ﰡ
[سورة العنكبوت]
فاتحة سورة العنكبوت
لا يخفى على من تدرج في درجات الكمال وترقى من حضيض الجهل ومضيق الوهم والخيال الى سعة ذروة المعرفة والتوحيد وفضاء الوصال وتمكن بمقر الوحدة بلا تلوين وانتقال وانكشف له ما في استعداده من ودائع البدائع الإلهية المقتضية للظهور الباعثة للبروز من موطن الكمون والخفاء الى فضاء الجلاء والانجلاء ان الاختبارات والابتلاءات الإلهية الواقعة بين مظاهره ومصنوعاته انما هي لحصول الاعتدال الحقيقي والقسط المعنوي المنبئ عن مرتبة الخلافة والنيابة عن الله المستلزم للتخلق بأخلاقه العظيمة والتثبت على الصراط المستقيم لذلك قد جرت سنته السنية وعادته العلية على نقد اعمال جميع المكلفين بالإيمان والعرفان بالعرض على محك الإخلاص ليتميز المغشوش المكدر بأنواع الكدورات من الرياء والسمعة والعجب وانواع الاهوية الفاسدة والرعونات الكاسدة الناشئة من النفوس الخبيثة عن الصافي الخالص الخالي عن شوب اللوث بالأمور الطبيعية الطاهر المطهر عن الأدناس البشرية الحاصلة من تسويلات النفوس الامارة بالسوء وتلبيسات الشياطين المنبعثة عن القوى البهيمية المورثة لانواع الجهالات والضلالات لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطبه وبين في خطابه على ابلغ وجه وآكده ما عاتب به عباده من ترك الإخلاص والاغترار على مجرد الأقوال بلا مطابقة الاعتقاد متيمنا باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي كلف عباده بما كلف ليتأدبوا بآداب عبوديته حتى يستعدوا لفيضان آثار ربوبيته الرَّحْمنِ عليهم بافاضة ما يصلحهم عما هم عليه من المفاسد البشرية الرَّحِيمِ لهم يوصلهم بعد ما امتثلوا بما أمروا الى أقصى ما أعدلهم من الدرجات العلية والمقامات السنية
[الآيات]
الم ايها الإنسان الكامل الأكمل الأعلم اللائق لفيضان لوامع أنوار الوجود ولوائح آثار الفضل والجود المؤيد الملازم لاستكشاف مكنونات ما في مظاهر المكونات من معظمات آثار الألوهية ومكرمات أنوار الربوبية اللامعة اللائحة على نواصي عموم ما ظهر وبطن غيبا وشهادة على التعاقب والتوالي بلا انقطاع ولا انصرام ازلا وابدا وبلا ذهول وغفلة وفتور وفترة بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط ذرة من ذرائر ما ظهر ولاح دون اشراق شمس وجهه الكريم
أَحَسِبَ زعم وظن وتخيل النَّاسُ المنهمكون في الغفلة والنسيان أَنْ يُتْرَكُوا ويهملوا على ما هم عليه من عدم مطابقة قلوبهم بأفواههم وأعمالهم بنياتهم وأفعالهم بحالاتهم بمجرد أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا بلا موافقة من قلوبهم مع ان الايمان في الأصل ما هو الا الإذعان والقبول والإخلاص بالقلب والانقياد والتسليم بالجوارح والآلات من لوازمه ومتمماته وَهُمْ بمجرد ما يلقلق به
وَليس افتتاننا واختبارنا إياهم ببدع منا بل لَقَدْ فَتَنَّا وامتحنا القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السالفة مع انهم قد يدعون الايمان ويتفوهون به أمثالهم ومع ذلك لم نتركهم عبثا سدى بلا ابتلاء منا إياهم واختبار لهم وليس اختبارهم وامتحانهم الا لإظهار محبتنا البالغة عليهم والا فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ المطلع على ضمائر عباده وسرائرهم وليميزن حسب علمه الحضوري المؤمنين الموقنين الَّذِينَ صَدَقُوا منهم وأخلصوا في ايمانهم وَايضا لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ منهم وهم الذين لا يخلصون مع الله في حال من الأحوال وعمل من الأعمال ولا يسمعون أوامر الله ونواهيه من السنة رسله سمع قبول ورضا وانما أرادوا بايمانهم الظاهر الذي قد أتوا به على سبيل الكراهة والمراء إسقاط لوازم الكفر من حقن الدماء وسبى الذراري ونهب الأموال والافهم ليسوا ممن يذعنون بدلائل التوحيد وبراهين الايمان عن صميم قلوبهم ظنا منهم انا غافلون عن بواطنهم ونياتهم
أَمْ حَسِبَ بل ظن المسرفون المفرطون الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ مصرين عليها مبالغين في إتيانها أَنْ يَسْبِقُونا ويفوتوا عنا جزاء ما عملوا ويسقطوا عن حسابنا ما أتوا به من المعاصي والآثام عنهم بالفعل وبالجملة قد ساءَ ما يَحْكُمُونَ علينا وينسبون إلينا حكمهم هذا ونسبتهم هذه أعاذنا الله وعموم عباده عن أمثال هذه الظنون الفاسدة بالنسبة اليه سبحانه وما كل ذلك الا عن جهلهم بالله وبمقتضى علو شأنه وعزة سلطانه وانكارهم بلقائه والوقوف عند يديه والا
مَنْ كانَ يَرْجُوا ويأمل لِقاءَ اللَّهِ المتجلى على الأكوان حسب أسمائه العلية وصفاته السنية ويترصد مترقبا ان ينكشف له ما هو الموعود من لدنه سبحانه من الدرجات العلية والمقامات السنية حال كونه متأدبا بالآداب المنزلة من عنده بوساطة أنبيائه ورسله متحملا على متاعب التكاليف ومشاق الطاعات المفروضة المشروعة له مترقبا للانكشاف والشهود راجيا لقياه سبحانه بلا يأس وقنوط فاز بمبتغاه على الوجه الذي وعد بعد ما وفقه الحق وجذبه الى نفسه فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ الذي قد وعده لعباده الخلص من ان يشرفهم بشرف لقائه لَآتٍ جاء حالّ نازل بلا شك وارتياب وَكيف لا يشرفهم سبحانه بمطالعة وجهه الكريم سيما بعد ما وعدهم إذ هُوَ السَّمِيعُ بمناجاتهم الْعَلِيمُ بحاجاتهم التي هي الفوز بشرف اللقاء والوقوف عند سدرة المنتهى والتدلي الى مقام دنى فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى
وَمَنْ جاهَدَ واجتهد في الوصول الى ما ذكر من المقام المحمود وسعى في حصول الموعود المعهود الذي هو مرتبة الكشف والشهود فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إذ نفع جهاده وجهده انما يعود اليه وهو واصل الى منتهى مطلوبه بعد ما كان مستكملا طالبا إِنَّ اللَّهَ المنزه عن مطلق الطلب والاستكمال المبرأ عن عموم الترقب والانتظار لَغَنِيٌّ في ذاته عَنِ الْعالَمِينَ وعن مطلق طاعاتهم وعباداتهم ورجوعهم اليه وتوجههم نحوه. ثم قال سبحانه حثا لعموم عباده على التوجه نحو بابه ليفوزوا بما وعدوا وينالوا بما قد أعد لهم من الحسنات والدرجات
وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله وأخلصوا في ايمانهم وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المشعرة المؤيدة لإخلاصهم بلا شوب الهوى والرياء وعموم الرعونات أصلا لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ ولنمحون عن صحف أعمالهم عموم سَيِّئاتِهِمْ التي قد جاءوا وقت جهلهم وضلالهم وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ولنعاملن معهم
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بعد ما كلفناهم بالإيمان والعمل الصالح من ان يأتى كل منهم ويعمل بِوالِدَيْهِ حُسْناً اى معاملة ذات حسن يستحسنها العقل والشرع ويرتضيها الحق وتقتضيها الفتوة بحيث لا يحوم حولها شائبة من ولا أذى ولا استخفاف ولا استحقار بل يتذللون لهما ويتواضعون معهما على وجه الانكسار التام والتذلل المفرط وعليكم ايها المكلفون امتثال عموم أوامرهما ونواهيهما سوى الشرك بالله والطغيان على الله والعدوان معه سبحانه ومع أنبيائه ورسله وخلص عباده وَإِنْ جاهَداكَ ايها المؤمن المأمور على بر الوالدين ابواك وبالغا في حقك مقدمين أشد اقدام والحا عليك ابلغ إلحاح وأتم إبرام لِتُشْرِكَ بِي شيأ من مظاهري ومصنوعاتى سيما ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يعنى ليس علمك ويقينك متعلقا بألوهيته وربوبيته واستحقاقه للعبادة ولياقته للرجوع اليه في الخطوب والمهمات فَلا تُطِعْهُما ولا تقبل منهما أمرهما المتعلق بالإضلال والإشراك ولا تمتثل بقولهما هذا بل اعرض عنهما وعن قولهما وأمرهما هذا ولا تمض على دينهما وملتهما إذ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ورجوعكم جميعا أصلا وفرعا مؤمنا وكافرا موحدا ومشركا وبعد رجوعكم الىّ فَأُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الاختبار أحاسب عليكم أعمالكم واجازيكم على مقتضاها ان خيرا فخير وان شرا فشر
وَالَّذِينَ آمَنُوا منكم في دار الاختبار مخلصين وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تكميلا لإيمانهم وتتميما له بما هو من لوازمه ومتمماته لَنُدْخِلَنَّهُمْ حين رجوعهم إلينا فِي السعداء الصَّالِحِينَ المقبولين الآمنين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا منكم في النشأة الاولى وأصروا على الكفر والشرك والجحود والإنكار العياذ بالله ولم يرجعوا عنه سيما مع بعثة الرسل ونزول الكتب وورود الزواجر والروادع الكثيرة فيها لنعذبنهم البتة عذابا شديدا ولندخلنهم يوم يعرضون عليها في زمرة الأشقياء المردودين المغضوبين الذين لا نجاة لهم من النار ولا يرجى خلاصهم منها ابدا
وَمِنَ النَّاسِ المجبولين على التزلزل والتذبذب مَنْ يَقُولُ خوفا من عذاب الله آمَنَّا بِاللَّهِ بلا تمكن له واطمئنان في قلبه فَإِذا أُوذِيَ فِي سبيل اللَّهِ من اعداء قد انقلب على كفره وحيث جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ وإذا هم في شدة كَعَذابِ اللَّهِ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة والقوة الشاملة على انواع المحن والابتلاءات وبالجملة هم يسوون بين خوف الله وخوف الناس فكما يؤمنون بالله من خوف عذابه يكفرون به من خوف عذاب الناس وتقريعهم وتشنيعهم بلا تفاوت بين الخوفين والعذابين بل يرجحون خوف الناس على خوف الله لذلك يختارون الكفر على الايمان من ضعف يقينهم وعدم رسوخهم وتمكنهم على الايمان وذلك من عدم ترقيهم من حضيض الجهل والتقليد الى ذروة المعرفة والتوحيد وَمن غاية تزلزلهم وتلونهم لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ وعون للمؤمنين الباذلين مهجهم في سبيل الله مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وصاروا غالبين على اعداء الله بنصر الله إياهم وفازوا بالفتح والغنائم وانواع الكرامات لَيَقُولُنَّ أولئك المذبذبون المتزلزلون مبالغين في دعوى الموافقة والمواخاة إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ومن عدادكم موافقين ظاهرا وباطنا وفي دين الإسلام متمكنين مطمئنين سرا وجهرا
وَالله لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ المطلع لضمائر عباده وليميزن الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبذلوا جهدهم في سبيله وليظهرن إخلاصهم ورسوخهم على الدين وتمكنهم واطمئنانهم في مرتبة اليقين بعد ما أمرهم بالجهاد والقتال الصوري والمعنوي وَلَيَعْلَمَنَّ وليظهرن ايضا كيد الْمُنافِقِينَ ومكرهم وتقاعدهم عن القتال واحتيالهم في التخلف عن المؤمنين
وَمن جملة مكرهم واحتيالهم مع المؤمنين وخداعهم إياهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا قاصدين اضلالهم عن الطريق الحق وانصرافهم عن الدين المستبين اتَّبِعُوا ايها الحمقى المتذللون في أيدينا سَبِيلَنا واختاروا طريقنا الذي كنا عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي هي دين آبائنا وديدنة أسلافنا وَان خفتم بمقتضى زعمكم من أثقال ذنوبكم يوم العرض والجزاء لْنَحْمِلْ نحن أثقال خَطاياكُمْ عنكم حينئذ فتصيروا يومئذ مخففين بلا وزر وذنب وَبالجملة انما قالوا لهم هكذا تغريرا عليهم وتضليلا لهم واستهزاء والافهم هم المنكرون بالآخرة وبجميع ما فيها من الوعيدات الهائلة والإنذارات البليغة وهم وان فرض انهم قد اعتقدوا النشأة الاخرى وما فيها ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ اى شيأ قليلا من خطاياهم لدى الحاجة فكيف بجميعها وبالجملة إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في عموم مواعدهم وعهودهم إذ الكل لا يطابق اعتقادهم ولا الواقع إذ لا تحمل يومئذ نفس وازرة وزر نفس اخرى كذلك كل نفس لاقية ما كسبت حاملة ما اقترفت عدلا منه سبحانه ولهذا قال سبحانه مقسما
وَالله لَيَحْمِلُنَّ حينئذ أَثْقالَهُمْ وخطاياهم التي قد اقترفوها بأنفسهم بل وَنزيد عليها أَثْقالًا أخر حاصلة من اضلالهم وتضليلهم عباد الله منضمة مَعَ أَثْقالِهِمْ الاصلية وَالله مع تلك الأثقال على الأثقال لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ على الله من اثبات الشريك له في الوجود والتحقق وفي استحقاق العبادة وعن نسبتهم اليه سبحانه ما لا يليق بشأنه افتراء ومراء ثم ذكر سبحانه نبذا من احوال اهل الضلال والإضلال من المفترين الذين مضوا في سالف الزمان تسلية لرسول الله وازالة للحزن الذي قد لحقه صلّى الله عليه وسلم من تمادى المشركين في الغفلة والفساد ومن تطاولهم في الغي والعناد فقال
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وقت إذ ظهر فيهم انواع الفسوق والجدال واصناف الغي والضلال فَلَبِثَ فِيهِمْ وتحمل على مشاق دعوتهم وانواع أذاهم أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فهم كانوا يضربونه ويشتمونه وينسبونه الى الجهل والجنون والخرق والخرف وانواع الاستخفاف والاستحقار ومع ذلك لم يتقاعد عن دعوتهم ولم ينزجر عن زواجرهم بل كان يبلغهم ما امره الحق بتبليغه من الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة وهم من شدة شكيمتهم وخباثة طينتهم لم يزيدوا من سماعها الا تعنتا واستكبارا وعتوا واغترارا وإصرارا على ما هم عليه من الكفر والجحود وبعد ما قد استحقوا أشد العذاب وأسوأ النكال فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ حين خرج الماء من التنور المعهود وطاف عليهم فأغرقهم واستأصلهم
فَأَنْجَيْناهُ يعنى نبينا نوحا عليه السلام وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وهم المؤمنون الذين قد ركبوا معه عليها حين نبع الماء من التنور قيل كانوا ثمانين او سبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث وَبالجملة قد جَعَلْناها اى قصة إهلاكهم وهلاكهم بالطوفان آيَةً عظيمة لِلْعالَمِينَ تستدلون بها على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا في انتقام من خرج من مقتضيات حدودنا وأحكامنا وأوامرنا ونواهينا
وَلقد أرسلنا ايضا يا أكمل الرسل جدك الأعلى إِبْراهِيمَ الخليل صلوات الرحمن عليه وسلامه الى قومه الذين تمادوا زمانا في الغفلة والغرور ليصلح مفاسدهم ويرشدهم الى توحيدنا اذكر وقت إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ بعد ما قد بعثناه إليهم ليهديهم الى طريق الحق اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد المستحق للعبادة والإطاعة استحقاقا ذاتيا ووصفيا وَاتَّقُوهُ حق تقاته عن ارتكاب محارمه ومنهياته واجتنبوا عن عموم ما لا يرضى به سبحانه حتى لا تستجلبوا سخطه وغضبه عليكم ذلِكُمْ الذي اوصيكم به من العبادة والعرفان والاجتناب عن المحارم والطغيان والاتصاف بالتوحيد والتقوى وجميع لوازم الايمان خَيْرٌ لَكُمْ واولى بحالكم وانفع لنفوسكم في اولاكم وأخراكم مما أنتم عليه من عبادة التماثيل التي تنحتونها أنتم بأيديكم وتسمونها من تلقاء انفسكم آلهة دون الله ظلما وزورا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى ان كنتم من ذوى العقول المستكملين بالقوة النظرية المفاضة لكم من حضرة العلم الإلهي ليميزكم بها عن سائر الحيوانات ويعدكم بسببها للخلافة والنيابة عن الله. ثم نبه سبحانه على خطأهم في عبادة غير الله فقال
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المستحق للعبادة بالاستقلال بلا شريك ومثال أَوْثاناً وتسمونهم آلهة ظلما وعدوانا وتعبدونهم مثل عبادة الله عنادا وطغيانا وَتَخْلُقُونَ اى تفترون وتنسبون الى الله بإثبات الشريك له سيما هذه التماثيل الباطلة العاطلة إِفْكاً كذبا وافتراء مجادلة ومراء مع ان هؤلاء التماثيل الهلكى لا تنفعكم ولا تضركم ولا ترزقكم ولا تمنع رزقكم بل إِنَّ مطلق الالهة الباطلة الَّذِينَ تَعْبُدُونَ أنتم وأمثالكم مِنْ دُونِ اللَّهِ الحقيق بالاطاعة والعبادة مطلقا سواء كانوا هؤلاء الجمادات او ذوى الحس والحركات من الحيوانات لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً يعنى امر الرزق مقصور على الله المتكفل لأرزاق عباده وليس في وسع غيره ان يرزق أحدا من عباده رزقا صوريا او معنويا وانما خص سبحانه الرزق بالذكر مع انهم لا يملكون سواه ايضا إذ هو اظهر للوازمهم وأتم لشدة احتياجهم اليه وان أردتم رزقا جسمانيا او روحانيا فَابْتَغُوا واطلبوا عِنْدَ اللَّهِ القادر المقتدر الرِّزْقَ الصوري المقوم لمزاجكم وكذا المعنوي الموصل الى مبدأكم ومعادكم لتتزودوا برزقه في اولاكم وأخراكم وَإذا سمعتم وعلمتم ان لا رازق لكم سوى الله اعْبُدُوهُ حق عبادته واعرفوه حق معرفته وَاشْكُرُوا لَهُ أداء لحق شيء من حقوق نعمه ونبذ من موائد فضله وكرمه واعلموا انكم إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رجوع الظل الى ذي الظل والأمواج الى الماء
وَإِنْ تُكَذِّبُوا اى ان تكذبوني في قولي ولم تقبلوا منى رسالتي ولم تتعظوا بنصحي وإرشادي فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ أمثالكم رسلهم مثلي مِنْ قَبْلِكُمْ ومن قبلي فصار تكذيبهم وبالا عليهم وسبب هلاكهم وحلول العذاب عليهم وهم ما بالوا على تكذيبهم وَانا ايضا لا أبالي بتكذيبكم
أَوَلَمْ يَرَوْا اى كمال قدرته ومتانة حكمه وحكمته كَيْفَ يُبْدِئُ اى يبدع ويظهر اللَّهُ القادر المقتدر الْخَلْقَ اى عموم المخلوقات والموجودات من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة ثُمَّ يُعِيدُهُ ويعدمه كما ابدأه وأظهره بمقتضى النشأتين نزولا وعروجا هبوطا وصعودا ظهورا وبطونا مدا وقبضا نشرا وطيا لطفا وقهرا جلالا وجمالا إِنَّ ذلِكَ التبديل والتحويل عَلَى اللَّهِ المتجلى في الأكوان في كل آن وبكل شأن يَسِيرٌ إذ لا يعرضه العسر والفتور ولا يعتريه العجز والقصور ولا يبرمه مر الدهور وكر الشهور وان أنكروا لك ولم يقبلوا منك تنويرك الذي جئت به
قُلْ لهم يا أكمل ذوى الحكم والخلة سِيرُوا فِي الْأَرْضِ سير معتبر خبير فَانْظُرُوا بنظر الاعتبار والاستبصار كَيْفَ بَدَأَ واظهر الله العليم الحكيم الْخَلْقَ في اقطار الآفاق وكيف نشرهم فيها وبسطهم عليها بامتداد اظلال أسمائه وعكوس صفاته ثُمَّ اللَّهُ القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء بالاختيار والاستقلال يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ المقابلة لنشأة الظهور والإبداء الا وهي نشأة الكمون والإخفاء والفناء والافناء بان قبض سبحانه حسب قهره وجلاله جميع ما مد من الاظلال وطوى نحوه عموم ما نشر من الآثار المترتبة على الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيرٌ لا ينتهى قدرته عند مقدور بل له ان يتصرف فيه كيف شاء ومتى أراد ازلا وابدا ومن كمال قدرته ومقتضى حكمته ومشيته
يُعَذِّبُ من عباده مَنْ يَشاءُ تعذيبه بلا سبق اسباب عادية حسب قهره وجلاله وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ برحمته الواسعة ايضا كذلك بمقتضى لطفه وجماله وَكيف لا يرحمهم سبحانه مع انه لا ملجأ لهم دونه ولا مرجع لهم سواه إذ إِلَيْهِ لا الى غيره ولا غير في الوجود معه تُقْلَبُونَ انقلاب الزبد هواء والأمواج ماء
وَبعد ما ثبت ان منقلبكم اليه ومرجعكم نحوه فعليكم الإطاعة والايمان بالله وبوحدانيته طوعا بلا تذبذب وتلعثم إذ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ معاجزين الله المنتقم الغيور عن اخذكم ودرككم ما دمتم فِي الْأَرْضِ ولو تحصنتم فيها بقلاع حصينة وبروج مشيدة متينة وَلا فِي السَّماءِ ايضا لو تصعدتم إليها وترقيتم نحوها إذ الكل في قبضته وتحت قدرته بحيث لا يخفى عليه شيء لا في الأرض ولا في السماء وَبالجملة ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ المبدئ المعيد المحيي المميت مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم بالاستقلال ويتصرف فيكم بالإرادة والاختيار وَلا نَصِيرٍ ينصركم على أعدائكم ويدفع ضررهم عنكم.
ثم قال سبحانه حثا لهم الى الايمان وترغيبا لهم الى التوحيد والعرفان
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على عظمة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته وَلِقائِهِ اى أنكروا بلقاء الله الموعود المعهود لأرباب الكشف والشهود أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز القبول هم الذين قد يَئِسُوا وقنطوا مِنْ رَحْمَتِي مع وسعتها ووفورها وَأُولئِكَ الأشقياء
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بعد استماعهم بمقالاته تفصيلا إِلَّا أَنْ قالُوا متفقين مجتمعين اقْتُلُوهُ حدا فانه قد اعرض عن دينكم وانصرف عن آلهتكم وشفعائكم أَوْ حَرِّقُوهُ فانه حرى بالإحراق لعظم جرمه وكبر ذنبه وبعد ما اتفقوا على إحراقه أوقدوا نارا عظيمة بحيث لا يمكن التقرب نحوها الا من مسافة بعيدة فوضعوه في المنجنيق فرموه بها إليها فَأَنْجاهُ اللَّهُ المراقب عليه المطلع على إخلاصه فأخلصه مِنَ النَّارِ سالما بل قد جعلها له بردا وسلاما وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء والانقاذ مع ان طبع النار انما هي على الإحراق والافناء لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما دالة على كمال قدرة الله ومتانة حوله وقوته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته إذ هم المنتفعون بأمثال هذه الشواهد الساطعة والبراهين القاطعة
وَبعد ما أنجاه الله منها وأيس من ايمان قومه قالَ لهم موبخا عليهم موعدا لهم بوحي الله والهامه إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ وأخذتم مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بالالوهية والربوبية أَوْثاناً وسميتموهم أنتم من تلقاء انفسكم آلهة لتكون أسبابا لكم توجب مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ وتوقع المحبة والمواخاة بين أظهركم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بان تجتمعوا عندها وتعكفوا حولها وتتقربوا عندها بالهدايا والقرابين ثُمَّ اعلموا ايها الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال والتائهون في تيه الجهل بالله وقدر حوله وقوته وقدرته انكم وان اتفقتم في شأنكم هذا على الايمان بهؤلاء الهلكى المنحطين عن درجة الاعتبار وتتألفون بسببها في الحيوة الدنيا الا انكم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة للعرض والجزاء وحساب عموم ما صدر عنكم في نشأة الابتلاء يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يعنى يقع التناكر والتخاصم بينكم فيكفر بعضكم بعضا وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إذ كل منكم ومن معبوداتكم تتلاعنون وتتخاصمون حال كونكم متبرئين إذ كل منكم متبرئ عن صاحبه تابعا ومتبوعا عابدا ومعبودا وَبالجملة مَأْواكُمُ النَّارُ ومرجعكم إليها بل أنتم وآلهتكم جميعا خالدون فيها لا نجاة لكم منها لا بأعمالكم وأفعالكم ولا بنياتكم وإخلاصكم فيها وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ليشفعوا لكم وينقذوكم منها بشفاعتهم وبعد ما قد أنجى سبحانه خليله صلوات الرحمن عليه وسلامه من النار وخرج منها سالما سويا بلا طوق ضرر وطريان الم
فَآمَنَ لَهُ ابن أخته لُوطٌ عليه السلام وهو أول من آمن له وأنكره غيره ونسبوه الى السحر والشعبذة وانواع الخرافات وَبعد ما ايس عن ايمان قومه وصلاحهم قالَ ابراهيم للوط ولزوجته سارة ابنة عمه إِنِّي بعد ما قد أيست عن ايمان هؤلاء الجهلة الضالين ونجوت عن مكرهم ومكائدهم بعون الله ولطفه وجوده مُهاجِرٌ متبعد عنهم إِلى ارض قد أمرني رَبِّي بالهجرة إليها واوحانى ان اذهب نحوها فعلىّ ان امتثل بامره سبحانه وامضى على موجب حكمه ووحيه إِنَّهُ سبحانه في ذاته وأسمائه وأوصافه وأفعاله هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم ما قد جرى عليه مشيته وقضاؤه الْحَكِيمُ المتقن في جميع ما صدر عنه ارادة واختيارا
وَبعد ما قد خرج عليه السلام من سواد الكوفة مع لوط وزوجته وصل
وَمن كمال فضلنا وجودنا أرسلنا ايضا لُوطاً الى قوم قد انحرفوا عن جادة العدالة وطريق الاستقامة وضلوا عن سواء السبيل اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ لوط عليه السلام لِقَوْمِهِ بوحي الله إياه والهامه إِنَّكُمْ ايها المفسدون المسرفون لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ اى الفعلة الذميمة التي ما سَبَقَكُمْ بِها وعليها لغاية هجنتها وقبحها ونهاية شنعتها وخباثتها مِنْ أَحَدٍ اى احد مِنَ الْعالَمِينَ اى من بنى نوعكم بل أنتم قد ابتدعتموها واخترعتموها من خباثة نفوسكم وشؤم شهوتكم ثم وبخهم وقرعهم سبحانه بهجنة أفعالهم وأعمالهم فقال
أَإِنَّكُمْ ايها المسرفون المفرطون في اطاعة القوة الشهوية لَتَأْتُونَ وتطئون الرِّجالَ من ادبارهم وهم أمثالكم واشباهكم في الرجولية وَمع ذلك تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ المعهود يعنى سبيل التناسل والتوالد وتبطلون الحكمة المتقنة البالغة الإلهية المتعلقة بابقاء النوع وَمع ذلك تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ اى في مجالسكم ومحافلكم الْمُنْكَرَ اى هذه الفعلة الذميمة القبيحة المتناهية في الهجنة والفضاحة يعنى تأتون بها على رؤس الملأ والاشهاد بلا مبالات واستحياء وإخفاء بل تباهون وتفتخرون بإظهارها مع ان إعلان عموم المنكرات من أعظم الجرائم وأقبح الفواحش عند الله وعند عموم المؤمنين سيما هذا المنكر المستبدع المستقذر فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بعد ما سمعوا منه التشنيع الشنيع والتقبيح الفضيح على ابلغ وجه وآكده إِلَّا أَنْ قالُوا متهكمين له مصرين على ما هم عليه من الفعلة المستهجنة والديدنة المستقبحة ائْتِنا يا لوط المتطهر المتنزه بِعَذابِ اللَّهِ الذي قد ادعيت نزوله علينا بسبب فعلتنا هذه إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك فنحن لم نمتنع عن فعلتنا بهذياناتك قط ولم نقبل منك وعظك ونصيحتك أصلا وبعد ما ايس لوط عن صلاحهم وإصلاحهم
قالَ مشتكيا الى الله ملتجأ نحوه مستنصرا منه رَبِّ يا من رباني على الطهارة والنظافة انْصُرْنِي بحولك وقوتك بانزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ المسرفين المفرطين في الإفساد الخارجين عن مقتضيات حدودك وأحكامك
وَبعد ما استحقوا الإهلاك والاستئصال بإصرارهم عليها وعدم امتناعهم عنها مع كونهم مجاهرين بها مفاخرين بإظهارها أخذناهم بغتة واستأصلناهم مرة وذلك لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ليبشروه بهبة الولد والنافلة قالُوا مخبرين له على طريق الوحى من الله إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعنى سدوم وجاعلوها منقلبة على أهلها إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ خارجين عن مقتضى الحدود الإلهية قلابين الحكمة المتقنة البديعة الإلهية بالبدعة الشنيعة
قالَ مضطربا قلقا إِنَّ فِيها لُوطاً من خلص عباد الله قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها بتعليم الله إيانا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ مما سيصيب قومه بأمر الله علينا بانجائه وإنجاء من معه من اهل بيته والمؤمنين له إِلَّا امْرَأَتَهُ قد كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين لنفاذ قضاء الله على هلاكها بينهم وفيهم إذ هي منهم ومن جملتهم وفي عدادهم وزمرتهم
وَبعد ما قد بشروا ابراهيم بما بشروا وأخبروا له ما أخبروا توجهوا نحو قرى قوم لوط عليه السلام اذكر يا أكمل الرسل لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ يعنى قد فاجأته المساءة والسآمة والكرب المفرط والكآبة بقدومهم وَضاقَ لوط بِهِمْ وبقدومهم ذَرْعاً يعنى قد ضاق طاقته بقدومهم ونزولهم إذ قد اشتد وصعب عليه حفظهم عن اهل القرية وضاقت طاقته عن تدبير خلاصهم منهم إذ هم قد جاءوا على صورة صبيان صباح وملاح أمارد في غاية الحسن وكمال اللطافة والجمال فهم مشغوفون بطلب أمثالهم بل هم ما رأوا أمثالهم قط وَلما تفرس الرسل من لوط الخوف والحزن والضجرة المفرطة وانواع الغموم والهموم العارضة له من إلمامهم إياه هكذا قالُوا له تفريجا لهمه لا تَخَفْ يا لوط من إضرار هؤلاء الضلال الهلكى بنا وَلا تَحْزَنْ من لحوق العار عليك بسببنا فانا رسل الله قد أرسلنا الله لنصرك وتأييدك وإنزال العذاب على قومك ولا تحزن ايضا من تعذيبنا لك ولمن اتبعك إِنَّا باذن ربنا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ مما يصيبهم من العذاب والهلاك إِلَّا امْرَأَتَكَ قد كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين البتة هكذا ثبت في لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي ثم فصلوا له العذاب وقالوا
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ اى عذابا ذا رجز اى قلق واضطراب يقلقل المعذب به ويضطرب به اضطرابا شديدا حين نزوله وحلوله وما ذلك الا بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بفسقهم الذي قد باهوا به وافتخروا بسببه وقد تمادوا فيه مصرين مجاهرين
وَبعد ما انتقمنا منهم وأخذناهم بفسقهم لَقَدْ تَرَكْنا وأبقينا مِنْها اى من حكاياتهم وقصصهم آيَةً بَيِّنَةً وعبرة ظاهرة لائحة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعنى يستعملون عقولهم في مواضع العبر ويتأملون فيها معتبرين مستبصرين بها فاعتبروا يا اولى الأبصار واعلموا ان الأبرار والأخيار انما يتميزون عن الأشرار بالاعتبار والاستبصار. بصرنا الله بعيوب أنفسنا وجعلنا من زمرة المعتبرين بعيوب الغير بمنه وجوده
وَمن مقتضيات حكمتنا ايضا قد أرسلنا إِلى مَدْيَنَ حين ظهر فيهم الخبط والخيانة في المكيلات والموزونات أَخاهُمْ شُعَيْباً ليصلح ما فيهم من المفاسد فَقالَ بعد ما بعثنا إليهم مناديا لهم ليقبلوه ويطيعوا امره يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه لكمال العطف والشفقة وإمحاض النصح اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الحقيق بالعبادة والإطاعة وَارْجُوا من الله الْيَوْمَ الْآخِرَ اى ائتوا بالإيمان والإخلاص والأعمال الصالحة راجين من الله الثواب في يوم الجزاء وَعليكم ان لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ ولا تتحركوا عليها حال كونكم مُفْسِدِينَ لمصالح عباد الله وامور معاشهم ومعادهم وبعد ما قد سمعوا مقالته
فَكَذَّبُوهُ فاجئوا لتكذيبه بلا مبالاة بشأنه وبكلامه فاستحقوا المقت العظيم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ والزلزلة الشديدة مع الصيحة الهائلة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ التي بنوها للمعاش والحياة وصاروا فيها جميعا جاثِمِينَ مائتين هالكين باركين على ركبهم ساقطين على وجوههم
وَاذكر يا أكمل الرسل عاداً المبالغين في الظلم والعدوان وَثَمُودَ المتجاوزين عن مقتضيات الحدود الإلهية بالبغي والطغيان وَقَدْ
وظهر عندكم ولاح لديكم ايها الناظرون المعتبرون عتوهم واستكبارهم مِنْ مَساكِنِهِمْ الرفيعة وحصونهم الحصينة المنيعة وَذلك بأنهم قوم ضالون منحرفون عن جادة العدالة قد زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وحسنها في نفوسهم فاستبدوا بها فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعنى قد اعرضهم الشيطان بتزيين أعمالهم الفاسدة عليهم عن الصراط المستقيم والطريق المستبين وَهم كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ مجبولين على العبرة والبصارة متمكنين قادرين على الاستبصار والاعتبار فلم يعتبروا مع انه لم يسلب عنهم لوازم عقولهم بل قد لبس عليهم الشيطان أفعالهم وحسن عندهم أعمالهم فظنوا انهم مهتدون وهم ما كانوا مهتدين
وَاذكر يا أكمل الرسل قارُونَ المباهي بالمال والنسب على اهل عصره وزمانه وَفِرْعَوْنَ المستعلى بالسلطنة والملك الى ان تفوه من غاية عتوه واستكباره بدعوى الألوهية لنفسه وَهامانَ وزيره وقد تفوق على اقرانه واهل زمانه بالثروة والجاه والنيابة الكاملة وعلو المكانة والمنزلة بين الأنام وَمن كمال تعنت هؤلاء المفسدين المسرفين المفرطين وغاية استعلائهم ونهاية كبرهم وخيلائهم لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى مصحوبا بوحينا رسولا منا إياهم ليهديهم الى طريق الحق والصراط المستقيم فكذبوه ولم ينالوا به وبكلامه مع كونه مؤيدا من لدنا بِالْبَيِّناتِ القاطعة والمعجزات الساطعة فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ على الله وعلى رسله وعموم عباده وانصرفوا عن مطلق أوامره سبحانه ونواهيه منكرين وجوده وإرساله ووحيه عنادا ومكابرة وَمع ذلك ما كانُوا سابِقِينَ بنا حافظين نفوسهم عن عذابنا إياهم وانتقامنا عنهم
فَكُلًّا منهم قد أَخَذْنا بِذَنْبِهِ الذي قد صار علة موجبة لبطشنا وانتقامنا بمقتضى عذلنا. ثم فصل سبحانه كيفية اخذه إياهم بعد ما أجمل فقال فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً اى ريحا عاصفة فيها حصباء رميناهم بها ورجمناهم كقوم لوط وعاد وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ الهائلة المهولة كثمود واصحاب مدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون وبما معه من زخارفه التي هي سبب بغيه وطغيانه وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح وفرعون وهامان وجميع جنودهما واتباعهما وبالجملة ما أخذنا كلا منهم الا بذنوب عظيمة قد صدرت عنهم على سبيل الإصرار والاغترار وَما كانَ اللَّهُ المستوي على العدل القويم والطريق المستقيم وما صح عليه وما حق له سبحانه لِيَظْلِمَهُمْ ويأخذهم عدوانا بلا ذنب صدر عنهم موجب لاخذهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى وهم قد كانوا يظلمون أنفسهم باستجلاب عذاب الله عليها بارتكاب أسبابه وموجباته وعرضها على غضب الله بالخروج عن مقتضى أوامره ونواهيه وما ذلك الا من رسوخ التقليدات والتخمينات في نفوسهم واستقرار الرسوم والعادات المألوفة المأنوسة الموروثة لهم من أسلافهم في جبلتهم لذلك قد أصروا على ما هم عليه وانصرفوا عن سواء السبيل فكذبوا الرسل الهادين اليه وأنكروا عليهم عتوا واستكبارا فهلكوا خسارا وبوارا. ثم أشار سبحانه الى توهين عموم التقليدات والتخمينات الحاصلة من اهوية النفوس الخبيثة المعتادة بالماديات والعقول السخيفة المكدرة بكدورات الأوهام والخيالات فقال على سبيل التمثيل والتشبيه بمقتضى ادراك العوام توضيحا لهم ليتنبهوا على طريق الحق ويتفطنوا بالتوحيد القويم
مَثَلُ القوم الَّذِينَ اتَّخَذُوا وأخذوا مِنْ دُونِ اللَّهِ المنزه عن الأشباه والأنداد مطلقا أَوْلِياءَ يوالونهم كولاية الله ويعبدونهم مثل عبادته متوهمين انهم شركاء معه سبحانه أم شفعاء لهم عنده سبحانه مع انهم في أنفسهم لا يتأتى منهم لا الشركة ولا الشفاعة قطعا انما مثلهم في هذا الاتخاذ والاعتقاد
إِنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر عباده وسرائرهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما يَدْعُونَ وما تعبدون مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من الأوثان والأصنام على التفصيل إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط شيء مما ظهر وبطن وخفى وعلن ولكن يمهلكم ويؤخر اخذكم بها زمانا لحكم ومصالح قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها وَكيف لا يأخذكم سبحانه بما صدر عنكم مع انه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على الانتقام بالقوة الكاملة والبطش الشديد الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله بما لا مزيد عليه
وَان استهزؤا معك يا أكمل الرسل متهكمين بما في كتابك من التمثيلات بأحقر الأشياء وأضعفها مثل الذباب والعنكبوت والنمل وغيرها لا تبال بهم وبتهكمهم واستهزائهم إذ تِلْكَ الْأَمْثالُ التي نَضْرِبُها لِلنَّاسِ المتمكنين في الغفلة والنسيان لنوضح لهم طريق التوحيد والعرفان وسبيل السلامة والايمان انما هي للموفقين منهم المجبولين على استعداد القبول وفطرة الإسلام لا لكل احد من اهل الغفلة والضلال التائهين المترددين في اودية الجهل واغوار الخيال لطلب المحال وفي هاوية الوهم بأنواع المراء والجدال وَلذلك ما يَعْقِلُها وما يفهم معناها وما يصل الى قعرها ومرماها إِلَّا الْعالِمُونَ العارفون الواصلون بما أفاض الله عليهم سبحانه من رشحات حضرة العلم المحيط الإلهي الى ينبوع بحر الوحدة الذاتية التي هي منبع عموم الكمالات اللائحة على صحائف الأنفس والآفاق وصفحات الأعيان والأكوان بكمال الاستقلال والاستحقاق وكيف لا قد
خَلَقَ اللَّهُ المتجلى بجميع صور الكمالات واظهر بمقتضى الأسماء والصفات السَّماواتِ اى العلويات المتفاوتة المتخالفة باختلافات الأسماء والصفات المنتشئة المنعكسة من الذات الاحدية حسب الشئون والتطورات المترتبة على الكمالات المندمجة فيها وَالْأَرْضَ اى طبيعة العدم القابلة لجميع الانعكاسات المنعكسة من اشعة التجليات الذاتية غيبا وشهادة ظهورا وبطونا بروزا وكمونا جمالا وجلالا وبالجملة ما خلق واظهر سبحانه عموم ما ظهر وبطن الا ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع بلا شائبة شك فيه وارتياب إِنَّ فِي ذلِكَ الإيجاد والإظهار على الوجه الابدع الأبلغ والنظام الأتم الأكمل لَآيَةً عظيمة وحجة قاطعة لِلْمُؤْمِنِينَ الموحدين الموقنين بوحدة ذاته وكثرة أسمائه وصفاته حسب شئونه
اتْلُ يا أكمل الرسل ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ الجامع لما في النشأتين الحاوي لعموم الأمور الجارية في المنزلتين وتأمل في رموزه وإشاراته حق التأمل والتدبر واتصف بأوامره واجتنب عن نواهيه واعتبر من عبره وأمثاله وذق حلاوة معارفه وحقائقه بتوفيق الله وتيسيره وَأَقِمِ الصَّلاةَ وداوم على الميل المقرب نحو الحق بعموم جوارحك وأركانك بعد ان تنوي وتقصد في صلاتك هذه الانخلاع عن لوازم ناسوتك مطلقا محرما على نفسك عموم حظوظك من دنياك مقبلا على شأنك في أخراك متوجها الى قبلة الوحدة وكعبة الذات الاحدية وعرفات الأسماء والصفات وبالجملة مستأنسا بالله متشوقا الى لقاء الله مستوحشا عن غير الله مطلقا إِنَّ الصَّلاةَ على الوجه المذكور تَنْهى وتكف صاحبها عَنِ الْفَحْشاءِ المترتبة على القوى البهيمية من الشهوية والغضبية وَالْمُنْكَرِ المترتب على مطلق القوى البشرية المنغمسة بالعلائق المادية والشواغل الجسمية والجسمانية وَبالجملة لَذِكْرُ اللَّهِ المنزه في ذاته عن عموم الأكوان المبرى أوصافه وأسماؤه عن وصمة النقصان وسمة الحدوث والإمكان والاشتغال بذكره سبحانه حسب إطلاقه أَكْبَرُ شمولا وأتم توجها وقبولا وأكمل حصولا ووصولا سيما لو جذبتك العناية من لدن جنابه ووافقك التوفيق من عنده نحو بابه وَكن يا أكمل الرسل في نفسك متوجها الى ربك متقربا اليه على الوجه الذي أمرت به ولا تلتفت الى هذيانات اهل البدع والأهواء الفاسدة إذ اللَّهِ المطلع بجميع حالاتهم يَعْلَمُ منهم بعلمه المحيط الحضوري عموم ما تَصْنَعُونَ من الاستخفاف والاستهزاء وعدم المبالات بمعالم الدين والاستحقار بمراسم التوحيد واليقين فسيجازيهم سبحانه حسب علمه بهم
وَبعد ما سمعتم ايها المؤمنون خطاب ربكم مع نبيكم لا تُجادِلُوا ولا تخاصموا أَهْلَ الْكِتابِ اى مع الأحبار الذين واظبوا على محافظة كتاب الله المنزل إليهم واستنبطوا منه الاحكام وامتثلوا بأوامره واجتنبوا عن نواهيه إِلَّا بِالَّتِي اى بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق وابعد عن المكابرة واقرب الى الصواب هينين لينين معهم بلا قلق واضطراب وفضول من الكلام ما داموا منصفين معتدلين بلا ميل منهم وانحراف الى المكابرة والاغتساف إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ جهلا وعنادا وخرجوا عن منهج الصدق والصواب بغيا وعدوانا وَقُولُوا لهم بمقتضى ما أمرتم به في كتابكم آمَنَّا وصدقنا بِالَّذِي اى بالكتاب الذي أُنْزِلَ إِلَيْنا من عند ربنا بطريق الوحى لنبينا وَآمنا ايضا بالكتاب الذي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ منه سبحانه ايضا وحيا على نبيكم وَكيف لا نؤمن بكتابكم ونبيكم إذ إِلهُنا الذي قد انزل علينا كتابا وَإِلهُكُمْ الذي انزل عليكم كتابا ايضا واحِدٌ لا تعدد فيه ولا شريك له يشاركه ولا مثل له يماثله ولا كفؤ له يشابهه وَبالجملة نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مؤمنون منقادون مطيعون وبجميع ما حكم به سبحانه في كتبه وعلى ألسنة رسله مصدقون ممتثلون سوى ما قد نسخ في كتابنا حكمه
وَكيف لا يقول لهم المؤمنون هكذا ولا يؤمنون بالكتب المنزلة من عندنا إذ كَذلِكَ وعلى وفق ذلك وطبقه قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الجامع لما في الكتب السالفة لتكون أنت ومن تبعك من المؤمنين مصدقين بعموم الكتب والرسل بلا تفاوت وتفرقة بينهم فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قبل كتابك يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بكتابك ويصدقون بك ايضا كذلك على الوجه الذي وعدناهم في كتبهم من انا سنرسل رسولا من لدنا ومعه كتاب جامع مصدق
وَكيف لا يكون القرآن وحيا معجزا نازلا من عند الله حسب ارادته واختياره إذ ما كُنْتَ أنت يا أكمل الرسل تَتْلُوا وتتعلم مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل القرآن ونزوله مِنْ كِتابٍ من الكتب المنزلة وَلا تَخُطُّهُ ولا تنسخه أنت نفسك بِيَمِينِكَ على سبيل النقل يعنى ما كنت أنت بحال من الأحوال من اهل النسخ والإملاء والكتابة والإنشاء إذ هي مسبوقة بالتعلم وأنت أمي عار عن الدراسة والكتابة والتعلم مطلقا ولم يعهد منك أمثال هذه الأمور الدالة على الأخذ والاستبصار ولو كنت أنت متصفا بها وأهلا لها إِذاً لَارْتابَ شك وتردد الْمُبْطِلُونَ المجاهرون بالقول الزور الباطل في شأنك وشأن كتابك وكونه معجزا مع انه ما هو اى القرآن حينئذ ايضا محل ارتياب لأنه في نفسه وفي حد ذاته وباعتبار نظمه البديع ومعناه الغريب العجيب وأسلوبه المحكم معجز خارق للعادة عند من له ادنى دريبة بأساليب الكلام وبالجملة لا ينبغي ولا يليق لاحد من ذوى العقول السليمة والطباع المستقيمة سيما من ذوى الأذواق الصحيحة وارباب الوجدان ان يشك في اعجازه الا من هو متناه في البلادة وسخافة العقل وركاكة الفهم
بَلْ هُوَ اى القرآن في نفسه وعند اولى العزائم الخالصة الصحيحة عن مطلق المكدرات المنافية لصفاء مشرب التوحيد آياتٌ شواهد ودلائل دالة على الحق بَيِّناتٌ واضحة الدلالات في أنفسها ثابتة فِي صُدُورِ العارفين المحققين الموحدين الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني المترشح من حضرة العلم المحيط الإلهي المفاض لهم منها حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية تفضلا عليهم وامتنانا لهم وَبالجملة ما يَجْحَدُ وينكر بِآياتِنا سيما قواطع برهانها وسواطع تبيانها إِلَّا القوم الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العلم والعين والكشف والشهود
وَمن غاية بغضهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشدة شكيمتهم وضغينتهم معه قالُوا مقترحين منه على سبيل التعجيز والإنكار لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ عجيبة غريبة مِنْ رَبِّهِ ان كان صادقا في دعوى الرسالة كالآيات التي أنزلت على الأنبياء الماضين مثل عصا موسى وناقة صالح ومائدة عيسى وسائر معجزاته وغير ذلك قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة الشبهة إِنَّمَا الْآياتُ كلها عِنْدَ اللَّهِ وفي قبضة قدرته وعلى مقتضى ارادته ومشيته متى تعلق ارادته بانزال آية منها أنزلها على من أرسله ارادة واختيارا وليس في وسعى وطاقتي ولا في وسع كل من مضى قبلي من الأنبياء والرسل إنزال ما طولبوا وإتيان جميع ما اقترحوا من الآيات وَهكذا حالي بكم ومقترحاتكم بل إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ من قبل ربي إياكم مُبِينٌ ظاهر الإنذار والتخويف وكل من الأنبياء والرسل الماضين قد كانوا ايضا كذلك بالنسبة الى أممهم إذ نحن معاشر الأنبياء والرسل
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ولم يغنهم من جميع الآيات التي اقترحوا عنك يا أكمل الرسل أَنَّا قد أَنْزَلْنا عَلَيْكَ من مقام لطفنا وجودنا الْكِتابَ الجامع لما في الكتب السالفة المحتوى على احوال النشأتين على الوجه الأبلغ الأتم مع انه لا يغيب عنهم بل يُتْلى عَلَيْهِمْ ويقرأ عندهم دائما ويدوم بينهم ابدا بخلاف سائر الآيات فإنها كما ظهرت غابت هي وأثرها ايضا وهو واثره حاضر عندهم غير مغيب عنهم وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الذي هو في نفسه مشتمل على آيات عظام كثيرة الفوائد دائمة العوائد غير منقطعة آثارها عن من تمسك بها واستهدى بها لَرَحْمَةً اى نعمة عامة نازلة من قبل الحق وَذِكْرى اى عظة وتذكيرا شاملا لعموم عباده ملقاة من عنده سبحانه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بتوحيده سبحانه وبكمالات أسمائه وصفاته ويصدقون المبدأ والمعاد والعرض والجزاء والفوز بشرف اللقاء وجميع ما وعد لهم الحق في النشأة الاخرى. ثم لما اتى قوم من ضعفاء المسلمين الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتف قد رقم فيها بعض اراجيف اليهود وأقاويلهم الكاذبة متبركين بها متيمنين لما فيها فقال صلّى الله عليه وسلّم مبغضا عليهم كفى بضلال قوم ان يرغبوا عما جاء به نبيهم من قبل ربهم الى ما جاء به غير نبيهم وصدقوا ما جاء به غير نبيهم مع انه كذب مفترى وكذبوا ما جاء به النبي مع انه صدق كلمه مطابق للواقع فنزلت حينئذ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم
قُلْ يا أكمل الرسل للمكذبين لك وبما جئت به مصدقين لأعدائك وبما جاءوا به كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ايها المكابرون شَهِيداً حاضرا معى ومعكم مطلعا على حالي وحالكم وما جرى في ضميري وضمائركم إذ هو سبحانه يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما ظهر فِي السَّماواتِ وَكذا ما ظهر الْأَرْضِ وكذا ما ظهر بينهما وبطن فيهما فيجازى كلامنا ومنكم بمقتضى علمه بنا وبكم وَكيف لا يجازى القادر المقتدر على انتقام عصاة عباده سيما الَّذِينَ آمَنُوا واطاعوا بِالْباطِلِ الذي هو بمراحل عن الحق والصدق وَكَفَرُوا بِاللَّهِ الحق الحقيق بالحقية المستوي على منهج الصدق والصواب بالعدالة دائما واعرضوا عن أطاعته وانقياده عنادا ومكابرة وبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز الحضور والأشقياء المحرومون عن سعة رحمة الملك الرحيم الغفور هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران والخذلان لا يرجى ربحهم وتفريجهم منه أصلا
وَمن غاية غيهم وضلالهم وانهماكهم في بحر الغفلة والغرور يَسْتَعْجِلُونَكَ تهكما واستهزاء بك بِالْعَذابِ الذي قد أنذرتهم به بوحي منا إليك بنزوله إياهم وحلوله عليهم وما ذلك الا من كمال انكارهم وتكذيبهم إياه وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى ووقت معين موعود مثبت في لوح قضائنا لَجاءَهُمُ الْعَذابُ اليوم فجاءة عاجلا لاستحقاقهم بنزوله وحلوله الا انه موقت موعود بمقتضى سنتنا القديمة المستمرة من ترهين الأمور على الأوقات المعينة المثبتة في لوح القضاء وحضرة العلم حسب الحكمة المتقنة قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا لا تغتروا بامهالنا إياكم زمانا وَالله لَيَأْتِيَنَّهُمْ ولينزلن عليهم العذاب الموعود بَغْتَةً اى دفعة وفجاءة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ولا يطلعون بنزوله وامارات إتيانه وحلوله ومن غاية عمههم وسكرتهم ونهاية انهماكهم في اسباب العذاب
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ظنا منهم ان ما هم عليه انما هو من موجبات الثواب واسباب النجاة والجنة بل هو عينهما إذ لا ايمان لهم بالنشأة الاخرى وما فيها وَكيف لا يعذبون في النشأة الاخرى ولا يدخلون النار إِنَّ جَهَنَّمَ المعدة الموعودة لهم فيها لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ محتوية عليهم الآن في النشأة الاولى ايضا باعتبار احاطة اسبابها وموجباتها التي هي سلاسل الأماني والآمال الامكانية المحيطة لهم دائما في عموم أوقاتهم وحالاتهم في النشأة الاولى المستجلبة لهم دركات النيران واودية الحرمان والخذلان في النشأة الاخرى اذكر لهم يا أكمل الرسل
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ في الآخرة كغشى الأسباب التي هي عبارة من لوازم الإمكان إياهم اليوم الى حيث صاروا محفوفا بها مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ اى من أعلاهم واسفلهم محيطا بجميع جوانبهم وَيَقُولُ لهم حينئذ قائل من قبل الحق زجرا لهم وتوبيخا ذُوقُوا ايها المستكبرون المصرون على الكفر والعناد جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ايها المعاندون المكابرون. ثم قال سبحانه على سبيل التعليم والتنبيه مناديا لخلص عباده الذين جل هممهم الإخلاص في عموم ما جاءوا به من الأعمال
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
أضافهم سبحانه الى نفسه تفضيلا وتكريما مقتضى ايمانكم الإخلاص والحضور معى والتوجه الى مع فراغ البال في كل الأحوال فان لم تجدوا الفرصة والفراغة المذكورة في ارض لا تستقروا فيها ولا تتمكنوا عليها بل عليكم ان تفروا وتخرجوا منها طالبين الجمعية والحضور إِنَّ أَرْضِي
مقر عبادي وعبادتي واسِعَةٌ
فان لم تجدوا لذة التوجه وحلاوة الرجوع الى في ارض ولم يتيسر لكم الجمعية الحاصلة المنعكسة من صفاء مشرب التوحيد ومن عالم العماء المفضى الى التجريد والتفريد فعليكم الخروج والجلاء منها وبالجملة فَإِيَّايَ
في عموم الأماكن والأحوال فَاعْبُدُونِ
عبادة مقارنة بالإخلاص والخضوع والخشوع والتبتل والتوكل والتفويض والرضاء والتسليم ولا تغتموا ولا تتحزنوا بالخروج عن الأوطان المألوفة والبلدان المأنوسة والبيوت الموروثة وبالجلاء منها خوفا من الموت الطبيعي ان كنتم مائلين إلينا راغبين نحونا مؤملين الفناء فينا والبقاء ببقائنا والفوز بشرف لقائنا إذ
كُلُّ نَفْسٍ من النفوس المستحدثة بحدوث البدن ذائِقَةُ كأس الْمَوْتِ الطبيعي في اى مكان كان ثُمَّ بعد ما قد ذقتم حلاوة كأس الموت الإرادي ولذة الفناء الاختياري فقد خلصتم عن قيود الهويات العدمية المانعة عن الإطلاق الحقيقي فحينئذ إِلَيْنا لا الى غيرنا إذ لا موجود في فضاء الوجود سوانا تُرْجَعُونَ رجوع الأضواء الى الذكاء والأمواج الى الماء
وَبعد ما رجع الموحدون الَّذِينَ آمَنُوا بالله موقنين وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مقارنين ايمانهم بها مخلصين فيها إلينا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ وننزلنهم تفضلا منا إياهم وتكريما مِنَ الْجَنَّةِ وفضاء الوحدة المعدة لأرباب المعرفة والتوحيد غُرَفاً اى لكل منهم غرفة معينة تصير له مقرا ومنزلا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق مملوة بمياه المكاشفات والمشاهدات على تفاوت طبقاتهم وقدر قابلياتهم خالِدِينَ فِيها دائمين غير متحولين عنها أصلا وبالجملة نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة وما فيها مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ألا وهم أولو العزائم الصحيحة
الَّذِينَ صَبَرُوا على عموم مشاق التكاليف الإلهية ومتاعب الطاعات واذيات الأعادي والجلاء عن الأوطان ومفارقة الأقران والخلان وغير ذلك مما جرى عليهم من طوارق الحدثان ومن تجدد الملوان وَمع ذلك هم في جميع حالاتهم وفي عموم ما جرى عليهم من المحن والمنح والترح
وَكَأَيِّنْ اى كثيرا مِنْ دَابَّةٍ تحرك على الأرض محتاجة الى الغذا المقوم لمراحها مع انها لضعفها وعدم مكنتها لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اى لا تطيق لحمل الرزق وادخاره وكسبه اللَّهُ المتكفل لأرزاق عموم عباده يَرْزُقُها من حيث لا يحتسب وَإِيَّاكُمْ ايضا كذلك وأنتم حسب حصة ناسوتكم من حملة الدواب التي قد تكفل الله برزقها بل من حلتها فلا تغتموا لأجل الرزق الصوري ولا تقولوا قولا به نزل بعلكم عن خالقكم ورازقكم وَلا تخطروا ايضا ببالكم أمثال هذا إذ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بأحوالكم ونياتكم فعليكم ان تثقوا في كل الأحوال بالله المتولى لأموركم مفوضين كلها اليه متوكلين عليه متمكنين في توكلكم وتفويضكم راسخين فيه بلا تلعثم وتزلزل. ثم قال سبحانه قولا على سبيل الإلزام والتبكيت
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا أكمل الرسل اى اهل مكة مع كفرهم وشركهم مَنْ خَلَقَ واظهر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة وَمن سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وصيرهما دائبين دائرين لَيَقُولُنَّ اللَّهُ المظهر للكائنات المستقل في إيجادها والمتصرف فيها بالاستقلال والاختيار حسب ارادته ومشيته وبعد ما أقروا بوحدة الحق وانتهاء مراتب عموم الكثرات والممكنات اليه سبحانه قل فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ والى اين ينصرفون عن توحيده والايمان به والامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه الجارية على ألسنة رسله وكتبه وان صرفهم عن الايمان فقر اهله وفاقتهم قل لهم نيابة عنا
اللَّهُ المطلع لاستعدادات عباده وقابلياتهم يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ حسب استعداده وقابليته وَيَقْدِرُ لَهُ ويقبض عنه ايضا بحسنه ارادة واختيارا إِنَّ اللَّهَ المتقن في عموم أفعاله بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنه ارادة واختيارا عَلِيمٌ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء من لوازمه ومتمماته وجميع مقتضياته
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ايضا يا أكمل الرسل مَنْ نَزَّلَ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اى بواسطة الماء بمقتضى عادته المستمرة من تعقيب الأسباب بالمسببات الْأَرْضَ الجامدة اليابسة مِنْ بَعْدِ مَوْتِها وجمودها ويبسها طبعا لَيَقُولُنَّ طوعا اللَّهُ القادر المقتدر على مطلق الأحياء والاماتة ومع اعترافهم بوحدة الله وانتساب معظم الأشياء اليه سبحانه يشركون له غيره عنادا ومكابرة قُلِ يا أكمل الرسل بلسان الجمع بعد ما قد عصمك الحق عن الشرك وانواع الجهالات بافاضة العقل المفاض وهداك نحو توحيده بالرشد الكامل المكمل المميز لك أكمل التمييز حامدا به شاكرا لنعمه سيما نعمة العصمة عن الشرك والضلال الْحَمْدُ المطلق والثناء العام الصادر عن ألسنة ذرائر الكائنات المتذكرة لمبدئها ومنشئها طوعا وطبعا ثابت حاصل لِلَّهِ راجع اليه سبحانه اصالة إذ لا مظهر لهم سواه ولا موجد بل لا موجود في الوجود الا هو بَلْ أَكْثَرُهُمْ من نهاية غفلتهم وضلالهم عن الله لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون وحدة الحق واستقلاله في الآثار والتصرفات الواقعة في الأنفس والآفاق ولا يستعملون عقولهم المفاضة لهم للتدبر والتأمل
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا التي لا قرار لها ولا مدار حقيقة بل لا اصل لها أصلا سوى سراب قد انعكس من شمس الذات وامواج قد حدثت في بحر الجود إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ يعنى كما ان السراب يلهى ويخدع العطشان بالتردد والتبختر نحوه على اعتقاده انه ماء فيتعب نفسه ويزيد عطشه بل يهلكه كذلك الحياة الدنياوية ومزخرفاتها الفانية ولذاتها الزائلة الذاهبة الامكانية تتعب صاحبها طول عمره ولا ترويه ثم تميته بأنواع حسرة وضجرة وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ وما يترتب عليها من المكاشفات والمشاهدات اللدنية وانواع الفتوحات والكرامات الفائضة لأرباب التوحيد لَهِيَ الْحَيَوانُ اى هي مقصورة على الحياة الازلية الابدية التي لا يطرأ عليها زوال ولا يعقبها فناء ولا يعرض للذاتها القارة انصرام وانقضاء لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويوقنون بها وبما فيها من الكرامات لم يؤثروا الدنيا الدنية وحياتها الفانية المستعارة عليها ولم يختاروا اللذات الوهمية البهيمية على لذاتها الازلية الابدية وبجهلهم وضلالهم قد اختاروا الفاني على الباقي والزائل على القار والشراب المهلك على الفرات المحيي. والعجب منهم ومن أحوالهم كل العجب انهم مع شركهم وإصرارهم على الكفر وعدم تأثرهم بالزواجر والدواعي الواردة من قبل الحق وظهور المعجزات المزعجة الى الايمان
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ متضرعين نحوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حينئذ كائنين كالمؤمنين المطيعين الخالصين في اطاعتهم وانقيادهم لله بلا شوب الشرك وشين الكفر فَلَمَّا نَجَّاهُمْ من كمال فضلنا وجودنا إياهم إِلَى الْبَرِّ وأخلصناهم من المهلكة آمنين إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ يعنى هم قد فاجؤا على الفور بعيد ما خلصوا عن التهلكة الى الشرك والطغيان وانواع العصيان والكفران قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا آمرا لهم على سبيل التهديد
لِيَكْفُرُوا أولئك الكافرون بِما آتَيْناهُمْ من النعم العظام سيما نعمة الإنجاء عن مضيق البحر وَلِيَتَمَتَّعُوا أولئك المتمتعون بما عندهم من الحطام الدنياوية وبما هم عليه من الإصرار على الكفر والضلال فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ما يترتب على كفرانهم وتمتعهم وشركهم وضلالهم
أَينكرون نعمنا وانعامنا إياهم أولئك الكافرون المبطلون وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا سيما اهل مكة أَنَّا من مقام فضلنا وجودنا إياهم قد جَعَلْنا بلدهم يعنى مكة حَرَماً ذا حرمة عظيمة يأوى إليها الناس من جميع اقطار الأرض من كل مرمى سحيق وفج عميق آمِناً ذا أمن اهله من النهب والسبي وانواع الأذى وَيُتَخَطَّفُ اى يختلس ويؤخذ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ نهبا وسبيا وهم آمنون فيها مصونون عن المؤذيات كلها ومع ذلك يكفرون نعمنا ويشركون بنا غيرنا أَما يستحيون من الله أولئك المبطلون اما يخافون من بطشه أولئك المفسدون المسرفون فَبِالْباطِلِ العاطل الزاهق الزائل يعنى الأصنام والأوثان يُؤْمِنُونَ يطيعون ويعبدون مع انهم لا يقدرون
وَمَنْ أَظْلَمُ وأشد ظلما وعدوانا على الله وخروجا عن مقتضيات حدوده وعلى نفسه ايضا بالعرض على بطشه وعذابه سبحانه مِمَّنِ افْتَرى ونسب عَلَى اللَّهِ مراء وافتراء كَذِباً عظيما بان يشرك معه غيره مع انه ليس في الوجود الا هو ولا اله سواه أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ المطابق للواقع الثابت المرسل من عنده سبحانه يعنى الرسول عليه السلام لَمَّا جاءَهُ كذبه فجاءة بلا تأمل وتدبر عنادا ومكابرة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ يعنى أيزعمون أولئك المسارعون المبادرون في التكذيب المجترئون على الإنكار انهم لا يدخلون في جهنم الطرد وجحيم الخذلان خالدين مخلدين بسبب هذا الجرم العظيم والافتراء البالغ نهاية البغي والعناد على الله وعلى كتابه ورسوله بل هم المستوجبون المقصورون على الخلود فيها ابدا مهانين صاغرين. ثم قال سبحانه بمقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا يعنى المؤمنين الموقنين الذين قد حازوا كلتا مرتبتي العلم والعين بمقتضى استعداداتهم الفطرية ثم اجتهدوا ببذل وسعهم حتى أفنوا أنفسهم فينا وبقوا ببقائنا باذلين مهجهم في سبيلنا تاركين مقتضى هوياتهم وأعيانهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة في هويتنا وعيننا الحقة الحقيقية لَنَهْدِيَنَّهُمْ ولنوفقن عليهم سُبُلَنا ولنزيدن هديهم ورشدهم إلينا جذبا منا إياهم وعناية لهم وإحسانا معهم وَكيف لا يجذبهم الحق ولا يعتنى بشأنهم ويزيد برشدهم وتوفيقهم إِنَّ اللَّهَ المتجلى لخلص عباده بمقتضى أسمائه وصفاته لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ منهم ألا وهم الذين يحسنون الأدب مع الله ويجتهدون في افناء ذواتهم الباطلة في الحق سبحانه بعد ما قد تحققوا بمقام الكشف والشهود وتيقنوا ان لا موجود سواه ولا اله في الوجود الا هو بل اجتهدوا حينئذ ان يحكوا اظلال هوياتهم الباطلة وعكوس تعيناتهم الهالكة العاطلة عن دفتر الوجود مطلقا لئلا يبقى لهم لا اسم ولا رسم ولا عين ولا اثر بعد ما قد طرحوا بتوفيق الله وجذب من جانبه ما طرحوا من أباطيل التعينات ولوازم الهويات والأنانيات وعموم الاعتباريات عن دفتر الوجود وفضاء الشهود بحيث لم يبق لهم شائبة الهوية والأنانية والاثنينية مطلقا وحينئذ لم يبق للمعية والمصاحبة والمقارنة معنى أصلا بل لم يبق في الوجود وعين الشهود الا هو فثبت انه ما هو في الحقيقة الا هو ولا اله في الوجود سواه بل كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون وبالجملة لا يشوشك منطوقات الألفاظ والعبارات ان كنت من ارباب الرموز والإشارات هو يقول الحق وهو يهدى السبيل حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير
خاتمة سورة العنكبوت
عليك ايها المجتهد المتوجه نحو الحق المتعطش بزلال توحيده المعرض عن الباطل وعما يترتب عليه من غوائل الشيطان ووساوسه ان تجتهد أولا في استخلاص نفسك البشرية عن أمانيها مطلقا سيما انية امارتك المائلة الى انواع الفجور البغية على الله بأصناف الكفر والفسوق الغبية التي لا تفهم مقتضيات الوحدة وإشارات ارباب التوحيد أصلا العرية عن مبدأ المعارف والحقائق والأسرار والمكاشفات الواقعة في طريقه رأسا فلك ان تروضها بمتاعب الرياضات ومشاق التكليفات