلْكَ مَوَدَّة بَيْنكُم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: أَن تواخيكم وتوادكم فِي الدُّنْيَا خَاصَّة، وَيَنْقَطِع إِذا جَاءَت الْآخِرَة، وَقيل: إِن كل خلة تَنْقَطِع يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا خلة الْمُتَّقِينَ. وَقُرِئَ: " مَوَدَّة بَيْنكُم " بِالنّصب بإيقاع الْفِعْل عَلَيْهِ أَي: اتخذتموها للمودة، وَقُرِئَ على غير هَذَا، والمعاني مُتَقَارِبَة.
وَقَوله: ﴿ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يكفر بَعضهم بِبَعْض ويلعن بَعْضكُم بَعْضًا﴾ وَمعنى الْجمع: هُوَ وُقُوع التبرؤ بَين القادة والأتباع.
وَقَوله: ﴿ومأواكم النَّار وَمَا لكم من ناصرين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَآمن لَهُ لوط﴾ وَقد تُقَام اللَّام مقَام الْبَاء.
وَقَوله: ﴿وَقَالَ إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي﴾ أَي: مُتَوَجّه إِلَى رَبِّي أطلب رِضَاهُ. وَقد بَينا أَن هجرته كَانَت من كوثى إِلَى الشَّام، وكوثى قَرْيَة من سَواد الْكُوفَة. وَفِي الْقِصَّة: أَنه هَاجر بعد أَن مَضَت [خمس] وَسَبْعُونَ سنة من عمره؛ وَهَاجَر مَعَه لوط وَسَارة.
وَقَوله: ﴿إِنَّه هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ أَي: الْغَالِب فِي أمره ﴿الْحَكِيم﴾ فِي تَدْبيره.
176
﴿وَآتَيْنَاهُ أجره فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين (٢٧) ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُم لتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين (٢٨) أئنكم لتأتون الرِّجَال وتقطعون السَّبِيل وتأتون فِي ناديكم الْمُنكر فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أئتنا﴾
177
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب وَجَعَلنَا فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب﴾ يُقَال: إِن الله تَعَالَى لم يبْعَث نَبيا بعد إِبْرَاهِيم إِلَّا من نَسْله، فَإِن قيل: كَيفَ لم يذكر إِسْمَاعِيل، وَذكر إِسْحَاق وَيَعْقُوب، وَقد كَانَ إِسْمَاعِيل نَبيا مثل إِسْحَاق؟ قُلْنَا: قد دخل إِسْمَاعِيل فِي قَوْله: ﴿وَجَعَلنَا فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب﴾ وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى يذكر الْبَعْض، وَيتْرك الْبَعْض اختصارا وإيجازا، وَإِن كَانَ الْمَعْنى فِي الْكل وَاحِد.
وَقَوله: ﴿وآتينا أجره فِي الدُّنْيَا﴾ أَي: الثَّنَاء الْحسن.
وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ قبُول كل أهل الْأَدْيَان لَهُ ورضاهم بِهِ. وَقَالَ السدى: هُوَ الْوَلَد الصَّالح. وَقيل: هُوَ أَنه أرِي مَكَانَهُ فِي الْجنَّة، وَقيل: إِنَّه جعل الْأَنْبِيَاء من أَوْلَاده.
وَقَوله: ﴿وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين﴾ أَي: فِي زمرة الصَّالِحين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُم لتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين﴾ فِي التَّفْسِير: أَنه لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط،
قَوْله تَعَالَى: ﴿أئنكم لتأتون الرِّجَال وتقطعون السَّبِيل﴾ أَي: لتأتون الرِّجَال بالفاحشة، وتقطعون السَّبِيل: فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: تقطعون سَبِيل النَّسْل بإيثار الرِّجَال على النِّسَاء.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وتقطعون السَّبِيل أَي: الطَّرِيق، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الغرباء والمسافرين ويرتكبون مِنْهُم الْفَاحِشَة.
وَقَوله: ﴿وتأتون فِي ناديكم الْمُنكر﴾ النادي هُوَ الْمجْلس، وَأما الْمُنكر الَّذِي أَتَوا بِهِ فَفِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: هُوَ ارْتِكَاب الْفَاحِشَة من الرِّجَال فِي مجَالِسهمْ، قَالَه مُجَاهِد.
وَعَن عَائِشَة قَالَت: كَانُوا يتضارطون فِيمَا بَينهم. وَعَن عبد الله بن سَلام: كَانَ بَعضهم يبزق على بعض. وَفِي بعض الْأَخْبَار مُسْندًا إِلَى النَّبِي: " أَنهم كَانُوا
177
﴿بِعَذَاب الله إِن كنت من الصَّادِقين (٢٩) قَالَ رب انصرني على الْقَوْم المفسدين (٣٠) وَلما جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى قَالُوا إِنَّا مهلكوا أهل هَذِه الْقرْيَة إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين (٣١) قَالَ إِن فِيهَا لوطا قَالُوا نَحن أعلم بِمن فِيهَا لننجينه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته﴾ يَجْلِسُونَ على الطَّرِيق، ويخذفون النَّاس ويسخرون مِنْهُم ".
وَعَن بَعضهم هُوَ لصفير وَالرَّمْي بالجلاهق، واللعب بالحمام، وبالشرك فِي الطَّرِيق، وَحل الْإِزَار.
وَقَوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا ائتنا بِعَذَاب الله إِن كنت من لصادقين﴾ أَي: فِيمَا تَقوله
178
قَوْله: ﴿قَالَ رب انصرني على الْقَوْم المفسدين﴾ وفسادهم كَمَا بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى﴾ قد بَينا معنى الْبُشْرَى فِي سُورَة هود.
وَقَوله: ﴿إِنَّا مهلكوا أهل هَذِه الْقرى﴾ أَي: سدوم، وَفِي الْقِصَّة: أَنهم كَانُوا يَجْلِسُونَ وَبَين يَدي كل وَاحِد مِنْهُم قَعْب فِيهِ حَصى فَإِذا مر بهم إِنْسَان خذفه كل وَاحِد مِنْهُم بحصاة، فَمن أَصَابَهُ كَانَ أولى بِهِ، فَكَانَ يَأْخُذ مَا مَعَه وينكحه ويغرمه ثَلَاث دَرَاهِم، وَلَهُم قَاض يقْضِي بذلك.
وَقَوله: ﴿إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين﴾ قد بَينا ظلمهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ إِن فِيهَا لوطا قَالُوا نَحن أعلم بِمن فِيهَا﴾ أَي: قَالَت الْمَلَائِكَة نَحن أعلم بِمن فِيهَا.
وَقَوله: ﴿لننجينه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته كَانَت من الغابرين﴾ أَي: البَاقِينَ فِي الْعَذَاب.
178
﴿كَانَت من الغابرين (٣٢) وَلما أَن جَاءَت رسلنَا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وَقَالُوا لَا تخف وَلَا تحزن إِنَّا منجوك وَأهْلك إِلَّا امْرَأَتك كَانَت من الغابرين (٣٣) إِنَّا منزلون على أهل هَذِه الْقرْيَة رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يفسقون (٣٤) وَلَقَد تركنَا مِنْهَا آيَة بَيِّنَة﴾
179
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما أَن جَاءَت رسلنَا لوطا سيء بهم﴾ أَي: سيء بِالْمَلَائِكَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنه سَاءَهُ مَجِيء الْمَلَائِكَة أضيافا لما علم من خبث قومه.
وَقَوله: ﴿وضاق بهم ذرعا﴾ أَي: ضَاقَ ذرعا بمجيئهم. يُقَال: ضَاقَ فلَان ذرعا بِكَذَا إِذا كرهه.
وَقَوله: ﴿قَالُوا لَا تخف وَلَا تحزن﴾ لَا تخف من قَوْمك علينا، وَلَا تحزن بإهلاكنا إيَّاهُم.
وَقَوله: ﴿إِنَّا منجوك وَأهْلك إِلَّا امْرَأَتك كَانَت من الغابرين﴾ أَي: البَاقِينَ فِي الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا منزلون على أهل هَذِه الْقرْيَة﴾ أَي: سدوم.
وَقَوله: ﴿رجزا من السَّمَاء﴾ أَي: عذَابا من السَّمَاء.
وَقَوله: ﴿بِمَا كَانَ يفسقون﴾ أَي: يعصون.
قَوْله: ﴿وَلَقَد تركنَا مِنْهَا آيَة بَيِّنَة﴾ أَي: من قريات قوم لوط.
قَالَ قَتَادَة: الْآيَة الْبَيِّنَة (هِيَ [الْأَحْجَار] الَّتِي أهلكوا بهَا، وَقد كَانَ قد بَقِي بَعْضهَا حَتَّى أَدْرَكته أَوَائِل هَذِه الْأمة. وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَة الْبَيِّنَة) : ظُهُور المَاء الْأسود من قراهم.
وَقَوله: ﴿لقوم يعْقلُونَ﴾ أَي: يتدبرون الْآيَات تدبر ذَوي الْعُقُول.
179
﴿لقوم يعْقلُونَ (٣٥) وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله وارجوا الْيَوْم الآخر وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (٣٦) فَكَذبُوهُ فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين (٣٧) وعادا وَثَمُود وَقد تبين لكم من مساكنهم وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل وَكَانُوا مستبصرين (٣٨) وَقَارُون وَفرْعَوْن وهامان وَلَقَد جَاءَهُم﴾
180
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا﴾ مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا.
وَقَوله: ﴿فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله وارجوا الْيَوْم الآخر﴾ أَي: وخشوا الْيَوْم الآخر، وَيُقَال: الرَّجَاء على حَقِيقَته، وَهُوَ الأمل.
وَقَوله: ﴿وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين﴾ أَي: لَا تفسدوا فِي الأَرْض. [والعيث] أَشد الْفساد.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَكَذبُوهُ فَأَخَذتهم الرجفة﴾ الرجفة: زعزعة تُؤدِّي إِلَى الْهَلَاك.
وَقَوله: ﴿فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين﴾ أَي: ميتين، وَقيل: خامدين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وعادا وَثَمُود﴾ أَي: وأهلكنا عادا وَثَمُود.
وَقَوله: ﴿وَقد تبين لكم من مساكنهم﴾ أَي: الْمنَازل الَّتِي سكنوها.
وَقَوله: ﴿وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل﴾ أَي: صدهم عَن سَبِيل الْحق.
وَقَوله: ﴿وَكَانُوا مستبصرين﴾ أَي: ارتكبوا مَا ارتكبوا وَقد علمُوا أَن عَاقِبَة أَمرهم بوار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَارُون وَفرْعَوْن وهامان﴾ أَي: وأهلكنا قَارون وَفرْعَوْن وهامان. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن فِرْعَوْن كَانَ يَبِيع الْبِطِّيخ فِي ابْتِدَاء أمره، وهامان كَانَ طيانا.
180
﴿مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فاستكبروا فِي الأَرْض وَمَا كَانُوا سابقين (٣٩) فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ فَمنهمْ من أرسلنَا عَلَيْهِ حاصبا وَمِنْهُم من أَخَذته الصَّيْحَة وَمِنْهُم من خسفنا بِهِ الأَرْض وَمِنْهُم من أغرقنا وَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (٤٠) مثل الَّذين اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء كَمثل العنكبوت اتَّخذت بَيْتا وَإِن أوهن الْبيُوت لبيت العنكبوت لَو﴾
وَقَوله: ﴿وَلَقَد جَاءَهُم مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَي: بالدلالات.
قَوْله: ﴿فاستكبروا فِي الأَرْض وَمَا كَانُوا سابقين﴾ أَي: فائتين عَن عذابنا، كالسابق على الشَّيْء فَيكون قد فَاتَهُ.
181
قَوْله تَعَالَى: ﴿فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ﴾ أَي: أَخذنَا كل هَؤُلَاءِ بذنبهم.
وَقَوله: ﴿فَمنهمْ من أرسلنَا عَلَيْهِ حاصبا﴾ الحاصب هِيَ الرّيح الَّتِي تحمل الْحَصْبَاء، والحصباء: الْحَصَى (الصغار)، وَالَّذين أهلكوا بالحصباء قوم لوط.
وَقَوله: ﴿وَمِنْهُم من أَخَذته الصَّيْحَة﴾ يَعْنِي: قوم صَالح، وهم ثَمُود.
وَقَوله: ﴿وَمِنْهُم من خسفنا بِهِ الأَرْض﴾ أَي: قَارون.
وَقَوله: ﴿وَمِنْهُم من أغرقنا﴾ أَي: قوم نوح وَقوم فِرْعَوْن.
وَقَوله: ﴿ [وَمَا] كَانَ الله ليظلمهم﴾ أَي: مَا ظلمهم الله ﴿وَلَكِن هم اللَّذين ظلمُوا أنفسهم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مثل الَّذين اتَّخذُوا من دون الله﴾ الْمثل: كَلَام سَائِر يتَضَمَّن تَشْبِيه حَال الآخر بِالْأولِ.
وَقَوله: ﴿أَوْلِيَاء﴾ أَي: الْأَصْنَام.
وَقَوله: ﴿كَمثل العنكبوت﴾ العنكبوت: دَابَّة [أَعْطَاهَا] الله تَعَالَى آلَة تنسج
181
﴿كَانُوا يعلمُونَ (٤١) إِن الله يعلم مَا يدعونَ من دونه من شَيْء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (٤٢) وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ (٤٣) خلق الله السَّمَوَات﴾ بهَا بَيْتا تأوي إِلَيْهِ، (وبيته) فِي غَايَة الضعْف والوهاء، وَإِنَّمَا مثل عبَادَة الْأَصْنَام بِبَيْت العنكبوت؛ لِأَن بَيت العنكبوت لَا يقي حرا وَلَا بردا، وَكَذَلِكَ عبَادَة الْأَصْنَام لَا تجلب نفعا، وَلَا تدفع ضرا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي أَنه قَالَ: " العنكبوت شَيْطَان مسخ فَاقْتُلُوهُ " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه أَمر أَلا يتْرك نَسِيج العنكبوت فِي الْبَيْت، وَقَالَ: تَركه يُورث الْفقر. وَقد بَينا أَن الله تَعَالَى جعل العنكبوت جند النَّبِي فِي الْغَار.
وَقَوله: ﴿وَإِن أوهن الْبيُوت لبيت العنكبوت لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ أَي: لَو كَانُوا يعلمُونَ أَن عبَادَة الْأَصْنَام لَا تغني شَيْئا، كَمَا علمُوا أَن بَيت العنكبوت لَا يدْفع شَيْئا.
182
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يعلم مَا يدعونَ من دونه من شَيْء﴾ أَي: يعلم مَا يدعونَ من دونه من الْأَصْنَام وَغَيرهَا.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ أَي: الْعَزِيز بالانتقام من أعدائه، الْحَكِيم فِي تَدْبِير خلقه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس﴾ أَي: الْأَشْبَاه الَّتِي يَقع بهَا التَّمْثِيل.
وَقَوله: ﴿وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ﴾ (أَي: الْعَالمُونَ بمعاني كَلَامي، وَعَن بعض السّلف قَالَ: يسْتَحبّ أَن يقف عِنْد كل مثل فِي الْقُرْآن، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ﴾.
182
﴿وَالْأَرْض بِالْحَقِّ إِن فِي ذَلِك لآيَة للْمُؤْمِنين (٤٤) اتل مَا أُوحِي إِلَيْك من الْكتاب وأقم الصَّلَاة إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَلذكر الله أكبر وَالله يعلم مَا تَصْنَعُونَ﴾
183
قَوْله تَعَالَى: ﴿خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ﴾ أَي: بالحكمة.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك (لآيَة﴾ للْمُؤْمِنين) أَي: لعبرة للْمُؤْمِنين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿اتل مَا أوحى إِلَيْك من الْكتاب﴾ أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿وأقم الصَّلَاة إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر﴾ الْفَحْشَاء كل قَبِيح من الْأَفْعَال، وَالْمُنكر كل مَا يُنكره الشَّرْع، (فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: ﴿إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر﴾ وَقد رَأينَا من يُصَلِّي وَلَا يَنْتَهِي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر؟ قُلْنَا: رُوِيَ عَن حَمَّاد بن سَلمَة أَنه قَالَ: تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر مَا دَامَ فِي الصَّلَاة، وَعَن غَيره: تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر) فِيهَا وَبعدهَا. وَمعنى النَّهْي على هَذَا القَوْل أَنه يقْرَأ الْقُرْآن وَالْقِرَاءَة، تنهاه عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر.
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لَا صَلَاة لمن لم يطع الصَّلَاة. وَفِي هَذَا اللَّفْظ إِشَارَة إِلَى مَا بَينا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من لم تَنْهَهُ صلَاته عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر لم يَزْدَدْ من الله إِلَّا بعدا ".
183
( ﴿٤٥) وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم وَقُولُوا آمنا﴾
وَعَن الْحسن وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: من صلى وَلم ينْتَه عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر، فَصلَاته وبال عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وَلذكر الله أكبر﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلذكر الله أفضل من كل الطَّاعَات، وَرُوِيَ عَن ثَابت الْبنانِيّ أَن رجلا أعتق أَربع رِقَاب، وَجعل آخر يذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، ثمَّ سُئِلَ عَن ذَلِك جمَاعَة من أهل الْعلم، فَقَالُوا: ذكر الله تَعَالَى أفضل؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وَلذكر الله أكبر﴾.
وَالْقَوْل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: وَلذكر الله إيَّاكُمْ أكبر من ذكركُمْ إِيَّاه، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ إِن رجلا قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: إِن فلَانا (يَقُول) فِي قَوْله: ﴿وَلذكر الله أكبر﴾ : إِن مَعْنَاهُ: إِذا ذكره وانْتهى عَن مَعَاصيه، فَقَالَ: هَذَا كَلَام حسن. وَلَيْسَ بِمَعْنى الْآيَة؛ وَإِنَّمَا معنى الْآيَة مَا ذكرنَا عَنهُ، وَهُوَ قَوْله: وَلذكر الله إيَّاكُمْ أكبر من ذكركُمْ إِيَّاه. وَمِنْهُم من قَالَ: وَلذكر الله فِي الثَّوَاب أكبر من ذكركُمْ فِي الطَّاعَة.
وَقَوله: ﴿وَالله يعلم مَا تَصْنَعُونَ﴾ أَي: تَفْعَلُونَ.
184
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب الَّذين قبلوا الْجِزْيَة إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن، وَقَوله: ﴿إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم﴾ المُرَاد بهم على هَذَا القَوْل أهل الْحَرْب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: ﴿وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ مِنْهُم، وَمعنى النَّهْي عَن المجادلة مَعَهم بعد إِيمَانهم، هُوَ أَنهم كَانُوا يخبرون عَن أَشْيَاء فِي كتبهمْ لم يعلمهَا الْمُؤْمِنُونَ، [فَنهى] عَن مجادلتهم فِيهَا، فلعلها صَحِيحَة.
وَقَوله: ﴿إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم﴾ هم الَّذين لم يُؤمنُوا. وَعَن قَتَادَة قَالَ: الْآيَة
184
﴿بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم وإلهنا وإلهكم وَاحِد وَنحن لَهُ مُسلمُونَ (٤٦) وَكَذَلِكَ أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُم الْكتاب يُؤمنُونَ بِهِ وَمن هَؤُلَاءِ من يُؤمن بِهِ وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧) وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب وَلَا تخطه بيمينك﴾ مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيْف.
وَقَوله: ﴿وَقُولُوا آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم﴾ (رُوِيَ عَن النَّبِي هم أَنه قَالَ: " إِذا أخْبركُم أهل الْكتاب بِشَيْء لم تعرفوه فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم، وَلَكِن قُولُوا: ﴿آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم﴾ وإلهنا وإلهكم وَاحِد وَنحن لَهُ مُسلمُونَ ") ".
185
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب﴾ أَي: كَمَا بعثناك بِالْحَقِّ أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب.
وَقَوله: ﴿فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُم الْكتاب يُؤمنُونَ بِهِ﴾ أَي: يصدقون بِهِ، وَقَوله: ﴿وَمن هَؤُلَاءِ من يُؤمن بِهِ﴾ أَي: وَمن الْمُشْركين من يصدق بِهِ، فَقَوله: ﴿هَؤُلَاءِ﴾ إِشَارَة إِلَى الْمُشْركين الَّذين كَانُوا بِمَكَّة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب﴾ أَي: من قبل بعثنَا إياك، وإنزال الْقُرْآن عَلَيْك.
وَقَوله: ﴿وَلَا تخطه بيمينك﴾ أَي: لم تكن تقْرَأ وَلَا تكْتب.
وَقَوله: ﴿إِذا لارتاب المبطلون﴾ أَي: إِذا لشك الْكَافِرُونَ لَو قَرَأت وكتبت، أما أهل الشّرك وَكَانُوا يَزْعمُونَ أَنه قَرَأَ من كتب الْأَوَّلين وانتسخ مِنْهَا، وَأما أهل الْكتاب فقد
185
﴿إِذا لارتاب المبطلون (٤٨) بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَات من ربه قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله﴾ كَانَ من نَعته فِي كتبهمْ أَنه أُمِّي لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب، فَلَو قَرَأَ وَكتب وَقع لَهُم الشَّك.
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: لم يخرج النَّبِي من الدُّنْيَا حَتَّى كتب وَقَرَأَ. وَهُوَ قَول ضَعِيف لَا يعْتَمد عَلَيْهِ، [وأظن] أَنه لَا يَصح عَن الشّعبِيّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَالما كَبِيرا.
186
قَوْله تَعَالَى: ﴿بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم﴾ أَي: الْقُرْآن آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن مُحَمَّدًا ذُو آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " (إِن الله تَعَالَى) قَالَ لي: بَعَثْتُك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عَلَيْك كتابا لَا يغسلهُ المَاء، تَقْرَأهُ نَائِما ويقظانا " وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مَا بَينا أَن الْقُرْآن فِي صُدُور الْمُؤمنِينَ لَا ينسخه وَلَا يغسلهُ شَيْء.
وَقَوله: ﴿وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ أَي: الْكَافِرُونَ.
قَوْله: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه﴾ يَعْنِي: مثل مَا أنزل على عِيسَى من الْمَائِدَة، وَأعْطِي صَالح من النَّاقة، ومُوسَى من الْيَد والعصا ﴿قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله﴾ يَعْنِي: إِن الْآيَات عِنْد الله يُعْطِيهَا بمشيئته وإرادته.
وَقَوله: ﴿وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين﴾ قد بَينا. وَاعْلَم أَن الله تَعَالَى قد أعْطى رَسُوله مُحَمَّدًا المعجزات الْكَثِيرَة، وَلكنه لم يُعْطه على مَا اقترحوا، وَقد كَانُوا يطْلبُونَ أَن تكون الْآيَات على وفْق إقتراحاتهم.
186
﴿وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين (٥٠) أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم إِن فِي ذَلِك لرحمة وذكرى لقوم يُؤمنُونَ (٥١) قل كفى بِاللَّه بيني وَبَيْنكُم شَهِيدا يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالَّذين آمنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفرُوا بِاللَّه أُولَئِكَ هم الخاسرون (٥٢) ﴾
187
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو لم يَكفهمْ﴾ الْكِفَايَة: بُلُوغ (غَايَة) تنَافِي الْحَاجة.
وَقَوله: ﴿إِنَّا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب﴾ أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿يُتْلَى عَلَيْهِم﴾ أَي: يقْرَأ عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لرحمة﴾ أَي: لنعمة لمن آمن بِهِ.
وَقَوله: ﴿وذكرى﴾ أَي: موعظة وتذكيرا، وَقد بَينا وَجه الإعجاز فِي الْقُرْآن من حَيْثُ النّظم وَالْمعْنَى والإخبار عَن الغيوب وَغَيره.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل كفى بِاللَّه بيني وَبَيْنكُم شَهِيدا﴾ الشَّهَادَة: خبر عَن مُشَاهدَة يَبْنِي عَلَيْهِ حكم شَرْعِي، وَالله تَعَالَى شَهِيد على أَفعَال الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار جَمِيعًا.
وَقَوله: ﴿يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين آمنُوا بِالْبَاطِلِ﴾ أَي: بِغَيْر الله. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أصدق كلمة قَالَت الْعَرَب قَول لبيد:
(أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل وكل نعيم لَا محَالة زائل)
ثمَّ قَالَ: إِلَّا نعيم الْجنَّة ".
وَاعْلَم أَن الْإِيمَان إِذا أطلق يُرَاد بِهِ الْإِيمَان بِاللَّه، وَإِذا قيد يجوز أَن يُقَال: آمن بإبليس، وآمن بالطاغوت، وَمَا أشبه ذَلِك، وَهَذَا كَمَا إِذا قيل: فلَان قَائِم، وَأطلق يُرَاد
187
﴿ويستعجلونك بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أجل مُسَمّى لجاءهم الْعَذَاب وليأتينهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (٥٣) يستعجلونك بِالْعَذَابِ وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين (٥٤) يَوْم﴾ بِهِ المتصف، فَإِذا قيل: يجوز أَن يُقَال: قَائِم بِالتَّدْبِيرِ قَائِم بِالْملكِ. وَقَالَ يحيى بن سَلام: الْبَاطِل هَاهُنَا: إِبْلِيس.
وَقَوله: ﴿وَكَفرُوا بِاللَّه﴾ أَي: جَحَدُوا بِاللَّه.
وَقَوله: ﴿وَأُولَئِكَ هم الخاسرون﴾ الخاسرون: من خسر رَأس المَال، فالكفار لما فعلوا فعلا عرضوا أنفسهم للهلاك سماهم الله خاسرين.
188
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويستعجلونك بِالْعَذَابِ﴾ قد بَينا أَن النَّضر بن الْحَارِث قَالَ: ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء﴾ الْآيَة فَهَذَا هُوَ الاستعجال بِالْعَذَابِ.
وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا أجل مُسَمّى﴾ أَي: وعد الْقِيَامَة، وَقيل: النفخة فِي الصُّور وَيُقَال: الْوَقْت الَّذِي عين لعذابهم.
وَقَوله: ﴿لجاءهم الْعَذَاب وليأتينهم بَغْتَة﴾ أَي: فَجْأَة ﴿وهم لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ بمجيئها. وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الرجل ليرْفَع لقمته فَلَا يَضَعهَا فِي فِيهِ حَتَّى تقوم السَّاعَة ".
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يستعجلونك بِالْعَذَابِ﴾ يُقَال: المُرَاد بِهِ هُوَ المُرَاد بِالْآيَةِ الأولى، أَعَادَهُ للتَّأْكِيد، وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة نزلت على قوم من جهال هَذِه الْأمة، وَالْقَوْل الأول أولى.
وَقَوله: ﴿وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين﴾ أَي: جَامِعَة لعذابهم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: لَا بُد أَن يدخلوها.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم يَغْشَاهُم الْعَذَاب من فَوْقهم﴾ يَعْنِي: يصيبهم الْعَذَاب من
188
﴿يَغْشَاهُم الْعَذَاب من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم وَيَقُول ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٥٥) يَا عبَادي الَّذين آمنُوا إِن أرضي وَاسِعَة فإياي فاعبدون (٥٦) كل نفس ذائقة الْمَوْت ثمَّ﴾ فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى: ﴿لَهُم من فَوْقهم ظلل من النَّار وَمن تَحْتهم ظلل﴾
وَقَوله: ﴿وَيَقُول ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ قد بَينا معنى الذَّوْق من قبل.
وَقَوله: ﴿مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ أَي: جَزَاء بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ.
189
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا عبَادي الَّذين آمنُوا إِن أرضي وَاسِعَة﴾ قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِي هَذِه الْآيَة: كَانُوا إِذا ظَهرت الْمعْصِيَة بِأَرْض خَرجُوا مِنْهَا. وَعَن سعيد بن جُبَير وَعَطَاء أَنَّهُمَا قَالَا: إِذا أمرت بالمعصية فِي (بَلْدَة) فَأخْرج مِنْهَا (وَفِي رِوَايَة: " إِذا ظَهرت الْمعْصِيَة فِي بَلْدَة فَأخْرج مِنْهَا).
وَذكر أهل الْعلم أَنه إِذا لم يُمكنهُ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر خرج أَيْضا، وَالْآيَة نزلت فِي قوم تخلفوا عَن الْهِجْرَة بِمَكَّة، وَقَالُوا: نخشى إِن هاجرنا من الْجُوع وضيق الْمَعيشَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَلم يعذرهم فِي ترك الْخُرُوج، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: ﴿إِن أرضي وَاسِعَة﴾ أَي: رِزْقِي وَاسع، ذكره مطرف ابْن عبد الله ابْن الشخير.
وَقَوله: ﴿فإياي فاعبدون﴾ أَي: وحدوني وأطيعوني.
قَوْله: ﴿كل نفس ذائقة الْمَوْت﴾ مَعْنَاهُ: أَن تخلفهم (عَن) الْهِجْرَة لَا ينجيهم من الْمَوْت، وَقد روى جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ " أَن النَّبِي
189
﴿إِلَيْنَا ترجعون (٥٧) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنبوئنهم من الْجنَّة غرفا تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نعم أجر العاملين (٥٨) الَّذين صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ﴾ لما توفى سمعُوا حس شخص وَلم يروه، وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم أهل الْبَيْت وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته ﴿كل نفس ذائقة الْمَوْت﴾ الْآيَة، إِن فِي الله عزاء من كل مُصِيبَة، وخلفا من كل هَالك، ودرجا من كل فَائت، أَلا بِاللَّه فثقوا، وإياه فارجوا، والمصاب من حرم الثَّوَاب ".
وَقَوله: ﴿ثمَّ إِلَيْنَا ترجعون﴾ أَي: تردون.
190
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنبوئنهم من الْجنَّة غرفا﴾ أَي: لنسكننهم من الْجنَّة غرفا، أَي: علالي، وروى أَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " إِن لله غرفا فِي الْجنَّة، يرى ظُهُورهَا من بطونها، وبطونها من ظُهُورهَا، قيل: لمن هِيَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لما أطاب الْكَلَام، وَأطْعم الطَّعَام، وَصلى بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نيام ".
وَقُرِئَ: " لنثوينهم " والثوى هُوَ الْإِقَامَة، والتبوؤ هُوَ النُّزُول فِي الْموضع الَّذِي يسكن فِيهِ، وَفِي أَخْبَار الْجَاهِلِيَّة: أَن المهلهل لما قتل ابْن الْحَارِث بن عباد فِي حَرْب بكر وتغلب قَالَ: تبوء بشسع نعل كُلَيْب.
وَمن الْمَعْرُوف عَن الْحُسَيْن أَنه قَالَ لِلْحسنِ فِي قتل أبي ملجم: لَا تَجْعَلهُ ثوى بأبينا أَي: لَا ننزله منزلَة أَبينَا.
وَقَوله: ﴿تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نعم أجر العاملين﴾ أَي: العاملين بِالطَّاعَةِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ [الَّذين] صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ﴾ أَي: صَبَرُوا على
190
( ﴿٥٩) وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها الله يرزقها وَإِيَّاكُم وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾ الشدائد، وَقَوله: ﴿وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ﴾ أَي: يعتمدون.
191
قَوْله تَعَالَى: ﴿وكأين من دَابَّة﴾ أَي: وَكم من حَيَوَان يدب على الأَرْض.
وَقَوله: ﴿لَا تحمل رزقها﴾ أَي: لَا تحمل رزقها مَعهَا، وَقيل: لَا تدخر رزقها للغد.
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَالْمَعْرُوف أَنه عَن سُفْيَان الثَّوْريّ: " لَيْسَ من الْحَيَوَان مَا يدّخر شَيْئا للغد سوى ابْن آدم والفأرة والنملة والعقعق. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن المُرَاد من قَوْله: ﴿وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها﴾ أَي: مُحَمَّد: وَكَانَ لَا يدّخر شَيْئا للغد، وَقد ثَبت بِرِوَايَة أنس: " أَن النَّبِي كَانَ لَا يدّخر شَيْئا لغد ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مَنْصُور بكر بن مُحَمَّد بن حميد النَّيْسَابُورِي بِبَغْدَاد من لَفظه، أخبرنَا أَبُو الْحسن الْخفاف، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس السراج، عَن قُتَيْبَة، عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان الضبعِي، عَن ثَابت، عَن أنس... الْخَبَر.
وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة ابْن عمر أَنه قَالَ: " دخلت مَعَ رَسُول الله يلتقط التَّمْر ويأكله، فكدت لَا آكله، فَقَالَ لي: أَلا تَأْكُله يَا ابْن عمر؟ فَقلت: لَا أشتهيه. فَقَالَ: لكني أشتهيه، وَهَذَا صبح رَابِع أربعو أَيَّام وَلم أذق طَعَاما، وَلَو طلبت من الله لأعطاني مثل ملك كسْرَى وَقَيْصَر، ثمَّ قَالَ: كَيفَ بك يَا ابْن عمر إِذا بقيت فِي قوم يدخرون الرزق لسنتهم، ويضعف الْيَقِين؟ ! قَالَ: فَلم نَبْرَح من ذَلِك الْموضع حَتَّى أنزل الله تَعَالَى: ﴿وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها﴾. " وَالْخَبَر غَرِيب.
191
( ﴿٦٠) وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون (٦١) الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَهُ إِن الله بِكُل شَيْء عليم (٦٢) وَلَئِن سَأَلتهمْ من نزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض من بعد مَوتهَا ليَقُولن الله﴾
وَقَوله: ﴿الله يرزقها وَإِيَّاكُم﴾ يَعْنِي: يرْزق تِلْكَ الدَّابَّة وَإِيَّاكُم.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَمن الْمَشْهُور عَن النَّبِي قَالَ: " لَو توكلتم على الله حق توكله، لرزقتم كَمَا ترزق الطير، تَغْدُو خماصا، وَتَروح بطانا ".
وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " إِن روح الْقُدس نفث فِي روعي، أَن لن تَمُوت نفس حَتَّى تستكمل رزقها، فَاتَّقُوا الله وأجملوا فِي الطّلب ".
192
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر﴾ أَي: وذلل الشَّمْس وَالْقَمَر.
وَقَوله: ﴿ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون﴾ أَي: يصرفون عَن الْحق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَهُ﴾ أَي: يُوسع على من يَشَاء، ويضيق على من يَشَاء.
وَقَوله: ﴿إِن الله بِكُل شَيْء عليم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَئِن سَأَلتهمْ من نزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض من بعد مَوتهَا ليَقُولن الله قل الْحَمد لله﴾ يَعْنِي: على أَن الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء هُوَ الله.
192
﴿قل الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ (٦٣) وَمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لَهو وَلعب وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان لَو كَانُوا يعلمُونَ (٦٤) فَإِذا ركبُوا فِي الْفلك دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر إِذا هم يشركُونَ (٥٦) ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم وليتمتعوا فَسَوف يعلمُونَ (٦٦) أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا وينخطف النَّاس من﴾
وَقَوله: ﴿بل أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ أَن الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء هُوَ الله تَعَالَى.
193
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لَهو وَلعب﴾ اللَّهْو هُوَ الِاسْتِمْتَاع بلذات الدُّنْيَا، وَسمي لهوا؛ لِأَنَّهَا فانية بِخِلَاف لذات الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿وَلعب﴾ أَي: وعبث، وَيُقَال: إِنَّمَا سمي ذَلِك لهوا وَلَعِبًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْتَعْمل بهَا من لَا يتفكر فِي العواقب.
وَقَوله: ﴿وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان﴾ أَي: لهي الْحَيَاة الدائمة. وَقَالَ أهل اللُّغَة: الْحَيَوَان والحياة بِمَعْنى وَاحِد، يحْكى هَذَا عَن أبي عُبَيْدَة وَأبي. وَمعنى الْآيَة: أَن فِي الْآخِرَة الْحَيَاة الدائمة.
وَقَوله: ﴿لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ أَي: لَو كَانُوا يعلمُونَ أَن الدُّنْيَا تفنى، وَالْآخِرَة تبقى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا ركبُوا فِي الْفلك دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين﴾ أَي: دعوا الله وَتركُوا دُعَاء الْأَصْنَام، وَحكي عَن عِكْرِمَة قَالَ: لَو كَانُوا يركبون الْبَحْر ويحملون أصنامهم مَعَهم، فَإِذا هَاجَتْ الْبَحْر وخافوا الْغَرق، طرحوا أصنامهم فِي الْبَحْر، وقواول: يَا رب، يَا رب.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر إِذا هم يشركُونَ﴾ أَي: عَادوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم وليتمتعوا فَسَوف يعلمُونَ﴾ على طَرِيق التهديد.
وَقَوله: ﴿أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا﴾ أَي: ذَا أَمن، وَقَوله: ﴿وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ﴾ الاختطاف هُوَ الاستلاب بِسُرْعَة، وَقد بَينا هَذَا الْمَعْنى من قبل.
193
﴿حَولهمْ أفبالباطل يُؤمنُونَ وبنعمة الله يكفرون (٦٧) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ (٦٨) وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ (٦٩) ﴾
وَقَوله: ﴿أفبالباطل يُؤمنُونَ﴾ يَعْنِي: أفغير الله يُؤمنُونَ؟ وَهُوَ لفظ اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار.
وَقَوله: ﴿وبنعمة الله يكفرون﴾ أَي: يجحدون.
194
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا﴾ أَي: كذب على الله، وَادّعى أَنه أنزل مَا لم ينزله.
وَقَوله: ﴿أَو كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن، وَقيل: مُحَمَّدًا.
وَقَوله: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ﴾ أَي: مقَام ومستقر للْكَافِرِينَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين جاهدوا فِينَا﴾ رُوِيَ عَن الْحسن أَنه قَالَ: أفضل الْجِهَاد مُخَالفَة الْهوى. وَيُقَال: الْجِهَاد هَاهُنَا هُوَ الْعَمَل بِمَا علمه، وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ لإِبْرَاهِيم بن أدهم: أَلا تَأْتِينَا فَتَتَعَلَّمُ منا؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت حديثين فَإِذا فرغت مِنْهُمَا تعلمت الثَّالِث، ثمَّ رُوِيَ بِإِسْنَاد أَن النَّبِي قَالَ: " من زهد فِي الدُّنْيَا نور الله قلبه ".
وَيُقَال: المجاهدة: هُوَ الصَّبْر على الطَّاعَات وَاجْتنَاب الْمعاصِي، وَيُقَال: قتال الْكفَّار، وَيُقَال: تَحْقِيق الْإِخْلَاص فِي الْأَعْمَال، وَهُوَ حَقِيقَة قَوْله تَعَالَى: ﴿فِينَا﴾.
وَقَوله: ﴿لنهدينهم سبلنا﴾ لنزيدنهم هدى، وَيُقَال: لنرشدهم إِلَى (الطّرق) المستقيمة، والطرق المستقيمة هِيَ الَّتِي توصل إِلَى رضى الله تَعَالَى. وَعَن ابْن الْمُبَارك أَنه قَالَ: قَالَ لي سُفْيَان بن عُيَيْنَة: إِذا اخْتلف النَّاس فَعَلَيْك بِمَا قَالَه لأهل الْجِهَاد والثغور، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا﴾.
وَقَوله: ﴿وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ﴾ أَي: بالنصرة والمعونة.
194

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿الم (١) غلبت الرّوم (٢) فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (٣) فِي﴾
تَفْسِير سُورَة الرّوم
وَهِي مَكِّيَّة
195
Icon