لما ختم سبحانه التي قبلها بأنه مع المحسنين قال:
﴿الاما*﴾ مشيراً بألف القيام والعلو ولام الوصلة وميم التمام إلى أن الملك الأعلى القيوم أرسل جبرائيل عليه الصلاة والسلام - الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام - إلى أشرف خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق، يوحي إليه وحياً معلماً بالشاهد والغائب، فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلاً على صحة رسالته،
1
وكمال علم مرسله، وشمول قدرته، ووجوب وحدانيته.
ولما أشير في آخر تلك بأمر الحرم إلى أنه سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وختم بمدح المجاهدين فيه، وأنه سبحانه لا يزال مع المحسنين، وكانت قد افتتحت بأمر المفتونين، فكان كأنه قيل: لنفتننكم ولنعمين المفتين ولنهدين المجاهدين، وكان أهل فارس قد انتصروا على الروم، ففرح المشركون وقالوا للمسلمين: قد انتصر إخواننا الأميون على إخوانكم أهل الكتاب، فلننصرن عليكم، فأخبر الله تعالى بأن الأمر يكون على خلاف ما زعموا، فصدق مصدق وكذب مكذب، فكان في كل من ذلك من نصر أهل فارس وإخبار الله تعالى بإدالة الروم فتنة يعرف بها الثابت من المزلزل، وكان من له كتاب أحسن حالاً في الجملة ممن لا كتاب له، افتتحت هذه بتفصيل ذلك تصريحاً بعد أن أشار إليه بالأحرف المقطعة تلويحاً غيباً وشهادة، دلالة على وحدانيته وإبطال الشرك، فأثبت سبحانه أن له جميع الأمر وأنه يسرُّ المؤمنين بنصرة من له دين صحيح الأصل، وخذلان أهل العراقة في الباطل والجهل، وجعل ذلك على وجه يفيد نصر المؤمنين على المشركين، فقال مبتدئاً بما أفهمه كونه مع المحسنين مع أنه ليس مع المسيئين:
﴿غلبت الروم*﴾ أي لتبديلهم دينهم غلبهم - الفرس في زمن أنوشروان أو بعده
2
﴿في أدنى الأرض﴾ أي أقرب أرضهم إلى أرضكم أيها العرب، وهي في أطراف الشام، وفي تعيين مكان الغلب - على هذا الوجه - بشارة للعرب بأنهم يغلبونهم إذا وافقوهم، فإن موافقتهم لهم تكون في مثل ذلك المكان. وقد كان كذلك بما كشف عنه الزمان، فكأنه تعالى يقول لمن فرح من العرب بنصر أهل فارس على الروم لنكاية المسلمين: اتركوا هذا السرور الذي لا يصوب نحوه من له همة الرجال، وأجمعوا أمركم وأجمعوا شملكم، لتواقعوهم في مثل هذا الوضع فتنصروا عليهم، ثم لا يقاومونكم بعدها أبداً، فتغلبوا على بلادهم ومدنهم وحصونهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أعتب سبحانه أهل مكة، ونفى عليهم قبح صنيعهم في التغافل عن الاعتبار بحالهم، وكونهم - مع قلة عددهم - قد منع الله بلدهم عن قاصد نهبه، وكف أيدي العتاة والمتمردين عنهم مع (تعاور) أيدى المنتهين على من حولهم، وتكرر ذلك واطراده صوناً منه تعالى لحرمه وبيته، فقال تعالى:
﴿أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم﴾ [العنكبوت: ٦٧] أي ولم يكفهم هذا في الاعتبار، وتبينوا أن ذلك ليس عن قوة منهم ولا حسن دفاع، وإنما هو بصون الله
3
إياهم بمجاورة بيته وملازمة أمنه مع أنهم أقل العرب، أفلا يرون هذه النعمة ويقابلونها بالشكر والاستجابة قبل أن يحل بهم نقمة، ويسلبهم نعمه، فلما قدم تذكارهم بهذا، أعقب بذكر طائفة هم أكثر منهم وأشد قوة وأوسع بلاداً، وقد أيد عليهم غيرهم، ولم يغن عنهم انتشارهم وكثرتهم، فقالت:
﴿الم غلبت الروم في أدنى الأرض﴾ الآيات، فذكر تعالى غلبة غيرهم لهم، وأنهم ستكون لهم كرة، ثم يغلبون، وما ذلك إلا بنصر الله من شاء من عبيده
﴿ينصر من يشاء﴾ فلو كشف عن إبصار من كان بمكة من الكفار لرأوا أن اعتصام بلادهم وسلامة ذرياتهم وأولادهم مما سلط على من حولهم من الانتهاب والقتل وسبي الذراري والحرم إنما هو بمنع الله وكرم صونه لمن جاور حرمه وبيته، وإلا فالروم أكثر عدداً وأطول مدداً، ومع ذلك تتكرر عليهم الفتكات والغارات، وتتوالى عليهم الغلبات، أفلا يشكر أهل مكة من أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؟ وأيضاً فإنه سبحانه لما قال:
﴿وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان﴾ [العنكبوت: ٦٤] أتبع ذلك سبحانه بذكر تقلب حالها، وتبين اضمحلالها، وأنها لا تصفو ولا تتم، وإنما حالها أبداً التقلب وعدم الثبات، فأخبر بأمر هذه الطائفة التي هي من أكثر أهل الأرض وأمكنهم وهم الروم،
4
وأنهم لا يزالون مرة عليهم وأخرى لهم، فأشبهت حالهم هذه حال اللهو واللعب، فوجب اعتبار العاقل بذلك وطلبه الحصول على تنعم دار لا ينقلب حالها، ولا يتوقع انقلابها وزوالها،
﴿وإن الدار الآخرة لهي الحيوان﴾ ومما يقوي هذا المأخذ قوله تعالى
«يعلمون» ظاهراً من الحياة الدنيا أي لو علموا باطنها لتحققوا أنها لهو ولعب ولعرفوا أمر الآخرة
«من عرف نفسه عرف ربه» ومما يشهد لكل من المقصدين ويعضد كلا الأمرين قوله سبحانه:
﴿أولم يسيروا في الأرض﴾ الآيات، أي لو فعلوا هذا وتأملوا لشاهدوا من تقلب أحوال الأمم وتغير الأزمنة والقرون ما بين لهم عدم إبقائها على أحد فتحققوا لهوها ولعبها وعلموا أن حالهم سيؤول إلى حال من ارتكب مرتكبهم في العناد والتكذيب وسوء البياد والهلاك - انتهى.
ولما ابتدأ سبحانه بما أوجبه للروم من القهر بتبديلهم، معبراً عنهم بأداة التأنيث مناسبة لسفولهم، أتبعه ما صنعه معهم لتفريج المحسنين من عباده الذين ختم بهم الأمم ونسخ بملتهم الملل، وأدالهم على جميع الدول، فقال معبراً بما يقتضي الاستعلاء من ضمير الذكور
5
العقلاء:
﴿وهم﴾ أي الروم، ودل على التبعيض وقرب الزمان بإثبات الجار فقال، معبراً بالجار إشارة إلى أن استعلاءهم إنما يكون في بعض زمان البعد ولا يدوم:
﴿من بعد غلبهم﴾ الذي تم عليهم من غلبة فارس إياهم، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول
﴿سيغلبون*﴾ فارساً، فأكد وعده بالسين - وهو غني عن التأكيد - جرياً على مناهيج القوم لما وقع في ذلك من إنكارهم
﴿في بعض سنين*﴾ وذلك من أدنى العدد لأنه في المرتبة الأولى، وهي مرتبة الآحاد، وعبر بالبضع ولم يعين إبقاء للعباد في ربقة نوع من الجهل، تعجيزاً لهم، وتحدياً لمن عاند بنفي ما أخبر به أو يعلم ما ستر منه، وتشريعاً للتعمية إذا قادت إليها مصلحة، وشرح ذلك أنه كان بين فارس والروم حروب متواصلة، وزحوف متكاثرة، في دهور متطاولة، إلى أن التقوا في السنة الثامنة من نبوة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زمن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، فظفرت فارس على الروم، أخرج سنيد بن داود في تفسيره والواحدي في أسباب النزول والترمذي في تفسير سورة الروم من جامعه وغيرهم، وقد جمعت ما ذكروه، وربما أدخلت حديث بعضهم في بعض.
قال سنيد عن عكرمة: كانت في فارس امرأة لا تلد
6
إلا الأبطال، فدعاها كسرى فقال: إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشاً، وأستعمل عليهم رجلاً من بنيك، فأشيري عليَّ أيهم أستعمل، فأشارت عليه بولد يدعى شهربراز، فاستعمله على جيش أهل فارس وقال الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد بن مسكوية في كتابه تجارب الأمم وعواقب الهمم، فقالت تصف بنيها: هذا فرحان أنفذ من سنان، هذا شهربراز أحكم من كذا، هذا فلان أروغ من كذا، فاستعمل أيهم شئت. فاستعمل شهربراز - انتهى. وبعث قيصر رجلاً يدعى قطمير بجيش من الروم، فالتقى مع شهربراز بأذرعات وبصرى، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب فغلبت فارس الروم وظهروا عليهم فقتلوهم وخربوا مدائنهم وقطعوا زيتونهم، وبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم وهم بمكة فشق ذلك عليهم، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، لأن فارس لم يكن لهم كتاب، وكانوا يجحدون البعث، ويعبدون النار والأصنام، وفرح كفار مكة وشمتوا. قال الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: وكان
7
المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب - انتهى. فلقي المشركون أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وأهل فارس أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم، فإن قاتلتمونا لنظهرن عليكم. فذكر ذلك أبو بكر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت الآية، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أما إنهم سيغلبون في بضع سنين».
قال الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: فذكره أبو بكر رضي الله عنه لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا فذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
«ألا جعلته إلى دون» يعني دون العشرة، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع، ثم ظهرت الروم بعد ذلك، وروى الترمذي أيضاً عن نيار بن مكرم الأسلمي رضي الله تعالى عنه وقال: حديث حسن صحيح غريب، قال: لما نزلت:
﴿الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين﴾ وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم وكان
8
المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل الكتاب، وفي ذلك قول الله تعالى:
﴿ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم﴾ وكانت قريش
«تحب» ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل الكتاب ولا إيمان ببعث، فلما نزلت هذه الآية خرج أبو بكر رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة
﴿الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين﴾ ! قال ناس من قريش لأبي بكر رضي الله عنه: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارساً في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر رضي الله عنه: كم تجعل البضع من ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسم بيننا وبينك وسطاً تنتهي إليه، فسموا بينهم ست سنين، فمضت الست سنون قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر رضي الله عنه، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر رضي الله عنه تسمية ست سنين، لأن الله
9
تعالى قال:
﴿في بضع سنين﴾. قال ابن الجوزي في زاد المسير: وقالوا: هلاّ أقررتها على ما أقرها الله، لو شاء أن يقول: ستاً، لقال. قال الترمذي في روايته: وأسلم عند ذلك ناس كثير. وروى الترمذي أيضاً والواحدي في أسباب النزول عن أبي سعيد رضي الله عنه أن ظهور الروم عليهم كان يوم بدر. وقال الزمخشري فيما ذكره من عند سنيد أنه كان يوم الحديبية فإنه قال بعد أن ساق نحو ما مضى: فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه - يعني للمشركين: لا يقرنّ الله أعينكم! فوالله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أبي بن خلف: كذبت يا أبا فضيل! اجعل بيننا وبينك أجلاً أناحبك عليه.
- والمناحبة: المراهنة - فناحبه على عشر قلائص - من كل واحدة منهما، وجعل الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر ومادّه في الأجل، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين،
10
ومات أبي من جرح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني الذي جرحه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحد، فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين. وقيل: كان النصر يوم بدر للفريقين، فأخذ ابو بكر رضي الله عنه الخطر من ذرية أبي، وجاء به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
«تصدق به» - انتهى. وربما أيد القول بأنه سنة الحديبية سنة ست ما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي سفيان رضي الله عنهم في كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هرقل وسؤال هرقل لأبي سفيان رضي الله عنه، وفيه أن ذلك لما كشف الله عن قيصر جنود فارس ومشى من حمص إلى إيلياء شكراً لما أبلاه الله، ومن المعلوم أن كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه وإلى غيره من الملوك كان بعد الرجوع من الحديبية، وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة الصادقة على صحة النبوة، وأن القرآن من عند الله نزل بالحق المبين، لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى فطابقه الواقع. وقال ابن الجوزي: وفي الذي تولى
11
وضع الرهان من المشركين قولان: أحدهما أبي بن خلف - قاله قتادة، والثاني أبو سفيان بن حرب - قاله السدي - انتهى. وذكر القصة أبو حيان في تفسيره البحر وزاد عن مجاهد أن التقاءهم لما ظهرت فارس كان في الجزيرة، وعن السدي أنه كان بأرض الأردن وفلسطين، وأن أبا بكر رضي الله عنه لما أراد الهجرة طلب منه أبي بن خلف كفيلاً بالخطر الذي كان بينهما في ذلك، فكفل به ابنه عبد الرحمن رضي الله عنه، فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل، فأعطاه كفيلاً وهلك أبي من جرح جرحه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال ابن الفرات في تأريخه: كان بين كسرى أنوشروان وبين ملك الروم هدنة، فوقع بين رجلين من أصحابهما فبغى الرومي على الفارسي، فأرسل كسرى إلى ملك الروم بسببه، فلم يحفل برسالته، فغزاه كسرى في بضع وسبعين ألف مقاتل فأخذ مدينة دارا والرها ومنبج وقنسرين وحلب وأنطاكية - وكانت أفضل مدينة بالشام - وفامية وحمص ومدناً كثيرة، واحتوى على ما كان فيها. وسبى أهل أنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد، وكان ملك الروم يؤدي إليه الخراج، ولم يزل مظفراً منصوراً، تهابه الأمم، ويحضر بابه من وفودهم عدد كثير من الترك
12
والصين والخزر ونظائرهم، وقال أيضاً في ملك أبرويز بن هرمز بن أنوشروان: وكان شديد الفطنة، قوي الذكاء، بعث الأصبهبذ - يعني شهربراز - مرة إلى الروم فأخذ خزائن الروم، وبعث بها إلى كسرى، فخاف كسرى أن يتغير عليه الأصبهبذ، لما قد نال من الظفر فبعث بقتله، فجاء الرجل إليه فرأى من عقله وتدبيره ما منعه من قتله وقال: مثل هذا لا يقتل، وأخبره ما جاء لأجله، فبعث إلى قيصر ملك الروم: إني أريد أن ألقاك، فالتقيا فقال له: إن الخبيث قد هم بقتلي، وإني أريد إهلاكه، فاجعل لي من نفسك ما أطمئن إليه، وأعطيك من بيوت أمواله مثل ما أصبت منك.
فأعطاه المواثيق، وسار قيصر في أربعين ألف مقاتل، فنزل بكسرى، فعلم كسرى كيف جرى الحال، فدعا قساً نصرانياً، يعني وكتب معه كتاباً. وقال ابن مسكويه: وكان أبرويز وجه رجلاً من جلة أصحابه في جيش جرار إلى بلاد الروم، فأنكى فيهم وبلغ منهم، وفتح الشامات وبلغ الدروب في آثارهم، فعظم أمره وخافه أبرويز فكاتبه بكتابين يأمره في أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به ويقبل إليه، ويأمره في الآخر أن يقيم بموضعه، فإنه لما
13
تدبر أمره وأجال الرأي لم يجد من يسد مسده، ولم يأمن الخلل إن غاب عن موضعه، وأرسل بالكتابين رسولاً من ثقاته وقال له: أوصل الكتاب الأول بالأمر بالقدوم فإن خف لذلك فهو ما أردت، وإن كره وتثاقل عن الطاعة فاسكت عليه أياماً ثم أعلمه الكتاب الثاني ورد عليك وأوصله إليه ليقيم بموضعه. فخرج رسول كسرى حتى ورد على صاحب الجيش ببلاد الشام، فأوصل الكتاب الأول إليه، فلما قرأه قال: إما أن يكون كسرى قد تغير لي وكره موضعي، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلي وأنا في نحر العدو، فدعا أصحابه وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه، فلما كان بعد ثلاثة أيام أوصل إليه الكتاب الثاني بالمقام، وأوهمه أن رسولاً ورد به، فلما قرأه قال: هذا تخليط ولم يقع منه موقعاً، ودس إلى ملك الروم من ناظره في إيقاع صلح بينهما على أن يخلي الطريق لملك الروم حتى يدخل بلاد العراق على غرة من كسرى، وعلى أن لملك الروم ما يغلب عليه من دون العراق، وللفارسي ما وراء ذلك إلى بلاد فارس، فأجابه ملك الروم إلى ذلك وتنحى الفارسي عنه في ناحية من الجزيرة، وأخذ أفواه الطرق، فلم يعلم كسرى حتى ورد خبر ملك الروم عليه من ناحية قرقيسيا وكسرى غير معد وجنده متفرق في أعماله، فوثب
14
من سريره مع قراءة الخبر وقال: هذا وقت حيلة، لا وقت شدة، وجعل ينكت في الأرض ملياً، ثم دعا برقّ وكتب فيه كتاباً صغيراً بخط دقيق إلى صاحبه بالجزيرة يقول فيه: قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم وإطماعه في نفسك وتخلية الطريق له حتى إذا تولج في بلادنا أخذته من أمامه، وأخذته أنت ومن ندبناه لذلك من خلفه، فيكون ذلك بواره، وقد تم في هذا الوقت ما دبرناه، وميعادك في الإيقاع به يوم كذا وكذا، ثم دعا راهباً كان في دير بجانب مدينته وقال: أيّ جار كنت لك؟ قال: أفضل جار، قال: فقد بدت لنا إليك حاجة، فقال الراهب: الملك أجلّ من أن يكون له حاجة إلى مثلي، ولكن عندي بذل نفسي في الذي يأمر به الملك، قال كسرى: تحمل لي كتاباً إلى فلان صاحبي - وقال ابن الفرات: إلى الأصبهبذ - ولا تطلعن على ذلك أحداً.
وأعطاه ألف دينار، قال: نعم! قال كسرى: فإنك تجتاز بإخوانك النصارى فأخفه، قال: نعم، فلما ولى عنه الراهب قال له كسرى: أعلمت ما في الكتاب؟ قال: لا، قال: فلا تحمله حتى تعلم ما فيه، فلما قرآه أدخله في جيبه ثم مضى، فلما صار في عسكر الروم نظر إلى الصلبان والقسيسين
15
وضجيجهم بالتقديس والصلوات فاحترق قلبه لهم وأشفق مما خاف أن يقع بهم وقال في نفسه: أنا شر الناس إن حملت بيدي حتف النصرانية وهلاك هؤلاء القوم، فصاح: أنا لم يحملني كسرى رسالة ولا معي له كتاب، فأخذوه فوجدوا الكتاب معه، وقد كان كسرى وجّه رسولاً قبل ذلك اختصر الطريق حتى مر بعسكر الروم كأنه رسول إلى كسرى من صاحبه الذي طابق ملك الروم ومعه كتاب فيه أن الملك قد كان أمرني بمقاربة ملك الروم وأن أختدعه وأخلي له الطريق فيأخذه الملك من أمامه وآخذه أنا من خلفه، وقد فعلت ذلك، فرأى الملك في إعلامي وقت خروجه إليه، فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال: عجبت أن يكون هذا الفارسي أدهن على كسرى، ووافاه أبرويز فيمن أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولى هارباً، فأتبعه يقتل وياسر من أدرك، وبلغ الأصبهبذ هزيمة الروم فأحب أن يخلي نفسه ويستر ذنبه لما فاته ما دبر، فخرج خلف الروم الهاربين فلم يسلم منهم إلا قليل. وقال ابن الفرات: وخرج القس بالكتاب وأوصله إلى قيصر فقال: ما أراد إلا هلاكنا، وانهزم
16
فاتبعه كسرى فنجا في شرذمة يسيرة، وافتتح كسرى أبرويز عدة من بلاد أعدائه، وبلغت خيله القسطنطينية وإفريقية. وقد ذكر ابن مسكويه أيضاً ما يمكن أن يكون المراد بالآية، وشرح أسباب ذلك فذكر أن هرمز بن أنوشروان لما بعث بهرام بن بهرام الملقب جوبين إلى ملك الترك وظفر به ثم بابنه، أساء السيرة فيه ولم يأذن له في الرجوع، بل أمره بالتقدم فيما لم يره بهرام صواباً وخاف مخالفته، وقد كان هرمز حسن السيرة جداً أديباً أريباً، داهياً إلا عرقاً قد نزعه أخواله من الترك، فكان لذلك مقصياً للأشراف وأهل البيوتات والعلماء، ولم يكن له رأي إلا في تألف السفلة واستصلاحهم ففسدت عليه نيات الكبراء من جنده، فلما خافه بهرام جمع وجوه عسكره، وخرج عليهم في زي النساء وبيده مغزل وقطن ثم جلس في موضعه ووضع بين يدي كل واحد منهم مغزلاً وقطناً، فامتعضوا لذلك، فقال: إن كتاب الملك ورد عليّ بذلك، فلا بد من امتثال أمره إن كنتم طائعين، فأبوا وخلعوا هرمز، وأظهروا أن ابنه أبرويز أصلح للملك منه، فلما سمع أبرويز بذلك خاف أباه على نفسه، فهرب إلى أذربيجان، ولما بلغ
17
الجند الذين بحضرة هرمز خلعه أعجبهم، فضعف أمره، ثم أجمعوا على خلعه فخلعوه وسلموه، فكوتب أبرويز بذلك فبادر بهراماً فسبقه وجلس على سرير الملك، فأطاعه الناس ودخل على أبيه، وأعلمه أنه نائبه، واعتذر إليه بأن ما حصل له لم يكن عن رأيه ولا برضاه ولا كان حاضره حتى يذب عنه، فعذره، وقصده بهرام فجرت بينهما أمور طويلة، وحروب هائلة، ضعف فيها أبرويز، وأحس من أصحابه فتوراً، وتبين فيهم فشلاً، فسار إلى أبيه وشاوره فرأى له المصير إلى ملك الروم، فنهض إلى ذلك في عدة يسيرة فيهم بندويه وبسطام خالاه، وكردي أخو بهرام، وكان ماقتاً لأخيه بهرام ومناصحاً لأبرويز، فقطعوا الفرات وصاروا إلى دير في أطراف العمارة، فلحقتهم خيل بهرام فقال بندويه لأبرويز: أعطني بزتك وزينتك لأحتال لك وأبذل نفسي دونك، ففعل فأمره بالنجاة بمن معه، وأقام هو في الدير، فلما أحيط به اطلع بندويه من فوق الدير فأوهمهم أنه أبرويز بما عليه من البزة والزينة، فظنوه وسألهم الإمهال إلى غد ليسلمهم نفسه فأمسكوا، وحفظ الدير بالحرس، فلما أصبحوا اطلع عليهم وقال: إن عليَّ وعلى أصحابي بقية شغل من استعداد لصلوات وعبادات فأمهلونا، ولم يزل يدافع حتى
18
مضى عامة النهار وعلم أن أبرويز قد فاتهم، ففتح حينئذ وأعلم قائدهم بأمرهم، فانصرف به إلى بهرام جوبين فحبسه.
ولما وصل أبرويز إلى أنطاكية كاتب ملك الروم وسأله نصرته، فأجابه وتوادا إلى أن زوجة ابنته مريم وحملها إليه، وبعث إليه ستين ألف مقاتل فيهم أخوه تياذوس وسأله ترك الأتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم إذ هو ملك، فاغتبط به أبرويز وسار بهم، فلما وصل إلى أداني أرضهم انضم إليه كثير من أهل فارس فاستظهر على بهرام، فقصد بهرام بلاد الترك فأكرمه ملكها، ولم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم الذي نصره حتى وثبت الروم عليه في شيء أنكروه منه فقتلوه وملكوا غيره، ولجأ ابنه إلى أبرويز فملكه على الروم وأرسل معه جنوداً كثيفة عليهم شهربراز، فدوخ عليهم البلاد، وملك صاحب كسرى بيت المقدس وقصد قسطنطينية، فأناجوا على ضفة الخليج القريب منها، ولم يخضع لابن الملك الذي توجه كسرى أحد من الروم، وكانوا قد قتلوا الذي ملكوه بعد أبيه لما ظهر من فجوره وسوء تدبيره، وملكوا عليهم رجلاً يقال له هرقل.
وقال ابن الفرات: إن أبرويز بعث مع ابن الملك الذي كان نصره ثلاثة من قواده في جنود كثيرة كثيفة، أما أحدهم فإنه كان
19
يقال له زميرزان وجهه إلى بلاد الشلام فدوخها حتى انتهى إلى بلاد فلسطين، وورد مدينة بيت المقدس، وأخذ أسقفها ومن كان فيها من القسيسين وسائر النصارى بخشبة الصليب، وكانت قد دفنت في بستان في تابوت من ذهب وزرع فوقها مبقلة فدلوه عليها فحفر واستخرجها وبعث بها إلى كسرى في سنة أربع وعشرين من ملكه، وأما القائد الثاني - وكان يقال له: شاهير - فسار حتى احتوى على مصر والإسكندرية وبلاد النوبة وبعث إلى كسرى بمفاتيح مدينة الإسكندرية في سنة ثمان وعشرين من ملكه، وأما القائد الثالث - وكان يقال له: فرهان - فإنه قصد قسطنطينية حتى أناخ قريباً من ماء وخيم هنالك فأمره كسرى فخرب بلاد الروم غضباً مما انتهكوا من موريق - يعني الملك الذي كان نصره، وفعل هذا لأجل ابنه، وانتقاماً له منهم، ولم ينقد لابن الملك الذي فعل هذا لأجله أحد من الروم، لأنهم لما قتلوا الملك قوفا ملكوا عليهم رجلاً يقال له هرقل، ثم اتفق ابن الفرات
20
وابن فتحون فقالا: فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إياها وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريهم، واستباحتهم أموالهم، تضرع إلى الله تعالى، وأكثر الدعاء والابتهال فيقال: إنه رأى في منامه رجلاً ضخم الجثة رفيع المجلس عليه، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل: إني قد سلمته في يدك، فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته حتى توالت عليه أمثالها، فرأى في بعض لياليه كأن رجلاً دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة فألقاها في عنق صاحب المجلس الرفيع عليه ثم دفعه إليه وقال له: ها قد دفعت إليك كسرى برمته، وقال ابن الفرات: فاغزه فإنك مدال عليه، ونائل أمنيتك في غزاتك، فلما تتابعت عليه هذه الأحلام قصها على عظماء الروم وذوي العلم منهم، فأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعد هرقل واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ غير الطريق الذي فيه شهربراز صاحب كسرى، وسار حتى دخل في بلاد أرمينية ونزل بنصيبين بعد سنة، وقد كان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه، وأما شهربراز
21
فكانت كتب كسرى ترد عليه في الجثوم على الموضع الذي هو به، وترك البراح، ثم بلغ كسرى تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين فوجه لمحاربة هرقل رجلاً من قواده يقال له: راهزاد في اثني عشر ألفاً من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى وهي التي تدعى الآن الموصل - على شاطىء دجلة، ويمنع الروم أن يجوزوها، وكان كسرى بلغه خبر هرقل وأنه مغذ وهو يومئذ مقيم بدسكرة الملك، فتعذر راهزاد لأمر كسرى وعسكر حيث أمره فقطع هرقل دجلة من موضع آخر إلى الناحية التي كان فيها جند فارس، فأذكى راهزاد العيون عليه فانصرفوا إليه فأخبروه أنه في سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزاد أنه ومن معه من الجند عاجزون عن مناهضته، فكتب إلى كسرى غير مرة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدته، قال ابن الفرات: فكتب كسرى إنكم إن عجزتم عن الروم لم تعجزوا عن بذل دمائكم في طاعتي، فلما تتابعت على راهزاد جوابات كسرى بذلك عبى جنده، وناهض الروم بهم،
22
فقتل الروم راهزاد وسته آلاف رجل، وانهزمت بقيتهم، وهربوا على وجوههم، وبلغ كسرى قتل الروم راهزاد وستة آلاف وما نال هرقل من الظفر فهدّه ذلك وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن، وتحصن به لعجزه كان عن محاربة هرقل، وسار هرقل حتى كان قريباً من المدائن.
قال ابن الفرات: فاستعد كسرى لقتاله ثم خالف كسرى ملك الروم فرجع إلى بلاده فحمل خزائنه في البحر. فعصفتا الريح فألقتها بالإسكندرية، فظفر بها أصحابه من الروم، وذكر المسعودي هذا فخالف بعض المخالفة: فقال: وثب بطريق من بطارقة الروم يقال له قوقاس فيمن اتبعه على تموريقس ملك الروم حمو أبرويز ومنجده، فقتلوه وملكوا قوقاس، ونمى ذلك إلى أبرويز فغضب لحموه وسيّر إلى الروم جيوش وكانت له في ذلك أخبار يطول ذكرها، وسيّر شهريار مرزبان المغرب إلى حرب الروم فنزل أنطاكية وكانت له مع ملك الروم وأبرويز أخبار ومكاتبات وحيل إلى أن خرج ملك الروم إلى حرب شهريار، وقدم خزائنه في البحر في ألف مركب،
23
فألقتها الريح إلى ساحل أنطاكية فغنمها شهريار فحملها إلى أبرويز فسميت خزائن الريح، ثم فسدت الحال بين أبرويز وشهريار، ومايل شهريار ملك الروم فسيره شهريار نحو العراق إلى أن انتهى إلى النهروان فاحتال أبرويز في كتب كتبها مع بعض أساقفة النصرانية ممن كان في ذمته حتى رده إلى القسطنطينية، وأفسد الحال بينه وبين شهريار. وقال أبو حيان: وسبب ظهور الروم أن كسرى بعث إلى شهربراز وهو الذي ولاه على محاربة الروم أن اقتل أخاك فرخان - انتهى. وهذا هو تتمة ما تقدم في خبر المرأة التي كانت لا تلد إلا الأبطال، وأن كسرى بعث ابنها شهربراز إلى حرب الروم فظهر عليهم.
قال ابن مسكوية: فلما ظهرت فارس علىلروم جلس فرخان يشرب فقال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى، فبلغت مقالته كسرى فكتب إلى شهربراز: إذا أتاك كتابي هذا فابعث إليَّ برأس فرخان، فكتب إليه: أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان، فإن له نكاية في العدو وصوتاً فلا تفعل، فكتب إليه: إن في رجال فارس خلفاً منه
24
فعجل إليّ برأسه، فراجعه فغضب كسرى وبعث بريداً إلى أهل فارس: إني قد نزعت عنكم شهربراز واستعملت فرخان، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وقال: إذا ولى الفرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه، فلما قرأ شهربراز الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ونزل عن سريره، وجلس فرخان ودفع البريد الصحيفة إليه فقال: ائتوني بشهربراز، فقدمه ليضرب عنقه فقال: لا تعجل حتى أكتب وصيتي، قال: افعل. فدعا بسفط وأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد، فرد الملك على أخيه، فكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم: إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف فالقني، ولا تلقني إلا في خمسين رومياً، فإني أيضاً ألقاك في خمسين فارساً، فأقبل قيصر في خمسائة رومي، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلاً، ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما، واجتمعا ومع كل واحد منهما سكين، ودعوا ترجماناً بينهما، فقال شهربراز: إن الذين خربوا مدائنك، وبلغوا منك ومن جندك ما بلغوا أنا وأخي بشجاعتنا وكيدنا، وأن
25
كسرى حسدنا فأراد أن أقتل اخي فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني فقد خلعناه جميعاً فنحن نقاتله معك، فقال: قد أصبتما ووفقتما ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر إنما يكون بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا، قال صاحبه: أجل، فقاما جميعاً إلى الترجمان بسكينيهما فقتلاه، واتفقا على قتال كسرى، فتعاون شهربراز وهرقل على كسرى، فغلبت الروم فارسَ. وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في أوائل فتوح مصر نحو هذا الحديث من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع ابن عمر رضي الله عنه يسأل الهرمزان عن سبب ظهور الروم على كسرى فأخبره به، وكان مما تمكن الخلاف عليه أيضاً أنه كان طلب الذين هربوا بعد قتل قائدهم راهزاد، وأمر بأن يعاقبوا على انهزامهم، فأحوجهم بهذا إلى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه، فإن كانت الوقعة التي غلبت الروم فيها بأذرعات أو الأردن فهي أدنى أرض الروم - أي أقربها - إلى مكة المشرفة، وإن كانت بالجزيرة فهي أدنى بالنظر إلى كسرى - هذا ما حقت فيه الآية في ظاهر العبارة وصريحها مع ما انضم إلى ذلك من إداله العرب على الفرس أيضاً في هذا الوقت في وقعة ذي قار - كما بينته في شرحي لنظمي للسيرة النبوية المسمى
«نظم الجواهر من سيرة سيد الأوائل والأواخر»
26
وسيأتي ملخصه قريباً - حتى يقال: إن نصرة الروم والعرب ونصرة المسلمين في بدر كانت في آن واحد.
ومن أعاجيب ما دخل تحت مفهوم الآية من لطائف المعجزات في باطن الإشارة وتلويحها أن زماننا هذا كان قد غلب فيه على ملك مصر جندها الغرباء من الترك وغيرهم ثم اختص به الشراكسة منهم من نحو مائة سنة، وهم ممن ليس له كتاب في الأصل وإن كان إسلامهم قد جب ما كانوا عليه من قبل وكانوا إذا مات أحدهم وله ابن ولوا ابنه لأجل مماليكه واتباع ابيه إلى أن يعملوا الحيلة في خلعه، وكان أكثر أولادهم يكون صغيراً أو في حكمه حتى كانت سنة خمس وستين وثمانمائة، فصادف أن المتولي بها من أولادهم المؤيد أحمد بن الأشرف إينال العلائي، وكان قد ناهز الأربعين، وكان عنده حزم ودهاء، وزادت مدة ولايته بعد أبيه على أربعة أشهر فثقل عليهم جداً، وكان الأمير الكبير خشقدم أحد مماليك المؤيد شيخ وهو رومي، وكانت عادتهم أنهم إذا خلعوا أحداً من أبناء الملوك ولو الملك من كان في الإمرة الكبرى، فاختار
27
الشراكسة ولايته وإن كان من غيرهم على ولاية من ولد في الإسلام في بلاد العرب، فأعملوا الحيلة في أمره إلى أن أجمع أمرهم ورأيهم كلهم على خلعه حتى مماليكه ومماليك أبيه، فقاموا في ذلك قومة رجل واحد في أواخر شهر رمضان من السنة المذكورة، فلما لم يجد له ناصراً أسلم نفسه في اليوم الثاني من وثوبهم عليه، فعرضوا الولاية على شخص منهم فلم ير التقدم على أكبر منه في الرتبة فأشار إلى الأمير الكبير فولوه، ثم اجتهد بعضهم في نزعه فلم يقدرهم الله على ذلك ولم يجمع كلمتهم على أحد، وقام هو في الأمر بجد عظيم وحزم، ولين في شدة وعزم، حتى استحكم أمره، وعظم قدره، وحسب عدد
«بضع» بالجمل فإذا هو اثنان وسبعون وثمانمائة، وهو مقدار ما مضى من السنين من حين نزول الآية إلى حين ولايته، وذلك أن نصر أهل فارس على الروم كما مضى كان في السنة الثامنة من النبوة، وحينئذ نزلت الآية، فإذا قلنا: إن نزولها كان في شهر رمضان من تلك السنة، كان قبل الهجرة بست سنين إذا جعلنا كسر الثامنة سنة، وقد كانت وقعة بدر في سابع عشر شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة في الشهر السابع، فيكون نصر الروم إذا صححنا كما هو الذي ينبغي أن
28
لا يعتقد غيره لدلالة القرآن العظيم عليه كما تأتي الإشارة إليه أنه في سنة غزوة بدر في آخر السنة السابعة من حين نزوال الآية، ويكون ولاية السلطان خشقدم لكونها في أواخر شهر رمضان في ابتداء سنة ست وستين من الهجرة، فإذا ضممت إليها الست التي كانت قبل الهجرة كانت الجملة ثمانمائة واثنين وسبعين على عدد
«بضع» المنظوم في الآية سواء، وإن صححنا كما أيده ما في الصحيح عن أبي سفيان أن نصر الروم كان وقت الحديبية وذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، وكما قلنا: كان نزول الآية قبل الهجرة بشهرين ونحوهما، صح أن نصر الروم كان عند دخول السنة السابعة من نزول الآية كما في رواية الترمذي عن نيار رضي الله عنه، وكان الموافق لعدد البضع سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة من الهجرة، وفيها غلب شخص من الروم، وذلك أن الظاهر خشقدم مات في ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة من الهجرة، فولى بعده الأمير الكبير يلبية وهو من الشراكسة، فلم ينتظم له الأمر، فخلع في جمادى الأولى منها، وولى الأمير الكبير تمربغا ولقب الظاهر وهو رومي، فكان ذلك من الآيات الباهرات إن وافق هذا الأمر العدد المذكور على كلتا الروايتين: رواية من قال:
29
إن التصر كان يوم بدر، ورواية من قال: كان يوم الحديبية، ولولا ولاية يلبية ما صح إلا أحدهما، إن في ذلك لعبرة، هذا إن عددنا آحاد السنين، وإن عددناها مئات فهو في بضع منها، فإنه في المائة التاسعة كما أشار إليه الأستاذ أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره فقال: حكمة الله جل ذكره في دوائر التقدير أن يرجع فيها أواخر الكلم عن أوائلها، ومن الدوائر مقدرة، ومنها موسعة على مقدار مشيئة الله فيها وبها، ولما أخبر الله تعالى عن الروم أنهم غلبوا في أدنى الأرض وهي بلد الشام، كان إخباراً منه عما يكون - والله أعلم - وبشارة بشر بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين أن ذلك سيكون، يعني أن معنى
«غلبت» مبنياً للمفعول إن كان بالنسبة إلى فارس كان المعنى وقع غلبها، وإن كان بالنسبة للمسلمين كان المعنى: قرب زمان غلبها على أيدي المسلمين، ثم قال: فكان ذلك في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، غلبهم في بلاد الشام، واستخرج بيت المقدس عن أيديهم.
والبضع من الثلاث إلى التسع، وكان نزول هذه السورة بمكة فكان ذلك داخل بضع أسابيع سنين على رأس عشرين إلى ثمان
30
وعشرين سنة، ثم لم يزل الفتح بعد ذلك يتصل ويتسع إلى نهاية سبقت في التقدير، ثم ذكر عود التقدير باستيلاء الروم على بعض أطراف الشام ثم باستنقاذ المسلمين ذلك منهم، ونظر إلى ذلك تارة بحسب الأسابيع وتارة بحسب آحاد المئات، وتارة بغير ذلك، وصحح وقوعه في البضع بالغالبية والمغلوبية مرة بعد أخرى، وهو من بدائع الأنظار، ودقائق الأسرار الكبار.
ولما كان تغليب ملك على ملك من الأمور الهائلة، وكان الإخبار به قبل كونه أهول، ذكر علة ذلك فقال:
﴿لله﴾ أي وحده
﴿الأمر﴾ ولما أفهم السياق العناية بالروم، فكان ربما توهم أن غلب فارس لهم في تلك الواقعة وتأخير نصرهم إلى البضع ربما كان لمانع لم يقدر على إزالته، نفى ذلك بإثبات الجار المفيد لأن أمره تعالى مبتدىء من الزمن الذي كان قبل غلبهم حتى لم تغلبهم فارس إلا به، وهو مبتدىء من الزمن الذي بعده، فالتأخير به لا بغيره، لحكمة دبرها سبحانه فقال:
﴿من قبل﴾ أي قبل دولة أهل فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس، لا إلى غاية تكون مبدأ لاختصاصه بالأمور فيه سبحانه غلبوهم
﴿ومن بعد﴾ أي بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم لا إلى غاية فيه أيضاً غلبهم الروم، فحذف المضاف إليه
31
هو الذي أفهم أن زمن غلبة فارس لهم وما بعده من البضع مذكور دخوله في أمره مرتين.
ولما أخبر بهذه المعجزة، تلاها بمعجزة أخرى، وهو أن أهل الإسلام لا يكون لهم ما يهمهم فيسرون بنصره فقال:
﴿ويومئذ﴾ أي إذ تغلب الروم على فارس
﴿يفرح المؤمنون﴾ أي العريقون في هذا الوصف من أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿بنصر الله﴾ أي الذي لا رادّ لأمره، لأهل الكتاب عامة، نصرهم على المشركين في غزوة بدر وهو المقصود بالذات، ونصر الروم على فارس لتصديق موعود الله ونصر من سيصير من أهل الكتاب الخاتم من مشركي العرب على الفرس في وقعة ذي قار، فقد وقع الفرح بالنصر الذي ينبغي إضافته إلى الله تعالى وهو نصر أهل الدين الصحيح أصلاً وحالاً ومالاً، وسوق الكلام على هذا الوجه الذي يحتمل الثلاثة من بدائع الإعجاز، وسبب وقعة ذي قار أنه كان أبرويز هذا - الذي غلب الروم ثم غلبته الروم - قد غضب على النعمان بن المنذر ملك العرب، فأتى النعمان هذا هانىء بن مسعود بن عامر الشيباني، فاستودعه ماله وأهله وولده - وألف شكة، أو أربعة آلاف شكة - والشكة
32
بكسر المعجمة وتشديد الكاف: السلاح كله - ووضع وضائع عند أحياء العرب ثم هرب فأتى طيئاً لصهره فيهم، وكانت عنده فرعة بنت سعيد بن حارثة بن لأم وزينب بنت أوس بن حارثة بن لأم، فأبوا أن يدخلوه حبلهم وأتته بنو رواحة بن ربيعة بن عبس فقالوا له: أبيت اللعن! أقم عندنا فإنا مانعوك مما نمنع منه أنفسنا، فقال: ما أحب أن تهلكوا بسبب فجزيتم خيراً، ثم خرج حتى وضع يده في يد كسرى فحبسه بساباط، وقال ابن مسكويه: بخانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه، قال: والناس يظنون أنه مات بساباط، والصحيح ما حكيناه.
فلما مات النعمان جعلت بكر بن وائل تغير في السواد، فغضب من ذلك كسرى، ثم بعث إلى هانىء بن مسعود يقول له: إن النعمان إنما كان عاملي، وقد استودعك ماله وأهله وحلقته فابعث إليّ بها ولا تكلفني أن أبعث إليك وإلى قومك بالجنود فتقتل المقاتلة وتسبي الذراري، فبعث إليه هانىء أن الذي بلغك باطل، وما عندي شيء، وإن يكن الأمر كما قيل فإنما أنا أحد الرجلين: إما
33
رجل استودع أمانة فهو حقيق أن يردها على من استودعها ولن يسلم الحر أمانته، أو رجل مكذوب عليه وليس ينبغي للملك أن يأخذه بقول عدو أو حاسد. وكانت الأعاجم لهم قوة وحلم، وكانوا قد سمعوا ببعض حلم العرب، وأن الملك كائن فيهم، فلما ورد عليه كتاب هانىء بهذا حملته الشفقة أن يكون ذلك قد اقترب على أن خرج بنفسه، فأقبل حتى قطع الفرات فنزل غمر بني مقاتل، وقد أحنقه ما صنعت بكر بن وائل في السواد ومنع هانىء إياه ما منعه، ودعا كسرى إياس بن قبيصة الطائي وكان عامله على عين التمر وما والاها، فاستشاره في الغارة على بكر بن وائل فقال له إياس: إن الملك لا يصلح أن يعصيه أحد من رعيته، وإن تطعني لم يعلم أحد لأي شيء عبرت وقطعت الفرات، فيرون أن أمر العرب قد كربك، ولكن ترجع وتضرب عنهم وتبعث عليهم العيون حتى ترى منهم غرة ثم ترسل حينئذ كتيبة من العجم فيها بعض القبائل التي تليهم فيوقعون بهم وقعة الدهر، ويأتونك بطلبك، فقال له كسرى: أنت رجل من العرب وبكر بن وائل أخوالك، فأنت تتعصب لهم لا تألوهم نصحاً، فقال إياس: الملك أفضل رأياً، فقام عمر بن عدي بن زيد العبادي
34
وكان كاتبه وترجمانه بالعربية في أمور العرب فقال: قم أيها الملك وابعث إليهم بالجنود يكفوك! وقام إليه النعمان بن زرعة من ولد السفاح الثعلبي فقال له: أيها الملك! إن هذا الحي من بكر بن وائل إذا قاظوا تهافتوا على ماء لهم يقال له: ذو قار، تهافت الفراش في النار، فعقد لنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وأياد وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر، فكانت العرب ثلاثة آلاف، وعقد للهامرز على ألف من الأساورة، وعقد لخيارزين على ألف، وبعث معهم باللطيمة وهي عير كانت تخرج من العراق فيها البن والعطر والألطاف، توصل ذلك إلى باذان عامل كسرى على اليمن، وقال: إذا فرغتم من عدوكم فسيروا بها إلى اليمين، وأمر عمرو بن عدي أن يسير بها، وكانت العرب تحقرهم حتى تبلغ اللطيمة اليمن، وعهد كسرى إليهم إذا شارفوا بلاد بكر بن وائل أن يبعثوا إليهم النعمان بن زرعة، فإن أتوكم بالحلقة ومائة غلام منهم يكونون رهناً بما أحدث سفهاؤهم فاقبلوا منهم وإلا فقاتلوهم.
فلما بلغ الخبر بكر بن
35
وائل سار هانىء بن مسعود حتى نزل بذي قار، وأقبل النعمان بن زرعة حتى نزل على ابن أخته مرة بن عبد الله العجلي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنكم أخوالي وأحد طرفي، وإن الرائد لا يكذب أهله، وقد أتاكم ما لا قبل لكم به من أحرار فارس وفرسان العرب والكتيبتان الشهباء والدوسر، وإن الشر خياراً، ولأن يفدي بعضكم بعضاً خير من أن تصطلموا، انظروا هذه الحلقة فادفعوها وادفعوا معها رهناً من أبنائكم إليه بما أحدث سفهاؤكم، فقال له القوم: ننظر في أمورنا، وبعثوا إلى من يليهم من بكر بن وائل وبرزوا ببطحاء ذي قار بين الجلهتين - وجلهة الوادي: مقدمه، مثل جلهة الرأس إذا ذهب شعره - وجعلت بكر بن وائل حين بعثوا إلى من حولهم من قبائل بكر لا ترفع لهم جماعة إلا قالوا: سيدنا في هذه الجماعة، إلى أن رفعت لهم جماعة فيها حنظلة بن ثعلبة بن سنان العجلي فقالوا: يا أبا معدان فقد طال انتظارنا وقد كرهنا أن نقطع أمراً دونك، وهذا ابن أختك النعمان بن زرعة قد جاء والرائد لا يكذب أهله، قال: فما الذي أجمع رأيكم عليه؟ قالوا: قلنا اللحي أهون من الوهي، وإن في الشر خياراً، ولأن نفدي بعضنا بعضاً خير من أن نصطلم جميعاً، فقال حنظلة:
36
قبح الله هذا رأياً، لا تجر أحرار فارس غزلها ببطحاء ذي قار وأنا أسمع صوتاً، ثم أمر بقبته فضربت بوادي ذي قار ونزل الناس فأطافوا به ثم قال لهانىء بن مسعود: يا أبا أمامة! إن ذمتكم ذمتنا عامة، وأنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرقها بين قومك، فإن تظفر فسترد عليك، وإن تهلك فأهون مفقود، فأمر بها فأخرجت ففرقها بينهم، ثم قال حنظلة للنعمان: لولا أنك رسول لما أبت إلى أهلك سالماً، فرجع النعمان إلى أصحابه، فأخبرهم فباتوا ليلتهم يستعدون للقتال، وبات بكر بن وائل يستعدون للحرب، فلما أصبحوا أقبلت الأعاجم نحوهم وأمر حنظلة بالظعن جميعاً فوقفها خلف الناس ثم قال: يا معشر بني بكر بن وائل! قاتلوا عن ظعتنكم أو دعوا، وأقبلت الأعاجم يسيرون إلى تعبئة، وكان ربيعة بن غزالة السكوتي ثم التجيبي يومئذ هو وقومه نزولاً في بني شيبان فقال: يا بني شيبان! أما إني لو كنت منكم لأشرت عليكم برأي مثل عروة العلم قالوا: وأنت والله من أوسطنا، أشر علينا، قال: لا تستهدفوا هذه الأعاجم فتهلككم بنشابها، ولكن تكردسوا لهم كراديس فيشد عليهم كردوس، فإذا أقبلوا عليه شد الآخر، قالوا: فإنك قد رأيت رأياً، ففعلوا، فلما التقى الزحفان وتقارب
37
القوم قام حنظلة بن ثعلبة فقال: يا معشر بكر بن وائل! إن النشاب الذي مع الأعاجم يعرفكم، فإذا أرسلوه لم يُخْطِكُمْ، فعاجلوهم اللقاء وابدأوهم، ثم قام هانىء بن مسعود فقال: يا قوم! مهلك معذور خير من منجى مفرور، إن الحذر لا يدفع القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره، ياقوم: جدوا، فما من القوم بد فتح لو كان رجال أجد، أسمع صوتاً ولا أرى فوتاً، يا لبكر! شدوا واستعدوا، فإن لا تشدوا تردوا، ثم قام شريك بن عمرو بن شراحيل فقال: ياقوم! إنما تهابونهم أنكم ترونهم عند الحفاظ أكثر منكم، وكذلك أنتم في عيونهم فعليكم بالصبر، فإن الأسنة تردي الأعنة، يا لبكر! قدماً قدماً، ثم قام عمرو بن جبلة اليشكري فقال:
يا قوم لا تغرركم هذي الخرق | ولا وميض البيض في شمس برق |
من لم يقاتل منكم هذي العنق | فجنبوه اللحم واسقوه المرق |
ثم قام حنظلة بن ثعلبة إلى (وضين) امرأته فقطعه ثم تتبع الظعن بقيع وضنهن، لئلا يفر عنهن الرجال، والوضين: بطان الناقة فسمي
38
يومئذ: مقطع الوضن. وقال ابن مسكوية: إنه لما قطع الوضن وقع النساء إلى الأرض وإن بنت القرين الشيبانية نادت:
ويها بني شيبان صفاً بعد صف... إن تهزموا يصبّغوا فينا القلف... فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من قبل مناكبهم لتخف أيديهم بالضرب، وتقدمت عجل فأبلت يومئذ بلاء حسناً، واضطمت عليهم جنود العجم فقال الناس: هلكت عجل، ثم حملت بكر فوجدت عجلاً ثابتة تقاتل وامرأة منهم تقول:
إن يظفروا يحرزوا فينا الغرل... فدى لكم نفسي فدى بني عجل
وتقول أيضاً:
إن تقدموا نعانق... ونفرش النمارق
أو تهربوا نفارق... فراق غير وامق
فكانت بنو عجل في الميمنة بإزاء خيارزين وبنو شيبان في الميسرة
39
بإزاء كتيبة الهامرز، وأفناء بكر بن وائل في القلب فخرج أسوار من الأعاجم مسور مشنف في أذنيه درتان، من كتيبة الهامرز يتحدى الناس للبراز، فنادى في بني شيبان فلم يبارزه أحد حتى إذا دنا من بني يشكر برز له برد بن حارثة أخو بني ثعلبة فشد عليه بالرمح فطعنه فدق صلبه وأخذ حليته وسلاحه، وقال ابن مسكويه: ونادى الهامرز لما رأى جد القوم وثباتهم للحرب وصبرهم للموت مرد ومرد، فقال برد بن حارثة اليشكري: ما يقول؟ قيل: يدعو إلى البراز! يقول: رجل ورجل! فقال: وأبيكم لقد أنصف، وبرز له فلم يلبث برد أن تمكن من الهامرز فقتله. وقال ابن مكرم في اختصاره للأغاني: ثم اقتتلوا صدر نهارهم أشد قتال رآه الناس إلى أن زالت الشمس، فشد الحوقران واسمه الحارث ابن شريك على الهامرز فقتله وقتلت بنو عجل خيارزين، وضرب الله وجوالفرس فانهزموا، وتبعتهم بكر بن وائل يقتلونهم بقية يومهم حتى أصبحوا من الغد وقد شارفوا السواد ودخلوه فلم يلفت منهم كبير أحد، وأقبلت بكر بن وائل على الغنائم فقسموها بينهم،
40
وقسموا تلك اللطائم بين نسائهم، وكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة، وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه، فلما أتاه إياس سأله عن الخبر فقال: هزمنا بكر بن وائل، وأتيناك بنسائهم، فأعجب ذلك كسرى، وأمر له بكسوه، ثم إن إياساً استأذنه عند ذلك فقال: إن أخي مريض بعين التمر، فأردت أن آتيه، وإنما أراد أن ينتحي عنه، فإذن له، ثم أتى رجل من أهل الحيرة فسأل: هل دخل على الملك أحد؟ فقالوا: نعم! إياس، فقال: ثكلت إياساً أمه! وظن أنه قد حدثه بالخبر، فدخل عليه فحدثه بهزيمة القوم وقتلهم، فأمر به فنزعت كتفاه؛ وكانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، فلما بلغه ذلك قال:
«هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا».
روى ذلك الطبراني في المعجم الكبير، وقيل: إن الوقعة مثلت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بالمدينة فرفع يده، فدعا لبني شيبان أو لجماعة ربيعة بالنصر، ولم يزل يدعو لهم حتى أرى هزيمة الفرس، وروي أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«أيها بني ربيعة اللهم انصرهم» فهم إلى الآن إذا حاربوا نادوا بشعار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعوته، وقال قائلهم: يارسول الله! دعوتك، فإذا دعوا بذلك نصروا. وروى ذلك الطبراني الكبير - قال
41
الهيثمي: ورجاله الصحيح غير خلاد بن عيسى وهو ثقة - عن خالد ابن سعيد بن العاص عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال:
«قدمت بكر بن وائل مكة فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر رضي الله عنه:» ائتهم فاعرض عليهم!
«فأتاهم فقال: من القوم؟ ثم عاد إليهم ثانية فقال: من القوم؟ فقالوا: بنو ذهل بن شيبان، فعرض عليهم الإسلام، قالوا: حتى يجيء شيخنا فلان - قال خلاد: أحسبه قال: المثنى بن خارجة - فلما جاء شيخهم عرض عليهم أبو بكر رضي الله عنه، قال: إن بيننا وبين الفرس حرباً، فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا، فقال له أبو بكر: أرأيت إن غلبتموهم أتتبعنا على أمرنا؟ قال: لا نشترط لك هذا علينا ولكن إذا فرغنا فيما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما نقول، فلما التقوا يوم ذي قار هم والفرس قال شيخهم: ما اسم الرجل الذي دعاكم إلى الله؟ قالوا: محمد، قال: فهو شعاركم! فنصروا على القوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» بي نصروا «
انتهى. ومن الأشعار في وقعة ذي قار قول أبي كلبة التميمي:
42
لولا فوارس لا ميل ولا عزل | من اللهازم ما قظتم بذي قار |
إن الفوارس من عجل هم أنفوا | بأن يخلّوا لكسرى عرصة الدار |
قد أحسنت ذهل شيبان وما عدلت | في يوم ذي قار فرسان ابن سيار |
هم الذين أتوهم عن شمائلهم | كما تلبّس وراد بصدار |
وقال الأعشى:فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي | وصاحبها يوم اللقاء وفلت |
هم ضربوا بالحنو حنو قراقر | مقدمة الهامرز حتى تولت |
ولما أخبر بإدالة الروم بعد الإدالة عليهم مع ما دخل تحت مفهوم الآية، وكان ربما قيل: ما له لم يدم نصر أهل الكتاب؟ علل ذلك كله بقوله:
﴿ينصر من يشاء﴾ من ضعيف وقوي، لأنه لا مانع له ولا يسأل عما يفعل
﴿وهو العزيز﴾ فلا يعز من عادى، ولا يذل من والى، ولما كان هذا السياق لبشارة المؤمنين قال:
﴿الرحيم﴾ أي يخص حزبه بما ينيلهم قربه من الأخلاق الزكية، والأعمال المرضية.
43
ولما نزل هذا على قوم أكثرهم له منكر، أكده سبحانه بما يقوي
43
قلوب أصفيائه بتبيين المراد، ويرد ألسنة أعدائه عن كثير من الناد، ويعرفهم أنه كما صدق في هذا الوعد لأجل تفريح أوليائه فهو يصدق في وعد الآخرة ليحكم بالعدل، ويأخذ لهم حقهم ممن عاداهم، ويفضل عليهم بعد ذلك بما يريد، فقال:
﴿وعد الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال، وهو متعال عن كل شائبة نقص، فلذلك
﴿لا يخلف﴾ وأعاد ذكر الجلالة تنبيهاً على عظم الأمر فقال:
﴿الله﴾ أي الذي له الأمر كله. ولما كان لا يخلف شيئاً من الوعد، لا هذا الذي في أمر الروم ولا غيره، أظهر فقال:
﴿وعده﴾ كما يعلم ذلك أولياؤه
﴿ولكن أكثر الناس﴾ وهو أهل الاضطراب والنوس
﴿لا يعلمون*﴾ أي ليس لهم علم أصلاً، ولذلك لا نظر لهم يؤدي إلى أنه وعد وأنه لا بد من وقوع ما وعد به في الحال التي ذكرها لأنه قادر وحكيم.
ولما كان من المشاهدة أن لهم عقولاً راجحة وأفكار صافية، وأنظار صائبة، فكانوا بصدد أن يقولوا: إن علمنا أكبر من علمكم، كان كأنه قيل بياناً لأنه يصح سلب ما ينفع من العلم بتأديته إلى السعادة الباقية، وتنبيهاً على أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا: نعم
﴿يعلمون﴾ ولكن
﴿ظاهراً﴾ أي واحداً
﴿من﴾ التقلب في
﴿الحياة الدنيا﴾ وهو ما أدتهم إليه
44
حواسهم وتجاربهم إلى ما يكون سبباً للتمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، قال الحسن: إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطىء وهو لا يحسن يصلي - انتهى. وأمثال هذا لهم كثير، وهو وإن كان عند أهل الدنيا عظيماً فهو عند الله حقير، فلذلك حقره لأنهم ما زادوا فيه على أن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل، وما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع، وأما علم باطنها وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها بالطاعة، فهو ممدوح منبه عليه بوصفها بما يفهم الأخرى.
ولما ذكر حالهم في الدنيا، أتبعه ذكر اعتقادهم في الآخرة، مؤكداً إشارة إلى أن الحال يقتضي إنكار أن يغفل أحد عنها، لما لها من واضح الدلائل أقربه أن اسم ضدها يدل عليها، لأنه لا تكون إلا في مقابلة قصياً، ولا أولى إلا بالنسبة إلى أخرى، فقال:
﴿وهم﴾ أي هؤلاء الموصوفون خاصة
﴿عن الآخرة﴾ التي هي المقصود بالذات وما خلقت الدنيا إلا للتوصل بها إليها ليظهر الحكم بالقسط وجميع صفات العز والكبر والجلال والإكرام
﴿هم غافلون*﴾ أي في غاية الاستغراق والإضراب عنها بحيث لا يخطر في خواطرهم، فصاروا لاستيلاء الغفلة عليهم إذا ذكرت لهم كذبوا بها، واستهزؤوا بالمخبر، ولم يجوزوها
45
نوع تجير مع أن دلائلها تفوت الحصر، وتزيد على العد، فصاروا كأنهم مخصوصون بالغفلة عنها من بين سائر الناس ومخصصون لها بالغفلة من بين سائر الممكنات، فلذلك لا يصدقون الوعد بإدالة الروم لما رسخ في نفوسهم من أن الأمور تجري بين العباد على غير قانون الحكمة، لأنهم كثيراً ما يرون الظالم يموت ولم يقتص منه، وهم في غفلة عن أنه أخر جزاؤه إلى يوم الدين، يوم يكشف الجبار حجاب الغفلة ويظهر عدله وفضله، وتوضع الموازين القسط، فتطيش بمثاقيل الذر، ويقتص للمظلومين من الظالمين، ومن أريد القصاص منه عاجلاً فعل، وقضية الروم هذه من ذلك، وهذا السياق يدل على أنه لا حجاب عن العلم أعظم من التكذيب بالآخرة، ولا شيء أعون عليه من التصديق بها والاهتمام بشأنها، لأن ذلك حامل على طلب الخلاص في ذلك اليوم، وهو لا يكون على أتم الوجوه إلا لمن وصل إلى حالة المراقبة، وذلك لا يكون إلا لمن علم إما بالكشف أو الكسب كل علم فلم يتحرك حركة إلا بدليل يبيحها له ويحمله عليها، وبهذا التقرير يظهر أن هاتين الجملتين بكمالهما علة لنفي العلم عنهم، والمعنى أن العلم منفي عنهم لما
46
شغل قلوبهم من هذا الظاهر في حال غفلتهم عن الآخرة، فانسد عليهم باب العلم - والله الموفق.
ولما كان التقدير: أفلم يتدبروا القرآن وما كشف لهم عنه من الحكم والأمور التي وعد الله بها على لسان نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه أو في السنة، فكانت على حسب ما وعد، أو لم يتأملوا مصنوعات الله عموماً فتدلهم عقولهم منها على أنه لا يصلح للإلهية إلا من كان حكيماً، ولا يكون حكيماً إلا من صدق في وعده، وأنه لا تتم الحكمة إلا بإيجاد الآخرة، عطف عليه قوله منكراً عليهم موبخاً لهم:
﴿أولم يتفكروا﴾ أي يجتهدوا في إعمال الفكر، ثم ذكر آلة الفكر زيادة في تصوير حال المتفكرين والتذكير بهيئة المعتبرين فقال:
﴿في أنفسهم﴾ ويجوز أن تكون هي المتفكر فيه فيكون المعنى: يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص، فكيف بالإله الحق، ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور، وفاوت بينهم في القوى والقدر، وبين آجالهم في الطول والقصر، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر، وأمات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر، لا بد في حكمته البالغة من جمعهم للعدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر، أو شكر أو كفر، ثم ذكر نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم، وعلى التقدير
47
الأول يكون هذا هو المتفكر فيه
﴿ما خلق الله﴾ أي بعز جلاله، وعلوه في كماله
﴿السماوات والأرض﴾ على ما هما عليه من النظام المحكم، والقانون المتقن، وأفرد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعددها بخلاف السماء
﴿وما بينهما﴾ من المعاني التي بها كمال منافعهما
﴿إلا﴾ خلقاً متلبساً
﴿بالحق﴾ أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأه الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منها للتصوير من الفاسد يطابق ذلك، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً للأمر البعث، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار، وسير الكواكب الصغار والكبار، وإمطار الأمطار، وإجراء الأنهار، ونحو ذلك من الأسرار، رآه مطابقاً لكل ما يخطر في باله من الأقدار، وإذا خطر له العلم، فتبصر في جري هذه الأمور وغيرها على منهاج مستقيم، ونظام واضح قويم، وسير متقن حكيم، علم أن ذلك في غاية المطابقة للخبر بالعلم الشامل والقدرة التامة على البعث وغيره، أو إلا بالأمر الثابت والقضاء النافذ الذي لا يتخلف عنه المراد، ولا يستعصي عليه حيوان ولا جماد، وخلقكم من هذا الخلق الكبير الذي قام بأمره من
48
بعض ترابه.
ثم جعلكم من سلالة من ماء مهين، فالقدرة التي خلق بها ذلك كله وابتدأكم ثم يبيدكم، بها بعينها يحييكم ويعيدكم، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون، أو إلا بسبب إحقاق الحق وإبطال الباطل، فلا بد من تصديق وعده بإدالة الروم لأخذ حقهم من الفرس، ولا بد من أن يقيمكم بعد أن ينيمكم ويثبت كل حق رأيتموه قد أبطل، ويبطل كل باطل رأيتموه قد أعمل، لأنه أحكم الحاكمين، فلو أقر على إماتة حق أو إحياء باطل لما كان كذلك.
ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد، قال:
﴿وأجل﴾ لا بد أن ينتهي إليه
﴿مسمى﴾ أي في العلم من الأزل، وذلك الأجل هو وقت قيام الساعة، وذلك أنه كما جعل لهم آجالاً لأصلهم وفرعهم لم يشذ عنها أحد منهم فكذلك لا بد من أجل مسمى لما خلقوا منه، فإذا جاء ذلك الأجل انحل هذا النظام، واختل هذا الإحكام، وزالت هذه الأحكام، فتساقطت هذه الأجرام، وصارت إلى ما كانت عليه من الإعدام، وإلا كان الخلق عبثاً يتعالى عنه الملك العلام.
49
ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر، أكد قوله:
﴿وإن كثيراً من الناس﴾ مع ذلك على وضوحه
﴿بلقاء ربهم﴾ الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب
﴿لكافرون﴾ أي لساترون ما في عقولهم من دلائل وحدانيته وحجج قدرته وحكمته ستراً عظيماً، كأنه غريزة لهم، فهم لذلك يكذبون بما وعدكم سبحانه من إدالة الروم على الفرس، فلا يهولنكم ذلك لأنهم قد كذبوا بما هو أكبر منه، وهو الآخرة على ما لها من الدلائل التي تفوت الحصر، وإذا راجعت ما تقدم في آية الأنعام
﴿وهو الذي خلقكم من طين﴾ [آية: ٢] ازددت في هذا بصيرة.
50
ولما كان انتكاسهم بعد هذا الأسباب المسعدة بعيداً، أشار إليه بأداة التراخي، أو هي إشارة إلى تطاول دعار الرسل لهم واحتمالهم إياهم فقال:
﴿ثم كان﴾ أي كوناً تعذر الانفكاك عنه، وهو في غاية الهول كما اشار إليه تذكير الفعل
﴿عاقبة﴾ أي آخر أمر
﴿الذين أساءوا﴾ أظهر موضع الإضمار تعميماً ودلالة على السبب
﴿السوأَى﴾ أي الحالة التي هي أسوأ ما يكون، وهي خسارة الأنفس بالدمار في الدنيا والخلود في العذاب في الأخرى، جزاء لهم بجنس عملهم، فنهم كما أساؤوا الرسل ساءهم الملك؛ ثم ذكر العلة بقوله:
﴿أن كذبوا﴾ أي لأجل تكذيبهم الرسل، مستهينين
﴿بآيات الله﴾ أي الدلالات المنسوبة إلى الملك الأعلى الذي له الكمال كله الدالة عليه على عظمها بعظمه
﴿وكانوا﴾ أي كوناً كأنه جبلة لهم
﴿بها﴾ مع كونها أبعد شيء عن الهزء
﴿يستهزءون﴾ أي يستمرون على ذلك بتجديده في كل حين مع تعظيمه حتى كان استهزاؤهم بغيرها كأن عدم، كما أنكم أنتم تكذبون بما وقع من الوعد في أمر الروم وتستهزئون به فاحذروا أن يحل بكم ما حل بالأولين، ثم تردون إليه سبحانه فيعذبكم العذاب الأكبر، ويجوز أن يكون هذا بدلاً من
«السُّوأَى» أو بياناً لها بمعنى أنهم لما أساؤوا زادتهم
53
إساءتهم عماوة حتى ارتكسوا في العمى فوصلوا إلى التكذيب والاستهزاء الذي هو أقبح الحالات، عكس ما يجازي به المؤمن من أنه يزداد بإيمانه هدى.
ولما كان حاصل ما مضى أنه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وكان للتصريح مع النفس حالة ليست لغيره، قال ذاكراً نتيجة ما مضى ومحصله تصريحاً بالمقصود وتلخيصاً للدليل:
﴿الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة
﴿يبدأ الخلق﴾ أي بدا منه ما رأيتم وهو يجدد في كل حين ما يريد من ذلك كما تشاهدون
﴿ثم يعيده﴾ بعد ما يبيده، وترك توكيده إشارة إلى أنه غني عنه لأنه من القضايا المسلمة أن من اخترع شيئاً كان لا محالة قادراً على إعادته.
ولما كان الجزاء أمراً مهولاً، أشار إليه بأداة التراخي فقال:
﴿ثم إليه﴾ أي لا إلى غيره
﴿ترجعون*﴾ معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها إلى الأسباب، وحسا بعد قيام الساعة، وقراءة الجماعة بالالتفات إلى الخطاب أبلغ لأنها أنص على المقصود، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بالياء التحتانية على النسق الماضي.
ولما ذكر الرجوع، أتبعه بعض أحواله فقال:
﴿ويوم تقوم الساعة﴾
54
سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما فيهم من العظماء والكبراء والرؤساء
﴿يبلس﴾ أي يسكت ويسكن يأساً وتحيراً على غاية الذل - بما أشار إليه تذكير الفعل مع التجدد والاستمرار بما أومأ إليه المضارع
﴿المجرمون*﴾ الذين وصلوا من الدنيا ما من حقه أن يقطع لفنائه، وقطعوا من أسباب الآخرة ما من حقه أن يوصل لبقائه، وكانوا في غاية اللبس في الجدل ومعرفة كل ما يغيظ الخصم من القول والفعل والتمايل والتضاحك عند سكوت الخصم تعجباً من جريانهم في هذيانهم سروراً منهم بإسكاته ليظن بعض من رآه أنه انقطع وأن الحجة لهم.
ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره، نفى ذلك بقوله محققاً له بجعله ماضياً:
﴿ولم يكن﴾ ولما كان المقام لتحقيرهم بتحقير شركائهم رتب نفي النفع الموجع لهم هذا الترتيب، ويجوز أن يراد بترتيبه مع ذلك التخصيص فيقال:
﴿لهم﴾ أي خاصة في ذلك الوقت ولا بعده، ولا كان في عداد ذلك من قبل لو كانوا يعقلون، وأما غيرهم ممن يصح وصفه بالإجرام لكونه من أهل الشرك الخفي فقد يشفع فيه من رباه من الشهداء والعلماء وعامة المؤمنين
﴿من شركائهم﴾ الذي زعموهم خاصة ليتبين لهم خلطهم وجهلهم المفرط في قولهم:
﴿هؤلاء شفعاؤنا عند الله﴾ [
55
يونس: ١٨] وأما غيرهم فيقع منهم ما يسمى شفاعة تارة تصريحاً وأخرى تلويحاً كالشفاعة العامة من نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخلق عامة لفصل القضاء، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ناس بأعيانهم:
«أصحابي إليّ إليّ، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: فسحقاً سحقاً» وقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام
﴿ومن عصاني فإنك غفور رحيم﴾ [إبراهيم: ٣٦]
﴿شفعاء﴾ ينقذونهم مما هم فيه وما يستقبلونه وإتيانه بصيغة جمع الكثرة يمكن أن يكون لا مفهوم له، لأن مورده رد اعتقادهم في قولهم السالف، ويمكن أن يفهم أنه قد يقع من بعض من عبدوه شفاعة، أو تلويح بها كقول عيسى عليه السلام
﴿وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم﴾ [المائدة: ١١٨].
ولما ذكر حال الشفعاء معهم، ذكر حالهم مع الشفعاء فقال:
﴿وكانوا﴾ أي كوناً هو في غاية الرسوخ
﴿بشركائهم﴾ أي خاصة
﴿كافرين*﴾ أي متبرئين منهم ساترين لأن يكونوا اعتقدوهم آلهة وعبدوهم جرياً على عادتهم فيما لا يغنيهم من العناد والبهت.
56
ولما كانت النفس ربما تشوفت إلى أنه هل يكون بعد إبلاسهم
56
شيء آخر، قال مفيداً له مهولاً بإعادة ما مضى:
﴿ويوم تقوم الساعة﴾ أي ويا له من يوم، ثم زاد في تهويله يقوله:
﴿يومئذ يتفرقون﴾ أي المؤمنون الذين يفرحون بنصر الله والكافرون فرقة لا اجتماع بعدها، هؤلاء في عليين، وهؤلاء في أسفل سافلين. حكى لي بعض القضاة من أصحابي - عفا الله عنه - وهو يبكي أنه رأى مناماً مهولاً، وذلك أنه رأى القيامة قد قامت، والناس يحشرون - على ما وصف في الأحاديث - في صعيد واحد عرايا خائفين حائرين، يموج بعضهم في بعض، فإذا شخص مما له أمر قد أشار بسوط معه وخط به في الأرض فقسمهم قسمين فقال: هؤلاء مطيعون، وهؤلاء عصاة، قال: فكنت في العصاة، وفي الحال غاب عنا الطائعون، فلم تر منهم أحداً ثم خط بذلك السوط مرة أخرى فقسمنا قسمين فقال: هؤلاء عصاة الأقوال، وهؤلاء عصاة الأفعال، قال: فكنت في عصاة الأفعال، ثم غاب في الحال عنا عصاة الأقوال، فلم نر منهم أحداً وبقينا نحن منا الجالس ومنا المضطجع، ونحن قليل بالنسبة إلى عصاة الأقوال، فبينا نحن كذلك إذ جاء آتٍ إلى شخص إلى جانبي فأخذه من كعبه ثم نشطه فأخرج جلده بمرة واحدة كأنه جراب نزع عن شيء فيه يابس، فحصل لي من ذلك
57
ذعر شديد فبينا أنا كذلك إذ آتٍ جاءني من ورائي، فألقى عليّ جوخة فجعلها على أكتافي وأدارها على أفخاذي فسترني بها ولكن على غير هيئة لبس المخيط، قال: واستيقظت وأنا على ذلك فقصصته على بعض الصالحين فقال: أحمد الله على كونك من عصاة الأفعال، وأخذ من ستري بالجوخة على تلك الهيئة أني أحج، فبشرني بذلك فحججت في ذلك العام - والله تعالى المسؤول في التوبة، فإنه الفعّال لما يريد
﴿فأما الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان بألسنتهم
﴿وعملوا﴾ تصديقاً لإقرارهم
﴿الصالحات﴾ أي كلها.
ولما تقدم هنا ذكر عمارة الأرض وإصلاحها للنبات ووعظ من جعلها أكبر همه بأنها لم تدم له ولا أغنت عنه شيئاً، ذكر أنه جزى من أعرض عنها بقلبه لاتباع أمره سبحانه أعظم ما يرى من زهرتها ونضرتها وبهجتها على سبيل الدوام فقال:
﴿فهم﴾ أي خاصة
﴿في روضة﴾ أي لا أقل منها وهي أرض عظيمة جداً منبسطة واسعة ذات ماء غدق ونبات معجب بهج - هذا أصلها في اللغة وقال الطبري: ولا تجد أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض.
﴿يحبرون*﴾ أي يسرون على سبيل التجدد كل وقت سروراً تشرق له الوجوه، وتبسم الأفواه، وتزهو العيون، فيظهر حسنها وبهجتها، فتظهر
58
النعمة بظهور آثارها على أسهل الوجوه وأيسرها.
قال الرازي في اللوامع: وأصله - أي الحبرة - في اللغة أثر في حسن، وقال غيره: حبره - إذا سره سروراً تهلل له وجهه، وظهر فيه أثره.
﴿وأما الذين كفروا﴾ أي غطوا ما كشفته أنوار العقول،
﴿وكذبوا﴾ عناداً
﴿بآياتنا﴾ التي لا تصدق منها ولا أضوأ من أنوارها، بما لها من عظمتنا
﴿ولقآءِ الآخرة﴾ الذي لم يدع لبساً في بيانه
﴿فأولئك﴾ أي البعداء البغضاء
﴿في العذاب﴾ أي الكامل لا غيره
﴿محضرون*﴾ من أي محضر كان، بالسوق الحثيث، والزجر العنيف، فإذا وصلوا إلى مقره وكل بهم من يديم كونهم كذلك - لإفادة الجملة الاسمية الدوام، فلا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم.
ولما بين سبحانه المبدأ بخلق السماوات والأرض، والمعاد بالجنة والنار، وأنهم كذبوا به، وكان تكذيبهم به مستلزماً لاعتقاد نقائص كثيرة منها العجز وإخلاف الوعد وترك الحكمة، كان ذلك سبباً لأن ينزه سبحانه نفسه المقدسة ويأمر بتنزيهها، لأن ذلك يدفع عن المنزه مضار الوعيد، ويرفعه إلى مسار الوعد، فقال ذاكراً من أفعاله العالية التي لا مطمع لغيره في القدرة على شيء منها ما يدل على خلاف ذلك الذي يلزم اعتقادهم، لافتاً الكلام عن صيغة العظمة إلى أعظم منها بذكر الاسم الأعظم.
﴿فسبحان الله﴾ أي سبحوا الذي له جميع العظمة بمجامع التسبيح بأن تقولوا هذا القول الذي هو عَلَمه، فهو
59
منزه عن كل نقص؛ ثم ذكر أوقات التسبيح إشارة إلى ما فيها من التغير الذي هو منزه عنه وإلى ما يتجدد فيها من النعم ووجود الأحوال الدالة على القدرة على الإبداع الدال على البعث، فقال دالاً على الاستغراق بنزع الخافض مقدماً المحو لأنه أدل على البعث الذي النزاع فيه وهو الأصل، لافتاً الكلام إلى الخطاب لأنه أشد تنبيهاً:
﴿حين تمسون﴾ أي أول دخول الليل بإذهاب النهار وتفريق النور، فيعتريكم الملل، ويداخلكم الفتور والكسل، على سبيل التجدد والاستمرار، وأكد الندب إلى التسبيح بإعادة المضاف فقال:
﴿وحين تصبحون*﴾ بتحويل الأمر فتقومون أحياء بعد أن كنتم أمواتاً فتجدون نهاراً قد أضاء بعد ليل كان دجى، فتفعلون ما هو سبحانه منزه عنه من الحركة والسعي في جلب النفع ودفع الضرر، وأرشد السياق إلى أن التقدير: وله الحمد في هذين الجنسين.
ولما ذكر ما يدل على خصوص التنزيه، اتبعه ما يعرف بعموم الكمال، فقال ذاكراً لوقت كمال النهار وكمال الظلام، وتذكيراً بما يحدث عندهما للآدمي من النقص بالفتور والنوم اعتراضاً بين الأوقات للاهتمام بضم التحميد إلى التسبيح:
﴿وله﴾ أي وحده مع النزاهة عن شوائب النقص
﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال.
ولما قدم سبحانه أن تنزهه ملأ الأزمان، وكان ذلك مستلزماً
60
لملء الأكوان، وكان إثبات الكمال أبين شرفاً من التنزيه عن النقص، صرح فيه بالقبيلين فقال:
﴿في السماوات﴾ أي الأجرام العالية كلها التي تحريكها - مع أنها من الكبر في حد لا يحيط به إلا هو سبحانه - سبب للإمساء والإصباح وغيرهما من المنافع
﴿والأرض﴾ التي فيها من المنافع ما يجل عن إحاطتكم به مع أنها بالنسبة إلى السماء كحلقة ملقاة في فلاة، ولولا ذلك لظهر لكم ذلك برؤية ما وراءها هو شأن كل مظل مع كل مقل كما تشاهدون السحاب ونحوه.
ولما خص الإمساء والإصباح، عمّ فقال معبراً بما يدل على الدوام، لأن وقت النوم الدال على النقص أولى بإثبات الكمال فيه:
﴿وعشياً﴾ أي من الزوال إلى الصباح
﴿وحين تظهرون*﴾ أي تدخلون في شدة الحر، وسبحانه الله في ذلك كله، فالآية من الاحتباك: ذكر التسبيح أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والحمد ثانياً دليلاً على إرادته أولاً، ولعل المراد بالإظهار هنا ما هو أعم من وقت الظهر ليكون المراد به من حين يزول اسم الصباح من وقت ارتفاع الشمس إلى أن يحدث اسم المساء، وهو من الظهر إلى الغروب - قاله ابن طريف
61
في كتابه الأفعال ونقله عن الإمام عبد الحق في كتابه الواعي، وذلك حين استبداد النهار فيكون كماله فيما دون ذلك من باب الأولى، وهذا مع هذه الدقائق إشارة إلى الصلوات الخمس، أي سبحوه بالخضوع له بالصلاة في وقت المساء بصلاة العصر والمغرب، وفي وقت الصباح بالصبح، وفي العشى بالعشاء، وفي الإظهار بالظهر، وفي هذا التخريج من الحسن بيان الاهتمام بالصلاة الوسطى، فابتدأ سبحانه بالعصر التي قولها أصح الأقوال، ودخول المغرب في حيزها بطريق التبعية والقصد الثاني، وثنى بالصبح وهي تليها في الأصحيّة وهما القريبتان، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«من صلى البردين دخل الجنة» - رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه،
«من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وجبت له الجنة» - أسنده صاحب الفردوس عن عمارة بن روبية رضي الله عنه ورواه مسلم وغيره عنه بلفظ:
«لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» - يعني الفجر والعصر
«كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال:» إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا لا تفوتنكم «، ثم قرأ {فسبح بحمد ربك
62
قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} رواه البخاري عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح» يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر «يدخل هنا.
ولما ذكر دلالة على البعث المستلزم للوحدانية مطلق التحويل الذي هو إحياء في المعنى بعد إماتة، أتبعه الإحياء والإماتة حقيقة، صاعداً من ذكر البعث تصريحاً بما كان ألقاه تلويحاً فقال:
﴿يخرج الحي﴾ كالإنسان والطائر
﴿من الميت﴾ كالنطفة والبيضة
﴿ويخرج الميت﴾ كالبيضة والنطفة
﴿من الحي﴾ عكس ذلك
﴿ويحيي الأرض﴾ باخضرار النبات.
ولما كان من الأراضي ما لا ينبت إلا بعد مدة إنزال المطر، ومنها ما ينبت من حين إنزال المطر عقب تحطم ما كان بها من النبات سواء، أسقط الجار هنا تنبيهاً على الأمر الثاني لأنه أدل على القدرة، فهو أنسب لهذا السياق ولمقصود السورة، ولأنه جعل فيه قوة إحيائها على الدوام فقال:
﴿بعد موتها﴾ بيبسه وتهشمه. ولما كان التقدير: كذلك يفعل على سبيل التكرر وأنتم تنظرون، عطف عليه قوله:
63
﴿وكذلك﴾ أي ومثل فعله هذا الفعل البديع من إخراجه لهذا الحي حساً ومعنى من الميت
﴿تخرجون﴾ بأيسر أمر من الأرض بعد تفرق أجسامكم فيها من التراب الذي كان حياً بحياتكم - هذا على قراءة الجماعة البناء للمفعول. وبناه حمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه للفاعل إشارة إلى أنهم لقوة تهيئهم لقبول البعث صاروا كأنهم يخرجون بأنفسهم - روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زيادات المسند عن لقيط بن عامر رضي الله عنه أنه خرج وافداً إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق رضي الله عنه، قال: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لانسلاخ رجب، فأتينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين انصرف من صلاة الغداة فقام في الغداة خطيباً إلى أن قال: «ألا اسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا ألا اجلسوا، قال: فجلس الناس فقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت: يا رسول الله! ما عندك من علم الغيب، فضحك لعمر الله وهز رأسه فقال: ضن ربك بمفاتيح الخمس من الغيب فذكره حتى ذكر البعث قال: فقلت: يا رسول الله، كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح
64
والبلى والسباع؟ قال: أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرض أشرفت عليها وهي مدرة بالية فقلت: لا تحيا أبداً، ثم أرسل ربك عز وجل عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياماً حتى أشرقت عليها وهي شرفة واحدة، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء كما أنه يجمع نبات الأرض فتخرجون». ولما كان التقدير: هذا من آيات الله التي تشاهدونها كل حين دلالة على بعثكم، عطف عليه التذكير بما هو أصعب منه في مجاري العادات فقال:
﴿ومن آياته﴾ أي على قدرته على بعثكم. ولما كان المراد إثبات قدرته سبحانه على بعثهم بعد أن صاروا تراباً بإيجاده لأصلهم من تراب يزيد على البعث في الإعجاب بأنه لم يكن له أصل في الحياة، وكان فعله لذلك إنما مكان مرة واحدة، قال معبراً بالماضي:
﴿أن خلقكم﴾ بخلق أبيكم آدم
﴿من تراب﴾ لم يكن له أصل اتصاف ما بحياة.
ولما كان ابتداء الإنسان من التراب في غاية العجب، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال:
﴿ثم﴾ أي بعد إخراجكم منه
﴿إذا أنتم بشر﴾ أي فاجأتم كونكم لكم بشرة هي في غاية التماسك والاتصال مع اللين
65
عكس ما كان لكم من الوصف إذا كنتم تراباً، وأسند الانتشار إلى المبتدأ المخاطب لا إلى الخبر لأن الخطاب أدل على المراد فقال:
﴿تنتشرون﴾ أي تبلغون بالنشر كل مبلغ بالانتقال من مكان إلى مكان مع العقل والنطق، ولم يختم هذه الآية بما ختم به ما بعدها دلالة على أنها جامعة لجميع الآيات، ودلالة على جميع الكمالات، وختم ما بعدها بذلك تنبيهاً على أن الناس أهملوا النظر فيها على وضوحها، وكان من حقهم أن يجعلوها نصب أعينهم، دلالة على كل ما نزلت به الكتب، وأخبرت به الرسل، وكذلك أكد في الإخبار إعلاماً بأنهم صاروا لإهمالها في حيز الإنكار.
66
ولما كان أعجب من ذلك أن هذا الذي خلقه التراب ذكراً خلق منه أنثى، وجعلهما شبهي السماء والأرض ماء ونبتاً وطهارة وفضلاً، قال:
﴿ومن آياته﴾ أي على ذلك؛ ولما كان إيجاد الأنثى من الذكر خاص لم يكن إلا مرة واحدة كالخلق من التراب، عبر بالماضي فقال:
﴿أن خلق لكم﴾ أي لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد، وفي تقديم الجار دلالة على حرمة التزوج من غير النوع، والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل في قوله:
﴿من أنفسكم﴾ أي جنسكم بعد إيجادها من
66
ذات أبيكم آدم عليه السلام
﴿أزواجاً﴾ إناثاً هن شفع لكم
﴿لتسكنوا﴾ مائلين
﴿إليها﴾ بالشهوة والألفة، من قولهم: سكن إليه - إذا مال وانقطع واطمأن إليه، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها.
ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الألفة قال:
﴿وجعل﴾ أي صير بسبب الخلق على هذه الصفة
﴿بينكم مودة﴾ أي معنى من المعاني يوجب أن لا يحب واحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه مع ما طبع عليه الإنسان من محبة الأذى، وإنما كان هذا معناه لأن مادة
«ودد» مستوياً ومقلوباً تدور على الاتساع والخلو من الدو والدوية بتشديد الواو وهي الفلاة، والود والوداد قال في القاموس: الحب، وقال أبو عبد الله القزاز ونقله عنه الإمام عبد الحق في واعيه: الأمنية، تقول وددت أن ذاك كان، وذاك لاتساع مذاهب الأماني، وتشعب أودية الحب، وفي القاموس: ودان: قرية قرب الأبواء وجبل طويل قرب فيد، والمودة: الكتاب - لاتساع الكلام فيه. وقال الإمام أبو الحسن الحرالي في شرح الأسماء الحسنى: الود خلو عن إرادة المكروه، فإذا حصل إرادة الخير وإيثاره
67
كان حياً، من لم يرد سواه فقد ود ومن أراد خيراً فقد أحب، والود أول التخلص من داء أثر الدنيا بما يتولد لطلابها من الازدحام عليها من الغل والشحناء، وذلك ظهور لما يتهياً له من طيب الحب، فمن ود لا يقاطع، ومن أحب واصل وآثر، والودود هو المبرأ من جميع جهات مداخل السور ظاهره وباطنه.
ولما كان هذا المعنى الحسن لا يتم إلا بإرادة الخير قال:
﴿ورحمة﴾ أي معنى يحمل كلاًّ على أن يجتهد للآخر في جلب الخير، ودفع الضير، لكن لما كانت إرادة الخير قد تكون بالمن ببعض ما يكره جمع بين الوصفين، وهما من الله، والفرك - وهو البغض - من الشيطان.
ولما كان ذلك من العظمة بمكان يجل عن الوصف، أشار إليه بقوله مؤكداً لمعاملتهم له بالإعراض عما يهدي إليه معاملة من يدعي أنه جعل سدى من غير حكمة، مقدماً الجار إشارة إلى أن دلالته في العظم بحيث تتلاشى عندها كل آية، وكذا غيره مما ان هكذا على نحو
﴿وما نريهم من آية إلا وهي أكبر من أختها﴾ [الزخرف: ٤٨] :
﴿إن في ذلك﴾ أي الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع
﴿لآيات﴾ أي دلالات واضحات على قدرة فاعله وحكمته.
68
ولما كان هذا المعنى مع كونه دقيقاً يدرك بالتأمل قال:
﴿لقوم﴾ أي رجال أو في حكمهم، لهم قوة وجد ونشاط في القيام بما يجعل إليهم
﴿يتفكرون*﴾ أي يستعملون أفكارهم على القوانين المحررة ويجتهدون في ذلك.
ولما ذكر سبحانه الذكر والأنثى، المخلوقين من الأرض، وكانت السماء كالذكر للأرض التي خلق منها الإنسان، وكان خلقهما مع كونهما مخلوقين من غير شيء أعجب من خلقه فهو أدل على القدرة، وكان خلق الأرض التي هي كالأنثى متقدماً على عكس ما كان في الإنسان، أتبعه ذكرهما بادئاً بما هو كالذكر فقال مشيراً - بعد ما ذكر من آيات الأنفس - إلى آيات الآفاق:
﴿من آياته﴾ أي الدالة على ذلك، ولما كان من العجب إيجاد الخافقين من العدم إيجاداً مستمراً على حالة واحدة، عبر بالمصدر فقال:
﴿خلق السماوات﴾ على علوها وإحكامها
﴿والأرض﴾ على اتساعها وإتقانها.
ولما كان من الناس من ينسب الخلق إلى الطبيعة، قال تعالى ذاكراً من صفات الأنفس ما يبطل تأثير الآفاق بأنفسها من غير خلقه وتقديره، وتكوينه وتدبيره:
﴿واختلاف ألسنتكم﴾ أي لغاتكم ونغماتكم وهيئاتها، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة، لا حد ولا رخاوة،
69
ولا لكنة ولا فصاحة، ولا إسهاب ولا وجازة، وغير ذلك من صفات النطق وأحواله، ونعوته وأشكاله، وأنتم من نفس واحدة، فلو كان الحكم للطبيعة لم يختلف لأنه لا اختيار لها مع أن نسبة الكل إليها واحدة.
ولما كان لون السماء واحداً، وألوان الأراضي يمكن حصرها، قال:
﴿وألوانكم﴾ أي اختلافاً مع تفاوته وتقاربه لا ضبط له مع وحدة النسبة، ولولا هذا الاختلاف ما وقع التعارف، ولضاعت المصالح، وفاتت المنافع، وطوي سبحانه ذكر الصور لاختلاف صور النجوم باختلاف أشكالها، والأراضي بمقادير الجبال والروابي وأحوالها، فلو كان الاختلاف لأجل الطبيعة فإما أن يكون بالنظر إلى السماء أو إلى الأرض، فإن كان للسماء فلونها واحد، وإن كان للأرض فلون أهل كل قطر غير مناسب للون أرضهم. وأما الألسنة فأمرها أظهر.
ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال:
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه
﴿لآيات﴾ أي دلالات عدة واضحة جداً على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار وبطلان ما يقوله أصحاب الطبائع من تلك الاحتمالات التي هي مع خفائها واهية، ومع بعدها مضمحلة متلاشية
70
﴿للعالمين*﴾ كلهم لا يختص به صنف منهم دون آخر من جن ولا إنس ولا غيرهم، وفي رواية حفص عن عاصم بكسر اللام حث للمخاطبين على النظر ليكونوا من أهل العلم، وفي قراءة الباقين بالفتح إيماء إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لو نطق الجماد لأخبر بمعرفته، ففيه إشارة إلى أنهم عدم، فلا تبكيت أوجع منه.
ولما ذكر المقلة والمظلة ومن فيهما، وبعض صفاتهم اللازمة، ذكر ما ينشأ عن كل من ذلك من الصفات المفارقة فقال:
﴿ومن آياته﴾ أي على ذلك وغيره من أنواع القدرة والعلم
﴿منامكم﴾ أي نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعاً.
ولما كان الليل محل السكن والراحة والنوم، ذكر ما جعل من نوم النهار أيضاً لأن ذلك أدل على الفعل بالاختبار فقال:
﴿بالّيل والنهار﴾ أي الناشئين عن السماوات والأرض باختلاف الحركات التي تنشأ إلا عن فاعل مختار وانقطاعكم بالنوم عن معاشكم وكل ما يهمكم وقيامكم بعد منامكم أمراً قهرياً لا تقدرون على الانفكاك عن واحد منهما أصلاً
﴿وابتغاؤكم﴾ أي طلبكم بالجد والاجتهاد
﴿من فضله﴾ بالمعاش فيهما، فالآية من الاحتباك: دل ذكر النوم على القيام منه، ودل
71
الابتغاء على الانقطاع عنه، حذف نهاية الأول وبداية الثاني
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم العالي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط، والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر، وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما، والجد في الابتغاء مع المفاوتة في التحصيل
﴿لآيات﴾ أي عديدة على القدرة والحكمة لا سيما البعث.
ولما كانت هذه الآيات في دلالتها على ما تشير إليه من البعث والفعل بالاختيار دقيقة لا يستقل العقل بها دون توقيف من الدعاة لأنه قد يسند النوم والابتغاء إلى العباد والا يتجاوز عن ذلك إلى الخالق إلا الأفراد من خلص العباد، وكان النائم يقوم صافي الذهن فارغ السر نشيط البدن. قال:
﴿لقوم يسمعون*﴾ أي من الدعاة النصحاء سماع من انتبه من نومه فجسمه مستريح نشيط وقلبه فارغ عن مكدر للنصح مانع من قبوله، أو المعنى: لقوم هم أهل للسمع بأن يكونوا قد تنبهوا من رقادهم، فرجعوا عن عنادهم، إشارة إلى أن من لم يتأمل في هذه الآيات فهو نائم لا مستيقظ. فهو غير متأهل لأن يسمع.
72
ولما ختم بالسمع آية جمعت آيات الأنفس والآفاق لكونها نشأت من أحوال البشر والخافقين، افتتح بالرؤية آية أخرى جامعة لهما لكونها ناشئة عنهما مع كونها أدل على المقصود جامعة بين
72
الترغيب والترهيب فقال:
﴿ومن آياته﴾ ولما كان لمعان البرق جديراً بالتماع البصر عند أول رؤية، وكان يتجدد في حين دون حين، عبر بالمضارع حاذفاً الدال على إرادة المصدر للدلالة على التجدد المعجب منه فقال:
﴿يريكم البرق﴾ أي على هيئات وكيفيات طالما شاهدتموها تارة تأتي يما يضر وتارة بما يسر، ولذلك قال معبراً بغاية الإخافة والإطماع لأن الغايات هي المقصودة بالذات:
﴿خوفاً﴾ أي للإخافة من الصواعق المحرقة
﴿وطمعاً﴾ أي وللاطماع في المياه الغدقة، وعبر بالطمع لعدم الأسباب الموصلة إليه.
ولما كان البرق غالباً من المبشرات بالمطر، وكان ما ينشأ عن الماء أدل شيء على البعث، أتبعه شرح ما أشار إليه به من الطمع فقال:
﴿وينزّل﴾ ولما كان إمساك الماء في جهة العلو في غاية الغرابة، قال محققاً للمراد بالإنزال من الموضع الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه
﴿من السماء ماء﴾.
ولما جعل سبحانه ذلك سبباً لتعقب الحياة قال:
﴿فيحيي به﴾ أي الماء النازل من السماء خاصة لأن أكثر الأرض لا تسقى بغيره
﴿الأرض﴾ أي بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان، ولما كانت الأرض ليس لها من ذاتها في الإنبات إلا العدم، وكان إحياؤها
73
به متكرراً، فكان كأنه دائم، وكان ذلك أنسب لمقصود السورة حذف الجار قائلاً:
﴿بعد موتها﴾ أي بيبسه وتهشمه
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم العالي القدر
﴿لآيات﴾ لا سيما على القدرة على البعث. ولما كان ذلك ظاهراً كونه من الله الفاعل بالاختيار لوقوعه في سحاب دون سحاب وفي وقت دون آخر وفي بلد دون آخر، وعلى هيئات من القوة والضعف والبرد والحر وغير ذلك من الأمر، وكان من الوضوح في الدلالة على البعث بمكان لا يخفى على عاقل قال:
﴿لقوم يعقلون*﴾.
ولما كان جميع ما مضى من الآيات المرئيات ناشئاً عن هذين الخلقين العظيمين المحيطين بمن أنزلت عليهم هذه الآيات المسموعات بياناً لمن أشكل عليه أمر الآيات المرئيات، ذكر أمراً جامعاً للكل وهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من العقل المختوم به ما قبل فقال:
﴿ومن آياته﴾ أي على تمام القدرة وكمال الحكمة.
ولما كانت هذه الآية في الثبات لا في التجدد، أتى بالحرف الدال على المصرف ليسلخ الفعل عن الاستقبال، وعبر بالمضارع لأنه لا بد من إخراجهما عن هذا الوضع فقال:
﴿أن تقوم﴾ أي تبقى على ما تشاهدون من الأمر العظيم بلا عمد
﴿السماء﴾ أفرد لأن السماء الأولى
74
لا تقبل النزاع لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ للكل لأنه جنس
﴿والأرض﴾ على ما لهما من الجسامة والثقل المقتضي للهبوط
﴿بأمره﴾ لا بشيء سواه.
ولما لم يبق في كمال علمه وتمام قدرته شبهة، قال معبراً بأداة التراخي لتدل - مع دلالتها على ما هي له - على العظمة، فقال دالاً على أن قدرته على الأشياء كلها مع تباعدها على حد سواء، وأنه لا فرق عنده في شمول أمره بين قيام الأحياء وقيام الأرض والسماء
﴿ثم إذا دعاكم﴾ وأشار إلى هوان ذلك الأمر عنده بقوله:
﴿دعوة من الأرض﴾ على بعد ما بينها وبين السماء فضلاً عن العرش، وأكد ذلك بكونه مثل لمح البصر أو هو أقرب فقال معبراً بأداة الفجاءة:
﴿إذا أنتم تخرجون*﴾ أي يتجدد لكم هذا الوصف بعد اضمحلالكم بالموت والبلى، ويتكرر باعتبار آحادكم من غير تلبث ولا مهلة أصلاً، إلا أن يترتب على الأفضل فالأفضل لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أنا أول من تنشق عنه الأرض» كما دعاكم منها أولاً إذا خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، وأعرى هذه مما ختم به الآيات السالفة تنبيهاً على أنها مثل الأولى قد انتهت في الظهور، ولا سيما بانضمامها إلى الأولى التي هي أعظم دال عليها إلى حد هو أضوأ من النور، كما تأتي الإشارة إليه في آية
«وهو أهون عليه».
75
ولما ذكر تصرفه في الظرف وبعض المظروف من الإنس والجن، ذكر قهره للكل فقال:
﴿وله﴾ أي وحده بالملك الأتم
﴿من في السماوات والأرض﴾ أي كلهم، وأشار إلى الملك بقوله:
﴿كلٌّ له﴾ أي وحده. ولما كان انقياد الجمع مستلزماً لانقياد الفرد دون عكسه جمع في قوله:
﴿قانتون*﴾ أي مخلصون في الانقياد ليس لأنفسهم ولا لمن سواه في الحقيقة والواقع تصرف بوجه ما إلا بإذنه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: مطيعون طاعة الإرادة وإن عصوا أمره في العبادة - نقله عنه البغوي وغيره ورجحه الطبري وهو معنى ما قلت.
ولما كان هذا معنى يشاهده كل أحد في نفسه مع ما جلى سبحانه من عرائس الآيات الماضيات، فوصل الأمر في الوضوح إلى حد عظيم قال:
﴿وهو﴾ أي لا غيره
﴿الذي يبدأ الخلق﴾ أي على سبيل التجديد كما تشاهدون، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال:
﴿ثم يعيده﴾ أي بعد أن يبيده.
ولما كان من المركوز في فطر جميع البشر أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه قال:
﴿وهو﴾ أي وذلك الذي ينكرونه من الإعادة
﴿أهون عليه﴾ خطاباً لهم بما الفوه وعقلوه ولذلك أخر الصلة
76
لأنه لا معنى هنا للاختصاص الذي يفيده تقديمها.
ولما كان هذا إثماً هو على طريق التمثيل لما يخفى عليهم بما هو جلي عندهم، وكل من الأمرين بالنسبة إلى قدرته على حد سواء لا شيء في علمه أجلى من آخر، ولا في قدرته أولى من الآخر، قال مشيراً إلى تنزيه نفسه المقدسة عما قد يتوهمه بعض الأغبياء من ذلك:
﴿وله﴾ أي وحده
﴿المثل الأعلى﴾ أي الذي تنزه عن كل شائبة نقص، واستولى على كل رتبة كمال، وهو أمره الذي أحاط بكل مقدور، فعلم به إحاطته هو سبحانه بكل معلوم، كما تقدم في البقرة في شرح المثل
﴿ألا له الخلق والأمر﴾ [الأعراف: ٥٤].
ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال:
﴿في السماوات والأرض﴾ اللتين خلقهما ولم تستعصيا عليه، فكيف يستعصي عليه شيء فيهما، وقد قالوا: إن المراد بالمثل هنا الصفة، وعندي أنه يمكن أن يكون على حقيقته تقريباً لعقولنا، فإذا أردنا تعرفه سبحانه في الملك مثلنا بأعلى ما نعلم من ملوكنا فنقول: الاستواء على العرش مثل للتدبير والتفرد بالملك كما يقال في ملوكنا: فلان جلس على سرير الملك، بمعنى: استقل بالأمر وتفرد بالتدبير وإن لم يكن هنا سرير ولا جلوس، وإذا ذكر بطشه سبحانه وأخذه لأعدائه في نحو قوله تعالى:
﴿يد الله فوق أيديهم﴾ [الفتح: ١٠]
﴿إن بطش ربك لشديد﴾ [البروج: ١٢] مثلناه بما لو قهر
77
سلطان أعدائه بحزمه وصحة تدبيره وكثرة جنوده فقلنا
«محق سيفه أعداءه» فأطلقنا سيفه على ما ذكر من قوته، وإذا قيل: تجري بأعيننا، ونحو ذلك علمنا أنه مثل ما نقول إذا رأينا ملكاً حسن التدبير لا يغفل عن شيء من أحوال رعيته فقلنا
«هو في غاية اليقظة» فأطلقنا اليقظة التي هي ضد النوم على حسن النظر وعظيم التدبير وشمول العلم، وهذه تفاصيل مما قدمت أنه مثله، وهو أمره المحيط الذي انجلى لنا به غيب ذاته سبحانه، وهكذا ما جاء من أمثاله نأخذ من العبارة روحها فنعلم أنه المراد، وأن ذلك الظاهر ما ذكر إلا تقريباً للأفهام النقيسة على ما نعرف من أعلى الأمثال، والأمر بعد ذلك أعلى مما نعلم، ولذلك قال تعالى:
﴿وهو﴾ أي وحده
﴿العزيز﴾ أي الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان
﴿الحكيم*﴾ أي الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره على التوصل إلى نقص شيء منه، ولا تتم حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث، بل هو محط الحكمة الأعظم ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير على ما نتعارفه وإلا لكان الباطل أحق من الحق وأكثر، فكان عدم هذا الموجود خيراً
78
ولما بان من هذا أنه المتفرد في الملك بشمول العلم وتمام القدرة وكمال الحكمة، اتصل بحسن أمثاله وإحكام مقاله وفعاله قوله:
﴿ضرب لكم﴾ أي بحكمته في أمر الأصنام وبيان إبطال من يشرك بها وفساد قوله بأجلى ما يكون من التقرير:
﴿مثلاً﴾ مبتدئاً
﴿من أنفسكم﴾ التي هي أقرب الأشياء إليكم، فأنتم لما تذكرون به أجدر بأن تفهموه.
ولما كان حاصل المثل أنه لا يكون مملوك كمالك، وكان التقرير أقرب إلى التذكير وأبعد عن التنفير، قال منكراً موبخاً مقرراً:
﴿هل لكم﴾ أي يا من عبدوا مع الله بعض عبيده
﴿من ما﴾ أي من بعض ما
﴿ملكت أيمانكم﴾ أي من العبيد أو الإماء الذين هم بشر مثلكم، وعم في النفي الذي هو المراد بالاستفهام بزيادة الجار بقوله:
﴿من شركاء﴾ أي في حالة من الحالات يسوغ لكم بذلك أن تجعلوا لله شركاء، ونبه على ما في إيجاد الرزق ثم قسمته بين الخلق وغير ذلك من شؤونه بقوله: التفاتاً بعد طول التعبير بالغيبة التي قد يتوهم معها بعد - إلى التلكم بالنون الدال مع القرب على العظمة ولذة الإقبال بالمخاطبة:
79
﴿فيما رزقناكم﴾ أي لما لنا من العظمة من مال أو جاه مع ضعف ملككم فيه.
ولما كانت الشركة سبباً لتساوي الشريكين في الأمر المشترك قال:
﴿فأنتم﴾ أي معاشر الأحرار والعبيد. ولما كان ربما توهم أن
«من شركاء» صفة لأولاد من سراريهم، قدم الصلة دفعاً لذلك فقال:
﴿فيه﴾ أي الشيء الذي وقعت فيه الشركة من ذلك الرزق خاصة لا غيره من نسب أو حسب ونحوهما أو خفة في بدن أو قلب أو طول في عمر ونحوها، وأما أولادهم من السراري فربما ساووهم في ذلك وغيره من النسب ونحوه، والعبيد ربما ساووهم في قوة البدن وطول العمر أو زادوا
﴿سواء﴾ ثم بين المساواة التي هي أن يكون حكم أحد القبيلين في المشترك على السواء كحكم الآخر لا يستبد أحدهما عن الآخر بشيء بقوله:
﴿تخافونهم﴾ أي معاشر السادة في التصرف في ذلك الشيء المشترك.
ولما كانت أداة التشبيه أدل، أثبتها فقال:
﴿كخيفتكم أنفسكم﴾ أي كما تخافون بعض من تشاركونه ممن يساويكم في الحرية والعظمة أن تتصرفوا في الأمر المشترك بشيء لا يرضيه وبدون إذنه، فظهر أن حالكم في عبيدكم مثل له فيمن أشركتموهم به موضح لبطلانه، فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم وهو أن يستوي عبيدكم معكم في
80
الملك فكيف ترضونه بخالقكم في هذه الشركاء التي زعمتموها فتسوونها به وهي من أضعف خلقه أفلا تستحيون؟.
ولما كان هذا المثال، في الذروة من الكمال، كان السامع جديراً بأن يقول: جل ألله! ما أعلى شأن هذا البيان! هل يبين كل شيء هكذا؟ فقال:
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا البيان العالي
﴿نفصل﴾ أي نبين، لأن الفصل هو الميز وهو البيان، وذلك على وجه عظيم - بما أشار إليه التضعيف مع التجديد والاستمرار:
﴿الآيات﴾ أي الدلالات الواضحات.
ولما كان البيان لا ينفع المسلوب قال:
﴿لقوم يعقلون*﴾ إشارة إلى أنهم إن لم يعملوا بمقتضى ذلك كانوا مجانين، لأن التمثيل يكشف المعاني بالتصوير والتشكيل كشفاً لا يدع لبساً، فمن خفي عليه لم يكن له تمييز.
ولما كان جوابهم قطعاً: ليس لنا شركاء بهذا الوصف، كان التقدير، فلم تتبعوا في الإشراك بالله دليلاً، فنسق عليه:
﴿بل﴾ وكان الأصل: اتبعتم، ولكنه أعرض عنهم، إيذاناً بتناهي الغضب للعناد بعد البيان، وأظهر الوصف الحامل لهم على ذلك تعميماً وتعليقاً للحكم به
81
فقال:
﴿اتبع﴾ أي بتكليف أنفسهم خلاف الفطرة الأولى
﴿الذين ظلموا﴾ أي وضعوا الشيء في غير موضعه فعل الماشي في الظلام
﴿أهواءهم﴾ وهو ما يميل إليه نفوسهم.
ولما كان اتباع الهوى قد يصادف الدليل، وإذا لم يصادف وكان من عالم رده عنه علمه قال:
﴿بغير علم﴾ إشارة إلى بعدهم في الضلال لأن الجاهل يهيم على وجهه بلا مرجح غير الميل كالبهيمة لا يرده شيء، وأما العالم فربما رده علمه.
ولما كان هذا ربما أوقع في بعض الأوهام أن هذا يغير إرادته سبحانه، دل بفاء السبب على أن التقدير: وهذا ضلال منهم بإرادة الله، فلما أساؤوا بإعراقهم فيه كانت عاقبتهم السوء والخذلان، لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى:
﴿فمن يهدي﴾ أي بغير إرادة الله، ولفت الكلام من مظهر العظمة إلى أعظم منه بذكر الاسم الأعظم لاقتضاء الحال له فقال:
﴿من أضل الله﴾ الذي له الأمر كله، ودل بواو العطف على أن التقدير: ليس أحد يهديهم لأنهم أبعدوا أنفسهم عن أسباب الهدى فبعدوا عن أسباب النصر لأنهم صاروا على جرف هار في كل أمورهم، فلذا حسن موضع تعقيبه بقوله:
﴿وما لهم﴾ وأعرق في النفي فقال:
﴿من ناصرين*﴾ أي من الأصنام ولا غيرها يخلصونهم مما هم فيه من
82
الخذلان وأسر الشيطان، ومما يسببه من النيران، ونفى الجميع دون الواحد لأن العقل ناصر لهم بما هو مهيأ له من الفهم واتباع دليل السمع لو استعملوه، أو لأنه ورد جواباً لنحو
﴿واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً لعلهم ينصرون﴾ [مريم: ٨١] أو للإشارة إلى أن تتبع الهوى لا ينفع في تلافي أمره إلا أعوان كثيرون ودل على نفي الواحد
﴿لا تجزي نفس عن نفس﴾ [البقرة: ١٢٣]، و
﴿أن الكافرين لا مولى لهم﴾ [محمد: ١١] و
﴿فما له من قوة ولا ناصر﴾ [الطارق: ١٠] في أمثالها.
ولما تحررت الأدلة، وانتصبت الأعلام، واتضحت الخفايا، وصرحت الإشارات، وأفصحت ألسن العبارات، أقبل على خلاصة الخلق، إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، فقال مسبباً عن ذلك ممثلاً لإقباله واستقامته وثباته:
﴿فأقم وجهك﴾ أي قصدك كله
﴿للدين﴾ أي نصباً بحيث تغيب عما سواه، فلا تلتفت عنه أصلاً فلا تنفك عن المراقبة، فإن من اهتم بشيء سدد إليه نظره، وقوم له وجهه.
ثم عرض بجلافة أهل الضلال وغشاوتهم، وكثافتهم وغباوتهم، وجمودهم وقساوتهم، بقوله:
﴿حنيفاً﴾ أي حال كونك ميالاً مع الدليل هيناً ليناً نافذ الصبر نير البصيرة ساري الفكر سريع الانتقال طائر الخاطر،
83
ثم بين أن هذا الأمر في طبع كل أحد وإن كانوا فيه متفاوتين كما تراهم إذا كانوا صغاراً أسهل شيء انقياداً، ولكنه لما يكشف لهم الحال في كثير من الأشياء عن أن انقيادهم كان خطأ يصيرون يدربون أنفسهم على المخالفة دائماً حتى تصير لبعضهم طبعاً تجريبياً فيصير أقسى شيء وأجمده بعد أن كان أسهل شيء وأطوعه، وأكثر ما يكون هذا من قرناء السوء الذين يقولون ما لا يفعلون، ولهذا نهى أن يوعد الطفل بما لا حقيقة له: روى أحمد وابن أبي الدنيا من طريق الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال المنذري: ولم يسمع منه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«من قال لصبي: تعال هاك! ثم لم يعطه فهي كذبة»، ولأبي داود والبيهقي وابن أبي الدنيا عن مولى عبد الله بن عامر - قال ابن أبي الدنيا: زياد عن عبد الله بن عامر - أن أمه رضي الله عنها قالت له: تعالَ أعطيك، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمراً، فقال: أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة»، فقال مبيناً لهم صحة دينه بأمر هو في
84
أنفسهم، كما بين بطلان دينهم بأمر هو في أنفسهم:
﴿فطرت الله﴾ أي الزم فطرة الملك الذي لا رادَّ لأمره، وهي الخلقة الأولى التي خلق عليها البشر والطبع الأول، وقال الغزالي في آخر كتاب العلم من الإحياء في بيان العقل في هذه الآية: أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله تعالى بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه، أعني أنها كالمتضمنة فيه لقرب استعداده للإدراك - انتهى، ثم أكد ذلك بقوله:
﴿التي فطر الناس﴾ أي كل من له أهلية التحرك
﴿عليها﴾ كلهم الأشقياء والسعداء، وهي سهولة الانقياد وكرم الخلق الذي هو في الصورة فطرة الإسلام، وتحقيق ذلك أن المشاهد من جميع الأطفال سلامة الطباع وسلاسة الانقياد لظاهر الدليل، ليس منهم في ذلك عسر كما في الكبار إن تفاوتوا في ذلك، فالمراد بالفطرة قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه، كما تجد الأخرس يدرك أمر المعاد إدراكاً بيناً، وله فيه ملكة راسخة، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد بن منيع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
85
«كل مولود يولد على الفطرة» - وفي رواية للبخاري:
«ما من مولود إلا يولد على الفطرة - فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها» فلذلك الجدع والوسم وشق الأذن ونحو ذلك مثالٌ للأخلاق التي يتعلمها الطفل ممن يعامله بها من الغش والكذب وغير ذلك، وكذا حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في مسلم في صفة النار والنسائي في فضائل القرآن وأبي داؤد الطالسي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي» حنفاء كلهم
«وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وآمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانه» ولكن الشيطان لا يتمكن إلا بإقدار الله له في الحال بما يخلق في باطن المخذول من الباعث وفي الماضي من الطبائع التي هيأه بها لمثل ذلك كما أشار إليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتفق عليه في الصحيح عن علي رضي الله تعالى عنه: «
86
اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وآية سبحان
﴿كل يعمل على شاكلته﴾ [الإسراء: ٨٤] وذلك أنه لما أخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله تعالى قد كتب أهل الجنة وأهل النار، فلا يزاد فيهم ولا ينقص، قالوا: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فالكتاب حجة عليهم، لأن مبناه على أن فلاناً من أهل النار لكونه لم يعمل كذا وكذا، فأرادوا أن يجعلوه حجة لهم فاعلموا أن في ذلك أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن هو العلة الموجبة في حكم الربوبية وهو العلم، وظاهر هو السمة اللازمة في حق العبودية وهو العمل، وهو أمارة مخيلة غير مفيدة حقيقة العلم، عولموا بذلك ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم، والخوف والرجاء مدرجتا العبودية ليستكملوا بذلك صفة الإيمان، ونظير ذلك أمران: الرزق المقسوم مع الأمر بالمكسب، والأجل المحتوم مع المعالجة بالطب، فالمغيب فيهما علة موجبة والظاهر سبب مخيل، وقد اصطلح خواصهم وعوامهم على أن الظاهر منهما لا يترك بالباطن - ذكر معناه الرازي في اللوامع عن الخطابي.
ولما كانت سلامة الفطرة الأولى أمراً مستمراً، قال:
﴿لا تبديل﴾
87
ولعظم المقام كرر الاسم الأعظم فقال:
﴿لخلق الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له، لا يقدر أحد أن يجعل طفلاً في أول أمره خبيث الفطرة لا ينقاد لما يقاد إليه ولا يستسلم لمن يريبه، وكلما كبر وطعن في السن رجع لما طبع عليه من كفر أو إيمان، أو طاعة أو عصيان، أو نكر أو عرفان، قليلاً قليلاً، حتى ينساق إلى ذلك عند البلوغ أو بعده، فإن مات قبل ذلك الجوزي بما كان الله يعلمه منه أنه يعمله طبعياً ويموت عليه كالغلام الذي قتله الخضر عليه السلام صح الخبر بأنه طبع على الكفر، ولا يعذب بما يكون عارضاً منه ويعلم أنه سيكون لو كان كأبوي الغلام لما وقع التصريح به من أنه لو عاش لأرهقهما ظغياناً وكفراً، فقد علم منهما الكفر حينئذ فلم يؤاخذا به لأنه عارض لا طبعي، فالعبرة بالموت، ومن طبع على شيء لم يمت على غيره، فحقق هذا تعلم أنه لا تنافي بين شيء من النصوص لا من الكتاب ولا من السنة - والله الهادي.
ولما كان الميل مع الدليل كيفما مال أمراً لا يكتنه قدره ولا ينال إلا بتوفيق من الله، أشار إلى عظمته بقوله:
﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم وهو الاهتزاز للدليل واتباع ما يشير إليه ويحث عليه
88
﴿الدين القيِّم﴾ الذي لا عوج فيه
﴿ولكن أكثر الناس﴾ قد تدربوا في اتباع الأهوية لما تقدم من الشبه فصاروا بحيث
﴿لا يعلمون﴾ أي لا علم لهم أصلاً حتى يميزوا الحق من الباطل لما غلب عليهم من الجفاء.
89
ولما كان من الناس من منّ الله عليه بأن كان في هذا الميدان، وسمت همته إلى مسابقة الفرسان، فلما رأى أنه لم يلتفت إليه، ولم يعول أصلاً عليه، كادت نفسه تطير، وكانت عادة القوم أن يخاطبوا القوم لمخاطبة رئيسهم تعظيماً له وحثاً لهم على التحلي بما خص به، جُبرت قلوبهم وشرحت صدورهم فبينت لهم حال من ضمير
«أقم» أو من العامل في
«فطرت» إعلاماً بأنهم مرادون بالخطاب، مشار إليهم بالصواب، فقال:
﴿منيبين﴾ أي راجعين مرة بعد مرة بمجاذبة النفس والفطرة الأولى
﴿إليه﴾ تعالى بالنزوع عما اكتسبتموه من رديء الأخلاق إلى تلك الفطرة السليمة المنقادة للدليل، الميالة إلى سواء السبيل.
ولما لم يكن بعد الرجوع إلى المحبة إلا الأمر بلزومها خوفاً من الزيغ عنها دأب المرة الأولى. قال عاطفاً على
﴿فأقم﴾ :
﴿واتقوه﴾ أي خافوا أن تزيغوا عن سبيله يسلمكم في أيدي أولئك المضلين، فإذا
89
خفتموه فلزمتموها كنتم ممن تخلى عن الرذائل
﴿وأقيموا الصلاة﴾ تصيروا ممن تحلى بالفضائل - هكذا دأب الدين أبداً تخلية ثم تحلية: أول الدخول إلى الإسلام التنزيه، وأول الدخول في القرآن الاستعاذة، وهو أمر ظاهر معقول، مثاله من أراد أن يكتب في شيء إن مسح ما فيه من الكتابة انتفع بما كتب، وإلا أفسد الأول ولم يقرأ الثاني - والله الموفق.
ولما كان الشرك من الشر بمكان ليس هو لغيره، أكد النهي عنه بقوله:
﴿ولا تكونوا﴾ أي كوناً ما
﴿من المشركين﴾ أي لا تكونوا ممن يدخل في عدادهم بمواددة أو معاشرة أو عمل تشابهونهم فيه فإنه
«من تشبه بقوم فهو منهم» وهو عام في كل شرك سواء كان بعبادة صنم أو نار أوغيرهما، أو بالتدين بما يخالف النصوص من أقوال الأحبار والرهبان وغير ذلك.
ولما كانوا يظنون أنهم على صواب، نصب لهم دليلاً على بطلانه بما لا أوضح منه، ولا يمكن أحداً التوقف فيه، وذلك أنه لا يمكن أن يكون الشيء متصفاً بنفي شيء وإثباته في حالة واحدة فقال مبدلاً:
﴿من الذين فرقوا﴾ لما فارقوا
﴿دينهم﴾ الذي هو الفطرة الأولى، فعبد كل قوم منهم شيئاً ودانوا ديناً غير دين من سواهم، وهو معنى
﴿وكانوا﴾ أي بجهدهم وجدهم في تلك المفارقة المفرقة
﴿شيعاً﴾
90
أي فرقاً متحالفين، كل واحدة منهم تشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفر بعضهم بعضاً واستباحوا الدماء والأموال، فعلم قطعاً أنهم كلهم ليسوا على الحق.
ولما كان هذا أمراً يتعجب من وقوعه، زاده عجباً بقوله استئنافاً:
﴿كل حزب﴾ أي منهم
﴿بما لديهم﴾ أي خاصة من خاص ما عندهم من الضلال الذي انتحلوه
﴿فرحون*﴾ طناً منهم أنهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم.
ولما حصل من هذا القطع من كل عاقل أن أكثر الخلق ضال، فكان الحال جديراً بالسؤال، عن وجه الخلاص من هذا الضلال، أشير إليه أنه لزوم الاجتماع، وبين ذلك في جملة حالية من فاعل
«فرحون» فقال تعالى:
﴿وإذا﴾ وكان الأصل: مسهم، ولكنه قيل لأنه أنسب بمقصود السورة من قصر ذلك على الإنسان كما هي العادة في أكثر السور أو غير ذلك من أنواع العالم:
﴿مس الناس﴾ تقوية لإرادة العموم إشارة إلى كل من فيه أهلية النوس وهو التحرك، من الحيوانات العجم والجمادات لو نطقت ثم اضطربت لتوجهت إليه سبحانه ولم تعدل عنه كما أنها الآن كذلك بألسنة أحوالها، فهذا هو الإجماع الذي لا يتصور معه نزاع
91
﴿ضر دعوا ربهم﴾ أي الذي لم يشاركه في الإحسان إليهم أحد في جميع مدة مسهم بذلك الضر - بما أشار إليه الظرف حال كونهم
﴿منيبين﴾ أي راجعين من جميع ضلالاتهم التي فرقتهم عنه
﴿إليه﴾ علماً منهم بأنه لا فرج لهم عند شيء غيره، هذا ديدن الكل لا يخرم عنه أحد منهم في وقت من الأوقات، ولا في أزمة من الأزمات، قال الرازي في اللوامع في أواخر العنكبوت: وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء.
ولما كان كل واقع في شدة مستبعداً كل استبعاد الخلاص منها قال:
﴿ثم﴾ بأداة العبد
﴿إذا أذاقهم﴾ مسنداً الرحمة إليه تعظيماً للأدب وإن كان الكل منه. ولما كان السياق كله للتوحيد، فكانت العناية باستحضار المعبود باسمه وضميره أتم قال:
﴿منه﴾ مقدماً ضميره دالاً بتقديم الجار على الاختصاص وأن ذلك لا يقدر عليه غيره، وقال:
﴿رحمة﴾ أي خلاصاً من ذلك الضر، إشارة إلى أنه لو أخذهم بذنوبهم أهلكهم، فلا سبب لإنعامه سوى كرمه، ودل على شدة إسراعهم في كفران الإحسان بقوله معبراً بأداة المفاجأة:
﴿إذا فريق منهم﴾ أي طائفة هي أهل لمفارقة الحق
﴿بربهم﴾ أي المحسن إليهم دائماً، المجدد لهم
92
هذا الإحسان من هذا الضر
﴿يشركون*﴾ بدل ما لزمهم من أنهم يشكرون فعلم أن الحق الذي لا معدل عنه الإنابة في كل حال إليه كما أجمعوا في وقت الشدائد عليه، وأن غيره مما فرقهم ضلال، لا يعدله قبالاً ولا ما يعدله قبال.
ولما كان هذا الفعل مما لا يفعله إلا شديد الغباوة أو العناد، وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس، ربا بهم عن منزلة البله إلى ما الجنون خير منه تهكماً بهم فقال:
﴿ليكفروا بما﴾ ولفت الكلام إلى مظهر العظمة فقال:
﴿آتيناهم﴾ أي من الرحمة التي من عظمتها أنه لا يقدر عليها غيرنا أمناً من أن يقعوا في شدة اخرى فنهلكهم بما أغضبونا، أو توسلاً بذلك إلى أن نخلصهم متى وقعوا في أمثالها، فلما أضل عقولهم وأسفه آراءهم!.
ولما كان فعلهم هذا سبباً لغاية الغضب، دل عليه بتهديده ملتفتاً إلى المخاطبة بقوله:
﴿فتمتعوا﴾ أي بما أردتم فيه بالشرك من اجتماعكم عند الأصنام وتواصلكم بها وتعاطفكم، وسبب عن هذا التمتع قوله:
﴿فسوف تعلمون*﴾ أي يكون لكم بوعد لا خلف فيه علم فتعرفون إذا حل بكم البلاء وأحاط بكم جميعاً المكروه هل ينفعكم شيء
93
من الأصنام أو من اتخذتم عنده يداً بعبادتها ووافقتموه في التقرب إليها.
ولما بكتهم بقوله:
﴿هل لكم مما ملكت أيمانكم﴾ ووصل به ما تقدم أنه في غاية التواصل، عاد له ملتفتاً إيذاناً بالتهاون بهم إلى مقام الغيبة إبعاداً لهم عن جنابه حيث جلى لهم هذه الأدلة واستمروا في خطر إغضابه بقوله:
﴿أم أنزلنا﴾ بما لنا من العظمة
﴿عليهم سلطاناً﴾ أي دليلاً واضحاً قاهراً
﴿فهو﴾ أي ذلك السلطان لظهور بيانه
﴿يتكلم﴾ كلاماً مجازياً بدلالته وإفهامه، ويشهد
﴿بما﴾ أي بصحة الذي
﴿كانوا﴾ أي كوناً راسخاً
﴿به﴾ أي خاصة
﴿يشركون *﴾ بحيث لم يجدوا بدّاً من متابعته لتزول عنهم الملامة، وهذه العبارة تدل على أنهم لازموا الشرك ملازمة صيرته لهم خلقاً لا ينفك.
94
ولما بان بهذين المتعادلين أنه لم يضطرهم إلى الإشراك عرفٌ في أنفسهم مستمر دائم، ولا دليل عقلي ظاهر، ولا أمر من الله قاهر، فبان أنهم لم يتبعوا عقلاً ولا نقلاً، بل هم أسرى الهوى المبني على محض الجهل، وكان قد صرح بذلك عقب العديل الأول، لمح هنا، وترك التصريح به لإغناء الأول عنه، واستدل عليه بدليل خالفوا فيه العادة المستمرة، والدلالة الشهودية المستقرة، فقال عاطفاً على
﴿وإذا مس﴾ دالاً على خفة أحلامهم من وجه آخر غير الأول:
﴿وإذا﴾ معبراً
94
بأداة التحقيق إشارة إلى أن الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال:
﴿أذقنا﴾ وجرى الكلام على النمط الماضي في العموم لمناسبة مقصود السورة في أن الأمر كله له في كل شيء فقال:
﴿الناس رحمة﴾ أي نعمة من غنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا
﴿فرحوا بها﴾ أي فرح مطمئن بطر آمن من زوالها، ناسين شكر من أنعم بها، وقال:
﴿وإن﴾ بأداة الشك دلالة على أن المصائب أقل وجوداً، وقال:
﴿تصبهم﴾ غير مسند لها إليه تأديباً لعباده وإعلاماً بغزير كرمه
﴿سيئة﴾ أي شدة تسوءهم من قحط ونحوه.
ولما كانت المصائب مسببة عن الذنوب، قال منبهاً لهم على ذلك منكراً قنوطهم وهم لا يرجعون عن المعاصي التي عوقبوا بسببها:
﴿بما قدمت أيديهم﴾ أي من المخالفات، مسنداً له إلى اليد لأن أكثر العمل بها
﴿إذا هم﴾ أي بعد ما ساءهم وجودها مساءة نسوا بها ما خولوا فيه من النعم وجملوا له من ملابس الكرم
﴿يقنطون*﴾ أي فاجاؤوا البأس، مجددين له في كل حين من أحيان نزولها وإن كانوا يدعون ربهم في كشفها ويستعينونه لصرفها مع مشاهدتهم لضد ذلك في كلا الشقين في أنفسهم وغيرهم متكرراً، ولذلك أنكر عليه عدم
95
الرؤية دالاً بواو العطف أن التقدير: ألم يروا في أنفسهم تبدل الأحوال، قائلاً:
﴿أولم يروا﴾ أي بالمشاهدة والإخبار رؤية متكررة، فيعلموا علماً هو في ثباته كالمشاهد المحسوس، وعبر بالرؤية الصالحة للبصر والبصيرة لأن مقصود السورة إثبات الأمر كله لله، ولا يكفي فيه إلا بذل الجهد وإمعان النظر، والسياق لذم القنوط الذي يكفي في بقية المشاهدة لاختلاف الأحوال، بخلاف الزمر التي مقصودها الدلالة على صدق الوعد الكافي فيه مطلق العلم.
ولما كان في البسط والقبض جمع بين جلال وجمال، لفت الكلام بذكر الاسم الجامع فقال:
﴿أن الله﴾ بجلاله وعظمته
﴿يبسط الرزق﴾ أي يكثره
﴿لمن يشاء﴾ أي من عباده منهم ومن غيرهم
﴿ويقدر﴾ أي يضيق، وإن هذا شأنه دائماً مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة، ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد، فلو اعتبروا حال قبضه سبحانه لم يبطروا، ولو اعتبروا حال بسطه لم يقنطوا، بل كان حالهم الصبر في البلاء، والشكر في الرخاء، والإقلاع عن السيئة التي نزل بسببها القضاء، فقد عرف من حالهم أنهم متقيدون دائماً بالحالة الراهنة.
يغلطون في الأمور المتكررة المشاهدة، فلا عجب في تقيدهم في إنكار البعث بهذه الحياة الدنيا.
96
ولما لم يغن أحد منهم في استجلاب الرزق قوته وغزارة عقله ودقة مكره وكثرة حيله، ولا ضره ضعفه وقلة عقله وعجز حيلته، وكان ذلك أمراً عظيماً ومنزعاً مع شدة ظهوره وجلالته خفياً دقيقاً كما قال بعضهم:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه | وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً |
أشار سبحانه إلى عظمته بقوله، مؤكداً لأن عملهم في شدة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل من يظن تحصيلها إنما هو على قدر الاجتهاد في الأسباب:
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم من الإقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر، والأمن من زوال الحاضر من النعم مع تكرر المشاهدة للزوال في النفس والغير، واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار الآية
﴿لآيات﴾ أي دلالات واضحات على الوحدانية لله تعالى وتمام العلم وكمال القدرة، وأنه لا فاعل في الحقيقة إلا هو لكن
﴿لقوم﴾ أي ذوي همم وكفاية للقيام بما يحق لهم أن يقوموا فيه
﴿يؤمنون﴾ أي يوجدون هذا الوصف ويديمون تجديده كل وقت لما يتواصل عندهم
97
من قيام الأدلة، بإدامة التأمل والإمعان في التفكر، والاعتماد في الرزق على من قال
﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ [القمر: ١٧] أي من طالب علم فيعان عليه فلا يفرحون بالنعم إذا حصلت خوفاً من زوالها إذا أراد القادر، ولا يغتمون بها إذا زالت رجاء في إقبالها فضلاً من الرازق، لأن
«أفضل العبادة انتظار الفرج» بل هم بما عليهم من وظائف العبادة واجبها ومندوبها معرضون عما سوى ذلك، وقد وكلوا أمر الرزق إلى من تولى أمره وفرغ من قسمه وقام بضمانه، وهو القدير العليم.
ولما أفهم ذلك عدم الاكتراث بالدنيا لأن الاكتراث بها لا يزيدها، والتهاون بها لا ينقصها، فصار ذلك لا يفيد إلا تعجيل النكد بالكد والنصب، وكان مما تقدم أن السيئة من أسباب المحق، سبب عنه الإقبال على إنفاقها في حقوقها إعراضاً عنها وإيذاناً بإهانتها وإيقاناً بأن ذلك هو استيفاؤها واستثمارها واستنماؤها، فقال خاصاً بالخطاب أعظم المتأهلين لتنفيذ أوامره لأن ذلك أوقع في نفوس الأتباع، وأجدر بحسن القبول منهم والسماع:
﴿فآت﴾ يا خير الخلق!
﴿ذا القربى حقه﴾ بادئاً به لأنه أحق الناس بالبر، صلة للرحم وجوداً وكرماً
98
﴿والمسكين﴾ سواء كان ذا القربى أو لا
﴿وابن السبيل﴾ وهو المسافر كذلك، والحق الذي ذكر لهما الظاهر أنه يراد به النفل لا الواجب، لعدم ذكر بقية الأصناف، ودخل الفقير من باب الأولى.
ولما أمر بالإيتاء، رغب فيه فقال:
﴿ذلك﴾ أي الإيتاء العالي الرتبة
﴿خير﴾ ولما كان سبحانه أغنى الأغنياء فهو لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه لا رياء فيه، قال معرفاً أن ذلك ليس قاصراً على من خص بالخطاب بل كل من تأسى به نالته بركته
﴿للذين يريدون﴾ بصيغة الجمع، ولما كان الخروج عن المال في غاية الصعوبة، رغب فيه بذكر الوجه الذي هو أشرف ما في الشيء المعبر به هنا عن الذات وبتكرير الاسم الأعظم المألوف لجميع الخلق فقال:
﴿وجه الله﴾ أي عظمة الملك الأعلى، فيعرفون من حقه ما يتلاشى عندهم على كل ما سواه فيخلصون له
﴿وأولئك﴾ العالو الرتبة لغناهم عن كل فان
﴿هم﴾ خاصة
﴿المفلحون*﴾ أي الذين لا يشوف فلاحهم شيء من الخيبة، وأما غيرهم فخائب، أما إذا لم ينفق فواضح، وأما من أنفق على وجه الرياء بالسمعة والرياء فإنه خسر ماله، وأبقى عليه وباله، وأما من أنفق على وجه الرياء الحقيقي فقد صرح به تعريفاً بعظيم فحشه
99
صارفاً الخطاب عن المقام الشريف الذي كان مقبلاً عليه، تعريفاً بتنزه جنابه عنه، وبعد تلك الهمة العلية والسجايا الطاهرة النقية منه، إلى جهة من يمكن ذلك منهم فقال:
﴿وما آتيتم﴾ أي جئتم أي فعلتم - في قراءة ابن كثير بالقصر ليعم المعطي والآخذ والمتسبب، أو أعطيتم - في قراءة غيره بالمد
﴿من ربا﴾ أي مال على وجه الربا المحرم أو المكروه، وهو أن يعطي عطية ليأخذ في ثوابها أكثر منها، وكان هذا مما حرم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشريفاً له، وكره لعامة الناس. وعلى قراءة ابن كثير بالقصر المعنى: وما جئتم به من إعطاء بقصد الربا
﴿ليربوا﴾ أي يزيد ويكثر ذلك الذي أعطيتموه أو فعلتوه، أو لتزيدوا أنتم ذلك - على قراءة المدنيين ويعقوب بالفوقانية المضمومة، من: أربى
﴿في أموال الناس﴾ أي تحصل فيه زيادة تكون أموال الناس ظرفاً لها، فهو كناية عن أن الزيادة التي يأخذها المربي من أموالهم لا يملكها أصلاً
﴿فلا يربوا﴾ أي يزكوا وينمو
﴿عند الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وكل صفات الكمال، وكل ما لا يربو عند الله فهو غير مبارك بل ممحوق لا وجود له، فإنه إلى فناء وإن كثر
﴿يمحق الله الربا ويربي الصدقات﴾ [
100
البقرة: ٢٧٦].
ولما ذكر ما زيادته نقص، أتبعه ما نقصه زيادة فقال:
﴿وما آتيتم﴾ أي أعطيتم للإجماع على مدة لئلا يوهم الترغيب في أخذ الزكاة
﴿من زكاة﴾ أي صدقة، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة، أي تطهرون بها أموالكم من الشبه، وأبدانكم من مواد الخبث، وأخلاقكم من الغل والدنس. ولما كان الإخلاص عزيزاً، أشار إلى عظمته بتكريره فقال:
﴿تريدون﴾ أي بها
﴿وجه الله﴾ خالصاً مستحضرين لجلاله وعظمته وكماله، وعبر عن الذات بالوجه لأنه الذي يجل صاحبه ويستحي منه عند رؤيته وهو أشرف ما في الذات.
ولما كان الأصل: فأنتم، عدل به إلى صيغة تدل على تعظيمه بالالتفات إلى خطاب من بحضرته من أهل قربه وملائكته، لأن العامل يجب أن يكون له بعمله لسان صدق في الخلائق فكيف إذا كان من الخالق، وبالإشارة إليه بأداة البعد إعلاماً بعلو رتبته، وأن المخاطب بالإيتاء كثير، والعامل قليل وجليل، فقال:
﴿فأولئك﴾ ولعل إفراد المخاطب هنا للترغيب في الإيتاء بأنه لا يفهم ما لأهله حق فهمه سوى المنزل عليه هذا الوحي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿هم﴾ أي خاصة
﴿المضعفون*﴾ أي الذين ضاعفوا أموالهم في الدنيا بسبب ذلك الحفظ والبركة، وفي الآخرة بكثرة الثواب عند الله من عشرة أمثال إلى ما
101
لا حصر له كما يقال: مقو وموسر ومسمن ومعطش - لمن له قوة ويسار وسمن في إبله وعطش ونحو ذلك.
102
ولما وضح بهذا أنه لا زيادة إلا فيما يزيده الله، ولا خير إلا فيما يختاره الله، فكان ذلك مزهداً في زيادة الاعتناء بطلب الدنيا، بين ذلك بطريق لا أوضح منه فقال:
﴿الله﴾ أي بعظيم جلاله لا غيره
﴿الذي خلقكم﴾ أي أوجدكم على ما أنتم عليه من التقدير لا تملكون شيئاً.
ولما كان الرزق موزعاً بين الناس بل هو ضيق على كثرته عن كثير منهم، فكان رزق من تجدد - لا سيما إن كان ابناً لفقير - مستبعداً، أشار إليه بأداة البعد فقال:
﴿ثم رزقكم﴾ ولما كانت إماتة المتمكن من بدنه وعقله وقوته وأسباب نبله عجيبة، نبه عليها بقوله:
﴿ثم يميتكم﴾ ولما كان كل ذلك في الحقيقة عليه هيناً، وكان الإحياء بعد الإماتة إن لم يكن أهون من الإحياء أول مرة كان مثله وإن استبعدوه قال:
﴿ثم يحييكم﴾.
ولما استغرق بما ذكر جميع ذواتهم وأحوالهم، وكان الشريك
102
من قام بشيء من العمل أو المعمول فيه، وكان من المعلوم أنه ليس لشركائهم في شيء من ذلك نوع صنع، قال منكراً عليهم:
﴿هل من﴾ ولما كان إشراكهم بما أشركوا لم تظهر له ثمرة إلا في أنهم جعلوا لهم جزءاً من أموالهم، عبر بقوله:
﴿شركائكم﴾ أي الذين تزعمونهم شركاء
﴿من يفعل من ذلكم﴾ مشيراً إلى علو رتبته بأداة البعد وخطاب الكل. ولما كان الاستفهام الإنكاري التوبيخي في معنى النفي، قال مؤكداً له مستغرقاً لكل ما يمكن منه ولو قل جداً:
﴿من شيء﴾ أي يستحق هذا الوصف الذي تطلقونه عليه.
ولما لزمهم قطعاً أن يقولوا: لا وعزتك! ما لهم ولا لأحد منهم في شيء من ذلك من فعل، أشار إلى عظيم ما ارتكبوه بما أنتجه هذا الدليل، فقال معرضاً عنهم زيادة في التعظيم والعظمة، منزهاً لنفسه الشريفة منها على التنزيه ببعد رتبته الشماء من حالهم:
﴿سبحانه﴾ أي تنزه تنزهاً لا يحيط به الوصف من أن يكون محتاجاً إلى شريك، فإن ذلك نقص عظيم. ولما كان من أخبر بأنه فعل شيئاً أو يفعله كالإماتة والإحياء بالبعث وغيره لا يحول بينه وبينه المقاوم من شريك ونحوه، قال:
﴿وتعالى﴾ أي علواً لا تصل إليه العقول، كما دلت عليه صيغة التفاعل، وجرت قراءة حمزة والكسائي بالخطاب على الأسلوب الماضي، وأذنت
103
قراءة الباقين بالغيب بالإعراض للغضب في قوله معبراً بالمضارع إشارة إلى أن العاقل من شأنه أنه لا يقع منه شرك أصلاً، فكيف إذا كان على سبيل التجدد والاستمرار:
﴿عما يشركون*﴾ في أن يفعلوا شيئاً من ذلك أو يقدروا بنوع من أنواع القدرة على أن يحولوا بينه وبين شيء مما يريد ليستحقوا بذلك أن يعظموا نوع تعظيم، فنزهوه وعظموه بالبراءة من كل معبود سواه.
ولما بين لهم سبحانه من حقارة شركائهم ما كان حقهم به أن يرجعوا، فلم يفعلوا، أتبعه ما أصابهم به على غير ما كان في أسلافهم عقوبة لهم على قبيح ما ارتكبوا، استعطافاً للتوبة فقال:
﴿ظهر الفساد﴾ أي النقص في جميع ما ينفع الخلق
﴿في البر﴾ بالقحط والخوف ونحوهما
﴿والبحر﴾ بالغرق وقلة الفوائد من الصيد ونحوه من كل ما كان يحصل منه قبل. وقال البغوي: البر البوادي والمفاوز، والبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية، قال عكرمة: العرب تسمي المصر بحراً. ثم بين سببه بقوله:
﴿بما﴾ ولما أغنى السياق بدلالته على السيئات عن الافتعال قال:
﴿كسبت﴾ أي عملت
104
من الشر عملاً هو من شدة تراميهم إليه وإن كان على أدنى الوجوه بما أشار إليه تجريد الفعل كأنه مسكوب من علو، ومن شدة إتقان شره كأنه مسبوك.
ولما كان أكثر الأفعال باليد، أسند إليها ما يراد به الجملة مصرحاً بعموم كل ما له أهلية التحرك فقال:
﴿أيدي الناس﴾ أي عقوبة لهم على فعلهم. ولما ذكر علته البدائية، ثنى بالجزائية فقال:
﴿لنذيقهم﴾ أي بما لنا من العظمة في رواية قنبل عن ابن كثير بالنون لإظهار العظمة في الإذاقة للبعض والعفو عن البعض، وقراءة الباقين بالتحتانية على سنن الجلالة الماضي؛ وأشار إلى كرمه سبحانه بقوله:
﴿بعض الذي عملوا﴾ أي وباله وحره وحرقته، ويعفو عن كثير إما أصلاً ورأساً، وإما المعاجلة به ويؤخره إلى وقت ما في الدنيا، أو إلى الآخرة، والمراد الجزاء بمثل أعمالهم جزاء لها تعبيراً عن المسبب بالسبب الذي أتوه إلى الناس فيعرفوا إذا سلبوا المال مقدار ما ذاق منهم ذلك الذي سلبوه، وإذا قتل لهم حميم حرارة ما قاسى حميم ما قتلوه، ونحو ذلك مما استهانوه لما أتوه إلى غيرهم من الأذى البالغ وهم يتضاحكون ويعجبون
105
من جزعه ويستهزؤون غافلين عن شدة ما يعاني من أنواع الحرق هو ومن يعز عليه أمره، ويهمه شأنه، ويده قد غلها عن المساعدة العجز، وقصرها الضعف والقهر؛ ثم ثلث بالعلة الغائية فقال:
﴿لعلهم يرجعون*﴾ أي ليكون حالهم عند من ينظرهم حال من يرجى رجوعه عن فعل مثل ذلك خوفاً من أن يعاد لهم بمثل ذلك من الجزاء.
ولما كان الإنسان - لنقصه في تقيده بالجزئيات - شديد الوقوف مع العقل التجربي، وكان علمهم بأيام الماضين ووقائع الأولين كافياً لهم في العظة للرجوع عن اعتقادهم، والتبري من عنادهم، وكانوا - لما لم يروا آثارهم رؤية اعتبار، وتأمل وادكار، عدوا ممن لم يرها، فنبه سبحانه على ذلك بالاحتجاب عنهم بحجاب العزة، أمراً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يأمرهم بالسير للنظر، فقال تأكيداً لمعنى الكلام السابق نصحاً لهم ورفقاً بهم:
﴿قل﴾ أي لهؤلاء الذي لا همّ لهم إلا الدنيا، فلا يعبرون فيما ينظرون من ظاهر إلى باطن:
﴿سيروا﴾ وأشار إلى استغراق ديار المهلكين كل حد ما حولهم من الجهات كما سلف فقال:
﴿في الأرض﴾ فإن سيركم الماضي لكونه لم يصحبه عبرة عدم.
ولما كان المراد الانقياد إلى التوحيد، وكان قد ذكرهم بما أصابهم
106
على نحو ما أصاب به الماضين قال:
﴿فانظروا﴾ بفاء التعقيب، ولما كان ما أحله بهم في غاية الشدة، عرفهم بذلك، فساق مساق الاستفهام تخويفاً لهم من إصابتهم بمثله فقال:
﴿كيف﴾ ولما كان عذابهم مهولاً، وأمرهم شديداً وبيلاً، دل عليه بتذكير الفعل فقال:
﴿كان عاقبة﴾ أي آخر أمر
﴿الذين﴾ ولما كان المراد طوائف المعذبين، وكانوا بعض من مضى، فلم يستغرقوا الزمان، بعض فقال:
﴿من قبل﴾ أي من قبل أيامكم أذاقهم الله وبال أمرهم، وأوقعهم في حفائر مكرهم.
ولما كان هذا التنبيه كافياً في الاعتبار، فكان سامعه جديراً بأن يقول: قد تأملت فرأيت آثارهم عظيمة، وصنائعهم مكينة، ومع ذلك فمدنهم خاليه وبيوتهم خاوية، قد ضربوا بسوط العذاب، فعمهم الخسار والثياب، فما لهم عذبوا، فأجيب بقوله:
﴿كان أكثرهم مشركين*﴾ فلذلك أهلكناهم ولم تغنِ عنهم كثرتهم، وأنجينا المؤمنين وما ضرتهم قلتهم.
ولما كانوا مع كثرة مرورهم على ديارهم، ونظرهم لآثارهم، وسماعهم لأخبارهم، لم يتعظوا، أشير إلى أنهم عدم، بصرف الخطاب عنهم، وتوجيهه إلى السامع المطيع، فقال مسبباً عما مضى من إقامة الأدلة
107
والوعظ والتخويف:
﴿فأقم﴾ أي يا من لا يفهم عنا حق الفهم سواه، لأنا فضلناه على جميع الخلق
﴿وجهك﴾ أي لا تلفته أصلاً
﴿للدين القيِّم﴾ الذي لا عوج فيه بوجه، بل هو عدل كله، من التبري من الأوثان إلى التلبس بمقام الإحسان، فالزمه واجعله بنصب عينك لا تغفل عنه ولا طرفة عين، لكونه سهلاً فيما تسبب الإعانه عليه في الظاهر بالبيان الذي ليس معه خفاء، وفي الباطن بالجبل عليه حتى أنه ليقبله الأعمى والأصم والأخرس، ويصير فيه كالجبل رسوخاً.
ولما كان حفظ الاستقامة عزيزاً، أعاد التخويف لحفظ أهلها، فقال ميسراً الأمر بعدم استغراق الزمان بإثبات الجار، إشارة إلى الرضا باليسير من العمل ولو كان ساعة من نهار، بشرط الاتصال بالموت:
﴿من قبل﴾ وفك المصدر للتصريح فقال:
﴿أن يأتي يوم﴾ أي عظيم، وهو يوم القيامة، أو الموت، وأشار إلى تفرده سبحانه في الملك بقوله:
﴿لا مرد له﴾ ولفت الكلام في رواية قنبل من مظهر العظمة إلى أعظم منه لاقتضاء المقام ذلك وأظهر في رواية الباقين لئلا يتوهم عود الضمير إلى الدين فقال:
﴿من الله﴾ وإذا لم يرده هو لوعده بالإتيان به، وهو ذو الجلال
108
والإكرام، فمن الذي يرده.
ولما حقق إتيانه، فصل أمره مرغباً مرهباً، فقال:
﴿يومئذ﴾ أي إذ يأتي
﴿يصدعون*﴾ أي تتفرق الخلائق كلهم فرقة قد تخفى على بعضهم - بما أشار إليه الإدغام، فيقولون: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار.
ولما كان المعنى أنهم فريق في الجنة وفريق في السعير، بين ذلك ببيان عاقبة سببه في جواب من كأنه قال: إلى أين يتفرقون؟ قائلاً:
﴿من كفر﴾ أي منهم فعلم شيئاً
﴿فعليه﴾ أي لا على غيره
﴿كفره﴾ أي وباله، وعلى أنفسهم يعتدون ولها يهدمون فيصيرون في ذلك اليوم إلى النار التي هم بها مكذبون، ومن كان عليه كفره الذي أوبقه إلى الموت، فلا خلاص له فيما بعد الفوت، ووحد الضمير رداً له على لفظ من نصاً على أن كل واحد مجزيّ بعمله لا المجموع من حيث هو مجموع، وإفهاماً لأن الكفرة قليل وإن كانوا أكثر من المؤمنين، لأنهم لا مولى لهم، ولتفرق كلمتهم
﴿تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى﴾ [الحشر: ١٤] ولأنه لا اجتماع بين أهل النار ليتأسى بعضهم ببعض، بل كل منهم في شغل شاغل عن معرفة ما
109
يتفق لغيره
﴿ومن عمل صالحاً﴾ أي بالإيمان وما يترتب عليه، وأظهر ولم يضمر لئلا يتوهم عود الضمير على
﴿من كفر﴾ وبشارة بأن أهل الجنة كثير وإن كانوا قليلاً، لأن الله مولاهم فهو يزكيهم ويؤيدهم، وفي جمع الجزاء مع إفراد الشرط ترغيب في العمل من غير نظر إلى مساعد بأنه ينفع نفسه وغيره، لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وأقل ماينفع والديه وشيخه في ذلك العمل، وعبر بالنفس ليدل - بعد الدلالة على إرادة العامل ومن شايعه حتى كان بحكم اتحاد القصد إياه - على أن العمل الصالح يزكي النفوس ويطهرها من رذائل الأخلاق، فقال:
﴿فلأنفسهم﴾ أي خاصة أعمالهم ولهم خاصة عملهم الصالح ولأنفسهم
﴿يمهدون﴾ أي يسوون ويوطئون منازل في القبور والجنة، بل وفي الدنيا فإن الله يعزهم بعز طاعته، والآية من الاحتباك: حذف أولاً عدوانهم على أنفسهم لما دل عليه من المهد، وثانياً كون العمل خاصاً بهم لما دل عليه من كون الكفر على صاحبه خاصة، وأحسن من هذا أن
110
يقال: ذكر الكفر الذي هو السبب دليلاً على الإيمان ثانياً، والعمل الصالح الذي هو الثمرة ثانياً دليلاً على العمل السيء أولاً.
111
ولما فرغ من بيان تصدعهم، ذكر علته فقال:
﴿ليجزي﴾ أي الله سبحانه الذي أنزل هذه السورة لبيان أنه ينصر أولياءه لإحسانهم لأنه مع المحسنين، ولذلك اقتصر هنا على ذكرهم فقال:
﴿الذين آمنوا﴾ أي ولو على أدنى الوجوه
﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً لإيمانهم
﴿الصالحات﴾ ولما كانت الأعمال نعمة منه، فكان الجزاء محض إحسان، قال:
﴿من فضله﴾.
ولما كان تنعيمهم من أعظم عذاب الكافرين الذين كانوا يهزؤون بهم ويضحكون منهم، علله بقوله على سبيل التأكيد لدعوى من يظن أن إقبال الدنيا على العصاة لمحبة الله لهم:
﴿إنه لا يحب الكافرين*﴾ أي لا يفعل مع العريقين في الكفر فعل المحب، فلا يسويهم بالمؤمنين، وعلم من ذلك ما طوى من جزائهم، فالآية من وادي الاحتباك، وهو أن يؤتي بكلامين يحذف من كل منهما شيء ويكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كل على ما حذف من الآخر، فالتقدير هنا بعد ما ذكر من جزاء الذين آمنوا أنه يحب المؤمنين ويجزي الذين كفروا وعملوا
111
السيئات بعدله لأنه لا يحب الكافرين، فغير النظم ليدل مع دلالته كما ترى على ما حذف على أن إكرام المؤمنين هو المقصود بالذات، وهو بعينه إرغام الكافرين، وعبر في شق المؤمنين بالمنتهى الذي هو المراد من محبة الله لأنه أسرّ. وفي جانب الكافرين بالمبدأ الذي هو مجاز لأنه أنكأ وأضر.
ولما ختم في أول السورة الآيات الدالة على الوحدانية المستلزمة للبعث لأن به تمام ظهور الحكمة، وانكشاف غطاء القلوب عن صفات العظمة، بأن قيام السماء والأرض بأمره وأتبع ذلك ما اشتد التحامه به، وختمه ببعض الكافرين بعد ذكر يوم البعث، أتبعه ذكر ما حفظ به قيام الوجود، وهو الرياح، يجعلها سبباً في إدرار النعم التي منها ما هو أعظم أدلة البعث وهو النبات، وهي بجملتها دليل ذلك وسبب القرار في البر والسير في البحر الموصل لمنافع بعض البلاد إلى بعض، وبذلك انتظم الأمر لأهل الأرض، فاستعمل المؤمن منهم ما رزقه سبحانه من العقل في النظر في ذلك حتى أداه إلى شكره فأحبه، واقتصر الكافر على الدأب فيما يستجلب به تلك النعم ويستكثرها، فأبطره ذلك فأوصله إلى كفره فأبغضه، والرياح أيضاً أشبه شيء
112
بالناس، منها النافع نفعاً كبيراً، ومنها الضار ضراً كثيراً، فقال:
﴿ومن آياته﴾ أي الدلالات الواضحة الدالة علم كمال قدرته وتمام علمه الدال على أنه هو وحده الذي أقام هذا الوجود، وكما أنه أقامه فهو يقيم وجوداً آخر هو زبدة الأمر، ومحط الحكمة، وهو أبدع من هذا الوجود، يبعث فيه الخلق بعد فنائهم، ويتجلى لفصل القضاء بينهم، فيأخذ بالحق لمظلومهم من ظالمهم، ثم يصدعهم فيجعل فريقاً منهم في الجنة دار الإعانة والكرامة، وفريقاً في السعير غار الإهانة والملامة
﴿أن يرسل الرياح﴾ على سبيل التجدد والاستمرار، وهي ما عدا الدبور المشار في الحديث الشريف إلى الاستعاذة منها
«اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وقد تقدم من شرحي لها عند
﴿من يرسل الرياح بشراً﴾ في [النمل: ٦٣] ما فيه كفاية، وفي جمعها المجمع عليه هنا لوصفها بالجمع إشارة إلى باهر القدرة، فإن تحويل الريح الواحدة من جهة إلى أخرى أمر عظيم لا قدرة لغيره عليه في الفضاء الواسع، وكذا إسكانه، فكيف إذا كانت رياح متعاكسة، ففي إثارتها كذلك ثم إسكانها من باهر القدرة ما لا يعلمه إلا أولو البصائر
﴿مبشرات﴾ أي لكم بكل ما فيه نفعكم من المطر والروح وبرد الأكباد
113
ولذة العيش.
ولما كان التقدير: ليهلك بها من يشاء من عباده، أو ليدفع عنكم ما يحصل بفقدها من نقمته من الحر، وما يتبعه من انتشار المفسدات، واضمحلال المصلحات، وطواه لأن السياق لذكر النعم، عطف عليه قوله مثبتاً اللام إيضاحاً للمعطوف عليه:
﴿وليذيقكم﴾ وأشار إلى عظمة نعمة بالتبعيض في قوله:
﴿من رحمته﴾ أي نعمه من المياه العذبة والأشجار الرطبة، وصحة الأبدان، وخصب الزمان، وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها، ولا يتصورها حق تصورها إلا من فقد الرياح، من وجود الروح وزكاء الأرض وإزالة العفونة من الهواء والإعانة على تذرية الحبوب وغير ذلك، وأشار إلى عظمة هذه النعمة وإلى أنها صارت لكثرة الإلف مغفولاً عنها بإعادة اللام فقال:
﴿ولتجري الفلك﴾ أي السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها.
ولما أسند الجري إلى الفلك نزعه منها بقوله:
﴿بأمره﴾ أي بما يلائم من الرياح اللينة، وإذا أراد أعصفها فأغرقت، أو جعلها متعاكسة فحيرت ورددت، حتى يحتال الملاحون بكل حيلة على إيقاف
114
السفن لئلا تتلف.
ولما كان كل من مجرد السير في البحر والتوصل به من بلد إلى بلد نعمة في نفسه، عطف على
﴿لتجري﴾ قوله، منبهاً بإعادة اللام إيضاحاً للمعطوف عليه على تعظيم النعمة:
﴿ولتبتغوا﴾ أي تطلبوا طلباً ماضياً بذلك السير، وعظم ما عنده بالتبعيض في قوله:
﴿من فضله﴾ مما يسخر لكم من الريح بالسفر للمتجر من بلد إلى بلد والجهاد وغيره
﴿ولعلكم﴾ أي ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم
﴿تشكرون*﴾ ما أفاض عليكم سبحانه من نعمه، ودفع عنكم من نقمه.
ولما كان التقدير: فمن أذاقه من رحمته، ومن كفر أنزل عليه من نقمته، وكان السياق كله لنصر أوليائه وقهر أعدائه، وكانت الرياح مبشرات ومنذرات كالرسل، وكانت موصوفة بالخير كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها
«فلرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يلقاه جبريل عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة» وكانت في كثرة منافعها وعمومها إن كانت نافعة، ومضارها إن كانت ضارة، أشبه شيء بالرسل في إنعاش قوم وإهلاك آخرين، وما ينشأ عنها كما
115
ينشأ عنهم.
كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه: البخاري في العلم، ومسلم في المناقب
«مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت طائفة منها طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاء، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» ولما كان الأمر كذلك، عطف على قوله:
«ينصر من يشاء» وقوله:
﴿ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى﴾ أو على ما تقديره تسبيباً عن قوله:
﴿فأقم وجهك للدين القيم﴾ : فلقد أرسلناك بشيراً لمن أطاع بالخير، ونذيراً لمن عصى بالشر، قوله مسلياً لهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأتباعه، ولفت الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء سياق الانتقام لها، وأكد إشارة إلى أن الحال باشتداده
116
وصل إلى حالة اليأس، أو لإنكار كثير من الناس إرسال البشر:
﴿ولقد أرسلنا﴾ بما لنا من العزة.
ولما كانت العناية بالإخبار بأن عادته ما زالت قديماً وحديثاً على نصر أوليائه، قال معلماً بإثبات الجار أن الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، أو أن الكلام في خصوص الأمم المهلكة:
﴿من قبلك﴾ مقدماً له على
﴿رسلاً﴾ أوللتنبيه على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه، وقال:
﴿إلى قومهم﴾ إعلاماً بأن بأس الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد، وزاد في التسلية بالتذكير إشارة إلى شدة أذى القوم لأنبيائهم حيث لم يقل
«إلى قومها».
ولما كان إرسال الله سبباً لا محالة للبيان الذي لا لبس معه قال:
﴿فجاءوهم بالبينات﴾ فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين
﴿فانتقمنا﴾ أي فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة
﴿من الذين أجرموا﴾ لأجرامهم، وهو قطع ما أمرناهم بوصله اللازم منه وصل ما أمروا بقطعه، فوصلوا الكفر وقطعوا الإيمان، فخذلناهم وكان حقاً علينا قهر المجرمين، إكراماً لمن عادوهم فينا، وأنعمنا على الذين آمنوا فنصرناهم.
ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به، قدمه
117
تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال:
﴿وكان﴾ أي على سبيل الثبات والدوام
﴿حقاً علينا﴾ أي بما أوجبناه لوعدنا الذي لا خلق فيه
﴿نصر المؤمنين*﴾ أي العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة، فلم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر، فإن هذا من الحكمة التي لا ينبغي إهمالها، فليعتد هؤلاء لمثل هذا، وليأخذوا لذلك أهبته لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء؟ والآية من الاحتباك: حذف أولاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه.
118
ولما أقام سبحانه الدليل على البعث وإقامة الوجود بتصريفه الرياح كيف يشاء وأتبعه آية التسلية والتهديد، وكان عذاب المذكورين فيها بالريح أو ما هي سببه أو لها مدخل فيه، أتبع ذلك الإعلام بأنه مختص بذلك سبحانه تنبيهاً على عظيم آية الرياح للخص على تدبرها، مؤكداً لأمر البعث ومصرحاً به، فقال ثانياً الكلام عن مقام العظمة الذي اقتضته النقمة إلى الاسم الأعظم الجامع الذي نظره إلى النعمة أكثر من نظره إلى النقمة:
﴿الله﴾ أي وحده
﴿الذي يرسل﴾ مرة بعد أخرى لأنه المتفرد بالكمال فلا كفوء له:
﴿الرياح﴾ مضطربة
118
هائجة بعد أن كانت ساكنة، وفي قراءة الجمهور بالجمع خلافاً لابن كثير وحمزة والكسائي تنبيه على عظيم الصنع في كونه يفعل ما ذكره بأي ريح أراد
﴿فتثير سحاباً﴾ لم يكن له وجود.
ولما أسند الإثارة إلى الرياح، نزع الإسناد إليها في البسط والتقطيع فإنه لم يجعل فيه قوة شيء من ذلك ليعلم أن الكل فعله فقال:
﴿فيبسطه﴾ بعد اجتماعه
﴿في السماء﴾ أي جهة العلو.
ولما كان أمر السحاب في غاية الإعجاب في وجوده بعد أن لم يكن وأشكاله وألوانه وجميع أحواله في اجتماعه وافتراقه وكثافته وما فيه من مطر ورعد وبرق وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الاستفهام وإن كانوا قد عدوها هنا شرطية فقال:
﴿كيف﴾ أي كما
﴿يشاء﴾ أي في ناحية شاء قليلاً تارة كمسيرة ساعة أو يوم، وكثيراً أخرى كمسيرة أيام على أوضاع مختلفة تدلك قطعاً على أنه فعله وحده باختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها.
ولما كان المراد بذلك كونه على هيئة الاتصال، دل عليه بقوله:
﴿ويجعله﴾ أي إذا أراد
﴿كسفاً﴾ أي قطعاً غير متصل بعضها ببعض
119
اتصالاً يمنع نزول الماء
﴿فترى﴾ أي بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامٌ وفرج يا من أهلية الرؤية، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه
﴿الودق﴾ أي المطر المتقاطر القريب الواسع
﴿يخرج من خلاله﴾ أي السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال.
ولما كان سبحانه قد سبب عن ذلك سرور عباده لما يرجون من أثره وإن كانوا كثيراً ما يشاهدون تخلف الأثر لعوارض ينتجها سبحانه، قال مسبباً عن ذلك مشيراً بأداة التحقق إلى عظيم فضله وتحقق إنعامه:
﴿فإذا أصاب﴾ أي الله
﴿به من﴾ أي أرض من
﴿يشاء﴾ ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد أصلاً شيء بقوله:
﴿من عباده﴾ أي الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم، وهم جديرون بملازمة شكره، والخضوع لأمره، خاصاً لهم بقدرته واختياره، وبين خفتهم بإسراعهم إلى الاستبشار مع احتمال العاهات، جامعاً رداً على معنى
«من» أو على
«العباد» لأن الخفة من الجماعة أفحش فقال:
﴿إذا هم يستبشرون*﴾ أي يظهر عليهم البشر، وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين؛
120
ثم بين طيشهم وعجزهم بقوله:
﴿وإن﴾ أي والحال أنهم
﴿كانوا﴾ في الزمن الماضي كوناً متمكناً في نفوسهم، وبين رب يأسهم من استبشارهم دلالة على سرعة انفعالهم وكثرة تقلبهم بالجار، فقال:
﴿من قبل أن ينزل﴾ أي المطر بأيسر ما يكون عليه سبحانه
﴿عليهم﴾ ثم أكد عظم خفتهم وعدم قدرتهم بقوله:
﴿من قبله﴾ أي الاستبشار سواه من غير تخلل زمان يمكن أن يدعي لهم فيه تسبب في المطر
﴿لمبلسين*﴾ أي ساكتين على ما في أنفسهم تحيراً ويأساً وانقطاعاً، فلم يكن لهم على الإتيان بشيء من ذلك حيلة، ولا لمعبوداتهم صلاحية له باستقلال ولا وسيلة.
ولما انكشف بذلك الغطاء، وزاحت الشبه، أعرض سبحانه عنهم على تقدير أن يكون
«ترى» لمن فيه أهلية الرؤية إيذاناً بأنه لا فهم لهم ملتفتاً إلى خلاصة الخلق الصالح للتلقي عنه قائلاً مسبباً عن ذلك:
﴿فانظر﴾ ولما كان المراد تعظيم النعمة، وأن الرزق أكثر من الخلق، عبر بحرف الغاية إشارة إلى تأمل الأقصى بعد تأمل الأدنى فقال:
﴿إلى آثار﴾ ولما لم يكن لذلك سبب سوى سبق رحمته لغضبه قال:
﴿رحمت الله﴾ للجامع لمجامع العظة، وأظهر ولم يضمر تنبيهاً على
121
ما في ذلك من تناهي العظمة في تنوع الزروع بعد سقيا الأرض واهتزازها بالنبات واخضرار الأشجار واختلاف الثمار، وتكون الكل من ذلك الماء.
ولما كان هذا من الخوارق العظيمة، ولكنه قد تكرر حتى صار مألوفاً، نبه على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال:
﴿كيف يحيي﴾ أي هذا الأثر أو الله مرة بعد أخرى
﴿الأرض﴾ بإخراج ما ذكر منها.
ولما كانت قدرته على تجديد إحيائها دائة - على ما أشار إليه المضارع ودعا إليه مقصود السورة، أشار إلى ذلك أيضاً بترك الجار فقال:
﴿بعد موتها﴾ بانعدام ذلك.
ولما كان هذا دالاً على القدرة على إعادة الموتى ولا بد لأنه مثله سواء، فإن جميع ما لا ينبته الآدميون يتفرق في الأرض بعد كونه هشيماً تذروه الرياح، ويتفتت بحيث يصير تراباً، فإذا نزل عليه الماء عاد كما كان أو أحسن قال:
﴿إن ذلك﴾ أي العظيم الشأن الذي قدر على هذا
﴿لمحيي الموتى﴾ كلها من الحيوانات والنباتات، أي ما زال قادراً على ذلك ثابتاً له هذا الوصف ولا يزال
﴿وهو﴾ مع ذلك
122
﴿على كل شيء﴾ من ذلك وغيره
﴿قدير*﴾ لأن نسبة القدرة منه سبحانه إلى كل ممكن على حد سواء.
ولما كان تكرار مشاهدتهم لمثل هذا الاقتدار لا يفيدهم علماً بالله تعالى، دل على ذلك بقوله، لافتاً الكلام إلى سياق العظمة تنبيهاً على عظيم عفوه سبحانه مع تمام القدرة، مؤكداً له غاية التأكيد، تنبيهاً على أنه ليس من شأن العقلاء عدم الاستفادة بالمواعظ، معبراً بأداة الشك، تنبيهاً على أن إنعامه أكثر من انتقامه، مؤكداً بالقسم لإنكارهم الكفر:
﴿ولئن أرسلنا﴾ بعد وجود هذا الأثر الحسن
﴿ريحاً﴾ عقيماً
﴿فرأوه﴾ أي الأثر، ويجوز أن يكون الضمير للريح من التعبير بالسبب عن المسبب
﴿مصفراً﴾ قد ذبل وأخذ في التلف من شدة يبس الريح إما بالحر أو البرد
﴿لظلوا﴾ أي لداموا وعزتنا لها يجددون الكفر أبداً وإن كان
«ظل» معناه: دام نهاراً، وعبر بالماضي موضع المستقبل نحو
«ليظللن والله» تأكيداً لتحقيقه، ولعله عبر بالظلول لأن مدة النوم لا تجديد فيها للكفر، ولذلك أتى فيها بحرف التبعيض حيث قال:
﴿من بعده﴾ أي بعد اصفراره
﴿يكفرون*﴾ بيأسهم من روح الله وجحودهم لما أسلف إليهم من النعم بعد ما تكرر من تعرفه سبحانه
123
إليهم بالإحسان، بعد ما التقت حلقتا البطان، وكان وكان فلا هم عند السراء بالرحمة شكروا، ولاعند الضراء بالنقمة صبروا، بل لم يزيدوا هناك على الاستبشار، ولا نقصوا هنا شيئاً من تجديد الكفر والإصرار، فلم يزالوا لعدم استبصارهم على الحالة المذمومة، ولم يسبقوا في إزاله النقم، ولا إنالة النعم، فكانوا أضل من النعم.
124
ولما كان هذا كله من حالهم في سرعة الحزن والفرح في حالتي الشدة والرخاء وإصرارهم على تجديد الكفر دليلاً على خفة أحلامهم، وسوء تدبرهم، فإنهم لا للآيات المرئية يعون، ولا للمتلوة عليهم يسمعون، سبب عن ذلك التعريف بأن أمرهم ليس لأحد غيره سبحانه وهو قد جعلهم أموات المعاني، فقال ممثلاً لهم بثلاثة أصناف من الناس، وأكده لأنهم ينكرون أن يكون حالهم كذلك والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد السعي في إسماعهم والجهد في ذلك:
﴿فإنك﴾ أي استدامتهم لكفرهم هذا تارة في الرخاء وتارة في الشدة وقوفاً مع الأثر من غير نظر ما إلى المؤثر وأنت تتلو عليهم آياته، وتنبههم على بدائع بيناته بسبب أنك
﴿لا تسمع الموتى﴾ أي ليس في قدرتك إسماع الذين لا حياة لهم، فلا نظر ولا سمع، أو موتى القلوب، إسماعاً
124
ينفعهم، لأنه مما اختص به سبحانه، وهؤلاء منهم من هم مثل الأموات لأن الله تعالى قد ختم على مشاعرهم
﴿ولا تسمع﴾ أي أنت في قراءة الجماعة غير ابن كثير
﴿الصم﴾ أي الذين لا سمع لهم أصلاً، وذكر ابن كثير الفعل من سمع ورفع الصم على أنه فاعل، فكان التقدير: فإن من مات أو مات قلبه ولا يسمع ولا يسمع الصم
﴿الدعاء﴾ إذا دعوتهم، ثم لما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلاً بحاسة بصره قال:
﴿إذا ولوا﴾ وذكر الفعل ولم يقل: ولت، إشارة إلى قوة التولي لئلا يظن أنه أطلق على المجانبة مثلاً، ولذا بنى من فاعله حالاً هي قوله:
﴿مدبرين*﴾.
ولما بدأ بفاقد حاسة السمع لأنها أنفع من حيث إن الإنسان إنما يفارق غيره من البهائم بالكلام، أتبعها حاسة البصر مشيراً بتقديم الضمير إلى أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجتهد في هدايتهم اجتهاد من كأنه يفعله بنفسه تدريباً لغيره في الاقتصاد في الأمور فقال:
﴿وما أنت بهاد العمي﴾ أي بموجد لهم هداية وإن كانوا يسمعون،
125
هذا في قراءة الجماعة غير حمزة، وجعله حمزة فعلاً مضارعاً مسنداً إلى المخاطب من هدى، فالتقدير: وما أنت تجدد هداية العمي
﴿عن ضلالتهم﴾ إذا ضلوا عن الطريق فأبعدوا وإن كان أدنى ضلال - بما أشار إليه التأنيث، وإن أتعبت نفسك في نصيحتهم، فإنهم لا يسلكون السبيل إلا وأيديهم في يدك ومتى غفلت عنهم وأنت لست بقيوم رجعوا إلى ضلالهم، فالمنفي في هذه الجملة في قراءة الجمهور ما تقتضيه الاسمية من دوام الهداية مؤكداً، وقراءة حمزة ما يقتضيه المضارع من التجدد وفي التي قبلها ما تقتضيه الفعليه المضارعة من التجدد ما دام مشروطاً بالإدبار، وفي الأولى تجدد السماع مطلقاً فهي أبلغ ثم التي بعدها، فممثول الصنف الأول من لا يقبل الخير بوجه ما مثل أبي جهل وأبيّ بن خلف، والثاني من قد يقارب مقاربة ما مثل عتبة بن ربيعة حين كان يقول لهم: خلو بين هذا الرجل وبين الناس، فإن أصابوه فهو ما أردتم وإلا فعزه عزكم، والثالث المنافقون، وعبر في الكل بالجمع لأنه أنكأ - والله الموفق.
ولما كان ذلك كناية عن إيغالهم في الكفر، بينه ببيان أن المراد موت القلب وصممه وعماه لا الحقيقي بقوله:
﴿إن﴾ أي ما
126
﴿تسمع إلا من يؤمن﴾ أي يجدد إيمانه مع الاستمرار مصدقاً
﴿بآياتنا﴾ أي فيه قابلية ذلك دائماً، فهو يذعن للآيات المسموعة، ويعتبر بالآيات المصنوعة، وأشار بالإفراد في الشرط إلى أن لفت الواحد عن رأيه أقرب من لفته وهو مع غيره، وأشار بالجمع في الجزاء إلى أن هذه الطريقة إن سلكت كثر التابع فقال:
﴿فهم﴾ أي فتسبب عن قبولهم لذلك أنهم
﴿مسلمون﴾ أي منقادون للدليل غاية الانقياد غير جامدين مع التقليد.
ولما دل سبحانه على قدرته على البعث بوجوه من الدلالات، تارة في الأجسام، وتارة في القوى، وأكثر على ذلك في هذه السورة من الحجج البينات، وختم لأنه لا يبصر هذه البراهين إلا مَنْ حسنت طويته، فلانت للأدلة عريكته، وطارت في فيافي المقادير بأجنحة العلوم فكرته ورويته، وصل بذلك دليلاً جامعاً بين القدرة على الأعيان والمعاني إبداء وإعادة، ولذلك لفت الكلام إلى الاسم الجامع ولفته إلى الخطاب للتعميم والاستعطاف بالتشريف، فقال مؤكداً إشارة إلى أن ذلك دال على قدرته على البعث ولا وهم ينكرونها، فكأنهم ينكرونه، فإنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر:
﴿الله﴾ أي الجامع لصفات
127
الكمال وحده.
ولما كان تعريف الموصول ظاهراً غير ملبس، عبر به دون اسم الفاعل فقال:
﴿الذي خلقكم﴾ أي من العدم. ولما كان محط حال الإنسان وما عليه أساسه وجبلته الضعف، وأضعف ما يكون في أوله قال:
﴿من ضعف﴾ أي مطلق - بما أشارت إليه قراءة حمزة وعاصم بخلاف عن حفص بفتح الضاد، وقوى بما أشارت إليه قراءة الباقين بالضم، أو من الماء المهين إلى ما شاء الله من الأطوار، ثم ما شاء الله من سن الصبي.
ولما كانت تقوية المعنى الضعيف مثا إحياء الجسد الميت قال:
﴿ثم جعل﴾ عن سبب وتصيير بالتطوير في أطوار الخلق بما يقيمه من الأسباب، ولما كان ليس المراد الاستغراق عبر بالجار فقال:
﴿من بعد﴾ ولما كان الضعف الذي تكون عنه القوة غير الأول، أظهر ولم يضمر فقال:
﴿ضعف قوة﴾ بكبر العين والأثر من حال الترعرع إلى القوة بالبلوغ إلى التمام في أحد وعشرين عاماً، وهو ابتداء سن الشباب إلى سن الاكتمال ببلوغ الأشد في اثنين وأربعين عاماً فلولا تكرر مشاهدة ذلك لكان خرق العادة في إيجاده بعد عدمه مثل إعادة الشيخ شاباً بعد هرمه
﴿ثم جعل من بعد قوة﴾ في
128
شباب تقوى به القلوب، وتحمى له الأنوف، وتشمخ من جرائه النفوس
﴿ضعفاً﴾ رداً لما لكم إلى أصل حالكم.
ولما كان بياض الشعر يكون غالباً من ضعف المزاج قال:
﴿وشيبة﴾ وهي بياض في الشعر ناشىء من برد في المزاج ويبس يذبل بهما الجسم، وينقص الهمة والعلم، وذلك بالوقوف من الثالثة والأربعين، وهو أول سن الاكتهال وبالأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين، وهو أول سن الشيخوخة، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى.
ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها، وكان من الناس من يطعن في السن وهو قوي، أنتج ذلك كله - ولا بد - التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة فقال:
﴿يخلق ما يشاء﴾ أي من هذا وغيره
﴿وهو العليم﴾ أي البالغ العلم فهو يسبب ما أراد من الأسباب لما يريد إيجاده أو إعدامه
﴿القدير*﴾ فلا يقدر أحد على إبطال شيء من أسبابه، فلذلك لا يتخلف شيء أراده عن الوقت الذي يريده فيه أصلاً، وقدم صفة العلم لاستتباعها للقدرة التي المقام لها، فذكرها إذن تصريح بعد تلويح، وعبارة بعد إشارة.
129
ولما ثبتت قدرته على البعث وغيره، عطف على قوله أول السورة
﴿ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون﴾ أو على ما تقديره: فيوم يريد موتكم تموتون، لا تستأخرون عن لحظة الأجل ولا تستقدمون، قوله:
﴿ويوم تقوم الساعة﴾ أي القيامة التي هي إعادة الخلائق الذين كانوا بالتدريج في ألوف من السنين لا يعلم مقدارها إلا الله تعالى في أقل من لمح البصر، ولذا سميت بالساعة إعلاماً بيسرها عليه سبحانه
﴿يقسم المجرمون﴾ أي العريقون في الإجرام جرياً منهم على ديدن الجهل في الجزم بما لم يحيطوا به علماً:
﴿ما﴾ أي إنهم ما
﴿لبثوا﴾ في الدنيا والبرزخ
﴿غير ساعة﴾ أي قدر يسير من ليل أو نهار.
ولما كان هذا أمراً معجباً لأنه كلام كذب بحيث يؤرث أشد الفضيحة والخزي في ذلك الجمع الأعظم مع أنه غير مغنٍ شيئاً، استأنف قوله تنبيهاً على أنه الفاعل له: فلا عجب
﴿كذلك﴾ أي مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها
﴿كانوا﴾ في الدنيا كوناً هو كالجبلة
﴿يؤفكون*﴾ أي يصرفون عن الصواب الذي منشأه تحري الصدق والإذعان للحق إلى الباطل الذي منشأه تحري المغالبة بصرفنا لهم،
130
فإنه لا فرق في قدرتنا وعلمنا بين حياة وحياة، ودار ودار، ولعله بنى الفعل للمجهول إشارة إلى سهولة انقيادهم إلى الباطل مع أيّ صارف كان.
131
ولما وصف الجاهلين، أتبعه صفة العلماء فقال:
﴿وقال الذين﴾ وعبر بقوله:
﴿أوتوا العلم﴾ تنبيهاً على شكر من آتاهموه، وبناه للمجهول إشارة إلى تسهيل أخذه عليهم من الجليل والحقير، وأتبعه ما لا يشرق أنواره ويبرز ثماره غيره، فقال:
﴿والإيمان﴾ إشارة إلى تفكرهم في جميع الآيات الواضحة والغامضة مقسمين كما أقسم أولئك محققين مقالهم مواجهين للمجرمين تبكيتاً وتوبيخاً مؤكدين ما أنكر أولئك:
﴿لقد لبثتم في كتاب الله﴾ أي في إخبار قضاء الذي له جميع الكمال الذي كتبه في كتابه الذي كان يخبر به الدنيا
﴿إلى يوم البعث﴾ كما قال تعالى:
﴿ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون﴾ [المؤمنون: ١٠٠] وأما تعيين مدة اللبث فأخفاه عن عباده، ولما أعلم القرآن أن غاية البرزخ البعث، وصدق في إخباره، سببوا عن ذلك قوله:
﴿فهذا﴾ أي فتسبب ما كنا نقوله وتكذبوننا فيه، نقول لكم الآن حيث لا تقدرون على تكذيب: هذا
﴿يوم البعث﴾ أي الذي آمنا به وكنتم
131
تنكرونه، قد كان طبق ما كنا نقوله لكم، فقد تبين بطلان قولكم، وكنتم تدعون الخلاص فيه بأنواع من التكاذيب قصداً للمغالبة، فما كنتم صانعين عند حضوره فاصنعوه الآن، تنبيهاً لهم على أنه لا فائدة في تحرير مقدار اللبث في الدنيا ولا في البرزخ، وإنما الفائدة في التصديق بما أخبر به الكتاب حيث كان التصديق نافعاً. ولما كان التقدير: قد أتى كما كنا به عالمين، فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن، عطف عليه قوله:
﴿ولكنكم كنتم﴾ أي كوناً هو كالجبلة لكم في إنكاركم له
﴿لا تعلمون*﴾ أي ليس لكم علم أصلاً، لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه، والتوصل إليه بأسبابه، فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك اليوم.
ولما كان قوله تعالى:
﴿فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ [النساء: ١٧٣] في أشكالها من الآيات دالاً على أن هذه الدنيا دار العمل، وأن دار الآخرة دار الجزاء، وأن البرزخ هو حائل بينهما، فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى، سبب عن ذلك قوله:
﴿فيومئذ﴾ أي إذ تقوم الساعة، وتقع هذه المقاولة
﴿لا ينفع﴾ أي نفعاً ما
﴿الذين ظلموا﴾ أي وضعوا الأمور في غير مواضعها
﴿معذرتهم﴾ وهي ما تثبت عذرهم، وهو إيساغ الحلية في وجه يزيل ما ظهر من
132
التقصير لأنهم لا عذر لهم وإن بالغوا في إثباته، والعبارة شديدة جداً من حيث كانت تعطي أن من وقع منه ظلم ما يوماً ما كان هذا حاله، وهي تدل على أنه تكون منهم معاذير، وترقق كثير، وتذلل كبير، فلا يقبل منه شيء - هذا على قراءة الجماعة بتأنيث الفعل وهي أبلغ من قراءة الكوفيين بتذكيره بتأويل العذر، لأنه إذا لم ينفع الاعتذار الكثير لم ينفع القليل الذي دل عليه المجرد ولا عكس، ويمكن أن يكون قراءة الجمهور متوجهة للكفرة وقراءة الكوفيين للعصاة من المؤمنين، فإن منهم من ينفعه الاعتذار فيعفى عنه، ويشهد لهذا ما ورد في آخر أهل النار خروجاً منها أنه يسأل في صرف وجهه عنها ويعاهد ربه سبحانه أنه لا يسأله غير ذلك، فإذا صرفه عن ذلك رأى شجرة عظيمة فيسأل أن يقدمه إلى ظلها فيقول الله: ألست أعطيت العهود والمواثيق أن لا تسال؟ فيقول: بلى! يارب! ولكن لا أكون أشقى خلقك - الحديث، وفيه
«وربه يعذره» فهذا قد قبل عذره
133
في الجملة، ولا يطلب منه أن يزيل العتب لأن ذلك لا يمكن إلا بالعمل، وقد فات محله، فأتت المغفرة من وراء ذلك كله.
ولما كان العتاب من سنة الأحباب قال:
﴿ولا هم﴾ أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها
﴿يستعتبون*﴾ أي يطلب منهم ظاهراً أوباطناً بتلويح أو تصريح أن يزيلوا ما وقعوا فيه مما يوجب العتب، وهو الموجدة عن تقصير يقع فيه المعتوب، لأن ذلك لا يكون إلا بالطاعة وقد فات محلها بكشف الغطاء لفوات الدار التي تنفع فيها الطاعات لكونها إيماناً بالغيب، والعبارة تدل على أن المؤمنين يعاتبون عتاباً يلذذهم.
ولما أبانت هذه السورة طرق الإيمان أيّ بيان، وألقت على وجوه أهل الطغيان غاية الخزي والهوان، وكان التقدير: لقد أتينا في هذه السورة خاصة بعد عموم ما في سائر القرآن بكل حجة لا تقوم لها الأمثال، ولم نبق لأحد عذراً ولا شيئاً من إشكال، لكونها ليس لها في وضوحها مثال، عطف عليه قوله صارفاً الكلام إلى مقام العظمة تقبيحاً لمخالفتهم لما يأتي من قبله وترهيباً من الأخذ مؤكداً لأنهم
134
ينكرون أن يكون في القرآن دلالة، ومن أقر منهم مع الكفر فكفره قائم مقام إنكاره:
﴿ولقد ضربنا﴾.
ولما كانت العناية فيها بالناس أكثر، قال:
﴿للناس﴾ فقدمهم في الذكر
﴿في هذا القرآن﴾ أي عامة هذه السورة وغيرها
﴿من كل مثل﴾ أي معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال، في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال.
ولما كان المختوم على مشاعرهم منهم لا يؤمنون بشيء. وكان ذلك من أدل دليل على علمه تعالى وقدرته، قال مقسماً تكذيباً لقولهم في الاقتراحات خاصاً من أهل العلم والإيمان رأسهم، دلالة على أن التصرف في القلوب من العظم بمكانة تجل عن الوصف، معبراً بالشرط إعلاماً بأنه سبحانه لا يجب عليه شيء، عاطفاً على نحو: فلم ينفعهم شيء من ذلك:
﴿ولئن جئتهم﴾ أي الناس عامة
﴿بآية﴾ أي دلالة واضحة على صدقك معجزة، غير ما جئتهم به مما اقترحوه ووعدوا الإيمان به مرئية كانت أو مسموعة
﴿ليقولن الذين كفروا﴾ أي حكمنا بكفرهم غلظة وجفاء، ودل على فرط عنادهم بقوله:
﴿إن﴾ أي ما ولما كان التخصيص بالغلظة أشد على النفس، ضم إليه أتباعه تسلية وبياناً لعظيم شقاقهم فقال:
﴿أنتم﴾ أي أيها الآتي بالآية وأتباعه
135
﴿إلا مبطلون*﴾ أي من أهل العرافة في الباطل بالإتيان بما لا حقيقة له في صورة ما له حقيقة، وأما الذين آمنوا فيقولون: نحن بهذه الآية مؤمنون.
ولما كان من أعجب العجب أن من يدعي العقل يصر على التكذيب بالحق، ولا يصغي لدليل، ولا يهتدي لسبيل، قال مستأنفاً في جواب من سأله: هل يكون مثل هذا الطبع؟ ومرغباً في العلم:
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الطبع العظيم جداً، ولما كان كون الشيء الواحد لناس هداية ولناس ضلالة جامعاً إلى العظمة تمام العلم والحكمة، صرف الخطاب عنها إلى الاسم الأعظم الجامع فقال:
﴿يطبع الله﴾ أي الذي لا كفوء له، فمهما أراد كان، عادة مستمرة، ونبه على كثرة المطبوع عليهم بجمع الكثرة فقال:
﴿على قلوب الذين لا يعلمون*﴾ أي لا يجددون - أي لعدم القابلية - العلم بأن لا يطلبوا علم ما يجهلونه مما حققه هذا الكتاب من علوم الدنيا والآخرة رضىً منهم بما عندهم من جهالات سموها دلالات، وضلالات ظنوها هدايات وكمالات.
ولما كان هذا مذكراً بعظيم قدرته بعد الإياس من إيمانهم، سبب عنه قوله:
﴿فاصبر﴾ أي على إنذارهم مع هذا الجفاء والرد بالباطل
136
والأذى، فإن الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا.
ولما كان قد تقدم إليه بأنه لا بد أن يظهر أمره على كل أمر، علله بقوله مؤكداً لأن إنفاذ مثل ذلك في محل الإنكار لعظم المخالفين وكثرتهم مظهراً غير مضمر لئلا يظن التقييد بحيثية الطبع:
﴿إن وعد الله﴾ أي الذي له الكمال كله في كل ما وعدك به الذي منه نصرك وإظهار دينك على الدين كله ونصر من قارب أتباعك في التمسك بكتاب من كتب الله وإن كان قد نسخ على من لا كتاب له
﴿حق﴾ أي ثابت جداً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان، وتأتي به مطايا الحدثان.
ولما كان التقدير: فلا تعجل، عطف عليه قوله:
﴿ولا يستخفنك﴾ أي يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره أو بتفتيرك عن التبليغ، بل كن بعيداً منهم بالغلظة والجفاء والصدع بمر الحق من غير محاباة ما، بعداً لا يطمعون معه أن يحتالوا في خفتك في ذلك بنوع احتيال، وقراءة
«يستحقنك» من الحق
137
معناها: أي لا يطلب منك الحق الذي هوالفصل العدل بينك وبينهم أي لا تطلبه أنت، فهو مثل: لا أرينك ههنا تنهى نفسك وأنت تريد نهيه عن الكون بحيث تراه، والنهي في قراءة الجماعة بالثقيلة أشد منه في رواية رويس عن يعقوب بالخفيفة، فقراءة الجماعة مصوبة إلى أصل الدين، أي لا تفعل معهم فعلاً يطمعهم في أن تميل إليهم فيه، وقراءة رويس إلى نحو الأموال فإنه كان يتألفهم بالإيثار بها، ولا شك أنه إذا آثرهم على أكابر المسلمين أطمعهم ذلك في أن يطلبوا أن يميل معهم، وما أفاد هذا إلا تحويل النهي، ولو قيل: لا تخفن معهم، لم يفد ذلك، ولا يقال عكس هذا من أن النهي في الثقيلة أخف لأنه نهي عن الفعل المؤكد فيبقى أصل الفعل.
وكذا ما صحبه تأكيد خفيف، وفي الخفيفة غير المؤكد تأكيداً خفيفاً فلا يبقى غير أصل الفعل فهو أبلغ، لأن النون لم تدخل إلا بعد دخول الناهي فلم تفد إلا قوة النهي لا قوة المنهي عنه - والله أعلم.
﴿الذين لا يوقنون﴾ أي أذى الذين لا يصدقون بوعودنا تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون فأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف، أو مكذبون بنصر الله لأوليائه المؤمنين ولمن قاربهم في التمسك بكتاب أصله صحيح، فهم يبالغون في العداوة والتكذيب حتى أنهم ليخاطرون في وعد الله بنصر الروم على فارس،
138
كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أن ذلك لا يكون، فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهار عن قريب علموا كذبهم عياناً، وعلموا - إن كان لهم علم - أن الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهو صاغرون، ويحشرون وهو داخرون،
﴿وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون﴾ [الشعراء: ٢٢٧]، فقد انعطف آخرها على أولها عطف الحبيب على الحبيب، واتصل به اتصال القريب بالقريب، والتحم التحام النسيب بالنسيب.
139
مقصودها إثبات الحكمة للكتاب اللازم منه حكمة منولة سبحانه في أقواله وأفعاله، وقصة لقمان المسمى به السورة دليل واضح على ذلك كأنه سبحانه لما أكمل ما أ) اد من أول القرآن إلى آخره براءة الني هي سورة عزو الروم، وكان سبحانه قد ابتدأ القرآن أم القرآن بنفي الريب عن هذا الكتاب، وأنه هدى للمتقين، واستدل على ذلك فيما تبعها من السور، ثن ابتدأ سورة يونس بعد سورة عزو الروم بإثبات حكمته، وأتبع ذلك دليله إلى أن ختم سورة الروم، ابتدأ دورا جديدا على وجه أضخم من الأول، فوصفه في أول هذه التالية للروم بما وصفه به في يونس التالية لغزو الروم، وذلك الوصف هو الحكمة وزاد أنه هدى وهداية للمحسنين، فهؤلاء أصحاب النهايات، والمتقون أصحاب البدايات.
140