تفسير سورة الزمر

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية إلا قوله تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾ الآية فمدنية وهي خمس وسبعون آية وألف ومائة واثنتان وتسعون كلمة وأربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف.

﴿ تنزيل الكتاب ﴾ أي : القرآن مبتدأ، وقوله تعالى :﴿ من الله ﴾ أي : المتصف بجميع صفات الكمال خبره أي : تنزيل الكتاب كائن من الله تعالى، وقيل : تنزيل الكتاب خبر مبتدأ مضمر تقديره هذا تنزيل الكتاب من الله ﴿ العزيز ﴾ أي : الغالب في ملكه ﴿ الحكيم ﴾ أي : في صنعه ففي ذلك دلالة على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات غني عن جميع الحاجات، فإن قيل : إن الله تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلاً ومنزلاً وهذا الوصف لا يليق إلا بالمحدث المخلوق. أجيب : بأن ذلك محمول على الصيغ والحروف.
﴿ إنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ أنزلنا عليك ﴾ يا أشرف الخلق خاصة بواسطة جبريل الملك ﴿ الكتاب ﴾ أي : القرآن الجامع لكل خير وقوله تعالى :﴿ بالحق ﴾ يجوز أن يتعلق بالإنزال أي : بسبب الحق وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب أي : ملتبسين بالحق أو ملتبساً بالحق والصدق والصواب، والمعنى : أن كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق يجب العمل به، وفي قوله تعالى :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب ﴾ تكرير تعظيم بسبب إبرازه في جملة أخرى مضافاً إنزاله إلى المعظم نفسه، فإن قيل : لفظ تنزيل يشعر بأنه تعالى أنزله نجماً نجماً على وفق المصالح على سبيل التدريج ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله دفعة واحدة. أجيب : بأن طريق الجمع أن يقال : إنا حكمنا حكماً كلياً بأنا نوصل إليك هذا الكتاب وهذا هو الإنزال ثم أوصلناه إليك نجماً نجماً على وفق المصالح.
ولما بين تعالى أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق أردفه ببيان بعض ما فيه من الحق والصدق، وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فقال سبحانه وتعالى :﴿ فاعبد الله ﴾ أي : الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك ﴿ مخلصاً له الدين ﴾ أي : ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر.
﴿ ألا لله ﴾ أي : الملك الأعلى وحده ﴿ الدين الخالص ﴾ أي : لا يستحقه غيره فإنه المنفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر، قال قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله، وقال مجاهد : الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي لأن قوله تعالى :﴿ فاعبد الله ﴾ عام وروي أن امرأة الفرزدق لما قربت وفاتها أوصت أن يصلي الحسن البصري عليها، فلما دفنت قال الحسن البصري : يا أبا فراس ما الذي أعددت لهذا الأمر ؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله، فقال الحسن هذا العمود فأين الطنب ؟ قال ابن عادل : فبين بهذا اللفظ الوجيز أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة أي : الانتفاع الكامل وإلا فهي ينتفع بها ولكن رأس العبادات الإخلاص في التوحيد واتباع الأوامر واجتناب النواهي.
﴿ والذين اتخذوا من دونه ﴾ أي : من دون الله ﴿ أولياء ﴾ وهم كفار مكة اتخذوا الأصنام وقالوا ﴿ ما نعبدهم ﴾ أي : لشيء من الأشياء ﴿ إلا ليقرّبونا إلى الله ﴾ أي : الذي له معاقد العز ومجامع العظمة ﴿ زلفى ﴾ وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم ومن خلق السماوات والأرض قالوا : الله فيقال : فما عبادتكم لهم قالوا : ليقربونا إلى الله زلفى أي : قربى، وهو اسم أقيم مقام المصدر كأنهم قالوا : إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريباً حسناً سهلاً وتشفع لنا عند الله تعالى.
﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿ يحكم بينهم ﴾ أي : وبين المسلمين ﴿ فيما هم فيه يختلفون ﴾ أي : من أمر الدين فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار ﴿ إن الله ﴾ أي : الملك القادر ﴿ لا يهدي ﴾ أي : لا يرشد ﴿ من هو كاذب ﴾ أي : في قوله إن الآلهة تشفع لهم مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وفي نسبة الولد إلى الله تعالى ﴿ كفار ﴾ أي : بعبادته غير الله تعالى.
﴿ لو أراد الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال ﴿ أن يتخذ ولداً ﴾ أي : كما قالوا اتخذ الرحمان ولداً ﴿ لاصطفى ﴾ أي : اختار ﴿ مما يخلق ما يشاء ﴾ أي : اتخذ ولداً غير من قالوا الملائكة بنات الله وعزير ابن الله والمسيح ابن الله، كما قال تعالى ﴿ لو أردنا أن نتخذ لهواً ﴾ أي : كما زعموا ﴿ لاتخذناه من لدنا ﴾ ( الأنبياء : ١٧ ) إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوقه ومن البين أن المخلوق لا يماثل الخالق فيقوم مقام الولد له.
ثم نزه نفسه سبحانه فقال تعالى شأنه ﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزيهاً له عن ذلك وعما لا يليق بطهارته ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي فقال تعالى :﴿ هو ﴾ أي : الفاعل لهذا الفعال القائل لهذه الأقوال ﴿ الله ﴾ أي : الجامع لجميع صفات الكمال ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال :﴿ الواحد ﴾ أي : في ملكه الذي لا شريك له ولا ولد ولا والد له ﴿ القهار ﴾ أي : الغالب الكامل القدرة فكل شيء تحت قدرته.
لما ثبتت هذه الصفات التي نفت أن يكون له شريك أو ولد وأثبتت له الكمال المطلق استدل على ذلك بقوله تعالى :﴿ خلق السماوات والأرض ﴾ أي : أبدعهما من العدم وقوله تعالى :﴿ بالحق ﴾ متعلق بخلق لأن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات الإلهية إما أن تكون فلكية أو أرضية، أما الفلكية فأقسام ؛ أحدها : خلق السماوات والأرض، وثانيها : اختلاف الليل والنهار كما قال تعالى ﴿ يكور ﴾ أي : يدخل ﴿ الليل على النهار ويكور النهار على الليل ﴾ قال الحسن : ينقص من الليل فيزيد في النهار وينقص من النهار فيزيد في الليل فما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل. قال البغوي : ومنتهى النقص تسع ساعات، ومنتهى الزيادة : خمس عشرة ساعة. وقال قتادة : يغشى هذا هذا كما قال تعالى ﴿ يغشي الليل النهار ﴾ ( الأعراف : ٥٤ ) وقال الرازي : إن النور والظلمة عسكران عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا وذلك يدل على أن كل واحد مغلوب مقهور ولابد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله تعالى انتهى. وورد في الحديث :«نعوذ بالله من الحور بعد الكور » أي : من النقصان بعد الزيادة وقيل : من الإدبار بعد الإقبال.
﴿ وسخر ﴾ أي : ذلل وأكره وقهر وكلف لما يريد من غير نفع للمسخر ﴿ الشمس والقمر ﴾ فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما ﴿ كلٌ ﴾ أي : منهما ﴿ يجري لأجل مسمى ﴾ أي : إلى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا، والمراد من هذا التسخير : أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون أي : الدولاب الذي يسقى عليه على حد واحد ﴿ ألا هو العزيز ﴾ أي : الغالب على أمره المنتقم من أعدائه ﴿ الغفار ﴾ أي : الذي له صفة الستر على الذنوب متكررة يمحو ذنوب من يشاء عيناً وأثراً بمغفرته.
ثم إنه تعالى لما ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل السفلية فقال تعالى :﴿ خلقكم ﴾ أيها الناس المدعون إلهية غيره ﴿ من نفس واحدة ﴾ وهي آدم عليه السلام ﴿ ثم جعل منها ﴾ أي : من تلك النفس ﴿ زوجها ﴾ حواء وإنما بدأ منها بذكر الإنسان لأنه أقرب وأكبر دلالة وأعجب، وفيه ثلاث دلالات : خلق آدم أولاً من غير أب وأم، ثم خلق حواء من قصيراه، ثم تشعب الخلق الفائت للحصر منهما فهما آيتان إلا أن إحداهما جعلها الله تعالى عادة مستمرة والأخرى لم تجر بها العادة ولم يخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل.
تنبيه : في ثم هذه أوجه ؛ أحدها : أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك يروى أن الله تعالى أخرج ذرية آدم ثم ظهره كالذر ثم خلق حواء بعد ذلك بزمان. ثانيها : أنها على بابها أيضاً لكن لمدرك آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله تعالى ﴿ واحدة ﴾ إذ التقدير من نفس وحدت أي : انفردت ثم جعل منها زوجها. ثالثها : أنها للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجودي كأنه قيل : كان من أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجها. رابعها : أنها للترتيب في الأحوال والرتب. وقال الرازي : إن ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر إحدى الكلامين عن الآخر كقول القائل : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب وأعطيتك اليوم شيئاً ثم الذي أعطيتك أمس أكثر.
وقوله تعالى :﴿ وأنزل لكم من الأنعام ﴾ عطف على خلقكم والإنزال يحتمل الحقيقة، يروى أن الله تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها، ويحتمل المجاز وله وجهان ؛ أحدهما : أنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزال عليها وهو في الحقيقة يطلق على سبب السبب كقول القائل :
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
والثاني : أن قضاياه وأحكامه منزلة من السماء من حيث كتبها في اللوح المحفوظ وهو أيضاً سبب في إيجادها. وقال البغوي : معنى الإنزال ههنا الإحداث والإنشاء كقوله تعالى :﴿ أنزلنا عليكم لباساً ﴾ ( الأعراف : ٢٦ ) وقيل : إنه إنزال الماء الذي هو سبب ثبات القطن والكتان وغيرهما الذي يجعلون منه اللباس. وقيل : معنى قوله ﴿ أنزل لكم من الأنعام ﴾ جعلها نزلاً لكم ورزقاً ومعنى قوله ﴿ ثمانية أزواج ﴾ أي : ثمانية أصناف وهي الإبل والبقر والضأن والمعز من كل زوجان ذكر وأنثى كما بين في سورة الأنعام وقوله تعالى :﴿ يخلقكم في بطون أمهاتكم ﴾ بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة غير أنه تعالى غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بكسر الهمزة، والباقون : بالضم وفي الابتداء الجميع بالضم وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون ومعنى قوله تعالى :﴿ خلقاً من بعد خلق ﴾ ما ذكره الله تعالى بقوله :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( ١٢ ) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ﴾ ( المؤمنون : ١٢ ١٣ ) الآيات، وأما قوله تعالى :﴿ في ظلمات ثلاث ﴾ فقال ابن عباس : ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، وقيل : الصلب والرحم والبطن ﴿ ذلكم ﴾ أي : العالي المراتب بشهادتكم أيها الخلق كلكم بعضكم بلسان قاله وبعضكم بناطق حاله الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا من أفعاله.
ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد أخبر عن اسم الإشارة بقوله تعالى :﴿ الله ﴾ أي : الذي خلق هذه الأشياء ﴿ ربكم ﴾ أي : الملك والمربي لكم بالخلق والرزق فهو المستحق لعبادتكم وقوله تعالى :﴿ له الملك ﴾ يفيد الحصر أي : له الملك لا لغيره.
ولما ثبت أنه لا ملك إلا له وجب القول بأنه ﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي : لا يشاركه في الخلق غيره. ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته ورحمته زيف طريقة المشركين بقوله تعالى :﴿ فأنى ﴾ أي : فكيف ومن أي : وجه ﴿ تصرفون ﴾ عن طريق الحق بعد هذا البيان.
﴿ إن تكفروا فإن الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿ غني عنكم ﴾ لأنه تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة لأنه تعالى غني على الإطلاق، فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ؛ لأنه تعالى واجب الوجود لذاته، وواجب الوجود لذاته في جميع أفعاله يكون غنياً على الإطلاق، وأيضاً فالقادر على خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والعناصر الأربعة يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك ﴿ ولا يرضى لعباده ﴾ أي : لأحد منهم ﴿ الكفر ﴾ أي : بالإقبال على ما سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف، ومعنى عدم الرضا به : لا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه ويثيب فاعله ويمدحه بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ويذم عليه ويعاقب مرتكبه وإن كان بإرادته إذ لا يخرج شيء عنها، وهذا قول قتادة والسلف أجروه على عمومه، وقال ابن عباس : ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم ﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ ( الإسراء : ٦٥ ) فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى كقوله تعالى :﴿ عيناً يشرب بها عباد الله ﴾ ( الإنسان : ٦ ) يريد بعض العباد.
﴿ وإن تشكروا ﴾ الله تعالى أي : فتؤمنوا بربكم وتطيعوه ﴿ يرضه لكم ﴾ أي : فيثيبكم عليه لأنه سبب فلاحكم. وقرأ السوسي في الوصل بسكون الهاء، وللدوري وهشام وجهان السكون والضم وصلة الهاء بواو للدوري، وابن كثير وابن ذكوان والكسائي والباقون بالسكون وهو لغة فيه.
﴿ ولا تزر ﴾ أي : نفس ﴿ وازرة وزر ﴾ نفس ﴿ أخرى ﴾ أي : لا تحمله بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل. واحتج بهذا من أنكر وجوب الدية على العاقلة ورد بأن السنة خصصت ذلك، وأما الإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس وزر غيره، وإنما هو وزر نفسه فوزر الفاعل على الفعل ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي. وقوله تعالى :﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم ﴾ يدل على إثبات البعث والقيامة ﴿ فينبئكم بما كنتم تعلمون ﴾ فيه تهديد للعاصي وبشارة للمطيع وقوله تعالى :﴿ إنه عليم ﴾ أي : بالغ العلم ﴿ بذات الصدور ﴾ أي : بما في القلوب كالعلة لما سبق أي : إنه تعالى ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف، قال صلى الله عليه وسلم :«إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ».
ولما بين تعالى فساد القول بالشرك وبين تعالى أنه الذي يجب أن يعبد بين أن طريقة الكفار متناقضة بقوله تعالى :﴿ وإذا مس الإنسان ﴾ أي : هذا النوع الآنس بنفسه ﴿ ضر دعا ربه ﴾ لأنهم إذا مسهم الضر طلبوا رفعه من الله تعالى وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام فكان الواجب عليهم أن يتعرفوا بالله تعالى في جميع الأحوال لأنه القادر على إيصال الخير ودفع الشر فظهر تناقض طريقهم والمراد بالإنسان : الكافر، وقيل : المؤمن والكافر، وقيل المراد : أقوام معينون كعتبة بن ربيعة وغيره، والمراد بالضر : جميع المكاره في جسمه أو ماله أو أهله أو ولده لعموم اللفظ وقوله تعالى ﴿ منيباً ﴾ حال من فاعل دعا وقوله تعالى ﴿ إليه ﴾ متعلق بمنيباً أي : راجعاً إليه في إزالة ذلك الضر لأن الإنابة الرجوع ﴿ ثم إذا خوله ﴾ أي : أعطاه ﴿ نعمة ﴾ مبتدأة ﴿ منه ﴾ أي : من غير مقابل ولا يستعمل في الجزاء بل في ابتداء العطية قال زهير :
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويروى أن يستخيلوا المال يخيلو وقال أبو النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخل *** كوم الذرى من خول المخوّل
وحقيقة خول من إحدى معنيين : إما من قولهم : هو خائل مال إذا كان متعهداً له حسن القيام عليه، وإما من خال يخول إذا اختال وافتخر ومنه قول العرب : إن الغني طويل الذيل مياس. ﴿ نسي ﴾ أي : ترك ﴿ ما ﴾ أي : الأمر الذي ﴿ كان يدعو ﴾ أي : يتضرع ﴿ إليه من قبل ﴾ أي : قبل النعمة.
تنبيه : يجوز في ما هذه أوجه ؛ أحدها : أن تكون موصولة بمعنى الذي مراعى بها الضر الذي كان يدعو إلى كشفه أي : ترك دعاءه كأنه لم يتضرع إلى ربه، ثانيها : أنها بمعنى الذي مراداً بها البارئ تعالى أي : نسي الله الذي كان يتضرع إليه وهذا عند من يجيز وقوع ما على أولي العلم. وقال الرازي : ما بمعنى من كقوله تعالى :﴿ وما خلق الذكر والأنثى ﴾ ( الليل : ٣ ) وقوله :﴿ ولا أنتم عابدون ما أعبد ﴾ ( الكافرون : ٣ ) وقوله ﴿ فانكحوا ما طاب لكم ﴾ ( النساء : ٣ )
ثالثها : أن تكون مصدرية أي : نسي كونه داعياً ﴿ وجعل ﴾ أي : ذلك الإنسان زيادة على الكفران بالنسيان للإحسان ﴿ لله ﴾ أي : الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والسمع والعقل ﴿ أنداداً ﴾ أي : شركاء ﴿ ليضل عن سبيله ﴾ أي : دين الإسلام وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بعد اللام أي : ليفعل الضلال بنفسه والباقون بضمها أي : لم يقنع بضلاله في نفسه حتى يحمل غيره عليه فمفعوله محذوف، واللام يجوز أن تكون للعلة وأن تكون لام العاقبة كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً ﴾ ( القصص : ٨ ).
واختلف في سبب نزول قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قل ﴾ أي : لهذا الذي قد حكم بكفره ﴿ تمتع ﴾ أي : في هذه الدنيا ﴿ بكفرك قليلاً ﴾ أي : بقية أجلك فقال مقاتل : نزل في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، وقيل : في عتبة بن ربيعة وقيل : عام في كل كافر، وهذا أمر تهديد وفيه إقناط للكافر من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله تعالى :﴿ إنك من أصحاب النار ﴾ أي : الذين لم يخلقوا إلا لها على سبيل الاستئناف للمبالغة قال تعالى ﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ﴾ ( الأعراف : ١٧٩ ) الآية.
ولما شرح الله تعالى صفات المشركين وتمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح المخلصين فقال تعالى :﴿ أمّن هو قانتٌ ﴾ أي : قائم بوظائف الطاعات ﴿ آناء الليل ﴾ أي : جميع ساعاته ومن إطلاق القنوت على القيام قوله صلى الله عليه وسلم :«أفضل الصلاة صلاة القنوت » وهو القيام فيها ومنه القنوت لأنه يدعو قائماً، وعن ابن عمر أنه قال : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا ﴿ أمن هو قانت ﴾ وعن ابن عباس : القنوت الطاعة لقوله تعالى :﴿ كل له قانتون ﴾ ( البقرة : ١١٦ ) أي : مطيعون، وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بتخفيف الميم والباقون بتشديدها وفي القراءة الأولى وجهان ؛ أحدهما : أن الهمزة همزة الاستفهام دخلت على من بمعنى الذي والاستفهام للتقرير ومقابله محذوف تقديره أمن هو قانت كمن جعل لله أنداداً أو أمن هو قانت كغيره، وأما القراءة الثانية : فأم داخلة على من الموصولة أيضاً فأدغمت الميم في الميم وفي أم حينئذ قولان ؛ أحدهما : أنها متصلة ومعاد لها محذوف تقديره الكافر خير أم الذي هو قانت، والثاني : أنها منقطعة فتقدر ببل والهمزة أي : بل أمن هو قانت كغيره أو كالكافر المقول له تمتع بكفرك وقوله تعالى ﴿ ساجداً ﴾ أي : وراكعاً ﴿ وقائماً ﴾ أي : وقاعداً في صلاته حالان من ضمير قانت.
تنبيه : في هذه الآية دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار، واختلف في سبب نزولها فقال ابن عباس : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال الضحاك : في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال أبو عمرو : في عثمان رضي الله تعالى عنه، وقال الكلبي : في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله تعالى عنهم.
وقوله تعالى :﴿ يحذر الآخرة ﴾ أي : عذاب الآخرة يجوز أن يكون حالاً من الضمير في ساجداً وقائماً أو من الضمير في قانت وأن يكون مستأنفاً جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل : ما شأنه يقنت آناء الليل ويتعب نفسه ويكدها قيل : يحذر الآخرة ﴿ ويرجو رحمة ﴾ أي : جنة ﴿ ربه ﴾ الذي لم يزل يتقلب في إنعامه وفي الكلام حذف والتقدير كمن لا يفعل شيئاً من ذلك، وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها.
﴿ قل هل يستوي ﴾ أي : في الرتبة ﴿ الذين يعلمون ﴾ أي : وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل ساجدين وقائمين ﴿ والذين لا يعلمون ﴾ أي : وهم صفتهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغ يشركون، وإنما وصف الله تعالى الكفار بأنهم لا يعلمون لأن الله تعالى وإن أعطاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم، فلهذا جعلهم الله تعالى كأنهم ليسوا من أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم، وفي هذا تنبيه على فضيلة العلم، قيل : لبعض العلماء : إنكم تقولون : العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء، عند أبواب الملوك ولا نرى الملوك عند أبواب العلماء فأجاب بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.
وقال في الكشاف : وأراد بالذين يعلمون العاملين من علماء الديانة كأنه جعل من لا يعمل غير عالم، قال : وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنون ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله تعالى جهلة حيث جعل الله تعالى القانتين هم العلماء، قال : ويجوز أن يراد على سبيل التشبيه أي : كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون ا. ه، وعن الحسن : أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا تمنٍّ، وإنما الرجاء قوله تعالى وتلا هذه الآية. ﴿ إنما يتذكر ﴾ أي : يتعظ ﴿ أولو الألباب ﴾ أي : أصحاب العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون في آخر سورة آل عمران بقوله تعالى :﴿ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ﴾ ( آل عمران : ١٩١ ) إلى آخرها.
ولما نفى الله تعالى المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب المؤمنين فقال سبحانه :﴿ قل ﴾ أي : لهم ﴿ يا عبادي الذين آمنوا ﴾ أي : أوجدوا هذه الحقيقة ﴿ اتقوا ربكم ﴾ أي : بطاعته واجتناب معاصيه ثم بين تعالى لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد بقوله تعالى :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا ﴾ أي : بالطاعة ﴿ حسنة ﴾ أي : في الآخرة وهي الجنة والتنكير في حسنة للتعظيم أي : حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها، فقوله تعالى :﴿ في هذه الدنيا ﴾ متعلق : بأحسنوا وقيل : متعلق ﴿ بحسنة ﴾ وعلى هذا قال السدي : معناه في هذه الدنيا حسنة يعني الصحة والعافية. قال الرازي : الأولى أن يحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم :«ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية » ا ه ورد بأنه يتعين حمله على حسنة الآخرة لأن ذلك حاصل للكفار أكثر من حصوله للمؤمنين كما قال صلى الله عليه وسلم :«الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ».
واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ وأرض الله ﴾ أي : الذي له الملك كله والعظمة الشاملة ﴿ واسعة ﴾ فقال ابن عباس : يعني ارتحلوا من مكة وفيه حث على الهجرة من البلد الذي تظهر فيه المعاصي ونظيره قوله تعالى :﴿ قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾ ( النساء : ٩٧ ) وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة. وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي فليهرب، وقال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة كما قال تعالى :﴿ جنة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقين ﴾ ( آل عمران : ١٣٣ ) ﴿ إنما يوفّى ﴾ أي : التوفية العظيمة ﴿ الصابرون أجرهم ﴾ أي : على الطاعات وما يبتلون به، وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا ومعنى ﴿ بغير حساب ﴾ أي : بغير نهاية بكيل أو وزن لأن كل شيء داخل تحت الحساب فهو متناهٍ، فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب. وعن ابن عباس : لا يهتدي إليه حساب الحُسَّاب ولا يعرف. وقال علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنه : كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً إلا الصابرين فإنه يحثى لهم حثياً. وروى الشعبي لكن بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم :«أن الموازين تنصب يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون أجورهم ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل ».
ولما كان للعبادة ركنان : عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح فقدمه سبحانه بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : يا أشرف المرسلين ﴿ إني أمرت ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بسكونها ﴿ أن أعبد الله مخلصاً له الدين ﴾ أي : مخلصاً له التوحيد لا أشرك به شيئاً.
ثم ذكر عقبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام المذكور في قوله :﴿ وأمرت لأن ﴾ أي : لأجل أن أو بأن ﴿ أكون أول المسلمين ﴾ أي : من هذه الأمة وبهذا زال التكرار.
وقال الزمخشري : فإن قلت كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد ؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء آخر، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين.
ولما دعا المشركون النبي صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه أمره الله تعالى بقوله سبحانه :﴿ قل إني أخاف إن عصيت ربي ﴾ أي : المحسن إلي المربي لي بكل جميل وعبدت غيره ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ والمقصود من هذا الأمر المبالغة في زجر الغير عن المعاصي، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو إني بفتح الياء والباقون بسكونها.
﴿ قل الله ﴾ أي : المحيط بصفات الكمال وحده ﴿ أعبد مخلصاً له ﴾ وحده ﴿ ديني ﴾ من الشرك.
قال الرازي : فإن قيل : ما معنى التكرير في قوله تعالى ﴿ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ﴾ وقوله تعالى :﴿ قل الله أعبد مخلصاً له ديني ﴾ قلنا : ليس هذا بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإيمان بالعبادة، والثاني : إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله تعالى، وذلك أن قوله ﴿ أمرت أن أعبد الله ﴾ لا يفيد الحصر وقوله تعالى :﴿ قل الله أعبد ﴾ يفيد الحصر أي : الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه.
ويدل عليه أنه لما قال ﴿ قل الله أعبد ﴾ قال بعده :﴿ فاعبدوا ﴾.
﴿ فاعبدوا ﴾ أي : أنتم أيها الداعون في وقت الضراء المعرضون في وقت الرخاء ﴿ ما شئتم من دونه ﴾ أي : غيره في هذا تهديد وزجر لهم وإيذان بأنهم لا يعبدون الله تعالى، ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله سبحانه ﴿ قل إن الخاسرين ﴾ أي : الكاملين في الخسران ﴿ الذين خسروا أنفسهم ﴾ أي : أوقعوها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه ﴿ و ﴾ خسروا ﴿ أهليهم يوم القيامة ﴾ أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا ذهاباً لا رجوع بعده البتة. وقوله تعالى ﴿ ألا ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة ﴿ هو الخسران المبين ﴾ أي : البين يدل على غاية المبالغة من وجوه ؛ أحدها : أنه وصفهم بالخسران ثم أعاد ذلك بقوله تعالى :﴿ ألا ذلك هو الخسران المبين ﴾ وهذا التكرير لأجل التأكيد، وثانيها : ذكر حرف ألا وهو للتنبيه، وذكر التنبيه يدل على التعظيم، كأنه قال : بلغ في العظم إلى حيث لا تصل عقولكم إليه فتنبهوا له، وثالثها : قوله تعالى ﴿ هو الخسران ﴾ ولفظة هو تفيد الحصر كأنه قيل : كل خسران يصير في مقابلته كل خسران، ورابعها : وصفه تعالى بكونه خسراناً مبيناً يدل على التهويل.
ولما شرح الله تعالى خسرانهم وصف ذلك الخسران بقوله تعالى :﴿ لهم من فوقهم ظلل ﴾ أي : طباق ﴿ من النار ومن تحتهم ظلل ﴾ أي : فرش ومهاد نظيره قوله تعالى :﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواشٍ ﴾ ( الأعراف : ٤١ )، فإن قيل : الظلة ما علا الإنسان فكيف سمى ما تحته ظلة ؟ أجيب بأوجه : أحدها : أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر كقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ ( الشورى : ٤٠ )، ثانيها : أن الذي تحته يكون ظلة لغيره لأن النار دركات كما أن الجنة درجات، ثالثها : أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم إحداهما على الأخرى لأجل المماثلة والمشابهة وقيل المراد : إحاطة النار بهم من جميع الجهات.
﴿ ذلك ﴾ أي : العذاب المعد للكفار ﴿ يخوّف الله به عباده ﴾ أي : المؤمنين ليتجنبوا ما يوقعهم فيه، وقيل : يخوف به الكفار والضلال ويدل للأول قوله تعالى :﴿ يا عباد فاتقون ﴾ أي : ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة، ووجه الدلالة أن إضافة العبيد إلى الله تعالى في القرآن مختص بأهل الإيمان.
﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت ﴾ أي : البالغ غاية الطغيان والطاغوت فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيه قلباً بتقديم اللام على العين إذ أصله طغيوت قدمت الياء على الغين ثم قلبت الفاء لتحركها وانفتاح ما قبلها، أطلقت على الشيطان أو الشياطين لكونها مصدراً وفيها مبالغات وهي التسمية بالمصدر كأنّ عين الشيطان طغيان وإن البناء بناء مبالغة، فإن الرحموت الرحمة الواسعة، والملكوت الملك المبسوط، والقلب وهو للاختصاص قال في الكشاف : إذ لا تطلق على غير الشيطان والمراد بها هنا : الجمع انتهى. لكن ابن الخازن فسر الطاغوت بالأوثان وتبعه الجلال المحلي.
فإن قيل : يتعين هذا التفسير لأنهم إنما عبدوا الصنم لا الشيطان. أجيب : بأن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان هو الداعي كانت عبادة الصنم عبادة له.
فإن قيل : ما وجه تسمية الصنم بالطاغوت على التفسير الثاني مع أنه لا يطلق إلا على الشيطان كما مر ؟ أجيب : بأنه أطلق عليه على سبيل المجاز لأن الطغيان لما حصل بسبب عبادته والتقرب إليه وصفه بذلك إطلاقاً لاسم السبب على المسبب بحسب الظاهر. وقوله تعالى :﴿ أن يعبدوها ﴾ بدل اشتمال من الطاغوت لأن الطاغوت مؤنث كأنه قيل : اجتنبوا عبادة الطاغوت. فإن قيل : على التفسير الأول إنما عبدوا الصنم لا الشيطان ؟ أجيب : بأنه الداعي إلى عبادة الصنم.
فائدة : نقل في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وأن الملائكة أنوار مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صور على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة.
﴿ وأنابوا ﴾ أي : رجعوا ﴿ إلى الله ﴾ أي : إلى عبادة الله بكليتهم وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها قوله تعالى :﴿ لهم البشرى ﴾ أي : في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا : فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة : فعند الخروج من القبور وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان.
تنبيه : يحتمل أن يكون المبشر لهم هم الملائكة عليهم السلام لأنهم يبشرونهم عند الموت لقوله تعالى :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيّبين يقولون سلام عليكم ﴾ ( النحل : ٣٢ )
وعند دخول الجنة لقوله تعالى :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ( ٢٣ ) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾ ( الرعد : ٢٣ ٢٤ ) ويحتمل أن يكون هو الله تعالى لقوله تعالى :﴿ تحيتهم يوم يلقونه سلام ﴾ ( الأحزاب : ٤٤ ) ولا مانع أن يكون من الله تعالى ومن الملائكة عليهم السلام فإن فضل الله سبحانه واسع وقوله تعالى :﴿ فبشر عباد ﴾ قرأه السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف والباقون بغير ياء.
﴿ الذين يستمعون ﴾ أي : بجميع قلوبهم ﴿ القول فيتبعون ﴾ أي : بكل عزائمهم بعد انتقاده ﴿ أحسنه ﴾ أي : بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى.
تنبيه : في هذا وضع الظاهر موضع مضمر ﴿ الذين اجتنبوا ﴾ للدلالة على مبدإ إحسانهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب أو مباح وندب اختاروا الندب حرصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً، ويدخل تحت ذلك أبواب التكاليف وهي قسمان : عبادات ومعاملات، فأما العبادات فكقولنا : الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر مع اقتران النية ويقرأ فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في مواضعها الخمسة ويتشهد فيها ويخرج منها بالسلام، لا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال. قال الرازي : فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ا. ه وكذا القول في جميع أبواب العبادات. قال في الكشاف : ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها على السبر وأبينها دليلاً أو أمارة ولا تكن في مذهبك كما قال القائل :
ولا تكن مثل غير قيد فانقادا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : المقلد ا. ه،
وأما المعاملات فكإنظار المعسر وإبرائه فالإبراء أولى وإن كان الأول واجباً، والثاني : مندوباً وكذا القول في جميع المعاملات. وقيل : يسمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن وقيل : يسمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو قال تعالى :﴿ وأن تعفوا أقرب للتقوى ﴾ ( البقرة : ٢٣٧ ) وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما يسمعه ويكف عما سواه. وروي عن ابن عباس آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمان بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزل فيهم ﴿ فبشر عبادي ﴾ الآية.
﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الهمة والرتبة ﴿ الذين هداهم الله ﴾ بما له من صفات الكمال لدينه ﴿ وأولئك أولو الألباب ﴾ أي : أصحاب العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة، وقال أبو زيد : نزل ﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت ﴾ ( الزمر : ١٧ ) الآيتين في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والأحسن لا إله إلا الله.
وفي هذه الآية لطيفة وهي : أن حصول الهداية في العقل والروح حادث فلا بد من فاعل وقابل، فأما الفاعل : فهو الله تعالى وهو المراد من قوله تعالى :﴿ أولئك الذين هداهم الله ﴾ وأما القابل فإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ وأولئك هم أولو الألباب ﴾ فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقيقية في قلبه.
اختلف في معنى قوله تعالى :﴿ أفمن حق ﴾ وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيداً للنهي عن الأسف عليهم ﴿ عليه كلمة العذاب ﴾ فقال ابن عباس معنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار، وقيل : كلمة العذاب قوله تعالى :﴿ لأملأن جهنم ﴾ ( الأعراف : ١٨ ) الآية وقيل : قوله تعالى :«هؤلاء للنار ولا أبالي » وقوله تعالى ﴿ أفأنت تنقذ ﴾ أي : تخرج ﴿ من في النار ﴾ جواب الشرط وأقيم فيه الظاهر مقام الضمير إذ كان الأصل أفأنت تنقذه، وإنما وقع موقعه شهادة عليه بذلك، والهمزة للإنكار والمعنى : لا تقدر على هدايته فتنقذه من النار وقال ابن عباس : يريد أبا لهب وولده ويجوز أن تكون من موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف. واختلف في تقديره فقدره أبو البقاء كمن نجا وقدره الزمخشري فأنت تخلصه أي : حذف لدلالة أفأنت تنقذ عليه وقدره غيرهما تتأسف عليه وقدره آخر يتخلص منه أي : من العذاب.
وقوله تعالى :﴿ لكن الذين اتقوا ربهم ﴾ استدراك بين شبهي نقيضين أو ضدين وهما المؤمنون والكافرون أي : جعلوا بينهم وبين المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكون فلم يجعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه وقوله تعالى :﴿ لهم غرف ﴾ أي : علالي من الجنة يسكنونها ﴿ من فوقها غرف ﴾ شديدة العلو مقابل لما ذكر في وصف الكفار لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل والمعنى لهم منازل في الجنة رفيعة ومن فوقها منازل أرفع منها.
فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى :﴿ مبنية ﴾ ؟ أجيب : بأن المنزل إذا بني على منزل آخر كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله تعالى :﴿ مبنية ﴾ فائدته أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساوٍ للمنزل الأسفل.
ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء وكان الجاري أحسن أشرف قال تعالى ﴿ تجري من تحتها ﴾ أي : من تلك الغرف الفوقانية والتحتانية ﴿ الأنهار ﴾ أي : المختلفة كما قال تعالى :﴿ فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفّى ﴾ ( محمد : ١٥ ) وقوله تعالى :﴿ وعد الله ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بفعله المقدر لأن قوله تعالى :﴿ غرف ﴾ في معنى وعدهم الله ذلك ﴿ لا يخلف الله الميعاد ﴾ لأن الخلف نقص وهو على الله سبحانه محال، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » وقوله : الغابر أي : الباقي في الأفق في ناحية المشرق والمغرب.
ولما وصف الله تعالى الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيمة فيها وصف الدنيا بصفات توجب اشتداد النفرة عنها بقوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾ أي : تعلم ﴿ أن الله ﴾ أي : الذي له كمال القدرة ﴿ أنزل من السماء ﴾ أي : التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهر الماء على ذلك، والمراد بالسماء : الجرم أو السحاب ﴿ ماء ﴾ وهو المطر، قال الشعبي : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه ﴿ فسلكه ﴾ أي : أدخل ذلك الماء خلال التراب حال كونه ﴿ ينابيع في الأرض ﴾ أي : عيوناً ومجاري ومسالك كالعروق في الأجسام ﴿ ثم يخرج ﴾ الله تعالى ﴿ به ﴾ أي : بالماء ﴿ زرعاً مختلفاً ألوانه ﴾ من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك ومختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم وغيرها ﴿ ثم يهيج ﴾ أي : ييبس ﴿ فتراه ﴾ بعد الخضرة مثلاً ﴿ مصفراً ﴾ من يبسه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يفصل عن منابته ﴿ ثم يجعله حطاماً ﴾ أي : فتاتاً ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : التدبير على هذا الوجه ﴿ لذكرى ﴾ أي : تذكيراً وتنبيهاً ﴿ لأولي الألباب ﴾ أي : أصحاب العقول الصافية جداً فيتذكرون هذه الأحوال في النبات فيعلمون بدلالته على وحدانية الله تعالى شأنه وقدرته وأحوال الحيوان والإنسان، وإنه وإن طال عمره فلابد من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء ثم تكون عاقبته الموت، فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات مذكرة حصول مثل هذه الأحوال في نفسه في حياته فحينئذ تعظم نفرته عن الدنيا ولذاتها.
ولما بين تعالى الدلائل على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا ولذاتها ذكر أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الصدور ونور القلوب فقال سبحانه :﴿ أفمن شرح الله ﴾ أي : الذي له القدرة الكاملة ﴿ صدره للإسلام ﴾ أي : وسعه لقبول الحق فاهتدى ﴿ فهو ﴾ أي : بسبب ذلك ﴿ على نور من ربه ﴾ أي : المحسن إليه كمن أقسى الله تعالى قلبه دل على هذا ﴿ فويل ﴾ كلمة عذاب ﴿ للقاسية قلوبهم من ذكر الله ﴾ قال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة، وأما نور الله تعالى فهو لطفه. روي :«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقيل : يا رسول الله فما علامة انشراح الصدر للإسلام قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت ».
فإن قيل : إن ذكر الله تعالى سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى ﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ ( الرعد : ٢٨ ) فكيف جعله في هذه الآية سبباً لحصول القسوة في القلب ؟ أجيب : بأن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر، بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطباع البهيمية والأخلاق الذميمة فإن سماعها لذكر الله تعالى يزيدها قسوة وكدرة، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أمثاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح، وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس، ولما نزل قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ﴾ ( المؤمنون : ١٢ ) الآية وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى :﴿ ثم أنشأناه خلقاً آخر ﴾ ( المؤمنون : ١٤ ) قال كل واحد منهما ﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾ ( المؤمنون : ١٤ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اكتب فكذا نزلت » فازداد عمر رضي الله عنه إيماناً على إيمانه وارتد ذلك الإنسان. وإذا عرف ذلك لم يبعد أن يكون ذكر الله تعالى يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ويوجب القنوط والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة، وقيل : من بمعنى عن أي : قست قلوبهم عن قبول ذكر الله وجرى على ذلك الجلال المحلي ﴿ أولئك ﴾ أي : هؤلاء البعداء ﴿ في ضلال مبين ﴾ أي : بين قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه وفي أبي بن خلف، وقيل : في علي وحمزة وأبي لهب وولده وقيل : في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل.
﴿ الله ﴾ الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال ﴿ نزّل ﴾ أي : بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة ﴿ أحسن الحديث ﴾ أي : القرآن روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا : حدثنا فنزلت وكونه أحسن الحديث لوجهين ؛ أحدهما : من جهة اللفظ، والآخر : من جهة المعنى، أما الأول : فلأن القرآن أفصح الكلام وأبلغه وأجزله وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب ولا من جنس الرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه مع أن كل طبع سليم يستلذه ويستطيبه، وأما من جهة المعنى : فهو منزه عن التناقض والاختلاف قال جل ثناؤه :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ﴾ ( النساء : ٨٢ ) ومشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار، وفي إيقاع لفظ الجلالة مبتدأ وبناء نزل عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على حسنه وتأكيده لاستناده إلى الله تعالى وأنه من عنده وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث.
وقوله تعالى :﴿ كتاباً ﴾ أي : جامعاً لكل خير بدل من أحسن الحديث، وقيل : حال منه بناءً على أن أحسن الحديث معرفة لإضافته إلى معرفة، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلاف فقيل : إضافته محضة وقيل : غير محضة والصحيح الأول وقوله تعالى :﴿ متشابهاً ﴾ نعت لكتاباً وهو المسوغ لمجيء الجامد حالاً أو أنه في قوة مكتوب وتشابهه بتشابه أبعاضه في الإعجاز والبلاغة والموعظة الحسنة لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتخد زمانه أم لا.
وقوله تعالى :﴿ مثاني ﴾ جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده مواعظه أو جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة، وقيل : لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل كما جاء في وصفه لا يخلق على كثرة الترداد.
فإن قيل : كيف وصف كتاباً وهو مفرد بالجمع ؟ أجيب : بأن الكتاب جملة ذات تفاصيل وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا ترى أنك تقول : القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول : أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات ونظيره قولك الإنسان عظام وعروق وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني، ويجوز أن يكون مثاني منتصباً على التمييز من متشابهاً كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل.
فإن قيل : ما فائدة التثنية والتكرير ؟ أجيب : بأن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً على بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظهم به وينصح ثلاث مرات وسبعاً ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم ﴿ تقشعر ﴾ أي : تضطرب وتشمئز ﴿ منه ﴾ عند ذكر وعيده ﴿ جلود ﴾ أي : ظواهر أجسام ﴿ الذين يخشون ﴾ أي : يخافون ﴿ ربهم ﴾ والمعنى تأخذهم قشعريرة وهو تغير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر آيات العذاب ﴿ ثم تلين ﴾ أي : تطمئن ﴿ جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾ أي : عند ذكر وعده، والمعنى إذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال تعالى :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ ( الرعد : ٢٨ ) روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها » وفي رواية :«حرمه الله على النار » قال قتادة : هذا نعت أولياء الله تعالى نعتهم الله تعالى بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم بذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم وإنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان.
وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما : كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قال : قلت لها : إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه، قالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وروي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مر برجل من أهل العراق ساقط فقال : ما بال هذا ؟ فقالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله تعالى سقط فقال : إنا لنخشى الله تعالى وما نسقط. وقال ابن عمر : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال : بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق.
فإن قيل : لم ذكرت الجلود وحدها أولاً في جانب الخوف ثم قرنت بها القلوب ثانياً في الرجاء ؟ أجيب : بأن الخشية التي محلها القلوب إذا ذكرت فقد ذكرت القلوب فكأنه قيل : تقشعر جلودهم من آيات الوعيد وتخشى قلوبهم في أول وهلة وإذا ذكر الله تعالى ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة ليناً في جلودهم.
فإن قيل : ما وجه تعدية تلين بإلى ؟ أجيب : بأنه ضمن معنى فعل متعد بإلى كأنه قيل : سكنت أو اطمأنت إلى ذكر الله تعالى.
فإن قيل : كيف قال الله تعالى :﴿ إلى ذكر الله ﴾ ولم يقل إلى رحمة الله ؟ أجيب : بأن من أحب الله تعالى لأجل رحمته فهو ما أحب الله تعالى وإنما أحب شيئاً غيره وأما من أحب الله تعالى لا لشيء سواه فهو المحب الحق وهي الدرجة العالية كما قال تعالى :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ ﴿ ذلك ﴾ أي : القرآن الذي هو أحسن الحديث ﴿ هدى الله ﴾ الذي له صفات الكمال ﴿ يهدي به من يشاء ﴾ أي : وهو الذي شرح الله تعالى صدره أولاً لقبول الهداية ﴿ ومن يضلل الله ﴾ أي : يجعل قلبه قاسياً مظلماً ﴿ فما له من هاد ﴾ أي : يهديه. وقرأ ابن كثير في الوقف بإثبات الياء بعد الدال، والباقون بغير الياء واتفقوا في الوصل على عدم الياء.
ولما حكم تعالى على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال التام حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب الشديد فقال :﴿ أفمن يتقي بوجهه سوء ﴾ أي : شدة ﴿ العذاب ﴾ أي : يجعله وقاية يقي بها نفسه لأنه تكون يداه مغلولتين إلى عنقه ﴿ يوم القيامة ﴾ فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه، وقال مجاهد : يجر على وجهه في النار. وقال عطاء : يرمى به في النار منكوساً فأول شيء يلقى في النار وجهه. وقيل : يلقى في النار مغلولة يداه إلى عنقه وفي عنقه صخرة عظيمة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشتعل النار في تلك الصخرة وهي في عنقه، فحرها ووهجها لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه. وقيل المراد بالوجه الجملة، وقيل : نزلت في أبي جهل ومعنى الآية : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن أمن من العذاب بدخول الجنة فحذف الخبر كما حذف في نظائره، ﴿ وقيل ﴾ أي : تقول الخزنة ﴿ للظالمين ﴾ أي : الكافرين، وكان الأصل لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلاً عليهم بالظلم ﴿ ذوقوا ما ﴾ أي : وبال الذي ﴿ كنتم تكسبون ﴾ أي : تعملون في الدنيا من المعاصي.
ولما بين تعالى كيفية عقاب القاسية قلوبهم في الآخرة وبين كيفية وقوعهم في العذاب قال تعالى :﴿ كذّب الذين ﴾ وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال تعالى :﴿ من قبلهم ﴾ أي : من قبل كفار مكة أي : مثل سبأ وقوم تبع كذبوا رسلهم في إتيان العذاب ﴿ فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ﴾ أي : من جهة لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها.
﴿ فأذاقهم الله ﴾ أي : الذي له القدرة الكاملة ﴿ الخزي ﴾ أي : الذل والهوان من المسخ والقتل وغيرهما ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ أي : العاجلة الدنيئة ﴿ ولعذاب الآخرة ﴾ أي : المعد لهم ﴿ أكبر ﴾ أي : من ذلك الذي وقع بهم في الدنيا ﴿ لو كانوا ﴾ أي : المكذبون ﴿ يعلمون ﴾ أي : عذابها ما كذبوا ولكن لا علم لهم أصلاً إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
ولما ذكر تعالى هذه الفوائد الكثيرة في هذه المطالب بين أن هذه البينات بلغت حد الكمال والتمام فقال تعالى :﴿ ولقد ضربنا ﴾ أي : جعلنا ﴿ للناس ﴾ أي : عامة لأن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة ﴿ في هذا القرآن ﴾ أي : الجامع لكل علم وكل خير ﴿ من كل مثل ﴾ أي : يحتاج إليه الناظر في أمر دينه ﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ أي : يتعظون به وقرأ نافع وقالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد والباقون بالإدغام.
قوله تعالى :﴿ قرآناً عربياً ﴾ فيه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أن يكون منصوباً على المدح لأنه لما كان نكرة امتنع إتباعه للقرآن، ثانيها : أن ينتصب بيتذكرون أي : يتذكرون قرآناً، ثالثها : أن ينتصب على الحال من القرآن على أنها حال مؤكدة وتسمى حالاً موطئة لأن الحال في الحقيقة عربياً وقرآناً توطئة له نحو جاء زيد رجلاً صالحاً ﴿ غير ذي عوج ﴾ أي : مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف نعت لقرآناً أو حال أخرى.
فإن قيل : هلا قيل : مستقيماً أو غير معوج ؟ أجيب : بأن في ذلك فائدتين إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج قط كما قال تعالى :﴿ ولم يجعل له عوجاً ﴾ ( الكهف : ١ ) ثانيتهما : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان، وقيل : المراد بالعوج الشك واللبس قال القائل :
وقد أتاك يقين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب
﴿ لعلهم يتقون ﴾ أي : الكفر.
تنبيه : وصف تعالى القرآن بثلاث صفات ؛ أولها : كونه قرآناً والمراد كونه متلواً في المحاريب إلى قرب قيام الساعة، ثانيها : كونه عربياً أي : أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ﴾ ( الإسراء : ٨٨ ) ثالثها : كونه غير ذي عوج، قال مجاهد : غير ذي لبس وقال ابن عباس رضي الله عنهما : غير مختلف، وقال السدي : غير مخلوق، ويروى ذلك عن مالك بن أنس، وحكى شقيق وابن عيينة عن سبعين من التابعين : أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق.
ولما شرح الله تعالى وعيد الكفار مثل لما يدل على فساد مذهبهم وقبيح طريقتهم بقوله تعالى :﴿ ضرب الله ﴾ أي : الذي له الملك كله ﴿ مثلاً ﴾ أي : للمشركين والموحدين وقوله تعالى :﴿ رجلاً ﴾ بدل من مثلاً وقوله تعالى :﴿ فيه شركاء ﴾ يجوز أن تكون الجملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة ل ﴿ رجلاً ﴾ ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده وشركاء فاعل به قال ابن عادل : وهو أولى لقربه من المفرد. وقوله تعالى :﴿ متشاكسون ﴾ صفة لشركاء والتشاكس التخالف وأصله سوء الخلق وعسره وهو سبب التخالف أي : متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم يقال : رجل شكس وشرس إذا كان سيء الخلق مخالفاً للناس لا يرضى بالإنصاف ﴿ ورجلاً سلماً ﴾ أي : خالصاً من نزاع ﴿ لرجل ﴾ أي : خالصاً له لا شريك له فيه. ولا منازع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بألف بعد السين وكسر اللام بعدها، والباقون بغير ألف وفتح اللام وهو الذي لا ينازع فيه من قولهم : هو لك سلم أي : مسلم لا منازع لك فيه.
وقوله تعالى :﴿ هل يستويان ﴾ استفهام إنكار أي : لا يستويان وقوله تعالى :﴿ مثلاً ﴾ تمييز والمعنى اضرب لقومك مثلاً وقل لهم : ما تقولون في رجل مملوك لشركاء بينهم اختلاف وتنازع وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه حوائجهم وهو متحير في أمره، وكلما أرضى أحدهم غضب الباقون وإذا احتاج إليهم فكل واحد يرده إلى الآخر فبقي متحيراً لا يعرف أيهم أولى أن يطلب رضاه وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب في عذاب أليم. وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه على مهماته فأي هذين العبدين أحسن حالاً، لا شك أن هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول، فإن الأول : مثل المشرك والثاني : مثل الموحد، وهذا المثال في غاية الحسن في تقبيح المشرك وتحسين الموحد.
فإن قيل : هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات فليس بينها منازعة ولا تشاكس ؟ أجيب : بأن عبدة الأصنام يختلفون، منهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة وهم يثبتون بينها منازعة ومشاكسة ألا ترى أنهم يقولون : زحل هو النحس الأعظم والمشتري هو : السعد الأعظم، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية، وحينئذ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة فيكون المثال مطابقاً، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل لأشخاص من العلماء والزهاد مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله تعالى، والقائلون بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو ذلك الرجل الذي هم على دينه وأن من سواه مبطل، وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال.
ولما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق قال الله تعالى :﴿ الحمد ﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿ لله ﴾ أي : كل الحمد لله الذي لا مكافئ له فلا يشاركه فيه على الحقيقة سواه لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق ﴿ بل أكثرهم ﴾ أي : أهل مكة ﴿ لا يعلمون ﴾ أي : ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به غيره من فرط جهلهم وقول البغوي والمراد بالأكثر الكل ليس بظاهر.
ولما كان كفار مكة يتربصون موت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الله تعالى بأن الموت يجمعهم جميعاً بقوله تعالى :﴿ إنك ميّت ﴾ أي : ستموت وخصه الله تعالى بالخطاب لأن الخطاب إذا كان للرأس كان أصدع لأتباعه فكل موضع كان للأتباع، وخص فيه صلى الله عليه وسلم بالخطاب دونهم فهم المخاطبون في الحقيقة على وجه أبلغ ﴿ وإنهم ميّتون ﴾ أي : سيموتون فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني.
فائدة : قال الفراء : الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت : بالتخفيف من فارقته الروح ولذلك لم يخفف هنا.
وقوله تعالى :﴿ ثم إنكم ﴾ فيه تغليب المخاطب على الغائب ﴿ يوم القيامة عند ربكم ﴾ أي : المربي لكم بالخلق والرزق ﴿ تختصمون ﴾ فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت وكذبوا واجتهدت في الإرشاد والتبليغ فلجوا في التكذيب والعناد ويعتذرون بالأباطيل يقول الأتباع أطعنا سادتنا وكبراءنا وتقول السادات أغوتنا آباؤنا الأقدمون والشياطين، ويجوز أن يكون المراد به الاختصام العام وجرى عليه الجلال المحلي وهو أولى وإن رجح الأولَ الكشافُ، لما روي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال :«لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله أتكون علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال : نعم فقال : إن الأمر إذاً لشديد » وقال ابن عمر : عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين، قلنا : كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأينا بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفنا أنها فينا نزلت. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذه الآية قال : كنا نقول : ربنا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : هو هذا. وعن إبراهيم النخعي قال : لما نزلت قالت الصحابة : كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا. وعن أبي العالية : نزلت في أهل القبلة.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليستحله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه ». وعن أبي هريرة أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد كان شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ».
ثم إنه تعالى بين نوعاً آخر من قبائح أفعالهم بقوله تعالى :﴿ فمن ﴾ أي : لا أحد ﴿ أظلم ﴾ أي : منهم هكذا كان الأصل، ولكن قال تعالى :﴿ ممن كذب ﴾ تعميماً ﴿ على الله ﴾ أي : الذي الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره بنسبة الولد والشريك إليه ﴿ وكذّب ﴾ أي : أوقع التكذيب لكل من أخبره ﴿ بالصدق ﴾ أي : بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إذ جاءه ﴾ أي : فاجأه بالتكذيب لما سمع من غير وقفة ولا إعمال روية بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يستمعون، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم والباقون بالإدغام، ثم أردف ذلك بالوعيد فقال :﴿ أليس في جهنم ﴾ أي : النار التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى الحق وأهله ﴿ مثوى ﴾ أي : مأوى ﴿ للكافرين ﴾ أي : لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، واللام في للكافرين إشارة إليهم والاستفهام بمعنى التقرير.
ولما ذكر من افترى وكذب ذكر مقابله وهو الذي جاء بالصدق وصدق به بقوله تعالى :﴿ والذي جاء بالصدق ﴾ قال قتادة ومقاتل : هو النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وصدّق به ﴾ هم المؤمنون فالذي بمعنى الذين ولذلك روعي معناه فجمع في قوله تعالى :﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الرتبة ﴿ هم المتقون ﴾ أي : الشرك كما روعي معنى من في قوله تعالى :﴿ للكافرين ﴾ فإن الكافرين ظاهر واقع موقع الضمير، إذ الأصل مثوى لهم وكما في قوله تعالى :﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ﴾ ( البقرة : ١٧ ) ثم قال ﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ ( البقرة : ١٧ ) قال الزمخشري : ويجوز أن يريد الفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصحابته رضي الله تعالى عنهم الذين صدقوا به ا. ه قال أبو حيان : وفيه توزيع للصلة والفوج هو الموصول فهو كقولك : جاء الفريق الذي شرف وشرف، والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على الصلة صلة لمن له الصلة الأولى، وقيل : بل الأصل والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفاً كقوله تعالى :﴿ كالذي خاضوا ﴾ ( التوبة : ٦٩ ) قال ابن عادل : وهذا وهم إذ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال : والذي جاؤوا كقوله تعالى :﴿ كالذي خاضوا ﴾ ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنى كقوله :
أبني كليب إن عميّ اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : والذي جاء بالصدق يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله وصدق به الرسول أيضاً بلغه إلى الخلق. وقال السدي : والذي جاء بالصدق جبريل عليه السلام جاء بالقرآن وصدق به محمد صلى الله عليه وسلم تلقاه بالقبول، وقال أبو العالية والكلبي : والذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق به أبو بكر رضي الله عنه، وقال عطاء : والذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع، وقال الحسن : هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاؤوا به في الآخرة.
وقوله تعالى :﴿ لهم ما يشاؤون ﴾ أي : من أنواع الكرامات ﴿ عند ربهم ﴾ أي : في الجنة يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ﴿ ذلك ﴾ أي : هذا الجزاء ﴿ جزاء المحسنين ﴾ لأنفسهم بإيمانهم.
وقوله تعالى :﴿ ليكفّر الله عنهم ﴾ يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ومعنى تكفيرها أن يسترها عليهم بالمغفرة.
تنبيه : في تعلق هذه اللام وجهان أحدهما : أنها متعلقة بمحذوف أي : يسر لهم ذلك ليكفر، ثانيهما : أنها متعلقة بنفس المحسنين كأنه قيل : الذين أحسنوا ليكفر أي : لأجل التكفير وقوله تعالى :﴿ أسوأ الذي ﴾ أي : العمل الذي ﴿ عملوا ﴾ فيه مبالغة فإنه إذا كفر غيره أولى بذلك أو للإيذان بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية أو أنه بمعنى السيء كما جرى عليه الجلال المحلي كقولهم : الناقص والأشج أعدلا بني مروان أي : عادلاهم إذ ليس المراد به التفضيل، والناقص هو محمد الخليفة سمي به ؛ لأنه نقص أعطية القوم والأشج هو عمر بن عبد العزيز سمي به لشجة أصابت رأسه.
﴿ ويجزيهم أجرهم ﴾ أي : ويعطيهم ثوابهم ﴿ بأحسن الذي ﴾ أي : العمل الذي ﴿ كانوا يعملون ﴾ أي : فيعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر لحسن إخلاصهم فيها وهذا أولى من قول الجلال المحلي إنه بمعنى الحسن.
وقوله تعالى :﴿ أليس الله ﴾ أي : الجامع لصفات الكمال كلها المنعوت بنعوت العظمة والجلال ﴿ بكاف عبده ﴾ أي : الخالص له استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات، وقرأ حمزة والكسائي بكسر العين وفتح الباء الموحدة وألف بعدها على الجمع، وقرأ الباقون بفتح العين وسكون الباء على الإفراد، فقراءة الإفراد محمولة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة الجمع على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن قومهم قصدوهم بالسوء كما قال الله تعالى ﴿ وهمّت كل أمة برسولهم ليأخذوه ﴾ ( غافر : ٥ ) وكفاهم الله تعالى شر من عاداهم ويحتمل أن يراد بقراءة الإفراد : الجنس فتساوي قراءة الجمع وقيل : المراد أن الله تعالى كفى نوحاً عليه السلام الغرق وإبراهيم عليه السلام الحرق ويونس عليه السلام بطن الحوت فهو سبحانه وتعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك.
﴿ ويخوّفونك ﴾ أي : عباد الأصنام ﴿ بالذين من دونه ﴾ وذلك أن قريشاً خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معاداة الأوثان، وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي :«أنه صلى الله عليه وسلم بعث خالداً إلى العزى ليكسرها فقال له سادتها أي : خادمها : لا تدركها أحذركها يا خالد إن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها فهشم أنفها فنزلت هذه الآية ».
ولما شرح الله الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ختم الكلام بخاتمة هي : الفصل فقال تعالى شأنه ﴿ ومن يضلل الله ﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿ فما له من هاد ﴾ أي : يهديه إلى الرشاد.
﴿ ومن يهد الله فما له من مضل ﴾ أي : فهذه الدلائل والبينات لا تنفع إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق إذ لا راد لفعله كما قال تعالى :﴿ أليس الله ﴾ أي : الذي بيده كل شيء ﴿ بعزيز ﴾ أي : غالب على أمره ﴿ ذي انتقام ﴾ أي : من أعدائه بلى هو كذلك، وفي هذا تهديد للكفار.
ولما بين تعالى وعيد المشركين ووعد الموحدين عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريق عبدة الأوثان وهذا الترتيب مبني على أصلين الأول : أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم وهو المراد من قوله تعالى :﴿ ولئن سألتهم ﴾ أي : من شئت منهم فرادى أو مجموعين واللام لام القسم ﴿ من خلق السماوات ﴾ أي : على ما لها من الاتساع والعظمة والارتفاع ﴿ والأرض ﴾ أي : على ما لها من العجائب وفيها من الانتفاع ﴿ ليقولن الله ﴾ أي : وحده لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية قال بعض العلماء : العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم علم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه، وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل في عجائب بدن الإنسان وما فيه من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة علم أنه لا بد من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم، والأصل الثاني : أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله تعالى ﴿ قل أفرأيتم ﴾ أي : بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى :﴿ ما تدعون ﴾ أي : تعبدون ﴿ من دون الله ﴾ أي : الذي هو ذو الجلال والإكرام ﴿ إن أرادني الله ﴾ أي : الذي لا راد لأمره ﴿ بضر ﴾ أي : بشدة بلاء ﴿ هل هن كاشفات ضره ﴾ أي : لا نقدر على ذلك ﴿ أو أرادني برحمة ﴾ أي : بعافية وبركة ﴿ هل هن ممسكات رحمته ﴾ أي : لا تقدر على ذلك فثبت أنه لا بد من الإقرار بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم، قال مقاتل : فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسكتوا، وقرأ أبو عمرو بتنوين التاء من كاشفات وممسكات ونصب الراء من ضره ورفع الهاء ونصب التاء من رحمته والباقون بغير تنوين فيهما وكسر الراء والهاء من ضره والتاء والهاء من رحمته، وإذا كانت هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر كانت عبادة الله تعالى كافية والاعتماد عليه كافياً وهو المراد من قوله تعالى :﴿ قل حسبي الله ﴾ أي : ثقتي به واعتمادي ﴿ عليه يتوكل المتوكلون ﴾ أي : يثق الواثقون، فإن قيل : لِمَ قال تعالى :﴿ كاشفات ﴾ ﴿ وممسكات ﴾ على التأنيث بعد قوله تعالى :﴿ ويخوّفونك بالذين من دونه ﴾ ( الزمر : ٣٦ ) ؟ أجيب : بأنه أنثها تحقيراً لما يدعون من دونه ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث وهي اللات والعزى ومناة قال الله تعالى :﴿ أفرأيتم اللات والعزّى ( ١٩ ) ومناة الثالثة الأخرى ﴾ ( النجم : ١٩ ٢٠ ).
وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل يا قوم ﴾ أي : الذين أرجوهم عند الملمات وفيهم كفاية في القيام بما يحاولون ﴿ اعملوا على مكانتكم ﴾ أي : على حالتكم فيه تهديد أي : أنكم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم، وقرأ شعبة بألف بعد النون جمعاً والباقون بغير ألف إفراداً ﴿ إني عامل ﴾ أي : في تقرير ديني ﴿ فسوف تعلمون ﴾ أي : بوعد لا خلف فيه.
﴿ من يأتيه ﴾ منا ومنكم بسبب أعماله ﴿ عذاب يخزيه ﴾ فإن خزي أعدائه دليل عليه وقد أخذهم الله تعالى يوم بدر ﴿ ويحل ﴾ أي : ينزل ﴿ عليه عذاب مقيم ﴾ أي : دائم وهو عذاب النار.
تنبيه : المكانة بمعنى المكان فاستعيرت من العين للمعنى كما استعير لفظ هنا وحيث للزمان وهما للمكان، فإن قيل : حق الكلام إني عامل على مكانتي فلم حذف ؟ أجيب : بأنه حذف للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حاله لا تقف وتزداد كل يوم قوة وشدة لأن الله تعالى ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ فسوف تعلمون ﴾ توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالباً عليهم في الدنيا والآخرة.
ولما بين تعالى في هذه الآيات فساد مذاهبهم أي : المشركين تارة بالدلائل وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد، وكان صلى الله عليه وسلم يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال ﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم ﴾ ( الكهف : ٦ )
وقال تعالى :﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾ ( فاطر : ٨ ) أردفه بكلام يزيل ذلك الحزن العظيم عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى :﴿ إنا أنزلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة التامة ﴿ عليك ﴾ يا أشرف الخلق ﴿ الكتاب ﴾ أي : الكامل الشرف ﴿ للناس ﴾ أي : لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم فهو للناس عامة لأن رسالتك عامة وجعلنا إنزاله مقروناً ﴿ بالحق ﴾ أي : بالصدق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله ﴿ فمن اهتدى ﴾ أي : طاوع الهادي ﴿ فلنفسه ﴾ أي : فنفعه يعود إلى نفسه ﴿ ومن ضل ﴾ أي : وقع في الضلال بمخالفته ﴿ فإنما يضل عليها ﴾ أي : فضرر ضلاله يعود إليه.
ولما دل السياق على أن التقدير فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدى عطف عليه قوله تعالى :﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ أي : لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم، وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الهداية والضلال من العبد لا يحصلان إلا من الله تعالى لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم، فكما أن الحياة واليقظة لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى كذلك الضلال لا يحصل إلا من الله تعالى ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر ومن عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب.
ولما بين سبحانه أن الهداية والضلال بتقديره قال تعالى :﴿ الله ﴾ أي : الذي له مجامع الكمال وليس لشائبة النقص إليه سبيل ﴿ يتوفى الأنفس ﴾ أي : الأرواح ﴿ حين موتها ﴾ أي : موت أجسادها وتوفيها إماتتها وهي أن تسلب ما هي به حية حساسة دراكة من صحة أجزائها وسلامتها لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت وقوله تعالى :﴿ والتي لم تمت في منامها ﴾ عطف على الأنفس أي : يتوفى الأنفس حين موتها ويتوفى أيضاً الأنفس التي لم تمت في منامها ففي منامها ظرف ليتوفى أي : يتوفاها حين تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى ومنه قوله تعالى :﴿ وهو الذي يتوفاكم بالليل ﴾ ( الأنعام : ٦٠ )
حتى لا تميزوا ولا تتصرفوا كما أن الموتى كذلك فالتي تتوفى عند النوم هي الأنفس التي يكون بها العقل والتمييز ولكل إنسان نفسان :
إحداهما : نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت ويزول بزوالها النفس والأخرى هي النفس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم يتنفس ﴿ فيمسك التي قضى عليها الموت ﴾ فلا يردها إلى جسدها، وقرأ حمزة والكسائي بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء بعد الضاد ورفع التاء من الموت، والباقون بفتح القاف والضاد وسكون الياء بعد الضاد ونصب الموت ﴿ ويرسل الأخرى ﴾ أي : يردها إلى جسدها وهي التي لم يقض عليها الموت ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ أي : إلى الوقت الذي ضربه لموتها، وقيل : يتوفى الأنفس أي : يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي أنفس التمييز، قالوا : والتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة ولأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس، ورووا عن ابن عباس رضي الله عنه في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس : التي بها العقل والتمييز، والروح : التي بها النفس والتحريك فإذا نام العبد قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه. قال الزمخشري : والصحيح ما ذكر أولاً لأن الله تعالى علق التوفي والموت والمنام جميعاً بالأنفس وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام انتهى.
ويروى عن علي رضي الله تعالى عنه قال : يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا نبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة، ويقال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت العود إلى أجسادها أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مدة حياتها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخل إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول : اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين ».
﴿ إن في ذلك ﴾ أي : التوفي والإمساك والإرسال ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات على كمال قدرته وحكمته ورحمته. وقال مقاتل : لعلامات ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ أي : فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث، فإن قيل : قوله تعالى ﴿ الله يتوفى الأنفس ﴾ ( الزمر : ٤٢ ) يدل على أن المتوفي هو الله تعالى ويؤيده قوله تعالى :﴿ الذي خلق الموت والحياة ﴾ ( الملك : ٢ ) وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام :﴿ ربي الذي يحيي ويميت ﴾ ( البقرة : ٢٥٨ ) وقال تعالى في آية أخرى ﴿ إذا جاء أحدهم الموت توفّته رسلنا ﴾ ( الأنعام : ٦١ )
فكيف الجمع ؟ أجيب : بأن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى إلا أنه تعالى فوض كل نوع إلى ملك من الملائكة ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو الرئيس وتحته أتباع وخدم فأضيف التوفي في آية إلى الله تعالى وهي الإضافة الحقيقية، وفي آية إلى ملك الموت لأنه الرئيس في هذا العمل وفي آية إلى : أتباعه.
ثم إن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالاً فقالوا : نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله تعالى من المقربين فنحن نعبدها لتشفع لنا أولئك المقربون عند الله تعالى فأجاب الله سبحانه عنه بقوله تعالى :﴿ أم اتخذوا ﴾ أي : كلفوا أنفسهم بعد وضوح الدلائل عندهم ﴿ من دون الله ﴾ أي : الذي لا مكافئ له ولا مداني ﴿ شفعاء ﴾ أي : تشفع لهم عند الله تعالى.
تنبيه : أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة ﴿ قل ﴾ يا أشرف الخلق لهؤلاء البعداء ﴿ أوَلو ﴾ أي : أيشفعون ولو ﴿ كانوا لا يملكون شيئاً ﴾ أي : من الشفاعة وغيرها ﴿ ولا يعقلون ﴾ أي : أنكم تعبدونهم ولا غير ذلك وجواب لو محذوف تقديره ولو كانوا بهذه الصفة تتخذونهم.
﴿ قل ﴾ أي : لهم ﴿ لله ﴾ أي : الذي له كمال القدرة والعظمة ﴿ الشفاعة جميعاً ﴾ أي : هو مختص بها فلا يشفع أحد إلا بإذنه ثم قرر ذلك فقال ﴿ له ملك السماوات والأرض ﴾ أي : فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم دون إذنه ورضاه ﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ أي : يوم القيامة فيكون الملك له أيضاً حينئذ.
ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من أعمال المشركين القبيحة بقوله تعالى :﴿ وإذا ذُكر الله ﴾ أي : الذي لا إله غيره ﴿ وحده ﴾ أي : دون آلهتهم ﴿ اشمأزت ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد : يعني انقبضت، وقال قتادة : استكبرت وأصل الاشمئزاز النفور والاستكبار أي : نفرت واستكبرت ﴿ قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ أي : لا يؤمنون بالبعث ﴿ وإذا ذكر الذين من دونه ﴾ أي : الأصنام ﴿ إذا هم يستبشرون ﴾ أي : يفرحون لفرط افتتانهم ونسيانهم حق الله تعالى ولقد بالغ في الأمرين حق الغاية فيهما، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه والاشمئزاز أن يمتلئ غيظاً وهماً حتى ينقبض أديم وجهه. قال مجاهد ومقاتل : وذلك حين :«قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة والنجم وألقى الشيطان في أمنيته تلك الغرانيق العلا ففرح به المشركون وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الحج ».
تنبيه : قال الزمخشري : فإن قلت ما العامل في إذا ذكر، قلت : العامل في إذا المفاجأة تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجؤوا وقت الاستبشار. قال أبو حيان : أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو هو أن الظرفين معمولان لفاجؤوا ثم قال : إذا الأولى تنتصب على الظرفية والثانية على المفعول به.
ولما حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بذكر الدعاء العظيم فقال تعالى :﴿ قل اللهم ﴾ أي : يا الله ﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ أي : مبدعهما من العدم أي : ألتجئ إلى الله تعالى بالدعاء لما تحيرت في أمرهم وعجزت في عنادهم وشدة شكيمتهم فإنه القادر على الأشياء والعالم بالأحوال كلها ﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ وصف تعالى نفسه بكمال القدرة وكمال العلم ﴿ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ أي : من أمر الدين وعن الربيع بن خيثم وكان قليل الكلام لما أخبر بقتل الحسين وسخط على قاتله وقالوا : الآن يتكلم فما زاد على أن قال : آه أوقد فعلوا وقرأ الآية، وروي أنه قال على أثرها : أو قتل من كان يجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره ويضع فاه على فيه. وعن أبي سلمة قال :«سألت عائشة رضي الله عنها بم كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته بالليل قالت : كان يقول : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ».
ولما حكى الله تعالى عنهم هذا المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء.
أولها : قوله تعالى :﴿ ولو أن للذين ظلموا ﴾ أنفسهم بالكفر ﴿ ما في الأرض جميعاً ﴾ أي : من الأموال ﴿ ومثله معه لافتدوا ﴾ أي : اجتهدوا في طلب أن يفدوا أنفسهم ﴿ به من سوء العذاب يوم القيامة ﴾ وهذا وعيد شديد وإقناط كلي لهم من الخلاص روى الشيخان عن أنس :«أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً لو أن لك ما في الأرض من شيء لكنت تفتدي به فيقول : نعم فيقول الله : قد أردت منك وفي رواية سألتك أهون من هذا وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي شيئاً » قوله أردت أي : فعلت معك فعل الآمر المريد وهو معنى قوله في رواية قد سألتك.
ثانيها : قوله تعالى :﴿ وبدا لهم من الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ ما لم يكونوا يحتسبون ﴾ أي : ظهر لهم أنواع من العذاب لم تكن في حسابهم وفي هذا زيادة مبالغة هو نظير قوله تعالى في الوعد ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾ ( السجدة : ١٧ )
وقوله صلى الله عليه وسلم :«في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ». وقال مقاتل : ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. وقال السدي : ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدلت لهم سيئات لأنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام ويظنونها حسنات فبدت لهم سيئات.
ثالثها قوله تعالى :﴿ وبدا لهم ﴾ أي : ظهر ظهوراً تاماً ﴿ سيئات ما كسبوا ﴾ أي : مساوئ أعمالهم من الشرك وظلم أولياء الله تعالى ﴿ وحاق ﴾ أي : نزل ﴿ بهم ما كانوا به يستهزؤون ﴾ أي : يطلبون ويوجدون الهزء في العذاب.
ثم حكى الله تعالى عنهم طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة بقوله تعالى :﴿ فإذا مس الإنسان ﴾ أي : الجنس ﴿ ضر ﴾ أي : فقر أو مرض أو غير ذلك ﴿ دعانا ﴾ أي : في دفع ذلك، فإن قيل : ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو ؟ أجيب : بأن السبب في ذلك أن هذه وقعت مسببة عن قوله تعالى :﴿ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت ﴾ على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره فقوله تعالى :﴿ فإذا مس الإنسان ﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿ وإذا ذكر الله وحده ﴾ وما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم هذا محصل كلام الزمخشري، واعترضه أبو حيان بأن أبا علي يمنع الاعتراض بجملتين فكيف بهذه الجمل الكثيرة ثم قال : والذي يظهر في الربط أنه لما قال ﴿ ولو أن للذين ظلموا ﴾ ( الزمر : ٤٧ ) الآية وكان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب وأنه يظهر لهم يوم القيامة العذاب أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه إذ كان إذا مسه ضر دعا الله تعالى فإذا أحسن إليه لم ينسب ذلك إليه كما قال تعالى :﴿ ثم إذا خوّلناه ﴾ أي : أعطيناه ﴿ نعمة منا ﴾ أي : تفضلاً فإن التحويل يختص به ﴿ قال إنما أوتيته ﴾ أي : المنعم به ﴿ على علم ﴾ أي : على علم من الله تعالى إني له أهل. وقيل : إن كان ذلك سعادة في المال أو عافية في النفس يقول : إنما حصل ذلك بجده واجتهاده وإن كان صحة قال : إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني وإن حصل مال يقول : حصل بكسبي وهذا تناقض أيضاً لأنه لما كان عاجزاً محتاجاً أضاف الكل إلى الله تعالى، وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله تعالى وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح ﴿ بل هي فتنة ﴾ أي : بلية يبتلي بها العبد.
فإن قيل : كيف ذكر النعمة أولاً في قوله :﴿ إنما أوتيته ﴾ ثم أنثها ثانياً ؟ أجيب : بأنه ذكر أولاً لأن النعمة بمعنى المنعم به كما مر وقيل : تقديره شيئاً من النعمة وأتت ثانياً اعتباراً بلفظها أو لأن الخبر لما كان مؤنثاً أعني فتنة ساغ تأنيث المبتدأ لأجله لأنه في معناه كقولهم ما جاءت حاجتك وقيل : هي أي : الحالة أو القولة كما جرى عليه الجلال المحلي أو العطية أو النعمة كما قاله البقاعي ﴿ ولكن أكثرهم ﴾ أي : أكثر هؤلاء القائلين هذا الكلام ﴿ لا يعلمون ﴾ أن التخويل استدراج وامتحان.
﴿ قد قالها ﴾ أي : القولة المذكورة وهي قوله :﴿ إنما أوتيته على علم ﴾ لأنها كلمة أو جملة من القول ﴿ الذين من قبلهم ﴾ أي : من الأمم الماضية. قال الزمخشري : هم قارون وقومه حيث قال إنما أوتيته على علم عندي، وقومه راضون به فكأنهم قالوها. قال : ويجوز أن يكون في الأمم الماضية آخرون قائلون مثلها ﴿ فما أغنى عنهم ﴾ أي : أولئك الماضين ﴿ ما كانوا يكسبون ﴾ أي : من متاع الدنيا ويجمعون منه.
﴿ فأصابهم سيئات ما كسبوا ﴾ أي : جزاؤها من العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى ﴿ والذين ظلموا ﴾ أي : بالعتو ﴿ من هؤلاء ﴾ أي : من مشركي قومك ومن للبيان أو للتبعيض ﴿ سيصيبهم سيئات ما كسبوا ﴾ أي : كما أصاب أولئك ﴿ وما هم بمعجزين ﴾ أي : فائتين عذابنا.
فقتل صناديدهم يوم بدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين فقيل لهم :﴿ أولم يعلموا أن الله ﴾ أي : الذي له الجلال والكمال ﴿ يبسط الرزق ﴾ أي : يوسعه ﴿ لمن يشاء ﴾ وإن كان لا حيلة له ولا قوة امتحاناً ﴿ ويقدر ﴾ أي : يضيق الرزق لمن يشاء وإن كان قوياً شديد الحيلة ابتلاء فلا قابض ولا باسط إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنّا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلا بد لذلك من حكمة وسبب، وذلك السبب ليس هو عقل الإنسان وجهله فإنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق، ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السعة، وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأفلاك لأن الساعة التي ولد فيها ذلك الملك السلطان القاهر قد ولد فيها عالم أيضاً من الناس وعالم من الحيوان غير الإنسان وتولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات.
فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة، علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان العقلي القاطع صحة قوله تعالى :﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ قال الشاعر :
فلا السعد يقضي به المشتري ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء وقاضي القضاة تعالى وجل
﴿ إن في ذلك ﴾ أي : البيان الظاهر ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ أي : بأن الحوادث كلها من الله تعالى بوسط أو غيره.
ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ يا محمد ربكم المحسن إليكم يقول ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾ أي : أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن ﴿ لا تقنطوا ﴾ أي : لا تيأسوا ﴿ من رحمة الله ﴾ أي : إكرام المحيط بكل صفات الكمال فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي يا عبادي بسكون الياء وتسقط في الوصل، وفتحها الباقون، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تقنطوا بكسر النون بعد القاف والباقون بفتحها ﴿ إن الله ﴾ أي : المتفضل على عباده المؤمنين ﴿ يغفر الذنوب ﴾ لمن تاب من الشرك ﴿ جميعاً ﴾ لمن يشاء كما قال تعالى ﴿ إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ ( النساء : ٤٨ ) وأما الكافر إذا أسلم فإن الله تعالى لا يؤاخذه بما وقع من كفره قال تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ ( الأنفال : ٣٨ ).
تنبيه : في هذه الآية أنواع من المعاني والبيان حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى :﴿ من رحمة الله ﴾ ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ ومنها إبراز الجملة في قوله تعالى ﴿ إنه هو ﴾ أي : وحده ﴿ الغفور ﴾ أي : البليغ الغفر يمحو الذنوب عمن يشاء عيناً وأثراً فلا يعاقب ولا يعاتب ﴿ الرحيم ﴾ أي : المكرم بعد المغفرة مؤكدة بأن وبالفصل وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما :«أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن الذي تدعو له لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة » فنزلت هذه الآية. وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس :«أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما حين بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلقى أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة وأنا قد فعلت ذلك كله، فأنزل الله سبحانه وتعالى ﴿ إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً ﴾ ( مريم : ٦٠ ) فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ ( النساء، ٤٨ ) فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ الآية قال : نعم هذا. فجاء فأسلم، فقال المسلمون : هذا له خاصة قال : بل للمسلمين عامة ».
وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا، وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بيده، ثم بعثها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.
وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد وإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ثم قرأ ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ وعن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي » وروى الطبراني :«أنه صلى الله عليه وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بها أي : بهذه الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك ؟ فسكت ساعة ثم قال : إلاً من أشرك ثلاث مرات ».
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل، فإذا راهب فسأله فقال : هل لي توبة فقال : لا فقتله وجعل يسأل فقال رجل : ائت قرية كذا فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال : قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ». وفي رواية فقال له : إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة فقال : لا فقتله فكمل مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على عالم فقال :«إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال : نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا إلى أن قال : فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة ». وعن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت ﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ﴾ ( محمد : ٣٣ ) فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقيل لنا : الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئاً خفنا عليه، ومن لم يصب منها شيئاً رجونا له فأنزل الله تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله ﴾ وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر.
ولما كان التقدير وأقلعوا عن ذنوبكم فإنها قاطعة عن الخير مبعدة عن الكمال عطف عليه استعظاماً قوله تعالى :﴿ وأنيبوا ﴾ أي : ارجعوا بكلياتكم وكلوا حوائجكم وأسندوا أموركم واجعلوا طريقكم ﴿ إلى ربكم ﴾ أي : الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه ﴿ وأسلموا ﴾ أي : وأخلصوا ﴿ له ﴾ أعمالكم ﴿ من قبل أن يأتيكم ﴾ أي : وأنتم صاغرون ﴿ العذاب ﴾ أي : القاطع لكل عذوبة، المجرّع لكل مرارة وصعوبة ﴿ ثم لا تنصرون ﴾ أي : لا يتجدد لكم نوع نصر أبداً إن لم تتوبوا.
﴿ واتّبعوا ﴾ أي : عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع ﴿ أحسن ما أنزل إليكم ﴾ أي : على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فوق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله تعالى، واتباع أحاسن ما فيه فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون كأنك تراه الذي هو أعلى من استحضار أنه يراك الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك.
ولما كان هذا شديداً على النفس رغب فيه بقوله تعالى بمظهر صفة الإحسان موضع الإضمار :﴿ من ربكم ﴾ أي : الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم. وقال الحسن رضي الله عنه : معنى الآية الزموا طاعته واجتنبوا معصيته فإن في القرآن ذكر القبيح لتجتنبه، وذكر الأدون لئلا ترغب فيه، وذكر الأحسن لتؤثره. وقيل : الأحسن الناسخ دون المنسوخ لقوله تعالى :﴿ ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها ﴾ ( البقرة : ١٠٦ ) وقيل : العزائم دون الرخص وقوله تعالى :﴿ من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ﴾ أي : ليس عندكم شعور بإتيانه بوجه من الوجوه فيه تهديد وتخويف.
ولما خوفهم الله تعالى بهذا العذاب بين أنهم بتقدير نزوله عليهم ماذا يقولون، فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلام.
الأول : ما ذكره بقوله تعالى :﴿ أن ﴾ أي : كراهة أن ﴿ تقول نفسٌ ﴾ أي : عند وقوع العذاب وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد ﴿ يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ﴾ قال الحسن : قصرت في طاعة الله، وقال مجاهد : في أمر الله، وقال سعيد بن جبير : في حق الله وقيل : ضيعت في ذات الله، وقيل : معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى والعرب تسمي الجانب جنباً، قال في «الكشاف » : هذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه ألا ترى إلى قول الشاعر :
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
أي : فإنه لم يصرح بثبوت هذه الصفات المذكورة لابن الحشرج بل كنى عن ذلك في قبة مضروبة عليه فأفاد اثباتها له، والقبة تكون فوق الخيمة تتخذها الرؤساء، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة والدوري عن أبي عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ﴿ وإن ﴾ أي : والحال إني ﴿ كنت ﴾ أي : كان ذلك في طبعي ﴿ لمن الساخرين ﴾ أي : المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة أي : تقول هذا لعله يقبل منها ويعفى عنها على عادة المعترفين في وقت الشدائد لعلهم يعاودون إلى أجمل العوائد.
الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى عنهم بعد نزول العذاب عليهم : ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه :﴿ أو تقول ﴾ أي : تلك النفس المفرطة ﴿ لو أن الله ﴾ أي : الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل ﴿ هداني ﴾ أي : لبيان الطريق ﴿ لكنت من المتقين ﴾ أي : الذين لا يقدمون على فعل إلا ما يدلهم عليه دليل.
الثالث من الكلمات ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه :﴿ أو تقول ﴾ أي : تلك النفس المفرطة ﴿ حين ترى العذاب ﴾ أي : الذي واجهها عياناً ﴿ لو أن ﴾ أي : يا ليت ﴿ لي كرة ﴾ أي : رجعة إلى دار العمل ﴿ فأكون ﴾ أي : يتسبب عن رجوعي إليها أن أكون ﴿ من المحسنين ﴾ أي : العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن.
تنبيه : في نصب فأكون وجهان أحدهما : عطفه على كرة فإنها مصدر فعطف مصدر مؤول على مصدر مصرح به كقولها :
للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف
والثاني : أنه منصوب على جواب التمني المفهوم من قوله تعالى :﴿ لو أن لي كرّة ﴾ والفرق بين الوجهين أن الأول : يكون فيه الكون متمنى ويجوز أن تضمر أن وأن تظهر، والثاني : يكون فيه الكون مترتباً على حصول المتمنى لا متمنى ويجب أن تضمر أن.
ثم أجاب الله تعالى هذا القائل بقوله سبحانه :﴿ بلى قد جاءتك آياتي ﴾ أي : القرآن وهي سبب الهداية ﴿ فكذبت بها ﴾ أي : قلت ليست من عند الله ﴿ واستكبرت ﴾ أي : تكبرت عن الإيمان بها ﴿ وكنت من الكافرين ﴾.
فإن قيل : هلا قرن الجواب بما هو جواب له وهو قوله :﴿ لو أن الله هداني ﴾ ( الزمر : ٥٧ ) ولم يفصل بينهما ؟ أجيب : بأنه لا يخلو إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، وأما الثاني فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية، ثم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب، فإن قيل : كيف صح أن تقع بلى جواباً لغير منفي ؟ أجيب : بأن قوله ﴿ لو أن الله هداني ﴾ بمعنى ما هديت.
﴿ ويوم القيامة ﴾ أي : الذي لا يصح في الحكمة تركه ﴿ ترى ﴾ أي : أيها المحسن ﴿ الذين كذبوا على الله ﴾ أي : الحائز لجميع صفات الكمال بنسبة الشريك والولد إليه، وقال الحسن : هم الذين يقولون إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل، قال البقاعي : وكأنه عنى من المعتزلة الذين اعتزلوا مجلسه وابتدعوا قولهم إنهم يخلقون أفعالهم قال : ويدخل فيه من تكلم في الدين بجهل وكل من كذب وهو يعلم أنه كاذب في أي شيء كان، فإنه من حيث إن فعله فعل من يظن أن الله تعالى لا يعلم كذبه أي : ولا يقدر على جزائه كأنه كذب على الله وقوله تعالى :﴿ وجوههم مسودة ﴾ جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية وقيل : في محل نصب مفعولاً ثانياً لأن الرؤية قلبية، ورد بأن تعلق الرؤية البصرية بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما، وذكر أن هذا السواد مخالف لسائر أنواع السواد ﴿ أليس في جهنم مثوى ﴾ أي : مأوى ﴿ للمتكبرين ﴾ أي : الذين تكبروا على اتباع أمر الله تعالى وهو تقرير لأنهم يرونه كذلك.
ولما ذكر الله تعالى الذين أشقاهم أتبعهم حال الذين أسعدهم بقوله تعالى :﴿ وينجي الله ﴾ أي : يفعل بما له من صفات الكمال في نجاتهم فعل المبالغ في ذلك ﴿ الذين اتقوا ﴾ أي : بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه فكما وقاهم في الدنيا من المخالفات حماهم هنا من العقوبات ﴿ بمفازتهم ﴾ أي : بسبب فلاحهم لأن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة، ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بألف بعد الزاي جمعاً على أن لكل متق مفازة، والباقون بغير ألف بعد الزاي إفراداً وقوله تعالى ﴿ لا يمسهم السوء ﴾ جملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل : وما مفازتهم ؟ فقال : لا يمسهم السوء فلا محل لها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من الذين اتقوا، ومعنى الكلام لا يمسهم مكروه ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ أي : ولا يطرق بواطنهم حزن على فائت لأنه لا يفوت لهم شيء أصلاً.
ولما كان المخوف منه والمحزون عليه جامعين لكل ما في الكون فكان لا يقدر على دفعهما إلا القادر المبدع القيوم قال تعالى مستأنفاً أو معللاً، مظهراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام :﴿ الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً والذي نجاهم ﴿ خالق كل شيء ﴾ أي : من خير وشر وإيمان وكفر فلا يكون شيء أصلاً إلا بخلقه.
ولما دل هذا على القدرة الشاملة وكان لا بد معها من العلم الكامل قال تعالى :﴿ وهو على كل شيء ﴾ أي : مع القهر والغلبة ﴿ وكيل ﴾ أي : حفيظ لجميع ما يريده قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة.
وقوله تعالى :﴿ له مقاليد السماوات والأرض ﴾ جملة مستأنفة والمقاليد جمع مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح أو مقليد مثل منديل ومناديل أي : هو مالك أمرها وحافظها وهي من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح والكلمة أصلها فارسية، فإن قيل : ما للكتاب المبين والفارسية ؟ أجيب : بأن التعريب قد أحالها عربية كما أخرج استعمال المهمل عن كونه مهملاً، قال الزمخشري :«سأل عثمان النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى :﴿ له مقاليد السماوات والأرض ﴾ فقال : يا عثمان ما سألني أحد عنها قبلك تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ». وروى هذا الطبراني بسند ضعيف بل رواه ابن الجوزي في الموضوعات، ثم قال الزمخشري وتأويله على هذا : أن الله تعالى في هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها من المتقين أصابه، وقال قتادة ومقاتل : مفاتيح السماوات والأرض بالرزق والرحمة وقال الكلبي : خزائن المطر والنبات.
ولما وصف الله تعالى بالصفة الإلهية والجلالة وهو كونه خالقاً للأشياء وكونه مالكاً لمقاليد السماوات والأرض بأسرها قال بعده :﴿ والذين كفروا ﴾ أي : لبسوا ما اتضح من الدلالات وجحدوا ﴿ بآيات الله ﴾ أي : دلائل قدرته الظاهرة الباهرة ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿ هم الخاسرون ﴾ لأنهم خسروا أنفسهم وكل شيء متصل بها على وجه النفع، وقال الزمخشري :﴿ والذين كفروا ﴾ متصل بقوله :﴿ وينجّي الله الذين اتقوا بمفازتهم ﴾ ( الزمر : ٦١ ) واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها وأن له مقاليد السماوات والأرض، واعترضه الرازي : بأن وينجي جملة فعلية والذين كفروا جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يجوز واعترض الآخر بأنه لا مانع من ذلك.
ولما دعا كفار قريش النبي صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائهم قال الله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهم ﴿ أفغير الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ تأمروني أعبد أيها الجاهلون ﴾ أي : العريقون في الجهل لأن الدليل القاطع قد قام بأن الله تعالى هو المستحق للعبادة فمن عبد غيره فهو جاهل، وقرأ نافع بتخفيف النون وفتح الياء وابن كثير بتشديد النون وسكون الياء، وابن عامر بنونين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وسكون الياء والباقون بتشديد النون وسكون الياء.
﴿ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ﴾ أي : الذي عملته قبل الشرك، فإن قيل : الموحى إليهم جماعة فكيف قال لئن أشركت على التوحيد ؟ أجيب : بأن تقدير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أي : أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت كما تقول : كسانا حلة أي : كل واحد منا، فإن قيل : كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم ؟ أجيب : بأن قوله تعالى :﴿ لئن أشركت ليحبطن عملك ﴾ قضية شرطية، والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزئها، ألا ترى أن قولك لو كانت الخمسة زوجاً لكانت منقسمة بمتساويين، قضية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق قال تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ ( الأنبياء : ٢٢ ) ولم يلزم من هذا صدق أن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا أو أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره كما قاله أكثر المفسرين أو أن ذلك على سبيل الفرض المحال ذكر ليكون ردعاً للأتباع.
ولما كان السياق للتهديد وكانت العبارة شاملة لما تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وهي ﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ﴾ ( البقرة : ٢١٧ ) قال تعالى :﴿ ولتكونن ﴾ أي : لأجل حبوطه ﴿ من الخاسرين ﴾ فإن من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته أما من أسلم بعد ردته فإنما يحبط ثواب عمله لا عمله كما نص عليه الشافعي.
تنبيه : اللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب.
ولما كان التقدير لا تشرك بنا عطف عليه قوله تعالى :﴿ بل الله ﴾ أي : المتصف بصفات الكمال وحده ﴿ فاعبد ﴾ أي : مخلصاً له العبادة ﴿ وكن من الشاكرين ﴾ أي : العريقين في هذا الوصف لأنه جعلك خير الخلائق أجمعين.
ولما حكى الله تعالى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول أن يعبد الله ولا يعبد سواه، وبين أنهم لو عرفوا الله تعالى حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية قال :﴿ وما قدروا الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ حق قدره ﴾ أي : ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره مع أنهم لو استغرقوا الزمان كله في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره.
ولما بين أنهم ما عظموه تعظيماً لائقاً به أردفه بما يدل على كمال عظمته بقوله تعالى :﴿ والأرض جميعاً قبضته ﴾ وهو مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي : ما عظموه حق عظمته والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة كقوله تعالى :﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ﴾ ( البقرة : ٢٨ ) أي : كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا، وجميعاً حال وهي دالة على أن المراد بالأرض : الأرضون لأن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع، وقدم الأرض على السماوات لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها.
ولما كان في هذه الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال تعالى :﴿ يوم القيامة ﴾ ولا قبضة هناك لا حقيقة ولا مجازاً وكذا الطي واليمين وإنما هو تمثيل وتخييل لتمام القدرة.
ولما كانوا يعلمون أن السماوات سبع متطابقة بما يشاهدونه من سير النجوم جمع ليكون مع جميعاً كالتصريح في جمع الأرض أيضاً في قوله تعالى :﴿ والسماوات مطويات ﴾ أي : مجموعات ﴿ بيمينه ﴾ قال الإمام الرازي : وههنا سؤالات ؛ الأول : أن العرش أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع ثم إنه تعالى قال في صفة العرش ﴿ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ﴾ ( الحاقة : ١٧ )، فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم فكيف يجوز تقرير عظمة الله عز وجل بكونه حاملاً للسماوات والأرض ؟ وأجاب : بأن مراتب التعظيم كثيرة.
فأولها : تقرير الله بكونه قادراً على هذه الأجسام العظيمة كما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة عظيم، ثم بعده تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.
السؤال الثاني : قوله تعالى :﴿ والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ﴾ شرح حال لا تحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم معترفون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم، وإن كان الخطاب مع المكذبين بالنبوة فهم ينكرون قوله تعالى :﴿ والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ﴾ فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك ؟.
وأجاب عنه : بأن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السماوات والأرضين من وجوه العمارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإفنائها يوم القيامة، وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق، فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض وذلك يدل على كمال الاستغناء.
السؤال الثالث : حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدرته تعالى، فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة ؟ وأجاب : بأنه خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا.
ولما كان هذا إنما هو تمثيل يعهد والمراد به الغاية في القدرة نزه نفسه المقدس عما ربما نسبه له المجسم والمشبه فقال تعالى :﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزه من هذه القدرة قدرته عن كل شائبة نقص ﴿ وتعالى ﴾ علو الإيحاط به ﴿ عما يشركون ﴾ معه لأنه لو كان له شريك ينازعه في هذه القدرة أو بعضها لمنعه شيئاً منها وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء البتة. روى البخاري في صحيحه في التوحيد وغيره عن عبد الله بن مسعود قال :«جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إذا كان يوم القيامة جعل الله تعالى السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والماء والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك. فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً لقول الحبر ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ الآية » وإنما ضحك صلى الله عليه وسلم وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهم علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، وإنما يدل ذلك على القدرة الباهرة وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأذهان هينة عليه هواناً لا يصل السامع إلى الوقوف عليه إلا بإجراء العبارة في مثل هذه الطريقة على التخييل.
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبابرة أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ». وللبخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ». قال أبو سليمان الخطابي : ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من وصف اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف، وقد ورد كلتا يديه يمين وليس عندنا معنى اليد الجارحة وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي حيث انتهى بنا الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة رضي الله تعالى عنهم، وقال سفيان بن عيينة : كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه انتهى. وقد قدمنا أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه وأن الخلف يؤولونه والأول أسلم والثاني أحكم.
ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريق آخر يدل أيضاً على كمال العظمة وهو شرح مقدمات يوم القيامة فقال :﴿ ونفخ في الصور ﴾ أي : القرن النفخة الأولى لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم ﴿ فصعق ﴾ أي : مات ﴿ من في السماوات ومن في الأرض ﴾ واختلف فيمن استثنى الله تعالى بقوله سبحانه :﴿ إلا من شاء الله ﴾ فقال الحسن : هو الله وحده وقال ابن عباس : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، ثم يميت الله تعالى ميكائيل وإسرافيل وجبريل وملك الموت، وقيل : حملة العرش، وقيل : الحور والولدان، وقيل : الشهداء لقوله تعالى :﴿ بل أحياء عند ربهم يرزقون ﴾ ( آل عمران : ١٦٩ ) وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش ». وقال جابر : هو موسى عليه السلام لأنه صعق فلا يصعق ثانياً وقال قتادة : الله أعلم بهم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم وهذا أسلم، ﴿ ثم نفخ فيه ﴾ أي : في الصور نفخة ﴿ أخرى ﴾ أي : نفخة ثانية ﴿ فإذا هم ﴾ أي : جميع الخلائق الموتى ﴿ قيام ﴾ أي : قائمون ﴿ ينظرون ﴾ أي : يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب جسيم، وقيل : ينتظرون أمر الله تعالى فيهم وهذا يدل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى لأن لفظة ثم للتراخي، وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ما بين النفختين أربعون قالوا : أربعون يوماً، قال أبو هريرة : أبيت، قالوا : أربعون شهراً، قال : أبيت، قالوا : أربعون سنة، قال : أبيت، قال : ثم ينزل الله تعالى من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة » وقوله تعالى :﴿ فإذا هم ﴾ يدل على أن قيامهم يحصل عقب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء تدل على التعقيب.
ولما ذكر تعالى إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن أتبعه بنور أرض القيامة فقال :
﴿ وأشرقت ﴾ أي : أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة ﴿ الأرض ﴾ أي : التي أوجدت لحشرهم وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى :﴿ يوم تُبدّل الأرض غير الأرض ﴾ ( إبراهيم : ٤٨ ). ﴿ بنور ربها ﴾ أي : خالقها وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه قال صلى الله عليه وسلم :«سترون ربكم » وقال :«كما لا تضارون في الشمس في يوم الصحو » وقال الحسن والسدي : بعدل ربها. ﴿ ووضع الكتاب ﴾ أي : كتاب الأعمال للحساب لقوله تعالى :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً ﴾ ( الإسراء : ١٣ ) وقوله تعالى :﴿ مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾ ( الكهف : ٤٩ ) وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ تقابل به الصحف، وقيل : الكتاب الذي أنزل إلى كل أمة تعمل به، واقتصر على هذا البقاعي. ﴿ وجيء بالنبيين ﴾ أي : للشهادة على أممهم واختلف في قوله تعالى :﴿ والشهداء ﴾ فقال ابن عباس : يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم : محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لقوله تعالى :﴿ جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ﴾ ( البقرة : ١٤٣ ) وقال عطاء ومقاتل : يعني الحفظة لقوله تعالى :﴿ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ﴾ ( ق : ٢١ ) وقيل : هم المستشهدون في سبيل الله.
ولما بين تعالى أنه يوصل إلى كل واحد حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات أولها قوله تعالى :﴿ وقضى بينهم ﴾ أي : العباد ﴿ بالحق ﴾ أي : العدل، ثانيها : قوله تعالى :﴿ وهم لا يظلمون ﴾ أي : لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم، ثالثها : قوله تعالى :﴿ ووفيت كل نفس ما عملت ﴾ أي : جزاء ما عملته، رابعها : قوله تعالى :﴿ وهو أعلم بما يفعلون ﴾ أي : فلا يفوته شيء من أفعالهم.
ثم فصل التوفية بقوله تعالى مقدماً أهل الغضب :﴿ وسيق الذين كفروا ﴾ أي : بالعنف والدفع ﴿ إلى جهنم ﴾ كما قال تعالى :﴿ يوم يُدعّون إلى نار جهنم دعّاً ﴾ ( الطور : ١٣ )
أي : يدفعون إليها دفعاً وقوله تعالى :﴿ زمراً ﴾ حال أي : جماعات في تفرقة بعضهم على أثر بعض كل أمة على حدة. ﴿ حتى إذا جاؤوها ﴾ أي : على صفة الذل والصغار، وأجاب إذا بقوله تعالى :﴿ فتحت أبوابها ﴾ أي : السبعة وكانت مغلقة قبل ذلك وإنما تفتح عند وصول الكفار إليها، وقرأ الكوفيون فتحت وفتحت الآتية بالتخفيف والباقون بالتشديد على التكثير. ﴿ وقال لهم خزنتها ﴾ إنكاراً عليهم وتقريعاً وتوبيخاً ﴿ ألم يأتكم رسل منكم ﴾ أي : من جنسكم لأن قيام الحجة بالجنس أقوى ﴿ يتلون ﴾ أي : يتلون مرة بعد مرة وشيئاً في إثر شيء ﴿ عليكم آيات ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم من القرآن وغيره ﴿ وينذرونكم ﴾ أي : يخوفونكم ﴿ لقاء يومكم ﴾ وقولهم ﴿ هذا ﴾ إشارة إلى يوم البعث، فإن قيل : لم أضيف إليهم اليوم ؟ أجيب : بأنهم أرادوا لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة، قال الزمخشري : وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضاً في أوقات الشدة، ويجوز أن يراد باليوم يوم البعث كله وجرى عليه البقاعي وهو أولى ولما قال لهم الخزنة ذلك ﴿ قالوا بلى ﴾ أتونا وتلوا علينا وحذرونا ﴿ ولكن حقت ﴾ أي : وجبت ﴿ كلمة العذاب ﴾ أي : التي سبقت في الأزل علينا هكذا كان الأصل ولكنهم قالوا ﴿ على الكافرين ﴾ تخصيصاً بأهل هذا الوصف وبياناً لأنه موجب دخولهم وهو تغطيتهم الأنوار التي أتتهم بها الرسل عليهم الصلاة والسلام.
تنبيه : في الآية دليل على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا لهم أنهم ما بقي لهم عذر ولا على بعد مجيء الرسل عليهم الصلاة والسلام، فلو لم يكن مجيء الرسل شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدة، وقيل : كلمة العذاب هي قوله تعالى :﴿ لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين ﴾ ( هود : ١١٩ ).
ثم كأنه قيل : فماذا وقع بعد هذا التقريع ؟. ﴿ قيل ﴾ : وقع أن الملائكة قالت لهم ﴿ ادخلوا أبواب جهنم ﴾ أي : طبقاتها المتجهمة لداخلها ﴿ خالدين ﴾ أي : مقدرين الخلود ﴿ فيها ﴾ ولما كان سبب كفرهم بالآيات هو التكبر قالوا لهم :﴿ فبئس مثوى ﴾ أي : منزل ومقام ﴿ المتكبرين ﴾ أي : الذين أوجب تكبرهم حقوق كلمة العذاب عليهم فلذلك تعاطوا أسبابها.
ولما ذكر تعالى أحوال الكافرين أتبعه أحوال أضدادهم فقال عز من قائل :﴿ وسيق الذين اتقوا ربهم ﴾ أي : الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة ﴿ إلى الجنة ﴾ وقوله تعالى :﴿ زمراً ﴾ حال أي : جماعات أهل الصلاة المستكثرين منها على حدة وأهل الصوم كذلك إلى غير ذلك من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه.
فإن قيل : السوق في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يساقوا إليه وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأي حاجة فيه إلى السوق ؟ أجيب : بأن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، والمراد بسوق أهل الجنة : سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين سراعاً إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين هذا سوق تشريف وإكرام وذاك سوق إهانة وانتقام، وهذا من بدائع أنواع البديع وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وهيئتها في حق المؤمنين فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم فسبحان من أنزله معجز المباني وتمكن المعاني عذب الموارد والمثاني.
وقيل : إن المحبة والصداقة باقية بين المتقين إلى يوم القيامة كما قال تعالى :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدواً إلا المتقين ﴾ ( الإحزاب : ٦٧ ) فإذا قيل لواحد منهم : اذهب إلى الجنة فيقول : لا أدخلها إلا مع أحبابي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السوق إلى الجنة.
ولما ذكر تعالى السوق ذكر غايته بقوله تعالى :﴿ حتى إذا جاؤوها ﴾ اختلف في جواب إذا على أوجه. أحدها قوله تعالى :﴿ وفتحت أبوابها ﴾ والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش، وإنما جيء هنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجون مغلقة عادة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها، فعلى هذا أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون مقدماً على دخولهم إليها كما قال تعالى :﴿ جنات عدن مفتّحة لهم الأبواب ﴾ ( ص : ٥٠ ) فلذلك جيء بالواو فكأنه قال : حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها.
ثانيها قوله تعالى :﴿ وقال لهم خزنتها ﴾ أي : بزيادة الواو أيضاً أي : حتى إذا جاؤوها قال لهم خزنتها، ثالثها : قال الزجاج : القول عندي إن الجواب محذوف تقديره دخلوها بعد قوله تعالى :﴿ إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ﴾ أي : حين الوصول ﴿ سلام عليكم ﴾ تعجيلاً للمسرة بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها ﴿ طبتم ﴾ أي : صلحتم لسكناها لأنها دار طهرها الله تعالى من كل دنس وطيبها من كل قذر فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحاً تنقي أنفسنا من درن الذنوب وتميط وضر هذه القلوب ثم سببوا عن ذلك ﴿ فادخلوها خالدين ﴾ أي : مقدرين الخلود. وسمى بعضهم الواو في قوله تعالى :﴿ وفتحت ﴾ واو الثمانية قال : لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله تعالى :﴿ وثامنهم كلبهم ﴾ ( الكهف : ٢٢ ) وقيل : تقدير الجواب ﴿ حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها ﴾ يعني أن الجواب بلفظ الشرط ولكنه بزيادة تقييده بالحال فلذلك صح، وقدره الجلال المحلي بقوله : دخلوها.
وقال : إن قوله تعالى :﴿ وقالوا ﴾ عطف على دخلوها المقدر ﴿ الحمد ﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿ لله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ الذي صدقنا وعده ﴾ في قوله تعالى :﴿ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً ﴾ ( مريم : ٦٣ ) فطابق قوله الواقع الذي وجدناه في هذه الساعة ﴿ وأورثنا ﴾ كما وعدنا ﴿ الأرض ﴾ أي : الأرض التي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقولهم :﴿ نتبوأ ﴾ أي : ننزل ﴿ من الجنة حيث نشاء ﴾ جملة حالية وحيث ظرف على بابها وقيل : مفعول به، وإنما عبر عن أرض الجنة بالأرض لوجهين ؛ أحدهما : أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام لأنه تعالى قال :﴿ وكلا منها رغداً حيث شئتما ﴾ ( البقرة : ٣٥ ) فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم عليه السلام كان ذلك سبباً للإرث، ثانيها : أن الوارث يتصرف فيما ورثه كيف شاء من غير منازع فكذلك المؤمنون يتصرفون في الجنة حيث شاؤوا وأرادوا، فإن قيل : كيف يتبوأ أحدهم مكان غيره ؟ أجيب : بأن لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث شاء ولا يحتاج إلى جنة غيره ولا يشتهي أحد إلا مكانه مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها ولما كانت بهذا الوصف الجليل تسبب عنه مدحها بقوله :﴿ فنعم ﴾ أي : أجرنا هكذا كان الأصل ولكنه قال :﴿ أجر العاملين ﴾ ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال.
ولما ذكر سبحانه الذين أكرمهم من المتقين وما وصلوا إليه من المقامات أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات فقال تعالى صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق لأنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره :﴿ وترى الملائكة ﴾ أي : القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق وقوله تعالى :﴿ حافين ﴾ حال أي : محدقين ﴿ من حول العرش ﴾ أي : من جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم، فإدخال من يفهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله تعالى أنهم لا يملؤون حوله، وهذا أولى من قول البيضاوي : إن من زائدة وقوله تعالى :﴿ يسبحون ﴾ حال من ضمير حافين ﴿ بحمد ربهم ﴾ أي : متلبسين بحمده يقولون سبحان الله وبحمده فهم ذاكرون له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذاً به، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق ﴿ وقضي بينهم ﴾ أي : بين جميع الخلق ﴿ بالحق ﴾ أي : العدل فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم ﴿ وقيل ﴾ أي : وقال المؤمنون من المقضي بينهم والملائكة وطي ذكرهم لتعيينهم وتعظيمهم ﴿ الحمد ﴾ أي : الإحاطة بجميع أوصاف الكمال، وعدل بالقول إلى ما هو أحق بهذا المقام فقال ﴿ لله ﴾ ذي الجلال والإكرام علمنا ذلك في هذا اليوم عين اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين.
ولما كان هذا اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم ﴿ رب العالمين ﴾ أي : الذين ابتدأهم أول مرة من العدم، وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير وأبقاهم رابعاً لا إلى أخير وقيل : إن الله تعالى ابتدأ ذكر الخلق بالحمد لله في قوله سبحانه :﴿ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ﴾ ( الأنعام : ١ ) وختم بالحمد في آخر الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم فنبه بذلك على تحميده في بداية كل أمر وخاتمته والله أعلم بمراده وأسرار كتابه، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم :«من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين ». حديث موضوع، وقوله عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها :«أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر » رواه الترمذي وغيره.
Icon