تفسير سورة العنكبوت

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

أو أموت فتتعير بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يومًا وليلةً، لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يومًا آخر وليلةً، لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية آمرًا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به، وقد أخرج هذا الحديث أحمد ومسلم وأبو داوود والنسائي أيضًا.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ...﴾ الآية، روي أن هذه الآية نزلت في عياش ابن أبي ربيعة أسلم وهاجر، ثم أوذي وضُرب فارتد، وقد كان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخويه لأمه، ثم عاش بحد ذلك دهرًا وحسن إسلامه.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الم (١)﴾ تقدم أن (١) قلنا أنه يُنطق بالحروف المقطعة في أوائل السور باسمائها ساكنةً، فيقال: ألف، لام، ميم، والحكمة في البداءة بها التنبيه، وطلب إصغاء السامعين إلى ما يُلقى بعدها، فإن الحكيم إذا خاطب من يكون مشغول البال، قدم على المقصود شيئًا غيره، ليلتفت المخاطب بسببه إليه، فحينًا يكون كلامًا مفهومًا كقول القائل: اسمع، أو ألق بالك إلي، وحينًا يكون في معنى الكلام المفهوم، كقولك يا علي، وحينًا يكون صوتًا غير مفهوم المعنى، كمن يُصفّر خلف إنسان ليلتفت إليه.
فالنبي - ﷺ -، وإن كان يقظ الجنان، فهو إنسان يشغله شأن عن شأن، فحسن عن الحكيم الخبير أن يقدم على المقصود حروفًا، هي كالمنبهات، لا يُفهم منها معنى، لتكون أتم في إفادة التنبيه؛ لأنه إذا كان المقدم قولًا مفهومًا، فربما ظن السامع أنه هو المقصود، ولا كلام للمتكلم بعد ذلك، ليصغي إليه، أما إذا سمع صوتًا لا معنى له، جزم بأن هناك كلامًا آخر سيرد بعد، فيُقبل إليه تمام الإقبال،
(١) المراغي.
ويُرهف السمع إلى ما سيأتي.
وقد ثبت بالاستقراء، أن كل سورة في أوائلها حروف التهجي، بُدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن نحو ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، ﴿المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ﴾ ﴿ص وَالْقُرْآنِ﴾ ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ إلا ثلاث سور: ﴿كهيعص (١)﴾ ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ﴾ ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)﴾.
وقد بُدئت هذه السورة بالحروف وليس فيها البَدْءُ بالقرآن، أو الكتاب من قِبَلِ أن فيها ذكر جميع التكاليف، وهي شاقة على النفس، فحسن البدء بحروف التنبيه للإيقاظ إلى ما يُلقى بعدها.
٢ - وقد (١) حصل التنبيه في القرآن، بغير الحروف التي لا يُفهم معناها كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ وقوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ من قِبَلِ أن تقوى الله أمر عظيم، ومثلها تحريم ما أحل الله والهمزة في قوله: ﴿أَحَسِبَ﴾؛ أي: أظن ﴿النَّاسُ﴾ للاستفهام الإنكاري، وقوله: ﴿أَنْ يُتْرَكُوا﴾؛ أي: أن يُهملوا (٢) ساد مسد مفعولي حسب، لاشتماله على مسند ومسند إليه، وقوله: ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾ بالسنتهم ﴿آمَنَّا﴾ على تقدير الجار؛ أي: لأن يقولوا، أو بأن يقولوا، أو على أن يقولوا، وقوله: ﴿وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾؛ أي: لا يُمتحنون في دعواهم بما يظهرها ويثبتها، حال من نائب فاعل يتركوا؛ أي: أظنوا أنفسهم متروكين بلا فتنة وامتحان، بمجرد أن يقولوا آمنا بالله؛ أي: أظن الناس الذين نطقوا بكلمة الشهادة، أنهم يتركون غير ممتحنين بمجرد ذلك النطق، لا بل يُمتحنون ليتميَّز الراسخ في الدين من غيره، وكلًّا نجازي بحسب مراتب عمله، يعني أن الله يمتحنهم بمشاق التكاليف كالممهاجرة والمجاهدة، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، ليتميز المخلص من المنافق، والراسخ في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
337
نزلت هذه الآية في قوم من المؤمنين، كعمار بن ياسر وعياش ابن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام، فكانت صدورهم تضيق بذلك، ويجزعون، فتداركهم الله بالتسلية بهذه الآية.
قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب في هذه الجماعة، فهي في معناها، باقية في أمة محمد - ﷺ -، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين، بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك. اهـ.
واعلم (١): أن المقصود الأقصى من الخلق العبادة، والمقصد الأعلى في العبادة، حصول محبة الله، وكل من كان قلبه أشد امتلاء من محبة الله، فهو أعظم درجة عند الله، لكن للقلب ترجمان، وهو اللسان، وله مصدقات هي الأعضاء، ولها مزكيات، فإذا قال الإنسان باللسان: آمنت، فقد ادعى محبة الله في الجنان، فلا بد له من شهود، فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه من أركان الإِسلام، حصل له على دعواه شهود مصدقات، فإذا بذل نفسه، وما له في سبيل الله تعالى، وزكَّى أعماله بترك ما سوى الله تعالى، زكَّى شهوده الذين صدقوه فيما قاله، فحينئذٍ يحرر اسمه في جرائد المحبين، ويقرر قسمه في أقسام المقربين.
قال الزجاج (٢): لفظ الآية استخبار، ومعناه: معنى التقرير والتوبيخ، والمعنى: أحسب الناس أن يتركوا بأن يقولوا آمنا، ولأن يقولوا آمنا؛ أي: أحسبوا أن يقنع منهم، بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط، ولا يمتحنون بما يبين حقيقة إيمانهم ﴿وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾؛ أي: لا يختبرون بما يعلم به صدق إيمانهم من كذبه.
ونحو الآية قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾.
والخلاصة (٣): أيظن الناس أنهم يتركون بمجرد قولهم آمنا، دون أن يبتلوا
(١) المراح.
(٢) زاد المسير.
(٣) المراغي.
338
بالفرائض البدنية والمالية، كالهجرة من الأوطان والجهاد في سبيل الله، ودفع الزكاة للفقراء والمحتاجين، وإغاثة البائسين والملهوفين.
٣ - ثم ذكر ما هو كالتسلية لهم، بما نال من قبلهم بالمشاق، فقال: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ متصل بأحسب، أو بلا يفتنون؛ أي: وعزتي وجلالي لقد اختبرنا الأمم الذين من قبل هذه الأمة من الأنبياء، وأتباعهم؛ أي: ولقد اختبرنا الأمم السالفة من الأنبياء وأتباعهم، وأصبناهم بضروب من البأساء والضراء، فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ، فابتلينا بني إسرائيل بفرعون وقومه، وأصابهم منه البلاء العظيم، والجهد الشديد. وابتلينا من آمن بعيسى بمن كذبه وتولى عنه، لا جرم ليصيبن أتباعك أذى شديد وجهد عظيم، ممن خالفهم وناصبهم العداء؛ أي (١): هذه سنة الله في عباده، وأنه يختبر مؤمن هذه الأمة، كما اختبر من قبلهم من الأمم، كما جاء به القرآن في غير موضع من قصص الأنبياء، وما وقع مع قومه من المحن، وما اختبر الله به أتباعهم.
روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله - ﷺ -، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشي بأمشاط الحديد، لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"، وعن أبي سعيد الخدري، قال: دخلت على النبي - ﷺ -، وهو يوعك، فوضعت عليه يدي، فوجدت حره بين يدي فوف اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك؟ قال: "إنا كذلك يضعّف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر"، قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء". قلت: ثم من؟ قال: "ثم الصالحون، إن أحدهم كان ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها"
(١) الشوكاني.
339
- يمزقها - وإن أحدهم كان ليفرح بالبلاء، كما يفرح أحدكم بالرخاء"، ونحو الآية قوله: -ayah text-primary">﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾.
﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى بالامتحان ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في قولهم آمنا ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ منهم في ذلك، ومعنى (١): علمه تعالى: وهو عالم بذلك، فيما لم يزل أن يعلمه موجودًا عند وجوده، كما علمه قبل وجوده أنه يوجد، والمعنى (٢): وليتميزن الصادق منهم من الكاذب، والمعنى: فوالله ليتعلقن علمه تعالى بالامتحان، تعلقًا حاليًا، يتميز به الذين صدقوا في الإيمان بالله، والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب، ويرتب عليهم أجزيتهم من الثواب والعقاب، ولذلك قيل المعنى: ليميزن أو ليجازين يعني: أن بعضهم فسر العلم بالتمييز والمجازاة على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب، فإن المراد بالعلم تعلقه الحالي الذي هو سبب لهما.
قال ابن عطاء: يتبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء، وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الرخاء، وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين، اهـ.
واعلم: أن البلاء كالملح، يصلح وجود الإنسان بإذن الله تعالى، كما أن الملح يصلح الطعام، وإذا أحب الله عبدًا جعله للبلاء عرضًا - أي: هَدَفًا - وكل محنة مقدمة لراحة، ولكل شدة نتيجة شريفة.
أي: وليظهرن الله سبحانه (٣)، الصادقين منهم في إيمانهم من الكاذبين، بما يشبه الامتحان والاختبار، وليجازين كلا بما يستحق.
وخلاصة ما سلف: اْيها الناس، لا تظنوا أني خلقتكم سدًى، بل خلقتكم لترقوا إلى عالم أعظم من عالمكم، وأرقى منه في كل شؤونه، ولا يتم ذلك إلا
(١) النسفي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
340
بتكليفكم بعلم وعمل، واختباركم من آنٍ إلى آخر، بإنزال النوازل والمصائب في الأنفس، والأموال والثمرات، والتخلي عن بعض الشهوات وفعل التكاليف، من الزكاة والصيام والحج ونحوها، فحياتكم حياة جهاد وشقاء، شئتم أو أبيتم، وبمقدار ما تصبرون على هذا الاختبار، وتفوزون بالنجاح فيه، يكن مقدار الجزاء والثواب، وتلك سنة الله تعالى فيكم، وفي الأمم من قبلكم، وتاريخ الأديان مليء بأخبار هذا البلاء، وما لقيه المؤمنون من المكذبين بالرسل.
فإن قلت (١): لِمَ غاير بين الأسلوبين، حيث عبَّر في قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ صيغة الفعل، وفي قوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ بصيغة اسم الفاعل؟
قلت: فيه نكتة، وهي أن اسم الفاعل يدل على ثبوت المصدر في الفاعل، ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه؛ لأن وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإِسلام، وعن قوم مستمرين على الكفر، فعبر عن حق الأولين بلفظ الفعل، وفي حق الآخرين بالصيغة الدالة على الثبات، اهـ "زاده".
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ﴾ بفتح الياء واللام في الموضعين؛ أي: ليظهرن الله الصادق والكاذب في قولهم، ويميز بينهم، وقرأ علي ابن أبي طالب وجعفر بن محمد في الموضعين: بضم الياء وكسر اللام من أعلم الرباعي، وقرأ الزهري الأولى: كقراءة الجماعة، والثانية: كقراءة علي، ذكره أبو حيان.
والمعنى عليه: فليعلمن الطائفتين في الآخرة بمنازلهم، أو يُعلمُ الناس بصدق من صدق، ويفضح الكاذبين بكذبهم، أو يضع لكل طائفة علامة تشتهر بها، وتتميز عن غيرها.
٤ - وأم في قوله: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ﴾ (٣) منقطعة، فتقدر بالهمزة التي للاستفهام التوبيخي، وببل التي للإضراب الانتقالي من قصة إلى قصة، فالكلام انتقال من توبيخ الأول، على حسبانهم بلوغ الدرجات من غير مشاق، بل بمجرد الإيمان،
(١) زاده بتصرف.
(٢) الشوكاني.
(٣) الفتوحات.
فانتقل منه إلى توبيخ أشد، وهو حسبانهم أن يفوتوا عذاب الله ويفروا منه (١)، وهم وإن لم يحسبوا أنهم يفوتونه تعالى، ولم يحدثوا نفوسهم بذلك، لكنهم حيث أصروا على المعاصي، ولم يتفكروا في العاقبة، نُزِّلوا منزلة من يحسب ذلك، كما في قوله تعالى: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾.
أي: بل أظن الذين ﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾؛ أي: الشرك والمعاصي ﴿أَنْ يَسْبِقُونَا﴾؛ أي: أن يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يعملون، وهو ساد مسد مفعولي حسب، لاشتماله على مسند ومسند إليه؛ أي: بل أحسب المشركون أنهم يفرون منا، ويفوتون عذابنا فلا نقدر على مجازاتهم بعصيانهم ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾؛ أي: بئس وقبح الحكم الذي يحكمونه، حكمهم ذلك، وهو سبقهم إيانا وهربهم منا، فحُذف المخصوص بالذم.
قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة ابن أبي معيط وحنظلة ابن أبي سفيان والعاص بن وائل.
وحاصل معنى الآية (٢): أي بل أيظن هؤلاء الذين يجترحون الإثم والفواحش أن يفوتونا فلا نقدر على مجازاتهم، ولا نستطيع أن نُجري العدل فيهم، وما قضت به سنتنا في الظالمين باخذهم أخذ عزيز مقتدر، بئس حكمًا يحكمونه هذا الحكم، وكيف يدور ذلك بخلدهم وإنا لم نخلق الخلق سدى، بل ربيناهم وهذبناهم بضروب من التهذيب والعلم، لعلهم يلمحون في هذا العالم نور جمالي وجلالي.
٥ - ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو﴾ ويتوقع ويخاف ﴿لِقَاءَ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: ملاقاة جزائه ثوابًا أو عقابًا، فليستعد لأجل الله، باختياره من الأعمال ما يؤدي إلى حسن الثواب، واجتنابه عما يسوقه إلى سوء العذاب، والفاء في قوله: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾ تعليل للجواب المحذوف، والأجل عبارة عن غاية زمان ممتد عُيِّنت لأمر من
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الأمور؛ أي: فإن الوقت الذي عينه تعالى لذلك ﴿لَآتٍ﴾ لا محالة، وكائن ألبتة، لأن (١) أجزاء الزمان على الانقضاء والانصرام دائمًا، فلا بد من إتيان الوقت المعيَّن، وإتيانه موجب لإتيان اللقاء والجزاء ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿السَّمِيعُ﴾ لأقوال العباد ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأحوالهم من الأعمال الظاهرة والباطنة، فلا يفوته شيء ما، فبادروا العمل قبل الفوت، وفي الآية من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب ما لا يخفى.
ومعنى الآية (٢): أي من كان يطمع في ثواب الله يوم لقائه فليبادر إلى فعل ما ينفعه، وعمل ما يوصله إلى مرضاته، ويُبعده من سخطه، فإن أجل الله الذي أجَّله لبعث خلقه للجزاء لآت لا محالة، والله هو السميع لأقوال عباده، العلم بعقائدهم وأعمالهم، ويجازي كلًّا بما هو أهل له، وفي هذا تنبيه إلى تحقق حصول المرجو والمخوف وعدًا ووعيدًا.
٦ - ثم بيَّن سبحانه أن التكليف بجهاد النفس وجهاد الحرب ليس بنفع يعود إليه، بل لفائدة المكلف، فقال: ﴿وَمَنْ جَاهَدَ﴾ نفسه بالصبر على طاعة الله تعالى، وجاهد الكفار بالسيف، وجاهد الشيطان بدفع وساوسه، والمجاهدة استفراغ الجهد - (بالضم)؛ أي: الطاقة - في مدافعة العدو، كما سيأتي.
﴿فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ لا لله سبحانه؛ لأن منفعة مجاهدته عائدة إليها أي: ثواب ذلك له لا لغيره، ولا يرجع إلى الله من نفع ذلك شيء. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: فلا حاجة به إلى طاعتهم ومجاهدتهم، وإنما أمرهم بها رحمة عليهم، لينالوا الثواب الجزيل، كما قال: خلقت الخلق ليربحوا عليَّ لا لأربح عليهم فالعالمون هم الفقراء إلى الله تعالى، والمحتاجون إليه في الدارين، وهو مستغن عنهم.
وحاصل معنى الآية: أي ومن بذل جهده في جهاد عدو، أو حرب نفس، فإنما يجاهد لنفع نفسه؛ لأنه إنما يفعل ذلك ابتغاء الثواب من الله على جهاده،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
وهربًا من عقابه، وليس بالله إلى فعله حاجة، فهو غني عن جميع خلقه، له الملك وله الأمر، يفعل ما يشاء، ونحو الآية قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ وقوله: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾.
٧ - ثم بيَّن بالتفصيل جزاء المطيع، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم ﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لنسترن عنهم ﴿سَيِّئَاتِهِمْ﴾ من الشرك والمعاصي بالإيمان والتوبة. ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ﴾ الجزاء على العمل ﴿الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الصالحات، فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، فالمؤمن يدخل الجنة بإيمانه وتكفَّر سيئاته به، فلا يُخلَّد في النار، فحينئذ يكون الجزاء الأحسن غير دخول الجنة، وهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فللعبد ثلاثة أمور من أصناف حسناته (١):
١ - عمل قلبه: فهو لا يُرى ولا يسمع، وإنما يُعلَم.
٢ - وعمل لسانه: فهو يُسمع.
٣ - وعمل أعضائه: وهو يُرى. فإذا أتى بهذه الأشياء الثلاثة، يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيِّه ما لا عين رأت، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب بشر.
والمراد نجزينهم أحسن جزاء أعمالهم، بأن نُعطي بواحد عشر أمثاله أو أكثر، لا جزاء أحسن أعمالهم فقط، والمراد بأحسن هنا مجرد الوصف. قيل: لئلا يلزم أن جزاءهم بالحسن مسكوت عنه، وهذا ليس بشيء؛ لأنه من باب الأولى، فإنه إن جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه، فهو من باب التنبيه على الأدنى بالأعلى اهـ. "سمين".
ومعنى الآية (٢): أي والذين آمنوا بالله ورسوله، وصح إيمانهم حين
(١) المراح.
(٢) المراغي.
ابتلائهم، فلم يرتدوا عنه بأذى المشركين لهم، وعملوا صالح الأعمال فأدوا فرائضه، وقاموا بها حق القيام، فواسوا البائس الملهوف، وأغاثوا المظلوم، وقدموا لوطنهم ما هو شديد الحاجة إليه، فرأبوا صدعه وسدوا ثغره، وكانوا للمؤمنين سندًا ومعينًا حتى يصيروا كالبنيان يشد بعضه بعضًا.. لنكفرن عنهم سيئاتهم التي فُرِّطت منهم في شركهم، أو صدرت منهم لمامًا في إيمانهم، وندموا على ما اجترحوه منها، ولنثيبنهم على صالح أعمالهم حين إسلامهم أحسن ما كانوا يعملون، فنقبل القليل من الحسنات، ونثيب على الواحدة منها عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، ونجزي على السيئة بمثلها أو نعفو عنها، ونحو الآية قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)﴾.
فإن قلت: إن قوله: ﴿عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ يستدعي وجود السيئات حتى تكفَّر، وقوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ يقتضي عدمها، فمن أين تكون لهم سيئة؟
قلت: الجواب عن ذلك أن يقال: إنه ما من مكلف إلا وله سيئة، أما غير الأنبياء فظاهر، وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ اهـ. "كرخي".
٨ - ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾؛ أي: أمرنا الإنسان بالبر بوالديه والعطف عليهما؛ لأنهما سبب وجود الولد؛ أي (١): أمرناه بأن يُحسن إليهما بكل ما يمكنه من وجوه الإحسان، فيشمل ذلك إعطاء المال والخدمة، ولين القول وعدم المخالفة لهما وغير ذلك، وانتصاب حسنًا على أنه نعت لمصدر محذوف؛ أي إيصاءً حسنًا على المبالغة، أو على حذف المضاف؛ أي: ذا حسن، هذا عند البصريين، وأما عند الكوفيين فهو منصوب على أنه مفعول لفعل محذوف، تقديره: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حُسْنًا.
وقرأ الجمهور ﴿حُسْنًا﴾ الحاء وإسكان السين، وقرى أبو رجاء وأبو
(١) الفتوحات.
345
العالية والضحاك وابن مسعود: ﴿حسنا﴾ بفتحهما، وقرأ أبي بن كعب وأبو مجلز وعاصم الجحدري: ﴿إحسانا﴾ قال الزجاج (١): من قرأ حسنا بضم الحاء وإسكان السين فمعناه: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن، ومن قرأ إحسانًا، فمعناه: ووصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه. وكان (حسنا) أعم في البر.
فإن قلت: ذكر هنا (٢) ﴿حُسْنًا﴾ وفي الأحقاف ﴿إِحْسَانًا﴾ حيث قال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا﴾ الآية، وحذفه في لقمان، حيث قال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ مع أن الثلاثة نزلت في سعد بن مالك، وهو سعد ابن أبي وقاص على خلاف فيه، فما الفرق بينه وبينهما؟
قلت: ذكر هنا وفي الأحقاف؛ لأن الوصية فيهما جاءت في سياق الإجمال فحسن ذكره، وفي لقمان جاءت مفصلة لما تقدمهما من تفصيل كلام لقمان لابنه، ولأن قوله بعدها: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ قائم مقامه، فحسن حذفه.
فائدة: ويجب على الأبوين أن لا يحملا الولد على العقوق بسبب الجفاء وسوء المعاملة، ويعيناه على البر، فمن البر وهما حيان أن ينفق عليهما، ويمتثل أمرهما في الأمور المشروعة، ويجامل في معاملتهما، ومن البر بعد موتهما التصدق لهما، وزيارة قبرهما في كل جمعة، والدعاء لهما في أدبار الصلاة، وتنفيذ عهودهما ووصاياهما.
وقوله: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ﴾ مقول لقول محذوف، تقديره؛ أي (٣): وقلنا له: وإن جاهداك وكلفاك أيها الإنسان ﴿لِتُشْرِكَ بِي﴾ أي: على أن تشرك بي ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾؛ أي: بآلهيته، وهذا القيد (٤) لموافقة الواقع فلا مفهوم له؛ لأنه ليس ثم إله لك به علم وإله لا علم لك به، بل الإله واحد، وقيل: عبَّر بنفي العلم عن
(١) زاد المسير.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) روح البيان.
(٤) الفتوحات.
346
نفي الإله؛ لأن ما لا يُعلم صحته لا يجوز اتباعه، فكيف بما عُلم بطلانه.
والمعنى: وقلنا له: وإن طلبا منك وألزماك أن تشرك بي إلهًا ليس لك به علم بكونه إلهًا ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا﴾؛ أي: لا توافقهما في الإشراك، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما ورد في الحديث الصحيح، ويدخل فيه الأستاذ والأمير إذا أمر بغير معروف وهو ما أنكره الشرع، فلا طاعة لهما.
والخلاصة: أي وإن حرَّضاك على أن تتعابعهما على دينهما إذا كانا مشركين فإياك أن تفعل ذلك.
فإن قلت (١): لِمَ قال هنا ﴿لِتُشْرِكَ بِي﴾ باللام، وقال في لقمان: ﴿عَلَى أَنْ تُشْرِكَ﴾ بعلى؟
قلت: قال هنا باللام، موافقةً للفظ اللام في قوله: ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ وقال في لقمان بعلى، حملًا على المعنى بطريق التضمين، إذ التقدير: وإن حملاك على أن تشرك بي.
وإذا لم تجز (٢) طاعة الوالدين في هذا المطلب، مع المجاهدة منهما له، فعدم جوازها مع مجرد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى، ويُلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه، فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله، كما صح ذلك عن رسول الله - ﷺ -.
﴿إِلَيَّ﴾ لا إلى غيري ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾؛ أي: رجوعكم يوم القيامة جميعًا؛ أي: مرجع من آمن منكم ومن أشرك، ومرجع من برَّ بوالديه ومن عقّ بهما، ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: فأخبركم ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا، ثم أجازيكم على أعمالكم المحسن بحسانه، والمسيء بإساءته، فلا تظنوا أني غائب عنكم، وآباؤكم حاضرون فتوافقوا الحاضرين في الحال، فإني حاضر معكم، أعلم ما تفعلون ولا أنسى، فأنبئكم بجميعه، فأجازيكم عليه إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
(١) كرماني بتصرف.
(٢) الشوكاني.
347
عبَّر (١) عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم؛ أي: أظهر لكم على رؤوس الأشهاد، وأعلمكم أي شيء كنتم تفعلون في الدنيا على الاستمرار، وأرتب عليه جزاءه اللائق به.
٩ - ففي الآية بشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين، والموصول في قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ في محل رفع على الابتداء خبره ﴿لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ﴾؛ أي: في زمرة الراسخين في الصلاح، ولنحشرنهم معهم، وهم الأنبياء والأولياء، وكل من صلحت سيرته مع الله، والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين، وغاية مأمول الأنبياء والمرسلين.
والمعنى: أي والذين آمنوا بالله، وصدقوا رسوله، وعملوا ما يصلح نفوسهم، ويزكي أرواحهم ويطهرهلالندخلنهم في زمرة الصالحين، ونجعلهم في عدادهم، فندخلهم الجنة معهم.
١٠ - وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ مبتدأ باعتبار مضمونه، والخبر جملة يقول في قوله: ﴿مَنْ يَقُولُ﴾؛ أي: وبعض الناس يقول: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾؛ أي: أقررنا بواحدانية الله ﴿فَإِذَا أُوذِيَ﴾ مجهول آذى يؤدي، كما سيأتي في مباحث الصرف؛ أي: إذا فُتن ﴿فِي اللَّهِ﴾؛ أي: في شأن الله تعالى ولأجله.
والأذى (٢): ما يصل إلى الإنسان من ضرر، إما في نفسه أو في جسمه، أو في حرمه أو في ماله، كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان، وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات، من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به.
﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ﴾ التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى ﴿كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ سبحانه في الآخرة في الشدة والهول، ويستولي عليه خوف البشرية، إذ من لم يكن في حماية خوف الله وخشيته، يفترسه خوف الخلق، فيساوي بين العذابين، فيخاف العاجل الذي هو ساعة، ويهمل الآجل الذي هو باق لا ينقطع، فيرتد عن
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
348
الدين، ولو علم شدة عذاب الله، وأن لا قدر لعذاب الناس عند عذابه تعالى لما ارتد، ولو قطع إربًا إربًا، ولما خاف من الناس وعذابهم، وفي الحديث "من خاف الله خوف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله يخوِّفه الله من كل شيء".
وقال بعضهم: جعل فتنة الناس في الصرف عن الإيمان كعذاب الله في الصرف عن الكفر.
وحاصل المعنى (١): أي ومن الناس فريق يقول: آمنا بالله وأقررنا بوحدانيته، فإذا آذاه المشركون لأجل إيمانه جعل فتنة الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة، فارتد عن إيمانه ورجع إلى كفره، وكان يمكنه أن يصبر على الأذى، ويجعل قلبه مطمئنًا بالإيمان، ولكنه جعل فتنة الناس صارفةً له عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر، وعذاب الناس له دافع، وعذاب الله ليس له دافع، وعذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم، وعذاب الله بعده العقاب الأليم.
والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة تطيب النفس لها ولا تعدها عذابًا، كما تُقطع السلعة المؤذية ولا تُعدُّ عذابًا، واعلم أن الأقسام ثلاثة: مؤمن ظاهرًا وباطنًا، ومؤمن ظاهرًا لا باطنًا، وكافر ظاهرًا وباطنًا. اهـ "رازي" كما مر.
قال الزجاج: ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله، أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وأبو يعلي وابن حبان وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، عن أن - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، ولقد أُخفتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثالثة، وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال".
وخلاصة ذلك: أن من الناس من يدَّعون الإيمان بألسنتهم، فإذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى منهم، فارتدوا عن الإِسلام، ورجعوا إلى الكفر الذي كان متغلغلًا في حنايا ضلوعهم، وشغاف
(١) المراغي.
349
قلوبهم، ونحو الآية قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾.
﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن جاء نصر قريب من عند ربك للمؤمنين، وفتح وغلبة للأعداء، وكنيمة يغنمونها منهم، فالآية مدنية ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ بضم اللام (١) نظرًا إلى معنى من، كما أن الإفراد فيما سبق بالنظر إلى لفظه، وقرىء: ﴿ليقولن﴾ بفتح اللام، ذكره أبو معاذ النحوي والزمخشري، ذكره أبو حيان في "البحر".
أي: ليقولن هؤلاء المنافقون: ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ داخلين ﴿مَعَكُمْ﴾ في دينكم ومعاونين لكم على عدوك فأشركونا في المغنم، وهم كاذبون فيما يدعون. ونحو الآية ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وهم ناس من ضعفة المسلمين، كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم، وكانوا يكتمونه من المسلمين، فرد الله عليهم وتوعدهم، وذكر أنه عليم بما في صدورهم، لا يخفى عليه شيء من أمرهم، فقال: ﴿أَوَلَيْسَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿بِأَعْلَمَ﴾ منهم ﴿بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: بما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والإخفاء، وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة.
والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَيْسَ﴾ لاستفهام التقريري، المضمن للتوبيخ، داخلة على محذوف تقديره: أيحسبون أن الله لا يعلم ما في صدورهم من النفاق، وليس الله سبحانه باعلم بما في صدور العالمين، وبما في قلوب المنافقين وما تكنه صدورهم، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان، فكيف يخادعون من لا تخفى عليه خافية، ولا يستتر عنه سر، والمعنى: قد علم ما انطوت عليه الضمائر من خير أو شر.
(١) روح البيان.
350
والظاهر (١): أن هذا النظم من قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ نازل في المنافقين، لما يظهر من السياق،
١١ - ولقوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالإخلاص ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ سواء كان نفاقهم بأذية الكفرة أو لا، فإنها لتقرير ما قبلها وتأكيده؛ أي: ليميزن الله بين الطائفتين، ويُظهر إخلاص المخلصين ونفاق المنافقين، فالمخلص الذي لا يتزلزل بما يصيبه من الأذى. ويصبر في حق الله الصبر، ولا يجعل فتنة الناس كعذاب الله، والمنافق الذي يميل هكذا وهكذا، فإن أصابه أذى من الكافرين وافقهم وتابعهم، وكفر بالله عز وجل، وإن خفقت ريح الإِسلام وطلع نصره ولاح فتحه رجع إلى الإِسلام، وزعم أنه من المسلمين.
والمعنى: أي وعزتي وجلالي، ليختبرن الله (٢) عباده بالسراء والضراء، ليميز صادق الإيمان من المنافق، من يطيع الله في كل حال يصبر على اللاواء إذا مسته، ويعدها اختبارًا له، وأنه سيثاب عليها إذا هو فوَّض فيها إليه. ومن يعصيه إذا حزبه الأمر، واشتد به الخطب لا يجد الصبر إلى قلبه سبيلًا، ونحو الآية قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ وقوله: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾.
فإن قلت (٣): لِمَ غاير بين أسلوب الجملتين، حيث عبر في الأولى بالفعل حيث قال: ﴿اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وفي الثانية باسم الفاعل، حيث قال: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾؟
قلت: للتفنن أو لرعاية الفاصلة، كما في "البيضاوي".
واعلم (٤): أن حقيقة الإيمان نور، إذا دخل قلب المؤمن لا تخرجه أذية الخلق، بل يزيد بالصبر على أذاهم، والتوكل على الله، فإنه نور حقيقي، أصلي ذاته، لا يتكدر بالعوارض، كنور الشمس والقمر فإنهما إذا طلعا يزداد نورهما
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات بتصرف.
(٤) روح البيان.
بالارتفاع، ولا يقدر أحد أن يطفىء نورهما. وكنور الحجر الشفاف المضيء بالليل، فإنه لا يقبل الانطفاء مثل الشمعة؛ لأن نوره أصلي، ونور الشمعة عارضي.
ثم إن في المحن والأذى تفاوتًا، فمن كانت محنته بموت قريب من الناس، أو فقد حبيب من الخلق أو نحوه.. فحقير قدره وكثير من الناس مثله، ومن كانت محنته لله وفي الله.. فعزيز قدره وقليل مثله، وقد كان كفار مكة يؤذون النبي - ﷺ - بأنواع الأذى فصبر.
١٢ - ولما ذكر حال المؤمنين والمنافقين ذكر مقالة الكافريق قولًا واعتقادًا، وهم رؤساء قريش فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله، يعني: كفار مكة كالوليد بن المغيرة وأبي جهل وأصحابهما ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله كعلي وسلمان وغيرهما، واللام للتبليغ؛ أي: قال كفار مكة مخاطبين للمؤمنين استمالة ليرتدوا ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا﴾؛ أي: اسلكوا طريقتنا التي نسلكها في الدين من عبادة الأوثان، عبر عن ذلك بالاتباع الذي هو المشي خلف ماش آخر، تنزيلًا للمسلك منزلة السالك فيه.
﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ أي: ذنوبكم عنكم يوم القيامة، إن كان اتباع سبيلنا خطيئةً، تؤاخذون بها عند البعث والنشور، كما تقولون؛ أي: لا بعث ولا مؤاخذة، وإن وقع فرضًا نحمل آثامكم منكم.
واللام: في ﴿لْنَحْمِلْ﴾ لام الأمر، كأنهم أمروا أنفسهم بذلك، وقال الفراء والزجاج: هو أمر في تأويل الشرط والجزاء؛ أي: إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، وقرأ الحسن وعيسى بكسر لام الأمر، وهو لغة الحجاز.
ثم رد الله عليهم بقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ قرأ (١) الجمهور: ﴿مِنْ خَطَايَاهُمْ﴾ وقرأ داوود ابن أبي هند، فيما ذكر أبو الفضل الرازي ﴿من خطيئتهم﴾ بالإفراد، قال: ومعناه الجنس، ودل على ذلك إضافته لضمير
(١) البحر الحيط.
الجمع، وذكر ابن خالويه وأبو عمرو الداني، أن داوود هذا قرأ: ﴿من خطيئاهم﴾ بجمع خطيئة جمع السلامة، بالألف والتاء، وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ: ﴿من خطيئهم﴾ بفتح الطا وكسر الياء، وينبغي أن يُحمل كسر الياء على أنها همزة سُهِّلت بين بين فأشبهت الياء؛ لأن قياس تسهيلها هو ذلك.
أي: والحال أنهم ليسوا بحاملين شيئًا من خطاياهم التي التزموا أن يحملوها كلها، فمن الأولى بيانية، والثانية مزيدة للاستغراق، ثم وصفهم الله سبحانه بالكذب في هذا التحمل، فقال: ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في مقالتهم فيما ضمنوا به من حمل خطاياهم.
ومعنى الآية (١): أي وقال الكافرون من قريش، لمن آمن منهم، واتبعوا الهدى: ارجعوا إلى ديننا الذي كنتم عليه، واسلكوا طريقنا، وإن كانت عليكم آثام فعلينا تبعتها، وهي في رقابنا، كما يقول القائل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي، فرد الله عليهم كذبهم، فقال: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: وإن الكفرة لا يحملون ذنوب المؤمنين إذا اتبعوهم في الكفر يوم القيامة، فإن أحدًا لا يحمل وزر أحد، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ وقال: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ﴾.
ثم أكد ما سبق وقرره بقوله: ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فيما قالوا من أنهم يحملون عنهم الخطايا. قال صاحب "الكشاف": وترى (٢) من المتسمين بالإِسلام من يستن بأولئك، فيقول لصاحبه، إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم كالقتل: افعل هذا وإثمه في عنقي، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم. اهـ.
١٣ - وبعد أن بين عدم منفعة كلامهم لمخاطبيهم. بيَّن ما يستتبعه ذلك القول من المضرة لأنفسهم، فقال: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، ليحملن هؤلاء القائلون ذنوب أنفسهم التي عملوها يوم القيامة، والتعبير عنها بالأثقال
(١) المراغي.
(٢) الكشاف.
للإيذان بأنها ذنوب عظيمة ﴿و﴾ يحملون ﴿أَثْقَالًا﴾ وذنوبًا أخرى لإضلالهم ﴿مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ أي: مع أثقال ضلالهم، فيعذبون بضلال أنفسهم وإضلال غيرهم، من غير أن ينقص من أثقال من أضلوه شيء ما أصلًا، فتكون أثقال المضلين زائدةً على أثقال الضالين؛ لأن من دعا إلى ضلالة فاتُّبع، فعليه حمل أوزار الذين اتبعوه، وكذا من سن سنةً سيئة، كما ورد في حديث أبي هريرة الثابت في "صحيح مسلم" وغيره.
ثم ذكر أنهم يُسألون يوم القيامة عن افترائهم على ربهم، فقال: ﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ سؤال تقريع وتبكيت لِمَ فعلوه، ولأيِّ حجة ارتكبوه ﴿عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾؛ أي: عما كانوا يختلقونه من الأكاذيب والأباطيل التي أضلوا بها من قولهم، ولنحمل خطاياكم، فإنه صادر من اعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ومن اعتقادهم أن لا حشر، ويقال لهم: احملوا خطاياهم فلا يحملون، ويقال لهم: افتريتم في الدنيا بحملها، فأين ذلك الوعد والافتراء الآن.
قصص نوح عليه السلام
١٤ - ثم أجمل سبحانه قصة نوح عليه السلام تصديقًا لقوله في أول السورة: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ للدعوة إلى التوحيد وطريق الحق، من قبل إرسالنا إياك يا محمد ﴿نُوحًا﴾ واسمه عبد الغفار، كما ذكره السهيلي في كتاب "التعريف"، وعبد الشاكر، كما ذكره أبو الليث في "البستان"، وسمي نوحًا لكثر نوحه وبكائه من خوف الله تعالى، وُلد بعد مضيّ ألف وست مئة واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم عليه السلام، قال في "التحبير" (١) روى ابن جرير عن ابن عباس، أن نوحًا بعث وهو ابن ثلاث مئة وخمسين، وهو نوح بن لمك بفتح اللام وسكون الميم والكاف ابن متوشلخ - بضم الميم وفتح التاء الفوقية، والواو وسكون الشين وكسر اللام وبالخاء المعجمة، كما ضبطه ابن الأثير - بن إدريس بن بزد بن أهاليل بن قيتان بن أنوش بن شيث بن آدم، وبين
(١) التحبير.
354
آدم ونوح ألف سنة، اهـ.
وفي "القرطبي": وكان اسم نوح السكن، وإنما سمي السكن؛ لأن الناس بعد آدم سكنوا إليه، فهو أبوهم. ووُلد له سام وحام ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم، وفي كل هؤلاء خير، وولد حام القبط والسودان وبربر، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وليس في كل هؤلاء خير، وقال ابن عباس: في ولد سام بياض وأدمة، وفي ولد حام سواد وبياض قليل، وفي ولد يافث الصفرة والحمرة، وكان له ولد رابع وهو كنعان الذي غرق، والعرب تسميه يام.
﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾ وهم أهل الدنيا كلها، والفرق (١) بين عموم رسالته وبين عموم رسالة نبينا - ﷺ -: أن نبينا - ﷺ - مبعوث إلى من في زمانه، وإلى من بعده إلى يوم القيامة، بخلاف نوح، فإنه مرسل إلى جميع أهل الأرض في زمانه لا بعده. كما في "إنسان العيون".
وهو أول نبي بُعث إلى عبدة الأصنام؛ لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه، فأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك، وأيضًا أول نبي بُعث إلى الأقارب والأجانب، وأما آدم فأول رسل الله إلى أولاده بالإيمان به وتعليم شرائعه، وهو؛ أي: نوح عليه السلام أبونا الأصغر، وقبره بكرك (بالفتح) من أرض الشام، كما في "فتح الرحمن". وفي "الخطيب": (٢) وأما قبره: فقد روح ابن جرير والأزرقي حديثًا مرسلًا، أن قبره بالمسجد الحرام، وقيل: ببلد البقاع يُعرف اليوم بكرك نوح، وهناك جامع قد بُني بسبب ذلك، اهـ.
﴿فَلَبِثَ﴾ نوح عليه السلام؛ أي: مكث وأقام ﴿فِيهِمْ﴾؛ أي: في قومه بعد الإرسال ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾ يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته فلم يجيبوه، والألف العدد المخصوص، سمي بذلك لكون الأعداد فيه مؤلفة، فإن الأعداد أربعة آحاد وعشرات ومئون وألوف، فإذا بلغ الألف فقد ائتلف وما بعده ويكون مكررًا، قال
(١) روح البيان.
(٢) الخطيب.
355
بعضهم: الألف من ذلك؛ لأنه مبدأ النظام ﴿إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾، قال ابن عباس: كان عمر نوح عليه السلام ألفًا وخمسين سنة بُعث على رأس أربعين سنة، ولبث في قومه تسع مئة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان ستين سنة.
والعام (١) كالسنة، لكن كثيرًا ما تُستعمل السنة في الحول الذي فيه الشدة والجدب، ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام فيما فيه الرخاء.
فإن قلت: لِم غاير بين تمييز العددين، فقال في الأول: سنة، وفي الثاني عامًا؟
قلت: فرارًا من ثقل التكرار؛ لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة، إلا إذا كان لغرض من تفخيم أو تهويل أو تنويه، ذكره أبو حيان.
فإن قلت: لِمَ خص لفظ العام بالخمسين والألف بالسنة ولم يعكس؟
قلت: إيذانًا بأن نوحًا عاش بعد إغراق قومه ستين سنة في طيب زمان وصفاء عيش، وراحة بال، والعرب تعبر عن الخصب بالعام، وعن الجدب بالسنة. اهـ. "سمين". وقيل: سمى السنة عامًا لعوم الشمس في جميع بروجها. والعوم السباحة، ويدل على معنى العوم قوله تعالى: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
فإن قلت: ما الفائدة في ذكر مدة لبثه؟
قلت: كان رسول الله - ﷺ - يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإِسلام، فقال الله سبحانه له: إن نوحًا لبث هذا العدد الكثير، ولم يؤمن من قومه إلا القليل، فصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك. اهـ "رازي".
فإن قلت (٢): ما فائدة العدول إلى ما قاله عن تسع مئة وخمسين مع أنه عادة الحُسَّاب؟
قلت: عدل إلى ما قاله؛ لأن: الاستثناء يدل على التحقيق، وتركه قد يُظنُّ
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
356
به التقريب، فهو كقول القائل: عاش فلان مئة سنة، فقد يُتوهم السامع أنه يريد مئة سنة تقريبًا لا تحقيقًا. فإن قال: مئة سنة إلا شهرًا.. زال ذلك التوهم وفُهم منه التحقيق، الاستثناء من الألف استُدل به على جواز الاستثناء من العدد، وفي كونه ثابتًا من لسان العرب خلاف مذكور في النحو، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك.
ومعنى الآية (١): فلبث بين أظهرهم تسع مئة وخمسمين سنة يخوِّفهم من عذاب الله، ولا يلتفتون إليه، وإنما ذكر الألف تخييلًا لطول المدة إلى السامع؛ أي: ليكون أفخم في أذنه، ثم أخرج منها الخمسين إيضاحًا لمجموع العدد.
والفاء في قوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ للتعقيب؛ أي: أغرقهم عقيب تمام، المدة المذكورة الماء الكثير، المحيط بهم، المرتفع على أعلى جبل أربعين ذراعًا، أو خمسة عشر ذراعًا. ﴿وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم مستمرون على ظلمهم وكفرهم.
قال ابن عباس: مشركون، والطوفان - كما سيأتي - يُطلق على كل ما يطوف بالشيء ويحيط به، على كثرة وشدة وغلبة، من السيل والريح والظلام والقتل والموت والطاعون والجدري والحصبة والمجاعة، وقد غلب على طوفان الماء، وقد طاف الماء ذلك اليوم بجميع الأرض، والحال أنهم مستمرون على الظلم والكفر، لم يستمعوا إلى داير الحق هذه الدة المتمادية، ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح، وذكَّرهم هذه المدة بطولها
١٥ - ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ﴾؛ أي: فأنجينا نوحًا من الغرق والابتلاء بمشاق الكفرة ﴿وَ﴾ أنجينا ﴿أَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ أي: ومن ركب معه فيها من أولاده وأتباعه.
واختُلف في عددهم على أقوال: قيل (٢): كانوا ثمانين، وقيل: ثمانيةً وسبعين، وقيل: عشرة، نصفهم ذكور ونصفهم أناث. ﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾؛ أي: السفينة ﴿آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾؛ أي: عبرةً عظيمةً لمن بعدهم من الأهالي يتعظون بها، أو دلالة
(١) روح البيان.
(٢) البيضاوي.
357
يستدلون بها على قدرة الله سبحانه، وقيل: إن الضمير في جعلناها عائد إلى الواقعة، أو إلى النجاة، أو إلى العقوبة بالغرق، قال أبو الليث في "تفسيره": وقد بقيت السفينة على الجودي إلى قريب من وقت خروج النبي - ﷺ -، وبين الطوفان والهجرة الشريفة ثلاثة آلاف وتسع مئة وأربع وسبعون سنة، على ما في "فتح الرحمن"، وكان ذلك علامة وعبرة لمن رآها ولمن لم يرها؛ لأن الخبر قد بلغه، وقال بعضهم: سفينة نوح أول سفينة في الدنيا، فأبقيت السفن آيةً وعبرةً للخلائق وعلامةً من سفينة نوح، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً﴾.
روي (١): أن نوحًا بُعث على رأس الأربعين، ودعا قومه تسع مئة وخمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين عامًا حتى كثر الناس وفشوا، وذلك من أولاد حام وسام ويافث؛ لأنهم لما خرجوا من السفينة ماتوا كلهم إلا أولاد نوح، كما في "البستان"، فيكون عمره ألفًا وخمسين عامًا، وهو أطول الأنبياء عمرًا، فلما حضره الموت قال له ملك الموت: يا أطول الأنبياء عمرًا، كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار لها بابان دخلت وخرجت، ، وما أحسن ما قيل فيها:
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلِّ سَحَابَةٍ أَظَلَّتْكَ يَوْمًا ثُمَّ عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ
فَلاَ تَكُ فَرْحَانًا بِهَا حِيْنَ أَقْبَلَتْ وَلا تَكُ جَزْعَانًا بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ
قال الحسن: أفضل الناس يوم القيامة المؤمن المعمر، انتهى. اللهم أركبنا جواري الشريعة، وأوصلنا بها إلى صحارى الجنة، فليجِدَّ مَنْ وقع في طوفان نفسه حتى يجد الخلاص، وإليه الملجأ والمناص.
وحاصل معنى الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى أرسل (٢) نوحًا إلى قومه فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا سرًا وجهرًا، وما زادهم ذلك إلا فرارًا من الحق، وإعراضًا عنه، وتكذيبًا له، وما آمن معه إلا قليل منهم، فأنزل الله عليهم الطوفان، فأهلكهم وهم مستمرون في الظلم، لم
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
358
يتأثروا بما سمعوا من نوح من الآيات، ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة، فأنجى الله نوحًا ومن معه ممن ركب السفينة من أتباعه، وكانت تلك السفينة عبرةً وموعظة أمدًا طويلًا مدة بقائها على جبل الجودي، ينظر إليها الناس، وترشدهم إلى نعمته على خلقه بالنجاة من الطوفان، كما قال: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (١٢)﴾. وقد تقدم تفصيل هذا في سورة هود.
العبرة من هذا القصص: لا يحزننك أيها الرسول ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى، فإني وإن أمليت لهم وأطلت إملاءهم، فإن مصيرهم إلى البوار، ومصيرك ومصير أصحابك إلى العلو والنصر كفعلنا بقوم نوح، إذ أغرقناهم بالطوفان، وأنجينا نوحًا وأتباعه من راكبي السفينة، وجعلناها عبرة للعالمين، وفي ذلك إيماء إلى أن نوحًا قد لبث هذا الأمد الطويل، يدعو قومه ولم يؤمن إلا القليل فصبر وظفر، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك، وكثرة عدد أمتك.
قصة إبراهيم عليه السلام
١٦ - وقوله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ منصوب عطفًا على نوحًا؛ أي: ولقد أرسلنا إبراهيم عليه السلام، من قبل إرسالنا إياك يا محمد، أو منصوب باذكر مقدرًا، وقوله: ﴿إِذْ قَالَ﴾ (١) بدل اشتمال من إبراهيم؛ لأن الأحيان تشتمل على ما فيها؛ أي: واذكر إبراهيم وقت قوله لقومه، أو ظرف لأرسلناك المقدر؛ أي: ولقد أرسلنا إبراهيم حين بلغ من السن، أو العلم مبلغًا صلح فيه لأن يعظ قومه، ويأمرهم بالعبادة والتقوى.
قرأ الجمهور (٢): ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ بالنصب، ووجهه ما قدمنا، وقرأ النخعي وأبو جعفر وأبو حنيفة: بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، تقديره؛ أي: ومن المرسلين إبراهيم.
(١) النسفي.
(٢) الشوكاني.
وهذه القصة تمثيل لقريش، وتذكير لحال أبيهم إبراهيم، من رفض الأصنام، والدعوى إلى عبادة الله سبحانه؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة إبراهيم إذ قال: ﴿لِقَوْمِهِ﴾ أهل بابل، ومنهم نمرود، وكان نمرود وأهل مدينته عباد أصنام، ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وحده ولا تشركوا به شيئًا ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ أي: خافوا عقابه بامتثال أوامره وأجتناب نواهيه، فقوله (١): ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إشارة إلى إثبات الإله الواحد، وقوله: ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ إشارة إلى نفي غيره. وقيل: فاعبدوا الله، إشارة إلى الإتيان بالواجبات، فيدخل فيه الاعتراف بالله، واتقوه: إشارة إلى الامتناع من المحرمات، فيدخل فيه الامتناع من الشرك.
﴿ذَلِكُمْ﴾ المذكور من عبادة الله وتقواه ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: أفضل لكم مما أنتم عليه من الشرك والمعاصي، ومعنى التفضيل مع أنه لا خير قطعًا باعتبار زعمهم الباطل ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الخير والشر، وتميزون أحدهما عن الآخر، أو كنتم تنظرون في الأمور بنظر الحلم دون نظر الجهل، أو إن كان لكم علم بما هو خير لكم، مما هو شر لكم فاعبدوه واتقوه.
ومعنى الآية (٢): أي واذكر يا محمد لقومك قصص إبراهيم حين كمل عقله، وقدر على النظر والاستدلال، وترقى من مرتبة الكمال إلى مرتبة إرشاد الخلق، وتصدى للدعوة إلى طريق الحق، فدعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في السر والعلن، واتقاء لسخطه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
ثم بين لهم فائدة ذلك، فقال: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: فذلك الذي آمركم به خير لكم مما أنتم عليه، إن كان لديكم ذرة من الإدراك والعلم، تميزون بها الخير من الشر، وتعلمون ما ينفعكم في مستأنف حياتكم الدنيوية والأخروية.
١٧ - ثم أرشدهم إلى فضل ما يدعوهم إليه، وفساد ما هم عليه بقوله: {إِنَّمَا
(١) المراح.
(٢) المراغي.
360
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}؛ أي: أحجارًا لا تستحق العبادة ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾؛ أي: وتكذبون حيث تسمونها آلهة، وتدعون أنها شفعاؤكم؛ أي: ما تعبدون من دون الله إلا تماثيل هي مصنوعة بأيديكم لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر، وتفترون كذبًا حين تسمونها آلهة، وتدعون أنها تشفع لكم عند ربكم، والأوثان هي الأصنام.
وقال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس، والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة، وقال الجوهري: الوثن الصنم، والجمع أوثان، وقال بعضهم (١): الصنم هو الذي يؤلف على صورة الإنسان سواء كانت من ذهب أو فضة أو حجر أو غيرها، والوثن هو ما يؤلف من حجر أو شجر على غير صورة الإنسان، يقال خلق واختلق؛ أي: افترى لسانًا أو يدًا كنحت الأصنام، كما في "كشف الأسرار". والإفك: أسوأ الكذب، والمعنى: وتكذبون كذبًا حيث تسمونها آلهة، وتدعون أنها شفعاؤكم عند الله، وهو استدلال على شرارة ما هم عليه، من حيث إنه زور وباطل.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَتَخْلُقُونَ﴾ مضارع خلق الثلاثي ﴿إِفْكًا﴾ بكسر الهمزة وسكون الفاء، وقرأ علي والسلمي وعون العقيلي وعبادة وابن أبي ليلى وزيد بن علي ﴿تخلقون﴾ بفتح التاء والخاء واللام مشددة، قال ابن مجاهد: رويت عن ابن الزبير، وأصله تتخلقون، بتاءين فحذفت إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة، وقرأ زيد بن علي فيما ذكر الأهوازي ﴿تُخَلِّقون﴾ من خلَّق المضعف، وقرأ ابن السميفع وأبو المتوكل: ﴿تختلقون﴾ بزيادة التاء، من اختلق من باب افتعل الخماسي، وقرأ ابن الزبير وفضيل بن زرقان ﴿إِفْكًا﴾ بفتح الهمزة وكسر الفاء، وهو مصدر مثل الكذب. قال ابن عباس: وتخلقون إفكا هو نحت الأصنام وخلقا، سماها إفكًا توسعًا من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) زاد المسير.
361
ثم استدل على شرارة ذاك، من حيث إنه لا يجدي بطائل، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى من الأوثان ﴿لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾؛ أي: لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئًا من الرزق. ﴿فَابْتَغُوا﴾؛ أي: فاطلبوا يا قوم ﴿عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ كله فإنه القادر على إيصال الرزق إليكم؛ أي: اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله سبحانه، فهو الذي عنده الرزق كله، فاسألوه من فضله ﴿وَاعْبُدُوهُ﴾ دون غيره لكونه مستحقًا للعبادة لذاته، ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيدين للنعمة بالشكر، ومستجلبين بالمزيد، فإن الشكر موجب لبقائها، وسبب للمزيد عليها، قال (١) ابن عطاء: اطلبوا الرزق بالطاعة والإقبال على العبادة، وقال سهل: اطلبوا الرزق في التوكل، لا في الكسب، وهذا سبيل العوام. ﴿إِلَيْهِ﴾ لا إلى غيره ﴿تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: تردون بالموت ثم بالبعث، فافعلوا ما أمرتكم به فهو خير لكم.
فائدة (٢): ذكر الرزق أولًا، ثم عرَّفه ثانيًا، في قوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾؛ لأنه أراد بذلك أن الذين تعبدون من دون الله لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئًا من الرزق، فابتغوا عند الله الرزق كله، فإنه هو الرازق لا غيره،
١٨ - وقوله: ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ من قول إبراهيم عليه السلام لقومه، والمعنى عليه أي (٣): وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به، من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث، فلا تضروني بتكذيبكم، فإن من قبلكم من الأمم قد كذبوا من قبلي من الرسل، وهم شيث وإدريس ونوح عليهم السلام، فلم يضروهم بتكذيبهم شيئًا، أو من قول الله سبحانه في شأن رسول الله - ﷺ -، وشأن قريش، معترض بين أول قصة إبراهيم وآخرها، والمعنى عليه أي: وإن تكذبوا محمدًا - ﷺ -، فذلك عادة الكفار مع من سلف من الرسل ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ﴾ الذي أُرسل إلى أمة من الأمم ﴿إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: إلا التبيلغ الواضح الذي لا يبقى معه شك ولا إشكال، ولا شبهة
(١) روح البيان.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) المراح.
إلى القوم الذي أرسل إليهم، وليس عليه هدايتهم وليس ذلك في وسعه.
وحاصل معنى الآيتين (١): أي إن أوثانكم التي تعبدونها لا تقدر أن ترزقكم شيئًا من الرزق، الذي لا قوام لكم بدونه، فكيف تعبدونها، ثم ذكر لهم من ينبغي أن يعبد ويبتغى منه الرزق، فقال: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ إلخ؛ أي: فالتمسوا الرزق عند الله لا عند أوثانكم، تدركوا ما تطلبون، واعبدوه وحده، واشكروا له نعمه عليكم، مستجلبين بذلك المزيد من فضله، وبعد أن ذَكَر أنه هو الرازق في الدنيا والمنعم على عباده، بيَّن أن المرجع إليه في الآخرة، فهو الذي يُطلب رضاه، والتقرب إليه والزلفى عنده، فقال: ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: واستعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر له، فإنكم إليه ترجعون فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره، وأنتم عباده وخلقه، وفي نعمه تتقلبون، ومن رزقه تأكلون.
ولما فرغ من إرشادهم إلى الدين الحق.. حذرهم من تركه وهددهم بما حل بمن قبلهم من المكذبين للرسل، فقال: ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا﴾ إلخ؛ أي: وإن تصدقوني فقد فزتم بسعادة الدارين، وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به فلا تضروني بتكذيبكم، فقد كذب أمم من قبلكم رسلهم، كقوم إدريس ونوح، فجرى الأمر على ما سنه الله تعالى في الخلق، من نجاة المصدقين للرسل وهلاك العاصين لهم. ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: وما ضر ذلك الرسل شيئًا، بل هم قد ضروا أنفسهم، فما على الرسول إلا التبليغ الذي لا يبقى معه شك، وهو المقترن بآيات الله ومعجزاته، وما عليه أن يصدقه قومه، وقد خرجت من عهدة التبليغ، ولا عليَّ بعد ذلك أصدقتم أم كذبتم.
١٩ - ولما بين الله سبحانه وتعالى (٢) الأصل الأول وهو التوحيد، وأشار إلى الثاني وهو الرسالة، بقوله: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر، وهذه الأصول الثلاثة لا ينفك بعضها عن بعض في
(١) المراغي.
(٢) النهر.
363
الذكر الإلهي، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري؛ أي (١): لإنكار عدم رؤيتهم، الموجب لتقريرها داخلة على محذوف، والواو عاطفة على كذلك المحذوف، والتقدير: ألم ينظروا؛ أي: أهل مكة وكفار قريش، ولم يروا؛ أي: ولم يعلموا علمًا، جاريًا مجرى الرؤية في الجلاء والظهور ﴿كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ أي: يخلقهم ولم يكونوا شيئًا مذكورًا، ويخلقهم من نطفة من غذاء، هو ماء وتراب، وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة، فإن الإعادة مثل البدء؛ أي: ألم يعلموا كيفية خلق الله ابتداء من مادة ومن غير مادة؛ أي: قد علموا.
﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أي: ثم هو يعيد الخلق، ويردهم إلى الوجود في الآخرة عند البعث، وهو معطوف (٢) على قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ لا على يبدأ، لعدم وقوع الرؤية عنيه، فهو إخبار بأنه تعالى يعيد الخلق، قياسًا على الإبداء.
فإن قلت: أوليس هذا من عطف الخبر على الإنشاء؟
أجيب: بأن الاستفهام فيه لما كان للإنكار، وتقرير الرؤية، كان إخبارًا من حيث المعنى؛ أي: قد رأوا ذلك وعلموه. اهـ "زاده".
وقد جُوِّز العطف على (يبدأ) بتاويل الإعادة، بإنشائه تعالى كل سنة ما أنشأه في السنة السابقة، من النبات والثمار وغيرهما، فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث، ووقوعه من غير ريب. ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ المذكور من الإعادة، أو من الخلق الأول والخلق الثاني ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾؛ أي: سهل لا نصب فيه، إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء من الاْسباب؛ لأنه إذا أراد أمرًا قال: له كن، فيكون.
وحاصل المعنى (٣): أن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، أرشد قومه إلى إثيات المعاد الذي ينكرونه، بما يشاهدونه في أنفسهم من خلقهم، بعد أن لم
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
364
يكونوا شيئًا مذكورًا، ثم إعطائهم السمع والبصر والأفئدة وتصرفهم في الحياة إلى حين، ثم موتهم بعد ذلك، والذي بدأ هذا قادر على أن يعيده بل هو أهون عليه، كما قال في آية أخرى ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾.
وخلاصة هذا: أنتم قد علمتم ذلك، فكيف تنكرون الإعادة، وهي أهون عليه.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بخلاف عنه (١): ﴿تروا﴾ بتاء الخطاب، وباقي السبعة بالياء، والجمهور ﴿يُبْدِئُ﴾ مضارع أبدأ الرباعي، وقرأ الزبير وعيسى وأبو عمرو بخلاف عنه ﴿يبدأ﴾ مضارع بدأ الثلاثي، وقرأ الزهري ﴿كيف بدا الخلق﴾ بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفًا، فذهبت في الوصل، وهو تخفيف غير قياسي وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين.
والمعنى: ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، ثم يخرجه إلى الدنيا، ثم يتوفاه بعد ذلك، وكذلك سائر الحيوانات، وسائر النباتات، فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد أولًا، فهو القادر على الإعادة.
٢٠ - ثم أمر الله سبحانه إبراهيم (٢) أن يأمر قومه بالمسير في الأرض، ليتفكروا ويعتبروا، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا إبراهيم، لقومك المنكرين للبعث ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: سافروا في أقطار الأرض ونواحيها ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾؛ أي: فانظروا إلى الأشياء المخلوقة، كيف خلقها ابتداء على كثرتها، واختلاف ألوانها وطبائعها، وألسنتها وأفعالها ومعيشتها، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية، والأمم الخالية وآثارهم، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وقيل: إن المعنى: قل يا محمد لمشركي العرب، ومنكري البعث: سيروا في نواحي الأرض فانظروا بأعينكم كيف خلق الله الخلق ابتداء على تلك الأشكال العجيبة، والأحوال الغريبة، لتعلموا قدرة الصانع الحكيم والمدبر العلم.
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
365
﴿ثُمَّ اللَّهُ﴾ الذي بدأ النشاة الأولى وخلقها على تلك الكيفية العجيبة والأشكال الغريبة ﴿ينشئـ﴾ ـها ﴿النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾؛ أي: نشأة ثانية عند البعث.
والنشأة (١) مصدر مؤكد لينشىء بحذف الزوائد، والأصل الإنشاءة، قال الراغب: الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته، وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان، اهـ. أو على حذف العامل؛ أي: ينشىء فينشؤون النشأة الآخرة، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾؛ أي: فنبتت نباتًا حسنًا، والنشاة الآخرة هي النشأة الثانية، وهي نشأة القيام من القبور، والجملة معطوفة على جملة سيروا في الأرض، داخلة معها في حيز القول، وعطف الإخبار على الإنشاء جائز فيما له محل من الإعراب، وإنما لم تُعطف على قوله: ﴿بَدَأَ الْخَلْقَ﴾؛ لأن النظر غير واقع على إنشاء النشأة الآخرة، فإن الفكر يكون في الدليل، لا في النتيجة.
والمعنى: ثم الله يوجد الإيجاد الآخر، ويحيي الحياة الثانية؛ أي: بعد النشاة الأولى التي شاهدتموها، وهي الإبداء، فإنه والإعادة نشأتان من حيث إن كلًّا إبداع وإخراج من العدم إلى الوجود.
وجملة قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تعليل لما قبلها؛ لأن قدرته لذاته، ونسبة ذاته إلى كل الممكنات على حد سواء، فيقدر على النشاة الأخرى، كما قدر على النشأة الأولى، فمن علم قدرته تعالى على جميع الأشياء التي منها النشاة الآخرة، لا يتصور أن يتردد في وقوع الإعادة بعدما أخبر الله به.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (٢): ﴿النشآءة﴾ هنا، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة، وباقي السبعة النشأة على وزن فعلة، وهما كالرآفة والرأفة وهما لغتان، والقصر أشهر، وفي الآية الأولى صرح سبحانه باسمه في قوله: ﴿كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ ثم أضمر في قوله: ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ وهنا عكس أضمر في بدأ، ثم أبرزه في قوله: ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ﴾ حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه، ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها، وتقرير وجودها إذ كان نزاع
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
366
الكفار فيها، فكأنه قيل: ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي ينشأ النشأة الآخرة، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه.
وحاصل معنى الآية (١): أي سيروا في الأرض وشاهدوا السموات وما فيها من الكواكب النيِّرة ثوابتها وسياراتها، والأرض، وما فيها من جبال ومهاد وبراري وقفار وأشجار وثمار وأنهار وبحار، فكل ذلك شاهد على حدوثها في أنفسها، وعلى وجود صانعها الذي يقول للشيء كن فيكون، أوليس من فعل هذا بقادر على أن ينشئه نشأة أخرى، ويوجده مرة ثانية. وهو القادر على كل شيء، وشبيه بالآية قوله في الآية الأخرى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.
٢١ - ولما أقام الدليل على الإعادة، رتب عليها ما سيكون بعدها، فقال: ﴿يُعَذِّبُ﴾ سبحانه بعد النشأة الآخرة ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ ويريد تعذيبه من الكفار والعصاة، ﴿وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ رحمته من المؤمنين به، المصدقين لرسله، العاملين بأوامره ونواهيه، وتقديم (٢) التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب؛ لأن الكلام مع الكفار مكذبي الرسل. ﴿وَإِلَيْهِ﴾ تعالى لا إلى غيره ﴿تُقْلَبُونَ﴾؛ أي: تردون بالبعث، فيفعل بكم ما يشاء من التعذيب والرحمة، مجازاة على أعمالكم.
والمعنى: أي يعذب سبحانه من يشاء منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة، بعدله في حكمه بحسب سننه في خلقه، ويرحم من يشاء بفضله ورحمته، فهو الحاكم المتصرف يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون. ﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾؛ أي: وإليه سبحانه تردون بعد موتكم.
والمراد: أنه إن تأخر ذلك عنكم، فلا تظنوا أنه قد فات، فإن إليه إيابكم وعليه حسابكم، وعنده يُدَّخر ثوابكم وعقابكم
٢٢ - ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾؛ أي:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
بممتنعين عن إجراء حكمه وقضائه عليكم، وإن هربتم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ الواسعة بالتواري فيها ﴿وَلَا﴾ بالتحصن ﴿فِي السَّمَاءِ﴾ التي هي أوسع من الأرض، لو استطعتم الترقي فيها، يعني كنتم في الأرض أو في السماء لا تقدرون أن تهربوا منه، فهو يُدرككم لا محالة، ويُجرى عليكم أحكام تقديره، والخطاب فيها لجميع الناس.
والمعنى (١): أنه تعالى لا يعجزه أحد من أهل سمواته ولا أرضه، بل هو القاهر فوق عباده، فكل شيء فقير إليه، فلو صعد إلى السماكين أو هبط إلى موضع السُّمولِ في الماء ما خرج من قبضته، وما استطاع الهرب منه، وقيل (٢): هذا خطاب لقوم فيهم النموود الذي حاول الصعود إلى السماء، وزاد هنا لفظة ﴿ولا في السماء﴾، واقتصر في الشورى على ﴿في الأرض﴾؛ لأن ما هنا خطاب لقوم فيهم النمرود، الذي حاول الصعود إلى السماء فأخبرهم بعجزهم، وأنهم لا يفوتون الله لا في الأرض ولا في السماء، وما في الشورى خطاب للمؤمنين بقرينة قوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ وقد حذفا معًا للاختصار في قوله في الزمر ﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾. اهـ زكريا.
ولما بيَّن أنهم مقدور عليهم جميعًا، لا يفلتون منه، ذكر إنه لا يستطيع أحد نصرهم، فقال: ﴿وَمَا﴾ كان ﴿لَكُمْ﴾ أيها الناس ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ﴾؛ أي: قريب يلي أموركم ويحرسكم من أن يصيبكم بلاء أرضي أو سماوي ﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾ يدفع عذاب الله عنكم إن قُدِّر عليكم، يعني ليس غيره تعالى يحرسكم مما يصيبكم من بلاء يظهو من الأرض أو ينزل من السماء، ويدفعه عنكم إن أراد بكم ذلك، قال بعضهم: الولي (٣) الذي يدفع المكروه عن الإنسان والنصير الذي يأمر بدفعه عنه، والولي أخص من النصير، إذ قد ينصر من ليس بولي، انتهى.
٢٣ - ولما قرر التوحيد والبعث، هدد من خالفهما وتوعده فقال: {وَالَّذِينَ
(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
368
كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} سبحانه؛ أي: بدلائله التكوينية والتنزيلية، الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله، فيدخل فيها النشاة الأولى الدالة على تحقق البعث، والآيات الناقة دخولًا أوليًا، قال في "كشف الأسرار": الكفر بآيات الله أن لا يستدل بها عليه، وتُنسب إلى غيره، ويجحد موضع النعمة فيها.
﴿وَلِقَائِهِ﴾ الذي تنطق به تلك الآيات، ومعنى (١) الكفر بلقاء الله: جحود الورود عليه، وإنكار البعث وقيام الساعة والحساب والجنة والنار. ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذُكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه ﴿يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾ قنطوا منها في الدنيا، لإنكارهم البعثث والجزاء، فلا يرجون الجنة؛ لأنه لم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله، ولا ما أخبرتهم به رسله، أو ييأسون منها يوم القيامة، والتعبير بصيغة الماضي للدلالة على تحققه، واليأس: انقطاع الطمع، كما في "المفردات".
﴿وَأُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالكفر بالآيات واللقاء، وباليأس من الرحمة الممتازون بذلك عن سائر الكفرة ﴿لَهُمْ﴾ بسبب تلك الأوصاف القبيحة ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: وجيع لا يقادر قدره في الشدة والإيلام.
وقرأ الجمور: ﴿يَئِسُوا﴾! بالهمز، وقرأ الذماري وأبو جعفر بغير همز، بل بياء بدل الهمز، ذكره أبو حيان.
كرر سبحانه الإشارة للتأكيد (٢)، ووصف العذاب بكونه أليمًا للدلالة على أنه في غاية الشدة، وأضاف (٣) الرحمة إلى نفسه، ولم يُضف العذاب إليها لسبق رحمته، وإعلامًا لعباده بعمومها لهم، ويأسهم من رحمة الله تعالى؛ لأنه سبحانه له في كل شيء آية دالة على وحدانيته، فإذا أشرك أحد كفر بآيات الله، وإذا أنكر الحشر كفر بلقاء الله، وأخرج نفسه عن محل رحمة الله، وإذا جعل له آلهة لم يقر
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) الفتوحات.
369
بالحاجة إلى طريق متعين، فييأس من رحمة الله، ولما أنكر الحشر وقال: لا عذاب عذبه الله سبحانه تحقيقًا للأمر عليه، فعدم الرحمة يناسب الإشراك، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر.
وقال في "الخازن" قوله: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ آخر الآيات في تذكير أهل مكة، ثم عاد إلى قصة إبراهيم عليه السلام فقال: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ إلخ. قال أبو حيان (١): والظاهر أن قوله: ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من كلام الله حكاية عن إبراهيم إلى قوله: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وقيل: هذه الآيات اعتراض من كلام الله تعالى، بين كلام إبراهيم والإخبار عن جواب قومه؛ أي: وإن تكذبوا محمدًا، فتقدير هذه الجمل اعتراضًا يردُّ على أبي علي الفارسي، حيث زعم أن الاعتراض لا يكون جملتين فأكثر.
وفائدة هذا الاعتراض: أنه تسلية للرسول - ﷺ -، حيث كان قد ابتلي بمثل ما كان أبوه إبراهيم قد ابتلي به، من شرك قومه، وعبادتهم الأوثان، وتكذيبهم إياه، ومحاولتهم قتله، وجاءت الآيات بعد الجملة الشرطية، مقررة لما جاء به الرسول من توحيد الله ودلائله، وذكر آثار قدرته والمعاد، انتهى.
ومعنى الآية: أي والذين كفروا بالدلائل التي نصبها سبحانه في الكون، دالةً على توحيده، والدلائل التي أنزلها على رسله مرشدة إلى ذلك، وجحدوا لقاءه والورود إليه يوم تقوم الساعة، أولئك لا أمل لهم في رحمته؛ لأنهم لم يخافوا عقابه، ولم يرجوا ثوابه، ولهم عذاب مؤلم موجع في الدنيا والآخرة، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
الإعراب
﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)﴾.
(١) البحر المحيط.
370
﴿الم (١)﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذ ألَمَ، أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ألَمَ هذا محله، أو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اقرأ ألَمَ، أو مفعول لاسم فعل محذوف، تقديره: هاك ألَمَ، أو مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: انظر في ألَمَ، وإعرابه على كل من الأوجه الخمسة، بحركة مقدرة منع من ظهورها سكون الوقف، هذه الأوجه كلها إن قلنا إنه علم للسورة، وإن قلنا إنه من الحروف التي استأثر الله سبحانه بعلمها، فلا محل لها من الإعراب؛ لأن الإعراب فرع عن إدراك المعنى، وقد تقدم لنا مرارًا بيان ما فيه من الأقوال المتلاطمة فيه من جهة المعنى والإعراب فجدد العهد بها. ﴿أَحَسِبَ﴾: الهمزة: فيه للاستفهام التقريري المضمن للتوبيخ. ﴿حَسِبَ النَّاسُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿يُتْرَكُوا﴾: فعل مغير، ونائب فاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية، في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿حَسِبَ﴾. ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة مع ﴿أَنْ﴾: المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره أن يتركوا لأجل قولهم آمنا، والجار المحذوف متعلق بـ ﴿يُتْرَكُوا﴾. ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُوا﴾. ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: واو الحال. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُفْتَنُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو لا يتركوا. ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿واللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق، ﴿فَتَنَّا﴾: فعل وفاعل، ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول. ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿واللام﴾: موطئة للقسم. ﴿يعلمن﴾ فعل مضارع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل. ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم وجملة القسم معطوفة على الجملة التي قبلها. وجملة ﴿صَدَقُوا﴾ صلة الموصول. ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿واللام﴾ موطئة للقسم. ﴿يَعْلَمَنَّ﴾: فعل مضارع مبني على الفتح، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿الْكَاذِبِينَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَعْلَمَنَّ﴾.
371
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥)﴾.
﴿أَمْ﴾: منقطعة تقدر ببل التي للإضراب الانتقالي، وبهزة الاستفهام التقريري، المضمن للتوبيخ. ﴿حَسِبَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿يَسْبِقُونَا﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ ﴿أن﴾؛ لأن أصله يسبقوننا، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿حَسِبَ﴾؛ أي: أم حسب الذين يعملون السيئات سبقهم إيانا. ﴿سَاءَ﴾: فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: هو. ﴿مَا﴾: نكرة موصوفة في محل النصب على التمييز، وجملة ﴿يَحْكُمُونَ﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿ما﴾، والرابط محذوف، تقديره: ساء هو شيئًا محكومًا لهم، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا، تقديره: حكمهم. ويجوز أن تعرب ما اسما موصولًا فاعل ﴿سَاءَ﴾، وجملة ﴿يَحْكُمُونَ﴾: صلتها. ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ مصدرية؛ أي: حكمهم، وعلى هذين الوجهين يكون التمييز محذوفًا؛ أي: ساء الذي يحكمونه حكمًا، أو ساء حكمهم حكمًا، وعلى كل التقادير فجملة ﴿سَاءَ﴾ مستأنفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم، في محل الرفع، مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿يَرْجُو﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿لِقَاءَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فليعمل عملًا صالحًا، ولا يشرك بعبادة ربه، كما صرح به في سورة الكهف، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية. ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه. ﴿لَآتٍ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿آت﴾: خبر ﴿إنَّ﴾ مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين؛ لأنه اسم منقوص. وجملة ﴿إن﴾ في محل الجر يلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية، المتعلقة بالجواب المحذوف ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ ﴿السَّمِيعُ﴾ خبر أول. ﴿الْعَلِيمُ﴾:
372
خبر ثان، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الجلالة، أو مستأنفة.
﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿جَاهَدَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَإِنَّمَا﴾: الفاء: رابطة الجواب. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، أو يقال: حرف كاف ومكفوف. ﴿يُجَاهِدُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿لِنَفْسِهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جواب الشرط، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب، واسمه. ﴿لَغَنِيٌّ﴾: خبره، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ متعلق بـ ﴿غَنِيٌّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، من تقرير أن جهاد الشخص لا يصل منه إلى الله نفع.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٧)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿لَنُكَفِّرَنَّ﴾: ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿نُكَفِّرَنَّ﴾: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به. ﴿سَيِّئَاتِهِمْ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله ﴿وَمَنْ جَاهَدَ﴾. ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿نَجْزِيَنّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿والهاء﴾: مفعول أول. ﴿أَحْسَنَ الَّذِي﴾ مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم قبلها.
373
﴿كَانُوا﴾: فعل نا قص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)﴾.
﴿وَوَصَّيْنَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿وَصَّيْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿الْإِنْسَانَ﴾: مفعول به. ﴿بِوَالِدَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿وَصَّيْنَا﴾. ﴿حُسْنًا﴾: نعت لمصدر محذوف، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: إيصاءً ذا حسن، أو هو في نفسه حسن على المبالغة، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان حق الوالدين، وتحديد طاعتهما بعدم معصية الله تعالى. ﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿جَاهَدَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿لِتُشْرِكَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿تُشْرِكَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على الإنسان. ﴿بِي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُشْرِكَ﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لإشراكك بي، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَاهَدَ﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به ﴿لِتُشْرِكَ﴾. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لَكَ﴾: خبر مقدم لـ ﴿لَيْسَ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿عِلْمٌ﴾. ﴿عِلْمٌ﴾: اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية، ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُطِعْهُمَا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ﴾. ﴿إِلَيَّ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية. ﴿أُنَبِّئُكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿بِمَا﴾: جار وجرور متعلق بـ ﴿أُنَبِّئُكُم﴾، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية مفرعة عليها. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبر ﴿كَان﴾، وجملة
374
﴿كاَن﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة لا محل لها من الإعراب.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، أو منصوب على الاشتغال كما في "السمين". ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿لَنُدْخِلَنَّهُمْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿نُدْخِلَنّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. والهاء مفعول به. ﴿فِي الصَّالِحِينَ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾: خبر مقدم. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان حال المنافقين. ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر صلة الموصول. ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾. ﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أُوذِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿فِي اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿أُوذِيَ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لـ ﴿إذا﴾. والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتتر. ﴿فِتْنَةَ النَّاسِ﴾ مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلَ﴾، وجملة ﴿جَعَلَ﴾ جواب ﴿إِذَا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ معطوفة على صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿وَلَئِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿إِنَّ﴾: حرف شرط جازم. ﴿جَاءَ نَصْرٌ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ صفة ﴿نَصْرٌ﴾. ﴿لَيَقُولُنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم مؤكدة للأولى. ﴿يَقُولُن﴾: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات
375
النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكتين، في محل الرفع فاعل، والنون الثقيلة نون التوكيد؛ لأن أصله ليقولونن، كما سيأتي في مبحث التصريف، والجملة الفعلية جواب القسم، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: وإن جاء نصر من ربك يقولون، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة بين القسم وجوابه، وجملة القسم مع جوابه معطوفة على جملة ﴿إِذَا﴾ الشرطية. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مَعَكُمْ﴾: خبره، وجملة ﴿كاَن﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾.
﴿أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١)﴾.
﴿أَوَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري المضمن للتوبيخ، داخلة على محذوف، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيحسبون أن الله لا يعلم ما في صدورهم وليس الله إلخ، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿لَيْسَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِأَعْلَمَ﴾: خبره. والباء: زائدة. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿أعلم﴾. ﴿فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿يَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾: فعل مضارع ونون توكيد وفاعل. ﴿الَّذِينَ﴾ مفعول به، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم في قوله: ﴿وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ﴾. ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يَعْلَمَنَّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر في محل الرفع، مبني على الفتح، والنون للتوكيد. ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾: مفعول به، والجملة جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم قبلها.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)﴾.
376
﴿وَقَالَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿اتَّبِعُوا﴾: فعل أمر وفاعل، ﴿سَبِيلَنَا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلْنَحْمِلْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. و ﴿اللام﴾: لام أمر وجزم. ﴿نَحْمِلْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بلام الأمر. ﴿خَطَايَاكُمْ﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿اتَّبِعُوا﴾. ﴿وَمَا هُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿مَا﴾: حجازية تعمل عمل ﴿ليَسَ﴾. ﴿هُمْ﴾: في محل الرفع اسمها. ﴿بِحَامِلِينَ﴾: خبرها، والباء: زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿قَالَ﴾. ﴿مِنْ خَطَايَاهُمْ﴾: جار ومجرور حال من شيء؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿شَيْءٍ﴾: مفعول به لـ ﴿حَامِلِينَ﴾: مجرور لفظًا منصوب تقديرًا. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَكَاذِبُونَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿كَاذِبُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة لتعليل الجزم بعدم حملهم شيئًا من خطاياهم. ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿يحملن﴾: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، والنون المشددة للتوكيد. ﴿أَثْقَالَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَأَثْقَالًا﴾: معطوف على ﴿أَثْقَالَهُمْ﴾. ﴿مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿أَثْقَالًا﴾، وجملة القسم مستأنفة. ﴿وَلَيُسْأَلُنَّ﴾: الواو: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿يسألن﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع نائب فاعل، والنون المشددة للتوكيد. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿يسألن﴾. والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم في قوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ﴾. ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يسألن﴾ وهو في موضع المفعول الثاني لـ ﴿سأل﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص وأسمه، وجملة ﴿يَفْتَرُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانُ﴾ صلة لما الموصولة.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ
377
الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (١٥)}.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، مسوقة لتأييد التكليف الذي ألزم محمد - ﷺ - به أتباعه؛ أي: إنه ليس مختصًا بمحمد وأتباعه. ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿فَلَبِثَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿لَبِثَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿فِيهِمْ﴾: متعلق به. ﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿لَبِثَ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿خَمْسِينَ﴾: منصوب على الاستثناء. ﴿عَامًا﴾ تمييز لـ ﴿خَمْسِينَ﴾ منصوب به. ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، معطوف على محذوف، تقديره: فكذبوه فأخذهم الطوفان. ﴿وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿أَخَذَهُمُ﴾. ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على قوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾. ﴿وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ معطوف على الضمير، أو مفعول معه. ﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول أول معطوف على ﴿أَنْجَيْنَاهُ﴾ ﴿آيَةً﴾ مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾. ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ صفة لـ ﴿آيَةً﴾.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧)﴾.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: منصوب بفعل محذوف، تقديره: واذكر إبراهيم، والجملة مستأنفة، مسوقة لسوق قصة ثانية بعد قصة نوح. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، بدل اشتمال من إبراهيم، ويصح أن يكون إبراهيم معطوفًا على نوحًا، و ﴿إِذْ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، والمعنى حينئذٍ: ولقد أرسلنا إبراهيم حين بلغ من السن مبلغًا، يخاطب فيه قومه بعبارات الوعظ والإرشاد. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر. ﴿لِقَوْمِهِ﴾: متعلق به، والجملة في
378
محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَاتَّقُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿اعْبُدُوا﴾. ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾: خبرها، وجواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم تعلمون خيرية ذلك، فاعبدوا الله واتقوه، والجملة الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿تَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: حال من فاعل ﴿تَعْبُدُونَ﴾؛ أي: حالة كونكم مجاوزين الله. ﴿أَوْثَانًا﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿تَعْبُدُونَ﴾. ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿تَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ حال من فاعل تعبدون ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَمْلِكُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿رِزْقًا﴾. و ﴿رِزْقًا﴾: مفعول به. لـ ﴿يَمْلِكُونَ﴾؛ لأنه بمعنى المرزوق، أو مصدر مؤول من أن والفعل؛ أي: لا يقدرون أن يرزقوكم، ويجوز نصبه على المصدر وناصبه لا يملكون؛ لأنه في معناه، وجملة لا يملكون في محل الرفع خبر ﴿إن﴾. وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَابْتَغُوا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: ابتغوا عند الله الرزق. ﴿ابْتَغُوا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿الرِّزْقَ﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿اعْبُدُوا﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿ابْتَغُوا﴾. ﴿وَاشْكُرُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿ابْتَغُوا﴾. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿اشكروا﴾. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾. و ﴿تُرْجَعُونَ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول قال.
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٨)
379
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩)}.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، إن قلنا إنه من كلام إبراهيم، أو اعتراضية إن قلنا إنه من كلام الله سبحانه، يخاطب قريشًا في شأن محمد - ﷺ -. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿تُكَذِّبُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لاقترانه بقد. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿كَذَّبَ أُمَمٌ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جواب الشرط ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ صفة لـ ﴿أُمَمٌ﴾، وقيل جواب الشرط محذوف، و ﴿الفاء﴾: تعليلية للمحذوف؛ أي: فلا يضرني تكذيبكم فقد كذب أمم من قبلكم أنبياءهم ورسلهم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقول ﴿قَالَ﴾، أو معترضة لاعتراضها بين كلام إبراهيم وجواب قومه. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿عَلَى الرَّسُولِ﴾: خبر مقدم. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿الْبَلَاغُ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿الْمُبِينُ﴾: صفة لـ ﴿الْبَلَاغُ﴾، والجملة الاسمية معطوفة على الجمل الشرطية. ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإتكاري، داخلة على محذوف. و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير ألم ينظر كفار مكة ولم يروا كيف. ﴿لَمْ يَرَوْا﴾: جازم وفعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب على الحال. من ﴿الْخَلْقَ﴾. ﴿يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب سادة مسد مفعولي ﴿يَرَوْا﴾؛ لأنها علقت عن العمل في اللفظ بالاستفهام، والرؤية هنا قلبية. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿يُعِيدُهُ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ لا على ﴿يُبْدِئُ﴾. ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسِيرٌ﴾. و ﴿يَسِيرٌ﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة.
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود إما إلى ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، أو إلى محمد - ﷺ -،
380
والجملة مستأنفة. ﴿سِيرُوا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملهّ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿فَانْظُرُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿سِيرُوا﴾. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب حال من مفعول ﴿بَدَأَ﴾. ﴿بَدَأَ الْخَلْقَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مفعول ﴿انْظُرُوا﴾ علق عنها باسم الاستفهام. وفي "البيضاوي": ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ حكاية كلام الله سبحانه لإبراهيم أو محمد عليها السلام، اهـ؛ أي: وليس من مقالة إبراهيم لقومه من عند نفسه، على تقدير أن تكون الآيات المذكورة من قوله: ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا﴾ إلى قوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ من قصة إبراهيم، ومن مقالة محمد - ﷺ - من عند نفسه، على جعلها معترضة بين أجزاء قصة إيراهيم إذ لا وجه لهما أن يقولا من عند أنفسهما ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾، بل الظاهر أنه كلام أحدهما لقومه على حكاية كلام الله لهم؛ أي: قال الله لي: قل لهم: سيروا في الأرض؛ أي قل لمنكري البعث يسيروا في الأرض ليشاهدوا كيف أنشأ الله جميع الكائنات، ومن قدر على إنشائها بدءًا يقدر على إعادتها. اهـ "زاده". ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿يُنْشِئُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿النَّشْأَةَ﴾: منصوب على المصدرية المحذوفة الزوائد، والأصل الإنشاءة. ﴿الْآخِرَةَ﴾: صفة لـ ﴿النَّشْأَةَ﴾، وجله ﴿يُنْشِئُ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿سِيرُوا﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلق بقدير. ﴿قَدِيرٌ﴾ خبره، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٢٢)﴾.
﴿يُعَذِّبُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول مفعول به لـ ﴿يُعَذِّبُ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلته، والعائد محذوف، تقديره من يشاء تعذيبه، وجملة ﴿يُعَذِّبُ﴾ في محل النصب حاله من الضمير المستكن في قدير، أو خبر ثان لـ ﴿إنَّ﴾ أو مستأنفة ﴿وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ معطوف على ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾.
381
﴿وَإِلَيْهِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُقْلَبُونَ﴾. ﴿تُقْلَبُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُعَذِّبُ﴾. ﴿وَمَا أَنْتُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية حجازية. ﴿أَنْتُمْ﴾: اسمها، ﴿بِمُعْجِزِينَ﴾: خبرها. والباء: زائدة. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: حال من الضمير المستكن في معجزين، ﴿وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾: معطوف على في الأرض، و ﴿لَا﴾ زائدة لتأكيد النفي المستفاد من ﴿مَا﴾؛ أي: بفائتين الله هربًا، حالة كونكم في الأرض أو في السماء، والجملة الاسمية في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: حال من ولي الآتي. ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿وَلِيٍّ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾: معطوف على ﴿وَلِيٍّ﴾ والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٣)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿وَلِقَائِهِ﴾: معطوف على ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان. ﴿يَئِسُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ رَحْمَتِي﴾: متعلق به والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أُولَئِكَ﴾، وجملة ﴿أُولَئِكَ﴾ خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول مستأنفة. ﴿وَأُولَئِكَ﴾: معطوف على ﴿أُولَئِكَ﴾ على كونه مبتدأ ثانيًا. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿أُولَئِكَ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الم (١)﴾ حروف مقطعة، عجزت الخلائق عن معرفة حقائقها. ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ﴾ الحسبان بالكسر، الظن كما في "القاموس". وقال في "المفردات": الحسبان هو أن يحكم لأحد النقيضين أحدهما على الآخر.
﴿أَنْ يُتْرَكُوا﴾ الترك: الإهمال. ﴿وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾؛ أي: لا يختبرون من فتن
382
فلان فلانًا، يفتنه من باب ضرب خبره وأحرقه، وأصله يقال فتن الصائغ الذهب، أذابه بالبوتقة ليختبره وليميز الجيد من الرديء، ويقال فتنه يفتنه، من باب ضرب أيضًا إذا أعجبه، واستماله وأوقعه في الفتنة.
﴿أَنْ يَسْبِقُونَا﴾ السبق الفوت، والمراد الفوت عن المجازاة، وأصل السبق المتقدم في السير، ثم تجوز به في غيره من المتقدم. ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ﴾ الرجاء: ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة، وتفسيره بالخوف؛ لأن الرجاء والخوف متلازمان، ولقاء الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه. ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾ الأجل: عبارة عن غاية زمان ممتد، عينت لأمر من الأمور، وقد يطلق على كل ذلك الزمان، والأول هو الأشهر في الاستعمال.
﴿وَمَنْ جَاهَدَ﴾ والمجاهدة استفراغ الجهد (بالضم)؛ أي: الطاقة في مدافعة العدو. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ قال أبو العباس المشتهر بزروق في شرح الأسماء الحسنى: الغني هو الذي لا يحتاج إلى شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، إذ لا يلحقه نقص، ولا يعترضه عارض، ومن عرف أنه الغني استغنى به عن كل شيء، ورجع إليه بكل شيء، وكان له بالافتقار في كل شيء، وللتقرب بهذا الاسم تعلق بإظهار الفاقة والفقر إليه أبدًا، وخاصية هذا الاسم وجود العافية في كل شيء، فمن ذكره على مرض أو بلاءً، أذهبه الله عنه، وفيه سر للغني، ومعنى الاسم الأعظم لمن استأهل به، انتهى.
وفي "الإحياء" يستحب أن يقول بعد صلاة الجمعة: اللهم يا غني يا حميد، يا مبدىء يا معيد، يا رحيم يا ودود، أغني بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، فيقال: من داوم على هذا الدعاء، أغناه الله تعالى عن خلقه، ورزقه من حيث لا يحتسب. انتهى.
﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ وتكفير الإثم: ستره وتغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل، قال بعضهم: التكفير إذهاب السيئة وإبطالها بالحسنة، وسترها وترك العقوبة عليها. ﴿وَوَصَّيْنَا﴾ وصى: يجري مجرى أمر معنًى وتصرفًا غير أنه يُستعمل
383
فيما إذا كان في المأمور به نفع عائد إلى المأمور وغيره، يقال: وصيت زيدًا بعمرو، أمرته بتعهده ومراعاته، قال الراغب: الوصية التقديم إلى الغير بما يعمل به مقترنًا بوعظ. ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ مصدر ميمي بمعنى الرجوع.
﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ﴾ أوذي ماض مبني للمجهول، من آذى الرباعي، يقال: آذى يؤدي أذى وأذية، ولا تقل إيذاءً، كما في "القاموس"، والأذى ما يصل إلى الإنسان من ضرر، في نفسه أو في جسمه أو في قنياته، دنيويًا كان أو أخرويًا كما مر.
﴿جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ﴾ والفتنة الامتحان والاختبار، تقول: فتثت الذهب، إذا أدخلته النار لتظهر جودته من رداءته، وأطلقت على المحنة؛ لأنها سبب نقاوة القلب.
﴿لَيَقُولُنَّ﴾ الجمهور على ضم اللام، ففيه إسناد الفعل لضمير الجماعة، حملًا على معنى: من بعد أن حمل على لفظها كما مر، وأصله ليقولونن بواو الضمير وثلاث نونات، إحداها نون الرفع، فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، وواو الجماعة لالتقاء الساكنين فصار ليقولن.
﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ جمع خطيئة من الخطأ، وهو في الأصل العدول عن الجهة والطريق، وهي هنا الآثام. ﴿أَثْقَالَهُمْ﴾ جمع ثقل بكسر المثلثة وسكون القاف كحمل وأحمال، والثقل بكسر أوله وفتح ثانيه والخفة متقابلان، وكل ما يترجح على ما يوزن به، أو يقدر به، يقال: هو ثقيل، وأصله في الأجسام ثم يقال في المعاني أثقله الغرم والوزر، قال الراغب: أثقالهم؛ أي: آثامهم التي تثقلهم وتثبطهم عن الثواب.
﴿أَلْفَ سَنَةٍ﴾ الألف العدد المخصوص، سمي بذلك لكون الأعداد به ؤلفة، فإن الأعداد أربعة: آحاد، وعشرات، ومئات، وألوف، فإذا بلغ الألف، فقد إئتلف وما بعده ويكون مكررًا، قال بعضهم: الألف من ذلك؛ لأنه مبدأ النظام، كما مر والسنة أصلها سنهة لقولهم: سانهت فلانًا؛ أي: عاملته سنة
384
فسنةً، وقيل: أصلها من الواو لقولهم: سنوات، والهاء للوقف. اهـ "الروح".
﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾ والطوفان كل ما طاف؛ أي: أحاط بالإنسان لكثرته ماء كان أو غيره، كالظلمة، ولكنه غلب في الماء، كما هو المراد هنا، اهـ "شهاب". ﴿وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾ والسفينة من سفنه يسفنه قشره ونحته، كأنها تسفن الماء؛ أي: تقشره فهي فعيلة، بمعنى: فاعلة.
﴿أَوْثَانًا﴾ جمع وثن، والفرق بين الصليب والصنم والوثن، أن الصليب: ما نحت على صورة آدمي وعبد، سواء كان من ذهب أو فضة أو غيرهما، والصنم: ما نُحِت على صورة حيوان كعجل وعبد، سواء من شجر أو حجر أو غيرهما، والوثن: كل ما عُبد من دون الله، سواء كان منحوتًا على أي صورة، أو غير منحوت كشجر وحجر وقبر وإنسان، فكل أخص مما بعده، هكذا عرفه بعضهم.
﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾؛ أي: وتكذبون كذبًا، حيث سميتموها آلهة، قال الراغب: الخلق لا يُستعمل في كافة الناس إلا على وجهين، أحدهما في معنى التقدير، والثاني في الكذب، انتهى. يقال: خلق واختلق؛ أي: افترى لسانًا أو يدًا كنحت الأصنام، والإفك أسوأ الكذب، وسمي الكذب إفكًا؛ لأنه مأفوك؛ أي: مصروف عن وجهه، ويجوز في الإفك هنا أن يكون مصدرًا وأن يكون صفة؛ أي خلقًا إفكًا؛ أي: ذا إفكٍ وباطل.
﴿لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾ يقال: ملكت الشيء إذا قدرت عليه، ومنه قول موسى: ﴿لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي﴾؛ أي: لا أقدر إلا على نفسي وأخي، ورزقًا مصدر، وتنكيره للتقليل، كما سيأتي، والمعنى: لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئًا من الرزق، كما مر.
﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ قال الراغب: الإنشاء إيجاد الشيء وتربيته، وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان، انتهى. يقال: نشأ نشأة إذا حيى وربا وشب، والنشاة مصدر مؤكد لينشىء بحذف الزوائد، والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل؛ أي: ينشىء فينشأون النشأة الآخرة، كما مر.
385
﴿مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ قال بعضهم: الفرق بين الولي والنصير، أن الولي هو الذي يدفع المكروه عن الإنسان بنفسه لولايته ومباشرته الدفع، والنصير هو الذي يأمر بدفعه عنه لمناصرته ومعاونته في الدفع، والولي أخص من النصير، إذ قد ينصر من ليس بولي. ﴿أُولَئِكَ يَئِسُوا﴾ واليأس انتفاء الطمع وانقطاعه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار في قوله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿صَدَقُوا﴾ و ﴿الْكَاذِبِينَ﴾، وبين ﴿آمَنُوا﴾ و ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾، وبين ﴿يُعَذِّبُ﴾ و ﴿وَيَرْحَمُ﴾ وبين ﴿يُبْدِئُ﴾ و ﴿يُعِيدُ﴾.
ومنها: مغايرة الأسلوب في قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ حيث عبر في الأول: بصيغة الفعل الماضي، وهي ﴿صَدَقُوا﴾ وفي الثاني: بصيغة اسم الفاعل وهي ﴿الْكَاذِبِينَ﴾. والنكتة في هذه المخالفة كما مر، أن اسم الفاعل يدل على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه؛ لأن الآية وقت نزولها كانت حكايةً عن قوم قريبي عهد بالإِسلام، وعن قوم مستمرين على الكفر، فعبر عن حق الأولين بلفظ الفعل، وفي حق الآخرين بالصيغة الدالة على الثبات والدوام.
ومنها: الحذف في قوله: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ فإن جواب الشرط فيه محذوف، كما سبق.
ومنها: التأكيدبـ ﴿إن﴾ و ﴿اللام﴾، في قوله: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾؛ لأن المخاطب منكر.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
386
ومنها: تغيير الأسلوب في قوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١)﴾ حيث عبر في الأول: بالفعل، وفي الثاني: باسم الفاعل، تفننًا لرعاية الفاصلة. كما في "البيضاوي".
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا﴾ حيث استعار الإتباع الذي هو المشي خلف ماش، لسلوك طريقتهم في الدين، فاشتق من الإتباع الذي هو بمعنى السلوك، اتبعوا، بمعنى: اسلكوا على طريقة الاستعارة التبعية.
ومنها: مجيء الأمر بمعنى الخبر في قوله: ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ والأصل فيه: إن تتبعونا نحمل خطاياكم، فعدل عنه إلى ما ذكر مما هو خلاف الظاهر من أمرهم بالحمل، إفادةً للمبالغة.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ حذف منه وجه الشبه، فهو مجمل.
ومنها: التفنن في التعبير في قوله: ﴿أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾، لم يقل إلا خمسين سنة تفننًا؛ لأن التكرار في الكلام الواحد مخالف للبلاغة، إلا إذا كان لغرض من تفخيم أو تهويل، نحو ﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢)﴾.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ﴾ شبه الذنوب بالأثقال؛ لأنها تُثقل كاهل الإنسان.
ومنها: تنكير الرزق في قوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾ ثم تعريفه، بقوله: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾؛ لأن الأول مقصور عليهم، فاستوجب أن يكون ضئيلًا قليلًا، فنكره تدليلًا على قلته وضآلته، ولما كان الثاني مبتغًى عند الله، استوجب أن يكون كثيرًا؛ لأنه كله عند الله فعرَّفه تدليلًا على كثرته وجسامته.
ومنها: الإضمار ثم الإظهار اهتمامًا بشان الأمر الأخير، في قوله: ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ ألا ترى أنه صرح باسمه تعالى، في
387
قوله: ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ لتفخيم شأن النشأة، وكان القياس أن يقول: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشيء النشأة الآخرة، فأفصح باسمه بعد إضماره، للتنبيه على عظم هذا الأمر الذي هو الإعادة.
والأصل في الكلام: الإظهار ثم الإضمار، ويليه لقصد التفخيم الإظهار بعد الإظهار، ويليه وهو أفخم الثلاثة الإظهار بعد الإضمار، كما في الآية.
ومنها: الجناس غير التام في قوله: ﴿يَسِيرٌ﴾ و ﴿سِيرُوا﴾.
ومنها: أسلوب الإطناب في قوله: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ لغرض التشنيع عليهم في عبادة الأوثان.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ قوله: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ﴾ وفي قوله: ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾.
ومنها: التعبير بصيغة الماضي عما في المستقبل في قوله: ﴿يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾؛ أي: يأسوا منها يوم القيامة.
ومنها: إضافة الرحمة إلى نفسه دون العذاب في قوله: ﴿أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ إشعارًا بسبق رحمته على غضبه، وإعلامًا لعباده بعمومها لهم. اهـ. أبو السعود.
388
ومنها: تقديم التعذيب على الرحمة في قوله: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب، كما مر.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾.
ومنها: الإسناد العقلي في قوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ﴾؛ أي: أهلكهم من إسناد الشيء إلى سببه.
ومنها: الإضافة لأدنى ملابسة في قوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ﴾.
ومنها: التعبير عن الإعادة بالنشأة، في قوله: ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ للتنبيه على أن البدء يسمى نشأة كإعادة، التغاير بينهما بالوصف، حيث قالوا: نشأة أولى، ونشاة أخرى. اهـ "رازي" اهـ. من "الفتوحات".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه جل وعلا أعلم
* * *
389
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٨) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (٣١) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٣٧) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (٣٩) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
390
بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (٤٥)}.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن إبراهيم عليه السلام، لما أقام لهم الحجج والبراهين على الوحدانية، وإرسال الرسل، والحشر، والجزاء.. أردف (١) ذلك ببيان أنهم جحدوا وعاندوا، ودفعوا الحق بالباطل، بعد أن ألزمهم الحجة ولم يجدوا للدفاع سبيلًا، وحينئذ عدلوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، فقالوا لقومهم: ﴿ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ فأنجاه الله من كيدهم، وجعلها عليه بردًا وسلامًا فعاد إلى لومهم بعد أن أُخرج من النار، وقال: إن تَمسُّككم بما أنتم عليه لم يكن عن دليل وبرهان، بل عن تقليد وحفظ للمودة بينكم، فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة، ولكنكم يوم القيامة تتحاجون حين يزول عمى القلوب وتستبين الأمور للَّبيب الأريب، ويكفر بعضكم بعضًا، فيقول العابد: ما هذا معبودي، ويقول المعبود: ما هؤلاء بعبدتي، ويلعن بعضكم بعضًا، فيقول هذا لذاك: أنت الذي أوقعتني في العذاب حيث عبدتني، ويقول ذاك لهذا: أنت الذي أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادته، ويود كل منكم أن يبعد عن صاحبه، وأنى لهما ذلك وهما مجتمعان في النار، وما لهما ناصر يخلِّصهما منها، كما خلَّصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها.
وعبارة أبي حيان (٢): لما أمرهم إبراهيم بعبادة الله، وبيَّن سفههم في عبادة الأوثان، وظهرت حجته عليهم.. رجعوا إلى الغلبة، فجعلوا القائم مقام جوابه فيما أمرهم به قولهم: اقتلوه أو حرقوه، والآمرون بذلك إما بعضهم لبعض، أو كبراؤهم، قالوا لأتباعهم اقتلوه فتستريحوا منه عاجلًا، أو حرقوه بالنار، فإما أن
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
391
يرجع إلى دينكم إذا أو مضته النار، وإما أن يموت بها إن أصر على قوله ودينه، انتهت.
قوله تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أن الله سبحانه لما ذكر إنجاء إبراهيم من النار، وأن ذلك معجزة له، لا يفقه قدرها إلا من كان ذكي الفؤاد، قوي الفطنة، يفهم الدلائل التي أودعها الله في الكون.. أردف ذلك ببيان أنه لم يصدق بما رأى إلا لوط عليه السلام، فقد آمن به واستقر الإيمان في قلبه، ثم بيَّن أن إبراهيم لما أيس من إيمان قومه، هاجر إلى بلاد الشام فرارًا بدينه، وقصدًا إلى إرشاد الناس وهدايتهم، ثم عدد نعمه العاجلة عليه في الدنيا، بأن آتاه بنين وحفدة، وجعل فيهم النبوة وأنزل عليهم الكتب، وآتاه الذكر الحسن إلى يوم القيامة، ونعمه الآجلة أنه مكتوب في عداد الكملة في الصلاح والتقوى.
قوله تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها؛ أن الله سبحانه لما قص علينا قصص إبراهيم عليه السلام، وما لاقاه من قومه من العتو والجبروت، ثم نصره له نصرًا مؤزرًا.. أعقبه بقصص لوط، إذ كان معاصرًا له، وسبقه إلى الدعوة إلى الله، وقد افتنَّ قومه في فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سذوم العذاب جاؤوا ضيوفًا لإبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها (١): أنه لما استنصر لوط عليه السلام بربه، بقوله: ﴿رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ استجاب دعاءه، وبعث لنصرته ملائكة وأمرهم بإهلاك قومه، وأرسلهم من قبل بالبشرى لإبراهيم فجاؤوا وبشروه بذرية طيبة، ثم قالوا له: إنا مهلكوا أهل هذه القرية لتمادي أهلها في الشر، وإصرارهم على الكفر والمعاصي، فأشفق إبراهيم على لوط، وقال: إن في القرية لوطًا، فقالوا:
(١) المراغي.
392
إنا منجوه وأهله إلا امرأته، ثم ننزل عليهم من السماء عذابًا بما اجترحوا من السيئات، واجترموا من الذنوب والآثام، ثم ندعهم عبرةً وآيةً بينةً لقوم يعقلون.
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما أسلف أنه أهلك من أشرك به بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، ولا ينفعه في الدارين معبوده، ولا يجديه ركوعه وسجوده.. أردف هذا بتمثيل حال من اتخذ معبودًا دون الله بحال العنكبوت، وقد اتخذت لها بيتًا لا يريحها إذا هي أوت، ولا يجيرها من حر وبرد إذا هي ثوت، ثم زاد الإنكار توكيدًا، فذكر أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم ويشتغل بعبادة من ليس بشيء، ثم أردف هذا ببيان فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يُدرك مغزاها إلا ذوو الألباب الذين يفهمون خبىء الكلام، وظاهره وسره وعلانيته.
ثم ذكر أنه لم يخلق السموات والأرض إلا لحكمة يعلمها المؤمنون، ويدركها المستبصرون، وهي ما أرشد إليها بقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ وبعد أن أمر سبحانه عباده بما تقدم بيانه، وأظهر الحق ببرهانه، ولم يهتد بذلك المشركون، سلَّى رسوله بأمره بتلاوة كتابه وعبادته تعالى طرفي النهار وزلفًا من الليل، وإرشاده إلى أن الله عليم بما يصنع عباده، وسيجازيهم كفاء ما يعملون من خير وشر.
التفسير وأوجه القراءة
٢٤ - قوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ...﴾ إلخ، رجوع (١) إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض، بما تقدم من خطاب محمد - ﷺ - على قول من قال إن قوله: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ خطاب لمحمد - ﷺ -، وأما على قول من قال: إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام، فالكلام في سياقه سابقًا ولاحقًا؛ أي: قال إبراهيم عليه السلام لقومه: اعبدوا الله واتقوه، فما كان جواب قومه آخر الأمر، وهو بالنصب على أنه خبر
(١) الشوكاني.
393
كان، واسمها قوله: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾؛ أي: إلا قول بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم: لا تجيبوا إبرايم عن براهينه الثلاثة، الدالة على التوحيد والنبوة والحشر.
﴿اقْتُلُوهُ﴾؛ أي: اقتلوا إبراهيم بسيف أو نحوه، فتستريحوا منه عاجلًا ﴿أَوْ حَرِّقُوهُ﴾؛ أي: حرقوا إبراهيم بالنار، فإما أن يرجع إلى دينكم إذا أوجعته النار، وإما أن يموت بها إذا أصر على دينه، وفيه (١) تسفيه لهم، حيث أجابوا من احتج عليهم بأن يُقتل أو يحرق، وهكذا ديدن كل محجوج مغلوب، وإنما أجابوه بذلك لعدم قدرتهم على الجواب الصحيح، كما قاله الرازي.
والفاء في قوله: ﴿فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾ بجعلها بردًا، عاطفة على محذوف، تقديره: فألقوه في النار فانجاه الله سبحانه من أذاها، بأن جعلها عليه بردًا وسلامًا.
رُوي أنه لم ينتفع أحد بالنار يومئذ في موضع أصلًا، وذلك لذهاب حرها؛ أي: تشاوروا فيما بينهم، وقالوا: افعلوا بإبراهيم أحد الأمرين المذكورين، ثم اتفقوا على تحريقه فأضرموا نارًا عظيمة، فألقوه فيها، فأنجاه الله سبحانه منها.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإنجاء؛ أي: في إنجاء الله تعالى إبراهيم من تلك النار ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لدلالات عجيبة، وآيات واضحة، وعلامات ظاهرة، وبراهين ساطعة على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، حيث أضرموا تلك النار العظيمة وألقوه فيها ولم تحرقه ولا أثرت فيه أثرًا إلا ما أحرقت من وثاقه، بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها من الحرارة والإحراق.
﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: يصدقون بوجود الله وكمال قدرته، حيث أخمدها في زمن يسير، وأنشأ في مكانها روضًا زاهرًا، وبستانًا فاخرًا وأنيسًا بارًا على ما قيل، وإنما خص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بآيات الله سبحانه بالتفحص عنها، والتأمل فيها، وأما الكافرون فمحرومون من الفوز بمغانم آثارها، وغافلون عن التفكر في حقائقها.
(١) روح البيان.
394
فإن قلت: لِمَ جمع (١) الآيات هنا، حيث قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وأفردها فيما بعدُ في قوله: ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)﴾؟
قلت: إن ما هنا إشارة إلى إثبات النبوة القائمة بالنبيين، وهم كثيرون فناسبه الجمع، وما بعدُ إشارة إلى التوحيد القائم بواحد، وهو الله لا شريك له فناسبه الإفراد. اهـ. "زكريا".
وعبارة أبي حيان: وجمع هنا (٢) فقال: ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ لأن الإنجاء من النار وجعلها بردًا وسلامًا، وأنها أثرت في الحبل الذي كانوا أوثقوه به دون الجسم، وأن مكانها حالة الرمي صار بستانًا يانعًا إن صح، هو مجموع آيات، فناسب الجمع بخلاف الإنجاء في السفينة فإنه آية واحدة، فلذلك أفرد آية هناك، انتهت.
وقرأ الجمهور: ﴿جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ بالنصب على أنه خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمها، وما بعده اسمها، وقرأ الحسن وسالم الأفطس وعمرو بن دينار برفعه على أنه اسم ﴿كَانَ﴾، وما بعده في محل نصب على الخبر.
٢٥ - ثم ذكر ما قاله إبراهيم عليه السلام لهم، بعد إنجائه من النار، بقوله: ﴿وَقَالَ﴾ إبراهيم مخاطبًا لقومه، ومؤنبًا لهم، وموبخًا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان ﴿اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا﴾؛ أي (٣): إنما اتخذتموها آلهة، لا لحجة قامت بذلك، بل ﴿مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾؛ أي: بل لأجل أن تتوادوا وتتحابوا بينكم، وتتلاطفوا بسبب اجتماعكم على عبادتها ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: مدة بقائكم في الدنيا.
والمعنى (٤): أي إنما اجتمعتم على عبادتها في الدنيا، للصداقة والألفة التي بين بعضكم وبعض، فأنتم تتحابون على عبادتها، وتتوادون على خدمتها، كما يتفق الناس على مذهب، فيكون ذلك سبب ألفتهم ومودتهم، لا لقيام الدليل
(١) فتح الرحمن.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
395
عندكم على صحة عبادتها.
وقصارى ذلك: أن مودة بعضكم بعضًا هي التي دعتكم إلى عبادتها، إذ قد رأيتم بعض من تودون عبدوها، فعبدتموها موافقةً لهم لمودتكم إياهم، كما يرى الإنسان أو يوده يفعل شيئًا فيفعله مودةً له ثم ذكر أو حالهم في الآخرة ستكون على نقيض هذا، فقال: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بعد الخروج من الدنيا تنقلب الأمور، ويتبدل التواد تباغضًا، والتلاطف تلاعنًا، حيث ﴿يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ﴾ وهم العبدة ﴿بِبَعْضٍ﴾ وهم الأوثان ﴿وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾؛ أي: يلعن ويشتم كل فريق منكم ومن الأوثان - حيث ينطقها الله - الفريق الآخر.
﴿وَمَأْوَاكُمُ﴾؛ أي: مثواكم جميعًا لعابدون والمعبودون والتابعون والمتبوعون ﴿النَّارُ﴾؛ أي: هي منزلكم الذي تأوون إليه، ولا تُرجعون منه أبدًا ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾؛ أي: من مانعين يخلصونكم منها ما خلصني ربي أو النار التي ألقيتموني فيها، وجمع الناصر لوقوعه في مقابلة الجمع؛ أي: وما لأحد منكم من ناصر أصلًا، والخطاب فيه لعبدة الأوثان جميعًا القادة والأتباع.
والمعنى: أي ثم تنعكس الحال يوم القيامة، فتنقلب الصداقة والمودة بغضًا وشنآنًا، وتتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن بعضكم بعضًا، فيلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع، كما قال ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧)﴾ ثم مرجعكم إلى النار، وما لكم من ناصر ينصركم، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله تعالى.
وقرأ الحسن (١) وأبو حيوة وابن أبي عبلة، وأبو عمرو في رواية الأصمعي والأعمش عز أبي بكر، وابن وثاب وابن عباس وسعيد بن المسيب وعكرمة: ﴿مودةٌ﴾ برفعها منونة، ﴿بينَكم﴾ بالنصب، فالرفع على أنها خبر إن، وما موصولة، ومودة إما مصدر بمعنى اسم المفعول، أو على حذف مضاف؛ أي: من
(١) البحر المحيط، والشوكاني، وزاد المسير.
396
الأوثان التي اتخذتموها آلهة مودودة محبوبة بينكم، أو سبب مودةٍ وصلة ولقاء بينكم، واجتماع عندها، أو ما مصدرية؛ أي: إن اتخاذكم أوثانًا مودة وصلة واجتماع بينكم؛ أي: سببها.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ﴿مودةُ بينكم﴾ برفع مودة غير منونة وإضافتها إلى بينكم، وروى عن عاصم (١): ﴿مودةُ﴾ بالرفع أو غير تنوين و ﴿بينَكم﴾ بالفتح؛ أي: بفتح النون جعله مبنيًا لإضافته إلى مبني، وهو في موضع خفض بالإضافة، ولذلك سقط التنوين من مودة.
وقرأ نافع وابن عامر، وأبو بكر عز عاصم بنصب (٢): ﴿مودةً﴾ منونًا ونصب ﴿بينَكم﴾ على الظرفية، والعامل فيه المودة، قال أبي علي: المعنى اتخذتم الأصنام للمودة، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم ﴿مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ﴾ بنصب مودة مع إضافته إلى بينكم، وهذا على الاتساع في جعل الظرف اسمًا لما أضيف إليه. قال المفسرون: معنى الكلام إنما اتخذتموها لتتصل المودة بينكم واللقاء والاجتماع في الحياة الدنيا، وأنتم تعلمون أنها لا تنفع ولا تضر.
٢٦ - والفاء في قوله: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ عاطفة على محذوف تقديره: فكذبه قومه فآمن له، أي: لإبراهيم لوط. يقال: آمن له وآمن به متقارب في المعنى. قال (٣) ابن إسحاق: أول من آمن بإبراهيم لوط، وكان ابن أخيه هاران، وآمنت به سارة، وكانت بنت عمه.
والمعنى (٤): صدَّقه في جميع مقالاته لا في نبوته وما دعا إليه أو التوحيد فقط، فإن كان منزهًا عز الكفر؛ لأن الأنبياء لا يتصور فيهم الكفر، وما قيل: هذه آمن له حين رأى النار، تحرقه، ينبغي أو يُحمل على ما ذكرنا، أو على أنه يراد بالإيمان الرتبة العالية منه، وهي التي لا يرتقي إليها إلا همم الأفراد.
أي: فقال لوط لإبراهيم: صدقتك يا إبراهيم. ﴿وَقَالَ﴾ إبراهيم للوط
(١) البحر المحيط.
(٢) زاد المسير.
(٣) القرطبي.
(٤) روح البيان.
وسارة، وهي ابنة عمه، وكانت آمنت به، وكانت تحت نكاحه ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ﴾؛ في: تارك لقومي وذاهب ﴿إِلَى رَبِّي﴾ أي إلى مكان أمرني روح بالتوجه إليه. قال قتادة: هاجر إبراهيم أو كوثي، وهي قرية أو سواد الكوفة إلى حران مع لوط وسارة زوجته، ثم منها إلى الشام فنزل فلسطين، ونزل لوط سذوم، وكان عمر إبراهيم إذ ذاك خمسًا وسبعين سنة، وهو أول أو هاجر من أرض الكفر.
وقال زاده (١): يجب الوقف على لوط؛ لأن قوله: ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ﴾ من مقول إبراهيم، فلو وُصل لتوهم أن الفعل الثاني للوط فيفسد المعنى. اهـ وهذا على قتل الجمهور، إن الضمير في ﴿قَالَ﴾ لإبراهيم، وقيل: إنه للوط؛ أي: وقال لوط إني مهاجر إلى روح، إلخ، حكاه القرطبي، وعلى هذا فلا يتعين الوقف على لوط، بل يصح وصله بما بعده، اهـ. والأول أولى لرجوع الضمير في ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ﴾ إلى إبراهيم.
﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب على أمره فيمنعني أو أعدائي ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة، فلا يأمرني إلا بما فيه صلاحي، ومن لم يقدر في بلدة على طاعة الله، فليخرج إلى بلدة أخرى، وفي "التأويلات النجمية" ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: من الله أعز أو أن يصل إليه أحد، إلا بعد مفارقته لغيره ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يقبل بمقتضى حكمته إلا طيبًا من لوث أنانيته.
٢٧ - ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ﴾؛ أي: لإبراهيم أو عجوز عاقر، وهي سارة ﴿إِسْحَاقَ﴾ ولدًا لصلبه؛ أي: من بعدما وهبنا له إسماعيل أو هاجر بأربع عشرة سنة. ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ نافلة، وهي ولد الولد حين أيس من الولادة، قال القاضي (٢): ولذلك لم يذكر إسماعيل، يعني أن المقام مقام الامتنان، والامتنان بهما أكثر لما ذكر، روي أن الله تعالى وهب له أربعة أولاد، إسحاق أو سارة، وإسماعيل من هاجر، ومدين ومداين من غيرهما.
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
398
﴿وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِ﴾؛ أي في ذرية إبراهيم ونسله، يعني: في بني إسماعيل وبني إسرائيل ﴿النُّبُوَّةَ﴾ والرسالة، فكثر منهم الأنبياء، يقال أخرج من ذريته ألف نبي، وكان شجرة الأنبياء ﴿وَالْكِتَابَ﴾؛ أي: جنس الكتاب المتناول الكتب الأربعة، يعني التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فلم ينزل بعده كتاب إلا على ذريته. ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾؛ أي: أتينا إبراهيم وأعطيناه ﴿أَجْرَهُ﴾ وجزاءه بمقابلة هجرته إلينا ﴿في الدُّنْيَا﴾ بإعطاء الولد في غير أوانه، والمال والذرية الطيبة، واستمرار النبوة فيهم، وانتماء أهل الملل إليه، والثناء الحسن، والصلاة عليه إلى آخر الدهر.
أي (١): فبدل الله سبحانه وحدته بكثرة الذرية، وبدل قومه الضالين بقوم مهتدين، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب، وكان لا مال له ولا جاء، وهما غاية اللذة في الدنيا، فأكثر ماله وعظم جاهه، فصارت تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء، وصار معروفًا بأنه شيخ الأنبياء، بعد أو كان خاملَ الذكر حتى قال قائلهم: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ وهذا لا يقال إلا في المجهول بين الناس، إلى أنه تعالى اتخذه خليلًا وجعله للناس إمامًا، وقيل (٢): أعطاه في الدنيا عملًا صالحًا وعاقبةً حسنةً.
﴿وَإِنَّهُ﴾ أي: وإن إبراهيم ﴿في الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾؛ أي: لفي عداد الكاملين في الصلاح والتقوى، والمستحقين لتوفير الأجر، وكثرة العطاء، والفوز بالدرجات العلى أو لدن رب العلمين، وهم الأنبياء وأتباعهم صلوات الله وسلامه عليهم، وقصارى أمره أنه سبحانه جمع له بين سعادة الدارين، وآتاه الحسن في الحياتين.
ثم اعلم (٣): بأن الله سبحانه وتعالى منَّ على إبراهيم عليه السلام بهبة الولد، والولد الصالح الذي يدعى لوالديه أو الأجور الباقية الغير المنقطعة،
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
399
كالأوقاف الجارية، والمصاحف المتلوة، والأشجار المنتفع بها ونحوها، وكذلك منَّ عليه بأن جعل في ذريته النبوة.
ومن الإشارة في الآية أو السعادات أو يكون في ذرية الرجل أهل الولاية الذين هم ورثة الأنبياء، فإن بهم تقدم الدنيا والدين، وتظهر الترقيات الصورية والمعنوية للمسلمين، وتسطع الأنوار إلى جانب أرواح المقربين وأعلى عليين، فيحصل الفخر التام، والشرف الشامل، والانتفاع العام، وهؤلاء من كانوا من النسب الطيني فذاك، وان كانوا من النسب المديني فالأولاد الطيبون، والأحفاد الطاهرون مطلقًا من نعم الله الجليلة:
نِعَمُ الإِلهِ عَلَى الْعِبَادِ كَثِيْرَةٌ وَأَجَلُّهُنَّ نَجَابَةُ الأَوْلاَدِ
ربنا هب لنا أو أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا، آمين.
فإن قلت (١): قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ في الدُّنْيَا﴾ الآية، ذكر ذلك في معرض المدح لإبراهيم عليه السلام أو الامتنان عليه، وأجر الدنيا فانٍ منقطع بخلاف أجر الآخرة، فكيف ذكره دون أجر الآخرة؟
قلت: بل ذكره أيضًا في قوله: ﴿وَإِنَّهُ في الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ إذ المعنى إن له في الآخرة أجر الصالحين وافيًا كاملًا، لكن آخره موافقةً للفواصل.
قصص لوط عليه السلام
٢٨ - قوله: ﴿وَلُوطًا﴾ منصوب بالعطف على نوحًا، أو على إبراهيم أو بتقدير أذكر. و ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ ظرف للعامل في لوطًا، قال الكسائي: والمعنى: ولقد أرسلنا لوطًا من قبلك يا محمد، أو أنجينا لوطًا بين قال لقومه من أهل المؤتفكات ﴿إِنَّكُمْ﴾ يا قوم ﴿لَتَأْتُونَ﴾ وتفعلون ﴿الْفَاحِشَةَ﴾؛ أي: الخصلة المتناهية في القبح والفحش، وهي اللِّواطة.
قرأ أبي عمروحمزة والكسائي وأبو بكر (٢) ﴿أَئِنَّكُمْ﴾ بالاستفهام الإنكاري
(١) فتح الرحمن.
(٢) الشوكاني.
التوبيخي، وقرأ الباقون بلا استفهام. وجملة قوله: ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا﴾؛ أي: بتلك الفاحشة ﴿مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ قال الزمخشري: جملة (١) مستأنفة، مقررة لكمال قبح تلك الخصلة، وأنهم منفردون بها، يسبقهم إلى عملها أحد من الناس، على اختلاف أجناسهم، كأن سائلًا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل: لأن أحدًا قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازًا منها في طباعهم، لإفراط قبحها، حتى أقدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم، قالوا: لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط قط؛ أي: مع طول الزمان وكثرة القرون، انتهى. ويظهر (٢) أن ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا﴾ جملة حالية كأنه قال: أتأتون الفاحشة مبتدعين لها، غير مسبوقين بها.
والمعنى: أي (٣) واذكر يا محمد لقومك قصص لوط حين أرسلناه إلى أهل سذوم، الذين سكن فيهم وصاهرهم، وانقطع إليهم فصاروا قومه فأنكر عليهم سوء صنيعهم، وقبيح أفعالهم التي اختصوا بها، ولم يسبقهم إليهم أحد من قبلهم لفظاعتها، ونفرة الطباع السليمة منها.
٢٩ - ثم فصل وبيَّن هذه الفاحشة، وكرر الإنكار عليها فقال:
١ - ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾ إتيان الشهوة وتلوطونهم، وتستمتعون بهم الاستمتاع بالنساء، والاستفهام هذا وفيما سبق على قراءة، للإنكار والتوبيخ والتقريع.
٢ - ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾؛ أي: تقطعون المارة والمسافرين عن مرورهم في الطريق، قيل إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم، فقطعوا السبيل بهذا السبب، قال الفراء: كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث، وقيل: كانوا يقطعون الطريق على المارة بقتلهم ونهبهم، والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سببًا لقطع الطريق أو غير تقييد بسبب خاص، قيل: كانوا يفعلون ذلك لكيلا يدخل الناس في بلدهم،
(١) الكشاف.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
401
ولا يتناولوا من ثمارهم.
والمعنى: أي وتقفون في الطرقات تتعرضون للمارة تقتلونهم وتأخذون أموالهم، وقيل المعنى: تقطعون سبيل الولد، بتعطيل الفرج ووطء أدبار الرجاء.
٣ - ﴿وَتَأْتُونَ﴾؛ أي: تفعلون وتتعاطون أو غير مبالاة ﴿في نَادِيكُمُ﴾؛ أي: في متحدثكم ومجلسكم، ومجتمعكم الجامع لأصحابكم، وهو اسم جنس (١) إذا أنديتهم في مدائنهم كثيرة، ولا يسمى ناديًا إلا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه لم يُطلق عليه ناد إلا مجازًا ﴿الْمُنْكَرَ﴾ وهو كل ما تنكره العقول السليمة، والشرائع، والمروءات، وتحكم بقبحه، كاللواطة، والجماع بحضرة الناس، والضراط، وحل الإزار في المجالس، وحل أزراء القباء، والحذف بالبندق، وضرب الأوتار والمزامير، قيل: إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى، فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه، فأيهم أصابه، كان يأخذ ما معه ويلوطه ويغرمه ثلاثة دراهم، ولهم قاض يقضي بينهم بذلك، ومنه (هواجور) من قاضي سذوم، ومن أخلاقهم الصفير، وتطريف الأصابع بالحناء، والفرقعة؛ في: مد الأصابع؛ أي: جرها حتى تصوِّت، ولذا كُرهت في الصلاة وخارجها لئلا يلزم التشبه بهم، ومن أخلاقهم مضغ العلك - اللبان -. ولا يكره (٢) للمرأة إن لم تكن صائمةً لقيامه مقام السواك في حقهن، لأن سنها أضعف من سن الرجال، كسائر أعضائها، فيخاف من السواك سقوط سنها، وهو ينقِّي الأسنان ويشد اللثة كالسواك، ويكره للرجل إذا لم يكن من علة كالبخر، لما فيه من التشبه بالنساء، ومن أخلاقهم السباب والفحش في المزاح، يقال المزاح يجلب صغيرة الشرك، وكبيرة الحرب، ومن أخلاقهم اللعب بالحمَام، قيل: كانوا يناقرون بين الديكة ويناطحون بين الكباش، وقيل: كانوا يلعبون بالنرد والشطرنج، ويلبسون المصبغات، ومن اْخلاقهم لباس النساء للرجاء، والمكوس على كل عابر، وهم أول من لاط ومن ساحق، ولا مانع أنهم كانوا يفعلون جميع ذلك.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
402
وفي هذا إعلام، أنه لا ينبغي أو يتعاشر الناس على المناكير، ولا ينبغي لهم أن يجتمعوا على الهزء والمناهي والملاهي.
وحاصل المعنى (١): أي وتفعلون من الأفعال والأقوال في أنديتكم ومجتمعاتكم ما لا يليق، ويخجل منه أرباب الفطر السليمة، والعقول الراجحة الحصيفة.
زعمت الهند (٢): أن حبس الضراط داء، وإرساله دواء، ولا يحبسون في مجالسهم ضرطة، ولا يرون ذلك عيبًا، وأفلتت من معاوية ريح على المنبر فقال: أيها الناس إن الله خلق أبدانًا وجعل فيها أرياحًا، فمتى يتمالك الناس أن لا تخرج منهم، فقام صعصعة بن صوحان فقال: أما بعد فإن خروج الأرياح في المتوضاة سنة، وعلى المنابر بدعة، وأستغفر الله لي ولكم.
ثم ذكر جوابهم عن نصحه لهم، فقال: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾؛ أي: فلما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح، ما كان جوابهم إذ نهاهم عما يكرهه الله سبحانه، من إتيان الفواحش التي حرمها الله عليهم ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ له استهزاءً؛ أي: إلا قولهم ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ﴾ الذي تعدنا ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فيما تعدنا أو نزول العذاب؛ أي: إن كنت صادقًا فيما تقول، ومنجزًا ما تعد، وكان قد أوعدهم بالعذاب على ذلك.
وهذا الجواب (٣) صدر منهم في أول مواعظه، فلما ألحق عليهم في الإنكار والنهي، قالوا: أخرجوهم أو قريتكم إنهم أناس يتطهرون، كما جاء في سورة الأعراف، وفي هذا إيماء إلى شديد كفرهم، وعظيم عنادهم؛ أي: فما أجابوا بشيء إلا بهذا القول رجوعًا إلى التكذيب واللجاج والعناد.
وقد تقدم في سورة النمل ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ وتقدم في سورة الأعراف {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
403
أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} فما بين ما هنا وما في السورتين السابقتين معارضة. وقد جُمع (١) بين هذه الثلاثة المواضع، بأن لوطًا كان ثابتًا على الإرشاد، ومكررًا للنهي لهم، والوعيد عليهم، فقالوا له أولًا: ائتنا بعذاب الله، كما في هذه الآية، فلما كثر منه ذلك، ولم يسكت عنهم قالوا: أخرجوهم، كما في الأعراف والنمل، وقيل: إنهم قالوا أولًا: أخرجوهم، من قريتكم، ثم قالوا ثانيًا: ائتنا بعذاب الله،
٣٠ - ثم إن لوطًا لما أيس من إيمانهم وقبولهم نصحه طلب من الله سبحانه نصره عليهم فـ ﴿قَالَ﴾؛ أي لوط بطريق المناجاة والدعاء يا ﴿رَبِّ﴾ ويا ناصري ﴿انْصُرْنِي﴾ اَننم بإنزال العذاب الموعود ﴿عَلَى﴾ هؤلاء ﴿الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ الذين ابتدعوا الفواحش ورسخوا فيها، وجعلوها سنةً لمن بعدهم، وأصروا عليها، وجعلوا وعيدك لهم تهكمًا وسخرية.
وإنما (٢) وصفهم بالإفساد، ولم يقل عليهم، أو على قومي، مبالغةً في استنزال العذاب عليهم، وإشعارًا بانهم أحقاء بأن يعجل لهم العذاب. قال الطيبي: الكافر إذا وُصف بالفسق أو الإفساد كان محمولًا على غلوه في الكفر.
٣١ - فاستجاب الله سبحانه دعاءه، وبعث لعذابهم ملائكته، وأمرهم بتبشير إبراهيم قبل عذابهم، ولهذا قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا﴾ من الملائكة، وهم جبريل ومن معه ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ الخليل ﴿بِالْبُشْرَى﴾ أي: بالبشارة بالولد، وهو إسحاق، وبالنافلة، وهو يعقوب، وبإهلاك قيم لوط فبشروه بأمرين، بالذرية الطيبة، وبإهلاك قوم لوط، فجاؤوه مبشريق ومنذرين، لكن لما كانت البشارة أثر الرحمة، والإنذار بالإهلاك أثر الغضب، ورحمته سبقت غضبه قدم البشارة على الإنذار، ولما كان في الإهلاك إخلاء الأرض من العباد، قدم على ذلك بشارة إبراهيم بأنه يملأ الأرض أو العباد الصالحين اهـ "أبو السعود" بتصرف.
﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالت الرسل لإبراهيم في تضاعيف الكلام ﴿إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ التي هي قرية سذوم، التي كان فيها لوط، والإضافة فيه لفظية؛ لأن
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
المعنى على الاستقبال. ﴿إِنَّ أَهْلَهَا﴾؛ أي: أصحاب هذه القرية ﴿كَانُوا ظَالِمِينَ﴾؛ أي: مستمرين على الظلم بإصرارهم على الكفر والتكذيب وأنواع المنكرات، والجملة تعليل للإهلاك؛ أي: إهلاكنا لهم بهذا السبب
٣٢ - ولما قالت الملائكة لإبراهيم ذلك: ﴿قَالَ﴾ إبراهيم للرسل إشفاقًا على المؤمنين ومجادلةً عنهم ﴿إِنَّ فِيهَا﴾؛ أي: من في هذه القرية التي تريدون إهلاكها ﴿لُوطًا﴾ رسول الله، وهو غير ظالم، فكيف تهلكونها؟ قيل سمي بلوط لأن حبه ليط بقلب عمه إبراهيم، أي علق ولصق، وكان إبراهيم يحبه حبًا شديدًا. ﴿قَالُوا﴾؛ أي: الملائكة في جواب إبراهيم ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ﴾ منك يا إبراهيم ﴿بِمَنْ فِيهَا﴾؛ أي: بمن في تلك القرية أو لوط وغيره، ولسنا بغافلين عن حال لوط، فلا تخف أو يقع حيف على مؤمن، وعزة الله وكبريائه ﴿لَنُنَجِّيَنَّهُ﴾؛ أي: لننجين لوطًا ﴿وَأَهْلَهُ﴾؛ أي: ابنتيه زاعورا ورويثا من العذاب.
قرأ الأعمش وحمزة والكسائي ويعقوب (١): ﴿لَنُنَجِّيَنَّهُ﴾ بالتخفيف، مضارع أنجى الرباعي أو باب أعلم، وقرأ باقي السبعة بالتشديد مضارع نجى المضعف، وقرأ الجمهور بتشديد النون، وفرقة بتخفيفها.
﴿إلَّا امْرَأَتَهُ﴾ أي: إلا امرأة لوط وزوجته المنافقة واعلة ﴿كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ أي: كانت في علم الله وحكمه الأزلي من الباقين في العذاب، المنغمسين فيه بسبب أو للدال على الشر نصيبًا من العذاب كفاعله، وهي كانت تدل القوم على أضياف لوط، وقيل: المعنى من الباقين في القرية، التي سينزل بها العذاب، فتعذب من جملتهم، ولا تنجو فيمن نجا.
ومعنى الآية (٢): أي قال إبراهيم إشفاقًا على لوط ليعلم حاله: إن في القرية لوطًا، وهو ليس من الظالمين لأنفسهم، بل هو رسل الله تعالى وأهل الإيمان به، والطاعة له، فقال الرسل: نحو أعلم منك بمن فيها من الكافرين، وبأن لوطًا ليس منهم.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
ثم زادوا ما سلف إيضاحًا، وطمأنوه بذكر ما يسره من نجاته بقولهم: لننجينه وأهله... إلخ؛ أي: لننجين لوطًا وأتباعه من الهلاك، الذي هو نازل بأهل القرية إلا امرأته، فإنها من الباقين في العذاب لممالأتها إياهم على الكفر والبغي، وفعل الخبائث.
٣٣ - ثم ذكر ما كان من أمر لوط، حين مجيء الرسل ضيوفًا لديه، فقال: ﴿وَلَمَّا﴾: حرف شرط لا ظرف، خلافًا للفارسي، كما هو مذكور في علم النحو.
﴿أَنْ﴾ زائدة زيدت بعد لما، وهو قياس مطرد، وقال الزمخشري (١): (أن) صلة أكدت وجود الفعلين، مترتبًا أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما، كأنهما وجدا في جزء واحدٍ من الزمان، كأنه قيل: لما أحس بمجيئهم، فاجأت المساءة من غير وقت خيفةً عليهم من قومه، انتهى.
أي: ولما ﴿جَاءَتْ رُسُلُنَا﴾ المذكورون بعد مفارقة إبراهيم ﴿لُوطًا سِيءَ﴾؛ أي: حزن ﴿بِهِمْ﴾؛ أي: بسببهم؛ أي (٢): اعتراه المساءة والحزن بسببهم مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء؛ أي: بفاحشة؛ لأنهم كانوا يتعرضون للغرباء، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة، وإنما رأى شبانًا مردًا، حسانًا، بثياب حسان، وريح طيبة، فظن أنهم من الإنس ﴿وَضَاقَ بِهِمْ﴾؛ أي: بشأنهم ﴿ذَرْعًا﴾؛ أي: قلبًا؛ أي: ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه؛ أي: طاقته؛ أي: عجز عن تدبير شأنهم، فلم يدر أيأمرهم بالخروج أم بالنزول، كقولهم: ضاقت يده، وبإزائه رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقًا به، قادرًا عليه، وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿سِيءَ﴾ بكسر السين، وضمها نافع وابن عامر والكسائي، وقرأ عيسى وطلحة: ﴿سوء﴾ بضمها، وهي لغة بني هذيل وبني وبير يقولون في قيل وبيع ونحوهما قول وبوع.
(١) الكشاف.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
406
﴿وَ﴾ لما شاهدت الملائكة ما حل به من الحزن والتضجر ﴿قَالُوا﴾ للوط: ﴿لَا تَخَفْ﴾ علينا من قومك ﴿وَلَا تَحْزَنْ﴾ لأجلنا فإنا ملائكة لا يقدرون علينا، أو المعنى: لا تخف علينا، ولا تحزن على هلاك قومك.
والمعنى: أي ولما جاءت الملائكة من عند إبراهيم إلى لوط على صورة بشر حسان الوجوه، خاف عليهم من قومه، وحصلت له مساءة وغم بسببهم، مخافة أن يقصدهم أحد بسوء، وهو عاجز عن مدافعة قومه، وتدبير الحيلة لحمايتهم، ودفع الأذى عنهم، وحين رأوه على هذه الحال من القلق والاضطراب قالوا له: هوِّن على نفسك، ولا تخف علينا، ولا تحزن بما نفعله بقومك، فإنهم قد بلغوا في الخبث مبلغًا لا مطمع في رجوعهم عنه، مهما نصحْت وألحفت في الإرشاد.
ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه، وما يشيرون به إلى أنهم ملائكة، فقالوا: ﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ﴾ من العذاب الذي سينزل بقومك ﴿و﴾ منجو ﴿أَهْلَكَ﴾ وأتباعك معك، فلن يصيبكم ما يصيبهم منه ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ فإنها ﴿كَانَتْ﴾ في سابق علم الله وحكمه الأزلي ﴿مِنَ الْغَابِرِينَ﴾؛ أي: من الهالكين لمظاهرتها إياهم، والميل إلى شد أزرهم، والدفاع عنهم، فقد كانت تدلهم على ضيوفه، فيقصدونهم بالسوء، فصارت شريكة لهم في الجرم.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر ونافع وحفص (١): ﴿مُنَجُّوكَ﴾ بالتشديد، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة ويعقوب والأعمش ﴿منجوك﴾ بالتخفيف والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر، ولا يجوز عطف الظاهر على الضمير المخفوض، وحينئذ (أهلك) منصوب على إضمار فعل؛ أي: وننجي أهلك، ومن راعى هذا الموضع عطفه على موضع الكاف، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب، وأهلك معطوف عليه؛ لأن هذه النون كالتنوين، وهما على مذهبهما يحذفان، للطافة الضمير وشدة طلبه الاتصال بما قبله.
(١) البحر المحيط.
407
٣٤ - وبعد أن بشروه بالنجاة قالوا له: ﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ يعني سذوم، وكانت مشتملة (١) على سبع مئة ألف رجل، كما في "كشف الأسرار". ﴿رِجْزًا﴾ أي: عذابًا ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: نازلًا من جهتها، وهذه الجملة مستأنفة لبيان هلاكهم المفهوم من تخصيص التنجية به وبأهله، والرجز: العذاب الذي يقلق المعذب؛ أي: يزعجه، وهو الرمي بالحجارة، وقيل: إحراقهم بنار نازلة من السماء، وقيل: هو الخسف والحصب، كما في غير هذا الموضع، ومعنى كون (٢) الخسف من السماء: أن الأمر به نزل من السماء.
وقرأ ابن عامر ﴿منزّلون﴾ بالتشديد، وبها قرأ ابن عباس. وقرى الباقون بالتخفيف، وقرأ ابن محيصن ﴿رُجزًا﴾ بضم الراء، والباء في قوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ للسببية؛ أي: بسبب فسقهم المستمر، وفعلهم الخبيث، وقرأ أبو حيوة والأعمش بكسر سين ﴿يَفْسُقُونَ﴾ فانتسف جبريل المدينة وما فيها بأحد جناحيه، فجعل عاليها سافلها، وانصبت الحجارة على من كان غائبًا عنها؛ أي: بعد خروج لوط مع بناته منها.
وأشهر الآراء (٣) أن الزلزلة خسفت بهم الأرض، وابتعلتهم في باطنها، وصار مكان قريتهم بحيرةً ملِحة (البحر الميِّت).
٣٥ - ثم بيَّن أن ما حل بهم عبرة لمن اعتبر وادَّكر، فقال: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا﴾ أي: ولقد أبقينا من القرية، و ﴿من﴾ (٤) للتبيين، لا للتبعيض؛ لأن المتروك الباقي ليس بعض القرية بل كلها. ﴿آيَةً بَيِّنَةً﴾؛ أي: علامة ودلالة واضحة ظاهرة، وهي قصتها العجيبة، وحكايتها السابقة، أو آثار ديارها الخربة، أو الحجارة الممطورة التي رُجموا بها، التي على كل واحد منها اسم صاحبها، فإنها كانت باقية بعدها، وأدركها أوائل هذه الأمة.
وقال مجاهد: ظهور الماء الأسود الباقي على وجه أرضيهم حين خسف
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
بهم، وهي بين القدس والكرك، وكان منتنًا يتأذى الناس برائحته من مسافة بعيدة، ولا مانع من حمل الآية على جميع ما ذكر.
﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: يستعملون عقولهم في الاعتبار، وهو متعلق إما بتركنا أو بينة، وفيه إشارة إلى شرف العقل، فإنه هو الذي يعتبر ويردع الإنسان عن الذنب، والوقوع في الخطر، وخص من يعقل؛ لأنه الذي يفهم أن تلك الآثار عبرة يعتبر بها من يراها.
قيل: كل شيء إذا كثر رخص غير العقل، فإنه إذا كثر غلا، قال أعرابي: لو صُوِّر العقل لأظلمت معه الشمس، ولو صُوِّر الحمق لأضاء معه الليل؛ أي: لكان الليل مضيئًا بالنسبة إليه، مع أنه لا ضوء فيه من حيث إنه ليل.
والخلاصة: أي وعزتي وجلالي، لقد أبقينا بما فعلنا بهم عبرةً بينة، وعظة زاجرة، لقوم يستعملون عقولهم في الاستبصار، وجعلناها مثلًا للآخرين. ونحو الآية قوله: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
قصة شعيب عليه السلام
٣٦ - وقوله: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾ متعلق بمحذوف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أهل مدين ﴿أَخَاهُمْ﴾ من النسب ﴿شُعَيْبًا﴾ عطف بيان، أو بدل من أخاهم؛ لأنه من نسبهم؛ أي: ولقد أرسلنا إلى مدين نبيهم شعيبًا. ﴿فَقَالَ﴾ شعيب بطريق الدعوة ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ سبحانه وحده؛ أي: أفردوه بالعبادة، وخصوه بها، وأخلصوها له ﴿وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾؛ أي: وارجوا بعبادتكم إياه اليوم جزاء اليوم الآخر وثوابه، وقيل: المعنى خافوا اليوم الآخر، وافعلوا اليوم من الأعمال ما يدفع عذابه عنكم.
قال يونس النحوي: معناه: اخشوا الآخرة، التي فيها الجزاء على الأعمال، اهـ. والمراد به يوم القيامة؛ لأنه آخر الأيام، والمعنى؛ أي: توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأحوال، وافعلوا اليوم من الأعمال ما تنتفعون به في
409
العاقبة، وتأمنون من عذاب الله، وقيل: معناه وارجوا يوم الموت؛ لأنه آخر عمرهم.
﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض مدين؛ أي: لا تفسدوا فيها، ولا تبغوا على أهلها، فتنقصوا المكيال والميزان، وتقطعوا الطريق على الناس حال كونكم ﴿مُفْسِدِينَ﴾ فيها؛ أي: مظهرين ومجاهرين الفساد فيها بالتطفيف؛ أي: لا تعتدوا حال إفسادكم، بل توبوا إلى ربكم، وأنيبوا إليه، وإنما قيد (١) العثو بالإفساد وإن غلب فيه؛ لأنه قد يكون فيه ما ليس بفساد، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، ومنه ما يتضمن صلاحًا راجحًا، كقتل الخضر الغلام، وخرقه السفينة، ويمكن (٢) أن يقال: نصب ﴿مفسدين﴾ على المصدر، كما يقال: قم قائمًا؛ أي: قيامًا، واجلس قاعدًا؛ أي: قعودًا.
فائدة: قال الفخر الرازي (٣): وأضيف شعيب هنا إلى قومه حيث قال: ﴿أخاهم شعيبًا﴾ بخلاف ما ذكره في قصة نوح وإبراهيم ولوط، فإنه أضاف القوم إليهم حيث قال: قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط؛ لأن الأصل في جميع المواضع أن يُذكر القوم، ثم يُذكر رسولهم؛ لأن الله سبحانه لا يبعث رسولًا إلى غير معين، غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص، ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها، فعرفوا بالإضافة لنبيهم، فقيل: قوم نوح وقوم لوط وقوم إبراهيم، وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس، فجرى الكلام على أصله، فقال: وإلى مدين أخاهم شعيبًا، وإلى عاد أخاهم هودًا - رضي الله عنه -. اهـ.
وقال الرازي أيضًا: قوله: ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ في قصة شعيب لم يُذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذُكر عن غيره ذلك؛ لأن لوطًا كان في زمن إبراهيم، وإبراهيم سبقه بذلك حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق، وإنما ذكر عنه ما اختص به من النهي عن الفاحشة، وأما غيره فجاؤوا في زمن غير
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) التفسير الكبير بتصرف.
410
مشتهر بالتوحيد فأمروا به، اهـ.
٣٧ - ثم ذكر ما أعقب هذا النصح فقال: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾؛ أي: فكذبوا شعيبًا فيما جاءهم به من عند ربهم، ولم يمتنعوا من الفساد.
فإن قيل (١): كيف يكذب شعيب في قوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا﴾ مع أنه لا يكذب الآمر ولا الناهي، وإنما يكذب المخبر لكون الكذب معناه: عدم مطابقة الخبر للواقع؟
قلنا: ما ذكره من الأمر والنهي يتضمن جملًا إخباريةً، فكأنه قال: الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه، فالتكذيب يرجع إلى الإخبارات الضمنية. اهـ زاده.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾ أي: أهلكتهم ﴿الرَّجْفَةُ﴾ الزلزلة الشديدة حتى تهدمت عليهم دورهم، فإن قيل (٢): قال هنا وفي الأعراف: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ وفي هود ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾؛ أي: صيحة جبريل، فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاوره من الأرض، والقصة واحدة؟ قلنا: يجوز أن يجتمع على إهلاكهم سببان الزلزلة والصيحة، وقيل: لا معارضة؛ لأن المعنى: إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته، فرجفت في قلوبهم، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب. اهـ. "زاده".
﴿فَأَصْبَحُوا﴾؛ أي: صاروا ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾؛ أي: في بلدهم أو في منازلهم، ولم يجمع (٣) هنا بأن يقال في ديارهم لأمن اللبس ﴿جَاثِمِينَ﴾؛ أي: باركين على الركب، ميِّتين مستقبلين بوجوههم الأرض؛ أي: فصاروا في مجمعهم ميِّتين لا يتحركون، وذلك بسبب عدم استماعهم إلى داعي الحق، وتزلزل باطنهم، فالجزاء من جنس العمل، وقد تقدمت هذه القصة مبسوطة في هذه السور الأعراف وهود والشعراء.
(١) زادة.
(٢) زادة.
(٣) روح البيان.
قصص هود وصالح عليهما السلام
٣٨ - قوله: ﴿وَعَادًا﴾ منصوب بإضمار فعل دل عليه ما قبله، وهو قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾؛ أي: وأهلكنا عادًا قوم هود ﴿وَثَمُودَ﴾ قوم صالح، وهو غير مصروف على تأويل القبيلة ﴿وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ﴾؛ أي: وقد ظهر لكم يا أهل مكة إهلاكنا إياهم ﴿مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾؛ أي: من جهة بقية منازلهم الكائنة باليمن ديار عاد، والحجر ديار ثمود، وهو واد بين المدينة والشام، إذا نظرتم إليها عند مروركم بها في أسفاركم إلى الشام واليمن.
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾؛ أي: وما سبب ذلك الإهلاك إلا أن زين لهم الشيطان أعمالهم القبيحة، من فنون الكفر والمعاصي، وحسنها في أعينهم بوسوسته وإغوائه ﴿فَصَدَّهُمْ﴾ الشيطان، وصرفهم بهذا التزيين ﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾؛ أي: عن الطريق السوي، الذي وجب عليهم سلوكه، الموصل إلى الحق الذي هو التوحيد والطاعة.
﴿وَ﴾ الحال أنهم ﴿كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾؛ أي: والحال أن عادًا وثمود قد كانوا ذوي بصيرة، عقلاء، متمكنين من النظر والاستدلال بواسطة الرسل التي أرسلت إليهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك لمتابعتهم الشيطان، فلم ينتفعوا بعقولهم في تمييز الحق من الباطل، فكانوا كالحيوان الغير العاقل، وقيل: المعنى: وكانوا مستبصرين في كفرهم وضلالتهم، معجبين بها، يحسبون أنهم على هدى، ويرون أن أمرهم حق، فوصفهم بالاستبصار على هذا، باعتبار ما عند أنفسهم.
وقرأ ثمود بغير تنوين حمزة والحسن وحفص، وباقي السبعة بالتنوين. وقرأ ابن وثاب ﴿وعاد وثمود﴾ بالخفض فيهما والتنوين عطفًا على مدين؛ أي: وأرسلنا إلى عاد وثمود، وقرأ الأعمش مساكنهم بالرفع من غير من، فيكون فاعلًا لـ ﴿تَبَيَّنَ﴾ ذكره أبو حيان في "البحر".
ومعنى الآية (١): أي وأهلكنا أيضًا عادًا قوم هود عليه السلام، وكانوا
(١) المراغي.
يسكنون الأحقاف، وهي قريبة من بلاد اليمن، وثمود قوم صالح، وكانوا يسكنون الحجر قريبًا من وادي القرى مع ما كانوا عليه من العتو والتكبر، وكانت العرب تعرف مساكنهم معرفة تامة، وتمر عليهم كثيرًا، وترى ما حل بهم، وما سبب ما جرى عليهم، إلا أن زين لهم الشيطان أعمالهم من عبادة غير الله تعالى، وصدهم عن الطريق السوي الذي يوصلهم إلى النجاة، وقد كانوا متمكنين من النظر والاستبصار، فلم يكن لهم عذر في الغفلة، وعدم التدبر في العواقب.
قصص موسى عليه السلام
٣٩ - قوله: ﴿وَقَارُونَ﴾ معطوف على عادًا؛ أي: وأهلكنا قارون ابن عم موسى، وقدمه على فرعون لشرف نسبه بقرابته من موسى، ففيه (١) تنبيه لكفار قريش على أن شرف نسمبهم لا يخلِّصهم من العذاب، كما لم يخلص قارون.
﴿و﴾ أهلكنا ﴿فِرْعَوْنَ﴾ اللعين ﴿وَهَامَانَ﴾ وزير فرعون؛ أي: أهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل فاستكبروا عن الحق، كما ذكره بقوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد جاء هؤلاء الثلاثة المذكورين، وأتباعهم، موسى عليه السلام بالبينات، والدلالات الواضحة، والمعجزات الباهرة. ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ عن عبادة الله ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض مصر، وتعظموا عن قبول الحق الذي جاء به موسى.
وفي قوله (٢): ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾؛ أي: عن الإقرار بالصانع وعبادته في الأرض، إشارة إلى قلة عقولهم؛ لأن من في الأرض يشعر بالضعف، ومن في السماء يُشعر بالقوة، ومن في السماء لا يستكبرون عن عبادة الله سبحانه، فكيف من في الأرض.
﴿وَمَا كَانُوا﴾؛ أي: وما كان هؤلاء وأتباعهم ﴿سَابِقِينَ﴾ عذابنا فائتين مفلتين منه، بل أدركهم أمر الله فهلكوا، من قولهم: سبق طالبه، إذا فاته ولم
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
يدركه، وقيل: المعنى وما كانوا سابقين غيرهم إلى الكفر، بل قد سبقهم إليه قرون كثيرة؛ أي تلك عادة الأمم مع رسلهم.
ومعنى الآية: أي وأهلكنا أيضًا قارون صاحب الأموال الطائلة والكنوز الكثيرة، وفرعون ملك الملوك في عصره ومصره، ووزيره هامان، ولقد جاءهم موسى بآيات بينات، تدل على صدق رسالته، فاستكبروا في الأرض، وأبوا أن يصدقوه، وأن يؤمنوا به، وما كانوا فائتين الله ولا هاربين من عقابه، بل هو قادر عليهم، وآخذهم أخذ عزيز مقتدر.
عاقبة الأمم المكذبة لرسلها
٤٠ - والفاء في قوله: ﴿فَكُلًّا﴾ من الأمم المكذبة ﴿أَخَذْنَا﴾ وعاقبنا ﴿بِذَنْبِهِ﴾؛ أي: بكفره وتكذيبه، تفسيرية؛ لأنها دخلت على الكلام المفسر، لما يُنبىء عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام؛ أي: كل واحد من الأمم المذكورة أخذنا بذنبه، أي عاقبناه بجنايته، لا بعضهم دون بعض، كما يُشعر به تقديم المفعول.
وفيه دليل على أنه تعالى لا يعاقب أحدًا إلا بذنبه، وأنهم يقولون إنه تعالى لو عاقب ابتداءً جاز، والجواب: نحن لا ننكر أنه تعالى يعاقب الكفار على كفرهم، والمذنبين بذنبهم، وإنما الكلام في أنه لو عاقب ابتداء لا يكون ظالمًا؛ لأنه يفعل ما يشاء بحكم الملك المطلق، والفاء في قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾ تفصيلية؛ لأنها دخلت على الجملة المفصلة للأخذ المذكور؛ أي (١): أهلك الله سبحانه الأمم المكذبة بأربعة ألوان من العذاب:
١ - ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا﴾ وسلطنا ﴿عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾؛ أي: ريحًا عاصفًا فيه حصباء، وهي الحصى الصغار، كقوم عاد إذا قالوا: مَن أشد منا قوة، فجاءتهم ريح صرصر، عاتية، باردة، شديدة الهبوب، تحمل الحصباء فألقتها عليهم، أو أرسل عليهم ملكًا رماهم بها، وهم قوم لوط.
(١) المراغي.
414
٢ - ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ﴾ وأهلكته ﴿الصَّيْحَةُ﴾؛ أي: صيحة جبريل كمدين وثمود، حين قامت عليهم الحجة، ولم يؤمنوا، بل استمروا في طغيانهم وكفرهم، وتهددوا نبي الله صالحًا ومن آمن معه، فصاح بهم جبريل صيحة واحدة فانشقت قلوبهم، وزهقت أرواحهم، وأخمدت منهم الأصوات والحركات.
٣ - ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ كقارون وأصحابه الذي طغى وبغى، وعصى الرب الأعلى، ومشى في الأرض مرحًا، وتاه بنفسه عجبًا، فخسف الله به وبداره الأرض، وهو الجزاء الوفاق لعمله؛ لأن المال الكثير يوضع غالبًا تحت الأرض.
٤ - ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ في الماء، كقوم نوح أغرقوا بالطوفان، وفرعون وهامان وجنودهما، أغرقوا في صبيحة يوم واحد.
ثم بيَّن أن هذه العقوبة جزاء ما اجترحوا من الآثام والذنوب، ولم تكن ظلمًا لهم، فقال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿لِيَظْلِمَهُمْ﴾ بما فعل بهم، بأن يضع العقوبة في غير موضعها، فإن ذلك محال في جهته تعالى؛ لأنه قد أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبين لهم طريق الحق والنجاة ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ باستمرارهم على الكفر، وتكذيبهم للرسل، وعملهم بالمعاصي الموجبة للعقوبة والعذاب.
والمعنى: أي ولم يكن الله ليهلكهم بغير جرم اجترموه؛ لأن ذلك ليس من سننه تعالى، وهو لا يوافق منهج الحكمة، فلا يصدر عن الحكيم، ولكنه أهلكهم بذنوبهم وكفرهم بربهم، وجحودهم نعمه عليهم، وتقلبهم في آلائه، وعبادتهم غيره، ومعصيتهم من أنعم عليهم.
قال وهب بن منبه (١): قرأت في بعض الكتب حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، ومرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وظمأ الدنيا ريُّ الآخرة، وريُّ الدنيا ظمأ الآخرة، وفرح الدنيا حزن الآخرة، وحزن الدنيا فرح الآخرة، ومن قدَّم شيئًا من خير أو
(١) روح البيان.
415
شر وجده، والأمر بآخره، ألا ترى أن هؤلاء المذكورين، لما صار آخر أمرهم التكذيب أوخذوا عليه، ولو صار آخر أمرهم التصديق لسومحوا فيما صدر عنهم أولًا.
والحاصل: أنهم لما عاشوا على الإصرار هلكوا على العذاب، ويحشرون على ما ماتوا عليه، ولذا يقولون عند القيام من قبورهم: واويلاه، فقد وعظ الله سبحانه بهذه الآيات أهل مكة، ومن جاء بعدهم إلى يوم القيامة، ليعتبروا وينتفعوا بعقولهم، ويجتنبوا عن الظلم والأذى والاستكبار والإفساد، فإن فيه الصلاح والنجاة والفوز بالمراد، لكن التربية والإرشاد إنما تؤثر في المستعد من العباد، والقرآن كالبحر، وإنما يتطهر به من كان من شأنه ذلك، كالإنسان، وأما الكلب فلا. نسأل الله سبحانه الخروج من موطن النفس، والإقامة في حظيرة القدس.
٤١ - ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ وجعلوا لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ وآلهة وأنصارًا يوالونهم، ويتكلون عليهم في حاجاتهم من دون الله سبحانه، سواء كانوا من الجماد أو الحيوان، ومن الأحياء أو من الأموات؛ أي: صفتهم العجيبة فيما اتخذوه معتمدًا وملجأً ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ﴾ التي ﴿اتَّخَذَتْ﴾ ونسجت لنفسها ﴿بَيْتًا﴾؛ أي: كمثلها فيما نسجته في الوهن، بل ذلك أوهن من هذا؛ لأن له حقيقة وانتفاعًا في الجملة.
فالآية (١) من قبيل تشبيه الهيئة بالهيئة لتشبيه حال من اتخذ الأصنام أولياء وعبدها، واعتمد عليها راجيًا نفعها وشفاعتها بحال العنكبوت التي اتخذت بيتًا، فكما أن بيتها لا يدفع عنها حرًا ولا بردًا، ولا مطرًا ولا أذًى، وينتقض بأدنى ريح، فكذلك الأصنام لا تملك لعابديها نفعًا لا ضرًا، ولا خيرًا ولا شرًا.
ومن تخيل السراب شرابًا، لم يلبث إلا قليلًا حتى يعلم أنه كان تخييلًا، ومن اعتمد شيئًا سوى الله، فهو هباء لا حاصل به، وهلاكه في نفس ما اعتمد. ومن اتخذ سواه ظهيرًا، قطع من نفسه سبيل العصمة، ورد إلى حوله وقوته.
(١) روح البيان.
416
وقيل (١): معنى هذا المثل: إن المشرك الذي يعبد الأصنام بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل العنكبوت تتخذ بيتًا من نسجها بالإضافة إلى رجل بني بيتًا بآجر وجص، أو تحته من صخر له حائط، يحول عن تطرق الشرور إلى من فيه، وسقف مظل يدفع عنه البرد والحر، فكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتًا بيتًا بيت العنكبوت، فكذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينًا دينًا عبادة الأوثان؛ لأنها لا تضر ولا تنفع.
قال الفراء (٢): ولا يحسن الوقف على العنكبوت؛ لأنه لما قصد بالتشبيه بيتها الذي لا يقيها من شيء، شُبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به، وقد جوز الوقف على العنكبوت الأخفش، وغلَّطه ابن الأنباري، قال؛ لأن ﴿اتخذت﴾ صلة للعنكبوت، كأنه قال: كمثل العنكبوت التي اتخذت بيتًا، فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول، والعنكبوت هي الدويبة الصغيرة التي تنسج نسجًا رقيقًا، كما سيأتي في التصريف.
وحاصل المعنى (٣): أي مثل الذين اتخذوا الأصنام والأوثان من دون الله أولياء، يرجون نصرهم ونفعهم لدى الشدائد في قبيح احتيالهم وسوء اختيارهم لأنفسهم، كمثل العنكبوت في ضعفها وقلة حيلتها، اتخذت لنفسها بيتًا يكنها من حر وبرد، ويدفع أذى، فلم يُغن عنها شيئًا حين حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون، لم يُغن عنهم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئًا، ولم يدفعوا عنهم ما أحله الله بهم، من سوء العذاب بكفرهم به وعبادتهم سواه.
وخلاصة ذلك: أن بيت العنكبوت لا يكن ولا يمنع أذى الحر والبرد، كما هو شأنها فيما ترون، فكذلك المعبود، ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق، وجر المنافع ودفع المضار، وما عبده الكافرون لم يفدهم شيئًا من ذلك، فكيف يُصرون على عبادتهم؟
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
417
ثم ذكر جهلهم وسوء تقديرهم لما صنعوا، فقال: ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ﴾ وأضعفها ﴿لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾ لا بيت أضعف منه، وأوهن فيما يتخذه الهوام بيتًا، ولا يدانيه في الوهي والوهن شيء من ذلك؛ لأنه بلا أساس، ولا جدار، ولا سقف، لا يدفع الحر والبرد، ولذا كان سريع الزوال، وفيه إشارة إلى أنه لا أصل لموالاة ما سوى الله، فإنه لا أس لبنيانها.
﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ أي: شيئًا من الأشياء لجزموا أن هذا مثلهم وابتعدوا عن اعتقاد ما هذا مثله، أو لو كانوا يعلمون أن اتخاذهم الأولياء من دون الله، كاتخاذ العنكبوت بيتًا، ما اتخذوهم أولياء.
والمعنى: أي لو كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء يعلمون أن أولياءهم لا يجدونهم فتيلًا ولا قطميرًا، كما لا يجدي بيت العنكبوت عنها شيئًا.. ما فعلوا ذلك الاتخاذ، لكنهم قد بلغ بهم الجهل وسوء التقدير حدًا لا يستطيعون معه العلم بعواقب ما يفعلون، ومن ثم فهم يحسبون أنهم ينفعونهم ويقربونهم إلى الله زلفى.
٤٢ - ثم زاد الإنكار توكيدًا وتثبيتًا، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ فهو على تقدير القول؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفرة، تهديدًا لهم أن الله سبحانه يعلم ﴿مَا يَدْعُونَ﴾ ويعبدون، وما استفهامية منصوبة بـ ﴿يَدْعُونَ﴾، ويعلم معلق عنها؛ أي: يعلم أي شيء يعبدون ﴿مِنْ دُونِهِ﴾؛ أي: من دون الله ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من للتبيين؛ أي: سواء كان ما يدعون صنمًا أو نجمًا أو ملكًا أو جنيًا أو غيره لا يخفى عليه ذلك، فهو يجازيهم على كفرهم؛ أي: إن الله يعلم حال ما تعبدون من دونه من الأصنام والأوثان والجن والإنس، وإنها لا تنفعكم ولا تضركم، إن أراد الله بكم سوءًا، وإن مثلها في قلة غنائها لكم كمثل بيت العنكبوت في قلة غنائه لها، ويحتمل كون ﴿مَا﴾ موصولة؛ أي: إن الله يعلم الذين تدعونهم من دونه، وكونها نافية، والمعنى؛ أي: إن الله يعلم أنه ليس الذين يدعون من دونه شيئًا، إذ هو لحقارته وقلة الاعتداد به لا يسمى شيئًا.
وقرأ أبو عمرو وسلام (١): ﴿يعلم ما﴾ بالإدغام، والجمهور بالفك. وقرأ الجمهور: ﴿تدعون﴾ بتاءالخطاب، وقرأ أبو عمرو وعاصم بخلاف عنه بياء الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيدة لذكر الأمم قبل هذه الآية.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب، القادر على الانتقام ممن كفر به، وأشرك معه في عبادته غيره، فاتقوا أيها المشركون به عقابه بالإيمان به، قبل نزوله بكم، كما نزل بالأمم الذين قص الله قصصهم في هذه السورة، فإنه إن نزل بكم، لم تغن عنكم أولياؤكم الذين اتخذتموهم من دونه شيئًا، وهو سبحانه ﴿الْحَكِيمُ﴾؛ أي: ذو الحكمة البالغة في ترك المعاجلة بالعقوبة، أو الحكيم في تدبير خلقه، فمهلك من استوجب عمله الهلاك، ومؤخر من رأى فيه الرجاء للصلاح والاستقامة.
٤٣ - ولما كان (٢) الجهلة والسفهاء من قريش يقولون: إن رب محمد لا يستحيي أن يضرب مثلًا بالذباب والبعوضة والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، بيَّن فائدة ضرب الأمثال، فقال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ﴾ والأشباه؛ أي: هذا المثل وغيره من الأمثال المذكورة في القرآن، والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول؛ أي: تشبيه حال الثاني بالأول.
﴿نَضْرِبُهَا﴾؛ أي: نذكرها ونبينها ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ أي: لأهل مكة وغيرهم تقريبًا لما بعد عن أفهامهم، وإيضاحًا لما أشكل عليهم أمره واستعصى عليهم حكمه، ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا﴾؛ أي: وما يفهم حسن تلك الأمثال، وفائدتها التي ضربناها لأجلها ﴿إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ بالله، الراسخون في العلم، المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي، المتفكرون فيما يُتلى وما يشاهدونه، وهم الذين عقلوا عن الله؛ أي: ما صدر عنه، فعملوا بطاعته، واجتنبوا سخطه، والعالم في الحقيقة من حجزه علمه عن المعاصي، فالعاصي جاهل وإن كان عالمًا صورة.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
فإن قيل: لِمَ (١) لَمْ يقل وما يعلمها إلا العاقلون، والعقل يسبق العلم؟
قلنا: لأن العقل آلة، تُدرك بها معاني الأشياء بالتأمل فيها، ولا يمكن التأمل فيها والوصول إليها بطريقها إلا بالعلم، ودلت الآية على فضل العلم على العقل، ولا عالم منا إلا وهو عاقل، فأما العاقل فقد يكون غير عالم.
٤٤ - ولما قدم سبحانه أن لا معجز له سبحانه، ولا ناصر لمن خذله، أقام الدليل على ذلك بقوله: ﴿خَلَقَ اللَّهُ﴾؛ أي: أنشا وأوجد سبحانه وتعالى ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ السبع ﴿وَالْأَرْضَ﴾ على غير مثال سابق، حالة كونه سبحانه متلبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي (٢): مراعيًا للحكم والمصالح، على أنه حال من فاعل خلق، أو حالة كونها متلبسة بالحق الذي لا محيد عنه، مستتبعةً للمنافع الدينية والدنيوية، على أنه حال من مفعوله، فإنها مع اشتمالها على جميع ما يتعلق به معاشهم شواهد دالة على وحدانيته، وعظم قدرته، وسائر صفاته، كما أشار إليه بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: في خلقهما ﴿لَآيَةً﴾ دالة على شؤونه؛ أي: لدلالة عظيمة وعلامة ظاهرة على قدرته، وتفرده بالإلهية ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ خص المؤمنين بالذكر مع عموم الهداية، والإرشاد في خلقهما للكل؛ لأنهم المنتفعون بذلك.
والمعنى: أي: خلق الله السموات والأرض لحكم وفوائد دينية ودنيوية، ولم يخلقهما عبثًا ولهوًا، فبخلقها أمكن إيجاد كل ممكن تعلق به العلم، واقتضت الإرادة إيجاده، وأمكن معرفة الخالق الذي أوجدها، وعبادته كفاء نعمه، كما جاء في الحديث القدسي، حكايةً عن الله عز وجل: "كنت كنزا مخفيًا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق فبي عرفوني" وفيه مقال.
ولا يفهم هذه الأسرار إلا من آمنوا بالله وصدقوا رسوله؛ لأنهم هم الذين يستدلون بالآثار مؤثرها، كما أثر عن بعض العرب: البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على المسير.
٤٥ - ثم خاطب رسوله مسليًا له بقوله: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾؛ أي: اقرأ يا محمد
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
420
ما أنزل إليك ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: من القرآن، وأدم تلاوته تقربًا إلى الله بقراءته، وتحفظًا لنظمه، وتذكرًا لمعانيه وحقائقه، فإن القارىء المتأمل ينكشف له في كل مرة ما لم ينكشف قبل، وتذكيرًا للناس، وحملًا لهم على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق، كما رؤي أن عمر - رضي الله عنه - أتي بسارق فأمر بقطع يده، فقال: لِم تقطع يدي؟ وكان جاهلًا بالأحكام، فقال له عمر: بما أمر الله في كتابه، فقال: اتل على، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)﴾ فقال السارق: والله ما سمعتها ولو سمعتها ما سرقت، فأمر بقطع يده ولم يعذره. فسن عمر التراويح بالجماعة ليسمع الناس القرآن، وهذا هو السب في مشروعية التراويح.
وعن علي - رضي الله عنه - من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة، كان له بكل حرف مئة حسنة، ومن قرأ وهو جالس في الصلاة، فله بكل حرف خمسون حسنة، ومن قرأ وهو في غير الصلاة، وهو على وضوء، فخمس وعشرون حسنة، ومن قرأ على غير وضوء فعشر حسنات.
وعن الحسن البصري، قراءة القرآن في غير الصلاة، أفضل من صلاة لا يكون فيها كثير القراءة، قال الفقهاء أفضل التلاوة على الوضوء والجلوس نحو القبلة، وأن يكون غير مربع ولا متكىء ولا جالس جلسة متكبر، ولكن يجلس نحو ما يجلس بين يدي من يهابه ويحتشم منه.
﴿وَأَقِمِ﴾ يا محمد أنت وأمتك ﴿الصَّلَاةَ﴾؛ أي: داوم على إقامتها وأدائها على الوجه القيم، مريدًا بذلك وجه الله تعالى، والإنابة إليه مع الخشوع والخضوع له، والمراد بالصلاة هنا الصلوات المفروضة، ولما كان أمره - ﷺ - بإقامتها متضمنًا لأمر الأمة بها، علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ﴾ المعروفة، وهي المقرونة بشرائطها الظاهرة والباطنة، المستوفية لأركانها وآدابها ﴿تَنْهَى﴾ الناس وتمنعهم؛ أي: من شأنها وخاصيتها أن تنهاهم وتمنعهم ﴿عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾؛ أي: عن الفعلة القبيحة كالزنا والسرقة مثلًا ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾؛ أي: وعن كل ما أنكره الشرع
421
والعقل، من الذنوب والمعاصي، ففيه عطف العام على الخاص، فكأنها (١) تقول له كيف تعصي ربًا هو أهل لما أتيت به، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه، وأنت وقد أتيت بما أتيت به من أقوال وأفعال، تدل على عظمة المعبود وكبريائه، وإخباتك له وإنابتك إليه، وخضوعك لجبروته وقهره، إذا عصيته وفعلت الفحشاء والمنكر تكون كالمناقض نفسه بين قوله وفعله.
أي: تكون (٢) الصلاة سببًا للانتهاء عن المعاصي كبائرها وصغائرها، حال الاشتغال بها وغيرها، من حيث إنها تذكر الله وتورث للنفس خشية منه، قيل (٣): من كان مراعيًا للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يومًا، فقد رُوي أنه قيل لرسول الله - ﷺ - إن فلانًا يصلي بالنهار وشرق بالليل، فقال: "إن صلاته لتردعه".
وروي أن فتى من الأنصار، كان يصلي معه - ﷺ - الصلوات، ولا يدع شيئًا من الفواحش إلا ركبه فوصف له، فقال: "إن صلاته ستنهاه، فلم يلبث أن تاب". وعن الحسن: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه.
فإن قلت (٤): لم أمر بهذين الشيئين، تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة فقط؟
قلت: لأن العبادة المختصة بالعبد ثلاثة؟
قلبية: وهي الاعتقاد الحق.
ولسانية: وهي الذكر الحسن.
وبدنية: وهي العمل الصالح. لكن الاعتقاد لا يتكرر، فإن من اعتقد شيئًا لا يمكنه أن يعتقده مرة أخرى، بل ذلك يدوم مستمرًا فبقي الذكر والعبادة البدنية، وهما ممكنا التكرار، فلذلك أمر بهما.
وقيل (٥): معنى ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾؛ أي: عن التعطيل
(١) المراغي
(٢) البيضاوي.
(٣) النسفي.
(٤) الخازن.
(٥) المراح بتصرف.
422
وهو إنكار وجود الله سبحانه. ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾؛ أي: عن الإشراك، وهو إثبات الألوهية لغير الله تعالى، فالعبد أول ما يشرع في الصلاة يقول: الله أكبر، فبقول الله ينفي التعطيل، وبقوله: أكبر ينفي الإشراك؛ لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر، فيما فيه الاشتراك، فإذا قال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ نفى التعطيل، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ نفى الإشراك؛ لأن ﴿الرَّحْمَنِ﴾ من يعطي الوجود بالخلق، و ﴿الرَّحِيمِ﴾ من يعطي البقاء بالرزق، فإذا قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أثبت خلاف التعطيل، وإذا قال: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أثبت خلاف الإشرِاك، فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ نفى التعطيل والإشراك، وكذا إذا قال: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
إذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾ نفى التعطيل؛ لأن طالب الصراط له مقصد، والمعطل لا مقصد له، وإذا قال: ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ نفى الإشراك؛ لأن ﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو الأقرب، والمشرك يعبد الأصنام، ويظنون أنهم يشفعون لهم، وعبادة الله من غير واسطة أقرب، وعلى هذا إلى آخر الصلاة، فإذا قال فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، فقد نفى الإشراك والتعطيل.
ومعنى نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر (١): أنها سبب للانتهاء عنهما؛ لأنها مناجاة لله تعالى، فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته، وإعراض عن معاصيه. اهـ من "المراح".
﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى إياكم برحمته ونعمته في الدنيا، وبالثواب والثناء عليكم منه في الآخرة ﴿أَكْبَرُ﴾ من ذكركم إياه بعبادتكم وصلواتكم، واختار هذا المعنى ابن جرير، ويؤيده حديث "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"، وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له؛ لأن ذكره بلا علة ولا غرض، وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى، وذكركم لا يبقى. اهـ. أو المعنى: ولذكر الله بسائر أنواعه، من تهليل وتحميد وتسبيح وغير ذلك أكبر؛ أي: أفضل من
(١) المراح.
423
الطاعات التي ليس فيها ذكر؛ لأن (١) ثواب الذكر هو الذكر، كما قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾. أو المعنى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ﴾؛ أي: والصلاة ﴿أَكْبَرُ﴾ وأفضل من سائر الطاعات، وإنما عبر عنها بالذكر، كما في قوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ للإيذان بأن ما فيها من ذِكره تعالى، هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات.
وقيل المعنى (٢): أن ذِكر الله أكبر - مع المداومة - من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر، وقال الضحاك: ولذكر الله عندما يحرم، فيترك أجل الذكر، وقيل: المعنى: ولذكر الله، للنهي عن الفحشاء والمنكر أكبر؛ أي: كبير، وقيل: ولذكر الله في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة؛ أي: أكبر ثوابًا، وقيل: أكبر من سائر أركان الصلاة، وقيل: ولذكر الله نهيه أكبر من نهي الصلاة.
والذكر النافع: هو الذي كان مع العلم وإقبال القلب، وتفرغه إلا من الله، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى، وذكر الله تعالى للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ وتفعلون من الذكر ومن سائر الطاعات، فيجازيكم به أحسن المجازاة؛ أي: يعلم ما تأتون به من خير أو شر، لا يخفى عليه شيء من أمركم، وهو يجازيكم كفاء أعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، كما جرت بذلك سنته في خلقه، وهو الحكيم الخبير، ولا يخفى ما في ذلك من وعد ووعيد، وحث على مراقبة الله تعالى في السر والعلن. ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ نسأل الله أن يوفقنا للفعل الحسن والصنع الجميل، ويسعدنا بالمقام الأرفع، والأجر الجزيل، بمنه وكرمه. آمين.

فصل في ذكر نبذة من أحاديث الذكر


عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء
(١) روح البيان.
(٢) القرطبي.
424
الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "ذكر الله" أخرجه الترمذي.
وله عن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله - ﷺ - سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا"، قالوا: يا رسول الله، والغازي في سبيل الله؟ فقال: "لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر، ويختضب في سبيل الله دمًا، لكان الذاكرون الله كثيرًا أفضل منه درجة".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "سبق المفردون"، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات". ويروى "المفردون" بتشديد الراء وتخفيفها، والتشديد أتم، يقال فرد الرجل بتشديد الراء إذا تفقه واعتزل الناس وحده مراعيًا للأمر والنهي، وقيل هم المتخلفون عن الناس بذكر الله، لا يخلطون به غيره، أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله - ﷺ - أنه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده، أخرجه البخاري.
وروي أن أعرابيًا قال: يا رسول الله؛ أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تفارق الدنيا، ولسانك رطب بذكر الله".
الإعراب
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤)﴾.
﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة محذوف معلوم من السياق، تقديره: فدعا إبراهيم قومه إلى التوحيد ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿جَوَابَ قَوْمِهِ﴾: خبرها مقدم ومضاف إليه. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع، على كونه اسم
425
﴿كَانَ﴾ مؤخرًا، والتقدير: فما كان جواب قومه إلا قولهم، وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿اقْتُلُوهُ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَوْ حَرِّقُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿اقْتُلُوهُ﴾. ﴿فَأَنْجَاهُ اللَّهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فقذفوه في النار فأنجاه الله سبحانه وتعالى. ﴿أَنْجَاهُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. ﴿مِنَ النَّارِ﴾ متعلق بـ ﴿أَنْجَاهُ﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: جار ومجرور، خبرها مقدم على اسمها. ﴿لَآيَاتٍ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿آيات﴾: اسمها مؤخر. ﴿لِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿آيات﴾، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل الإنجاء المذكور.
﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٥)﴾.
﴿وَقَالَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على إبراهيم، معطوف على ﴿أَنْجَاهُ اللَّهُ﴾. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿اتَّخَذْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿اتَّخَذْ﴾. ﴿أَوْثَانًا﴾: مفعول أول له. ﴿مَوَدَّةَ﴾: مفعول لأجله. ﴿بَيْنِكُمْ﴾: مضاف إليه لـ ﴿مَوَدَّةَ﴾. ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلق بـ ﴿اتَّخَذْتُمْ﴾، أو حال من فاعل ﴿اتَّخَذْ﴾، وجملة ﴿اتَّخَذ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، وقد جرينا في الإعراب على قراءة حفص، واخترنا أمثل الأوجه وأسهلها، وهذه الآية قد شغلت المعربين كثيرًا لاختلاف قرائتها، وجهات النظر فيها. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يَكْفُرُ﴾. ﴿يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِبَعْضٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَكْفُرُ﴾ أيضًا، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿اتَّخَذْتُمْ﴾. ﴿وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿يَكْفُرُ﴾ ﴿وَمَأْوَاكُمُ﴾: مبتدأ أو خبر مقدم. و ﴿النَّارُ﴾: خبر أو مبتدأ مؤخر،
426
والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية في قوله: ﴿يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ نَاصِرِينَ﴾ مبتدأ مؤخر. و ﴿مِنْ﴾: زائدة، والجملة في محل النصب معطوفة على الجمل التي قبلها.
﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦)﴾.
﴿فَآمَنَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فكذبه قومه فاَمن له لوط. ﴿آمَنَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُ﴾: متعلق به. ﴿لُوطٌ﴾ فاعل ﴿آمَنَ﴾. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿وَقَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على إبراهيم معطوف على ﴿آمَنَ﴾. ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ﴾: ناصب واسمه وخبره. ﴿إِلَى رَبِّي﴾: متعلق بـ ﴿مُهَاجِرٌ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر أول لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان لها. وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول قال.
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)﴾.
﴿وَوَهَبْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على مقدر، مأخوذ من لفظ العزيز؛ أي: أعززناه ووهبنا له، إلخ. ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿وَهَبْنَا﴾. ﴿إِسْحَاقَ﴾: مفعول به. ﴿وَيَعْقُوبَ﴾: معطوف عليه. ﴿وَجَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَهَبْنَا﴾. ﴿فِي ذُرِّيَّتِهِ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿النُّبُوَّةَ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿وَالْكِتَابَ﴾ معطوف على النبوة. ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿أَجْرَهُ﴾ مفعول ثان لـ ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾. لأنه بمعنى أعطينا. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: حال من ضمير أجره. ﴿وَإِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾: حال من ضمير إنه. ﴿لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إِنَّ﴾ واللام حرف ابتداء، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَاهُ﴾.
﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٨)﴾.
427
﴿وَلُوطًا﴾: معطوف على إبراهيم، أو منصوب بفعل محذوف تقديره: واذكر لوطًا. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، بدل اشتمال من ﴿لُوطًا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿لِقَوْمِهِ﴾ متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَتَأْتُونَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿تَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾: نافية ﴿سَبَقَكُمْ﴾: فعل ومفعول. ﴿بِهَا﴾ متعلق بـ ﴿سَبَقَ﴾. ﴿مِنْ﴾ حرف جر زائد. ﴿أَحَدٍ﴾: فاعل. ﴿مِنَ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أَحَدٍ﴾. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتقرير فحشها وهجنة فاعلها، ورجح أبو حيان أن تكون هذه الجملة حالًا من فاعل ﴿تأتون﴾؛ أي: أتاتون الفاحشة حال كونكم مبتدعين لها غير مسبوقين بها.
﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
﴿أَئِنَّكُمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري ﴿إنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَتَأْتُونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿تَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿تَأْتُونَ﴾. ﴿وَتَأْتُونَ﴾: معطوف عليه أيضًا. ﴿فِي نَادِيكُمُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَأْتُونَ﴾. ﴿الْمُنْكَرَ﴾: مفعول به. ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: فنهاهم عن الفاحشة، فما كان جواب قومه. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿جَوَابَ قَوْمِهِ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم ومضاف إليه. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أن﴾، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على أنه اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخر؛ أي: فما كان جواب قومه إلا قولهم. ﴿ائْتِنَا﴾: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿بِعَذَابِ اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿إِنْ﴾: حرف شرط: ﴿كُنْتَ﴾:
428
فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ خبره وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن كنت من الصادقين، فائتنا به، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية في محل النصب مقول قالوا.
﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (٣١)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿لُوطٌ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿انْصُرْنِي﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الرب، والنون للوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿عَلَى الْقَوْمِ﴾: متعلق بـ ﴿انْصُرْنِي﴾. ﴿الْمُفْسِدِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾. ﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة على محذوف يقتضيه السياق، تقديره: فاستجاب الله دعاء لوط، وأرسل ملائكةً لإهلاكهم، وأمرهم أن يبشروا إبراهيم بالذرية، فجاؤوا أولًا إلى إبراهيم. ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط غير جازم ﴿جَاءَتْ رُسُلُنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: مفعول به. ﴿بِالْبُشْرَى﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَتْ﴾ والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿ما﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على تلك المحذوفة، أعني، قولنا: فجاؤوا أولًا إلى إبراهيم. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿مُهْلِكُو﴾: خبره مرفوع بالواو. ﴿أَهْلِ﴾: مضاف إليه، وهو مضاف ﴿هَذِهِ﴾: مضاف إليه. ﴿الْقَرْيَةِ﴾: صفة لـ ﴿هَذِهِ﴾ أو عطف بيان له، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّ أَهْلَهَا﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانُوا ظَالِمِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معللة لما قبلها.
﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٢)﴾.
429
﴿قَالَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على إبرا هيم، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِيهَا﴾: خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿لُوطًا﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿بِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور صلة ﴿مَن﴾ الموصولة. ﴿لَنُنَجِّيَنَّهُ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿نُنَجِّيَنّ﴾: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والهاء: ضمير متصل في محل النصب مفعول به. ﴿وَأَهْلَهُ﴾: معطوف على الضمير. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿امْرَأَتَهُ﴾: منصوب على الاستثناء، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿كَانَتْ﴾: فعل ماض ناقص واسمها يعود على ﴿امْرَأَتَهُ﴾. ﴿مِنَ الْغَابِرِينَ﴾: خبرها، وجملة كان في محل النصب حال من ﴿امْرَأَتَهُ﴾.
﴿وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾.
﴿وَلَمَّا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: فجاؤوا لوطًا. ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط. ﴿أَنْ﴾: زائدة كما مر. ﴿جَاءَتْ رُسُلُنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿لُوطًا﴾: مفعول به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿سِيءَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة كقيل وبيع، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿لُوطًا﴾. ﴿بِهِمْ﴾: متعلق به، والجملة جواب لما لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿وَضَاقَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿سِيءَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿لُوطًا﴾. ﴿بِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿ضَاقَ﴾. ﴿ذَرْعًا﴾: تمييز محول عن نائب الفاعل؛ أي: ضاق ذرعه بهم.
﴿وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)﴾.
430
﴿وَقَالُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿سِيءَ﴾ على كونه جواب لما. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَخَفْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿لُوطٌ﴾ مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَلَا تَحْزَنْ﴾ معطوف على ﴿لَا تَخَفْ﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿مُنَجُّوكَ﴾: خبره مرفوع بالواو ومضاف إلى مفعوله. ﴿وَأَهْلَكَ﴾: منصوب بفعل محذوف، تقديره: وننجي أهلك. ولا يجوز عطفه على الكاف لعدم الفاصل، والجملة المحذوفة في محل الرفع معطوفة على ﴿مُنَجُّوكَ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿امْرَأَتَكَ﴾: منصوب على الاستثناء، وجملة ﴿كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ في محل النصب حال من ﴿امْرَأَتَكَ﴾، كما مر آنفًا. ﴿إِنَّا مُنْزِلُونَ﴾: ناصب واسمه وخبره. ﴿عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مُنْزِلُونَ﴾، وجملة ﴿إِنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿رِجْزًا﴾: مفعول ﴿بِمَا﴾. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿رِجْزًا﴾. ﴿بِمَا﴾ الباء حرف جر وسبب. ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْسُقُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَان﴾ صلة ﴿مَا﴾ المصدرية. ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء؛ أي: بفسقهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿مُنْزِلُونَ﴾. ﴿وَلَقَدْ﴾: الواو استئنافية. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿تَرَكْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿تَرَكْنَا﴾، أو هو المفعول الثاني لها. ﴿آيَةً﴾: مفعول به، أو مفعولها الأول؛ لأن ﴿تَرَكْ﴾ اختلف فيها النحاة، فمنهم من جعلها تتعدى إلى واحد، ومنهم من جعلها بمعنى صيَّر فتتعدى إلى مفعولين، وهو اختيار ابن مالك. ﴿بَيِّنَةً﴾: صفة ﴿آيَةً﴾. ﴿لِقَوْمٍ﴾: متعلق بـ ﴿تَرَكْنَا﴾، أو بـ ﴿آيَةً﴾، أو بـ ﴿بَيِّنَةً﴾، وهو أظهر، وجملة ﴿يَعْقِلُونَ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾ وجملة ﴿تَرَكْ﴾: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة.
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦)﴾.
431
﴿وَإِلَى﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِلَى مَدْيَنَ﴾: متعلق بمحذوف معطوف على أرسلنا في قصة نوح؛ أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا ﴿أَخَاهُمْ﴾: مفعول به. ﴿شُعَيْبًا﴾: بدل، أو عطف بيان منه. ﴿فَقَالَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿قَال﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على شعيب، والجملة معطوفة على أرسلنا المحذوف. ﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَارْجُوا الْيَوْمَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿اعْبُدُوا﴾. ﴿الْآخِرَ﴾ صفة لـ ﴿الْيَوْمَ﴾. ﴿وَلَا تَعْثَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به. ﴿مُفْسِدِينَ﴾ حال من فاعل ﴿تَعْثَوْا﴾ مؤكدة لعاملها، والجملة معطوفة على جملة ﴿اعْبُدُوا﴾.
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٣٧) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)﴾.
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿كَذَّبُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على قوله: ﴿فَقَالَ﴾. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾: فعل ومفعول. ﴿الرَّجْفَةُ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾. ﴿فَأَصْبَحُوا﴾: فعل ناقص واسمه معطوف على ﴿كَذَّبُوهُ﴾. ﴿فِي دَارِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿جَاثِمِينَ﴾. ﴿جَاثِمِينَ﴾: خبر ﴿أَصْبَحُ﴾. ﴿وَعَادًا﴾: مفعول لفعل محذوف معلوم من قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾، تقديره: وأهلكنا عادًا، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾، أو على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾. ﴿وَثَمُودَا﴾: معطوف على ﴿عَادًا﴾ ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي؛ لأنه بمعنى القبيلة. ﴿وَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، أو حالية. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿تَبَيَّنَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير مستتر، يعود على الإهلاك المفهوم من أهلكنا المقدر؛ أي: وقد تبين لكم إهلاكهم. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَبَيَّنَ﴾. ﴿مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَبَيَّنَ﴾ أيضًا؛ أي: والحال أنه قد تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم حين مررتم عليها، والجملة معطوفة على
432
أهلكنا المقدر، أو حالية. ﴿وَزَيَّنَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿زَيَّنَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمُ﴾: متعلق به. ﴿الشَّيْطَانُ﴾: فاعل. ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ مفعول به،
والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب إهلاكهم. ﴿فَصَدَّهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿صَدَّهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر. ﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿زَيَّنَ﴾. ﴿كَانُوا﴾: الواو: حالية. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مُسْتَبْصِرِينَ﴾: خبره، والجملة في محل النصب حال من ضمير لهم.
﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (٣٩)﴾.
﴿وَقَارُونَ﴾: معطوف على ﴿عَادًا﴾. ﴿وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾: معطوفان عليه. ﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿جَاءَهُمْ مُوسَى﴾: فعل ومفعول وفاعل مؤخر. ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة. ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَاءَ﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾. ﴿مَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانُوا سَابِقِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾.
﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾.
﴿فَكُلًّا﴾: ﴿الفاء﴾: تفسيرية؛ لأنها فسرت الأخذ الذي يدل عليه قوله: ﴿وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت قولنا وما كانوا سابقين، وأردت بيان عاقبة أمرهم فأقول لك: ﴿كُلًّا أَخَذْنَا﴾. ﴿كُلًّا﴾: مفعول مقدم لـ ﴿أَخَذْنَا﴾ ﴿أَخَذْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، أو الجملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب. ﴿بِذَنْبِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَخَذْنَا﴾.
433
﴿فَمِنْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفصيل. ﴿وَمِنْهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿أَخَذْنَا﴾ مفصلة لها. ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿حَاصِبًا﴾: مفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿وَمِنْهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: فمنهم من أرسلنا. ﴿أَخَذَتْهُ﴾: فعل ومفعول. ﴿الصَّيْحَةُ﴾: فاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ﴾: مبتدأ وخبر معطوف على جملة ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا﴾. ﴿خَسَفْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾ متعلق به ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول به، والجملة صلة الموصول.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ﴾: مبتدأ وخبر معطوف على الجملة الأولى. ﴿أَغْرَقْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: أغرقناه. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿كَانَ اللَّه﴾: فعل ناقص واسمه ﴿لِيَظْلِمَهُمْ﴾: اللام حرف نفي وجحود. ﴿يَظْلِمَهُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لظلمهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿كَانَ﴾، تقديره: وما كان الله مريدًا لظلمهم، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا﴾. ﴿وَلَكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَكِنْ﴾: حرف استدراك. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول مقدم. لـ ﴿يَظْلِمُونَ﴾، وجملة ﴿يَظْلِمُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كَان﴾. والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ﴾، أو حال من مفعول ﴿يَظْلِمَهُمْ﴾.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)﴾.
434
﴿مَثَلُ﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه. ﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿اتَّخَذُوا﴾؛ أي: حال كونهم مجاورين الله. ﴿أَوْلِيَاءَ﴾: مفعول به. ﴿كَمَثَلِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ. ﴿الْعَنْكَبُوتِ﴾: مضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿اتَّخَذَتْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿الْعَنْكَبُوتِ﴾. ﴿بَيْتًا﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب حال من ﴿الْعَنْكَبُوتِ﴾. ﴿وَإِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، كما في الجمل، أو استئنافية. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿أَوْهَنَ الْبُيُوتِ﴾: اسمها ومضاف إليه. ﴿لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾. واللام حرف ابتداء، والجملة مستأنفة، أو حال من ﴿الْعَنْكَبُوتِ﴾. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾: خبره، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف، تقديره: لو كانوا يعلمون أن مثلهم كمثل العنكبوت ما عبدوها، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَدْعُونَ﴾. ﴿يَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما يدعونهم ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: حال من فاعل ﴿يَدْعُونَ﴾. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَدْعُونَ﴾. ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾: نافية. و ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ مفعول ﴿يَدْعُونَ﴾ على أن ﴿مِنْ﴾ زائدة لسبقها بالنفي، وجملة ﴿مَا يَدْعُونَ﴾: في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ. ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر أول ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)﴾.
﴿وَتِلْكَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿تلك﴾: مبتدأ. ﴿الْأَمْثَالُ﴾: بدل، أو عطف بيان له، وجملة ﴿نَضْرِبُهَا﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾. ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿نَضْرِبُهَا﴾، ويجوز أن
435
تكون الأمثال خبر ﴿تِلْكَ﴾، وجملة ﴿نَضْرِبُهَا﴾ حالًا، أو خبرًا ثانيًا له. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَعْقِلُهَا﴾: فعل ومفعول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الْعَالِمُونَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من مفعول ﴿نَضْرِبُهَا﴾. ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿بِالْحَقِّ﴾: حال من فاعل ﴿خَلَقَ﴾، أو من مفعوله. والباء للملابسة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾: مقدم. ﴿لَآيَةً﴾: اسمها مؤخر. و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: صفة لـ ﴿لَآيَةً﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (٤٢)﴾.
﴿اتْلُ﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهو الواو، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿أُوحِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: حال من نائب فاعل أوحي. ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿اتْلُ﴾. ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تَنْهَى﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿تَنْهَى﴾ ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾: معطوف على ﴿الْفَحْشَاءِ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل إقامة الصلاة. ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿ذِكْرُ اللَّهِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿أَكْبَرُ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾ وجملة ﴿تَصْنَعُونَ﴾ صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تصنعونه.
436
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ﴾ أصل (١) القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت، لكن إذا اعتُبر بفعل المتولي لذلك، يقال: قتل، وإذا اعتُبر بفوت الحياة، يقال: موت. ﴿أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ والفرق بين التحريق والإحراق، وبين الحرق، أن الأول: إيقاع ذات لهب في الشيء، ومنه استُعير أحرقني بلومه إذا بالغ في أذيته بلوم، والثاني: إيقاع حرارة في الشيء من غير لهب، كحرق الثوب بالدق، كما في "المفردات". كما مر.
﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ وآمن به متقارب في المعنى، كما مر. ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ قال في "المفردات": الهجر والهجران مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، قال بعضهم: معناه إني راجع من نفسي ومن الكون إليه، فالرجوع إليه بالانفصال عما دونه، ولا يصح لأحد الرجوع إليه، وهو متعلق بشيء من الكون، حتى ينفصل عن الأكوان أجمع ولا يتصل بها.
﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا﴾ وأجر الدنيا الرزق الواسع الهني والمنزل الرحب، والمورد العذب، والزوجة الصالحة والثناء الجميل والذِكرُ الحسن، ﴿لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ جمع صالح وهو الباقي على ما ينبغي، يقال: طعام بعد صالح؛ أي: هو باق على حال حسنة.
﴿لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ الفاحشة الفعلة القبيحة، التي تنفر منها النفوس الكريمة.
﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك، وفيه سهولة، وقطع الطريق يقال: على وجهين:
أحدهما: يراد به قطع السير والسلوك.
والثاني: يراد به الغصب من المارة والسالكين للطريق؛ لأنه يؤدي إلى انقطاع الناس عن الطريق، فجُعل قطعًا للطريق، وكانوا يتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ الأموال.
(١) روح البيان.
437
﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ﴾ قال في "كشف الأسرار": النادي مجمع القوم للسمر والأنس، وجمعه أندية اهـ والنادي والندوة والمنتدى مجلس القوم نهارًا أو المجلس ما داموا مجتمعين فيه وجمعه أندية ولا تقل في جمعه نوادٍ، وغلط صاحب المنجد حيث جمعه على نواد، ويقال: ما يندوهم النادي؛ أي: ما يُسمعهم المجلس. من كثرتهم. وقال الزمخشري: ولا يقال: للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه لم يبق ناديًا. ﴿الْمُنْكَرَ﴾ قال الراغب: المنكر كل شيء تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استقباحه العقول وتحكم بقبحه الشريعة، انتهى.
﴿أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾؛ أي: قرية سذوم ﴿مِنَ الْغَابِرِينَ﴾؛ أي: الباقين في العذاب، أو القرية، وهو لفظ مشترك في الماضي والباقي، يقال: فيما غير من الزمان؛ أي: فيما مضى. ويقال الفعل ماض وغابر؛ أي: باق.
﴿سِيءَ بِهِمْ﴾؛ أي: اعتراه المساءة بسببهم، مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء؛ أي: فاحشة. ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ الذرع الطاقة والقوة، وفي المصباح ضاق بالأمر ذرعًا عجز عن احتماله، وذرع الإنسان طاقته التي يبلغها وعبارة الزمخشري: وقد جعلت العرب ضيق الذراع، والذرع عبارةً عن فقد الطاقة، كما قالوا: رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقًا له، والأصل فيه: أن الرجل إذا طالت ذراعه، نال ما لا يناله قصير الذراع، فضُرب ذلك مثلًا في العجز والقدرة، والذراع من الرجل من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى، والذراع من المقاييس طوله بين الخمسين والسبعين سنتيمترًا.
﴿رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ الرجز والرجس العذاب من قولهم: ارتجز وارتجس إذا اضطرب وارتعش لما يلحق المعذب من القلب والاضطراب.
﴿وَلَا تَعْثَوْا﴾؛ أي: ولا تفسدوا، وفي "المصباح" عثا يعثو وعثي يعثى، من باب قال وتعب أفسد، فهو عاث. وفي "القاموس": وعثا كرمى وسعى ورضي عثيًا وعثيًّا وعثيانًا وعثا يعثو عثوًا أفسد.
﴿الرَّجْفَةُ﴾ الزلزلة الشديدة، وفي "الأساس": ورجفت الأرض فأخذتهم الرجفة. ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾ ورجف الشجر وأرجفته الريح، ورجف البعير
438
تحت الرحل، والمطي تحت رحالها إذا اضطرب.
﴿جَاثِمِينَ﴾؛ أي: مقيمين من جثم الطائر إذا قعد ولصق بالأرض، والمراد أنهم ماتوا. ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ يقال استبصر في أمره إذا كان ذا بصيرة. ﴿وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ من قولهم: سبق طالبه إذا فاته ولم يدركه، قال الراغب: أصل السبق المتقدم في السير، ثم تجوِّز به في غيره من المتقدم، كما قال بعضهم: إن الله تعالى طالب كل مكلف بجزاء عمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. ﴿أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ قال بعضهم: الأخذ أصله باليد، ثم يستعار في مواضع، فيكون بمعنى القبول، كما في قوله: ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾؛ أي: قبلتم عهدي، وبمعنى التعذيب في هذا المقام، قال في "المفردات": الأخذ حوز الشيء وتحصيله، وذلك تارةً بالتناول، نحو ﴿مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ﴾ وتارةً بالقهر، نحو ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ ويقال: أخذته الحمي، ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ.
﴿حَاصِبًا﴾ الحاصب الريح العاصفة فيها حصباء، وفي "المختار": عصفت الريح اشتدت، وبابه ضرب وجلس. اهـ. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ والإغراق كما في "التاج": والغرق الرسوب في الماء؛ أي: السفول والنزول فيه.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ مثل الشيء بفتحتين صفته، كما في "المختار"، والاتخاذ افتعال من الأخذ، والمراد بالأولياء الآلهة والأصنام.
﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ﴾ والعنكبوت يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، والغالب في الاستعمال التأنيث، وتاؤه كتاء طاغوت؛ أي زائدة لا للتأنيث، وهي دويبة معروفة تنسج من لعابها خيوطًا، وتصيد بذلك النسيج طعامها، والجمع عناكب وعنكبوتات، والعنكب ذكرها، والجمع عناكب وعناكيب والعنكبة والعنكباة والعكنباة أنثاها، والجمع عناكب وعناكيب.
وقال علماء التصريف: والعنكبوت معروف، ونونه أصلية، والواو والتاء مزيدتان بدليل قولهم: في الجمع عناكب وفي التصغير عنيكيب، ويذكّر ويؤنّث، وهذا مطرد في أسماء الأجناس، وقال ابن يعيش في شرح المفصل: ومن ذلك
439
فعللوت، قالوا عنكبوت وتخربوت، ولم يأت صفةً فالعنكبوت معروفة، وهي دويبة تنسج لها بيوتًا من خيوط واهية، والتخربوت الناقة الفارهة، والواو والتاء في آخرهما زائدتان زيدًا في آخر الرباعي، كما زيدا في آخر الثلاثي من نحو ملكوت ورهبوت.
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ﴾ جمع مثل، والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول؛ أي: تشبيه حال الثاني بالأول. ﴿نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ قال في "المفردات": ضرب المثل هو من ضرب الدرهم اعتبارًا بضربه بالمطرقة، وهو ذكر شيء أثره يظهر في غيره.
﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ قال الإِمام الراغب في "المفردات": العقل يقال: للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل، ولهذا قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -:
أقُوْلُ الْعَقْلُ عَقْلاَنِ فَمَطْبُوْعٌ وَمَسْمُوْعُ
وَلاَ يَنْفَعُ مَطْبُوْعٌ إِذَا لَمْ يَكُ مَسْمُوْعُ
كَمَا لَا تَنْفَعُ الشَمْسُ وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوْعُ
وإلى الأول: أشار عليه السلام بقوله: "ما خلق الله خلقًا أكرم عليه من العقل"، وإلى الثاني: أشار بقوله: "ما كسب أحد شيئًا أفضل من عقل يهديه إلى هدى، ويرده عن ردى"، وهذا العقل هو المعني بقوله: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ وكل موضع ذم فيه الكفار بعدم العقل، فإشارة إلى الثاني دون الأول، وكل موضع رُفع فيه التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول، انتهى.
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ التلاوة القراءة على سبيل التوالي، والإيحاء إعلام في الخفاء، ويقال: للكلمة الإلهية التي تُلقى إلى الأنبياء وحي، والله أعلم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
440
فمنها: الترديد بين قتله وإحراقه في قوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ فقد يكون ذلك من قائلين ناس أشاروا بالقتل، وناس أشاروا بالإحراق، وفي سورة الأنبياء ﴿حَرِّقُوهُ﴾ اقتصروا على أحد الأمرين، وهو الذي فعلوه، فرموه في النار ولم يقتلوه، اهـ من "النهر". وعبارة الرازي: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ﴾؛ أي: قال رؤساء القوم لأتباعهم؛ لأن الجواب لا يصدر إلا من الأكابر، والقتل لا يباشره إلا الإتباع اهـ.
ومنها: أسلوب الإيجاز في قوله: ﴿أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ أي: حرقوه في النار، وفي قوله: ﴿فَأَنْجَاهُ اللَّهُ﴾؛ أي: فقذفوه في النار، فأنجاه الله من النار.
ومنها: التأكيد بعدة مؤكدات، والإطناب بتكرار الفعل، تهجينًا لعملهم القبيح، وتوبيخًا لهم، في قوله: ﴿إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾ الآية.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿إِئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾.
ومنها: الاستهزاء والسخرية في قوله: ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾؛ أي: إن كنت صادقًا فائتنا به.
ومنها: فن الإشارة في قوله: ﴿إِنَّ فِيهَا لُوطًا﴾؛ لأنه ليس المراد إخبارهم يكون لوط في القرية، وإنما هو جدال في شأنه؛ لأنهم ذكروا أن أهلها سيهلكون بسبب إمعانهم في الظلم، فاعترض عليهم، بأن فيها من هو بريء الساحة من الذنب، لم يجترح ذنبًا، ولم يقترف إثمًا، ولم يشارك قومه فيما هم ممعنون فيه من غي وارتكاس، وفي هذا كله أيضًا، إشارة إلى أن من واجب الإنسان المؤمن أن يتحزن لأخيه، وأن يسارع إلى رد الحيف عنه، ويتشمر للدفع عنه، وهذا من بليغ الإشارة وخفيِّها.
ومنها: التنكير لإفادة التهويل في قوله: ﴿رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: رجزًا عظيمًا هائلًا.
ومنها: تقديم المفعول على عامله للعناية والاهتمام في قوله: {فَكُلًّا أَخَذْنَا
441
بِذَنْبِه}.
ومنها: الإجمال ثم التفصيل في قوله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾؛ لأن فيه إجمالًا، وفي قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾ إلخ؛ لأن فيه تفصيلًا لما أجمل أولًا.
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ حيث شبه حال من اتخذ الأصنام أولياء وعبدها، واعتمد عليها راجيًا نفعها وشفاعتها، بحال العنكبوت التي اتخذت بيتًا، فكما أن بيتها لا يدفع عنها حرًا، ولا بردًا ولا مطرًا ولا أذًى، وينتقض بأدنى ريح، فكذلك الأصنام لا تملك لعابديها نفعًا ولا ضرًا ولا خيرًا ولا شرًا، فالآية من قبيل تشبيه الهيئة بالهيئة، لتشبيه حال الكفار بحال العنكبوت، وسمي تمثيليًا؛ لأن وجه المشبه فيه صورة منتزعة من متعدد.
ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير، وما فيه من جرس عذب بديع، مثل ﴿انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ - ﴿إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ ومثل ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ - ﴿آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ مثلًا، وهو من خصائص القرآن.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ في الدُّنْيَا وَإِنَّهُ في الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾؛ لأنه كناية عن ضيق صدره وغم قلبه.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾.
ومنها: الحال المؤكدة في قوله: ﴿وَلَا تَعْثَوْا في الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾ تفخيمًا لشأنها.
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
442
وَالْمُنْكَرِ}.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
الحمد لله الذي تتم به الصالحات، والصلاة والسلام على أفضل الكائنات، سيدنا محمد وعلى آله وجميع الصحابات (١).
* * *
(١) وهذا آخر ما يسره الله لنا، من تفسير هذا الجزء الكريم، بتوفيقه ومنه الجسيم، وفضله وكرمه العميم، وكان الفراغ منه منتصف النهار قبيل صلاة الظهر في مكة المكرمة، في المسفلة في اليوم السادس من شهر شعبان، من شهور سنة ألف وأربع مئة وثلاث عشرة سنة، ٦/ ٨/ ١٤١٣ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
وهذا آخر المجلد الحادي والعشرين، ويليه المجلد الثاني والعشرين وأوله: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ انتهى التصحيح في ١٦/ ١/ ١٤١٨ هـ.
443
وما أحسن قول القائل:
444
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الثاني والعشرون»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[٢٢]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4
شعرٌ
إِذَا رَأيْتَ أَثِيْمَا كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا
يَا مَنْ يُقَبِّحُ شَرْحِيْ لِمَ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا
كُنْ مِنَ الخَلْقِ جَانِبَا وَارْضَ بِاللهِ صَاحِبَا
قَلِّبِ الخَلْقَ كَيْفَ شِئْـ ـتَ تَجِدْهُ عَقَارِبَا
آخرُ
أَلاَ إِنَّمَا الدُّنْيَا كِظِلِّ سَحَابَةٍ أَظَلَّتْكَ يَوْمًا ثُمَّ عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ
فَلاَ تَكُ فَرْحَانًا بِهَا حِيْنَ اقْبَلَتْ وَلاَ تَكُ جَزْعَانًا بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ
آخرُ
سَقَامُ الْحِرْصِ لَيْسَ لَهُ شِفَاءُ وَدَاءُ الْجَهْلِ لَيْسَ لَهُ طَبْيْبُ
آخرُ
وَفُيْ الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لأَهْلِهِ وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ
وَإِنِ امْرَأً يَحْيَى بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ وَلَيْسَ لَهُ حِيْنَ النُّشُوْرِ نُشُوْرُ
آخرُ
5

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أطلق ألسن من شاء من عباده بالقرآن العظيم، وأطلع قلوبهم على خبايا معانيه بالفهم القويم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب الخلق العظيم، وعلى آله وصحبه أولي المعارف والفضل الجسيم.
أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء العشرين من القرآن الكريم.. تفرغت - إن شاء الله تعالى - لتفسير الجزء الحادي والعشرين منه، مستمدًا من الله التوفيق والهداية، لأقومِ الطريق في تفسير كتابه بما يناسب ويليق، فقلت: وهذا قولي:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)
7
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)}.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (١) طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول، والمبالغة في تسفيه آرائهم، وتوهين شبههم.. أردف ذلك بذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى، بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسن، ولا يسفه آراءهم، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم.
ذلك أن المشركين جاؤوا بالمنكر من القول، ونسبوا إلى الله سبحانه ما لا ينبغي من الشريك والولد، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه، لكنهم أنكروا نبوة محمد - ﷺ - وقالوا: إن شريعتهم باقية على وجه الدهر، لا تنسخ بشريعة أخرى، فينبغي إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته، وصدق رسالته، بما يكون لهم فيه مقنع، وبما لو
(١) المراغي.
8
تأملوا فيه.. وصلوا إلى الصواب، وأدركوا الأمر على الوجه الحق، إلا من ظلموا منهم وعاند، ولم يقبلوا النصح والإرشاد، فاستعملوا معهم الغلظة في القول، والأسلوب الجاف في الحديث، لعلهم يتوبون إلى رشدهم، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين، ثم أمر رسوله أن يقول لهم: آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن، وأنزل إليكم من التوراة والإنجيل، وإن إلهنا وإلهكم واحد، ونحن مطيعون له.
ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما أن من أهل مكة من يؤمن به، وما يجحد به إلا من توغل في الكفر، وعدم حسن التأمل والفكر، إذ لا ريب في صدق رسوله، وأن كتابه منزل من عند ربه، فإن رجلًا أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم العلم، ولم يدارس إنسانًا مدى حياته، يأتي بهذه الحكم والأحكام، وجميل الآداب ومكارم الأخلاق، مما لم يكن له مثيل في محيط نشأ به، ولا في بلد كان يأويه، لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر الدليل على أن القرآن من عند الله تعالى، وليس بمفترًى من عند محمد - ﷺ -.. أردف هذا شبهةً أخرى لهم، وهي أنهم طلبوا من النبي - ﷺ - أن يأتي لهم بمعجزة محسوسة، كما أتى بذلك الأنبياء السابقون، كناقة صالح وعصا موسى، فأجابهم بأن أمر ذلك إلى الله سبحانه، لا إليه، فلو علم اْنكم تهتدون بها.. لأجابكم إلى ما طلبتم، ثم بين سخف عقولهم، وطلبهم الآيات الدالة على صدقه، بعد أن جاءهم بالمعجزة الباقية على وجه الدهر، وهي القرآن يتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار، فيه خبر من قبلهم، ونبأ من بعدهم، وحكم ما بينهم، وفيه بيان الحق ودحض الباطل، وفيه ذكرى حلول العقاب بالمكذبين والعاصين.
ثم أبان أن الله شهيد على صدقه، وهو العلم بما في السماوات والأرض، ثم هدد الكافرين بأن كل من يكذب رسل الله بعد قيام الأدلة على صدقهم،
9
ويؤمن بالجبت والطاغوت.. فقد خسرت صفقته، وسينال العقاب من ربه، جزاءً وفاقًا على جحوده وانكاره.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (١) سبحانه لما أنذر المشركين بالعذاب، وهددهم أعظم تهديد.. قالوا له تهكمًا واستهزاءً: إن كان هذا حقًا فائتنا به، وهم يقطعون بعدم حصوله، فأجابهم بأنه لا يأتيكم بسؤالكم، ولا يعجل باستعجالكم؛ لأن الله أجله لحكمة، ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته، وارتضته رحمته.. لعجله لكم، ولأوقعه بكم، وانه ليأتيكم فجأةً وأنتم لا تشعرون به، ثم تعجب منهم في طلبهم الاستعجال، وهو سيحيط بهم في جميع نواحيهم، ويقال لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون.
قوله تعالى: ﴿يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (٢) لما ذكر أحوال المشركين، وأنذرهم بالخسران، وجعلهم من أهل النار.. اشتد عنادهم للمؤمنين، وكثر أذاهم لهم، ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى، إن تعذرت عليهم العبادة في ديارهم.
ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس، كريهة لديها.. بين لهم أن المكروه واقع لا محالة، إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، فأولى لكم أن يكون ذلك في سبيل الله، لتنالوا جزاءه، ومرجعكم إلى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهنالك الغرف التي تجري من تحتها الأنهار، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين، المتوكلين على ربهم، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته، وهو السميع لدعائهم، العليم بحاجتهم.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
10
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) بين الأمر للمشركين، وذكر لهم سوء مغبة أعمالهم.. خاطب المؤمنين بما فيه ذكر لهم، وإرشاد للمشرك لو تأمله، وفكر فيه، ومثل هذا مثل الوالد له ولدان: أحدهما رشيد، والآخر مفسد، فهو ينصح للمفسد أولًا، فإن لم يسمع.. يعرض عنه ويلتفت إلى الرشيد قائلًا: إن هذا لا يستحق أن يخاطب، فاسمع أنت، ولا تكن كهذا المفسد، فيكون في هذا نصيحة للمصلح، وزجر للمفسد، ودعوة له إلى سبيل الرشاد.
قوله تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف أنهم يعترفون بأن الله هو الخالق، وأنه هو الرازق، وهم بعد ذلك يتركون عبادته، ويعبدون من دونه شركاء، اغترارًا بزخرف الدينا وزينتها.. أردف ذلك أن ما في هذه الدنيا باطل، وعبث زائل، وإنما الحياة الحقة هي الحياة الآخرة، التي لا فناء بعدها، فلو أوتوا شيئًا من العلم.. ما آثروا تلك على هذه.
ثم أرشد إلى أنهم - مع إشراكهم بربهم - سواء في الدعاء والعبادة، إذا هم ابتلوا بالشدائد، كما إذا ركبوا البحر، وعلتهم الأمواج من كل جانب، وخافوا الغرق.. نادوا الله معترفين بوحدانيته، وأنه لا منجي سواه، وليتهم استمروا على ذلك، ولكن سرعان ما يرجعون القهقرى، ويعودون سيرتهم الأولى، كما هو دأب من يعمل للخوف لا للعقيدة.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن المشركين حين يشتد بهم الخوف إذا ركبوا في الفلك ونحوه لجؤوا إلى الله وحده، مخلصين له العبادة.. ذكر هنا أنهم حين الأمن، كما إذا كانوا في حصنهم الحصين، وهو مكة التي يأمن من دخلها من الشرور والأذى يكفرون به، ويعبدون معه سواه، وتلك حال من التناقض لا
(١) المراغي.
11
يرضاها لنفسه عاقل، فإن دعاءهم إياه حال الخوف مع الإخلاص، ما كان إلا ليقينهم بأن نعمة النجاه منه لا من سواه، فكيف يكفرون به حين الأمن، وهم يوقنون بأن الأصنام حين الخوف لا تجديهم فتيلاً ولا قطميرًا.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والدارمي في "مسنده"، وأبو داود من طريق عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة قال: جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي - ﷺ -: "كفى بقوم ضلالةً أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم" فنزلت: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ...﴾ الآية.
وعن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال (٢): دخل عمر بن خطاب على النبي - ﷺ - بكتاب فيه مواضع من التوراة، فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله - ﷺ - تغيرًا شديدًا، لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله - ﷺ -؟ فقال عمر: رضينا بالله ربًا، وبالإِسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، فسرى عن رسول الله - ﷺ - وقال: "ولو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني.. لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم" أخرجه عبد الرزاق.
قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ...﴾ الآية، سبب نزولها (٣): ما أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم والبيهقي، وابن عساكر بسند ضعيف، عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله - ﷺ - حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: "يا ابن عمر مالك لا تأكل؟ " قلت: لا أشتهيه، قال: "لكني أشتهيه، وهذا صبح رابعةٍ لم أذق طعامًا، ولم أجده، ولو
(١) لباب النقول.
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول.
12
شئت لدعوت روح فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا لقيت قومًا يخبئون رزق سنتهم، ويضعف اليقين". قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)﴾ فقال رسول الله - ﷺ -: "إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا باتباع الشهوات، ألا وإني لا أكنز دينارًا ولا درهمًا، ولا أخْبَأ رزقًا لغدٍ".
وروى ابن عباس: أن النبي - ﷺ - قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: "اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة" قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لتقتلنا، والأعراب أكثر منا، فمتى ما يبلغهم أنا قد دخلنا في دينك.. اختطفتنا فكنا أكلة رأس، فأنزل الله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا...﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٤٦ - ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ أي: ولا تخاصموا اليهود والنصارى أيها المؤمنون ﴿إِلَّا بِالَّتِي﴾ إلا بالخصلة التي ﴿هِيَ أَحْسَنُ﴾ وأسهل (١) كمعاملة الخشونة باللين، والغضب بالحلم، والمشاغبة - أي: تحريك الشر وإثارته - بالنصح؛ أي: بتحريك الخير وإثارته، والعجلة بالتاني والاحتياط، على وجه لا يؤدي إلى الضعف، ولا إلى إعظام الدنيا الدنية، يعني: جادلوهم على سبيل الدعاء لهم إلى الله عز وجل، والتنبيه لهم على حججه وبراهينه، رجاء إجابتهم إلى الإِسلام، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿إِلَّا بِالَّتِي﴾ حرف استثناء، وقرأ ابن عباس: ﴿ألا﴾:
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
13
حرف تنبيه واستفتاح، تقديره: ألا جادلوهم بالتي هي أحسن.
﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ (١) بالإفراط في الاعتداء والعناد، فإن الكافر إذا وصف بمثل الفسق والظلم.. حمل على المبالغة فيما هو فيه، أو بإثبات الولد لله، وهم أهل نجران، أو بنبذ العهد ومنع الجزية ونحو ذلك، كقولهم: يد الله مغلولة، فلا بأس بالإغلاظ عليهم، والتخشين في مجادلتهم، فإنه يجب حينئذ الموافقة بما يليق بحالهم، من الغلظة باللسان، وبالسيف والسنان.
وعبارة "المراح" هنا: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: ولا تخاصموا (٢) اليهود والنصارى إلا بالأحسن؛ أي: بعدم استخفاف آرائهم، وبعدم نسبة آبائهم إلى الضلال؛ لأنهم جاؤوا بكل حسن، غير الاعتراف بالنبي - ﷺ - فإنهم آمنوا بإنزال الكتب، وارسال الرسل، وبالحشر، ففي مقابلة إحسانهم يجادلون بالأحسن، إلا الذين أشركوا منهم، بإثبات الولد لله، وبالقول بثالث ثلاثة، فيجادلون حينئذٍ بالأخشن، من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم، كالمشرك الذي جاء بالمنكر من غيرهم، فاللائق أن يجادل بالأخشن، ويبالغ في تهجين مذهبه، وتوهين شبهه. اهـ.
وعبارة "الخازن" هنا: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾؛ أي: أبوا أن يعطوا الجزية، ونصبوا الحرب ففاجؤوهم بالسيف، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، ومعنى الآية: إلا الذين ظلموكم؛ لأن جميعهم ظالم بالكفر، وقيل: هم أهل الحرب ومن لا عهد له، وقيل: الآية منسوخة بآية السيف اهـ.
هكذا (٣) فسر الآية أكثر المفسرين، بأن المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وقيل: معنى الآية: لا تجادلوا من آمن بمحمد - ﷺ - من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وسائر من آمن منهم، إلا بالتي هي أحسن، يعني بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أهل الكتاب، ويكون المراد بالذين ظلموا
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
14
على هذا القول: هم الباقون على كفرهم، وقيل: هذه الآية منسوخة بآيات القتال، وبذلك قال قتادة ومقاتل، قال النحاس: من قال: هي منسوخة، احتج بأن الآية مكيّة، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض، ولا طلب جزية ولا غير ذلك، وقال سعيد بن جبير ومجاهد: إن المراد بـ ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ الذين نصبوا القتال للمسلمين بالسيف، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.
فإن قلت (١): كيف قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ مع أن جميع أهل الكتاب ظالمون؛ لأنهم كافرون، وقال تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾؟
قلتُ: المراد بالظلم هنا: الامتناع عن قبول عقد الذمة، أو نقض العهد بعد قبوله.
﴿وَقُولُوا﴾ أيها المؤمنون للذين قبلوا الجزية، إذا حدثوكم بشيء مما في كتبهم ﴿آمَنَّا﴾ بالصدق والإخلاص ﴿بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ من القرآن ﴿وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ من التوراة والإنجيل؛ أي: آمنّا بأنهما منزلان من عند الله تعالى، وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإِسلامية، والبعثة المحمدية، ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه، ﴿وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ﴾ لا شريك له في الألوهية، ولا ضد له ولا ند، ﴿وَنَحْنُ﴾ معاشر أمة محمد ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى، لا لغيره ﴿مُسْلِمُونَ﴾؛ أي: مطيعون له منقادون خاصةً، ولا نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نتخذ أحبارنا ورهباننا أربابًا من دون الله.
ويحتمل أن يراد (٢): ونحن جميعًا منقادون له، ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتم من انقياد أهل الكتاب، وطاعتهم أبلغ من طاعاتهم، وفيه تعريض الفريقين، حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله تعالى.
وأخرج البخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه،
(١) فتح الرحمن.
(٢) الشوكاني.
15
والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام، فقال رسول الله - ﷺ -: "لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون". وفي رواية: وقولوا: "آمنا بالله وبكتبه وبرسله، فإن قالوا باطلًا.. لم تصدقوهم، وإن قالوا حقًا.. لم تكذبوهم".
قال ابن الملك (١): إنما نهى عن تصديقهم وتكذيبهم؛ لأنم حرفوا كتابهم، وما قالوه إن كان من جملة ما غيروه، فتصديقهم يكون تصديقا بالباطل، وإن لم يكن كذلك.. يكون تكذيبهم تكذيبًا لما هو حق، وهذا أصل في وجوب التوقف فيما يشكل من الأمور والعلوم، فلا يقضى فيه بجواز ولا بطلان، وعلى هذا كان السلف رحمهم الله تعالى.
والمعنى (٢): أي إذا حدثكم أهل الكتاب عن كتبهم، وأخبروكم عنها بما يمكن أن يكونوا صادقين فيه، وأن يكونوا كاذبين، ولم تعلموا حالهم في ذلك.. فقولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا، والتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم، ومعبودنا ومعبودكم واحد، ونحن خاضعون له، منقادون لأمره ونهيه.
٤٧ - ثم بين أنه لا عجيب في إنزال القرآن على الرسول، فهو على مثال ما أنزل من الكتب من قبل، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ خطاب للرسول - ﷺ - والإشارة فيه إلى مصدر الفعل الذي بعده، كما بيناه في مواضع كثيرة؛ أي: ومثل ذلك الإنزال البديع الموافق لإنزال سائر الكتب، أنزلنا عليك القرآن، وقيل: المعنى كما أنزلنا الكتب على من قبلك أيها الرسول، أنزلنا إليك هذا الكتاب؛ أي: القرآن.
و ﴿الفاء﴾ (٣) في قوله: ﴿فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ من الطائفتين، لترتيب ما
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
16
بعدها على ما قبلها، فإن إيمانهم به مترتب على إنزاله. على الوجه المذكور، ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾؛ أي: بالقرآن، يعني مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأضرابه من أهل الكتاب خاصة، وخصهم بإيتائهم الكتاب، لكونهم العاملين به، وكان غيرهم لم يؤتوه، لعدم عملهم بما فيه، وجحدهم لصفات رسول الله - ﷺ - المذكورة.
وقيل: المراد بهم، من تقدم عهد الرسول - ﷺ - حيث كانوا مصدقين بنزوله حسبما شاهدوا في كتابهم، ومنهم قس بن ساعدة، وبحيرا، ونسطورا، ورقة وغيرهم، وتخصيصهم بإيتاء الكتاب: للإيذان بأن من بعدهم من معاصري رسول الله - ﷺ - قد نزع منهم الكتاب بالنسخ، فلم يؤتوه.
والإشارة في قوله: ﴿وَمِنْ هَؤُلَاءِ﴾ إلى أهل مكة ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾؛ أي: بهذا القرآن، وهم من أسلم منهم، وقيل: الإشارة إلى جميع العرب.
والمعنى: أي كما أنزلنا الكتب من قبلك أيها الرسول، أنزلنا إليك هذا الكتاب، فالذين آتيناهم الكتب ممن تقدم عهدك من اليهود والنصارى، يؤمنون به إذ كانوا مصدقين بنزوله، بحسب ما علموا عندهم من الكتاب، ومن كفار قريش وغيرهم من يؤمن به.
﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾ أي: بالكتاب (١) المعظم بالإضافة إلينا، يعني: القرآن، عبر عنه بالآيات: للتنبيه على ظهور دلالته على معانيه، وعلى كونه من عند الله. ﴿إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ المتوغلون في الكفر، والمصممون عليه من المشركين وأهل الكتاب، ككعب بن الأشرف وأصحابه، وأبي جهل وأضرابه، فإن ذلك يصدهم عن التأمل فيما يؤديهم إلى معرفة حقيقتها.
والمعنى (٢): أي وما يكذب بآياتنا ويجحد بحقيقتها، إلا من يستر الحق بالباطل، ويغطي ضوء الشمس بالوصائل، ويغمط حق النعمة عليه، وينكر التوحيد عنادًا واستكبارًا.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
17
واعلم (١): أن المجادلة في الدين، تبطل ثواب الأعمال إذا كانت تعنتًا وترويجًا للباطل، وأما الجدال بالحق لإظهاره، فمأمور به، وقد جادل علي - رضي الله عنه - شخصًا قال: إني أملك حركاتي وسكناتي، وطلاق زوجتي، وعتق أمتي، فقال علي - رضي الله عنه -: أتملكها دون الله، أو مع الله؟ فإن قلت: أملكها دون الله.. فقد أثبت مالكًا دون الله، وإن قلت أملكها مع الله.. فقد أثبت له شريكًا، كذا في "شرح المواقف".
٤٨ - ثم ذكر ما يؤيد إنزاله، ويزيل الشبهة في افترائه، فقال: ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿تَتْلُو﴾ وتقرأ ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾؛ أي: من قبل القرآن؛ أي: وما كانت عبادتك يا محمد قبل إنزالنا إليك القرآن، أن تتلو تقرأ شيئًا. ﴿مِنْ كِتَابٍ﴾ من الكتاب المنزلة، ﴿وَلَا تَخُطُّهُ﴾؛ أي: ولا أن تكتب كتابًا من الكتب المذكورة ﴿بِيَمِينِكَ﴾؛ أي: بيدك، وذكر اليمين (٢) لكون الكتابة غالبًا باليمين، لا أنه لا يخط بيمينه ويخط بشماله، فإن الخط بالشمال من أبعد النوادر.
قال الشيعة: إنه - ﷺ - كان يحسن الخط قبل الوحي، ثم نهي عنه بالوحي، وقالوا: إن قوله: ﴿وَلَا تَخُطُّهُ﴾ نهي، فليس بنفي الخط.
قال في "كشف الأسرار": قرىء ﴿ولا تخطه﴾ بالفتح على النهي، وهو شاذ، والصحيح: أنه لم يكتب. انتهى.
وفي "الأسئلة المقحمة" قول الشيعة مردود؛ لأن ﴿وَلَا تَخُطُّهُ﴾ لو كان نهيًا.. لكان بنصب الطاء، أو قال: لا تخططه بطريق التضعيف.
﴿إِذًا﴾: لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط، أو ممن يعتادهما.. ﴿لَارْتَابَ﴾ وشك في نبوتك ﴿الْمُبْطِلُون﴾ أي: المشركون، وقالوا: لعله التقط ما يتلوه علينا من كتب الله المنزلة على الأنبياء، أو من الكتب المدونة في أخبار الأمم، فلما كنت أميًّا لا تقرأ ولا تكتب، لم يكن هناك موضع للريبة، ولا محل للشك أبدًا، بل إنكار من أنكر، وكفر من كفر مجرد عنادٍ وجحود بلا شبهة.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
18
وخلاصة ما سلف (١): أنك قد لبثت يا محمد في قومك عمرًا طويلًا، قبل أن تأتي بهذا القرآن لا تقرأ ولا تكتب، وكل واحد من قومك يعرف أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهذه صفتك في الكتب المتقدمة، كما قال: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.
فلا وجه إذًا للشك في أن هذا القرآن منزل من عند الله، وليس مفتعلًا من صنع يدك، تعلمته من الكتب المأثورة عمن قبلك، كما حكى سبحانه عنهم من نحو قولهم: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥)﴾.
فإن قلت (٢): لم سماهم المبطلين، ولو لم يكن أميًا وقالوا: ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا محقين، ولكان أهل مكة أيضًا على حق في قولهم: لعله تعلمه أو كتبه، فإنه رجل قارىء كاتب؟
قلت: لأنهم كفروا به، وهو أمي بعيد من الريب، فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به، لو لم يكن أميًا.. لارتابوا أشد الريب، فحيث إنه ليس بقارىءٍ ولا كاتب، فلا وجه لارتيابهم، قيل: وسماهم مبطلين؛ لأن ارتيابهم على تقدير أنه - ﷺ - يقرأ ويكتب ظلم منهم لظهور نزاهته، ووضوح معجزاته.
قال في "الأسئلة المقحمة": كيف منّ الله على نبيه بأنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، وهما من قبيل الكمال، لا من قبيل النقص؟
والجواب: إنما وصفه بعدم القراءة والكتابة؛ لأن أهل الكتاب كانوا يجدون من نعته في التوراة والإنجيل، بأنه لا يقرأ ولا يكتب، فأراد تحقيق ما وعدهم به على نعته إياه، ولأن الكتابة في قبيل الصناعات، فلا توصف بالمدح ولا بالذم، ولأن المقصود من الكتابة والخط: هو الاحتراز عن الغفلة والنسيان، وقد خصه الله تعالى بما فيه غنية عن ذلك، كالعين بها غنية عن العصا والقائد. انتهى.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
19
وقال في "أسئلة الحكم": كان - عليه السلام - يعلم الخطوط ويخبر عنها، فلماذا لم يكتب؟
والجواب: أنه لو كتب لقيل: قرأ القرآن من صحف الأولين. انتهى.
قال النيسابوري: إنصا لم يكتب، لأنه إذا كتب وعقد الخنصر يقع ظل قلمه وإصبعه على اسم الله تعالى وذكره، فلما كان ذلك قال الله تعالى: لا جرم يا حبيبي لَمَّا لَمْ ترد أن يكون قلمك فوق اسمي، ولم ترد أن يكون ظل القلم على اسمي، أمرت الناس أن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوتك تشريفًا لك وتعظيمًا، ولا أدع بسبب ذلك ظلك يقع على الأرض صيانةً له أن يوطأ بالأقدام. انتهى.
فائدة: قيل أول من كتب الكتاب العربي، والفارسي، والسرياني، والعبراني، وغيرها من بقية الاثني عشر، وهي: الحميري، واليوناني، والرومي، والقبطي، والبربري، والأندلسي، والهندي، والصيني - آدم عليه السلام، كتبها في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض وانفرق.. وجد كل قوم كتابًا فكتبوه، فأصاب إسماعيل - عليه السلام - الكتاب العربي، وأما ما جاء "أول من خط بالقلم: إدريس - عليه السلام - ". فالمراد به: خط الرمل.
٤٩ - ثم أكد ما سلف، وبين أنه منزل من عند الله حقًا، فقال: ﴿بَلْ هُوَ﴾؛ أي: بل هذا القرآن ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾؛ أي: آيات واضحات الإعجاز، ثابتات راسخات ﴿في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ به، يعني: المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده - ﷺ - وحفظوه بعده.
أي (١): بل القرآن آيات واضحات، ثابتة راسخة في قلوب الذين أعطوا العلم بالقرآن، فليس مما يشك فيه، لكونه محفوظًا، من غير أن يلتقط من كتاب، بحيث لا يقدر على تحريفه أحد، بخلاف غيره من الكتب، فإنه لا يقرأ إلا في المصاحف.
(١) المراح.
20
والمعنى: أن المؤمنين يقرؤون القرآن بالحفظ عن قلب تلقيًا منك، وبعضهم من بعض، وأنت تلقيته من جبريل عن اللوح المحفوظ، فلم تأخذه من كتاب بطريق تلقيه منه.
يعني (١): كونه محفوظًا في الصدور من خصائص القرآن؛ لأن من تقدم كانوا لا يقرؤون إلا نظرًا، فإذا أطبقوها.. لم يعرفوا منها شيئًا، سوى الأنبياء، وما نقل عن قارون: من أنه كان يقرأ التوراة على ظهر قلب فغير ثابت.
وقال قتادة ومقاتل (٢): إن الضمير يرجع إلى النبي - ﷺ -؛ أي: بل محمد آيات بينات؛ أي: ذو آيات.
وقرأ ابن مسعود: ﴿بل هي آيات بينات﴾. قال الفراء: معنى هذه القراءة: بل آيات القرآن آيات بينات، واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل، وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميفع ﴿بل هذا آيات بينات﴾ ولا دليل في هذه القراءة على ذلك؛ لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القرآن، كما جاز أن تكون إلى النبي - ﷺ - بل رجوعها إلى القرآن أظهر، لعدم احتياج ذلك إلى التأويل، والتقدير وقوله: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ (٣) إضراب عن ارتيابهم؛ أي: ليس القرآن مما يرتاب فيه، لكونه في الصدور، وكونه محفوظًا بخلاف غيره من الكتب، فإنه لا يقرأ إلا في المصاحف، ولذا جاء في وصف هذه الأمة: صدورهم أناجيلهم. اهـ. "شهاب". وهو جمع إنجيل، والمعنى: أنهم يقرؤون كتاب الله عز وجل عن ظهر قلب، وهو مثبت محفوظ في صدورهم، كما كان كتاب النصارى مثبتًا في أناجيلهم؛ أي: كتبهم اهـ. "زاده".
وفي بعض الآثار: "ما حسدتكم اليهود والنصارى على شيء كحفظ القرآن" قال أبو أمامة: إن الله لا يعذب بالنار قلبًا وعى القرآن. وقال - عليه السلام -: "القلب الذي ليس فيه شيء من القرآن، كالبيت الخراب". وفي الحديث
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) الفتوحات.
21
الصحيح: "تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتًا من الإبل من عقالها"؛ أي: من الإبل المعقلة إذا أطلقها صاحبها، والتعاهد والتعهد، التحفظ؛ أي: المحافظة وتجديد الأمر به، والمراد هنا، الأمر بالمحافظة على تلاوته، والمداومة على تكراره.
فمن سنة القارىء (١): أن يقرأ القرآن كل يوم وليلة، كيلا ينساه، وعن النبي - ﷺ -: "عرضت علي ذنوب أمتي، فلم أو ذنبًا أكبر من آية أو سورة أوتيها الرجل، ثم نسيها". والنسيان أن لا يمكنه القراءة من المصحف، كذا في "القنية". وكان ابن عيينة يذهب إلى أن النسيان الذي يستحق صاحبه اللوم، ويضاف إليه الإثم: ترك العمل به، والنسيان في "لسان العرب": الترك. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾؛ أي: تركوا. وقال تعالى: ﴿نَسُوا اللهَ﴾ أي: تركوا طاعته، ﴿فَنَسِيَهُمْ﴾؛ أي: فترك رحمتهم.
قال شارح "الجزرية": وقراءة القرآن من المصحف أفضل من قراءته من حفظه. هذا هو المشهور عن السلف، ولكن ليس هذا على إطلاقه، بل إن كان القارىء من حفظه يحصل له التدبر والتفكر، وجمع القلب والبصر، أكثر مما يحصل له من المصحف، فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن تساويا فمن المصحف أفضل؛ لأن النظر في المصحف عبادة، واستماع القرآن من الغير في بعض الأحيان من السنن.
قال إبراهيم الخواص - رحمه الله تعالى -: دواء القلب خمسة: قراءة القرآن بالتدبر والخلاء، وقيام الليل، والتضرع إلى الله عند السحر، ومجالسة الصالحين. جعلنا الله وإياكم من أهل الصلاح والفلاح، إنه القادر الفتاح فالق الإصباح، خالق المصباح.
﴿وَمَا يَجْحَدُ﴾ وما ينكر ﴿بِآيَاتِنَا﴾ مع كونها كما ذكر ﴿إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾؛ أي: المتجاوزون للحدود في الشر والمكابرة والفساد والعناد؛ أي (٢): وما يكذب
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
22
بآياتنا، ويبخس حقها، ويردها إلا المعتدون المكابرون، الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه، ونحو الآية قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧)﴾.
وإنما قال أولًا: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ وثانيًا: ﴿إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ وثالثًا: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ مع أن المراد بكل من الثلاثة: اليهود والمشركون، للتفتن وتسجيلًا عليهم باسم كل من الثلاثة.
٥٠ - ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: قال كفار قريش ﴿لَوْلَا﴾ تحضيضية بمعنى هلا؛ أي: هلا ﴿أُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾ أي: على محمد ﴿آيَاتٌ﴾ تكوينية ﴿مِنْ﴾ عند ﴿رَبِّهِ﴾ سبحانه؛ أي: آيات كآيات الأنبياء قبله، وذلك كعصا موسى ويده، وناقة صالح، ومائدة عيسى - عليهم السلام -.
وقرأ (١) نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص: ﴿آيَاتٌ﴾ بالجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لقوله بعد: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ﴾ وقرأ ابن كثير، وأبو بكر، وحمزة والكسائي: ﴿آية من ربه﴾ بالإفراد.
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿إِنَّمَا الْآيَاتُ﴾؛ أي: إنما أمرها وشأنها ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ سبحانه؛ أي: في قدرته وحكمه، ينزلها على من يشاء من عباده، ولا قدرة لأحد على إنزالها، فليس بيدي شيء من أمرها فآتيكم بما تقترحونه ﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ﴾؛ أي: ما أنا إلا مخوف لكم من عذاب الله سبجانه ﴿مُبِينٌ﴾ أي: بين الإنذار والتخويف، أنذركم كما أمرت، وأبين لكم كما ينبغي، ليس قدرتي غير ذلك؛ أي: ليس (٢) من شأني إلا الإنذار والتخويف من عذاب الله، بما أعطيت من الآيات.
قال في "كشف الأسرار": والحكمة في ترك إجابة النبي - ﷺ - إلى الآيات المقترحة: أنه يؤدي إلى ما لا يتناهى؛ وأن هؤلاء طلبوا آيات تضطرهم إلى الإيمان، فلو أجابهم إليها، ولم يؤمنوا.. لاستؤصلوا، وعذاب الاستئصال مرفوع عن هذه الأمة ببركة النبي - ﷺ -.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
ومعنى الآية: أي (١) وقال كفار قريش تعنتًا وعنادًا: هلا أنزل على محمد آية من الآيات التي أنزل مثلها على رسل الله الماضين، كناقة صالح وعصا موسى وأشباههما من المعجزات المحسوسة، التي ترى رأي العين، فيكون ذلك أقبل لدى النفوس، وأدهش للعقول، فتلجىء إلى التصديق بمن تظهر على يده المعجزة، فأمره الله أن يجيبهم بقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: قل لهم: إنما أمر الآيات ونزول المعجزات إلى الله، ولو علم أنكم تهتدون.. لأجابكم إلى ما سألتم؛ لأن ذلك سهل يسير عليه، ولكنه يعلم أنكم إنما قصدتم بذلك التعنت والامتحان، فهو لا يجيبكم إلى ما طلبتم، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا﴾.
﴿وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: وليس من شأني إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات، إلا الإتيان بما اقترحتموه منها، فعلي أن أبلغكم رسالة روح، وليس علي هداكم، كما قال: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ وقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.
٥١ - ثم بيّن سبحانه سخفهم وجهلهم، إذ كيف يطلبون الآيات مع نزول القرآن عليهم، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ﴾ كلام (٢) مستأنف وارد من جهته تعالى ردًا على اقتراحهم، وبيانًا لبطلانه. و ﴿الهمزة﴾ فيه: للإنكار، والنفي داخلة على محذوف يقتضيه المقام، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقصر هذا القرآن عن درجة الإعجاز، ولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات.
﴿أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ الناطق بالحق، المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية، وأنت بمعزل من مدارستها وممارستها؛ أي: إنزالنا عليك هذا الكتاب.
(١) المراغي.
(٢) أبو السعود.
24
وفي "القرطبي": ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ هذا (١) جواب لقولهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ﴾؛ أي: أولم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز، الذي قد تحداهم بأن يأتوا بمثله أو سورة منه فعجزوا، ولو أتيتهم بآيات موسى وعيسى.. لقالوا: هذا سحر، ونحن لا نعرف السحر، والكلام مقدور لهم، ومع ذلك عجزوا عن المعارضة اهـ.
حال كون ذلك الكتاب ﴿يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ بلغتهم (٢) في كل زمان ومكان، فلا يزال معهم آية ثابتة، لا تزول ولا تضمحل، كما تزول كل آية بعد كونها، وتكون في مكان دون مكان، فهو معجزة ظاهرة باقية، أتم من كل معجزة، وقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، بخلاف قلب العصا ثعبانًا، فإنه لم يبق لنا منه أثر، ولم يره من لم يكن في ذلك المكان.
والمعنى: أي أما كفاهم دليلًا على صدقك، إنزالنا الكتاب عليك، يتلونه ويتدارسونه ليلًا ونهارًا، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحدًا من أهل الكتاب، وقد جئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى، وبينت الصواب فيما اختلفوا فيه، كما قال: ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾.
ثم بين فضائل هذا الكتاب ومزاياه فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الكتاب العظيم الشأن، الباقي على ممر الدهور والأزمان ﴿لَرَحْمَةً﴾ أي: نعمة عظيمة في الدنيا والآخرة ﴿وَذِكْرَى﴾؛ أي: تذكرةً في الدنيا يتذكرون بها، وترشدهم إلى الحق، ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: يصدقون بما جئت به من عند الله، فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك؛ أي: لقوم همّهم الإيمان، لا التعنت كأولئك المقترحين.
والمعنى: أي (٣) إن في هذا الكتاب الباقي على وجه الدهر، لرحمةً لمن
(١) القرطبي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
25
آمن به، ببيان الحق وإزالة الباطل، وتذكرةً بعقاب الله الذي حل بالمكذبين قبلكم، وبما سيحل بهم من النكال والوبال، وبما سيكون لمن اتبع سنتهم، وكذب بالآيات بعد وضوحها.
٥٢ - وبعد أن أقام الأدلة على صدق رسالته، وبين أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين، لم يؤمنوا به، أمره أن يكل علم ذلك إلى الله، وهو العلم بصدقه وكذبه، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المكذبين من اليهود والمشركين ﴿كَفَى بِاللَّهِ﴾؛ أي: كفى الله سبحانه، و ﴿الباء﴾: صلة. ﴿بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا﴾ بما صدر عني وعنكم؛ أي: كفى الله سبحانه عالمًا بما صدر منى، من التبليغ والإنذار، وبما صدر منكم، من مقابلة ذلك بالتكذيب والإنكار، وهو المجازي كلًّا بما يستحق، وإني لو كنت كاذبًا عليه.. لانتقم منى، كما قال: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧)﴾ بل إني صادق فيما أخبرتكم به، ومن ثم أيدني بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات، ثم علل كنايته وأكدها بقوله: ﴿يَعلَمُ﴾ سبحانه ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم، لا تخفى عليه من ذلك خافية.
أي: هو سبحانه وتعالى العلم بكل ما فيهما، ومن جملته شأني وشأنكم، فيعلم ما تنسبونه إلى من التقول عليه، وبما أنسبه إليه من القرآن الذي يشهد لي به عجزكم عن الإتيان بمثله، فهو حجتي الفالجة عليكم، التي لم تستطيعوا لها ردًا ولا دفعًا.
ولما بين طريق الجدل، مع كل من أهل الكتاب والمشركين.. عاد إلى تهديد المشركين، وبين مآل أمرهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ﴾ الذي لا يجوز الإيمان به، كالصنم والشيطان وغيرهما ﴿وَكَفَرُوا بِاللَّهِ﴾ الذي يجب الإيمان به مع تعاضد موجبات الإيمان ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بهذه الصفة ﴿هُمُ﴾ لا غيرهم ﴿الْخَاسِرُونَ﴾ أي: الجامعون بين خسران الدنيا والآخرة، المغبونون في صفقتهم الأخروية، حيث اشتروا الكفر بالإيمان، وضيعوا الفطرة الأصلية، والأدلة
السمعية الموجبة للإيمان؛ أي: والذين يعبدون الأوثان والأصنام، ويكفرون بالله مع تظاهر الأدلة التي في الآفاق والأنفس على الإيمان به، ويكفرون برسوله، مع تعاضد البراهين على صدقه، أولىك هم الأخسرون أعمالًا، المغبونون في صفقتهم، من حيث أنهم اشتروا الكفر بالإيمان، فاستوجبوا العقاب حين الوقوف بين يدي الملك الديان.
وخلاصة ذلك (١): أن الله سيجزيهم على ما صنعوا، من تكذيبهم بالحق واتباعهم للباطل، وتكذيبهم برسول الله، مع قيام الأدلة على صدقه، نارًا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، الذي كذب وتولى.
فإن قلت: من آمن بالباطل فقد كفر بالله، فهل لهذا العطف فائدة غير التأكيد؟
قلت: نعم، فائدته: أنه ذكر الثاني لبيان قبح الأول، فهو كقول القائل: أتقول الباطل، وتترك الحق، لبيان أن الباطل قبيح.
٥٣ - ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ يا محمد استهزاءً وتكذيبًا منهم بذلك، كقولهم: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾. ﴿وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى﴾؛ أي: معين قد جعله الله لعذابهم وعينه، وهو القيامة.
وقال الضحاك: الأجل: مدة أعمارهم؛ لأنهم إذا ماتوا.. صاروا إلى العذاب.
﴿لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ﴾؛ أي: لولا ذلك الأجل المضروب.. لجاءهم العذاب الذي يستحقونه بذنوبهم عاجلًا.
وقيل (٢): المراد بالأجل الممسمى: النفخة الأولى، وقيل: الوقت الذي قدره الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
27
والحاصل: أن لكل عذاب أجلًا، لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه، كما في قوله سبحانه: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ وفي الآية (١) إشارة إلى أن الاستعجال في طلب العذاب في غير وقته المقدر لا ينفع، وهو مذموم، فكيف الاستعجال في طلب مرادات النفس وشهواتها في غير أوانها.
والمعنى: أي: ويستعجلك كفار قريش بنزول العذاب بنحو قولهم: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ وقولهم: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ولولا أجل مسمى ضربه الله لعذابهم لجاءهم حين استعجالهم إياه.
وجملة قوله: ﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾ مستأنفة مبينة لمجيء العذاب المذكور قبلها، ومعنى بغتة: فجأة؛ أي: وعزتي وجلالي ليأتينهم العذاب الذي عين لهم عند حلول الأجل فجأة، كوقعة بدر، فإنها أتتهم بغتة، ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم لا يعلمون بإتيانه، بل يكونون في غفلة عنه، واشتغال بما ينسيهموه.
وقوله: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه تأكيد لمعنى قوله: ﴿بَغْتَةً﴾ كما يقول القائل: أتيته على غفلةٍ منه بحيث لم يدر، فقوله: بحيث لم يدر: أكد معنى الغفلة.
والثاني: يفيد فائدةً مستقلةً، وهي أن العذاب يأتيهم بغتةً، وهم لا يشعرون هذا الأمر، ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلًا اهـ."كرخي".
فإن قلت (٢): عذاب الآخرة ليس من قبيل المفاجأة، فكيف يأتي بغتةً؟
قلت: الموت يأتيهم بغتةً؛ أي: في وقت لا يظنون أنهم يموتون فيه، وزمانه متصل بزمان القيامة، ولذا عد القبر أول منزل من منازل الآخرة، ويدل عليه قوله - ﷺ -: "من مات فقد قامت قيامته". وفي البرزخ عذاب، ولو كان نصفًا من حيث أنه حظ الروح فقط.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
28
٥٤ - ثم زاد في التعجيب من جهلم بقوله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ في الدنيا، كرره للتأكيد، أو ذكره أولًا إخبارًا عنهم، وثانيًا تعجيبًا منهم. اهـ. "كرخي"؛ أي: يطلبون منك يا محمد إيقاع العذاب ناجزًا في غير ميقاته، ويلحون في ذلك، ولو علموا ما هم صائرون إليه.. لتمنوا أنهم لم يخلقوا، فضلًا عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه.
ثم بين السبب في جهلم وحمقهم فقال: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ﴾؛ أي: والحال أن محل العذاب الذي لا عذاب فوقه ﴿لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ المستعجلين للعذاب يوم القيامة، أي: سيحيط بهم عن قريب؛ لأن ما هو آت قريب.
قال في "الإرشاد": وإنما جيء بالاسمية دلالةً على تحقق الإحاطة واستمرارها، وتنزيلًا لحال السبب منزلة المسبب، فإن الكفر والمعاصي الموجبة لدخول جهنم محيطة بهم. انتهى.
وقال بعضهم: إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة، ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة.
والمعنى عليه (١): هي كالمحيطة بهم الآن، لإحاطة الكفر والمعاصي التي توجبها بهم.
واللام: في قوله: ﴿بِالْكَافِرِينَ﴾ للعهد على وضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على موجب الإحاطة، أو للجنس، فيكون استدلالًا بحكم الجنس على حكمهم.
٥٥ - قوله: ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ﴾ ظرف لقوله: محيطة، كما في "السمين" أو ظرف لمحذوف، تقديره: يوم يعلوهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم ويسترهم ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾. والمراد: من جميع جهاتهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال.
(١) البيضاوي.
فإن قيل (١): لم خصَّ الجانبين، ولم يذكر اليمين ولا الشمال، ولا الخلف ولا الأمام؟
فالجواب: أن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا، ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع، فإن من دخلها تكون الشعلة قدامه وخلفه، ويمينه وشماله، وأما النار من فوق فلا تنزل، وإنما تصعد من أسفل في العادة، وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم، بل تطفأ، ونار جهنم تنزل من فوق، ولا تطفأ بالدوس عليها بوضع القدم.
﴿وَيَقُولُ﴾ معطوف على ﴿يَغْشَاهُمُ﴾ أي: يقول الله، أو بعض الملائكة بأمره لهم على سبيل التوبيخ والتقريع ﴿ذُوقُوا﴾ وباشروا ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من السيئات، التي من جملتها الاستعجال بالعذاب، فلا تفوتونا.
وقرأ (٢) الكوفيون، ونافع ﴿وَيَقُولُ﴾؛ أي: الله أو بعض الملائكة، بياء الغيبة، واختار أبو عبيد هذه القراءة لقوله: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ﴾ وباقي السبعة: بالنون، نون العظمة، أو نون جماعة الملائكة.
وقرأ أبو البرهشيم: ﴿وتقول﴾ بالتاء الفوقية؛ أي: جهنم، كما نسب القول إليها في ﴿وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: ﴿ويقال﴾ مبنيًا للمفعول.
٥٦ - وقوله: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خطاب تشريف لبعض المؤمنين، الذين لا يتمكنون من إقامة أمور الدين كما ينبغي، لممانعة من جهة الكفار، وإرشاد لهم إلى الطريق الأسلم، وأضافهم إليه بعد خطابهم تشريفًا لهم، وتكريمًا، و ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صفة موضحة، أو مبينة.
(١) الرازي.
(٢) البحر المحيط.
وقرأ ابن عامر (١) بفتح الياء، والباقون بتسكينها.
﴿إِنَّ أَرْضِي﴾ أي: إن بلاد المواضع التي خلقتها ﴿وَاسِعَةٌ﴾ لا مضايقة لكم فيها، ففيه تحريض على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام؛ أي: يا من شرفكم الله بالعبودية له، هاجروا من مكة إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان فيها، ولا تجاوروا الظلمة، فأرض الله واسعة.
قال مقاتل (٢): نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، كانوا في ضيق من إظهار الإِسلام بها، وأما اليوم، فإنا بحمد الله لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب، وأحث على القناعة، وأطرد للشيطان، وأبعد من الفتن، وأظهر لأمر الدين من مكة حرسها الله تعالى. اهـ. "قاري".
﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾؛ أي: فخصوني بالعبادة، ولا تعبدوا أحدًا سواي، فـ ﴿الفاء﴾: واقعة في جواب شرط محذوف، حذف الشرط وعوض عنه تقديم المفعول، مع إفادة تقديم المفعول معنى الاختصاص والإخلاص؛ أي: فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض، فأخلصوها لي في غيرها.
وقرأ يعقوب (٣): ﴿فاعبدوني﴾ بالياء.
وقيل المعنى: إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة، فاعبدوني حتى أورثكموها.
٥٧ - ولما أخبر تعالى (٤) عن سعة أرضه، وكان ذلك إشارة إلى الهجرة، وأمر بعبادته، فكان قد يتوهم متوهم: أنه إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر، إلى دار الإِسلام، لا يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه، وربما أدى ذلك إلى هلاكه.. أخبر أن كل نفس لها أجل تبلغه، وتموت في أي مكان حل، وأن رجوع الجميع إلى جزائه يوم القيامة، فقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النفوس، سواء كانت نفس إنسان أو غيرها، وهو مبتدأ، وجاز الابتداء
(١) المراح.
(٢) زاد المسير.
(٣) نسفي.
(٤) البحر المحيط.
31
بالنكرة لما فيها من العموم.
﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾؛ أي: واجدة مرارة الموت، ومتجرعة غصص المفارقة، كما يجد الذائق ذوق المذوق، وهذا مبني على أن الذوق يصلح للقليل والكثير، كما ذهب إليه الراغب، وقال بعضهم: أصل الذوق بالفم فيما يقل تناوله، فالمعنى إذًا: إن النفوس تذوق بملابسه البدن جزءًا من الموت.
واعلم (١): أن للإنسان روحًا وجسدًا، وبخارًا لطيفًا بينهما هو: الروح الحيواني، فما دام هذا البخار باقيًا على الوجه الذي يصلح أن يكون علاقةً بينهما، فالحياة قائمة، وعند إنطفائه وخروجه عن الصلاحية تزول الحياة، ويفارق الروح البدن مفارقةً اضطرارية، وهو الموت الصوري، ولا يعرف كيفية ظهور الروح في البدن ومفارقته له وقت الموت إلا أهل الانسلاخ التام.
﴿ثُمَّ إِلَيْنَا﴾ لا إلى غيرنا؛ أي: إلى حكمنا وجزائنا ﴿تُرْجَعُونَ﴾ تردون (٢) من الرجع، وهو: الرد، فمن كانت هذه عاقبته.. ينبغي أن يجتهد في التزود والاستعداد لها، ويرى مهاجرة الوطن سهلةً، واحتمال الغربة هونًا، هذا إذا كان الوطن دار الشرك، وكذا إذا كان أرض المعاصي والبدع، وهو لا يقدر على تغييرها، والمنع منها، فيهاجر إلى أرض المطيعين من أرض الله الواسعة.
والمعنى: كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت لا محالة، فلا يصعب عليكم ترك الأوطان، ومفارقة الإخوان والخلان، ثم إلى الله المرجع بالموت والبعث لا إلى غيره، فكل حي في سفر إلى دار القرار، وإن طال لبثه في هذه الدار، فيوفيكم جزاء ما تعملون، فقدموا له خير العمل تفوزوا بنعيم مقيم، وجنة عرضها السماوات والأرض.
وقرأ علي (٣): ﴿ترجعون﴾ مبنيًا للفاعل من الرجوع، والجمهور: مبنيًا للمفعول بتاء الخطاب، وروى عن عاصم: بياء الغيبة، وقرأ أبو حيوة: ﴿ذائقة﴾
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
32
بالتنوين، ﴿الْمَوْتِ﴾ بالنصب.
والخلاصة: أي أينما تكونوا يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله، وافعلوا ما أمركم به، فذلك خير لكم فإن الموت لا محالة آتٍ، ولله در القائل:
تَسَاوَى الْكُلُّ مِنَّا فِيْ الْمَسَاويْ فَأَفْضَلُنَا فَتِيْلًا مَا يُسَاوِيْ
الْمَوْتُ فِي كُلِّ حِيْنٍ يُنْشِدُ الْكَفَنَا وَنَحْنُ فِيْ غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِنَا
لَا تَرْكَنَنَّ إلَى الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَإنْ تَوَشَّحْتَ مِنْ أثْوَابِهَا الْحَسَنَا
أَيْنَ الأَحَبَّةُ وَالْجِيْرَانُ مَا فَعَلُوْا أَيْنَ الَّذِيْنَ هُمُ كَانُوْا لَهَا سَكَنَا
سَقَاهُمُ ألْمَوْتُ كَأسًا غَيْرَ صَافِيَةٍ صَيَّرَتْهُمْ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى رَهَنَا
ثم إلى الله موجعكم، فمن كان مطيعًا له.. جازاه خير الجزاء، وآتاه أتم الثواب.
٥٨ - ثم بين جزاء المؤمن بربه، المهاجر بدينه فرارًا من شرك المشركين، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله، وصدقوا رسوله فيما جاء به من عنده ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ومن الصالحات: الهجرة للدين؛ أي: وعملوا بما أمرهم به، فأطاعوه، وانتهوا عما نهاهم عنه. ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ أي: وعزتي وجلالي لننزلنهم ﴿مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾؛ أي: قصورًا (١) عالية من الدر والزبرجد والياقوت، وإنما قال ذلك؛ لأن الجنة في جهة عالية، والنار في سافلة، ولأن النظر من الغرف إلى المياه والخضر أشهى وألذ.
﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي: من تحت أشجارها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة صفة لـ ﴿غُرَفًا﴾ حال كونهم ﴿خَالِدِينَ﴾ أي: ماكثين ﴿فِيهَا﴾ أي: في تلك الغرف مكثًا موبدًا لا نهاية له، جزاءً لهم على ما عملوا ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ الأعمال الصالحة، والمخصوص بالمدح محذوف؛ أي: نعم أجر العاملين أجرهم.
وقرأ ابن مسعود (٢)، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط مع الشوكاني.
والربيع بن خثيم، وزيد بن علي: ﴿لنثوينهم﴾ بالثاء المثلثة الساكنة، مكان الباء الموحدة بعد النون، وياء مفتوحة بعد الواو المكسورة المخففة، من الثواء، وهو: الإقامة؛ أي: لنقيمنهم وننزلنهم منزلًا يقيمون فيه.
وقرأ الباقون: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾ بالباء الموحدة من المباءة؛ أي: لنجعلن لهم مكانًا مباءةً؛ أي: مرجعًا يأوون إليه، وبوأ: يتعدى لاثنين، قال تعالى: ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾.
وروي عن ابن عامر: ﴿غرفًا﴾ بضم الراء، وقرأ ابن وثاب [فنعم] بالفاء. والجمهور: بغير فاء.
٥٩ - ثم بين صفات هؤلاء العاملين، الذين استحقوا تلك الجنات بقوله: ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على مفارقة أوطانهم والهجرة، وجميع المشاق، من امتثال الأوامر واجتناب المناهي، والموصول: صفة لـ ﴿الْعَامِلِينَ﴾، أو نصب على المدح.
﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ﴾ لا على غيره ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾؛ أي: يعتمدون في أمورهم دينًا ودنيا؛ أي: يفوضون أمورهم إليه تعالى في كل إقدام وإجحام.
وهذا التوكل من قوة الإيمان، فإذا قوي الإيمان.. يخرج من القلب ملاحظة الأوطان والأموال والأرزاق وغيرها، وتصير الغربة والوطن سواءً، ويكفي ثواب الله بدلًا من الكل، وفي الحديث: "من فر بدينه من أرض إلى أرض، ولو كان شبرًا.. استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد".. - عليهما السلام -.
أما استيجابه الجنة والغرف، فلتركه المسكن المألوف لأجل الدين، وامتثال أمر رب العالمين، وأما رفاقته لهما فلمتابعتهما في باب الهجرة، وإحياء سنتهما، فإن إبراهيم - عليه السلام - هاجر إلى الأرض المقدسة، ونبينا - عليه السلام - هاجر إلى أرض المدينة، وفيه إشارة إلى أن السالك ينبغي له أن يهاجر من أرض الجاه - وهو قبول الخلق - إلى أرض الخمول.
والمعنى (١): أي هؤلاء العاملون، هم الذين صبروا على أذى المشركين، وشدائد الهجرة، وغيرهما من الجهود والمشاق، وتوكلوا على ربهم فيما يأتون وما يذرون، كأرزاقهم، وجهاد أعدائهم، فلا ينكلون عنهم، ولا يتراجعون ثقةً منهم بأن الله معلي كلمتهم، وموهن كيد الكافرين، وأن ما قسم لهم من الرزق لن يفوتهم.
٦٠ - ثم ذكر سبحانه: أن مما يعين على التوكل عليه: معرفة أنه كافي أمر الرزق في الوطن والغربة، فقال: ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ اسم مركب من كاف التشبيه، وأي، آخره نون بمعنى كم الخيرية، في محل الرفع مبتدأ. ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ تمييز له، وهي كل ما يدب على الأرض عاقلًا كان أم لا، من الطيور والسباع والهوام، وجملة: ﴿لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ صفة لدابة، وجملة ﴿اللَّهُ يَرْزُقُهَا﴾: خبر المبتدأ؛ أي (٢): وكثير من دابة ذات حاجة إلى الغذاء، لا تطيق حمل رزقها لضعفها، أو لا تدخر، وإنما تصبح ولا معيشة عندها، الله يرزقها؛ أي: يعطيها رزقها يومًا فيومًا، حيث توجهت، ﴿و﴾ يرزق ﴿إياكم﴾ حيث كنتم؛ أي: ثم إنها مع ضعفها وتوكلها، وإياكم مع قوتكم واجتهادكم، سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله؛ لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده، فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة والخروج إلى دار الغربة؛ أي: فكيف لا يتوكلون على الله مع قوتهم وقدرتهم على أسباب العيش، كتوكلها على الله مع ضعفها وعجزها. ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿السَّمِيعُ﴾ الذي يسمع كل مسموع، أو المبالغ في السمع، فيسمع قولكم هذا في أمر الرزق ﴿الْعَلِيمُ﴾ بكل معلوم، أو المبالغ في العلم فيعلم ضمائركم.
ومعنى الآية: أي (٣) هاجروا أيها المؤمنون بالله ورسوله وجاهدوا أعداءَه، ولا تخافوا عيلةً ولا إقتارًا، فكم من دابة ذات حاجة إلى الغذاء والمطعم، لا تطيق جمع قوتها، ولا حمله، فترفعه من يومها لغدها، عجزًا منها عن ذلك، الله يرزقها وإياكم، يومًا بيوم، وساعةً فساعةً، وهو السميع لقولكم: فلا نخشى من
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
فراق أوطاننا العيلة، ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما في أنفسكم، وإليه يصير أمركم وأمر عدوكم، من إذلال الله إياه ونصرتكم عليه، ولا تخفى عليه خافية من أمور خلقه.
وقال ابن عباس: لا يدخر الرزق إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق. وقيل عن بعضهم: رأيت البلبل يحتكر في حضنيه، وروى ابن عباس: أن النبي - ﷺ - قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: "اخرجوا إلى المدينة، وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة". قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية.
٦١ - ثم إنه سبحانه ذكر حال المشركين من أهل مكة وغيرهم، وعجب السامع من كونهم يقرون بأنه خالقهم ورازقهم ولا يوحدونه، ولا يتركون عباده غيره، فقال: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾؛ أي: أهل مكة ﴿مَنْ﴾ استفهام ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾ السبع ﴿وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ لمصالح العباد، حيث يجريان على الدوام، أتى (١) بشيئين:
أحدهما: يتعلق بالذوات، وهو خلق السماوات والأرض.
والثاني: يتعلق بالصفات، وهو تسخير الشمس والقمر لإصلاح الأقوات، ومعرفة الأوقات، وغير ذلك من المنافع.
﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ أي: وعزتي وجلالي ليقولن أهل مكة: خلقهن الله - سبحانه وتعالى - إذ لا سبيل لهم إلى الإنكار لما تقرر في العقول، من وجوب انتهاء الممكنات، إلى واحد واجب الوجود، ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾؛ أي (٢): فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده في الإلهية، مع إقرارهم بتفرده فيما ذكر من الخلق والتسخير، فهو إنكار واستبعاد لتركهم العمل بموجب العلم، وتوبيخ وتقريع عليه، وتعجيب منه.
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله: من خلق السماوات والأرض فسواهن، وسخر الشمس، والقمر يجريان دائبين لمصالح خلقه، ليقولن: الذي خلق ذلك وفعله هو الله، فانى يؤفكون؛ أي: فكيف يصرفون عن توحيده، وإخلاص العبادة له بعد إقرارهم بأن خالق كل ذلك.
تنبيه: ذكر في السماوات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير، لأن مجرد خلق الشمس والقمر ليس حكمةً، فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد، لا تتحرك.. ما حصل الليل والنهار، ولا الصيف والشتاء، فحينئذٍ الحكمة إنما هي في تحركهما وتسخيرهما. اهـ. "كرخي".
والخلاصة (٢): أنهم يعترفون بأنه هو الخالق للسماوات والأرض، والمسخر للشمس والقمر، ثم هم مع ذلك يعبدون سواه، ويتوكلون على غيره، فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيرًا ما يقرر القرآن توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية، التي كانوا يدينون بها، نحو قولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك.
٦٢ - ولما ذكر اعترافهم بالخلق.. ذكر حال الرزق من قبل أن كمال الخلق ببقائه، ولا بقاء له إلا بالرزق، فقال: ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَبْسُطُ﴾ ويوسع ﴿الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أن يبسط له ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾ مؤمنين وكافرين ﴿وَيَقْدِرُ﴾ أي: يضيق ويقتر ﴿لَهُ﴾؛ أي: لمن يشاء أن يقدر عليه منهم، كائنًا من كان، على أن (٣) الضمير مبهم حسب إبهام مرجعه، ويحتمل أن يكون الموسع له، والمضيق عليه واحدًا، على أن البسط والقبض على التعاقب؛ أي: يقدر لمن يبسط له على التعاقب.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وقرأ علقمة الحمصي: ﴿ويقدر﴾ بضم الياء وفتح القاف وشد الدال، ذكره في "البحر".
قال الحسن: يبسط الرزق لعدوه مكرًا به، ويقدر على وليه نظرًا له، فطوبى لمن نظر الله إليه؛ أي: إن الله سبحانه يوسع رزقه على من يشاء من خلقه، ويقتر على من يشاء، فالأرزاق وقسمتها بيده تعالى، لا بيد أحدٍ سواه، فلا يؤخرنكم عن الهجرة، وجهاد عدوكم، خوف العيلة والفقر، فمن بيده تكوين الكائنات، لا يعجز عن أرزاقها، ونحو الآية قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)﴾.
ثم علل التفاوت في الرزق بين عباده بعلمه بالمصلحة في ذلك، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ يعلم ما فيه صلاح عباده وفسادهم، ويعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق، فيعلم من يليق ببسط الرزق فيبسط له، ويعلم من يليق بقبضه فيقبض له، أو فيعلم أن كلًّا من البسط والقبض في أي وقتٍ يوافق الحكمة والمصلحة، فيفعل كلًّا منهما في وقته، وفي الحديث القدسي: "إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته.. لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته.. لأفسد ذلك".
٦٣ - ثم ذكر اعترافهم بهذا بقوله ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ أي: وعزتي وجلالي، لئن سألت يا محمد مشركي العرب ﴿مَنْ نَزَّلَ﴾ مرة بعد مرة ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي: من السحاب ﴿مَاءً﴾؛ أي: مطرًا ﴿فَأَحْيَا﴾ وأخصب ﴿بِهِ﴾؛ أي: بسبب ذلك الماء ﴿الْأَرْضَ﴾ بإخراج الزرع والنبات والأشجار منها ﴿مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا﴾ أي: يبسها وقحطها ﴿لَيَقُولُنَّ﴾؛ أي: ليقولن المشركون جوابًا لك، نزله ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه، وأحيا به الأرض، إذ لا جواب غيره؛ أي: يعترفون بأنه الموجد للممكنات بأسرها، أصولها وفروعها، يجدون إلى إنكاره سبيلًا، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته، الذي لا يكاد يتوهم منه القدرة على شيء ما أصلًا.
والمعنى: أي ولئن سألتهم: من ينزل من السحاب ماءً، فيحيي به الأرض القفر، فتصير خضراء تهتز بعد أن لم تكن كذلك، لم يجدوا في الجواب إلا سبيلًا واحدةً هي الاعتراف الذي لا محيص عنه بأنه الله، فهو الموجد لسائر
38
المخلوقات، ومن عجبٍ أنهم بعد ذلك يشركون به بعض مخلوقاته، التي لا تقدر على شيء من ذلك.
فإن قلت: لِمَ (١) زاد ﴿مَنْ﴾ هنا في قوله ﴿مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا﴾ وحذفها في البقرة، حيث قال هناك: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ وفي الجاثية أيضًا، حيث قال: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؟
قلت: زادها هنا موافقةً لما قبله من قوله: ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾ وقوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ بخلاف ذلك في البقرة والجاثية.
ثم لما اعترفوا (٢) هذا الاعتراف في هذه الآيات، وهو يقتضي بطلان ما هم عليه من الشرك، وعدم إفراد الله سبحانه بالعبادة.. أمر رسوله - ﷺ - أن يحمد الله على إقرارهم، وعدم جحودهم مع تصلبهم في العناد، وتشددهم في رد كل ما جاء به رسول الله من التوحيد، فقال: ﴿قُلِ﴾ يا محمد متعجبًا من حالهم ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ والشكر له على إظهار الحجة، واعترافهم بأن النعم كلها منه تعالى؛ أي: أحمد الله على أن جعل الحق معك، وأن أظهر حجتك عليهم.
وعبارة "القرطبي" هنا: قل الحمد لله على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته، وقيل: قل الحمد لله على إقرارهم بذلك، وقيل: قل الحمد لله على إنزال الماء، وإحياء الأرض بالنبات. اهـ.
ثم ذمهم فقال: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: شيئًا من الإشياء، فلذلك لا يعملون بمقتضى قولهم، فيشركون به سبحانه أخس مخلوقاته، وهو الصنم؛ أي: ولكن أكثر المشركين لا يعقلون ما لهم فيه النفع في دينهم، وما فيه الضر لهم، فهم لجهلهم يحسبون أنهم لعبادتهم الأصنام دون الله ينالون بها الزلفى والقرب عنده تعالى.
(١) فتح الرحمن.
(٢) الشوكاني.
39
والخلاصة: أن اْقوالهم تخالف أفعالهم، فهم يقرون بوحدانية الله، وعظيم قدرته وجلاله، ثم هم يعبدون معه سواه، مما هم معترفون بأنه خلقه.
قال بعضهم (١): قد ذكر الله تعالى آية الرزق، ثم آية التوحيد، ثم كررهما في صورتين أخريين، تنبيهًا منه لعباده المؤمنين على أنه سبحانه لا يقطع أرزاق الكفار، مع وجود الكفر والمعاصي، فكيف يقطع أرزاق المؤمنين مع وجود الإيمان والطاعات، وأنه سبحانه لا يسأل من العباد إلا التوحيد والتقوى والتوكل، فإنما الرزق على الله الكريم، وقد قدر مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وما قدر في الخلق والرزق والأجل لا يتبدل بقصد القاصدين، ألا ترى إلى الوحوش والطيور، لا تدخر شيئًا إلى الغد، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا؛ أي: ممتلئة البطون والحواصل، لاتكالها على الله تعالى، بما وصل إلى قلوبها من نور معرفة خالقها، فكيف يهتم الإنسان لأجل رزقه، ويدخر شيئًا لغده، ولا يعرف حقيقة رزقه وأجله، فربما يأكل ذخيرته غيره، ويصل إلى غده، ولذلك كان - ﷺ - لا يدخر لغد إذ الأرزاق مجددة كالأنفاس المجددة في كل لمحة، والرزق يطلب الرجل كما يطلبه أجله. انتهى.
٦٤ - ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا، وأنها من جنس اللعب واللهو، وأن الدار على الحقيقة هي دار الآخرة فقال: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ إشارة تحقير للدنيا، وكيف لا وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، قال الإِمام الراغب: الحياة (٢) باعتبار الدنيا والآخرة ضربان: الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، فهي إشارة إلى أن الحياة الدنيا بمعنى الحياة الأولى بقرينة المقابلة بالآخرة، فإنه قد يعبر بالأدنى عن الأول المقابل للآخر، والمراد بالحياة الأولى ما قبل الموت، لدنوه؛ أي: لقربه، وبالآخرة: ما بعد الموت لتأخره.
﴿إِلَّا لَهْوٌ﴾ أي: إعراض عن الآخرة ﴿وَلَعِبٌ﴾؛ أي: شغل بما لا يعني ولا يهم، قال الرازي: اللهو: هو الإعراض عن الحق بالكلية، واللعب: الإقبال
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
40
على الباطل اهـ.
وقيل (١): اللهو: الاشتغال بما فيه نفع عاجل، واللعب: الاشتغال بما لا نفع فيه أصلًا.
وقيل: اللهو: هو الاستمتاع بلذات الدنيا، وقيل: هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه، واللعب: هو العبث، فاللهو: كل ما يشغل الإنسان عما يهمه ويعنيه، والملاهي: آلة اللهو، ويقال: لعب فلان: إذا لم يقصد بفعله مقصدًا صحيحًا؛ أي: إن (٢) الدنيا سريعة الزوال، فالاشتغال بلذاتها كاشتغال الصبيان بلهوهم وعبثهم، فإنهم يجتمعون عليه، ويفرحون به ساعةً، ثم يتفرقون عنه، فالإعراض عن الحق لهو، والإقبال على الباطل لعب.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن هذه الحياة التي يعيش بها المرء في الدنيا، بالنسبة إلى الحياة التي يعيش بها أهل الآخرة في الآخرة، وجوار الحق تعالى لهو ولعب، وإنما شبها باللهو واللعب لمعنيين:
أحدهما: أن أمر اللهو واللعب سريع الانقضاء، لا يداوم عليه؛ فالمعنى: أن الدنيا وزينتها، وشهواتها لظل زائل، لا يكون لها بقاء، فلا تصلح لاطمئنان القلب بها، والركون إليها.
والثاني: أن اللهو واللعب من شأن الصبيان والسفهاء، دون العقلاء وذوي الأحلام، ولهذا كان النبي - ﷺ - يقول: "ما أنا من ددٍ ولا الدد مني". والدد: اللهو واللعب، فالعاقل يصون نفسه منه. انتهى.
قال في "كشف الأسرار": فإن قيل: لما سماها لهوًا ولعبًا، وقد خلقها لحكمةٍ ومصلحةٍ؟
قلنا: إنه سبحانه بني الخطاب على الأعم الأغلب، وذلك أن غرض أكثر الناس من الدنيا اللهو واللعب. انتهى.
(١) صاوي.
(٢) المراح.
41
وورد في الخبر النبويّ، حين سُئل عن الدنيا، فقال: "دنياك ما يشغلك عن ربك". قيل: الشر (١) كله في بيت واحد، ومفتاحه حب الدنيا. وما أحسن من شبهها بخيال الظل حيث قال:
رَأَيْتُ خَيَالَ الظِّلِّ أَعْظَمَ عِبْرَةٍ لِمَنْ كَانَ فِيْ عِلْمِ الْحَقَائِقِ رَاقِيْ
شُخُوْصٌ وَأَصْوَاتٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَأَشْكَالٌ بِغَيْرِ وِفَاقٍ
تَمُرُّ وَتَقْضِي أَوْبَةً بَعْدَ أَوْبَةٍ وَتَفْنَى جَمِيْعًا وَالْمُحَرِّكُ بَاقِيْ
والمعنى: أي وما هذه الحياة الدنيا التي يتمتع بها هؤلاء المشركون، إلا شيء يتعلل به، ثم هو منقض عما قريب، لا بقاء له ولا دوام، ومن ثم قيل: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها، وأنشدوا:
تَرُوْحُ لَنَا الدُّنْيَا بِغَيْرِ الَّذِيْ غَدَتْ وَتَحْدُثُ مِنْ بَعْدِ الأمُوْرِ أُمُوْرُ
وَتَجْرِيْ الليَالي بِاجْتِمَاعٍ وَفِرْقَةٍ وَتَطْلُعُ فِيْهَا أَنْجُمٌ وَتَغُوْرُ
فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الدَّهْرَ بَاقٍ سُرُوْرُهُ فَذَاكَ مُحَالٌ لَا يَدُوْمُ سُرُوْرُ
عَفَا الله عَمَّنْ صَيَّرَ الْهَمَّ وَاحِدًا وَأَيْقَنَ أنَّ الدَّائِرَاتِ تَدُوْرُ
﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ أي: وإن الحياة الثانية ﴿لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾؛ أي: لهي الحياة الدائمة، التي لا موت فيها، ولا زوال ولا انقطاع ﴿لَوْ كَانُوا﴾؛ أي: لو كان هؤلاء المشركون ﴿يَعْلَمُونَ﴾ أن الحياة المعتبرة هي حياة الآخرة.. لما آثروا عليها الحياة الدنيا، السريعة الزوال، الوشيكة الاضمحلال.
وقيل المعنى (٢): وإن الدار الآخرة لهي الحياة الدائمة الخالدة، التي لا موت ولا فناء فيها، ذهب المفسرون إلى أن معنى الحيوان هنا: الحياة، وأنه مصدر بمنزلة الحياة، فيكون كالنزوان، والغليان، واللهيان، والجولان، والطوفان، وقد قيل في شأن الدنيا:
أَحْلاَمُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ إِنَّ اللَّبِيْبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
42
٦٥ - ثم أخبر سبحانه، بأن تلك حال المشركين في الرخاء، فإذا ابتلوا بالشدائد.. دعوا الله وحده ليخلصهم منها، كما قال: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ﴾؛ أي: فإذا ركب هؤلاء المشركون في السفينة، لتجاراتهم وتصرفاتهم، وهاجت الرياح، واضطربت الأمواج، وخافوا الغرق.. ﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى إنجاءَهم من الغرق، حالة كونهم ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾؛ أي: الدعاء والتضرع والاستغاثة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ليخلصوهم من تلك الشدة، لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله سبحانه وتعالى. أو المعنى: دعوا الله كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا الله، ولا يدعون مع الله آخر، وفي المخلصين ضرب من التهكم.
ثم بين (١) سرعة رجوعهم وعودتهم إلى ما كانوا عليه وشيكًا فقال ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ﴾ وخلصهم مما كانوا فيه من الضيق، ونجاهم من الهلاك والغرق، ووصلوا ﴿إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ جواب ﴿لما﴾ أي: فاجأ التنجية إشراكهم بالله، ورجعوا القهقرى، وعاودوا سيرتهم الأولى، وجعلوا مع الله الشركاء، ودعوا الآلهة والأنداد، ونحو الآية قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (٦٧)﴾.
روى محمد بن إسحاق في "السيرة" عن عكرمة بن أبي جهل، قال: لما فتح رسول الله - ﷺ - مكة.. ذهبت فارًا منها، فلما ركبت البحر إلى الحبشة.. اضطربت بنا السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا منجي ها هنا إلا هو. فقال عكرمة: لئن كان لا ينجي في البحر غيره، فإنه لا ينجي في البر أيضًا غيره، اللهم لك عليّ عهد، لئن خرجت.. لأذهبن، فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤوفًا رحيمًا، فكان كذلك.
وقال عكرمة: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر.. حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتد عليهم الريح.. ألقوها فيه، وقالوا: يا رب يا رب. قال
(١) المراغي.
الرازي في "اللوامع": وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا في السراء.. فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء. اهـ.
٦٦ - واللام (١) في قوله: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ وفي قوله: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ لام كي، معللة بمحذوف معلوم من السياق، تقديره: فاجؤُوا المعاودة إلى الشرك ﴿لِيَكْفُرُوا﴾؛ أي: ليكونوا كافرين بما آتيناهم، وأعطيناهم من نعمة النجاة، التي حقها أن يشكروها ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾؛ أي: ولينتفعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام، وتوادّهم عليها، ويجوز أن تكون في كليهما لام أمر، ومعناه التهديد، كما في ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾؛ أي: اكفروا بما أعطيناكم من النعمة، وتمتعوا، ويدل على هذا الوجه الأخير، قراءة أبيّ ﴿وتمتعوا﴾ واحتمالها للأمرين، إنما هو على قراءة أبي عمرو، وابن عامر، وعاصم، وورش: بكسر اللام، وأما على قراءة الجمهور: بسكونها فلا خلاف أنها لام الأمر، وقولنا: لام كي فيه شيء، لأنه ليس الحامل لهم على الإشراك قصد الكفر، والظاهر: أنها لام العاقبة والمآل، كما أشار له "الشهاب".
فائدة (٢): قال الشيخ الشهير، بزورق الفارسي في "شرح حزب البحر": ومن أوراد البحر: الحي القيوم، ويقول عند ركوب السفينة: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)﴾. فإنه أمان من الغرق. انتهى. اقتداة بنوح - عليه السلام - وكذا يقال في كل مركوب غير حيوان، كالسيارة، والباخرة، والطائرة إلى غير ذلك.
وفي قوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ تهديد عظيم لهم؛ أي: فسيعلمون عاقبة ذلك، وما فيه من الوبال عليهم، حين يرون العذاب يوم القيامة.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
وقرأ ابن مسعود (١): ﴿فتمتعوا فسوف تعلمون﴾ بالتاء فيهما؛ أي: قيل لهم: ﴿تمتعوا فسوف تعلمون﴾، وكذا في مصحف أبيّ، وقرأ أبو العالية ﴿فيتمتعوا﴾ بالياء مبنيًا للمفعول، ومن قرأ: ﴿وليتمتعوا﴾ بسكون اللام، وكان عنده ﴿اللام﴾ في ﴿لِيَكْفُرُوا﴾ لام كي، فـ ﴿الواو﴾: عاطفة كلامًا على كلام، لا عاطفة فعل على فعلٍ، وحكى ابن عطية عن ابن مسعود: ﴿لسوف تعلمون﴾ باللام.
٦٧ - ثم ذكرهم (٢) الله تعالى نعمه، حيث أسكنهم بلدةً أمنوا فيها، لا يغزوهم أحد مع كونهم قليلي العدد، قارين في مكان غير ذي زرع، وهذه من أعظم النعم التي كفروا بها، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ و ﴿الهمزة﴾ فيه: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يشاهد هؤلاء المشركون من قريش، ولم يروا ﴿أَنَّا جَعَلْنَا﴾ بلدهم ﴿حَرَمًا﴾؛ أي: محترمًا ﴿آمِنًا﴾؛ أي: مصونًا من النهب والتعدي، سالمًا أهله، آمنًا من كل سوء ﴿وَ﴾ الحال أنه ﴿يُتَخَطَّفُ النَّاسُ﴾ والعرب؛ أي (٣): يختلسون ويؤخذون ﴿مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ وجوانبهم، قتلًا وسبيًا، إذ كانت العرب حوله في تغاورٍ وتناهبٍ.
والمعنى (٤): أي أولم ير هؤلاء المشركون من قريش ما خصصناهم به من النعمة، دون سائر عبادنا، فأسكناهم بلدًا حرمنا على الناس أن يدخلوه لغارة، أو حرب، وآمنًا من سكنه من القتل والسبي والنهب، فصاروا في سلامة وعافيةٍ، مما صار فيه غيرهم من العرب؛ لأن الناس حولهم يقتلون ويسبون في كل حين، وتطرقهم الغارات، وتجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود، وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشياطينها، فيشكرونا على ذلك، ويزدجروا عن كفرهم بنا، وإشراكهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم.
(١) البحر المحيط.
(٢) النهر.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
45
والخلاصة: أنه تعالى يمتن على قريش بما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس، سواءً العاكف فيه، والباد، ومن دخله كان آمنًا، فهم في أمنٍ عظيم، والأعراب حولهم نهب مقسم، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا، ثم هم مع ذلك يكفرون به، ويعبدون معه سواه.
ونحو الآية قوله: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)﴾.
ثم بين سبحانه: أن العقل كان يقضي بشكرهم على هذه النعمة، لكنهم كفروا بها، وما جنحوا إلى مرضاة ربهم، فقال: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: بعد ظهور الحق الذي لا ريب فيه بالباطل، وهو الصنم أو الشيطان، يؤمنون دون الحق، وتقديم الصلة (١): لإظهار شناعة ما فعلوه.
وكذا في قوله: ﴿وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ المستوجبة للشكر ﴿يَكْفُرُونَ﴾ حيث يشركون به غيره.
وعبارة "البيضاوي" هنا: وتقديم الصلتين للاهتمام، أو الاختصاص على طريق المبالغة، و ﴿الهمزة﴾ في قوله: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي التقريعي، المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيكذبون رسوله محمدًا - ﷺ - فيؤمنون بالباطل، ويكفرون بنعمة الله.
وقرأ الجمهور: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ و ﴿يَكْفُرُونَ﴾ بالياء فيهما، وقرأ السلمي، والحسن: بتاء الخطاب فيهما، ذكره في "البحر".
والمعنى: أي (٢) أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة، أن أشركوا به، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، وبدلوا نعمة الله كفرًا، وأحلوا قومهم دار البوار، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
46
والخلاصة: أنه كان من حق شكرهم له على هذه النعم، إخلاص العبادة له، وأن لا يشركوا به، وأن يصدقوا برسوله ويعظموه ويوقروه، لكنهم كذبوه، فقاتلوه، وأخرجوه من بين أظهرهم، ومن ثم سلبهم الله تعالى ما كان أنعم به عليهم، بقتل من قتل منهم ببدر، وأسر من أسر، حتى قطع دابرهم يوم الفتح، وأرغم آنافهم، وأذل رقابهم.
والخلاصة (١): أنكم يا أهل مكة في أخوف ما كنتم دعوتم الله تعالى، وفي أمنٍ ما حصلتم عليه كفرتم بالله، وهذا متناقض؛ لأن دعاءكم في وقت الخوف على سبيل الإخلاص، لم يكن إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير، وقد اعترفتم بأن تلك النعمة العظيمة من الله، كيف تكفرون بها، وقد قطعتم في حال الخوف أنه لا أمن من الأصنام، حيث ألقيتموها في البحر، كيف آمنتم بها في حال الأمن.
٦٨ - ولما استنارت الحجة، وظهر الدليل، ولم يكن لهم فيه مقنع.. بين أنهم قوم ظلمة مفترون، وضعوا الأمور في غير مواضعها، بكذبهم على الله، فقال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ والاستفهام فيه للإنكار بمعنى النفي؛ أي: لا أحد أشد ظلمًا ﴿مِمَّنِ افْتَرَى﴾ واختلق ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه كذبًا، بأن زعم أن له تعالى شريكًا، وأنه إذا فعل فاحشة.. قال: إن الله أمرني بها، والله لا يأمر بالفحشاء، ﴿أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالرسول، أو بالقرآن ﴿لَمَّا جَاءَهُ﴾؛ أي: حين جاءه الحق من غير توقف؛ أي: كذبه حين مجيئه عنادًا دون أن يتأمل فيه أو يتوقف، بل سارع إلى التكذيب أول ما سمعه. وفي قوله (٢): ﴿لَمَّا جَاءَهُ﴾ من تسْفيه آرائهم وتقبيح طرائقهم، ما لا يخفى، حين كذبوا الحق من غير توقف وتأمل.
فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك، فمن جعل الشريك لملك مستقل في الملك كان ظالمًا يستحق العقاب منه، فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك، ومن كذَّب صادقًا يجوز عليه الكذب كان ظالمًا، فكيف من
(١) المراح.
(٢) المراغي.
كذَّب صادقًا لا يجوز عليه الكذب، فإذا ليس أحد أظلم ممن يكذب على الله بالشرك، ويكذب الله في تصديقه نبيه - ﷺ - ويكذب النبي في رسالة ربه، ويكذب القرآن المنزل من الله تعالى إلى الرسول - ﷺ -
ثم بين سوء مغبة أعمالهم بطريق الاستفام التقريري، وهو أبلغ في إثبات المطلوب، وهددهم وتوعدهم، فقال: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى﴾ ومنزل ومأوى ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾؛ أي: مكان يستقرون فيه؛ أي: ألا يستوجب هؤلاء الكافرون من أهل مكة الثواء والإقامة في جهنم، فقد افتروا على الله الكذب، فكذبوا بالكتاب أو الرسول لما جاءهم بلا توقف ولا تأمل.
والخلاصة: أن مثوى هؤلاء، وأشباههم جهنم وبئس المصير، فهو (١) تقرير لثواثهم وإقامتهم فيها، فإن همزة الاستفهام الإنكاري إذا دخلت على النفي صار إيجابًا؛ أي: ألا يستوجبون الإقامة والخلود في جهنم، وقد فعلوا ما فعلوا من الافتراء والتكذيب بالحق الصريح مثل هذا التكذيب الشنيع، أو إنكار واستبعاد لاجترائهم على الافتراء والتكذيب؛ أي: ألم يعلموا أن في جهنم مثوًى للكافرين، حتى اجترؤوا هذه الجرأة، وقوله (٢): ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ من وضع الظاهر موضع المضمر؛ أي: مثواهم.
٦٩ - وبعد أن بين عاقبة أولئك الكافرين، ذكر عاقبة المؤمنين الذين اهتدوا بهُدى الله، وجاهدوا في سبيله، فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾؛ أي (٣): والذين جدوا واجتهدوا في طاعتنا، وبذلوا وسعهم، وطاقتهم في شاننا وحقنا، وأخلصوا عملهم لوجهنا، والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، وأطلق المجاهدة ليعم جهاد الأعداء الظاهرة والباطنة، أما الأول فكجهاد الكفار المحاربين، وأما الثاني فكجهاد النفس والشيطان. وفي الحديث: "جاهدوا أهواءَكم كما تجاهدون أعداءَكم". ويكون الجهاد باليد واللسان. كما قال - عليه السلام -: "جاهدوا
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
48
الكفار بأيديكم وألسنتكم"؛ أي: بما يسوءهم من الكلام، كالهجوِ ونحوهِ، قال ابن عطاء: المجاهدة: صدق الافتقار إلى الله بالانقطاع عن كل ما سواه، وقال عبد الله بن المبارك: المجاهدة: علم أدب الخدمة، فإن أدب الخدمة أعز من الخدمة، وفي "الكواشي": المجاهدة: غض البصر، وحفظ اللسان، وخطرات القلب، ويجمعها الخروج عن العادات البشرية. انتهى.
﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ﴾ أي: وعزتي وجلالي لنرشدنهم ﴿سُبُلَنَا﴾؛ أي: أي سبل السير إلينا، والوصول إلى جنابنا، ولنوفقنهم طرق مرضاتنا، وإنما جمع السبل؛ لأن الطريق إلى الله تتعدد بعدد أنفاس الخلائق، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يريد المهاجرين والأنصار؛ أي: والذين جاهدوا المشركين، وقاتلوهم في نصرة ديننا، لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة والرضوان.
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ﴾ (١): مبتدأ، خبره: القسم المحذوف، وجوابه هو ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ﴾، وبهذا ونظيره رد على أبي العباس ثعلب، في منعه أن تقع جملة القسم والمقسم عليه خبرًا للمبتدأ، ونظيره: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: لمع المخلصين في القول والعمل، بالتوفيق والنصرة والإعانة والعصمة في الدنيا، والثواب والمغفرة في العقبى.
وفي "التأويلات النجمية": لمع المحسنين، الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، ومن كان الله معه.. لم يخذل ولم يذل.
ودخلت (٢) ﴿لام﴾ التوكيد على ﴿مع﴾، وفي ﴿مع﴾ قولان: قيل: اسم، وقيل: حرف، فدخول ﴿اللام﴾ عليها ظاهر على القول الأول، و ﴿لام﴾ التوكيد إنما تدخل على الأسماء، وكذا على الثاني من حيث أن فيها معنى الاستقرار، كما في نحو إن زيدًا لفي الدار، و ﴿مع﴾ إذا سكنت عينها تكون حرفًا، لا غير، وإذا فتحت جاز أن تكون اسمًا، وأن تكون حرفًا، والأكثر أن تكون حرفًا جاء
(١) البحر المحيط.
(٢) القرطبي.
49
لمعنى. اهـ. "قرطبي". وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر، إظهارًا لشرفهم بوصف الإحسان اهـ. "سمين".
فإن قلت (١): المجاهدة في دين الله إنما تكون بعد الهداية، فكيف جعل الهداية من ثمرتها؟
قلت: معناه: جاهدوا في طلب العلم، لنهدينهم سبلنا بمعرفة الأحكام وحقائقها، أو جاهدوا في نيل درجةٍ، لنهدينهم إلى أعلى منها، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ وقال تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾.
والمعنى: أي والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله الكذب، المكذبين لما جاءهم به رسوله، مبتغين بقتالهم علو كلمتنا، ونصرة ديننا، لنزيدنهم هدايةً إلى سبل الخير، وتوفيقًا لسلوكها، كما قال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (١٧)﴾.
وجاء في الحديث: "من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا على علم ما جهلنا، تقصيرنا في العمل بما علمنا ولو عملنا ببعضا علمنا.. لأورثنا علمًا لا تقوم به أبداننا، وقال سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر.
ثم ذكر أن الله يعينهم بالنصرة والتوفيق، فقال: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾ ذا الرحمة ﴿لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: لمع من أحسن من خلقه، فجاهد أهل الشرك، مصدقًا رسوله فيما جاء به من عند ربه بالمعونة والنصرة، على من جاهد من أعدائه وبالمغفرة والثواب في العقبى. روى ابن أبي حاتم عن الشعبي، قال عيسى بن مريم - عليه السلام -: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، والله أعلم.
(١) فتح الرحمن.
50
الإعراب
﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُجَادِلُوا﴾: فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: مفعول به، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان كيفية إرشاد أهل الكتاب ومجادلتهم. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِالَّتِي﴾: متعلق بـ ﴿تُجَادِلُوا﴾. ﴿هِيَ أَحْسَنُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول، وموصوف الموصول محذوف، تقديره: إلا بالمجادلة التي هي أحسن وأسهل. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء متصل. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء. ﴿ظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور حال من واو ﴿ظَلَمُوا﴾.
﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.
﴿وَقُولُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا﴾. ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول: ﴿وَقُولُوا﴾. ﴿بِالَّذِي﴾: متعلق بـ ﴿آمَنَّا﴾. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل مستتر يعود على الموصول. ﴿إِلَيْنَا﴾ متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾، والجملة: صلة الموصول. ﴿وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ معطوف على ﴿أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾. وفي الكلام حذف الموصول الاسمي؛ أي: والذي أنزل إليكم. ﴿وَإِلَهُنَا﴾: مبتدأ. ﴿وَإِلَهُكُمْ﴾: معطوف عليه. ﴿وَاحِدٌ﴾: خبر له، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿آمَنَّا﴾ ﴿وَنَحْنُ﴾: مبتدأ. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿مُسْلِمُونَ﴾. ﴿مُسْلِمُونَ﴾ خبر له، والجملة: معطوفة على جملة ﴿آمَنَّا﴾.
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف
51
صفةٍ لمصدر محذوف، تقديره: وأنزلنا إليك الكتاب، إنزالًا كائنًا كالإنزال الذي أنزلناه على من قبلك. ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به. ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية: مستأنفة. ﴿فَالَّذِينَ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت من ذكرته لك، من إنزال الكتاب إليك، وأردت بيان من يؤمن به، ومن لا يؤمن به فأقول لك: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ ﴿آتَيْنَاهُمُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية: صلة الموصول. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَمِنْ هَؤُلَاءِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿وَمِنْ هَؤُلَاءِ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة، وجملة ﴿يُؤْمِنُ﴾: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُ﴾. ﴿وَمَا يَجْحَدُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿يَجْحَدُ﴾: فعل مضارع. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَجْحَدُ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الْكَافِرُونَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية التي قبلها، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)﴾.
﴿وَمَا كُنْتَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كُنتَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿تَتْلُو﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد. ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَتْلُو﴾ أو حال من ﴿كِتَابٍ﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿كِتَابٍ﴾: مفعول ﴿تَتْلُو﴾. وجملة ﴿تَتْلُو﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾. وجملة ﴿كان﴾: مستأنفة. ﴿وَلَا تَخُطُّهُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تَخُطُّهُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿بِيَمِينِكَ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ﴾. ﴿إِذًا﴾: حرف جواب
52
وجزاء مهمل، قال على شرط محذوف، تقديره: لو كان شيء من التلاوة والخط. ﴿لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ و ﴿اللام﴾: واقعة في جواب لو المحذوفة. ﴿ارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: جواب لو المحذوفة، وجملة لو المحذوفة: مستأنفة.
﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (٤٩)﴾.
﴿بَلْ﴾: حرف إضراب. ﴿هُوَ آيَاتٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿بَيِّنَاتٌ﴾: صفة ﴿آيَاتٌ﴾. ﴿فِي صُدُورِ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة ثانية لـ ﴿آيَاتٌ﴾؛ أي: راسخة في صدورهم. ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل ومفعول ثان؛ لأن أتى هنا بمعنى: أعطى، والجملة: صلة الموصول. ﴿وَمَا يَجْحَدُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾: نافية. ﴿يَجْحَدُ﴾: فعل مضارع. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: متعلق به. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الظَّالِمُونَ﴾: فاعل، والجملة مستأنفة.
﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة لتقرير نوع آخر من أنواع لجاجهم. ﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض بمعنى: هلا. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿آيَاتٌ﴾: نائب فاعل. ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾: صفة لـ ﴿آيَاتٌ﴾ أو متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿الْآيَاتُ﴾: مبتدأ. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة: في محل النص مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَإِنَّمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة خصر. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ. ﴿نَذِيرٌ﴾: خبر. ﴿مُبِينٌ﴾: صفة ﴿نَذِيرٌ﴾. والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّمَا الْآيَاتُ﴾.
53
﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١)﴾.
﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف. و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أقصر هذا القرآن عن حد الإعجاز ولم يكفهم، والجملة المحذوف: مستأنفة. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يَكْفِهِمْ﴾ فعل مضارع ومفعول مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وعلامة جزمه: حرف حرف العلة. ﴿أَنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به. ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿أَنْزَلْنَا﴾: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿يَكْفِهِمْ﴾، والتقدير: أقصر هذا القرآن عن حد الإعجاز، ولم يكفهم إنزالنا عليك الكتاب من جهة كونه معجزةً، وجملة ﴿يُتْلَى﴾: في محل نصب حال من ﴿الْكِتَابَ﴾. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُتْلَى﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿لَرَحْمَةً﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿رَحْمَةً﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾. ﴿وَذِكْرَى﴾: معطوف على ﴿رحمة﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿لِقَوْمٍ﴾: صفة لـ ﴿ذِكْرَى﴾ و ﴿رَحْمَةً﴾ وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ صفة ﴿لِقَوْمٍ﴾.
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٥٢)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَى﴾: فعل ماض. ﴿الباء﴾: حرف جر زائد. ولفظ جلالة ﴿بِاللَّهِ﴾ فاعل ﴿كَفَى﴾، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿بَيْنِي﴾: ظرف متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾. ﴿وَبَيْنَكُمْ﴾: معطوف على ﴿بَيْنِي﴾. ﴿شَهِيدًا﴾ تمييز لفاعل ﴿كَفَى﴾. ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة: في محل النصب حال من لفظ الجلالة. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿آمَنُوا﴾:
54
فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِالْبَاطِلِ﴾: متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾. ﴿وَكَفَرُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْخَاسِرُونَ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره: في محل الرفع خبر الأول، وجملة الأول: مستأنفة.
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٣)﴾.
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿بِالْعَذَابِ﴾: متعلق به، والجملة: مستأنفة مسوقة للتعجب منهم، أو للاستهزاء بهم. ﴿وَلَوْلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود. ﴿أَجَلٌ﴾ مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة: وقوعه بعد ﴿لَوْلَا﴾ أو وصفه بما بعده. ﴿مُسَمًّى﴾ صفة لـ ﴿أَجَلٌ﴾، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: موجود. ﴿لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْلَا﴾. ﴿جَاءَهُمُ الْعَذَابُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية: جواب ﴿لَوْلَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْلَا﴾ معطوفة على جملة ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ﴾. ﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿يأتين﴾: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله: ضمير يعود على ﴿بِالْعَذَابِ﴾. ﴿الهاء﴾: مفعول به. ﴿بَغْتَةً﴾: حال من فاعل ﴿يَأْتِيَنّ﴾ أي: حال كون العذاب باغتًا. ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من ﴿الهاء﴾ في ﴿يَأْتِيَنَّهُمْ﴾، وجملة ﴿يَأْتِيَنَّهُمْ﴾: جواب القسم، وجملة القسم: معطوفة على جملة ﴿يَسْتَعْجِلُونَ﴾.
﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٥٤)﴾.
﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿بِالْعَذَابِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: مستأنفة، مكررة لتأكيد الجملة السابقة، أو للتعجب من حماقتهم، لأن
55
من هدد بشيء.. التمس أسباب الوقاية منه، أما هؤلاء فيستعجلون. ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَمُحِيطَةٌ﴾: خبره، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿بِالْكَافِرِينَ﴾: متعلق بـ ﴿مُحِيطَةٌ﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب حال من ﴿الْعَذَابُ﴾ والرابط: إعادة صاحب الحال بمعناه؛ لأن ﴿جَهَنَّمَ﴾ بمعنى ﴿الْعَذَابِ﴾، وعبر بالحال وأراد الاستقبال؛ أي: ستحيط بهم للدلالة على التحقق والمبالغة.
﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)﴾.
يَوْمَ: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿مُحِيطَةٌ﴾. ﴿يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الْعَذَابُ﴾، أو متعلق بـ ﴿يَغْشَاهُمُ﴾. ﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾. ﴿وَيَقُولُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، أو على الملك الموكل بالعذاب، والجملة: في محل الجر معطوفة على جملة ﴿يَغْشَاهُمُ﴾. ﴿ذُوقُوا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُ﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة.
﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٥٧)﴾.
﴿يَا عِبَادِيَ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء: مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿عبادي﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿إِنَّ أَرْضِي﴾: ناصب واسمه، ﴿وَاسِعَةٌ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة واقعة في جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَإِيَّايَ﴾: ﴿الفاء﴾: واقعة في جواب شرط محذوف، حذف وعوض عنه تقديم المفعول على عامله، تقديره: إن لم تيسر لكم عبادتي في أرض.. فهاجروا منها إلى أخرى، واعبدوا إياي فيها. ﴿إِيَّايَ﴾: ضمير
56
نصب في محل النصب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: فاعبدوا إياي. ﴿فَاعْبُدُونِ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجزم جواب للشرط المحذوف، وجملة الشرط المحذوف: مستأنفة على كونها جواب النداء. ﴿فَاعْبُدُونِ﴾: ﴿الفاء﴾ زائدة لتحسين الخط. ﴿اعبدون﴾: فعل أمر وفاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة: مفعول به، والجملة الفعلية: جملة مفسرة للمحذوفة، لا محل لها من الإعراب. ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب. ﴿إِلَيْنَا﴾: متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾، و ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية: معطوفة على الجملة الاسمية.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم: ﴿نُبَوِّئَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، و ﴿الهاء﴾: مفعول به أول. ﴿مِنَ الْجَنَّةِ﴾: حال من غرفًا. ﴿غُرَفًا﴾: مفعول ثان؛ لأن بوأ يتعدى إلى مفعولين، والجملة الفعلية: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾: متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾. ﴿الْأَنْهَارُ﴾: فاعل، والجملة: في محل النصب صفة لـ ﴿غُرَفًا﴾. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من هاء ﴿نُبَوِّئَنَّهُمْ﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿نِعْمَ﴾: فعل ماض في أفعال المدح، ﴿أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾: فاعل ومضاف إليه، وجملة ﴿نِعْمَ﴾: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، أو في محل الرفع خبر مقدم للمخصوص بالمدح، المحذوف وجوبًا، تقديره: نعم أجر العاملين أجرهم، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة للعاملين، ﴿صَبَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الصوصول، ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ﴾: ﴿الواو﴾:
57
عاطفة. ﴿عَلَى رَبِّهِمْ﴾: متعلق بما بعده، ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على جملة ﴿صَبَرُوا﴾ على كونها صلة الموصول.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)﴾.
﴿وَكَأَيِّنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَأَيِّنْ﴾: اسم مركب بمعنى كم الخبرية، في محل الرفع مبتدأ أول، مبني على السكون لشبهة بالحرف شبهًا معنويًا، لتضمنه معنى رب التكثيرية، ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾: تمييز ﴿كَأَيِّنْ﴾: مجرور بـ ﴿مِنْ﴾. ﴿لَا﴾: نافية، ﴿تَحْمِلُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿رِزْقَهَا﴾: مفعول به، والجملة: في محل الجر صفة لـ ﴿دَابَّةٍ﴾. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ثان، وجملة ﴿يَرْزُقُهَا﴾: خبر له، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره: خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول: مستأنفة، ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾: معطوف على الضمير في ﴿يَرْزُقُهَا﴾، ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، ﴿السَّمِيعُ﴾: خبر أول، ﴿الْعَلِيمُ﴾: خبر ثان، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١)﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿سَأَلْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾: الشرطية، محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: يقولون خلقهن الله، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: معترضة لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين القسم وجوابه. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ معلقة لسأل عن العمل في المفعول الثاني. ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة: خبر لـ ﴿مَنْ﴾ الاستفهامية، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لسأل، معلقة عنها باسم الاستفهام، ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿خَلَقَ﴾، ﴿وَالْقَمَرَ﴾: معطوف على ﴿الشَّمْسَ﴾. ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، مؤكدة للأولى، ﴿يَقُولُنَّ﴾:
58
فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين: في محل الرفع فاعل، والنون المشددة: نون التوكيد الثقيلة، ﴿اللَّهُ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو الله، أو مبتدأ، والخبر: محذوف، تقديره: الله خلقهن، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿لَيَقُولُنَّ﴾، وجملة ﴿يَقُولُنَّ﴾: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه، مستأنفة. ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت جوابهم هذا، وأردت التعجب منهم.. فأقول لك: قل: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾، ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام للاستفهام التعجبي بمعنى كيف في محل النصب حال من واو ﴿يُؤْفَكُونَ﴾. ﴿يُؤْفَكُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع بثبوت النون، و ﴿الواو﴾، نائب فاعل، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، وفي، الفتوحات " قوله: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾: الاستفهام للإنكار والتوبيخ، و ﴿الفاء﴾: في قوله: ﴿فَأَنَّى﴾: في جواب شرط مقدر؛ أي: إن صرفهم الهوى والشيطان، فأنى يؤفكون اهـ. "شهاب".
﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة، ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَبْسُطُ﴾ وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة ﴿مِنْ﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: لمن يشاء البسط له، ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾: حال من العائد المحذوف، أو من ﴿مِنْ﴾ الموصولة، ﴿وَيَقْدِرُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على ﴿يَبْسُطُ﴾. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَقْدِرُ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾ ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣)﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿سَأَلْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية
59
على كونها فعل شرط لها، ﴿مَّن﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، وهو معلق لـ ﴿سَأَلْ﴾ عن المفعول الثاني، ﴿نَزَّلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مِن﴾ الاستفهامية. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق به، ﴿مَاءً﴾: مفعول به، وجملة ﴿نَزَّلَ﴾ خبر ﴿مَن﴾ الاستفهامية، والجملة الاسمية: في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿سأل﴾، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية: محذوف، دل عليه جواب القسم، تقديره: يقولون الله، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين القسم واجوابه ﴿فَأَحْيَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أحيا﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَّن﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَحْيَا﴾، ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿نَزَّلَ﴾، ﴿بَعْدِ مَوْتِهَا﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَحْيَا﴾، أو حال من الأرض. ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم مؤكدة للأولى، ﴿يقولن﴾: فعل مضارع بثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و ﴿الواو﴾ المحذوفة لالتقاء الساكنين: في محل الرفع فاعل، ﴿اللَّهُ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو الله، وجملة ﴿يَقُولُنَّ﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه، معطوفة على جملة القسم في قوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ لأنها مماثلة لها، أو مستأنفة. ﴿قُلِ﴾: فعل أمر وفاعل ممستتر، والجملة: مستأنفة، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول لـ ﴿قُلِ﴾، ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب، ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿هَذِهِ﴾: مبتدأ. ﴿الْحَيَاةُ﴾: بدل منه. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةُ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿لَهْوٌ﴾: خبر المبتدأ، ﴿وَلَعِبٌ﴾: معطوف عليه، والجملة الاسمية: مستأنفة، ﴿وَإِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنَّ الدَّارَ﴾: ناصب واسمه، ﴿الْآخِرَةَ﴾ نعت ﴿الدَّارَ﴾. ﴿لَهِيَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿هِي﴾: مبتدأ ثان، أو ضمير فصل،
60
﴿الْحَيَوَانُ﴾: خبر ﴿هو﴾، أو خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانُ﴾: شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية: محذوف دل عليه ما قبله، وتقديره: ما آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية: مستأنفة.
﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥)﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿رَكِبُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿فِي الْفُلْكِ﴾: متعلق به، والجملة: في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، والظرف: متعلق بالجواب الآتي. ﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾: مستأنفة، ﴿مُخْلِصِينَ﴾: حال من فاعل ﴿دَعَوُا﴾. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿مُخْلِصِينَ﴾، ﴿الدِّينَ﴾: مفعول ﴿مُخْلِصِينَ﴾. ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿لَمَّا﴾: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية ومتعلق بجوابه. ﴿نَجَّاهُمْ﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿إِلَى الْبَرِّ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾ في محل جر بالإضافة لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿إِذَا﴾: فجائية رابطة لجواب ﴿لَمَّا﴾ وجوبًا، حرف لا محل لها من الإعراب، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُشْرِكُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية جواب ﴿لَمَّا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾: معطوفة على جملة ﴿إِذَا رَكِبُوا﴾.
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)﴾.
﴿لِيَكْفُرُوا﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، أو لام العاقبة، ﴿يَكْفُرُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿إن﴾ المضمرة بعد اللام ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَكْفُرُوا﴾ ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول والثاني محذوف تقديره بما آتيناهموه، وهو العائد على الموصول، والجملة صلة الموصول ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد ﴿اللام﴾، معطوف على ﴿لِيَكْفُرُوا﴾، وجملة
61
﴿يَكْفُرُوا﴾: صلة أن المضمرة، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾، تقديره: إذا هم يشركون لقصد كفرهم بما آتيناهم، ولقصد تمتعهم وتوادهم بالاجتماع على عبادة الأصنام، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿يُشْرِكُونَ﴾، ويحتمل كون اللامين لام الأمر، كما مر، ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت تعنتاتهم واضطراباتهم هذه، وأردت بيان عاقبة أمرهم، فأقول لك: سوف يعلمون ذلك، سوف: حرف تنفيس، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: ألم يشاهد هؤلاء المشركون، ولم يروا ﴿أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾، والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿لَمْ يَرَوْا﴾: جازم وفعل وفاعل مجزوم معطوف على تلك المحذوفة. ﴿أَنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿جَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل والمفعول الأول محذوف، تقديره: جعلنا بلدهم. ﴿حَرَمًا﴾: مفعول ثان. ﴿آمِنًا﴾ صفة ﴿حَرَمًا﴾، وجملة ﴿جَعَلْنَا﴾: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى، تقديره: أولم يروا جَعْلنا بلدهم حرمًا آمنًا. ﴿وَيُتَخَطَّفُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿يُتَخَطَّفُ النَّاسُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل. ﴿مِنْ حَوْلِهِمْ﴾: حال من ﴿النَّاسُ﴾، والجملة الفعلية، في محل النصب حال من ضمير المفعول الأول المحذوف، تقديره: أولم يروا أنا جعلنا بلدهم حرمًا آمنًا، والحال أن الناس يتخطفون من حول بلدهم؛ أي: جعلناهم آمنين قارين في بلدهم، والناس متخطفون من حولهم. ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: معطوفة على تلك المحذوفة، والجملة المحذوفة: مستأنفة،
62
والتقدير: أيكذبون رسولنا فيؤمنون بالباطل: ﴿وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَكْفُرُونَ﴾، وجملة ﴿يَكْفُرُونَ﴾: معطوفة على جملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٦٨)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام إنكاري، في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَظْلَمُ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿مِمَّنِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾. ﴿افْتَرَى﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿افْتَرَى﴾. ﴿كَذِبًا﴾: مفعول به، ﴿أَوْ كَذَّبَ﴾: ﴿أَوْ﴾ حرف عطف وتنويع. ﴿كَذَّبَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على ﴿افْتَرَى﴾. ﴿بِالْحَقِّ﴾ متعلق بـ ﴿كَذَّبَ﴾. ﴿لَمَّا﴾: ظرف بمعنى حين متعلق بـ ﴿كَذَّبَ﴾. ﴿جَاءَهُ﴾: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على الحق، والجملة الفعلية: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿أَلَيْسَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿فِي جَهَنَّمَ﴾: خبر مقدم ﴿لَيْسَ﴾، ﴿مَثْوًى﴾: اسمها مؤخر، ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: صفة لـ ﴿مَثْوًى﴾، والجملة الاستفهامية: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿جَاهَدُوا﴾: صلة الموصول، ومفعول ﴿جَاهَدُوا﴾ محذوف لقصد التعميم، تقديره: والذين جاهدوا الكفار والنفس والهوى والشيطان، ﴿فِينَا﴾: متعلق بـ ﴿جَاهَدُوا﴾؛ ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿نَهْدِيَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على الله، وضمير الغائبين: في محل النصب مفعول أول، ﴿سُبُلَنَا﴾: مفعول ثان، أو منصوب بنزع الخافض، والجملة الفعلية: جواب القسم، وجملة القسم مع جوابه في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَمَعَ﴾:
63
﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿مَعَ الْمُحْسِنِين﴾: ظرف ومضاف إليه خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: معطوفة على الجملة الاسمية قبلها. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ المجادلة، والجدال، مصدران لجادل من باب فاعل، كما في "التاج". قال الراغب: الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله: من جدلت الحبل؛ أي: أحكمت قتله، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد آخر عن رأيه، والمعنى: ولا تخاصموا اليهود والنصارى، والجدل: الحجاج والمناظرة.
﴿مُسْلِمُونَ﴾ أي: خاضعون مطيعون.
﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾ والجحد: إنكار الشيء بعد معرفته، وقيل: الجحد: نفي ما في القلب ثبوته، أو إثبات ما في القلب نفيه، والمراد به هنا، الإنكار عن علم.
﴿وَلَا تَخُطُّهُ﴾. والخط: كالمد ويقال لما له: طول ويعبر عن الكتابة بالخط.
﴿إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾: الارتياب: الشك، وفي "المختار": الريب: الشك. قال الراغب: الريب: أن يتوهم بالشيء أمرًا ينكشف عما يتوهمه، ولهذا قال تعالى: ﴿لَا رَيْبَ﴾ والإرابة: أن يتوهم فيه أمرًا فلا ينكشف عما يتوهمه، والإرتياب: يجري مجرى الإرابة، ونفى عن المؤمنين الارتياب، كما قال: ﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.
والمبطل: من يأتي بالباطل، وهو نقيض المحق، وهو من يأتي بالحق، لما أن الباطل نقيض الحق، قال في "المفردات": الإبطال: يقال في إفساد الشيء وإزالته، حقًا كان ذلك الشيء أو باطلاً، قال تعالى: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ وقد يقال فيمن يقول شيئًا لا حقيقة له.
﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ﴾ والكفاية: ما فيه سد الخلة، وبلوغ المراد في الأمر.
64
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ والاستعجال: طلب الشيء قبل أوانه.
﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾ قال الراغب: البغت: مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب، يقال: بغتة: إذا دهمه على حين غفلة.
﴿ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ والذوق: وجود الطعم بالفم، وأصله: مما يقل تناوله، فإذا أكثر يقال له: الأكل، واختير في القرآن لفظ الذوق في العذاب؛ لأن ذلك وإن كان في التعارف للقليل، فهو مستصلح للكثير، فخصه بالذكر ليعلم الأمرين، كما في "المفردات".
﴿إِنَّ أَرْضِي﴾: الأرض: الجرم المقابل للسماء.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ﴾: ﴿كَأَيِّنْ﴾: للتكثير بمعنى كم الخبرية، ركب كاف التشبيه مع أي، فجرد عنها معنا الإفرادي، فصار المجموع كأنه اسم مبني على السكون، آخره نون ساكنة، كما في من، لا تنوين تمكين، ولهذا يكتب بعد الياء نون، مع أن التنوين صورة له في الخط.
والدابة: كل حيوان يدب ويتحرك على الأرض، مما يعقل ومما لا يعقل.
﴿لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا﴾ الحمل بالفتح: الجنين، وبالكسر: اسم للمحمول على الرأس وعلى الظهر.
﴿رِزْقَهَا﴾ والرزق لغة: كل ما ينتفع به، واصطلاحًا: اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله.
﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ والتسخير جعل الشيء منقادًا للآخر، وسوقه إلى الغرض المختص به قهرًا.
﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾: الإفك بالفتح: الصرف والقلب، وبالكسر: كل مصروف عن وجه الذي يحق أن يكون عليه.
﴿إِلَّا لَهْوٌ﴾ واللهو: كل ما يلهي الإنسان ويشغله عما يهمه، والملاهي: آلات اللهو، لأنها تلهي عن الأذكار والصلوات.
65
﴿وَلَعِبٌ﴾ يقال: لعب فلان: إذا لم يقصد بفعله مقصدًا صحيحًا، كفعل الصبيان، وقد قدمنا الكلام فيهما مبسوطًا، فراجعه.
﴿لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ والحيوان: مصدر حيِيَ، سمي به ذو الحياة، وأصله: حييان، فقلبت الياء الثانية واوًا، لئلا يحذف إحدى الألفين، وهو أبلغ من الحياة، لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحيوان، كالنزوان واللهيان، لذلك اختير على الحياة في هذا المقام، المقتضى للمبالغة اهـ. من "الروح".
والحياة: حركة كما أن الموت: سكون، فمجيئه على بناءٍ دالٍ على معنى الحركة، مبالغة في معنى الحياة.
﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾؛ أي: يضيق ويقتر، ولهذا الفعل خصائص عجيبة، فهو يتوزع على طائفة من المعاني سنذكرها فيما يلي:
يقال: قدر الرزق: قسمه وبابه نصر وضرب، وقدر وقدر على عياله: ضيق وقتر، قال في "الأساس": وقدر عليه رزقه، وقدر: قتر، وقدر يقدر من باب علم، قدرًا وقدرةً، ومقدَرةً، ومقدُرةً ومِقدارًا وقدرًا على الشيء: قوي عليه، وقدر يقدر من باب: ضرب قدرًا لأمر: إذا دبره، وقدر الشيء بالشيء: قاسه به، وجعله على مقداره، وقدر يقدر ويقدر: من بابي: نصر وجلس، الله عظمه، وقدر الرجل: فكر في تسوية أمره، وتدبيره، وقدر يقدر - من باب تعب - قدرًا: بفتحتين قصرت عنقه، وقدر على الشيء اقتدر.
﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ﴾ والركوب: هو الاستعلاء على الشيء المتحرك، وهو متعد بنفسه، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا﴾، واستعماله هاهنا وفي أمثاله بكلمة ﴿فِي﴾: للإيذان بأن المركوب في نفسه، من قبيل الأمكنة، وحركته قسرية غير إرادية.
﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾ البر: خلاف البحر، وتصور منه التوسع، فاشتق منه البر؛ أي: التوسع في فعل الخير، كما في "المفردات".
66
﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ﴾ الخطف: أخذ الشيء بسرعة.
﴿مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾: وفي "المختار": ثوى بالمكان يثوى، بالكسر: ثواءً ثويًا أيضًا بوزن مضي؛ أي: أقام به، ويقال: ثوى البصرة، وثوى بالبصرة، وأثوى بالمكان لغةً: في ثوى وأثوى غيره، يتعدى ويلزم، وثوى غيره أيضًا تثوية اهـ. والمثوى: المنزل والمحبس.
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا﴾ والجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو.
﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ﴾ الهداية: الدلالة إلى ما يوصل إلى المطلوب.
﴿سُبُلَنَا﴾ والسبل: جمع سبيل، وهو من الطرق: ما هو معتاد السلوك، ويلزمه السهولة، ولهذا قال الإِمام الراغب: السبيل: الطريق الذي فيه سهولة. انتهى.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التعريض في قوله: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ فإن فيه تعريضًا بكفر أهل الكتاب، حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله تعالى.
ومنها: التعبير عن القرآن بالآيات، في قوله: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾ للتنبيه على ظهور دلالته على معانيه، وعلى كونه من عند الله تعالى.
ومنها: الإضافة فيه للتشريف.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ فذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط، فيه زيادة في التصوير، واستحضار لنفي كونه كاتبًا. والإطناب يكون حقيقةً ومجازًا، وهذا من النوع الأول، ومثله قولهم: رأيته بعيني، وقبضته بيدي، ووطِئته بقدمي، وذقته بفمي، وكل هذا يظنه الظان
67
المبتدىء: أنه من قبيل الزيادة والفضول، وأنه لا حاجة إليه، ويقول: إن الرؤية لا تكون إلا بالعين، والقبض لا يكون إلا باليد، والوطْء لا يكون إلا بالقدم، والذوق لا يكون إلا بالفم، وليس الأمر كما توهم، بل هذا يقال في كل شيء يعظم مناله، ويعز الوصول إليه، وهو كثير في القرآن الكريم.
ومنها: التنوين للتعظيم في قوله: ﴿لَرَحْمَةً وَذِكْرَى﴾؛ أي: رحمةً عظيمةً.
ومنها: التحضيض في قوله: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿آمَنُوا بِالْبَاطِلِ﴾، و ﴿وَكَفَرُوا بِاللَّهِ﴾.
ومنها: القصر في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾؛ أي: لا غيرهم.
ومنها: الإطناب بذكر العذاب مرات، للتشنيع على المشركين في قوله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾، ﴿وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى﴾، ﴿يَسْتَعْجِلُونَ﴾، ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ﴾، ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ﴾.
ومنها: التعبير بما يدل على الحال عما في المستقبل في قوله: ﴿لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ والمعنى: ستحيط بهم عن قريب؛ لأن ما هو آت قريب عبر عنه بالاسم الدال على الحال، دلالةً على تحقق الإحاطة بهم، ومبالغةً فيه.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لأنه كناية عن مباشرة العذاب ودخوله.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ حيث شبه تجرعها مرارة الموت، بذوق الذائق الطعام.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾، ﴿وَيَقْدِرُ﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿حَرَمًا آمِنًا﴾؛ أي: آمنًا أهله.
68
ومنها: الإشارة للتحقير في قوله: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ تحقيرًا للدنيا.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ أي: كاللهو وكاللعب، حذفت أداة التشبيه، ووجه الشبه، فأصبح بليغًا على حدّ قولهم: زيد أسد.
ومنها: الإيجاز بحذف جواب الشرط، لدلالة السياق عليه، في قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: لو كانوا يعلمون حقارة الدنيا.. ما آثروها على الآخرة.
ومنها: تقديم الصلة؛ لإظهار شناعة ما فعلوه، في قوله: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ الخ.
ومنها: الاستفهام الإنكاري، في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ﴾.
ومنها: الاستفهام التقريري، في قوله: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ لأن مقتضى السياق: أن يقال: مثوى لهم.
ومنها: مراعاة الفواصل، لما لها من وقع عظيم على السمع يزيد الكلام رونقًا وجمالًا، مثل: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾، ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، ﴿إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ الخ.
ومنها: إقامة الظاهر مقام المضمر، في قوله: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إظهارًا لشرفهم بوصف الإحسان.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
فائدة: قال بعض العلماء: النبوة والرسالة: كالسلطنة، اختصاص إلهي لا مدخل لكسب العبد فيها، وأما الولاية: كالوزارة، فلكسب العبد مدخل فيها، كما تمكن الوزارة بالكسب، كذلك تمكن الولاية بالكسب، ولقد أحسن من قال في شأن الدنيا:
69
تَأْمَّلْ فِي الْوُجُوْدِ بِعَيْنِ فِكْرٍ تَرَى الدُّنْيَا الدَّنِيةَ كَاَلْخَيَالِ
وَمَنْ فِيْهَا جَمِيْعًا سَوْفَ يَفْنَى وَيَبْقَى وَجْهُ رِبِّكَ ذُوْ الْجَلاَلِ
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
70
موضوعات هذه السورة الكريمة
١ - اختبار المؤمنين، ليعلم صدقهم في إيمانهم.
٢ - في الجهاد فائدة للمجاهد، والله غني عن ذلك.
٣ - الحسنات يكفرن السيئات.
٤ - الأمر بالإحسان إلى الوالدين، وبرهما، مع عدم طاعتهما في الإشراك بالله.
٥ - حال المنافق الذي يظهر الإيمان، ولا يحتمل الأذى في سبيل الله تعالى.
٦ - حال الكافرين الذين يضلون غيرهم، ويقولون للمؤمنين: نحن نحمل خطاياكم إن كنتم ضالين.
٧ - قصص الأنبياء: كنوح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وصالح، وموسى، وهارون، وبيان ما آل إليه أمر الأنبياء من النصر، وأمر أممهم من الهلاك بضروب مختلفة من العقاب.
٨ - حجاج المشركين بضرب الأمثال لهم، مما فيه تقريعهم وتأنيبهم.
٩ - حجاج أهل الكتاب، والنهي عن جدلهم بالفظاظة والغلظة.
١٠ - إثبات النبوة، ببيان صدق معجزته - ﷺ -.
١١ - ذكر بعض شبههم في نبوته، والرد على ذلك.
١٢ - استعجالهم بالعذاب تهكمًا.
١٣ - أمر المؤمنين بالفرار بدينهم، من أرض يخافون فيها الفتنة.
١٤ - العاقبة الحسنى للذين يعملون الصالحات.
71
١٥ - اعترافهم بأن الخالق الرازق هو: الله.
١٦ - بيان أن الدار الآخرة هي: دار الحياة الحقة.
١٧ - امتنانه على قريش بسكناهم البيت الحرام، ثم كفرانهم بهذه النعمة، بإشراكهم به سواه.
والله أعلم
* * *
72
سورة الروم
سورة الروم مكية، إلا قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)﴾ فمدنية. قال القرطبي: كلها مكية بلا خلاف، وهي ستون أو تسع وخمسون آيةً، نزلت بعد سورة الانشقاق، وثمان مئة وتسع عشرة كلمةً، وثلاثة آلافٍ وخمس مئةٍ وأربعة وثلاثون حرفًا (١).
المناسبة: مناسبتها لما قبلها من وجوه (٢):
١ - أن السورة السابقة بُدِئت بالجهاد وختمت به، فافتتحت بأن الناس لم يخلقوا في الأرض ليناموا على مهاد الراحة، بل خلقوا ليجاهدوا، حتى يلاقوا ربهم، وأنّهم يلاقون شتى المصاعب من الأهل، والأمم التي يكونون فيها، وهذه السورة قد بدِئت بما يتضمن نصرة المؤمنين، ودفع شماتة أعدائهم المشركين، وهم يجاهدون في الله ولوجهه، فكأن هذه متممة لما قبلها من هذه الجهة.
٢ - أن ما في هذه السورة، من الحجج على التوحيد، والنظر في الآفاق والأنفس، مفصل لما جاء منه مجملًا في السورة السالفة، إذ قال في السالفة: ﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾، وهنا بين ذلك فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ إلخ. وقال: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾.
تسميتها: سميت بالروم لما فيها من ذكر لفظ الروم، وقصتهم.
فضلها: ومن فضائلها: ما روي عن رسول الله - ﷺ -: "من قرأ سورة الروم.. كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد كل ملك يسبح الله بين السماء والأرض، وأدرك ما ضيع في يومه وليلته". ولكنه من "الموضوعات".
(١) الخازن.
(٢) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا عن [المراغي] ووقع خلل طباعي هنا في عزو الحواشي.
73
وأخرج عبد الرزاق، عن معمر عن عبد الملك بن عمير: أن النبي - ﷺ - قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروم.
الناسخ والمنسوخ: وقال ابن حزم في كتابه "الناسخ والمنسوخ": سورة الروم آياتها كلها محكمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
74

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (١٠) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣)﴾.
75
المناسبة
وقد قدمنا بيان مناسبة هذه السورة لما قبلها آنفًا، فراجعها.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ..﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أنه لما أنكر المشركون الإله بإنكار وعده، وأنكروا البعث كما قال: ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.. أردف هذا: أن الإدلة متظاهرة في الأنفس والآفاق، على وجوده وتفرده بخلقها، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، وأنها لم تخلق سدًى، ولا باطلًا، بل خلقت بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى هو يوم القيامة، ثم أمرهم بالسير في أقطار الأرض، ليعلموا حال المكذبين، من الأمم قبلهم، وقد كانوا أشد منهم بأسًا وقوةً، فكذبوا رسلهم، فأهلكهم الله تعالى، وصاروا كأمسِ الدابر، والمثل الغابر، وما كان ذلك إلا بظلمهم، وفساد أنفسهم، لا بظلم الله تعالى لهم.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما بين أن عاقبة المجرمين النار، وكان ذلك يستلزم الإعادة والحشر.. لم يتركه دعوًى بلا بينة، بل أقام عليه الدليل، بأن أبان: أن من خلق الخلق بقدرته وإرادته.. لا يعجز عن رجعته، ثم بين ما يكون حين الرجوع، من إفلاس المجرمين، وتحقق بأسهم وحيرتهم، إذ لا تنفعهم شركاؤهم، بل هم يكفرون بهم، ثم ذكر أن الناس حينئذ فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير، فالأولون يمتعون بسرور وحبور، والآخرون يصلون النار دأبًا، لا يغيبون عنها أبدًا.
قوله: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما بين حال الفريقين، المؤمنين الذين يعملون الصالحات، والكافرين المكذبين بالآيات، وما أعد لكل منهما من الثواب والعقاب.. أرشد إلى ما يفضي إلى الحال الأولى، وينجي من الثانية،
(١) المراغي.
76
وهو تنزيه الله عَزَّ وَجَلَّ عن كل ما لا يليق به، وحمده والثناء عليه، بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال، ولما كان الإنسان حين الإصباح يخرج من حال النوم، التي هي أشبه بالموت منها إلى اليقظة، وكأنها حياة بعد موت.. أتبع ذلك بذكر الموت والحياة حقيقةً.
وعبارة أبي حبان هنا (١): لما بين سبحانه وتعالى عظيم قدرته في خلق السماوات والأرض بالحق، وهو حالة ابتداء العالم، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار، وهي حالة الانتهاء.. أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء، والظاهر أنه أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات، لما يتجدد فيها من النعم، ويحتمل أن يكون كنايةً عن استغراق زمان العبد، وهو أن يكون ذاكرًا ربه، واصفه بما يجب له على كل حال، وقال الزمخشري: لما ذكر الوعد والوعيد.. أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد، وينجي من الوعيد. انتهت.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما أمر بتنزيهه عن الأسواء والنقائص، التي لا تليق بجلاله وكماله، وذكر أن الحمد له على خلقه جميع الموجودات، وبين قدرته على الإماتة والإحياء بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾.. ذكر هنا أدلةً باهرةً، وحججًا ظاهرةً على البعث والإعادة، منها خلقكم من التراب الذي لم يشم رائحة الحياة، ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم، ثم إبقاء نوعكم بالتوالد، فإذا مات الأب.. قام ابنه مقامه، لتبقى سلسلة الحياة متصلةً بهذا النوع، وبسائر الأنواع الأخرى، بالازدواج والتوالد، إلى الأجل الذي قدره الله لأمد هذه الحياة.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر (٢) دلائل
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
77
وجوده، بما ذكره في خلق الإنسان.. أعقبه بذكر الدلائل في الأكوان المشاهدة، والعوالم المختلفة، وفي اختلاف ألوان البشر ولغاتهم، التي لا حصر لها، مع كونهم من أبٍ واحد، وأصل واحد، وفيما يشاهد من سباتهم العميق ليلًا، وحركتهم نهارًا في السعي على الأرزاق، والجد والكد فيها.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات، إلى قوله: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ على ما ذكره المفسرون (١): أنه كان بين فارس والروم قتال، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم؛ لأن فارسًا كانوا مجوسًا أميين، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس، لكونهم أهل كتاب، فبعث كسرى جيشًا إلى الروم، واستعمل عليهم رجلًا يقال له: شهرمان، وبعث قيصر رجابًا وجيشًا، وأمّر عليهم رجلًا يدعى بخين، فالتقيا بأذرعات وبصرى، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم، فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق عليهم، وفرح به كفار مكة، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم، فإنكم إن قاتلتمونا.. لنظهرن عليكم، فأنزل الله هذه الآيات، فخرج أبو بكر الصديق إلى كفار مكة، فقال: فرحتم بظهور إخوانكم، فلا تفرحوا، فوالله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا محمد - ﷺ - فقام إليه أبيّ بن خلف الجمحيّ، فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، فقال: اجعل بيننا أجلًا أناحبك عليه، والمناحبة بالحاء المهملة: القمار والمراهنة؛ أي: أراهنك على عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك، فإذا ظهرت فارس على الروم.. غَرمتَ، وإذا ظهرت الروم على فارس.. غَرمتُ، ففعلوا، وجعلوا الأجل ثلاث سنين، فجاء أبو بكر إلى النبي - ﷺ - وأخبره بذلك قبل تحريم القمار، فقال النبي - ﷺ -: "ما هكذا
(١) الخازن.
78
ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاثة إلى التسع، فزايده في الخطر، ومادده في الأجل" فخرج أبو بكر، فلقي أبيًا، فقال: لعلك ندمت، فقال: فتعال أزايدك في الخطر، وأماددك في الأجل، فاجعلها مئة قلوص، ومئة قلوص إلى تسع سنين، فقال: قد فعلت، فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة.. أتاه ولزمه وقال: إني أخاف أن تخرج من مكة، فأقم لي ضامنًا كفيلًا، فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أحد. أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه، وقال: والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلًا، فأعطاه كفيلًا ثم خرج إلى أحد، قال: ثم حين رجع أبي بن خلف إلى مكة، ومات بها من جراحته التي جرحه النبي - ﷺ - حين بارزه، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك على رأس سبع سنين من مناحبتهم، وقيل: كان يوم بدر، وربطت الروم خيولهم بالمدائن، وبنوا بالعراق مدينةً، وسموها روميةً، فقمر أبو بكر، وأخذ مال الخطر من ورثته، وجاء به للنبي - ﷺ -، وذلك قبل أن يحرم القمار، فقال النبي - ﷺ -: "تصدق به".
وكان سبب غلبة الروم فارسًا، على ما قاله عكرمة وغيره: أن شهرمان لما غلب الروم.. لم يزل يطؤهم، ويخرب مدائنهم، حتى بلغ الخليج، فبينا أخوه فرحان جالس ذات يوم يشرب، قال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى، فكتب إلى شهرمان: إذا أتاك كتابي.. فأبعث إليّ برأس أخيك فرحان، فكتب إليه: أيها الملك إنك لا تجد مثل فرحان، إن له نكاية وصولة في العدو فلا تفعل، فكتب إليه إن في رجال فارس خلفًا عنه، فعجل إليّ برأسه، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدًا إلى أهل فارس: أني قد عزلت عنكم شهرمان، واستعملت عليكم فرحان، ثم بعث مع البريد صحيفةً صغيرةً، وأمره فيها بقتل شهرمان، وقال: إذا ولي فرحان الملك، وانقاد له أخوه.. فأعطه الصحيفة، فلما وصل البريد إلى شهرمان.. عرض عليه كتاب كسرى، فلما قرأه قال: سمعًا وطاعةً، ونزل عن سرير الملك، وأجلس عليه أخاه فرحان، فدفع البريد الصحيفة إلى فرحان، فلما قرأها.. استدعى بأخيه شهرمان، وقدمه ليضرب عنقه، فقال له: لا تعجل حتى أكتب وصيتي، قال: نعم، فدعا
79
بسفطٍ ففتحه، وأعطاه ثلاث صحائف منه، وقال: كل هذا راجعت فيك كسرى، وأنت تريد قتلي بكتابٍ واحدٍ، فرد فرحان الملك إلى أخيه شهرمان، فكتب إلى قيصر ملك الروم: أما بعد، إن لي إليك حاجةً لا تحملها البريد، ولا تبلغها الصحف، فألقني في خمسين روميًا، حتى ألقاك في خمسين فارسيًا، فأقبل قيصر في خمس مئة ألف رميٍّ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطرق، مخافة أن يريد أن يمكر به، حتى أتاه عيونه فأخبروا: أنه ليس معه إلا خمسون فارسيًا، فلما التقيا.. ضربت لهما قبة فيها ديباج، قد خلاها، ومع كل واحد سكين، ودعيا بترجمان يترجم بينهما، فقال شهرمان: إن الذي خرب بلادك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وإن كسرى حسدنا، وأراد أن يقتل أخي فأبيت عليه، ثم أمر أخي بقتلي فأبى عليه، وقد خلعناه جميعًا، ونحن نقاتله معك، فقال: قد أصبتما، وأشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين، فإن جاوزهما.. فشا، فقتلا الترجمان معًا بسكينهما، فأديلت الروم على فارس عند ذلك، وغلبوهم وقتلوهم، ومات كسرى، وجاء الخبر إلى رسول الله - ﷺ - يوم الحديبية، ففرح هو ومن كان معه من المسلمين بذلك، فذلك قوله عز وجل: ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾. وهذه آية بينة على صحة نبوته - ﷺ - وأن القرآن من عند الله؛ لأنها أنباء عن علم الغيب.
وعن قتادة: وكان ذلك قبل تحريم القمار، ومن مذهب أبي حنيفة ومحمد، أن العقود الفاسدة، كعقد الربا وغيره: جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار، وقد احتجا على صحة ذلك بهذه القصة.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى، فنزلت: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ...﴾ الآية.
(١) لباب النقول.
80
Icon