تفسير سورة العنكبوت

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة العنكبوت (١)
١، ٢ - ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا﴾ قال الشعبي: لما نزلت آية الهجرة كتب بها المسلمون إلى إخوانهم بمكة، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق أدركهم المشركون، فردوهم، فأنزل الله: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ﴾ عشر آيات من أول السورة (٢). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء؛ وقال: يريد بالناس الذين آمنوا بمكة: سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد ابن الوليد، وعمار بن ياسر، وياسر بن عامر، وسمية أم عمار (٣)،
(١) سورة العنكبوت مكية، يقال: نزلت بين مكة والمدينة في طريق النبي -صلى الله عليه وسلم-، حين هاجر إلى المدينة، وهي تسع وستون آية. "تفسير مقاتل" ٧٠ أ. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٥ أ. وقد ذكر الثعلبي في أولها بإسناده حديث أبي ابن كعب -رضي الله عنه-، في فضل هذه السورة، وكذا فعل الواحدي في "الوسيط" ٣/ ٤١٢، وهو حديث موضوع سبق الحديث عنه في أول سورة الفرقان.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٥. وابن جرير ٢٠/ ١٢٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣١. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٥ ب، والواحدي "أسباب النزول" ٣٤٠.
(٣) سلمة بن هشام، هو أخو أبي جهل، من السابقين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة، فحبسه أخوه وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو له ولعياش بن أبي ربيعة في القنوت، ثم هرب مهاجرًا بعد الخندق، -رضي الله عنه-. "سير أعلام النبلاء" ١/ ٣١٦، "الإصابة في معرفة الصحابة" ٣/ ١٢٠. =
485
........................
= - عياش بن أبي ربيعة، اسم أبيه: عمرو بن المغيرة، وكان عياش من السابقين إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبو جهل فرجع إلى مكه، ثم فرَّ مع رفيقيه، الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعاش إلى خلافة عمر -رضي الله عنه-، فمات سنة: خمس عشرة، وقيل: قبل ذلك. وقيل: استشهد في اليمامة، وقيل: اليرموك. "فتح الباري" ٨/ ٢٢٧، و"الإصابة" ٥/ ٤٧. و"سير أعلام النبلاء" ١/ ٣١٦.
- الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، أخو خالد بن الوليد، أُسر مع من أسر من المشركين في بدر، ثم أسلم بعد ذلك، فلما أسلم حبسه أخواله فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو له في القنوت مع غيره من المستضعفين، ثم أفلت من أسرهم ولحق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في عمرة القضية. "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" ١١/ ٣٤، و"الإصابة في معرفة الصحابة" ٦/ ٣٢٣.
- ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين، حليف لبني مخزوم، يكنى: أبا عمار بابنه عمار بن ياسر، كان قد قدم من اليمن، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي، وزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها: سمية فولدت له عمارًا، فأعتقه أبو حذيفة، وجاء الله بالإِسلام فأسلم ياسر وابنه عمار وسمية، وعبد الله أخو عمار بن ياسر، وكان إسلامهم قديمًا في أول الإسلام، وكانوا ممن يعذب في الله، وقتل ياسر وسمية وعبد الله وهم يعذبون -رضي الله عنه-. "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" ١١/ ٩٩، و"الإصابة في معرفة الصحابة" ٦/ ٣٣٢.
وقد ثبت في الصحيح دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لعياش بن أبي ربيعة، ومن كان معه من المستضعفين في مكة، في حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول: "اللَّهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللَّهم أنج سلمة بن هشام، اللَّهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللَّهم اشدد وطأتك على مُضر، اللَّهم اجعلها سنين كسني يوسف". قال ابن أبي الزناد عن أبيه: هذا كله في الصبح. أخرجه البخاري، كتاب الاستسقاء، رقم الحديث (١٠٠٦)، "فتح الباري" ٢/ ٤٩٢. وأخرجه مسلم ١/ ٤٦٧، في المساجد، رقم (٦٧٥)، وفي آخره قال أبو هريرة: ثم رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الدعاء بعدُ فقلت: أرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ترك الدعاء لهم قال: فقيل: وما تراهم قد قدموا. وفي حاشية صحيح مسلم: وما تراهم قد قدموا، معناه: ماتوا!. ولم أجد هذا المعنى في =
486
وعدة من بني مخزوم، وغيرهم من قريش (١).
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: ﴿الم﴾ قال: أنَّ الله أعلم (٢). وقال عكرمة: ﴿الم﴾ أَن قسم (٣).
واختار الزجاج قول ابن عباس (٤).
= "شرح النووي على صحيح مسلم"؛ وهو تعليق غريب، لا يتضح به المعنى المراد، والمعنى الصحيح ما ذكره أبو حاتم؛ محمد بن حبان البستي: الصواب أن اللعن علي الكفار والمنافقين في الصلاة غير منسوخ، ولا الدعاء للمسلمين، والدليل على صحة هذا قوله -صلى الله عليه وسلم- في خبر أبي هريرة: "أما تراهم وقد قدموا" تُبين لك هذه اللفظة أنهم لولا أنهم قدموا ونجاهم الله من أيدي الكفار لأثبت القنوت -صلى الله عليه وسلم-، وداوم عليه.. "ابن حبان - إحسان" ٥/ ٣٢٧. رواية ابن حبان: أما تراهم وقد قدموا. ورواية مسلم: وما تراهم قد قدموا. فكأن المعلق فهم من هذه الرواية النفي. والله أعلم.
(١) لم أجد هذا القول، وهناك قول آخر في سبب النزول؛ ذكره مقاتل ٧٠ ب؛ قال: نزلت في مِهْجَع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، وهو أول من يدعى إلى الجنة من شهداء أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فجزع عليه أبواه. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٥٥ ب. والواحدي في "أسباب النزول" ٣٤٠. وقال عنه الزيلعي: غريب. "تخريج أحاديث الكشاف" ٣/ ٣٩، وساق ما روي في شأن مهجع -رضي الله عنه-. ولا تعارض بين هذه الأسباب فكلها أمثلة لمن حصل لهم البلاء بسبب إيمانهم. وحكمها باقٍ؛ قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نازلة بهذا السبب، وفي هذه الجماعة، فهي بمعناها باقية في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونِكاية العدو، وغير ذلك.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٢٩، عن ابن عباس، من طريق سعيد بن جبير، وأبي الضحى. وسبق ذكر رأي الواحدي في الحروف المقطعة والتعليق عليه في أول سورة الشعراء.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٠.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٩.
487
وقال في قوله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ﴾ اللفظ لفظ استخبار، والمعنى معني تقرير وتوبيخ، ومعناه: أحسبوا بمعنى الذين جزعوا من أذى المشركين أن نقنع منهم بأن يقولوا: إنا مؤمنون فقط، ولا يمتحنون بما يتبين به حقيقة إيمانهم (١).
وقوله: ﴿أَنْ يُتْرَكُوا﴾ (أن) في موضع نصب بحَسِب.
وقوله: ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ (أن) في موضع نصب من جهتين؛ ذكرهما الفراء والزجاج؛ إحداهما أن التقدير: ﴿أَنْ يُتْرَكُوا﴾ لأن يقولوا أو بأن يقولوا، فلما حذف حرف الخفض وصل ﴿يُتْرَكُوا﴾ إلى أن فنصب.
والثانية: أن تجعل ﴿أَحَسِبَ﴾ مكررة عليها، المعنى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا﴾ أحسبوا (٢) ﴿أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (٣) قال أبو إسحاق: الأولى أجود (٤).
قال أبو علي: إن تَرَك، يتعدَى إلى مفعول واحد، فإنْ بُنِيَ للمفعول لم يتعدَّ إلى آخَر، فـ ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ لا يتعلق به ولا يتعدى إليه، حتى يقدر محذوفٌ (٥) حرفٌ، ثم يُقدَّرُ الحرفُ فيصل الفعل (٦).
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٩.
(٢) أحسبوا. زيادة من الفراء.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٤. التقدير على هذا القول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا﴾ أحسب الناس ﴿أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا﴾ وجملة ﴿وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ متعلقة بالحالين: الترك، والقول. والله أعلم.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٥٩.
(٥) محذوف، من نسخة: (ب).
(٦) "الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني" ٢/ ٢٢١ أ. والحرف المقدر هو ما سبق ذكره في قول الفراء والزجاج: لأن يقولوا، أو: بأن يقولوا.
488
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ قال ابن عباس والسدي ومجاهد وقتادة: لا يفتنون في إيمانهم وأموالهم وأنفسهم (١).
قال مقاتل وقتادة: يقول: أحسبوا أن يتركوا على التصديق بتوحيد الله وهم لا يبتلون بالقتل وبالتعذيب في الدنيا بقولهم: آمنا (٢)، وهم لا يعاملون معاملة المختَبَر لتظهر الأفعال التي يُستحق عليها الجزاء، ثم أخبر عن فتنة مَنْ قبل هذه الأمة من المؤمنين (٣) بقوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.
٣ - ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ قالوا جميعًا: ابتلينا (٤).
قال ابن عباس: منهم إبراهيم خليل الرحمن -عليه السلام-، وقوم كانوا معه ومِنْ بعده نشروا بالمناشير على دين الله فلم يرجعوا عنه (٥).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٢٨، عن مجاهد. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٦، وابن جرير ٢٠/ ١٢٨، عن قتادة بلفظ: لا يبتلون. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٢، عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والربيع بن أنس.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٠ ب، بمعناه. قال ابن قتيبة: ﴿وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ أي: لا يقتلون ولا يعذبون. "غريب القرآن" ٣٣٧.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٠ ب.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٢٩، عن مجاهد، وقتادة. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٢، عن الضحاك، وسعيد ابن جبير، ومجاهد، وعطاء. و"تفسير مقاتل" ٧٠ ب. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١٣. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٧، وقال في "تأويل مشكل القرآن" ٤٧٢: اختبرنا.
(٥) ورد هذا المعنى في حديث مرفوع أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم الحديث (٣٨٥٢)، "فتح الباري" ٧/ ١٦٥. من حديث خباب بن الأرت -رضي الله عنه-، قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا فقعد وهو محمرٌ وجهُه فقال: "لقد =
489
وقال غيره: يعني بني إسرائيل ابتلوا بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب (١).
قوله تعالى: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ قال مقال: يقول: فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم من هذه الأمة عند البلاء، فيصبروا لقضاء الله ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ﴾ يقول: وليرين ﴿الْكَاذِبِينَ﴾ (٢)، فتنوا عند البلاء والتمحيص؛ يعني: المنافقين.
قال أبو إسحاق: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ﴾ صِدْق الصادق بوقوع صدقه منه، ووقوع كذب الكاذب منه، وهو الذي يجازَى عليه، والله -عز وجل- قد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما؛ ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازَى عليه (٣). يعني أن قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ﴾ جاء بلفظ الاستقبال لحدوث المعلوم وهو الصدق والكذب، وإنما يعلم صدق الصادق كائنًا عند حدوثه، وكذلك كذب الكاذب، وقد بينا هذا بيانًا شافيًا عند قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ في سورة البقرة [١٤٣] (٤).
= كان مَن قبلكم ليُمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرِق رأسه فيُشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه. ولَيُتمن الله هذا الأمر حتى يسيرَ الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله". زاد بيانٌ: "والذئبَ على غنمه". وقول ابن عباس ذكره الطبرسي "مجمع البيان" ٧/ ٤٢٨.
(١) ذكره الطبرسي "مجمع البيان" ٧/ ٤٢٨، ولم ينسبه.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٠ ب.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٠.
(٤) قال الواحدي في تفسيرِ هذه الآية: قوله تعالى: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ والله تعالى عالم لم يزل، ولا يجوز أن يَحدث له علم، واختلف أهل المعاني في وجه تأويله، فذهب =
490
واختار صاحب النظم في قوله: ﴿الم﴾ أن يكون قسمًا، وجعله واقعًا على قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ وجعل قوله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ﴾ كلامًا معترضًا بين القَسَم وبين ما هو واقع عليه؛ قال: ودل على هذا دخول النون الثقيلة في قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ كما تقول: والله لأضربنَّ عمرًا.
فإن قيل: لِمَ دخلت الفاء في قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ قيل: إنه لما يجيء بالجواب لقوله: ﴿الم﴾ حتى قال: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ صار كأن قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ معطوفًا عليه وجوابًا له فقد اشترك قوله: ﴿الم﴾ وقوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ في قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ للعطف على معنى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا﴾ وذلك أن الله تعالى لما قال: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ﴾ الآية، كان إنكارًا لحسبانهم أنهم لا يفتنون، وإذا كان إنكارًا ففيه دليل على أنه -عز وجل- أوجب أن يفتنهم؛ لأنه لا ينكر شيئًا إلا ويوجب ضده، ثم لما قال: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ دل بهذا القول على هذا المعنى من إيجاب الفتنة، فيكون تأويله: لنفتنهم كما فتنا الذين من قبلهم، ثم صار قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ﴾ معطوفًا على هذا التأويل.
وقال في قوله: ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ ليس هذا من الصدق اللازم الذي تأويله: صَدَق في قوله، وهو من الصدق المتعدي الذي يقال عنه: صَدَقَنِي فلانٌ، أي: قال لي الصدق، وكَذَبَنِي؛ أي: قال لي الكذب. والمعنى
= جماعة إلى أن العلم له منزلتان: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحُكم للعلم بعد الوجود؛ لأنه يوجب الثواب والعقاب، والمتعبَّد بالشيء إذا لم يُطع وعصى علمه الله تعالى عاصيًا، وإذا أطاع علمه مطيعًا، وكان قبل أن أطاع لم يعلمه علمًا يستحق به الثواب؛ وإن كان في معلوم الباري أنه يطمِع فمعنى قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ أي: لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب.
491
﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ الله ما وعدوه، أي: تَمّوا عليه ووفوا به ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ الذين كذبوا الله ما وعدوه. وقال في قوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: لا يعني بذكر الفتنة إلا من أضمر الإيمان والإسلام دون الكافر؛ لأن الفتنة تجريب، كما يفتن الذهب والفضة بالنار إذا أحميا ليظهر صفاؤهما وخبثهما، والكافر ظاهر خبثه، فلا حاجة إلى تجريبه بالفتنة. انتهى كلامه.
٤ - قال مقاتل: ثم أوعد كفار العرب فقال: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ يعني الشرك (١).
قال ابن عباس: يعني الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والأسود، والعاص بن هشام، وغيرهم من قبائل شتى (٢).
وقال مقاتل: نزلت في بني عبد شمس؛ منهم شيبة وعتبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وحنظلة بن أبي سفيان، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل (٣).
وقال الكلبي: نزلت في الذين بارزوا عليًّا وحمزة وعبيدة بن الحارث
(١) "تفسير مقاتل" ٧٠ ب. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٣، عن قتادة. وهو قول الثعلبي ٨/ ١٥٦ أ.
(٢) "تنوير المقباس" ٣٣٢، بنحوه.
- الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قتله يوم بدر حمزة ابن عبد المطلب -رضي الله عنه-. "السيرة النبوية" لابن هشام ٢/ ٣٧٠.
- العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، أخو أبي جهل، قتله يوم بدر عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه-. "السيرة النبوية" لابن هشام ٢/ ٣٦٨، و"الأعلام" ٣/ ٢٤٧.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٠ ب.
يوم بدر وهم. عتبة وشيبة والوليد بن عتبة (١).
قوله تعالى: ﴿أَنْ يَسْبِقُونَا﴾ قال ابن عباس والمفسرون: [أن يفوتونا] (٢). وقال مجاهد: أن يعجزونا (٣). والمعنى: أن يفوتونا فوت السابق لغيره (٤).
قال مقاتل: أن يفوتونا بأعمالهم السيئة، كلا بل نخزيهم بها في الدنيا؛ فقتلهم الله ببدر (٥).
قوله تعالى: ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ قال ابن عباس: بئس ما حكموا لأنفسهم (٦). وقال أبو إسحاق: موضع ﴿مَا﴾ نصب على: ساء حكمًا يحكمون، كما تقول: نعم رجلاً زيدٌ، ويجوز أن يكون رفعًا على معنى: ساء الحكم حكمهم (٧).
٥ - قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ﴾ أي: يخاف البعث والحساب. قاله المفسرون (٨). قال مقاتل: يعني من كان يخشى البعث في
(١) "تنوير المقباس" ٣٣٢.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من النسختين، ولا يستقيم الكلام بدونه. وهو في "تفسير مقاتل" ٧٠ ب. و"تنوير المقباس" ٣٣٢، وتفسير ابن جرير ٢٠/ ١٣٠.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٣، عن مجاهد.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٠. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٦ أ، بمعناه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٠ ب.
(٦) "تنوير المقباس" ٣٣٢.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٠.
(٨) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٤، عن سعيد بن جبير، والسدي، بلفظ: يخشى. وهو قول أبي عبيدة، مجاز القرآن ٢/ ١١٣. وقال ابن قتيبة: يخافه، "غريب القرآن" ٣٣٧. وهو قول ابن جرير ٢٠/ ١٣٠. والثعلبي ٨/ ١٥٦ أ.
الآخرة فليعمل لذلك اليوم (١)، كقوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ [الكهف: ١١٠].
وقال سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله (٢). واختار أبو إسحاق هذا القول؛ وقال: معناه: من كان يرجو ثواب لقاء الله (٣). أي: ثواب المصير إلى الله. والرجاء على هذا القول معناه: الأمل، وعلى القول الأول معناه: الخوف. ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ قال ابن عباس: يريد يوم القيامة (٤).
وقال صاحب النظم: هذا مقتص من قوله: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢] والأجل المسمى (٥) عنده: البعث والقيامة، ولذلك أضاف الأجل إلى نفسه -عز وجل-.
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ قال ابن عباس: لقولكم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في الدنيا العلم به.
٦ - قوله: ﴿وَمَنْ جَاهَدَ﴾ قال ابن عباس: يريد لمرضاة الله ﴿فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ وقال مقاتل: يقول: من يعمل الخير فإنما يعمل لنفسه (٦).
(١) "تفسير مقاتل" ٧٠ ب.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٦ أ، بنصه، وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٤، بلفظ: من كان يخشى، وبلفظ: البعث في الآخرة، وبلفظ: ثواب ربه.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٠، وقد رد على من قال بأن معنى الرجاء هنا الخوف فقال: فأما من قال: إن معناه الخوف، فالخوف ضد الرجاء، وليس في الكلام ضد.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٠ ب.
(٥) المسمى، من نسخة: (أ).
(٦) "تفسير مقاتل" ٧٠ ب.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ عن أعمالهم وعبادتهم.
٧ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ قال ابن عباس: يريد ما عملوا في الشرك. يريد: لَيُبْطِلها حتى تصير بمنزلة من لم يعمل ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا﴾ قال مقاتل: نجزيهم بإحسانهم ولا نجزيهم بمساوئهم (١). والمعنى: لنجزيهم بأحسن أعمالهم؛ وهو ما أمرناهم به من الطاعة (٢).
٨ - وقوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ قال الأخفش: هو على: ووصيناه بحسن، وقد تقول العرب: وصيته خيرًا، أي: وصيته بخير (٣). وقال غيره: هو بمعنى: ألزمناه حسنًا، أو وصيناه أن يفعل حسنًا (٤). قال أبو إسحاق: معناه: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن (٥).
قال المفسرون: نزلت في سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص: مالك، لما هاجر قالت أمه: والله لا يظلني ظل بيت حمَى ترجع إلى ما كنت عليه، فحثَّ الله سعدًا على البر بأمه، ونهاه أن يطيعها في الشرك؛ وهو قوله: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (٦) أي: لتشرك بي شريكًا
(١) "تفسير مقاتل" ٧١ أ.
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٦ أ.
(٣) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٥.
(٤) قال ابن جرير ٢٠/ ١٣١: وقال بعض نحوي الكوفة: معنى ذلك: ووصينا الإنسان أن يفعل حسنًا، ولكن العرب تسقط من الكلام بعضه إذا كان فيما بقي دلالة على ما سقط. وذكر هذا القول الثعلبي ٨/ ١٥٦ أ، ونسبه لأهل الكوفة.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦١.
(٦) أخرج سبب نزول هذه الآية مسلم في "صحيحه" ٤/ ١٨٧٧، كتاب: فضائل الصحابة، رقم (١٧٤٨) بعد حديث رقم (٢٤١٢). وأخرجه كذلك أبو يعلى =
495
لا تعلمه لي ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ وقال عطاء عن ابن عباس: نزلت في عياش بن أبي ربيعة، أخي أبي جهل لأمه، والقصة في ذلك مشهورة (١).
= الموصلي، في مسنده ٢/ ١١٦، رقم (٧٨٢). وروى بعضه البخاري، في "الأدب المفرد"، باب: بر الوالد المشرك، رقم (٢٤)، "صحيح الأدب المفرد" (٤٠). وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣١، عن قتادة. وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٦، عن قتادة، ومصعب بن سعيد. وذكره مقاتل ٧١ أ. والثعلبي ٨/ ١٥٦ أ. وأخرجه الواحدي بإسناده في "الوسيط" ٣/ ٤١٤، وكذا في أسباب النزول ٣٤٠، لكن صدَّره في "أسباب النزول" بقوله: قال المفسرون: نزلت في سعد بن أبي وقاص.. فلعله يريد بذلك: الاتفاق على نزولها في سعد -رضي الله عنه-، والله أعلم.
(١) ذكر الواحدي هذه القصة في كتابه "أسباب النزول" ١٦٩، عند قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: ٩٢] ولم أجدها في تفسيره البسيط؛ حيث أفاد محقق سورة النساء أن تفسير هذه الآية من القسم المفقود من الكتاب، "البسيط". وذكر هذه القصة الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف"، في سورة النساء ١/ ٣٣٩، وفي سورة العنكبوت ٣/ ٤١، وملخص هذه القصة: أن عياش هاجر مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، مترافقين، حتى نزلا المدينة، فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمه.. فنزلا بعياش فقالا له: إن من دين محمد صلة الأرحام، وبر الوالدين، وقد تركت أمك لا تطعم، ولا تأوي بيتًا حتى تراك وهي أشد حبًا لك منا، فاخرج معنا فاستشار عمر، فقال: هما يخدعانك ولك عليَّ أن أقسم مالي بيني وبينك، فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر، فقال عمر: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها، فإن رابك منهما ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد خلأت فاحملني معك، قال: نعم، فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاه وشدا وثاقه، ونزلا فجلداه كل واحد منهما مائة جلدة، وذهبا به إلى أمه، قالت له: لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد ففتناه فافتتن. قال الزيلعي: رواه البزار في مسنده، ثم ساق سنده، ثم قال: وكذلك رواه ابن هشام في السيرة، عن ابن إسحاق بسنده المذكور ومتنه سواء، ونقله الثعلبي بلفظ المصنف عن مقاتل. وقد ألمح ابن حجر إلى نقد هذه =
496
ثم أوعد بالمصير إليه فقال: ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها لأجازيكم عليها؛ لأن فائدة الإخبار هنا: المجازاة عليها. والمعنى: أن طاعة الله في البر بالأم عمل صالح، [وطاعة الأم بالشرك بالله عن شيء يجازي الله عليها من عمل بأجرها] (١).
٩ - وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ﴾ قال مقاتل: لندخلنهم مع الصالحين الجنة (٢). وقال ابن جرير: أي في مُدخل الصالحين؛ وهو: الجنة (٣).
وقال صاحب النظم: تأويله: لندخلنهم الجنة في زمرة الصالحين. وهو من باب الاختصار. والمراد بالصالحين: الأنبياء والأولياء (٤).
١٠ - قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: نزلت في قصة عياش بن أبي ربيعة أسلم وهاجر، فلما ضرب على الإسلام وعوقب ارتد ورجع إلى الكفر (٥).
= الرواية فقال: أخرجه الثعلبي بغير سند، والواحدي عن ابن الكلبي، ورواه الطبري من طريق أسباط عن السدي بتغيير يسير. الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١/ ٥٣٨. ومعنى: خلأت: بركت فلم تقم. "تهذيب اللغة" ٧/ ٥٧٧ (خلأ).
(١) ما بين المعقوفين هكذا كتب في النسختين؛ ولعل الصواب -والله أعلم-: وطاعة الأم بالشرك بالله عمل سيئ يجازي الله عليها من عمل بها.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٠ ب.
(٣) تفسير ابن جرير ٢٠/ ١٣٢. وقد ذكره عنه بنصه الثعلبي ٨/ ١٥٦ ب.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٧، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وذكره بنصه الثعلبي ١٥٦ ب، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧١ أ، في خبر طويل. و"تنوير المقباس" ٣٣٢، مختصرًا. وذكره =
497
وهو معنى قوله. ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ يعني: ضرب إخوته وأمه إياه ليفتنوه عن دينه، وهو قوله تعالى: ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾.
وقال مقاتل: يقول: جعل عذاب الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة (١).
وقال أبو إسحاق: جزع من عذاب الناس، كما يجزع من عذاب الله (٢).
وقال صاحب النظم: أي جزع من أذى الناس ولم يصبر عليه فأطاع الناس، كما يطيع الله من خاف عذابَه، وفي نزول هذه الآية قول آخر؛ قال مجاهد: نزلت في أناس يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم أو أموالهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة (٣). ونحو هذا قال السدي ومقاتل؛ قال: هو المنافق إذا أوذي في
= الثعلبي ٨/ ١٥٦ ب، بطوله، ونسبه لمقاتل والكلبي. وأخرج ابن جرير ٢٠/ ١٣٣، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٧، عن ابن عباس، أنها نزلت في قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فاصيب بعضهم، وقتل بعض، قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمون وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية [النساء: ٩٧] قال: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية: لا عذر لهم، خرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، غير محمد بن شريك، وهو ثقة. "مجمع الزوائد" ٧/ ١٠. وهذا هو الصواب جعل الآية عامة، أما ما ذكره الواحدي عن ابن عباس ومقاتل من ارتداد عياش، وجعل نزول الآية فيه؛ فهذا ليس بصواب؛ لما سبق في ترجمة عياش من أنه لم يرتد، بل صبر على فتنة قومه.
(١) "تفسير مقاتل" ٧١ أ.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦١.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٧، وذكره الثعلبي ١٥٦ ب.
498
الله رجع عن الدين وكفر (١).
قال أبو إسحاق: وينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله -عز وجل- (٢).
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ ابتداء كلام آخر على القول الأول (٣)، وهو: إخبار عن المنافقين. قال مقاتل: ثم استأنف: ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني: دولة للمؤمنين (٤).
وقال ابن عباس: نصر لأولياء الله وأهل طاعته (٥).
﴿لَيَقُولُنَّ﴾ يعني: المنافقين للمؤمنين ﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ على عدوكم (٦). وعلى القول الثاني يتصل قوله: ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ بما سبقه. وهو اختيار صاحب النظم؛ أخرج ﴿مِنْ﴾ موحدًا في أول الآية، وأخرجه مخرج الجمع في قوله: ﴿لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ موحد مرةً على اللفظ، وجُمع مرةً على المعنى. وكذلك القراء يختلفون في الوقف عند قوله: ﴿كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ فهو عند نافع تمام، وعند غيره ليس بتمام؛ لاتصاله بما قبله (٧).
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٧، عن السدي، بمعناه. و"تفسير مقاتل" ٧١ ب، بمعناه.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦١.
(٣) أي: على القول بأنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧١ ب.
(٥) في "تنوير المقباس" ٣٣٢: فتح مكة.
(٦) "تفسير مقاتل" ٧١ ب.
(٧) هكذا في النسختين: لاتصاله بما قبله؛ وهو خطأ؛ والصواب: لاتصاله بما بعده. قال النحاس: ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ عن نافع تم، قال غيره: والتمام ﴿أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾. "القطع والائتناف" ٢/ ٥١٩
499
قوله تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ بضمائر العالمين وأسرارهم من الإيمان والنفاق، وغير ذلك، أي: لا يخفى عليه كذبهم فيما قالوا: ﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ ننصركم على عدوكم.
قال صاحب النظم: دَلَّ بقوله: ﴿أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾ على أنهم كاذبون في قولهم: ﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾.
١١ - وقوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال مقاتل: وليرين الله الذين صدقوا عند البلاء فثبتوا على الإسلام ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ بالشك عند البلاء (١) وترك الإيمان ورجوعهم إلى دينهم الأول. وذكرنا معنى: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ آنفًا.
وقال صاحب النظم: دل بهذه الآية أن انقيادهم لمن آذاهم، وميلهم إليهم، وترك الصبر على الأذى في الله خروج من الإيمان، ودخول في الشرك في جملة المنافقين الذين لا يصبرون عند البلاء.
١٢ - وقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا﴾ قال مجاهد: هذا من قول كفار مكة لمن آمن منهم؛ قالوا لهم: لا نُبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، فإن كان عليكم شيء فهو علينا (٢). ونحو هذا قال الكلبي (٣).
وقال مقاتل: قال أبو سفيان بن حرب، لعمر بن الخطاب، وعمار،
(١) "تفسير مقاتل" ٧١ ب.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٣٩، عن مجاهد، وأخرجا نحوه عن الضحاك.
(٣) "تنوير المقباس" ٣٣٣.
500
وخباب، ومن آمن من قريش: اتبعوا ديننا ملة آبائنا، ونحن الكفلاء (١) بكل تبعة من الله تصيبكما فذلك قوله: ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ (٢).
قال الأخفش: جزم على الأمر؛ كأنهم أمروا أنفسهم (٣).
وقال الفراء: هو أمر فيه تأويل جزاء، كما أن قوله: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ [النمل: ١٨] نهي فيه تأويل الجزاء، وهو كثير في كلام العرب؛ قال الشاعر:
فقلتُ ادعِي وأَدْعُ فإنَّ أندى لِصَوتٍ أن يُناديَ داعيانِ
أراد: ادعِي ولأَدْعُ، كأنه قال: إن دعوتِ دعوتُ (٤).
وقال صاحب النظم: قال لهم ارجعوا إلى ديننا لنضمن عنكم كلَّ ما يجئكم من ذلك. وذكر أبو إسحاق نحو ما قال الفراء؛ فقال: هو أمرٌ في تأويل الشرط والجزاء؛ المعنى: إن تتبعوا طريقنا الذي نسلكه في ديننا حملنا خطاياكم، إن كان فيه إثم فنحن نحتمله (٥).
(١) في نسخة: (ب): الكفلة.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧١ ب.
(٣) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٥٥.
(٤) أنشده سيبويه ٣/ ٤٥، ونسبه للأعشى، وفي الحاشية: لم يرد في ديوانه، وروي أيضًا للحطيئة، أو ربيعة بن جشم، أو دثار بن شيبان النمري. وقبله:
تقول خليلتي لما اشتكينا سيدركنا بنو القرم الهجان
وأنشده الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٣١٤، ولم ينسبه. وأنشده الثعلبي ٨/ ١٥٧ أ، عن الفراء. واستشهد به في الإنصاف ٢/ ٥٣١، على إعمال حرف الجزم مع الحذف، ولم ينسبه. وفي الحاشية: محل الاستشهاد من البيت قوله: وأدع، فإن المؤلف أنشده على لسان الكوفيين على أن الشاعر أراد: ولأدع، بلام الأمر، وبجزم الفعل المضارع بحذف الواو، والضمة قبلها دليل عليها.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦١.
501
وقال المبرد: ﴿اتَّبِعُوا﴾ أمر ﴿وَلْنَحْمِلْ﴾ معطوف عليه، وإنما أمروهم ثم عادوا فأمروا أنفسهم، ولا تحذف اللام إلا من الأمر المواجهة وما سوى ذلك فلابد من اللام، تقول: قم وليقم زيد (١). وهذا وجه غير ما ذكره الفراء والزجاج؛ وهو أحسن.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ معناه: من شيء يخفف عن المحمول عنه العذاب (٢) ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد: إنهم ليعدونهم الباطل.
١٣ - ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ﴾ قال مقاتل: أوزارهم التي عملوها ﴿وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ وأوزارهم لقولهم للمؤمنين: ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا﴾ (٣)، وهذا كقوله: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل: ٢٥] قاله مقاتل وابن عباس ومجاهد (٤).
قال قتادة في هذه الآية: من دعا قومًا إلى ضلالة فعليه مثل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا (٥)؛ وهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم
(١) أراد المبرد بقوله: الأمر المواجهة: صيغة الأمر الصريحة الأصلية التي يلزم منها حضور المأمور الموجه إليه الخطاب، كقولك: قم يا زيد، فإن كان الأمر بغيرها كالأمر بالمضارع لزم دخول اللام الدالة على الأمر كقولك: ليقم زيد. والله أعلم.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٢، بنصه.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧١ ب.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٥، عن ابن زيد، وفيه ذكر آية النحل. وذكره مقاتل ٧١ ب، دون ذكر آية النحل.
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٦، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٠. وذكره ابن قتيبة، "غريب القرآن" (٣٣٧).
502
شيء" (١)
وقوله: ﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قال أبو إسحاق: ذلك سؤال توبيخ لا سؤال إعلام (٢).
وقوله: ﴿عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ قال ابن عباس: يقولون على الله الكذب (٣).
وقال مقاتل: يعني قولهم: نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله (٤).
(١) الحديث أخرجه مسلم ٢/ ٧٠٤، كتاب: الزكاة، رقم الحديث (١٠١٧)، وله قصة ذكرها جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ إلي قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١] والآية التي في الحشر: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [الحشر: ١٨] تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كله تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهلل كأنه مُذهَبة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". وأخرجه مختصرًا الترمذي ٥/ ٤٢، كتاب: العلم، رقم (٢٦٧٥)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه بسنده الثعلبي ٨/ ١٥٧ ب، من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٢.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٠.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧١ ب.
503
١٤ - قال ابن عباس: ثم عزَّى نبيه فأخبره بما ابتلي به النبيون من قبله من قومهم؛ فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ﴾ يريد: أقام فيهم يدعوهم إلى الله ﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ روى يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: بُعث نوح لأربعين سنة، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وعاش بعد الغرق ستين عامًا، حتى كثر الناس وفشوا (١).
﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ قال مقاتل: يعني الماء طغى فوق كل شيء فغرقوا (٢) ﴿وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ قال ابن عباس: مشركون (٣). وذكرنا الطوفان فيما تقدم (٤).
١٥ - ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ﴾ يعني نوحًا من الغرق (٥) ﴿وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ يعني الذين ركبوها معه ﴿وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد تركت السفينة آية لمن بعد نوح (٦).
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤١، من طريق يوسف بن مهران. وذكره الثعلبي ١٥٧ ب. وأخرجه من هذا الطريق الحاكم ٢/ ٥٩٥، كتاب تواريخ المتقدمين، رقم (٤٠٠٥)، ولم يتكلم عنه الحاكم، وسكت عنه الذهبي.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧١ ب. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ١٠٠، وابن جرير ٢٠/ ١٣٦، عن قتادة. وقال ابن قتيبة: المطر الشديد. "غريب القرآن" ٣٣٧.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٣.
(٤) عند قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾ [الأعراف: ١٣٣]، حيث تكلم الواحدي عن معنى الطوفان والمراد به في الآية في أربع صفحات، ومما ذكره قول الزجاج: الطوفان من كل شيء ما كان كثيرًا محيطًا مطيفًا بالجماعة كلها كالغرق الذي يشمل المدن الكثيرة يقال له: طوفان.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧١ ب.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٦، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٣، عن قتادة، بنحوه.
وقال مقاتل والكلبي: يعني عبرة لمن بعدهم من الناس (١)، إن عصوا رسلهم فعلنا بهم مثل ذلك (٢).
١٦ - ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ قال الزجاج: المعنى: وأرسلنا إبراهيم، عطفًا على نوح (٣).
﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ قال ابن عباس: أطيعوا الله وخافوه. وقال مقاتل: وحدوا الله واخشوه ﴿ذَلِكُمْ﴾ يعني: عبادة الله خير لكم من عبادة الأوثان ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ولكنكم لا تعلمون (٤). وقال الكلبي: إن كنتم تعلمون أن الله ربكم (٥).
١٧ - وقوله: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾ قال أبو عبيدة: الأوثان: كل ما كان منحوتًا من خشب أو حجر، والصنم: ما كان من ذهب أو فضة أو نحاس (٦).
(١) "تفسير مقاتل" ٧١ ب. "تنوير المقباس" ٣٣٣.
(٢) قال ابن جرير ٢٠/ ١٣٦: ولو قيل: معنى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ وجعلنا عقوبتنا إياهم آية للعالمين، وجعل الهاء والألف في قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾ كناية عن العقوبة أو السخط ونحو ذلك، إذ كان تقدم ذلك في قوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ كان وجهًا من التأويل.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٤.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧١ ب.
(٥) "تنوير المقباس" ٣٣٣.
(٦) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١٤، بلفظ: الوثن: ما كان من حجارة أو جص. وليس فيه ما يتعلق بالصنم، وما ذكره أبو عبيدة في المجاز ذكره ابن قتيبة بنصه في "غريب القرآن" ٣٣٧، ولم ينسبه. وقد تتبعت الآيات التي وردت فيها كلمة: أصنام، فلم أجد أبا عبيدة تكلم عن هذه المسألة في كتابه "المجاز". وقريب مما ذكر الواحدي عند الأزهري؛ قال: وقال شمر فيما قرأت بخطه: أصل الأمثال =
505
وهذا كما قال ابن عباس: يريد الأصنام التىِ تتخذ من الحجارة (١). قوله: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ قال أبو عبيدة: خلق واختلق، وخرق واخترق وافترى؛ واحد كله (٢). وفي هذا قولان للمفسرين؛ أحدهما: أن هذا محمول على الكذب في القول. وهو قول السدي؛ قال: تقولون إفكًا (٣). يعني: زعمهم أنها آلهة. وروي عن ابن عباس: تقولون كذبًا (٤).
القول الثاني: أن هذا محمول على الصنع باليد؛ قال مجاهد: وتصنعون أصنامًا بأيديكم فتسمونها آلهة (٥). ويكون التقدير على هذا: وتخلقون ما تأفكون عنه بزعمكم أنه إله، والخلق يكون بمعنى: التقدير (٦)، وقد ذكرناه (٧).
= عند العرب: كل تمثال من خشب، أو حجارة، أو ذهب، أو فضة، أو نحاس، ونحوها. "تهذيب اللغة" ١٥/ ١٤٤ (وثن).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٣، عن قتادة، بلفظ: أصناما.
(٢) في مجاز القرآن لأبي عبيدة ٢/ ١١٤: مجازه: تختلقون وتفترون. ولم أجده عند الأزهري، مادة. خلق.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٤.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٧. وهو قول ابن قتيبة، قال: تخرصون كذبا. "تأويل مشكل القرآن" ٥٠٦. وفي "غريب القرآن" ٣٣٧، قال: تختلقون كذبا.
(٥) ذكره الثعلبي ٨/ ١٥٧ ب، بنصه عن مجاهد. وأخرج نحوه ابن جرير ٢٠/ ١٣٧، عن ابن عباس، من طريق عطاء. ولم أجد فيه القول الذي نسبه لمجاهد، لكن أخرج ابن جرير ٢٠/ ١٣٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٤، عنه: تقولون كذبا.
(٦) وبهذا المعنى فسر الآية ابن الأنباري، فقال: والخلق: التقدير، قال الله جل اسمه: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ أي: تقدرون كذبا. "الزاهر في معاني كلمات الناس" ١/ ٨٨، و"الأضداد" (١٥٩).
(٧) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: =
506
وقال الكلبي: جعلتم بأيديكم من العيدان والحجارة إفكًا (١).
وقال قتادة: تصنعون أصنامًا وتنحتونها (٢).
وقال الحسن: وتنحتون إفكًا (٣).
وقال مقاتل: تعملونها بأيديكم، ثم تزعمون أنها آلهة كذبًا (٤).
قال أبو إسحاق: ويكون التأويل على هذا القول: إنما تعبدون من دون الله أوثانًا وأنتم تصنعونها (٥).
١٩ - وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ يعني الكفار. قال مقاتل: ألم تعلم كفار مكة (٦).
ومن قرأ بالتاء فهو خطاب لهم، ويدل عليه ما تقدم من الخطاب (٧). وقوله: ﴿كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ قال ابن عباس: عند الميلاد. قال مقاتل: خلق الإنسان من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فذكر اختلاف أحوال الخلق (٨).
= ١٤]: أي: المصورين المقدرين، والخلق في اللغة: التقدير، والعرب تقول: قدرت الأديم وخلقته؛ إذا قِسته لتقطع منه مزادة أو قربة أو خفًا.
(١) "تنوير المقباس" ٣٣٣، بمعناه.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٤، عن ابن عباس، وقتادة.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٦.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧١ ب.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٥.
(٦) "تفسير مقاتل" ٧٢ أ.
(٧) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء. "السبعة في القراءات" ٤٩٨، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٦، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٨٢، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٣.
(٨) "تفسير مقاتل" ٧٢ أ، ويعني بقوله: فذكر اختلاف الخلق، أن مقاتل ذكر بقية =
وقوله: ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ قالا. يعني في الآخرة عند البعث (١).
﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ قال ابن عباس: يريد الخلق الأول، والخلق الآخر (٢).
٢٠ - قوله: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ قال ابن عباس: يريد: هل تجدون فيما تبحثون من البلاد وتسيرون خالقًا غيري، والمعنى على هذا: سيروا لتعلموا أن الذي بدأ الخلق هو الله لا خالق غيره، فإذ أقروا بابتداء الخلق وعلموا أن ذلك من الله، لزمتهم الحجة في الإعادة.
وقال مقاتل: ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ يعني خلق السموات والأرض وما فيهما من الخلق (٣). والمعنى على هذا: أنهم إذا ساروا رأوا من مخلوقات الله ومصنوعاته ما يدلهم على قدرته، فيستدلون بذلك على أن مَنْ بدأ خلقها قادر على الإعادة بعد الإهلاك.
قال مقاتل: وذلك لأنهم يعلمون أن الله خلق الأشياء كلها (٤).
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ أي: ثم الله الذي خلقها
= الأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته؛ قال.. ثم من مضغة، ثم عظامًا، ثم لحمًا، ولم يكونوا شيئًا، ثم هلكوا، ثم يعيدهم الله في الآخرة.
(١) يعني بـ: قالا: ابن عباس، ومقاتل، لتقدم ذكرهما. وقول مقاتل في "تفسيره" ٧٢ أ. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٣٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٥، عن قتادة. ولم أجده لابن عباس إلا في "تنوير المقباس" ٣٣٣.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٥، بلفظ: يعني: هينا.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٢ أ.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٢ أ.
وبدأ خلقها يُنشؤها نشأة ثانية (١). وأكثر القراء. ﴿النَّشْأَةَ﴾ بالقصر. وقرأ أبو عمرو بالمد (٢)، والأحسن القصر؛ يقال: نَشَأَ ينشأ نَشئًا ونشأة، ولم يذكر أبو زبد وأبو عبيدة المد (٣)، وذكره الفراء؛ فقال: هو كما تقول العرب: الرأفة والرآفة، والكأْبة والكآبة، كلٌ صواب (٤).
٢٢ - وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ اختلفوا في تقدير الآية على وجهين، فقال الفراء: يقول القائل: كيف وَصَفهم بأنهم لا يُعجزون في الأرض ولا في السماء، وليسوا من أهل السماء فالمعنى والله أعلم: ما أنتم (٥) بمعجزين في الأرض، ولا مَنْ في السماء بمعجز، وهو من غامض العربية؛ للضمير الذي لم يظهر في الثاني، ومنه قول حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحُهُ وينصرُه سواءُ (٦)
أراد: ومن يمدحه ومن ينصرهُ فأضمر.
ومثله في الكلام: أكرم من أتاك، وأتى أباك؛ يعني: وأكرم مَنْ أتى
(١) "تفسير مقاتل" ٧٢ أ، بمعناه.
(٢) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: [النَّشَاءَةَ] ممدودة في كل القرآن، وقرأ الباقون بالقصر. "السبعة في القراءات" ٤٩٨، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٧، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٨٣، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٣.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٧، بتصرف.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٥.
(٥) أنتم، غير موجودة في نسخة: (أ)، (ب).
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٥. ونسب البيت لحسان، وعن الفراء أنشده ابن جرير ٢٠/ ١٤٠. وهو في "ديوانه" ٩، من قصيدة له في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم-، قبل فتح مكة. بلفظ: فمن يهجو.
509
أباك (١). وهذا موافق لتفسير ابن عباس والكلبي، قال ابن عباس: يريد: لا يُعجزني أحدٌ من أهل الأرض، ولا من أهل السماء (٢). وقال الكلبي: يقول: وما أنتم بسابقي في الأرض هربًا، ولا أحدٌ من أهل السماء سابقي (٣). وهذا وجه.
والوجه الثاني: قال قطرب: معناه: ولا في السماء لو كنتم فيها، كقوله: ما يفوتني فلان بالبصرة، ولا هاهنا في بلدي. يعني: ولا بالبصرة لو صار إليها (٤). وهذا الوجه موافق لتفسير مقاتل؛ فإنه يقول في معنى الآية: وما أنتم يا كفارُ سابقي الله فتفوتونه؛ في الأرض كنتم، أو في السماء كنتم، أينما تكونوا حتى يجزيكم بأعمالكم السيئة (٥).
وذكر أبو إسحاق القولين موجزًا؛ فقال: معناه: ما أنتم بمعجزين في الأرض، ولا أهل السماء بمعجزين. ويجوز: وما أنتم بمعجزين في الأرض، لا ولو كنتم في السماء. أي: لا ملجأ من الله إلا إليه (٦). ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ﴾ يمنعكم منِّي ﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾ ينصركم من عذابي. قاله ابن عباس (٧).
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٥. ونحوه عند ابن قتيبة، في "تأويل مشكل القرآن" ٢١٧، و"غريب القرآن" ٣٣٨.
(٢) أخرج نحوه ابن جرير ٢٠/ ١٣٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٧، عن ابن زيد.
(٣) "تنوير المقباس" ٣٣٣، مثل قول ابن عباس.
(٤) ذكره عن قطرب ابن الجوزي، "زاد المسير" ٦/ ٢٦٦. وهو قول الأخفش؛ قال: أي: لا تعجزوننا هربًا في الأرض ولا في السماء. "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٦.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٢ أ.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٥.
(٧) "تنوير المقباس" ٣٣٤، بنحوه.
510
٢٣ - ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ﴾ بالقرآن والبعث بعد الموت ﴿أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾ يعني من جنتي. قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل (١). وهذه الآيات معترضة في قصة إبراهيم؛ تذكيرًا لأهل مكة وتحذيرًا، ثم عاد الكلام إلى قصة إبراهيم (٢)، وهو قوله:
٢٤ - ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ يعني حين دعاهم إلى الله، ونهاهم عن عبادة الأصنام (٣) ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ وهذا تسفيه لرأيهم، وتجهيل لأحلامهم حين أجابوا مَنْ احتج عليهم بأن يُقتل أو يُحرق (٤).
قوله تعالى: ﴿فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾ قال ابن عباس: يريد: ففعلوا فأنجاه الله (٥). ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي: في إنجاء الله إبراهيم من النار حتى لا تحرقه بعد ما ألقي فيها ﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ بتوحيد الله وقدرته (٦).
٢٥ - ﴿وَقَالَ﴾ إبراهيم لقومه: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾ اختلف القراء في هذه الآية؛ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: (مَّوَدَّةُ) بالرفع ﴿بَيْنِكُمْ﴾ (٧) ولهذه القراءة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يجعل: ما اسم: إن، ويضمر ذكرٌ مَّا يعود إلى: ما، فيكون التقدير: إن الذين اتخذتموهم من دون الله ﴿أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾
(١) "تفسير مقاتل" ٧٢ أ. و"تنوير المقباس" ٣٣٤.
(٢) تفسير ابن جرير ٢٠/ ١٤٠، بمعناه.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٢ أ.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٦، بمعناه.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٤٨، بمعناه.
(٦) "تفسير مقاتل" ٧٢ أ.
(٧) "السبعة في القراءات" (٤٩٨)، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٨، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٣.
511
فتصير (مَّوَدَّةُ): خبر إن، وتجعل المودة: ما اتخذوا على الاتساع؛ لأنها كانت سبب مودتهم، أو يقدر المضاف على تقدير: إن الذين اتخذتموهم أوثانًا ذوو مودةِ بينكم.
الوجه الثاني: أن يضمر: هو، ويجعل: ﴿مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾ خبرًا عنه، والجملة في خبر إن. هذا قول أبي علي (١)، وذكر الزجاج هذين الوجهين؛ فقال: من رفع (مَّوَدَّةُ) فمن وجهين؛ أحدهما: أن تكون: (مَا) في معنى: الذي، ويكون المعنى: إن ما اتخذتموه من دون الله أوثانًا مودةُ بينكم، فتكون (مَّوَدَّةُ): خبر إن، قال: ويجوز أن ترفع (مَّوَدَّةُ) على إضمار: هي، كأنه قال: تلك مودةُ بينكم في الحياة الدنيا، أي: أُلْفَتُكم واجتماعكم على الأصنام مودةُ بينكم في الحياة الدنيا (٢).
الوجه الثالث: ذكره الفراء؛ فقال: من رفع فإنما يرفع بالصفة بقوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وينقطع الكلام عند قوله: (أَوْثَانًا) (٣). وعلى هذا: (مَّوَدَّةُ) رُفع بالابتداء، وخبره: (في) الظرف، والمعنى: إنما مودةُ ما بينكم في الحياة الدنيا ثم تنقطع (٤).
قال أبو علي: وإضافة المودة إلى بينكم اتساع في الظرف؛ لأنه جعل اسمًا بالإضافة إليه، ومثل ذلك: قراءة من قرأ: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] (٥) قال الشاعر:
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٨.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٧.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٦.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٦، من قوله: إنما مودة بينكم.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٩. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر =
512
صلاءة وَرْسٍ وسطُها قد تفلَّقا (١)
وقرأ عاصم في بعض الروايات: (مَّوَدَّةٌ) بالرفع والتنوين (بَيْنَكُمْ) نصبًا (٢). ووجه هذه القراءة: الوجهان (٣) ذكرهما الزجاج وأبو علي في القراءة الأولى، و (بَيْنَكُمْ) منصوب على الظرف، والعامل فيه المودة (٤).
وقرأ حمزة (مَّوَدَّةَ) نصبًا من غير تنوين (بَيْنِكُمْ) خفضًا (٥)، جعل (مَا) مع (إِن) كافة، ولم يجعلها بمعنى: الذي، ونصب (مَّوَدَّةَ) على أنه مفعول له، أي: اتخذتم الأوثان للمودة، ثم أضافها إلى (بَيْنِكُمْ) كما أضاف مَنْ
= وابن عامر وحمزة: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ رفعًا، وقرأ نافع والكسائي: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ نصبا. "السبعة في القراءات" ٢٦٣. و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ١٦٤، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٢٦٠.
(١) أنشده أبو علي، ولم ينسبه، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٩. وأنشده كاملاً، ونسبه للفرزدق أبو زيد، في النوادر ١٦٣، وابن جني، "الخصائص" ٢/ ٣٦٩، وصدره:
أتته بمجلوم كأن جبينه
وفي حاشية "الخصائص": المجلوم: المحلوق، أراد به من المرأة، والصلاءة: مدق الطبيب، والورس: نبت أصفر. وعند أبي زيد: بمحلوم، وصلاية. والشاهد فيه: إخراج: وسط، عن الظرفية. قال البغدادي، الخزانة ٣/ ٩٢: فوسطها مرفوع على أنه مبتدأ، وجملة: قد تفلق خبره. لم أجده في ديوان الفرزدق.
(٢) قرأ عاصم في رواية أبي بكر: ﴿مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾، ورواية الأعشى عن أبي بكر: ﴿مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾. "السبعة في القراءات" ٤٩٩، و"الحجة للمَراء السبعة" ٥/ ٤٢٨، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٨٤.
(٣) لعل بعد هذه الكلمة سقطت كلمة: اللذان؛ ليستقيم الكلام بها.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٧، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٨.
(٥) قرأ بها حمزة وعاصم في رواية حفص. "السبعة في القراءات" ٤٩٩، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٩، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٨٤.
513
رفع (١).
وقرأ نافع وابن عامر: (مَّوَدَّةً) بالنصب والتنوين (بَيْنَكُمْ) بالنصب (٢)، وهذه القراءة كقراءة حمزة في المعنى؛ إلا إنه لم يُضف المودة إلى (بَيْنَكُمْ) فلمَّا لم يضف نوَّن، وانتصب (بَيْنَكُمْ) على الظرف (٣).
قال المفسرون: يقول إنكم جعلتم الأوثان تتحابون على عبادتها، وتتواصلون عليها في الحياة الدنيا ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ (٤). وقال مقاتل: بين الأتباع والقادة مودةٌ على عبادة الأصنام، ثم إذا كان ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ يتبرأ القادة من الأتباع ﴿وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ ويلعن الأتباع القادة؛ لأنهم زينوا لهم الكفر ﴿وَمَأْوَاكُمُ﴾ ومصيركم جميعًا ﴿النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ من مانعين من النار (٥).
٢٦ - قوله: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: فصدق بإبراهيم لوطٌ، وهو ابن أخيه، وهو أول من آمن به، رأى أن النار لم تضرّه (٦). ومعنى ﴿فَآمَنَ لَهُ﴾: أي: لأجله، ولأجل ما أتى به من البرهان والحجة.
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٩.
(٢) "السبعة في القراءات" ٤٩٩، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٨، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٨٤.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٢٩.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٨ ب.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٢ ب.
(٦) "تفسير مقاتل" ٧٢ ب. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٨ ب، ولم ينسبه. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٠، عن ابن عباس، بلفظ: صدق لوطٌ.
﴿وَقَالَ﴾ إبراهيم (١) ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ قال قتادة وابن عباس ومقاتل: هاجر من كُوْثَى إلى الشام (٢). وقال الكلبي: هاجر من أرض حرَّان إلى فلسطين، هجر قومه المشركين، وخرج من بينهم، وهو أول من هاجر الكفر وأهله وأرضه (٣).
قال مقاتل: قوله: ﴿إِلَى رَبِّي﴾ يعني: إلى رضي ربي (٤)، والمعنى: إلى حيث أمرني ربي.
٢٧ - ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ قال ابن عباس: من بعد إسماعيل ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ من بعد إسحاق (٥) ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ وذلك أن الله -عز وجل- لم يبعث نبيًا من بعدِ إبراهيم إلا من صُلبه.
﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾ قال: يريد أن أهل الأديان كلهم ينتحلون
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٠، عن ابن عباس. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٣، عن الضحاك. و"تفسير مقاتل" ٧٢ ب. و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٦. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٨ ب.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٢، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٠، عن قتادة، زاد ابن أبي حاتم: من كوثى، وهي من سواء الكوفة. و"تفسير مقاتل" ٧٢ ب. وكوثى: قرية في العراق، في أرض بابل. وتطلق ويراد بها مكة، وذلك أن منزل بني عبد الدار يقال له: كوثى. "تهذيب اللغة" ١٠/ ٣٤٠ (كوث). و"معجم البلدان" ٤/ ٥٥٣. وهي معروفة الآن بالاسم نفسه شمال بغداد بحوالي ١٠٠ كم.
(٣) "تنوير المقباس" ٣٣٤، وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٣، عن ابن جريج. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٨ ب، ولم ينسبه. وهو قول الفراء، من حران إلى فلسطين. "معاني القرآن" ٢/ ٣١٦. وحرَّان: مدينة عظيمة مشهورة، وهي على طريق الموصل والشام. "معجم البلدان" ٢/ ٢٧١. وهي في أقصى شمال شرق سوريا حاليا.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٢ ب.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٣.
515
حُبه (١)، ويتولونه. وهذا قول قتادة ومقاتل؛ قال قتادة: وليس من أهل دين إلا وهم يتولونه (٢).
وقال مقاتل: يعني الثناء الحسن، والقالة الحسنة من أهل الأديان كلها (٣).
وقال الكلبي: هو ما أُعطي من الولد الطيب، والثناء الحسن (٤).
وقال السدي: أُري مكانَه في الجنة (٥).
وقال الحسن: أجرُه في الدنيا: نيته الصالحة التي اكتسب بها الأجر في الآخرة (٦). وعلى هذا يكون التقدير: وآتيناه سبب أجره.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ هذه الآية كالآية في آخر (سورة النحل)، في ذكر إبراهيم: ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)﴾ (٧). قال ابن عباس: يريد: مِثلَ: آدم ونوح (٨). يعني: أنه في درجتهما؛ لأن الله تعالى استخرج (٩) الذرية الطيبة كما استخرج منهما.
(١) أي: يدعون حبه. "تهذيب اللغة" ٥/ ٦٥ (نحل).
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٦، وابن جرير ٢٠/ ١٤٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٢.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٢ ب. وذكر نحوه الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٣١٦.
(٤) "تنوير المقباس" ٣٣٤. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٤، عن ابن عباس. وذكره ابن قتيبة، "غريب القرآن" ٣٣٨، ولم ينسبه.
(٥) ذكره عن السدي، ابن الجوزي "زاد المسير" ٦/ ٢٦٨.
(٦) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٣.
(٧) قال مقاتل عند هذه الآية: نظيرها في النحل. "تفسير مقاتل" ٧٢ ب.
(٨) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٣، عنه بلفظ: الصالحين: الأنبياء والمؤمنين.
(٩) هكذا في نسخة: (أ)، و: (ب). ولو زيدت: منه، لكان أوضح، فيكون الكلام لأن الله تعالى استخرج منه الذرية الطيبة.
516
قال صاحب النظم: لما قال: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾ لم يُؤمَن أن يقال: إنه قد أخذ أجره في الدنيا، ولا خلاق له في الآخرة فأعلم -عز وجل- أن له مع ما أُعطي في الدنيا الدرجاتِ العلى بقوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ اقتصاصًا من قوله: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥)﴾ [طه: ٧٥].
٢٨ - قوله تعالى: ﴿وَلُوطًا﴾ قال مقاتل: وأرسلنا لوطًا (١). والآية مفسرة في سورة: الأعراف (٢).
٢٩ - وقوله: ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ قال ابن عباس: يريد: الطريق على المارَّ (٣).
وقال مقاتل: وذلك أنهم يرمون ابن السبيل الحجارةَ بالخذف (٤)
(١) "تفسير مقاتل" ٧٢ ب.
(٢) الآية ٨٠ ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٨٠)﴾ قال الواحدي: قوله تعالى: ﴿وَلُوطًا﴾ ذكر الفراء في كتاب المصادر اشتقاق هذا الاسم، وأنكر عليه أبو إسحاق؛ وقال: الاسم الأعجمي لا يقال: إنه مشتق كإسحاق، لا يقال: إنه مشتق من السحق، وكتاب الله تعالى لا ينبغي أن يُقدَم على تأويله إلا برواية صحيحة، أو حجة واضحقى وقال النحويون: إنما صرف لوط فالحقيقة أنه على ثلاثة أحرف ساكن الأوسط. وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ يعني: إتيان الذكران في قول جميع المفسرين. ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ قالوا: ما نزل ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط. قال الزجاج: وفي هذه الآية دليل على أن فاحشة اللواط لم يفعلها أحد قبل قوم لوط.
(٣) ذكره عنه ابن الجوزي "زاد المسير" ٦/ ٢٦٨.
(٤) الخذف، بالخاء المعجمة: الرمي بالحصى الصغار بأواف الأصابع، يقال. خذفه بالحصى خذفا. والحذف، بالحاء المهملة: الرمي عن جانب، تقول العرب: حذفه بالعصا، إذا رماه بها. "تهذيب اللغة" ٤/ ٤٦٨ (حذف) بالحاء المهملة.
517
فيقطعون سبيل المسافرين (١).
قال ابن زيد في ذلك: إنهم كانوا يفعلون ذلك لمن مرَّ بهم من المسافرين، ومن ورد عليهم من الغرباء (٢).
قال ابن عباس: فلما فعلوا المنكر ترك الناس المرَّ بهم، روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسير هذه الآية: "أن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل رجل منهم قصعة (٣) فيها حصى، فإذا مر بهم عابر سبيل خذفوه، فأيهم أصابه كان أولى به" (٤).
وقال الفراء في قوله: ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ قطعه أنهم كانوا يعترضون الناس من الطرق لعملهم الخبيث (٥). وحكى الزجاج قولًا آخر؛ فقال: جاء في التفسير: وتقطعون سبيل الولد (٦).
(١) "تفسير مقاتل" ٧٢ ب. وأخرج أن المراد به الخذف، ابن جرير ٢٠/ ١٤٥، عن عكرمة، والسدي.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٤.
(٣) القَصْعَة: وعاء يؤكل فيه ويثرد، وكان يتخذ من الخشب غالبًا، يشبع العشرة، والجمع: قِصاع، وقِصَعٌ. "لسان العرب" ٨/ ٢٧٤ (قصع)، و"المعجم الوسيط" ٢/ ٧٤٠.
(٤) أخرجه الثعلبي ٨/ ١٥٨ ب، من طريق زياد بن أبي زياد يحدث عن معاوية يرفعه. وزياد بن أبي زياد الجصاص أبو محمد الواسطي، من الطبقة الصغرى من التابعين الذين رأوا الواحد والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة، "تقريب التهذيب" المقدمة ٨٢، وترجمة زياد في ص ٣٤٥، ثم قال عنه ابن حجر: ضعيف، وترجم له ابن عدي في "الكامل" ٣/ ١٠٤٥، وصدر ترجمته بقوله: متروك الحديث. ولذا صدره البغوي في تفسيره ٦/ ٢٤٠، بـ: يُروى.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٦.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٨، وذكره الفراء ٢/ ٣١٦. ولم ينسباه.
518
قوله تعالى: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ النادي: المجلس (١)؛ ذكرنا تفسيره عند قوله: ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣] (٢) قال ابن عباس: استمكنت الفاحشة فيهم حتى فعل بعضهم ببعض في المجالس (٣).
وقال مجاهد: المنكر: إتيانهم الرجال (٤).
وقال القاسم بن محمد: هو الضراط؛ كانوا يتضارطون في مجالسهم (٥).
وروي أن أم هانئ سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المنكر الذي كانوا يأتونه في ناديهم، فقال: "كانوا يخذفون أهل الطرق، ويسخرون بهم، فذلك المنكر" (٦).
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٦. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٨. ولم ينسباه.
(٢) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: الندي: فعيل بمعنى الفاعل، وهو المجلس، وكذلك النادي، يقال: ندوت القوم اندوهم نَدْوًا إذا جمعتهم، ويقال للموضع الذي يجتمعون فيه: النادي، والنادي لا يسمى ناديًا حتى يكون فيه أهله، وإذا تفرقوا لا يكون ناديًا، ومن هذا قوله: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ [العنكبوت: ٢٩] ولذلك سميت دار الندوة بمكة؛ كانوا إذا حزبهم أمر نَدَوا إليها فاجتمعوا للتشاور.
(٣) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٦، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٤، بلفظ: ﴿فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ يقول: في مجالسكم.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٦، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٥. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٩ أ.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٥، والثعلبي ٨/ ١٥٩ أ، عن القاسم بن محمد. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٤، عن عائشة -رضي الله عنها- من طريق عروة بن الزبير.
(٦) أخرجه ابن جرير٢٠/ ١٤٥، من ثلاثة طرق عن سماك بن حرب، عن أبي صالح، عن أم هانئ، أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن هذه الآية، فقال: "كانوا يخذفون =
519
وهو قول مقاتل في تفسير المنكر؛ يعني: الخذف بالحجارة (١).
قال ابن قتيبة: المنكر: مَجَمعُ الفواحش من القول والفعل (٢).
وقال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المناكر، ولا يجتمعوا إلا فيما قرَّب إلى الله -عز وجل-، وباعد من سخطه، وأن لا يجتمعوا على الهزء والتلهي (٣). فلما أنكر لوط على قومه بما كانوا يأتونه من القبائح قالوا له استهزاء: ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ أن العذاب نازل بنا (٤)، وذلك أنه توعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فعند ذلك:
٣٠ - ﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي﴾ قال مقاتل: أي بتحقيق قولي في العذاب فعذبهم (٥).
= أهل الطريق ويسخرون منهم". وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٤، من الطريق نفسه، وأخرجه من الطريق نفسه الثعلبي ٨/ ١٥٨ ب. وأخرجه الحاكم ٢/ ٤٤٤، كتاب التفسير، رقم (٣٥٣٧)، من طريق سماك بن حرب، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه من هذا الطريق الترمذي ٥/ ٣١٩، في التفسير رقم (٣١٩٠)، وقال: حديث حسن، إنما نعرفه من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك. وقال الألباني: ضعيف الإسناد جداً. "ضعيف سنن الترمذي" ٤٠١، ولم يُحل على شيء من كتبه. ولعل علته سماك بن حرب، فقد قال عنه ابن حجر: صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير في آخر حياته، فكان ربما تلقن. "تقريب التهذيب" (٤١٥) رقم (٢٦٣٩). وأبو صالح الراوي عن أم هانئ، اسمه: باذام، ضعيف يرسل. "تقريب التهذيب" ١٦٣، رقم (٦٣٨).
(١) "تفسير مقاتل" ٧٢ ب.
(٢) "غريب القرآن" لابن قتيبة (٣٣٨).
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٨.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٢ ب. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٩ أ.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٢ ب.
قوله تعالى: ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ يعني: العاصين بإتيان الرجال في أدبارهم. قاله الكلبي ومقاتل (١). قال الكلبي: فاستجاب الله دعاءه فبعث جبريل في اثني عشر ملَكًا فذلك قوله:
٣١ - ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾ قال ابن عباس: بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب (٢) ﴿قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ يعنون قرية لوط (٣) ﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ يعني: مشركين. وما بعد هذه الآية مفسر في سورة: هود (٤)، إلى قوله: ﴿وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾
٣٣ - ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ﴾ يعني: بناتك. قال المبرد: الكاف في ﴿مُنَجُّوكَ﴾ مخفوضة، فلم يجز أن يعطف الظاهر على المضمر المخفوض لعلة ذكرناها في قوله: ﴿تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: ١] (٥) فحمل الثاني على المعنى فصار في التقدير: وننجي أهلك ومنجون أهلك، وهذا جائز مستحسن (٦)
(١) "تفسير مقاتل" ٧٢ ب. وفي "تنوير المقباس" ٣٣٤: المشركين.
(٢) تفسير ابن جرير ٢٠/ ١٤٧، والثعلبي ٨/ ١٥٩ أ، ولم ينسباه.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٣ أ. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٩ أ.
(٤) الآيات ٦٩ - ٨٠.
(٥) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: (قرأ حمزة: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالعطف على المكنَّى في ﴿بِهِ﴾ كما يقال: سألتك بالله والرحمِ، ونشدتك بالله والرحمِ، وإنما حمله على هذه القراءة ما ورد في التفسير أن المشركين كانوا يقولون: نناشدك بالله والرحم.. ثم قال: وضعف النحويون كلهم هذه القراءة، واستقبحوها..) وراجع باقي كلامه في الموضع المذكور.
(٦) مستحسن، غير موجودة في نسخة: (ب).
521
مستعمل كثيرًا في كلامهم (١)، وأنشد سيبويه أبياتًا كثيرة، منها قول لبيد:
فإن لم تجدْ مِنْ دونِ عدنان والدًا ودونَ مَعدٍ فَلْتَزَعكَ العواذلُ (٢)
وأنشد أيضًا لجرير:
جئني بمثلِ بَني بدرٍ لقومهمِ أوْ مِثلَ أُسرةِ منْظورِ بنِ سيَّارِ (٣)
ولو خفض: مثلَ، لكان جيدًا بالغًا؛ وهو الباب. والنصب على الموضع فكأنه قال: أو هاتِ مثلَ: أُسرةِ منظور.
(١) قال أبو حيان: والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر ﴿وَأَهْلَكَ﴾ منصوب على إضمار فعل: أي: وننجي أهلك. البحر المحيط ٧/ ١٤٦. قال المبرد: لما لم يجز أن تعطف الظاهر على المضمر المجرور حملته على الفعل، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾ كأنه قال: ومنجون أهلك، ولم تعطف على الكاف المجرورة. "المقتضب" ٤/ ١٥٢.
(٢) أنشده سيبويه، "الكتاب" ١/ ٦٨، ونسبه للبيد، وقد استشهد به على العطف على الموضع، فعطف: دون، المنصوب، على محل: دون، المجرور بمن. "حاشية المقتضب" ٤/ ١٥٢. واستشهد به المبرد، وصدره بقوله: ومما تنشده العرب نصبًا، وجرًا، لاشتمال المعنى عليهما جميعًا قول لبيد. "المقتضب" ٤/ ١٥٢. والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي -رضي الله عنه-، يرثي بها النعمان بن المنذر، ملك الحِيرة. "ديوانه" (١٣١)، و"الخزانة" ٢/ ٢٥٢، و"الشعر والشعراء" ١٧٥.
(٣) أنشده سيبويه ١/ ٩٤، و"المبرد"، في "المقتضب" ٤/ ١٥٣، ونسباه لجرير. ولفظه عند المبرد: جيئوا. وهو في ديوان جرير ٢٤٢. والشاهد فيه العطف على المحل، تقديره: أو هات مثل أسرة منظور.
والبيت لجرير يخاطب فيه الفرزدق، مفتخرًا عليه بسادات قيس؛ لأنهم أخواله، وبنو بدر من فزارة، ومنظور ابن سيار بن عمرو، من فزارة أيضًا. "حاشية الكتاب" ١/ ٩٤. وأورده ابن جني في "المحتسب" ٢/ ٧٨، ممثلًا به على ما نصب بإضمار فعل يدل عليه ما قبله.
522
٣٤ - وقوله: ﴿رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ قال ابن عباس: عذابًا (١). قال مقاتل: يعني الخسف، والحَصْب (٢).
٣٥ - وقوله: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً﴾ يعني: آثار منازلهم الخَرِبة. وهو معنى قول ابن عباس (٣). يريد الأنهار التي كانت في قراهم، والنخيل التي قَلَت (٤) فهي إلى اليوم لا ينتفع بشيء منها. وقال قتادة: هي الأحجار التي أبقاها الله (٥)، فأدركها أوائل هذه الأمة. وقال مجاهد: هي الماء الأسود على وجه الأرض (٦).
٣٦ - وقوله: ﴿وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ قال مقاتل: واخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال (٧).
٣٨ - وقوله: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ﴾ قيل: هو عطف على الكناية في ﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾ (٨). وقيل: هو عطف، معناه: وفتنا عادًا، رجوعًا إلى قوله:
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٨، عن ابن عباس، وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٤٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٨، عن قتادة.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٣ أ. الحَصْبُ: رميك بالحصباء، يقال: حَصَبْته أحْصِبُه حَصْبًا: إذا رميته بالحصباء، والحجر المرمي به: حَصَب. "تهذيب اللغة" ٤/ ٢٦٠ (حصب).
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٩ أ، منسوبًا لابن عباس.
(٤) القَلَت: الهلاك. "تهذيب اللغة" ٩/ ٥٨ (قلت).
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٨، وابن جرير ٢٠/ ١٤٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٥٨. وذكره الثعلبي ٨/ ١٥٩ أ، عن قتادة، وأبي العالية.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٩ أ. ولعله يعني ما قيل من إن الأرض التي أهلكوا فيها، مكانها الآن البحر الميت، المسمى بأسماء متعددة، نظرًا لتميزه عن غيره من البحار بخواص لا توجد في غيره. انظر: مجلة القافلة رمضان ١٤١٩.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٣ أ.
(٨) وهو اختيار النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢٥٦.
523
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ (١) وقال الزجاج: وأهلكنا عادًا وثمودًا (٢). وهو قول مقاتل (٣). وذلك أن الذين ذُكروا قبل هذا ذُكر إهلاكهم.
وقوله: ﴿وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ يقول: ظهرَ لكم يا أهلَ مكة مِنْ منازلهم بالحِجْر واليمن، آيةٌ في إهلاكهم. قاله ابن عباس ومقاتل (٤). والمعنى: وقد تبين لكم من مساكنهم ما يُخبركم به عن إهلاكهم، فحُذف فاعل التبيين استغناءً بظهوره في المعنى.
قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد أنهم كانوا ينتسبون إلى العقل والبصائر، فلم ينتفعوا بذلك (٥). واختاره الفراء؛ فقال: عقلاء ذوي بصائر (٦).
وقال مقاتل: كانوا مستبصرين في دينهم يحسبون أنهم على هدى (٧). وهذا قول الكلبي؛ قال: كانوا يرون أن أمرهم حق (٨). ونحوه قال الضحاك (٩).
(١) ذكره النحاس عن الكسائي قال: قال بعضهم، ولم يسمهم. "إعراب القرآن" ٣/ ٢٥٦.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٦.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٣ ب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٣ ب. و"تنوير المقباس" ٣٣٥.
(٥) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥٠، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٦٠، بلفظ: كانوا مستبصرين في دينهم.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٧. دون قوله: عقلاء.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٣ ب.
(٨) "تنوير المقباس" ٣٣٥.
(٩) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٩ أ. منسوبًا للكلبي، والضحاك. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥٠، عن الضحاك.
524
وقال قتادة. كانوا مستبصرين في ضلالتهم معجبين بها (١). وهو معنى قول مجاهد (٢).
وقال أبو إسحاق: أَتوا ما أتوه وقد بين لهم أن عاقبته العذاب (٣). ومعنى المستبصر في اللغة: ذوي البصيرة، يقال: استبصر في أمره ودينه، إذا كان ذا بصيرة (٤).
٤٠ - ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ أي: عاقبنا (٥) بتكذيبه الرسل، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾ قال ابن عباس: يريد قوم لوط (٦)، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾، يريد: عادًا وثمود ومدين (٧)، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ يعني: قارون وأصحابه، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ يريد قوم نوح
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٧، وابن جرير ٢٠/ ١٥٠. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٩ أ.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥٠.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٩.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٢/ ١٧٤ (بصر).
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٩ ب.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥١. و"تفسير مقاتل" ٧٣ ب، و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٩ ب، ولم ينسبه. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٨، وفيه: يعني: الحجارة، وهي الحصباء أيضًا.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٣ ب. وهذا من الواحدي جمع بين الأقوال الواردة في المراد بمن أخذته الصيحة؛ فقد أخرج ابن جرير ٢٠/ ١٥١، عن ابن عباس: ثمود، وأخرج عن قتادة: قوم شعيب. ثم جمع بين هذا بقوله: إن الله قد أخبر عن ثمود وقوم شعيب، من أهل مدين أنه أهلكهم بالصيحة في كتابه في غير هذا الموضع، ثم قال جل ثناؤه لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: فمن الأمم التي أهلكناهم من أرسلنا عليه حاصبًا، ومنهم من أخذته الصيحة، فلم يخصص الخبر بذلك عن بعض من أخذته الصيحة من الأمم دون بعض، وكلا الأمتين أعني ثمود ومدين قد أخذتهم الصيحة.
وفرعون (١).
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ قال: يريد: أمهلهم وأنذرهم فكذبوا النذر.
وقال مقاتل: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ فيعذبهم على غير ذنب (٢).
٤١ - ثم ضرب لهم مثلًا فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ يعني: الأصنام يتخذونها أولياء يرجون نصرها ونفعها (٣) ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ﴾ قال الليث: هي دويبة تنسج نسجًا رقيقًا مهلهلاً، بين الهواء، وعلى رأس البئر (٤). ويجمع: العناكب، قال ذو الرمة:
هي اصطنعته وحدها أو تعاونت على نسجها بين الصفيح عناكبه (٥)
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥٢، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" ٧٣ ب. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٩ ب.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٣ ب.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٥٩ ب.
(٤) كتاب "العين" ٢/ ٣٠٩ (عنكب)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٩. وتعيش العناكب في أي مكان يتوفر فيه أغذاؤاها، ويمكن مشاهدتها في الحقول، والغابات، والمستنقعات، والكهوف، والصحاري، وهناك نوع من العناكب يمضي معظم حياته تحت الماء، ويعيش نوع آخر بالقرب من قمة جبل: إيفرست، أعلى جبل على الكرة الأرضية، وتعيش بعض العناكب داخل المنازل، ومخازن الحبوب، والحظائر وغيرها، ويوجد ما يقرب من ثلاثين ألف نوع من العناكب، وقد تصل إلى مائة ألف نوع، وحجم بعض العناكب أصغر من رأس الدبوس، وبعضها كبير بحيث يصل إلى حجم كف يد الإنسان، أو أكبر قليلاً، فسبحان الله العظيم. انظر مجلة: "القافلة" صفر ١٤١٩ هـ بقلم د/ أحمد محمد الصغير.
(٥) كتاب "العين" ٢/ ٣٠٩ (عنكب) ونسب البيت لذي الرمة، ولفظه:
526
وقال أيضًا يصف دلوًا عتيقة العهد بالاستقاء:
هي اصطنعته نحوها وتعاونت على نسجها بين المثاب عناكبه.
فجاءتْ بنَسْج العنكبوت كأنه على عَصَوَيْها سَابريٌّ مُشَبْرَقُ (١)
ويجوز في جمع العنكبوت: عناكيب وعنكبوتات، ويصغر: عُنَيْكبا، وعُنَيْكيبا (٢)، وأهل اليمن يقولون: عَنْكبوه بالهاء (٣).
قال اللحياني: ويقال للعنكبوت: عَكَنْبَاة، وأنشد:
كأنما يسقطُ من لُغامها بيتُ عَكَنْبَاةٍ على زِمامِها (٤)
قال الفراء: العنكبوت أنثى، وقد يذكرها بعض العرب، وأنشد:
على هَطَّالهم منها بيوتٌ كأن العنكبوت هو ابتَنَاها (٥)
= ورواية الديوان ٢٩٩:
هي انتسجته وحدها أو تعاونت على نسجه بين المثاب عناكبه
وفي شرح الديوان: المثاب: مقام الساقي حيث يضع رجليه. ولم أجد البيت في "تهذيب اللغة".
(١) ديوان ذي الرمة ١٧٨، وقال الخطيب التبريزي في شرحه: فجاءت: يعني الدلو، كأنه: كأن النسيج، على عصويها: يعني: العَرَاقي، مشبرق: مقطع مشقق. أ. هـ. يقال للخشبتين اللتين تعرضان على الدلو كالصليب: العَرْقُوتان؛ وهي العَراقي. "تهذيب اللغة" ١/ ٢٢٧ (عرق). والسابري من الثياب: الرقاق، والبيت في "لسان العرب" ٤/ ٣٤١، للدلالة على ذلك، ونسبه لذي الرمة.
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٩ (عنكب).
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٩ (عنكب)، من كلام الليث. وفي كتاب "العين" ٢/ ٣٠٩: العنكبوت بلغة أهل اليمن: العنكبوه، والعنكباه، والجمع: العناكب.
(٤) "لسان العرب" ١/ ٦٣٢ (عنكب)، عن اللحياني، وفيه إنشاد البيت، دون نسبة. لُغام البعير: زَبَده، واللُّغام: زَبَد أفواه الإبل. "لسان العرب" ١٢/ ٥٤٥ (لغم). والزِّمام: الحبل الذي تشد به الإبل؛ يقال: زممت البعير، أي: خطمته. "لسان العرب" ١٢/ ٢٧٢ (زمم).
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٧، ولم ينسب البيت، وفي الحاشية: هطال: جبل، =
527
قال الكلبي: بيت العنكبوت لا يغني عنها في حر ولا قُرَّ (١) ولا مطر، كما أن آلهتهم لا ترزقهم شيئًا، ولا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا (٢).
وقال أبو إسحاق: إن بيت العنكبوت لا بيتَ أضعفُ منه فيما يتخذه الهوام، ولا أقل وقاية من حر أو برد؛ والمعنى: أن أولياءهم لا ينفعونهم، ولا يرزقونهم، ولا يدفعون عنهم ضررًا، كما أن بيت العنكبوت غير موقٍ لها (٣).
قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي: لو كانوا يعلمون أن اتخاذهم الأولياء كاتخاذ العنكبوت بيتًا؛ ليس أنهم لا يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف (٤).
٤٢ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ قرئ: (يَدْعُونَ) بالياء والتاء (٥)؛ فمن قرأ بالياء فلتقدم الغيبة في قوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ والتاء على: قل لهم: إن الله يعلم ما تدعون، لا يكون إلا على هذا؛ لأن المسلمين لا يخاطبون بذلك (٦).
= ورواية البيت عند الفراء، والأزهري ٣/ ٣٠٩، و"لسان العرب" ١/ ٦٣٢: منهم. وفي النسختين: منها. وعن الفراء ذكره الثعلبي ٨/ ١٥٩ ب. ولم ينسبوه.
(١) القُرُّ: البرد. "تهذيب اللغة" ٨/ ٢٧٦ (قرر). وفي "تنوير المقباس" ٣٣٥: برد.
(٢) "تنوير المقباس" ٣٣٥. وأخرج نحوه عبد الرزاق ٢/ ٩٧، عن قتادة.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٩.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٩، بمعناه.
(٥) قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿تَدْعُونَ﴾ بالتاء، وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم: ﴿يَدْعُونَ﴾ بالياء. "السبعة" ٥٠١، و"الحجة" ٥/ ٤٣٣، و"النشر" ٢/ ٣٤٣.
(٦) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٤، بنصه.
قال أبو علي: و (مَا) استفهام، وموضعها نصب بـ (تَدْعُونَ) ولا يجوز أن يكون نصبًا بـ (يَعْلَمُ) ولكن الجملة التي هي منها في موضع نصب بـ (يَعْلَمُ) والتقدير: إن الله يعلم أَوَثَنًا تدعون من دونه أو غيره، أي: لا يخفى ذلك عليه فيؤاخذكم بكفركم ويعاقبكم عليه، ولدل على أن (مَا) استفهام: دخول (مِنْ) في الكلام، وإنما هي تدخل في نحو قولك: هل من طعام؟ وهل من رجل؟ ولا تدخل في الإيجاب، وهذا قول الخليل (١)، وكذلك قوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ [الأنعام: ١٣٥] والمعنى: فستعلمون المسلم تكون له عاقبة الدار أم الكافر، وكل ما كان من هذا، فهكذا القول فيه، وهو (٢) قياس قول الخليل (٣).
قوله: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ قال مقاتل: يعني من الأصنام (٤) ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ المنيع القادر ﴿الْحَكِيمُ﴾ في خلقه.
٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ﴾ يعني أمثال القرآن، وهي التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمم المتقدمة يبينها للناس ﴿نَضْرِبُهَا﴾ لكفار مكة. قاله مقاتل (٥). وقال الكلبي: للناس عامة (٦).
﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ قال مقاتل: يقول: وما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله الأمثال (٧).
(١) "الكتاب" ٣/ ١٤٨، قال: فما هاهنا بمنزلة: أيهم.
(٢) وهو غير موجودة في نسخة: (أ)، (ب).
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٤.
(٤) و (٥) "تفسير مقاتل" ٧٣ ب.
(٦) هذا القول أعم ويدخل فيه أهل مكة دخولًا أوليا.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٣ ب.
وقال الكلبي: إلا عالم أراد الله له ذلك، فيعلم ما ضرب له المثل في القرآن. وروى أبو الزبير، عن جابر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية، فقال: "العالم من عَقَل عن الله" (١).
٤٤ - قوله تعالى: ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ مضى تفسيره في سورة: الأنعام (٢)، وأوائل سورة: يونس (٣).
(١) قال الزيلعي: رواه داود بن المحبر في كتاب العقل، حدثنا عباد بن كثير، عن ابن جريج، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، وعن داود بن المُحبَّر رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، ومن طريق الحارث رواه الثعلبي، والواحدي في "تفسيره". تخريج الزيلعي للكشاف ٣/ ٤٣، وأخرجه الثعلبي ٨/ ١٥٩ ب، والواحدي في "الوسيط" ٣/ ٤٢٠. كلاهما من طريق الحارث، عن داود المحبر به، ولفظه: (العاقل من عقل عن الله فعمل بطاعته، واجتنب سخطه). قال ابن حجر: داود بن المُحَبَّر، أبو سليمان البصري، نزيل بغداد، متروك، وأكثر كتاب العقل الذي صنفه: موضوعات. "تقريب التهذيب" ٣٠٨، رقم (١٨٢٠). قال الدارقطني: كتاب العقل، وضعه أربعة: أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه داود ابن المحبر منه، فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء، فركبه بأسانيد أخر، ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر. "الموضوعات" لابن الجوزي ١/ ٢٧٧. قال المناوي: كتاب العقل لداود كله موضوع. "الفتح السماوي" ٢/ ٨٩٧.
(٢) عند قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ..﴾ [٧٣] قال الواحدي: أي: بكمال قدرته، وشمول علمه، وإتقان صنعه، وكل ذلك حق، ثم أحال على تفسير سورة يونس.
(٣) في تفسير الآية ٣، من سورة يونس ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أحال الواحدي في تفسيرها على سورة الأعراف. وفي تفسير قوله تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [يونس: ٥]، قال: قوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾ قال ابن عباس: يريد بالعدل لأنه هو الحق، وكل ما جاء من عنده هو الحق..
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي: في خلقها ﴿لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ لدلالة على قدرة الله تعالى وتوحيده.
٤٥ - قوله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ قال ابن عباس: يعني القرآن (١) ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ يريد: وأتم الصلاة (٢). ونحو ذلك قال مقاتل (٣).
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ كان ابن مسعود يقول: إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، ومن انتهى عن الفحشاء والمنكر فقد أطاع الصلاة" (٤). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا، ولم يزدد من الله إلا مقتًا" (٥).
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٦٥، عن الحسن.
(٢) في نسخة (أ)، (ب): الصوم. وهو خطأ. وقول ابن عباس في "تنوير المقباس" ٣٣٦.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٣ ب.
(٤) أخرجه الثعلبي ٨/ ١٦٠ ب، من طريق جويبر، عن الضحاك، عن عبد الله بن مسعود، يرفعه. وهذا إسناد ضعيف منقطع؛ فالضحاك لم يسمع من ابن مسعود، وجويبر ضعيف جدًا.
وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥٥، من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود يرفعه، بلفظ: "لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر".
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٨، بإسناده عن معمر عمن سمع الحسن يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو بهذا حديث مرسل، وفيه جهالة من روى عن الحسن. ولفظه: بعدا. وأخرجه أيضًا بإسناده عن الثوري عن إسماعيل عن الحسن يرفعه. باللفظين: بعدًا، ومقتا. وأخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥٥، موقوفًا على ابن مسعود -رضي الله عنه-. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٦٦، من طريق الحسن، عن عمران بن حصين يرفعه بلفظ: "من لم تنه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له" وأخرج أيضًا من طريق أبي معاوية، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، يرفعه. =
531
وقال ابن عباس: يقول في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد إلا بعدًا (١). وهذا قول الحسن وقتادة؛ قالا: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، هي وبال عليه (٢).
ومعنى هذا التأويل: أن الله تعالى أخبر أن الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، فمن أقامها ثم لم ينته عن المعاصي لم تكن صلاته بالصفة التي وصفها الله تعالى، وإذا لم تكن بتلك الصفة لم تكن صلاة، فإن تاب هذا المقيمُ الصلاةَ يومًا وترك معاصيه، تبين أن ذلك من نهي الصلاة، وأن صلاته كانت نافعة له ناهية، وإن لم ينته إلا بعد زمان؛ كما روي أن رجلاً
- قال ابن كثير ٣/ ٤١٥: والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود، وابن عباس والحسن، وقتادة، والأعمش، وغيرهم، والله أعلم. وذهب إلى هذا الألباني؛ فقد قال بعد أن ساق روايات الحديث وطرقه: وجملة القول أن الحديث لا يصح إسناده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما صح من قول ابن مسعود، والحسن البصري، وروي عن ابن عباس، ولهذا لم يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: الإيمان، إلا موقوفاً على ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما. وقد نقد متن الحديث شيخ الإسلام رحمه الله لمخالفته لظاهر الآية؛ قال: هذا الحديث ليس بثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله في كتابه، وبكل حال فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدًا، بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي وأقرب إلى الله منه وإن كان فاسقًا. ذكر هذا عن الشيخ الألباني، ونسبه لمخطوطة اطلع عليها في المكتبة الظاهرية، تحت عنوان: فقه حنبلي ٣/ ١٢/ ١ - ٣. وقد تكلم عن نقد متن هذا الحديث باستفاضة الألباني، "سلسلة الأحاديث الضعيفة" ١/ ١٥، رقم الحديث (٢).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٦٦. وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٠ أ، عن ابن عباس، وابن مسعود.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٦٩. وأخرجه عنهما ابن جرير ٢٠/ ١٥٥، بنحوه.
532
من الأنصار على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الخمس، ثم لا يدع شيئًا من الفواحش إلا رَكِبَه فوُصِف لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حالُه؛ فقال: "إن صلاته تنهاه يومًا ما" فلم يلبث أن تاب وحسن حاله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألم أقل لكم: إن صلاته تنهاه" (١).
وروى السدي عن أصحابه في قوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ قال: الرجل يصلي الصلاة فيحسنها ثم يهم أن يعمل الخطيئة فيذكر صلاته، فيقول: لا أفسد صلاتي.
وفي الآية قول ثانٍ؛ قال مقاتل: إن الإنسان ما دام يصلي لله فقد انتهى عن الفحشاء والمنكر، لا يعمل بهما ما دام يصلي حتى ينصرف (٢). وهو قول الكلبي وابن عون (٣)؛ قالا: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ما كان فيها (٤)؛ لأنه إن فعل شيئًا من هذين بطلت صلاته. واختار ابن قتيبة
(١) ذكره الثعلبي ٨/ ١٦٠ أ، بنصه، عن أنس بن مالك، يرفعه. قال عنه الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف ٣/ ٤٦: غريب. وأما ابن حجر فقال: لم أجده. "الكافي الشاف" ٣/ ٤٤٣، بحاشية الكشاف. لكن يشهد لمعنى هذا الحديث حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قيل له: إن فلانًا يصلي الليل كله فإذا أصبح سرق! قال: "سينهاه ما تقول، أو قال: ستمنعه صلاته". أخرجه الإمام أحمد ١٥/ ٤٨٣، رقم (٩٧٧٨)، ط: الرسالة، وقال محققو المسند: إسناده صحيح. وأخرجه أيضًا ابن الجعد في "مسنده" (٣٠٦)، رقم (٢٠٦٩)، بلفظ: ستنهاه قراءته. وأخرجه ابن حبان، "الإحسان" ٦/ ٣٠٠، رقم الحديث (٢٥٦٠). وصحح إسناده الألباني، "سلسله الأحاديث الضعيفة" ١/ ١٦، عند كلامه على الحديث رقم (٢).
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٣ ب.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٣ ب.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٧، عن الكلبي. و"تنوير المقباس" ٣٣٦. وأخرجه ابن =
533
هذا القول؛ وقال: المصلي لا يكون في منكر ولا فاحشة ما دام فيها (١).
قال الكلبي: ﴿الْفَحْشَاءِ﴾ المعصية (٢). وهو: ما قبح من العمل ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ ما لا يعرف في شريعة ولا سنة (٣). والقول هو الأول (٤).
وقوله: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ اختلفوا فيه على وجهين؛ روى عبد الله ابن ربيعة عن ابن عباس قال: ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه (٥).
وروى عطية عنه قال: هو قوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢] قال: فذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه (٦). وهو: قول عبد الله، وسلمان، ومجاهد، ومقاتل؛ قال: يقول: إذا صليت لله فقد ذكرته، فيذكرك الله
= جرير ٢٠/ ١٥٥، عن ابن عون، وكذا ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٦٦، وقد كتب اسمه تصحيفًا: أبو غوث!. وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٠ أ، عن ابن عون.
(١) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٨.
(٢) "تنوير المقباس" ٣٣٦. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٦٧، عن ابن عباس، وعكرمة والحسن.
(٣) "تنوير المقباس" ٣٣٦. الفحشاء من المنكر، فتكون الآية من باب عطف العام على الخاص، كقوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ١٣٦].
(٤) أي: أن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ولو بعد حين.
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٨، وابن جرير ٢٠/ ١٥٦، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٦٧، كلهم من طريق عبد الله بن ربيعة. وأخرجه كذلك الحاكم ٢/ ٤٤٤، كتاب التفسير، رقم (٣٥٣٨)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح.
- عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي، أخرج له الترمذي، ولم أجد له ترجمة قال عنه ابن حجر: مجهول. "تهذيب الكمال" ١٤/ ٤٨٩، و"تقريب التهذيب" ٥٠٥.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥٦. وأخرجه الثعلبي ٨/ ١٦٠ أ، مرفوعًا من طريق نافع، عن ابن عمر.
534
بخير، وذكرُ الله إياك أفضل من ذكرك إياه في الصلاة (١).
ونحو هذا قال السدي وسعيد بن جبير (٢). وعلى هذا الوجه معنى قوله: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ بعد قوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ هو: أن الله لما أمر بإقام الصلاة، والصلاة لا تخلو من ذكر الله فكأنه أمر بذكره، فلما أمر بذكره أخبر أن ذكر الله العبد ما كان في صلاته أكبر من ذكر العبد؛ لأن العبد إذا ذكر الله، ذكره الله بالثواب؛ كقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ وهذا معنى قول الفراء والزجاج وابن قتيبة، في هذا الوجه الأول (٣).
الوجه الثاثي في تفسير الآية: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ مما سواه، وهو أفضل من كل شيء. وهذا قول أبي الدرداء وقتادة (٤).
وروي معنى هذا الوجه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما روى ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ قال: "ذكر الله على كل حال أحسن وأفضل" (٥).
(١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥٧، عن عبد الله بن مسعود، وسلمان، ومجاهد. "تفسير مقاتل" ٧٤ أ. وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٠ أ، عن عبد الله وسلمان، ومجاهد، وعطية، وعكرمة، وسعيد بن جبير.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ١٥٦، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأخرجه ٢٠/ ١٥٨، عن السدي. وأخرجه الثعلبي ٨/ ١٦١ ب، عن السدي.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٧. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٨. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٠.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٧، عن قتادة، وأخرجه عنهما ابن جرير ٢٠/ ١٥٧، وذكره عنهما الثعلبي ٨/ ١٦٠ أ.
(٥) أخرجه الثعلبي ٨/ ١٦٠ ب، من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن مسعود، =
535
والذكر: أن يذكره عندما حَرَّم، ويذكره عندما أحلَّ، فيأخذ ما أحل (١). والمعنى على هذا الوجه أن الله تعالى أخبر أن ذكره على كل الأحوال أكبر وأفضل؛ وذلك أن العبد إذا كان ذاكرًا الله في كل حال، لم يجر عليه القلم بمعصية؛ لأنه إذا ذكر ارتدع عما يهم به من السوء. فأما من يذكره بلسانه وهو مع ذلك يرتكب محظورًا، وما لا يحل، فليس هو ذاكرًا الله على الحقيقة. وعلى هذا لا تعلق لقوله: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ﴾ بما قبله.
وقال الفراء وابن قتيبة في هذا الوجه: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ﴾ هو: التسبيح والتهليل، يقول: هو أكبر وأحرى وأحق بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر (٢). فعلى الوجه الأول: المصدر الذي هو الذكر مضاف إلى الفاعل، وفي الوجه الثاني: مضاف إلى المفعول، وإن قال قائل في معنى الآية على الوجه الثاني: إن الله تعالى أمر نبيه -عليه السلام- بتلاوة القرآن وإقام الصلاة، ثم قال: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ يعني: تلاوة القرآن، أخبر أنه أكبر وأفضل من كل شيء، فالمراد بذكر الله في الآية: تلاوة القرآن (٣). ويجوز أن يكون المعنى: وذكر الله الذي هو تلاوة القرآن، أكبر من الصلاة، فهو أحرى أن
= يرفعه. وهذا إسناد لا يصح؛ فيه ضعف وانقطاع، فجويبر ضعيف جدًا، "تقريب التهذيب" ٢٠٥، رقم (٩٩٤). والضحاك لم يلق ابن مسعود. "تهذيب التهذيب" ٤/ ٣٩٧.
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٠ ب.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٧. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٨.
(٣) ذكر هذا القول ابن جرير ٢٠/ ١٥٤، فقال: قال بعضهم: عني بها القرآن الذي يقرأ في موضع الصلاة، أو في الصلاة. ثم أخرج بسنده عن ابن عمر، قال: القرآن الذي يقرأ في المساجد. ولم يحكه عن غيره. وذكره عن ابن عمر، الثعلبي ٨/ ١٦٠ أ، ولفظه: القرآن ينهى عن الفحشاء والمنكر.
536
ينهى عن الفحشاء والمنكر.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد لا يخفى عليه شيء.
٤٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حُجَجه (١) ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ إلا من أبى أن يقرَّ بالجزية، ونَصَب العرب، فأولئك فجادلوهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ الآية، وهذا معنى قول (٢) وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد؛ قالوا في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ أهل العرب، ومن لا عهد له فجادلوا هؤلاء بالسيف (٣).
قال ابن زيد: ظلموا بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم (٤).
وقال آخرون: كان هذا قبل أن أُمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقتال، قيل له: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا﴾ من أتاكم من أهل الكتاب ﴿إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ يعني: تعظونهم بالقرآن، وتدعوهم إلى الإسلام ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ وهم الذين قالوا: مع الله إله، أو له ولد، أو شريك، أو يد الله مغلولة، وأن الله فقير، أو آذوا محمدًا فهؤلاء انتصروا منهم (٥).
(١) تفسير ابن جرير ٢١/ ١، بنصه. و "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦١ أ.
(٢) هنا بياض. ولعله: مجاهد؛ لإخراج ابن جرير ذلك عند والله أعلم.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦١ أ.
(٤) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٢. عن ابن زيد، ومجاهد، وسعيد بن جبير. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦١ أ، عن ابن زيد.
(٥) أخرج ابن جرير ٢١/ ٢، عن قتادة بنحوه، وآخره من قوله: قالوا: مع الله إله أخرجه ابن جرير ٢١/ ١، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٧٠، عن مجاهد.
537
قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا آمَنَّا﴾ يعني: لأهل الكتاب سوى هؤلاء الظلمة. ثم نُسخ هذا بالقتال. وهذا معنى قول الكلبي وقتادة ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح (١).
وقال آخرون: المراد بأهل الكتاب هاهنا: عبد الله بن سلام، ومن آمن منهم يقول: لا تجادلوهم وأخبروهم عما في القرآن ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ يعني: مشركيهم يقول: جادلوا الذين كفروا حتى تردوهم عن كفرهم. وهذا معنى قول مقاتل وابن عباس في رواية عطاء (٢).
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٦٨، والنحاس، في "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٥٧٧، عن قتادة. ورواية ابن أبي نجيح عن مجاهد أخرجها ابن جرير ٢١/ ١، وليس فيها ذكر النسخ، بل يدل كلامه على أنها محكمة يراد بها ذوو العهد لا يجادلوا، وإنما يجادل من لا عهد له ويقاتل حتى يعطي الجزية. "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه"، لمكي بن أبي طالب (٣٨٧). لكن ذَكَر النسخ عن مجاهد الثعلبي ٨/ ١٦١ ب، وممن ذهب إلى أن الآية منسوخة بآية السيف مقاتل، "تفسير مقاتل" ٧٤ أ. وهذا يقال فيه مثل ما قيل فيما سبق عند قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (٦٣)﴾ [الفرقان: ٦٣]. وقد رجح ابن جرير ٢١/ ٢، أن أولى الأقوال: إلا الذين امتنعوا من أداء الجزية، ونصبوا دونها الحرب. ورد ردًا حسنًا على من ذهب إلى أن الآية منسوخة.
وحاصل الأقوال في هذه الآية ثلاثة:
١ - الآية منسوخة.
٢ - الآية محكمة يراد بها من آمن منهم.
٣ - الآية محكمة يراد بها ذوو العهد منهم.
قال النحاس بعد ذكره هذه الأقوال: وقول مجاهد حسن؛ لأن أحكام الله -عز وجل- لا ينغي أن يقال فيها: إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٥٧٧.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٤ أ. وذكره النحاس عن ابن زيد، ولفظه: لا يجادل المؤمنون منهم إذا أسلموا، لعلهم يحدثون بالشيء، فيكون كما قالوا ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ من أقام على الكفر يجادل، ويقال له الشر. "الناسخ والمنسوخ" ٢/ ٥٧٧. وعلى هذا تكون الآية محكمة.
538
٤٧ - وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ أي: وكما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا عليك الكتاب ﴿فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ يعني مؤمني أهل الكتاب (١)
﴿وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ يعني مسلمي أهل مكة (٢). وقال ابن جرير: ﴿فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ يعني: كانوا قبل عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- من اليهود والنصارى كانوا مؤمنين بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ﴿وَمِنْ هَؤُلَاءِ﴾ يعني: الذين محمد بين أظهرهم، من أهل الكتاب ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ وهم مؤمنو أهل الكتاب (٣). وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (٤).
ثم قال: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾ أي: بعد المعرفة (٥) ﴿إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ من اليهود، وذلك أنهم عرفوا أن محمدًا نبي، والقرآنَ حق (٦)، فجحدوا وأنكروا ولم يقروا، وكفروا بذلك الجحود.
٤٨ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ﴾ أي: ما كنت تقرأ قبل القرآن كتابًا، أي: ما كنت قارئًا قبل الوحي ولا كاتبًا، وهو قوله: ﴿وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ أي: ولا تخط الآن بيمينك كتابًا. وكذلك صفة النبي -عليه السلام- في التوراة والإنجيل: أنه أُمِّي لا يقرأ ولا يكتب (٧).
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦١ ب، وزاد: عبد الله بن سلام، وأصحابه.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٧. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦١ ب.
(٣) تفسير ابن جرير ٢١/ ٤، بمعناه.
(٤) وهو قول مقاتل، "تفسير مقاتل" ٧٤ أ.
(٥) أخرج ابن جرير ٢١/ ٤، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٧٠، عن قتادة. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٦١ ب.
(٦) "تفسير مقاتل" ٧٤ أ.
(٧) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧١، بمعناه.
539
قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخط بيمينه، ولا يقرأ كتابًا، فنزلت هذه الآية (١).
وقوله: ﴿إِذًا﴾ قال الفراء: ولو كنت تتلو ﴿لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (٢) قال ابن عباس: لشك الكافرون (٣). قال مجاهد يعني: قريشًا (٤). وهو قول قتادة (٥). ومعنى الآية: لو كنت تكتب وتقرأ الكتب قبل الوحي إذًا لشكوا؛ وقالوا هذا شيء تعلَّمه محمد وكتبه (٦).
وقال مقاتل: يعني: كفار اليهود يقول: إذًا لشكوا فيكَ، وقالوا: إن الذي نجدُ في التوراة نعتَه هو: أمي لا يقرأ الكتاب، ولا يكتب، ولا يخطه بيمينه (٧).
وهذا هو القول؛ لأن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي -صلى الله عليه وسلم- بنعته وصفته حقًا يقينًا، وإنما يجحدون نبوتَه بعد اليقين، ويكفرون بالجحد، فلو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كاتبًا قارئًا لكان بغير النعت الذي يعرفوه، وكانوا يشكون. وأما الكفار فإنهم ما عرفوه بالنبوة، وكانوا شاكين مع كونه أميًّا، وإذا كان كذلك
(١) أخرج ابن جرير ٢١/ ٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٧١. كلاهما بالإثبات: كان أهل الكتاب يجدون، وفي النسختين بالنفي: كان أهل الكتاب لا يجدون. والأقرب الإثبات؛ لما فيه من إقامة الحجة عليهم بما في كتبهم. والله أعلم.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٧.
(٣) "تنوير المقباس" ٣٣٦.
(٤) أخرج ابن جرير ٢١/ ٥، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٧١. واقتصر على هذا القول الزجاج ٤/ ١٧١، ولم ينسبه.
(٥) ذكره عنه الماوردي، بلفظ: مشركو العرب. "النكت والعيون" ٤/ ٢٨٧.
(٦) "غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٨. و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦١ ب.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٤ أ.
540
فلا معنى لقوله: ﴿إِذًا لَارْتَابَ﴾ مع كونهم مرتابين؛ ووجهه ما قال الفراء: أي: لَكان أشدَّ لِريبة من كذَّب مِن أهل الكتاب (١). فحُمل قوله: ﴿لَارْتَابَ﴾ على زيادة الريبة، على قول مجاهد. والمعنى: أن المشركين كانوا شاكين في نبوته، مع أنه يخبرهم بقصص الماضين، من غير أن يقدر على كتابة وقراءة، فلو كان قارئًا كاتبًا لاشتد ارتيابهم، وقالوا: إنما تعلمه وقرأه من كتاب.
وتفسير الآية: أي: الذي يأتي بالباطل، يقال: أبطل فلان: إذا كذب وادعى غير الحق (٢). وكلُّ من ادعى دينًا غيرَ الإسلام فهو مبطل.
٤٩ - قوله تعالى ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ قال الحسن: القرآن آيات بينات. ﴿فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ يعني: المؤمنين (٣).
وهو قول عبد الله بن عباس في رواية عطاء؛ يريد: الذين حملوا القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار، وحملوه من بعد النبي -عليه السلام-. وعلى هذا الكناية عن القرآن والكتاب بقوله: ﴿هُوَ﴾.
وقال قتادة ﴿بَلْ هُوَ﴾ يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- و ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ﴾ أهل العلم من أهل الكتاب؛ لأنهم يجدون في كتابهم نعته وصفته (٤). وعلى هذا التقدير: بل هو ذو آيات بينات، فحذف المضاف، وذلك أن كونه بالنعت
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٧.
(٢) كتاب "العين" ٧/ ٤٣٠ (بطل)، ونقله الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٥٥.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٩، وابن جرير ٢١/ ٦. وهو قول الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٣١٧. وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٢ أ، ولم ينسبه.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٩، وابن جرير ٢١/ ٥. وأخرجه ابن جرير ٢١/ ٥، عن ابن جريج. وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٢ أ، عن ابن عباس.
الذي ذُكر في كتابهم آيات واضحات له في صدور أهل الكتاب، والعلم به، وهم مؤمنو أهل الكتاب، بل هو وأموره آيات.
وفي الآية قول ثالث، ذكره الزجاج؛ فقال: بل كونُه غيرَ قارئٍ ولا كاتب ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ لأنه إذا لم يقرأ ولم يكتب، وأخبر بأقاصيص الأولين والأنبياء فهو ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ (١). وهو معنى قول الكلبي (٢).
والظاهر من هذه الأقوال قول قتادة ومقاتل (٣) لقوله: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ يعني: كفار اليهود (٤)، لأنهم جحدوا نبوته وكتموا أمره بعد المعرفة.
٥٠ - قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم (٥). وقرئ: ﴿آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ على الجمع (٦). وحجة الإفراد قوله: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: ٥] وقوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧١، ولم ينسبه.
(٢) "تنوير المقباس" ٣٣٦.
(٣) لم يسبق ذكر قول مقاتل، وهو قريب من قول قتادة، "تفسير مقاتل" ٧٤ ب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٤ ب.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٤ ب. و "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٢ أ.
(٦) قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: ﴿آيَاتٍ﴾ جمعًا، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر، وأبي عمرو في رواية علي بن نصر: ﴿آيَةٌ﴾ على الإفراد. "السبعة في القراءات" ٥٠١، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٥، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٨٨، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٣.
[الأنعام: ٣٧] وقد تقع آية على لفظ الواحد ويراد به كثرة؛ كما جاء: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠] واختار أبو عبيد الجمع؛ لقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ (١) قال أبو علي: وهذا لا يكون دلالة على ترجيح القراءة بالجمع؛ لأنهم إنما اقترحوا آية فقيل: الآيات عند الله، أي: الآية التي اقترحتموها وآيات أُخر لم تقترحوها عند الله، وهو القادر على إرسالها، إذا شاء أرسلها، مع ما ذكرنا أن لفظ الواحد قد يراد به كثرة (٢).
﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ يريد: أُنذر أهلَ المعصية بالنار، وليست إنزال الآية بيدي. قال مقاتل: فلما سألوا الآية قال الله تعالى:
٥١ - ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ أي: أو لم يكفهم من الآيات القرآن ﴿يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ فيه خبر ما قبلهم وما بعدهم ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي: في إنزال الكتاب عليك ﴿لَرَحْمَةً﴾ لمن آمن به وعمل به (٣) ﴿وَذِكْرَى﴾ وتذكيرًا وموعظةً، ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ قال مقاتل: وكذبوا بالقرآن فنزل:
٥٢ - ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا﴾ (٤) أي: الله شاهدًا بيننا أني رسوله (٥)، وكفى هو شاهدًا ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وشهادة الله له إثباتُ المعجزة له بإنزال الكتاب عليه. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ﴾ قال
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٥، ولم يصرح باسم أبي عبيد، بل قال: وحجة الإفراد أن في حرف أُبي زعموا، وصرح بذكر أبي عبيد الثعلبي ٨/ ١٦٢ أ.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٥.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٤ ب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٤ ب.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٢ أ.
ابن عباس: بغير الله. وقال مقاتل: بعبادة الشيطان (١).
٥٣ - قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ أي: استهزاءً وتكذيبًا (٢) منهم (٣) بذلك يستعجلونك به. نزلت في الذين قالوا: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ﴾ الآية [الأنفال: ٣٢] (٤). وقد مر (٥).
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَجَلٌ﴾ يعني: إن لعذابهم أجلاً، وهو يوم القيامة (٦). قال الله تعالى: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر: ٤٦] هذا قول ابن عباس ومقاتل (٧). وقال الضحاك: الأجلُ المسمى لعذابهم: مدةُ أعمارهم، فإذا ماتوا صاروا في العذاب (٨).
وقيل: الأجل المسمى: بدر (٩)؛ وهو قوله: ﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾ يعني:
(١) "تفسير مقاتل" ٧٤ ب. وأخرجه ابن جرير ٢١/ ٧، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٧٣، عن قتادة بلفظ: الشرك.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٤ ب.
(٣) منهم. في نسخة: (ب).
(٤) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٨، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٧٤، عن قتادة و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧١، ولم ينسبه. وقال الثعلبي ٨/ ١٦٢ أ: نزلت في النضر بن الحارث حين قال: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾.
(٥) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال المفسرون: قال النضر بن الحارث: اللَّهم إن كان هذا الذي يقوله محمد حقًا من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء كما أمطرتها على قوم لوط ﴿أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي: ببعض ما عذبت به الأمم.
(٦) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٧٤، عن سعيد بن جبير. و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٨.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٤ ب. وليس فيه ذكر الآية. وذكر الآية الزجاج ٤/ ١٧٢، ولم ينسب القول.
(٨) ذكره الثعلبي ٨/ ١٦٢ أ.
(٩) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٢ أ، ولم ينسبه.
العذاب ببدر على هذا القول، وهو قول عطاء عن ابن عباس. ودليل القول الأول قوله:
٥٤ - ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ أخبر أن ميعاد عذابهم جهنم، وأنها تحيط بجماعتهم، فلا تبقي منهم أحدًا إلا دخلها (١).
ثم أخبر أن تلك الإحاطة متى تكون، فقال:
٥٥ - ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ قال ابن عباس: هذا مثل قوله: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: ٤١] وقوله: ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ﴾ الآية [الزمر: ١٦] (٢).
وقوله: ﴿وَيَقُولُ﴾ الموكل بعذابهم، يقول لهم (٣): ﴿ذُوقُوا﴾ ومن قرأ بالنون (٤) فلأن ذلك لما كان بأمره سبحانه جاز أن يُنسب إليه. وجوازه على هذا المعنى؛ لأن القديم سبحانه لا يكلمهما (٥).
(١) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٢ أ. وتفسير ابن جرير ٢١/ ٨، بمعناه.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٤ ب، حيث ذكر الآية الثانية.
(٣) يقول لهم مكررة في نسخة: (ب). وفي "تفسير مقاتل" ٧٤ ب: يقول الخزنة لهم.
(٤) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: ﴿وَنَقُولُ﴾ بالنون، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: ﴿وَيَقُولُ﴾ بالياء. "السبعة في القراءات" ٥٠١، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٦، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٣.
(٥) في إطلاق لفظ القديم على الله -عز وجل- خلاف؛ لكون لفظ القديم لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ولم يتكلم به السلف من الصحابة والتابعين، وإنما سمى الله نفسه بالأول والآخر، وهو أبلغ لدلالته على القدم، وأنه لم يسبقه شيء، بل ولم يماثله شيء، وعلى ذلك فلا يصح إطلاق القديم على الله تعالى باعتبار أنه من أسمائه، وإن كان يصح الإخبار عنه بذلك؛ لأن باب الإخبار أوسع من باب الإنشاء. "مجموع الفتاوى" ١/ ٢٤٥، و"حاشية لوامع الأنوار البهية" ١/ ٣٨، من كلام =
545
وقيل: ﴿ذُوقُوا﴾ لوصول الألم إلى المعذب، كوصول الذوق إلى الذائق. ومعنى: ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: جزاء، كما قال:
دونك ما جنيتَه فاحسُ وذُق (١)
= الشيخ عبد الله بابطين.
تنبيه: تكليم الله تعالى لعباده في الآخرة ثابت بنصوص كثيرة في الكتاب والسنة، يكلمهم الله تعالى للحساب والجزاء، ويستوي في هذا الخلق كلهم إلا أقوامًا شاء الله تعالى أن يحرمهم ذلك، تنكيلًا وزيادة في العذاب؛ فمن الأدلة على عموم التكليم وشموله قول الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٦٥] وقوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٧] ومن السنة، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان" الحديث أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، رقم (٧٤٤٣)، "فتح الباري" ١٣/ ٤٢٣، ومسلم ٢/ ٧٠٣، رقم (١٠١٦).
ومن الأدلة على حرمان أقوام من تكليم الله لهم، قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٤] ومن السنة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب اليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر". أخرجه مسلم ١/ ١٠٢، كتاب: الإيمان، رقم (١٠٧)، والنسائي ٥/ ٨٦، كتاب الزكاة، رقم (٢٥٦٢). وتكليم الله تعالى لأهل النار في هذه الآية ﴿وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ توبيخ وتقريع لأهل النار؛ كقوله تعالى: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ الآيات [المؤمنون: ١٠٨ - ١١١]. والله أعلم. ملخص من: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية ١٣/ ١٣١، وما بعدها. "ودرء تعارض العقل والنقل" ٢/ ١٤١، وما بعدها. و"العقيدة السلفية في كلام رب البرية" تأليف: يوسف الجديع. ص: ٩٠، وما بعدها.
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٦، بنصه. ولم ينسب البيت، وفي الحاشية: لم نعثر عليه.
546
قال ابن عباس ومقاتل: ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من الكفر والتكذيب والافتراء على الله (١).
٥٦ - قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ وذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين بالهجرة فاشتد ذلك عليهم، وقالوا: كيف نخرج من ديارنا وأموالنا، ونذهب إلى بلاد لا دار لنا فيها، ولا مال؟ فأنزل الله فيهم: ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ في معاشكم (٢).
وقال الكلبي: نزلت في أهل مكة؛ أي: لا تجاوروا الظلمة في أرضهم (٣). وقال مقاتل: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة؛ يقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان بها، فإن أرض المدينة واسعة من الضيق ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ يعني: توحدوني في المدينة علانية (٤).
وقال أبو إسحاق: تفسيرها أنهم أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا تمكنهم فيه عبادة الله وأداء فرائضه، وكذلك يجب على من كان في بلدٍ يُعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر وينتقل إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته (٥). وهذا معنى قول مجاهد: ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ فهاجروا وجاهدوا (٦).
(١) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٨، لكنه قال: فأنزل الله ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ﴾. وكذا عند الثعلبي ٨/ ١٦٢ ب.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٢ ب، بمعناه.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ. وهو قول الفراء، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٨.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٢.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٩.
وقال سعيد بن جبير: من أُمر بمعصية فليهربْ، وتلا هذه الآية (١). وروى إسماعيل بن أبي خالد عنه في هذه الآية قال: إذا عُمل في أرضٍ بالمعاصي، فأخرجوا منها (٢).
وقوله: ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ قال الزجاج: (إياي) منصوب بفعل مضمر، الذي ظهر يُفسره؛ المعنى: فاعبدوا إياي فاعبدون، فاستغنى بأحد الفعلين عن الثاني، ولو قلت: إياي فاعبدوا، كان إياي منصوبًا بما بعد الفاء، ولا يحتاج إلى إضمار فعل، ودخول الفاء لمعنى الشرط، بتقدير: إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوا، فإن أرضي واسعة (٣).
قال مقاتل: ثم خوفهم بالموت ليهاجروا، فقال:
٥٧ - ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (٤) والمعنى لابد من الموت، وكل أحد ميت أينما كان، فلا تقيموا بدار الشرك خوفًا من الموت (٥).
(١) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٩، وابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٧٥، وفيه: ثم قرأ: ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: ٩٧]. وذكره الثعلبي ٨/ ١٦٢ ب.
(٢) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٩، من طريق إسماعيل بن أبي خالد. وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٩، عن مالك بن مغول، عن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير، بلفظ: هو الرجل يكون بين ظهراني قوم يعملون بالمعاصي.
- إسماعيل بن أبي خالد، الأحمسي مولاهم، البَجَلي، اسم أبيه: هرمز، وقيل: سعد، وقيل: كثير. محدث الكوفة في زمانه مع الأعمش. روى عن عبد الله بن أوفى، وأبي جحيفة، وغيرهم، وروى عنه شعبة، وسفيان، وشريك، وغيرهم. ثقة ثبت، "سير أعلام النبلاء" ٦/ ١٧٦، و"تقريب التهذيب" ١٣٨.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٢، بتصرف.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٢ ب.
﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ بعد الموت فنجزيكم بأعمالكم (١). وهذا حث على الطاعة فيما أَمر به من الهجرة. ثم ذكر ثواب من هاجر فقال:
٥٨ - ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا﴾ قال ابن عباس: لنسكننهم غرف الدر والياقوت والزبرجد (٢).
قال مقاتل: يعني لننزلنهم (٣). وهذا يدل على صحة قراءة العامة: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ يقال: بوأت فلانًا منزلًا تبويئًا وتبوئة (٤)، وذكرنا ذلك قديمًا (٥).
وقرأ حمزة والكسائي: (لَنُثْوِيَنَّهُم) وهي قراءة عبد الله والأعمش (٦)، يقال: ثوى بالمكان إذا أقام به (٧)، ومنه قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ [القصص: ٤٥] أي: مقيمًا نازلًا فيهم، والثويَّ: الضيف لإقامته
(١) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ.
(٢) ذكره عنه الطبرسي "مجمع البيان" ٧/ ٤٥٥.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١٧. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٨.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٥٩٥ (باء).
(٥) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾ [يونس: ٨٧]: قال أبو علي: التبؤ: فعل يتعدى إلى مفعولين فعلى ما ذكر أبو علي يجوز أن تقول: تبوأت زيدًا مكانًا، أي: اتخذت له، ولم أو هذا لغيره؛ لأنه يقال: تبوأ المكان دارًا، فيعدونه إلى مفعولين كما ذكر، ويقال: تبوأ لزيد منزلًا، أي: اتخذه له، فلا يعدون لزيد إلا باللام.
(٦) قرأ حمزة والكسائي: [لَنُثْوِيَنَّهُم] بالثاء، وقرأ الباقون: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ بالباء. "السبعة في القراءات" ٥٠٢، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٨، وفيه ذكر قراءة الأعمش نقلها عن أبي الحسن. و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٤. وأخرج قراءة ابن مسعود: الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٣١٨.
(٧) قال ابن قتيبة: هو من: ثويت بالمكان، أي: أقمت به. "غريب القرآن" ٣٣٨.
549
عند المضيف (١).
قال الزجاج: يقال: ثوى الرجل إذا أقام، وأثويته إذا أنزلته منزلًا يقيم فيه (٢). وقال حسان:
ثوى في قريش بضع عشرة حِجةً (٣)
أي: أقام ونزل فيهم. وإذا تعدى: ثوى، فزيدت عليه الهمزة، وجب أن يتعدى إلى المفعول الثاني (٤).
قال الأخفش: قرأ الأعمش: ﴿لَنُثْوِيَنَّهُم مِنَ الجنَّةِ غُرَفًا﴾ قال: ولا يعجبني ذلك؛ لأنك لا تقول: أثويته الدار (٥).
قال أبو علي: ووجه هذه القراءة كان في الأصل: لنثوينهم من الجنة في غرف، وحذف الجار، كما حذف من نحو قوله:
أمرتك الخيرَ (٦)....
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٨.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٣.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٩، ونسبه لحسان. وهو في "ديوانه" ٢٦١، أخرج الحاكم عن يحيى بن سعيد قال: سمعت عجوزًا من الأنصار تقول: رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس يتعلم منه هذه الأبيات:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة يُذكِّر لو ألفي صديقًا مواتيًا
وساق بعده ستة أبيات، ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٣٩.
(٥) لم أجده عند الأخفش في "المعاني"، لكن ذكر أبو علي أن أبا الحسن قال: قرأ الأعمش. "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٠.
(٦) جزء من بيت لعمرو بن معد يكرب، والبيت بتمامه:
550
ويقوي ذلك أن الغرف وإن كانت مختصة، فقد أجريت المختصة من هذه الظروف مجرى غير المختص، نحو قوله:
كما عسل الطريقَ الثعلبُ (١)
ونحو: ذهبتُ الشامَ، عند سيبويه. ويدل على صحة قول سيبويه ما روي في الحديث: "إنما أنا لكم كالوالد، فإذا ذهب أحدكم الغائط" من غير حرف جر، وروي: "إلى الغائط" (٢). ويدل على صحة القراءة الأولى،
= وقد أورده أبو علي في "الحجة" ٥/ ٤٤٠، مقتصرًا على: أمرتك الخير، ولم ينسبه. وقد استشهد به سيبويه على حذف حرف الجر، ونصب الخير. "الكتاب" ١/ ٣٧، ونسبه لعمرو بن معد يكرِب الزُّبيديّ. واستشهد به كذلك المبرد، في "المقتضب" ٢/ ٣٦، والبغدادي، "خزانة الأدب" ١/ ٣٣٩، ولم ينسباه.
(١) أنشده كاملًا سيبويه، "الكتاب" ١/ ٣٦، ونسبه لساعدة بن جُؤَيَّة، والبيت تمامه:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نَشَب
لدنٌ بِهزِالكفِ يعسلُ متنُه فيه كما عسلَ الطريقَ الثعلبُ
وأنشده كاملًا المبرد، "الكامل" ١/ ٤٧٤، ولم ينسبه. وأنشد عجزه أبو علي، في "الحجة" ٥/ ٤٤٠، ولم ينسبه، وعنه أخذ الواحدي، وأنشده ابن جني، "الخصائص" ٣/ ٣١٩، ولم ينسبه. وفي الحاشية: هذا البيت في وصف الرمح، واللدن: اللين الناعم، وقوله: يعسل متنه: يشتد اهتزازه، ويقال: عسل الثعلب والذئب في سيره: اشتد اضطرابه.
(٢) أخرج هذا الحديث بحرف الجر: (إلى الغائط) الإمام أحمد ١٢/ ٣٧٢، ط/ الرسالة، وابن ماجه ١/ ١١٤، كتاب: الطهارة، رقم الحديث (٣١٣)، وابن حبان في "صحيحه"، كتاب: الطهارة، رقم (١٤٣١)، "الإحسان" ٤/ ٢٧٩، والبيهقي، "السنن الكبرى" ١/ ١٠٢، كتاب: الطهارة. كلهم من طريق: يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. والحديث في "صحيح سنن ابن ماجه" ١/ ٥٧، رقم (٢٥٢). وقال محققو المسند: إسناده قوي. ولم أجده بهذا اللفظ بدون حرف الجر، إلا عند النسائي في "السنن الكبرى" من طريق عبد العزير بن أبي حازم عن أبيه عن مسلم بن قُرط عن =
551
قوله: ﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ [الزمر: ٧٤] (١).
وقوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ قال ابن عباس: يريد تحت الغرف الأنهار، كما وصف تبارك وتعالى: ﴿مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ الآية [محمد: ١٥] (٢).
﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ مقيمين فيها لا يموتون، ولا يهرمون، ولا يسقمون.
وقوله: ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ قال: يريد المهاجرين والأنصار. قال
= عروة عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ذهب أحدكم الغائطَ فليذهب معه بثلاثة أحجار". "السنن الكبرى" ١/ ٧٢، كتاب: الطهارة، رقم الحديث (٤٢). والحديث في السنن الصغرى بهذا الإسناد بإثبات حرف الجر. "سنن النسائي" ١/ ٤٤، كتاب الطهارة، رقم الحديث (٤٤)، وهو في "صحيح سنن النسائي" ١/ ١١، رقم الحديث (٤٣). وأخرجه الطبراني من طريق سلامة بن روح، عن عُقَيل، عن ابن شهاب الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ذهب منكم الغائطَ فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا". "المعجم الكبير" ٤/ ١٤٣، رقم الحديث: ٣٩٤٢.
وسلامة بن روح مختلف فيه، "الكامل في ضعفاء الرجال" ٣/ ١١٦٢، "تهذيب التهذيب" ٤/ ٢٥٣، "ميزان الاعتدال" ٢/ ١٨٣، قال عنه ابن حجر: صدوق له أوهام. "تقريب التهذيب" ٤٢٦. وعُقيل هو ابن خالد بن عقيل، قال عنه الذهبي: الحافظ الإمام، حدث عن ابن شهاب فأكثر وجوَّد، وحدث عنه ابن أخيه: سلامة بن روح. "سير أعلام النبلاء" ٦/ ٣٠١. قال عنه ابن حجر: ثقة ثبت "تقريب التهذيب" ٦٨٧. وعطاء بن يزيد الليثي: ثقف "تقريب التهذيب" ٦٧٩.
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٠، وليس فيه ذكر الحديث. وقول سيبويه في "الكتاب" ١/ ٣٥.
(٢) لعل الشاهد من إيراد هذه الآية: بيان أن الأنهار التي تجري من تحت الغرف أنهار متنوعة، كما ذكر في آية سورة: محمد ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾. والله أعلم.
552
مقاتل: ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ لله (١). وفي الآية حذف يتم به الكلام، كأنه قيل: نعم أجر العاملين الغرف أو الجنة (٢).
٥٩ - ثم نعت هؤلاء فقال: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ قال ابن عباس: على دينهم، وعلى المخمصة، وعلى الجزع، وترك الأموال والأولاد والدور (٣).
قوله تعالى: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ قال: وباللَّه يثقون في هجرتهم (٤). قال ابن عباس: ذلك أن المهاجرين توكلوا على الله وتركوا دورهم وأموالهم.
قال مقاتل: إن أحدهم كان يقول بمكة: كيف أهاجر إلى المدينة وليس لي بها دار ولا معيشة؟ فوعظهم الله ليعتبروا، فقال:
٦٠ - ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ﴾ وكم من دابة (٥) ﴿فيِ الْأَرْضَ﴾ قال أبو إسحاق: كل حيوان على وجه الأرض بما يعقل ولا يعقل فهو دابة، وإنما هو: مَنْ دبت على الأرض، والمعنى: من نفس دابة (٦).
وقوله: ﴿لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ قال ابن عباس: لا تقدر على رزقها. قال مقاتل: لا ترفع رزقها معها (٧).
(١) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٧٨، عن مقاتل.
(٣) وقال مقاتل ٧٥ أ: على الهجرة. وكل ذلك داخل مراد.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ. و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١٧. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٩. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٣.
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٣. قال أبو عبيدة: ومجاز الدابة: أن كل شيء يحتاج إلى الأكل والشرب فهو دابة من إنس أو غيرهم.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ. وقال ابن قتيبة: لا ترفع شيئًا لغد. "غريب القرآن" ٣٣٩.
وقال سفيان وعلي بن الأقمر: لا تدخر شيئًا لغد (١).
وقال أبو إسحاق: أي لا تدخر رزقها، إنما تصبح فيرزقها الله، وعلى هذا أكثر الحيوان (٢). قال سفيان: وليس شىء مما خلق الله يَخْبَأُ إلا الإنسان والفأرة والنملة (٣).
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ يرزقكم إن هاجرتم إلى المدينة ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لقولكم: إنا لا نجد ما ننفق بالمدينة (٤) ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في قلوبكم (٥).
٦١ - قال ابن عباس: ثم رجع إلى المشركين فقال: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ﴾ إلى قوله: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ يقرون بأن الله خالق هذه الأشياء. قال الله تعالى: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: فكيف يكذبون بتوحيدي (٦). أي: إذا كان الله هو الخالق وحده، وجب أن يكون هو المعبود وحده من غير شريك. والمعنى: فكيف يُصرفون عن التوحيد بعد قيام الدليل.
(١) أخرجه ابن جرير ٢١/ ١١، والثعلبي ٨/ ١٦٢ ب، كلاهما عن علي بن الأقمر، من طريق سفيان.
- علي بن الأقمر بن عمرو الهمْداني، الوادعي، أبو الوازع، كوفي ثقة، حدث عن أسامة بن شريك، وأبي الأحوص، وغيرهم، روى عنه الأعمش، وشعبة، وسفيان الثوري، وغيرهم. "سير أعلام النبلاء" ٥/ ٣١٣. و"تقريب التهذيب" ٦٩٠.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٣.
(٣) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٢ ب. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٣٩، ونسبه لابن عيينة. وعند الفراء: إلا النملة فإنها تدخر رزقها لسنتها. "معاني القرآن" ٢/ ٣١٨، ولم ينسبه.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٢ ب.
(٦) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٧٩، عن ابن عباس. و"تفسير مقاتل" ٧٥ أ.
قال مقاتل: ثم رجع إلى الذين رغبهم في الهجرة؛ الذين قالوا: لا نجد ما ننفق فقال:
٦٢ - ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ (١) قال ابن عباس: يريد البر والفاجر، فكيف لا أبسط عليكم.
وقوله: ﴿وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ قال مقاتل: ويقتر على من يشاء (٢) ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ مما أنتم فيه من الشدة، وما أريد من إدخال الرفق عليكم ﴿عَلِيمٌ﴾.
٦٣ - وقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ يعني: كفار مكة، إلى قوله: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ أي: الله الذي فعل هذه الأشياء (٣).
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ بإقرارهم بذلك. قاله مقاتل وابن عباس (٤).
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ توحيد ربهم مع إقرارهم بأن الله خلق الأشياء كلها وحده (٥)، وأنزل المطر. والمراد بالأكثر: الجميع. وقد مر (٦).
٦٤ - قوله تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ يعني: الحياة في هذه الدار ﴿إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: يريد باطل وغرور وعبث تنقضي عن قريب (٧).
(١) و (٢) و (٣) و (٤) و (٥) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ.
(٦) قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ١٠٠]: إنما دخلت بل هاهنا؛ لأنه لما قال: ﴿نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ دل على أنه كفر ذلك الفريق بالنقض فقال: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ كفار بالنقض، وحسن هذا التفصيل؛ لأن منهم من نقض عنادًا، ومنهم من نقض جهلاً. وقيل: معناه: كفر فريق بالنقض، وكفر أكثرهم بالجحد للحق؛ وهو أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(٧) "تفسير مقاتل" ٧٥ أ، بلفظ: باطلا. فقط.
555
﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ لهي دار الحياة لا موت فيها (١). وقال الكلبي: هي حياة لا يموت فيها أهلها (٢). وقال قتادة والسدي: لهىِ الحياة (٣).
وقال الفراء: لهي الحياة حياة لا موت فيها (٤). وقال الزجاج: معناه: هي دار الحياة الدائمة (٥).
وقال أبو عبيدة وابن قتيبة: ﴿الْحَيَوَانُ﴾ الحياة (٦). فالمفسرون وأصحاب المعاني على أن الحيوان هاهنا بمعنى: الحياة.
قال أبو علي: قال أبو عبيدة: الحياة والحيوان والحي واحد، فهذه على ما حكاه أبو عبيدة مصادر (٧). والحياة كالحَلْية والحَدَمَة؛ وهي شدة التهاب النار (٨).
(١) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب. و"تفسير ابن جرير" ٢١/ ١٢، و"تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٣ أ. وأخرجه ابن جرير ٢١/ ١٢، عن مجاهد، وأخرجه عن ابن عباس، بلفظ: باقية. قال الأزهري: معناه: أن من صار إلى الآخرة لم يمت، ودام حيًا فيها لا يموت، فمن أدخل الجنة حيي فيها حياة طيبة، ومن دخل النار فإنه لا يموت فيها ولا يحيا. "تهذيب اللغة" ٥/ ٢٨٧ (حي).
(٢) "تنوير المقباس" ٣٣٨.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٩٩، عن قتادة.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٨.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٣.
(٦) "مجاز القرآن" ٢/ ١١٧. و"غريب القرآن" ٣٣٩.
(٧) "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ١١٧. بمعناه. وهو في "كتاب الشعر" لأبي علي ١/ ٣٢١، غير منسوب.
(٨) "تهذيب اللغة" ٤/ ٤٣٣ (حدم). يعني أن أصلها: حَيْوَة على وزن: حَلْيَة، أو: حَيَوَة على وزن: حَدَمَة. والله أعلم.
556
والحيوان: كالفوران (١) والغليان. والحِيّ كالعِيِّ (٢)؛ قالوا: حَيِي يحيى حياءً (٣)، كما قالوا: عَييِ يَعْيا عياء (٤)، ومن ذلك قول العجاج:
كنا بها إذِ الحَياة حِيُّ (٥)
فهذا (٦) إذا الحياةُ حياةٌ.
وقال أبو زيد: الحيوان ما فيه روح (٧). والمَوَتَان: ما لا روح فيه (٨). والحيوان في روايتي أبي زيد وأبي عبيدة على ضربين؛ أحدهما: أن يكون مصدرًا كما حكاه أبو عبيدة. والآخر: أن يكون وصفًا كما حكاه أبو زيد. والحيوان على قول أبي زيد مثل الحَيّ الذي يراد به خلاف الميت، وقد
(١) هكذا في النسختين؛ يقال: فارت القدر تفور فَوْرًا، وفَورانًا، إذا غَلت. "تهذيب اللغة" ١٥/ ٢٤٧ (فار).
(٢) العِيَّ: مصدر العَي، يقال: عيى فلان بالأمر إذا عجز عند "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥٨ (عيى).
(٣) "تهذيب اللغة" ٥/ ٢٨٣ (حيى).
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥٧ (عيى).
(٥) هكذا أنشده أبو علي، "كتاب الشعر" ١/ ٣٢١، وصدره بقوله: قال رؤبة أو العجاج. وأنشده أبو عبيدة ٢/ ١١٧، بلفظ:
وقد نَرَى إذ الحياةُ حِيٌ
ونسبه للعجاج. وهو كذلك في "ديوانه" ٢٤٩. وأنشده الأزهري، "تهذيب اللغة" ٥/ ٢٨٥ (حي) غير منسوب، واستشهد به على أن الحِي بكسر الحاء جمع الحياة.
(٦) في كتاب أبي علي: كأنه قال: إذِ الحياة حياةٌ، أي: الحياة غيرُ متكدرة ولا منغَّصة. "كتاب الشعر" ١/ ٣٢١.
(٧) ذكره الأزهري، "تهذيب اللغة" ٥/ ٢٨٧، ولم ينسبه.
(٨) لم أجده في "النوادر"؛ وفي "تهذيب اللغة" ١٤/ ٣٤٣ (موت): الموتان: كل شيء غير ذي روح، وما كان ذا روح فهو الحيوان. ولم ينسبه لأبي زيد.
557
جاء الصفة على هذا المثال نحو قولهم: رجلٌ صَمَيَانٌ للسريع الخفيف (١)، والزَّفَيَان (٢)، قال:
وتحتَ رَحلي زَفَيَانٌ مَيْلَعُ (٣)
فهذا أظهر من أن يقال له وصف بالمصدر، فأما قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ فيحتمل أن يكون المعنى: وإن حياة الدار الآخرة هي الحياة؛ لأنه لا نقص فيها ولا نفاد لها، أي: فتلك الحياة هي الحياة لا التي يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار، فيكون الحيوان مصدر على هذا. ويجوز أن يكون الحيوان الذي هو خلاف المَوَتان، وقيل للدار الآخرة: الحيوان؛ لأنها لا تزول ولا تبيد كما تبيد هذه الدار وتزول، فتكون الدار وصفت بالحياة لهذا المعنى، والمراد أهلها.
ويجوز أن يكون التقدير في قوله: ﴿لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ هي ذات الحيوان، أي: دار الآخرة هي دار الحياة، كأنه لم يعتد بحياة هذه الدار حياة. فأما القول في حروف الحيوان: أن العين واللام مِثْلان في أصل الكلمة، وأبدلت من الثانية الواو لَمَّا لم يسع الإدغام في هذا المثال، ألا ترى أن مثل: شَلَل وطَلَل (٤) يصح ولا يدغم؛ فكذلك الحيوان لَمَّا لم يجز الإدغام
(١) "تهذيب اللغة" ١٢/ ٢٦٠ (صمى).
(٢) لزَّفَيَان: الخفة. "لسان العرب" ١٤/ ٣٥٧ (زفى).
(٣) أنشده الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٣/ ٢٦٥ (زفى) ولم ينسبه. والملْع: سرعة سير الناقة، وناقة مَيْلَع: سريعة. "تهذيب اللغة" ٢/ ٤٢٦ (ملع). وهو في "لسان العرب" ١٤/ ٣٥٧، مع بيتين قبله غير منسوب، وفيه: ناقة زَفيان: سريعة.
(٤) الشلل: ذهاب اليد، يقال: شَلَّت يده تَشلَّ، فهو أشلُّ. "تهذيب اللغة" ١١/ ٢٧٦ (شلل). الطَلَل: ما شخص من الديار، يقال: حيَّا الله طَلَلك وأطلالك: أي: ما =
558
تُوصل فيه إلى إزالة المثلين بالبدل، ووجب ذلك في الثاني منهما، وهو الكثير العام في كلامهم؛ لأن التكرير وقع بها، هذا مذهب الخليل وسيبويه وأصحابهما (١)؛ إلا أبا عثمان فإنه ذهب في أن الحيوان غير مُبْدَل الواو؛ وأن الواو فيه أصل وإن لم يكن منه فِعْل، وشَبَّه هذا بقولهم: فَاظَ الميتُ يَفِيظُ فَيْظًا وفَوْظًا (٢)، ولا يستعملون من فَوْظٍ فِعْلاً، فكذلك الحيوان عنده مصدر لم يُشتقَّ منه فِعل، بمنزلة فَوْظٍ؛ ألا ترى أنهم لا يقولون: فاظ يفوظ كما قالوا: فاظ يفيظ.
قال أبو علي: الذي أجازه أبو عثمان فاسد من قِبَل أنه لا يمتنع أن يكون في الكلام مصدر عينه: واو، وفاؤه: لام صحيحان؛ مثل: فَوْظٍ، وصَوْغٍ (٣)، وقَوْلٍ، ومَوْتٍ، وأشباه ذلك، فأما أن يوجد في الكلام كلمة عينها: ياء، ولامها: واو فلا، فحمله الحيوان على فَوْظٍ خطأٌ؛ لأنه شَبَّه ما لا يوجدُ في الكلام بما هو موجود مطرد؛ وبهذا علمنا أن حَيْوةَ في مثل: رَجاء بن حَيْوة؛ أصله: حَيَّة وأن اللام إنما قلبت واوًا لضربٍ من التَوسُّع، وكراهةً لتضعيف الياء، ولأن الكلمة أيضًا عَلَم؛ والأعلام يَعْرِضُ فيها ما لا يعرض في غيرها؛ نحو: مَوْهَب ومَوْرَق، ومَوْظَب (٤).
= شخص من جسدك. "تهذيب اللغة" ١٣/ ٢٩٥ (طلل).
(١) أصل الحيوان: حَييَان، فقلبت الياء التي هي لام الفعل واوًا استكراهًا لتوالي الحركات؛ هذا مذهب الخليل وسيبويه. "لسان العرب" ١٤/ ٢١٤ (حيا). وقول سيبويه في "الكتاب" ٤/ ٣٩٩.
(٢) فاظ الميت، وفاظت نفسه: إذا خرجت. "تهذيب اللغة" ١٤/ ٣٩٦ (فاظ).
(٣) الصَّوغُ: مصدر صاغ يصوغ، والصَّياغة: الحرفة. "تهذيب اللغة" ٨/ ١٥٨ (صاغ).
(٤) "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٥٣، بتصرف، وهو في "لسان العرب" ١٤/ ٢١٤ (حيا). وضبطت كلمة: مَوْرَق، هكذا في سر صناعة الإعراب، وهو اسم علم؛ منه: =
559
قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ يعني لو علموا لرغبوا في الباقي الدائم عن الفاني الزائل، ولكنهم لا يعلمون.
٦٥ - قوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ قال ابن عباس: يريد المشركين كفار مكة. وذكرنا معنى ﴿فِي﴾ عند قوله: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا﴾ [هود: ٤١] (١).
و ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أفردوا الله بالطاعة، وتركوا شركاءهم فلا يدعونهم لإنجائهم ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ﴾ الله من أهوال البحر، وأفضوا إلى البر ﴿إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ به في البر فلا يوحدونه كما وحدوه في البحر (٢). وهذا إخبار عن عنادهم، وأنهم عند الشدائد يعلمون أن القادر على كشفها الله وحده، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم (٣).
٦٦ - قوله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ في هذه اللام وجهان؛
= مُورق بتشديد الراء، ابن مُشَمْرِج، بضم أوله، ابن عبد الله العجلي، ترجم له الحافظ ابن حجر. "تقريب التهذيب" ٩٧٧، رقم (٦٩٨٩).
ومَوْرَق بفتح الميم وضمها اسم موضع بفارس. "معجم البلدان" ٥/ ٢٥٦، ثم قال ياقوت الحموي: ومَوْهَب ومَوْظَب اسمان لرجلين.
(١) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: وقوله تعالى: ﴿فِيهَا﴾ لا يجوز أن تكون من صلة الركوب؛ لأنه يقال: ركبت السفينة، ولا يقال: ركبت في السفينة، والوجه هاهنا أن يقال: مفعول ﴿ارْكَبُوا﴾ محذوف على تقدير: اركبوا الماء في السفينة فيكون قوله: ﴿فِيهَا﴾ حالًا من الضمير في: ﴿ارْكَبُوا﴾ ويجوز أن يقال: المعنى: اركبوها؛ أي: الفلك، وزاد: في للتأكيد كقوله: ﴿لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] وفائدة هذه الزيادة أنه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها، فلو قال: (اركبوها) لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا على ظهر السفينة.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٨، بمعناه.
أحدهما: أنها لام كي، وهي متعلقة بالإشراك، كأن المعنى: يشركون ليكفروا؛ أي: ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم، أي: لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر، فليس يردُّ عليهم الشرك نفعًا إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة. ومن جعل هذه لام كي كسر لام قوله: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ ومن جزم اللام أراد الأمر (١)، وهو على معنى: التهديد والوعيد كقوله: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: ٦٤] و ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] ونحو ذلك من الأوامر التي معناها الوعيد (٢). ويدل على جواز الأمر هاهنا قوله في الأخرى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (٣).
٦٧ - وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ ذكرنا تفسيره ونزوله في سورة: القصص (٤). قال ابن عباس: يعني مكة يأمن أهلها، ومن يلجأُ إليهم (٥).
﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ يريد: العرب يسبي بعضهم بعضًا، وأهلُ مكة آمنون (٦). قال مقاتل: أدفع عنهم، وهم يأكلون رزقي، ويعبدون
(١) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ بجزم اللام، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ بكسر اللام. "السبعة في القراءات" ٥٠٢، و "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٠.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١٩، وابن جرير ٢١/ ١٣، بمعناه. قال الزجاج ٤/ ١٧٤: قرئ بكسر اللام وتسكينها، والكسر أجود على معنى: لكي يكفروا وكي يتمتعوا.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤١، من قوله: في هذه اللام وجهان
(٤) أشار إلى هذه الإحالة: مقاتل ٧٥ ب. سورة القصص الآية ٥٧.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٨٢، عن الضحاك.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢١/ ١٤، عن قتادة، بنحوه.
غيري (١).
﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ يعني: الشيطان (٢). وقال الكلبي: يعني الآلهة (٣) ﴿وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ قال مقاتل: ﴿وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)﴾ [قريش: ٤] ﴿يَكْفُرُونَ﴾ (٤) وقال الكلبي: بمحمد والإِسلام (٥).
٦٨ - ثم ذكر أنهم أظلمُ الخلق فقال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي: لا أحد أظلم ممن زعم أن لله شريكًا، وأنه أمر بالفواحش (٦).
﴿أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ﴾ بمحمد والقرآن (٧) ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ أمَا لهذا المكذب مأوى في جهنم (٨) وهو استفهام معناه: التقرير (٩).
٦٩ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ قال ابن زيد: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا﴾ هؤلاء المشركين وقاتلوهم في نصرة ديننا، ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ لنعصمنهم ولنرشدنهم إلى ديننا (١٠). والأولى أن يكون معنى الهداية
(١) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب.
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب.
(٣) "تنوير المقباس" ٣٣٨.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب.
(٥) "تنوير المقباس" ٣٣٨، بنحوه.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٣ أ.
(٧) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٣ أ. و"تنوير المقباس" ٣٣٨.
(٨) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب.
(٩) تفسير ابن جرير ٢١/ ١٤.
(١٠) أخرجه ابن جرير ٢١/ ١٥، عن ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ فقلت له: قاتلوا فينا قال: نعم. وأخرجه كذلك ابن أبي حاتم ٩/ ٣٠٨٤.
562
هاهنا: الزيادة منها والتثبيت عليها.
قال أبو إسحاق: أعلم الله -عز وجل- أنه يزيد المجاهدين هداية، كما أنه يزيد الكافرين بكفرهم ضلالة، كذلك يزيد المجاهدين هداية كما قال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: ١٧] (١).
وقال أبو سَوْرَة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا﴾ في الغزو لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة (٢).
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال مقاتل: في العون لهم (٣).
وقال الزجاج: تأويله: إن الله ناصرهم (٤).
وقال ابن عباس: يريد بالمحسنين الموحدين.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٤. ومن أدلة ذلك قول الله -عز وجل- ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٤، ١٢٥].
(٢) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٦٣ ب.
- أبو سَوْرَة الأنصاري، ابن أخي أبي أيوب. قال الذهبي: أبو سورة، عن ابن عمر، وعنه مطعم بن المقدام، مجهول. "المغني في الضعفاء" ٢/ ٤٧٣، وقال ابن حجر: ضعيف. "تقريب التهذيب" ١١٥٨.
(٣) لم أجده عند مقاتل في تفسيره. وقال الثعلبي ٨/ ١٦٣ ب: بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقباهم.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٧٤.
563
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة الروم
تحقيق
د. سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين
من أول سورة لقمان إلى آخر سورة يس
تحقيق
د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز سطام آل سعود أ. د. تركي بن سهو العتيبي
الجزء الثامن عشر
1
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة الروم
تحقيق
د. سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين
من أول سورة لقمان إلى آخر سورة يس
تحقيق
د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز سطام آل سعود أ. د. تركي بن سهو العتيبي
الجزء الثامن عشر
2
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤٣٠ هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الواحدي، علي بن أحمد
التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد
الواحدي (ت ٤٦٨ هـ)./ سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين،
محمد بن عبد الله بن سابح الطيار الرياض ١٤٣٠ هـ
٢٥ مج. (سلسلة الرسائل الجامعية)
ردمكـ: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٨ - ٨٧٥ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج ١٨)
١ - القرآن تفسير... ٢ - الواحدي علي بن أحمد
أ - العنوان... ب - السلسلة
ديوي ٢٢٧. ٣... ٨٦٨/ ١٤٣٠
رقم الإيداع: ٨٦٨/ ١٤٣٠ هـ
ردمكـ: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٨ - ٨٧٥ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج ١٨)
3
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
[١٨]
4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

5
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة الروم
تحقيق
د. سليمان بن إبراهيم بن محمد الحصين
6
Icon