تفسير سورة غافر

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة غافر من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وأله وصحبه وسلم تسليما١.
سورة المؤمن٢ مكية٣ ٤.
١ ساقط من (ح)..
٢ (ح): حم الطور. والمراد بها سورة غافر..
٣ انظر: القول بمكيتها في الإيضاح ٣٩٩، والكشف ٢/٢٤٢، ومعاني الزجاج ٤/٣٦٥، والمحرر الوجيز ١٤/١١١، والإتقان ١/١٠١.
وذكر القرطبي عن الحسن قوله: إنها مكية إلا قوله تعالى: ﴿وسبح بحمد ربك﴾ لأن الصلوات نزلت بالمدينة، وعن ابن عباس وقتادة قولهما: إنها مكية إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما: ﴿إن الذين يجادلون في آيات﴾ والتي بعدها. وانظر: جامع القرطبي ١٥/٢٨٨. وقد ضعف ابن عطية القول بأن بعض آياتها مدني..

٤ (ت): (مكية، قوله تعالى ذكره: حم تنزيل كتاب الهداية إلى بلوغ النهاية لأبي محمد المكي رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا ببركاته). ولعل هذا من كلام الناسخ..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة غافر
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
سورة (المؤمن) مكية.
قوله (تعالى ذكره): ﴿حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله﴾ - إلى قوله - ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ﴾.
من رواية ابن وهب روى أن ابن عباس كان يقول: " لكل شيء لباب وأن لباب القرآن الحواميم ".
6395
ويقال: من ديباج القرآن.
وعن ابن مسعود أنه قال: من أراد رياضاً فليقرأ الحواميم. من رواية ابن وهب.
قرأ عيسى بن عمر: حاميم بفتح الميم. نصبه بإضمار فعل.
والتقدير: اقرأ حاميم. ولكن لا ينصرف لأنه اسم لمؤنث، إذ هو اسم السورة.
وقيل لم ينصرف لأنه بمنزلة أبنية بعض الأسماء الأعجمية (كهابيل)
6396
وقابيل.
ويجوز أن تكون فتحة الميم بناء (لالتقاء) الساكنين.
قال ابن عباس (الّر وحمَ ونون) مقطعة من الرحمن. وعنه أيضاً أن حَم: اسم من أسماء الله تعالى وهو قسم.
وعنه أن حّم اسم الله الأعظم.
وقال قتادة: حَم اسم من أسماء القرآن.
وقال الضحاك: حَم: قضى هذا القرآن.
6397
جعله مأخوذاً من حَم الامر إذا وجب.
والمعنى: حَم تنزيل هذا الكتاب من عند الله تعالى.
﴿ العزيز﴾ في انتقامه من أعدائه.
﴿العليم﴾، أي: العالم بما يعمل خلقه وبغير ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب﴾.
﴿غَافِرِ﴾ خُفِضَ على البدل ولا يحسن أن يكون نعتاً لأنه نكرة إذ هو لما يستقبل ومثله: ﴿وَقَابِلِ التوب﴾. فإن جعلتهما. لما مضى حَسُنَ، لأنه تعالى ذكره لم يزل غفاراً لذنوب عباده قابلاً للتوبة ممن تاب منهم. فيحسن على هذا أن يكونا نعتين لله جل ذكره، ويحسن أن يكونا بدلاً.
والتوب: جمع توبة كدومة ودوم. ويجوز أن يكون التوب مصدراً كتوبة يقال: تاب توبة وتوباً.
6398
فأما قوله ﴿شَدِيدِ العقاب﴾ فهو نكرة، فلا يجوز أن يكون إلاّ بدلاً.
فأما قوله: ﴿ذِي الطول﴾ فيحسن أن يكون معرفة لأنه لم يزل كذلك، فيجوز (على ذلك أن يكون) نعتاً وبدلاً.
وقوله: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ جملة في موضع النعت.
ومعنى ﴿شَدِيدِ العقاب﴾، أي: لمن عاقبه من أهل العصيان.
ومعنى ﴿ذِي الطول﴾: ذي الفضل المبسوط على من يشاء من خلقه.
قال ابن عباس: ذِي الطَّوْلِ: " ذِي السَّعَة والغنى ".
وقيل: معناه: ذي الطول على أوليائه يضاعف لهم الحسنات ويعفو عن السيئات. وقيل: معناه: ذي الغناء عمن لا يقول: " لا إله إلا الله " ودل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: لا إله إلا هو.
وقال قتادة: " ذي الطول: ذي النعم ".
6399
وقال ابن زيد: الطول: القدرة.
ومعنى ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير﴾، أي: لا معبود غيره، إليه المرجع.
ثم قال تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ﴾، أي: ما يجادل في حجج الله وأدلته وينكرها إلا الذين جحدوا توحديه (ورسالتك).
﴿فَلاَ يَغْرُرْكَ﴾ يا محمد ﴿تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد﴾ في البلاد، أي: لا يغررك يا محمد تصرفهم وبقاؤهم مع كفرهم فتحسب أنهم على شيء من الحق، إنما أمهلهم ليبلغ الكتاب أجله.
قال قتادة: ﴿تَقَلُّبُهُمْ﴾ في البلاد تصرفهم في أسفارهم.
ثم قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾، أي: كذّبت قبل قومك يا محمد قوم نوح.
6400
﴿والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ﴾، يعني عاداً وثموداً وقوم صالح وقوم لوط وقوم فرعون. كذبوا كلهم بعد نوح وغيرهم. فكما كان عاقبة أولئك الذين كذبوا الهلاك، كذلك يكون عاقبة هؤلاء على تكذيبهم لك.
ثم قال تعالى: ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾. قال قتادة: ليقتلوه.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق﴾، أي: وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم الحق الذي جاء به من عند الله.
وأصل الدحض، الزلق.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾، أي فأخذهم عقاب الله. فجعلهم عبرة وعظة لمن بعدهم.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا﴾، أي: وجبت وهو قوله جل ذكره: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩، السجدة: ١٣].
والمعنى: كما وجب العذاب على الأمم السالفة بتكذيبهم الرسل، كذلك وجب على من كذبك يا محمد.
ثم أخبر تعالى ذكره أن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين: {الذين
6401
يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ}، أي: يحملون عرش الله جل ذكره، وعز وجهه.
والذين حول العرش من ملائكته يصلون بحمده وشكره.
﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، أي: يقرون بالله أنه لا إله لهم سواه، ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقروا بمثل إقرارهم.
وقال قتادة: ويستغفرون للذين آمنوا: أهل لا إله إلا الله.
ثم قال: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾، أي: ويقولون: ربنا، وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من خلقك فعلمت كل شيء لا يخفى عليك شيء، ورحمت خلقك فوسعتهم رحمتك، فرزقتهم على كفر من كفر منهم بك برحمتك، برزقك قد وَسِعْتَ الكافر والمؤمن، ووسعت المؤمنين في الآخرة فأنقذتهم من النار وأدخلتهم الجنة.
6402
ثم قال عنهم أنهم قالوا: ﴿فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ﴾: أي: تابوا من الشرك.
﴿واتبعوا سَبِيلَكَ﴾، أي: وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه وهو الإسلام. قال قتادة: اتبعوا سبيلك، أي طاعتك ".
﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم﴾، أي: اصرف عنهم عذاب النار يوم القيامة.
وسؤال الملائكة الله تعالى في المغفرة للمؤمنين وإدخالهم الجنة هو قوله تعالى
﴿كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً﴾ [الفرقان: ١٦]، أي: إدخال المؤمنين الجنة والمغفرة لهم هو وعد من الله للملائكة فيهم إذ (سألوه) ذلك، وهو سؤالهم الله في هذه السورة. قال جميع ذلك القرطبي.
وجاز أن يسألوا الله تعالى ما قد وعد به سبحانه وتعالى على طريق التعجيل بذلك لهم على طريق الوفاء لهم بما وعدهم، فالله لا يخلف الميعاد، فلا يُسأل في وفاء
6403
وعده إنما هو سؤال أن يعجل لهم ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ﴾، أي: ويقولون يا ربنا وأدخل هؤلاء الذين تابوا عن الشرك جنات إقامة.
قال كعب: جنات عدن: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيئون والصديقون والشهداء. وأئمة العدل.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ﴾، أي: وأدخل جنات عدن من صلح من آباء هؤلاء التائبين وأزواجهم وذرياتهم.
قال قتادة: يدخل الرجل الجنة فيقول أين أبي؟ أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي فيقال: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: كنت أعمل لي ولهم! فيقال: أدخلوهم الجنة، ثم قرأ: ﴿وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ﴾ الآية.
وقوله: ﴿إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾، أي: العزيز في انتقامك من أعدائك، الحكيم في تدبير خلقك.
ثم قال تعالى: ﴿وَقِهِمُ السيئات وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ أي: ويقولون يا
6404
ربنا وقهم عذاب السيئات التي عملوها في الدنيا، ومن تقه عقاب السيئات يوم القيامة فقد دحمته.
﴿وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾، أي: النجاة من النار.
وقال نِفْطَوَيْه: معنى السيئات، أنها ما يسوء صاحبها.
فمعنى: ﴿وَقِهِمُ السيئات﴾: وقهم ما يسوءهم من عقابك وغضبك، ومنه قوله: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى﴾ [الأعراف: ١٣٠]، أي: إن يصبهم ما يسوءهم يطيَّروا بموسى: وكذلك قوله: ﴿وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٨]، معناه: ما أصابك من سوء فبذنبك.
قال مطرف: وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة، وأغش العباد للعباد
6405
للشياطين، ثم تلا الآية ﴿الذين يَحْمِلُونَ العرش﴾.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ﴾.
قال الحسن، يعطون كتابهم، فإذا نظروا في سيئاتهم مقتوا أنفسهم فيقال لهم: لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسهم اليوم.
فمن الآية تقديم وتأخير على قوله.
قال مجاهد: إذا عاينوا أعمالهم مقتوا أنفسهم فنودوا: لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم.
قال قتادة: معناه: لمقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم إذا عاينتم النار - مثل قول الحسن - وهو الكسائي وغيره.
وقيل: معناه: (كبر مقتكم أنفسكم) أكبر من مقت بعضكم بعضاً
6406
يوم القيامة، لأن بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة.
وقيل: الآية فيها تقديم وتأخير لأن النداء بالمقت لهم يكون في الاخرة ووقت دعائهم للإيمان هو في الدنيا.
والتقدير: ينادون (يوم القيامة)، لمقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان في الدنيا فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم عند الحساب.
وفي هذا التقدير تفريق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء وهو " أكبر " وما اتصل به، فلا يحسن ذلك عند النحويين.
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين﴾ - إلى قوله - ﴿السميع البصير﴾.
قال ابن عباس والضحاك: هذا مثل قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أمواتا فأحياكم﴾ [البقرة: ٢٨] الآية.
وقال قتادة: كانوا أمواتاً في أصلاب أبائهم فأحياهم الله تعالى في الدنيا، ثم أمهاتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث، فهاتان حياتان وموتتان.
6407
وقال السدي: اُميتوا في الدنيا، ثم أُحيوا في قبورهم فسئلوا وخوطبوا ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحبوا في الآخرة.
وقال ابن زيد: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وأمهاتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أمهاتهم في الدنيا، ثم أحياهم في الآخرة.
وقوله تعالى: ﴿فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾، أي: فأقررنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من النار لنا سبيل، فهل إلى كرة فنرجع إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل.
ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ﴾. في الكلام حذف؛ والتقدير: فأجيبوا أن لا سبيل إلى الخروج، ذلكم العذاب بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، أي: إذا وحده كفرتم، أي: إذا وحده موحد أشركتم وإن أشرك به مشرك صدقتموه.
وذكر ابن وهب عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات، يكلمهم الله في الاربعة فإذا كانت الخامسة سكتوا:
6408
﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾. قال: فيراجعهم بهذه الآية: ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ﴾ الآية.
ثم يقولون: ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ١٢] قال: فيرد عليهم: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ [السجدة: ١٣]- إلى - ﴿أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: ١٣].
ثم يقولون: ﴿رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل﴾ [إبراهيم: ٤٤]. قال: فيراجعهم بهذه الآية: ﴿أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ﴾ [إبراهيم: ٤٤].
قال: ثم يقولون: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ [فاطر: ٣٧] فيراجعهم: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير﴾ [فاطر: ٣٧].
قال: ثم يقولون: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ [المؤمنون: ١٠٦]، قال:
6409
فيراجعهم: ﴿قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨].
قال: فكان آخر كلامهم ذلك.
قال أبو محمد: وفي بعض رواية هذا الحديث تقديم وتأخير فيما ذكرنا.
ثم قال تعالى: ﴿فالحكم للَّهِ العلي الكبير﴾. فالقضاء لله، لا لما تعبدونه، العلي على كل شيء، الخبير الذي كل شيء دونه متصاغر له.
ثم قال تعالى: ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾، أي: الله هو الذي يريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته.
﴿وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً﴾، يعني: الغيث، يخرج به أقواتكم وأقوات أنعامكم.
﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ﴾، أي: ما يتذكر حجج الله تعالى وأدلته على قدرته ووحدانيته فيتعظ ويعتبر إلا من يرجع إلى توحيد الله سبحانه وطاعته جلت عظمته.
ثم قال: ﴿فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾، أي: ادعوا الله أيها المؤمنون مخلصين له الطاعة ولو كره ذلك منكم الكافرون.
6410
ثم قال تعالى: ﴿رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش﴾، أي: هو رفيع الصفات ذو السرير المحيط بما دونه.
﴿يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي: ينزل الوحي على من يشاء، يختص بذلك من يشاء من خلقه. وقيل: " من " بمعنى الباء. والمعنى: يلقي الروح بأمره أي: يلقي الوحي بأمره على من يشاء.
وقيل: معنى ﴿رَفِيعُ الدرجات﴾ (هي الدرجات) التي يعطيها الله تعالى للأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنين في الجنة.
فالمعنى: رفيع الثواب والمجازاة للأنبياء والمؤمنين.
وسمي الوحي روحا لأن الناس يحيون من الضلالة، والمهتدي حي، والصال (ميت في) التمثيل.
قال مجاهد: الروح هنا: الوحي، وقال قتادة: هو الوحي والرحمة.
6411
وقال ابن عباس: الروح: النبوة.
وقال: الضحاك: الكتاب الذي ينزله على من يشاء ومثله قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢]، يعني: القرآن في قول جميع المفسرين.
والروح: جبريل أيضاً، وهو قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣] سمي روحاً لأنه ينزل من عند الله تعالى بما يجيء به من أنزل عليه.
فأما قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً﴾ فقال ابن زيد: الروح هنا القرآن. وفيه اختلاف سيذكر إن شاء الله.
والضمير في " لينذر " يعود على الله جل ذكره، وقيل: يعود على الروح وهو الوحي، وقيل: يعود على النبي.
وقد قرأ الحسن " لتنذر " بالتاء على المخاطبة.
6412
وقوله: ﴿يَوْمَ التلاق﴾، أي: يوم يلتقي أهل السماوات وأهل الأرض، والأولون والآخرون. ثم قال: ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ﴾ " يوم " بدل من " يوم " الأول ".
وقيل العامل فيه: " لا يخفى على الله منهم شيء ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ﴾.
وقيل: معناه: بارزون من قبورهم.
ثم قال تعالى: ﴿لِّمَنِ الملك اليوم﴾، أي: يقول الله جل ذكره: لمن الملك اليوم؟.
فيجيب نفسه: ﴿لِلَّهِ الواحد﴾، أي: المنفرد / بالوحدانية والقدرة. ﴿القهار﴾ لكل شيء سواه.
وروى أبو وائل عن ابن مسعود (أنه قال): يحشر الناس على أرض
6413
بيضاء مثل الفضة لم يعص الله تعالى عليها. فيؤمر منادى أن ينادي: لمن الملك اليوم؟ فيقول العباد: لله الواحد القهار المؤمن منهم والكافر.
ثم أول ما ينظر من الخصومات في الدماء بمحضر القاتل والمقتول. فيقول: سل هذا: لم قتلني؟ فإن قال: قتلته لتكون العزة لفلان، قيل للمقتول: اقتله كما قتلك، وكذلك إن قتل جماعة أذيق القتل كما أذاقهم في الدنيا وهو قوله تعالى:
﴿اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ الآية.
أي: تثاب بما علمت في الدنيا لا يظلم أحد فيعاقب بما لم يفعل ولا يضيع ظلمه (عند من ظلمه).
﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾، أي: ذو سرعة في محاسبته عبادة يومئذ على أعمالهم.
روي أن ذلك اليوم لا ينتصف حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار قد فرغ الله تعالى من حسابهم والفصل بينهم.
فالمعنى: إنه تعالى لا تشغله محاسبة أحد عن محاسبة أحد.
6414
وقد روي أنه تعالى يحاسب الخلق كلهم في مقدار حلب شاة، وإنما هو تعالى يريد حساب كل نفس ويحدثه فيحدث لكل واحد منهم محاسبة في الحال التي يحدث فيها المحاسبة والمساءلة لأن بعض كلامه لا يشغله عن بعض، وكذلك بعض خلقه لا يشغله عن بعض، وهذه هي الصفات التي لا يشاركه فيها أحد، ليس كمثله شيء. ولا يجوز لأحد أن يتأول أو يتخايل إليه في محاسبة الله سبحانه خلقه أنه يحاسبهم بكلام أو لسان. تعالى الله عن الجوارح وعن مشابهة المخلوقين، إنما يحدث لكل إنسان محاسبة في الحال التي يريد محاسبته فيها. فافهم هذا ونزه الله عن التشبيه بالمخلوقين.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة﴾، أي: وأنذر يا محمد مشركي الهعرب وحذرهم من يوم الآزفة، يعني: يوم القيامة. وسميت آزفة لقربها. يقال أزف الشيء إذا قرب.
ثم قال: ﴿إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ﴾.
قال قتادة: ارتفعت القلوب في الحناجر من المخافة.
6415
فلا هي تخرج ولا تعود في أمكنتها.
و ﴿لَدَى﴾، بمعنى: عند.
﴿كَاظِمِينَ﴾: مفتاظين لا شيء يزيل غيظهم.
﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ﴾، أي: من قريب (ولا صديق) يحتج عنهم فيزيل عظيم ما نزل بهم.
﴿وَلاَ شَفِيعٍ﴾ يشفع لهم عند ربهم تعالى فيما يشفع فيه.
قال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين، فإذا الرجل منهم يشفع في صديقه وقريبه، فإذا رأى الكافر ذلك قال: ما لنا من شافعين ولا صديق حميم.
ثم قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور﴾، أي: يعلم الله جل ذكره خائنة أعين عباده وما أخفته صدورهم، لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى يتحدث به في نفسه ويضمره في قلبه.
ومعنى " خائنة الأعين " هو أن الله تعالى يعلم ما أراد بنظره إذا نظر وما ينوي بذلك في قلبه.
6416
قال ابن عباس: ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور﴾: يعلم إذا نظرت إلى المرأة أتريد بذلك الخيانة أم لا. " وما تخفي الصدور "، أي: إذا قدرت عليها أتزني أم لا.
وقوله: ﴿والله يَقْضِي بالحق﴾، أي: يقدر أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة.
وروى ابن وهب عن رجاله عن ابن عباس أنه قال: هو الرجل تمر به المرأة فيُرَى القوم أنه يغض بصره، فإذا أغفلوا نظر إليها: ويريهم (أنه يغض) بصره ويود لو أنه يطلع على عورتها ويقدر عليها.
وعن ابن عباس أنه قال في " خائنة الأعين ": إنه الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر أصحابه إليه غض بصره، (وقد علم الله تعالى منه أنه يود لو نظر إلى عورتها، فإذا رأى منهم غفلة تدسس النظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره).
قال مجاهد: خائنة الأعين: نظر العين إلى ما نهى الله تعالى عنه.
6417
وقال قتادة: يعلم همزه بعينه، وإغماضه فيما لا يحب الله جل ذكره ولا يرضى به.
قال الفراء: " خائنة الأعين ": النظرة الثانية و ﴿وَمَا تُخْفِي الصدور﴾ النظرة الأولى " ﴿والله يَقْضِي بالحق﴾، أي: يجازي من غض بصره عن محارمه حذر الموقف بين يديه، ومن ردد النظر وعزم قلبه على مواقعة الفواحش إذا قدر عليها.
قال الزجاج: " خائنة الأعين " نظر ونيّته الخيانة.
ثم قال: ﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾، أي: والأوثان التي يدعو هؤلاء (المشركون) من قومك من دون الله.
﴿لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾، أي لا تقدر على شيء ولا تعلم شيئاً، فاعبدوا الله الذي هو ﴿السميع﴾ لما تنطق به ألسنتكم ﴿البصير﴾ بما تعملون من الأفعال، المحيط بكل ذلك.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض﴾ - إلى قوله - ﴿إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد﴾،
6418
أو لم يسر هؤلاء المشركون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم فيحذروا أن يصيبهم بتكذيبهم لك يا محمد مثل ما أصاب من كان قبلهم من الأمم / الذين كانوا أشد من هؤلاء قوة وأعظم أجساماً وأكثر آثاراً في الأرض من البناء والحرث.
﴿فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ﴾ فأهلكهم، ولم تنفعهم شدة قوتهم، ولا كثرة آثارهم، ولا وقاهم أحد عذاب الله إذ جاءهم، بل حل بهم ذلك. فهؤلاء الذين أضعف أجساماً وأقل آثاراً أحرى أن يأتيهم عذاب الله إذ جاءهم، بل حل بهم ذلك. فهؤلاء الذين أضعف أجساماً وأقل آثاراً أحرى أن يأتيهم عذاب الله إن تمادوا على كفرهم.
ثم قال تعالى ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾: هذه الآية تعزية للنبي ﷺ أعلمه الله تعالى أن موسى قد لقي من فرعون وقومه أمراً عظيماً مثل ما لقي النبي ﷺ من قومه، وأنه صبر على ذلك. فواجب أن تصبر أنت على ما نالك يا محمد فإنك العالي عليهم ولك العاقبة الحسنى كما كان ذلك لموسى على فرعون.
والسلطان (هنا: الحجة)، أي: حجة بينة لمن رآها.
أرسل الله تعالى موسى إلى فرعون وهامان وقارون بالآيات الواضحة فما كان جوابهم إلا أن قالوا هو ساحر كذاب.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾، أي: فلما جاء موسى الذي أرسل إليهم بالحق من عند الله تعالى، أي: بالحجة والبرهان على توحيد الله تعالى وطاعته وإقامة الحجة عليهم قالو: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه، أي:
6419
اقتلوا أبناء بني إسرائيل الذين آمنوا معه.
﴿واستحيوا نِسَآءَهُمْ﴾، أي: استبقوهم لخدمتهم لكم. وهذا أمر من فرعون بعد أمره الأول، لأنه كان قد أمر بقتل الولدان من بني إسرائيل خوفا من مولود يولد منهم يكون هلاكه على يديه، وكان ذلك قبل ولادة موسى عليه السلام - وقد تقدم ذكر ذلك - ثم إن موسى لما دعاه إلى الله وأتاه بالآيات الظاهرات، ورأى أن بني اسرائيل آمنوا بموسى وصدقوه، أمر بأن يقتل أبناء من آمن بموسى ليعيد عليهم العذاب وينكل بهم إذ آمنوا بموسى.
قال قتادة: " هذا قتل غير القتل الأول الذي كان ".
وقوله: ﴿وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾، أي: وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله تعالى إلا في جور عن الحق.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾، أي: خلوا بيني وبين قتله، وليدع ربه أن ينجيه مني.
﴿إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ بما أتاكم به.
﴿أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد﴾، أي: أخاف هذين الأمرين.
ومن قرأه " أو "، فمعناه: أخاف أحد هذين الأمرين.
6420
وقيل: إنَّ " أو " بمعنى الواو.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب﴾: وقال موسى لفرعون وقومه لما تواعدوه بالقتل: إني استجرت بربي وربكم ﴿مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ﴾، أي: عن توحيد الله تعالى وطاعته سبحانه لا يؤمن بالبعث والجزاء.
وإنما خص موسى الاستجارة بالله سبحانه من هذا الصنف إنما خاطب فرعون وقومه لأنهم كانوا لا يؤمنون بالله سبحانه ولا بالبعث.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾.
قيل إنه رجل من بني عم فرعون ولكنه آمن بموسى وكتم إيمانه خوفا من فرعون. قاله السدي.
وقيل: بل كان الرجل (إسرائيليا، ولكنه) كان يكتم إيمانه من آل فرعون خوفا على نفسه، فيكون في الكلام تقديم وتأخير على هذا القول.
والتقدير: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه فرعون.
" فمن " متعلقة بـ " يكتم " في موضع مفعول ثان " ليكتم "، فهو في موضع نصب.
6421
وعلى القول الأول " من " متعلقة بمحذوف في موضع رفع وهي صفة لرجل كما تقول: مررت برجل من بني تميم.
والتقدير في المحذوف - على القول الأول -: وقال رجل مؤمن منسوب إلى آل فرعون، ونحو ذلك.
والأول هو اختيار الطبري لأن فرعون، أصغى إلى قوله وقبل منه، ولم يقل موسى وقال له: ﴿مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد﴾، ولو كان إسرائيلياً لعاجله بالعقوبة كما فعل (في قتل) أبنائهم حين آمنوا بموسى.
وقوله: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله﴾، أي: أتقتلون موسى من أجل قوله: الله ربي.
﴿وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ﴾، أي: بالحجج الظاهرات على صحة ما يقول لكم من توحيد الله تعالى وطاعته سبحانه وذلك: عصاه ويده.
ثم قال: ﴿وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾، أي: إن يك موسى كاذباً في قوله إن
6422
الله أرسله إليكم فإثم كذبه عليه.
﴿وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ﴾، أي: وإن يكُ موسى صادقاً في قوله أصابكم بعض الذي يعدكم من العقوبة - إن قتلتموه -، فلا حاجة لكم إن قتله فتزدادوا غضباً من ربكم على غضبه عليكم لكفركم.
و" بعض " عند أبي عبيدة في موضع " كل "، لأن كل ما واعدوا به كائن لا / بعضه.
وقيل: المعنى فيه: إنه قال لهم: إن، أصابكم ما يدعدكم / موسى هلكتم فضلاً عن الكل.
وهذا تأكيد لإلزام الحجة عليهم والتخويف، لأن البعض إذا كان فيه هلاكهم فالكل أعظم ضرراً، وأشد هلاكاً.
وقيل: معناه إن موسى توعدهم بعذاب الدنيا معجلاً وعذاب الآخرة مؤخداً، فقال لهم المؤمن: يصيبكم بعض الذي يعدكم أي: عذاب الدنيا معجلاً.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾، أي: لا يوفق للحق من هو معتد إلى
6423
ما ليس له فعله، كذاب (فيما يقول).
قال قتادة: المسرف هنا: المشرك، أسرف على نفسه بالشرك.
وقال السدي: المسرف هنا: القتال بغير حق.
ثم قال لهم المؤمن: ﴿ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ فِي الأرض﴾ قوله: " يا قوم " يدل على أنه من آل فرعون. يعني بذلك أرض مصر، أي: لكم السلطان فيها غالبين على أهلها من بني إسرائيل وغيرهم فوعظهم وقال:
﴿فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا﴾، أي: لا أحد يرفع عنا عذاب الله إن جاءنا. فقال فرعون مجيباً له:
﴿مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى﴾، أي: ما أريكم أيها الناس من الرأي الا ما أرى لنفسي.
﴿وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد﴾، أي: وما أدعوكم إلا إلى الحق في أمر موسى وقتله.
وقرأ معاذ بن جبل: " سبيل الرشاد " بالتشديد. يعني أن فرعون قال
6424
لقومه: ما أهديكم إلا إلى طريق الله جل ذكره.
وهذه القراءة بعيدة في اللغة لأن " فعالاً " لا يكون من " أفعل " وإنما يكون من الثلاثي للتكثير. فإن أردت لتكثير من الرباعي جئت " بمفعال ".
وقد أجاز قوم أن يكون الرشاد بالتشديد بمعنى المرشد، (لا على أنه) جار على أرشد ولكنه مثل لال من اللؤلؤ في معناه وليس منه في الاشتقاق.
وقد أجاز قوم أن يكون من رشد، فيكون معناه: ﴿وَمَآ أَهْدِيكُمْ﴾ إلا سبيل صاحب رشاد كما قال: كليني لهم يا أميمة ناصب.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ - إلى قوله - ﴿إِلاَّ فِي تَبَابٍ﴾.
6425
أي: وقال الرجل الذي آمن من آل فرعون وكتم إيمانه: يا قوم إني أخاف عليكم إن قتلتم موسى ولم تؤمنوا بما جاءكم به.
﴿مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب﴾، يعني: الذين تحزبوا على رسلهم.
﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾، أي: مثل عادة الله فيهم وانتقامه منهم حين كفروا برسلهم.
قال ابن عباس: مثل دأب قوم نوح: مثل حالهم، وقال ابن زيد: معناه، مثل ما أصابهم.
وقوله: ﴿والذين مِن بَعْدِهِمْ﴾، يعني به: قوم إبراهيم وقوم لوط، وهم أيضاً من الأحزاب.
وقوله: ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ﴾، أي: ليس الله جل ذكره بمعذب قوماً بغير جرم.
ثم قال تعالى ذكره حكاية عن قول المؤمن لقومه: ﴿وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾، أي: إني أخاف عليكم إن قتلتم موسى ولم تؤمنوا بما جاءكم به عقاب الله يوم التنادي، أي: يوم القيامة، أي: يوم
6426
يتنادى أصحاب الجنة والنار كما ذكر في سورة الأعراف وغيرها فقال: ﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة﴾ [الأعراف: ٤٤]، ﴿ونادى أَصْحَابُ الأعراف﴾ [الأعراف: ٤٨]، ﴿ونادى أَصْحَابُ النار﴾ [الأعراف: ٥٠] قاله قتادة وابن زيد.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " يأمُر الله تعالى إسرافيل عليه السلام بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيديمها ويطولها فلا تفتر - وهي التي يقول الله تعالى: " ﴿ وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ - فيسيِّر الله تعالى الجبال فتكون سراباً، وترتج الأرض بأهلها رجاً - وهي التي يقول الله تعالى ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ - فتكون (الأرض كالسفينة) المزنقة في البحر تمر بها الأمواج تكفأُ بأهلها، وكالقنديل (المعلق
6427
بالعرش) ترجحه (الأرواح فيميل الناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل (وتشيب الولدان) وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو اليوم الذي يقول الله تعالى: ﴿ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ ".
فعلى هذا الحديث يكون التنادي في النفخة الأولى في الدنيا.
وقرأ الضحاك: يوم التنادي بتشديد الدال، جعله من نَدّ البعير إذا مر على وجهه هارباً. فهذا يراد به ما يكون يوم القيامة من حال الناس.
ويسعد هذه القراءة ويقويها ما روى عبد الله بن خالد قال:
6428
يظهر للناس يوم القيامة عنق (من النار فيتولون) هاربين منها حتى تحيط بهم، فإذا أحاطت بهم قالوا: أين المفر؟
ثم أخذوا في البكاء حت تنفد الدموع فيكون دماً، ثم يشخص الكفار فذلك قوله:
﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾ [إبراهيم: ٤٣] ".
ويقويها أيضاً / ما وراء الضحاك، قال: " إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى السماء الدنيا فتشققت بأهلها، فنزل من فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فصفوا صفاً دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى، على مجنبته اليسرى جهنم، فاذا رآها أهل الأرض نجوا، (فلا يوافقون) قطراً من أقطار الأرض إذا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه - فذلك قوله: " ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾. وذلك قوله ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى﴾ [الفجر: ٢٢ - ٢٣]
6429
وقوله: ﴿يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن: ٣٣] وذلك قوله: ﴿وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * والملك على أَرْجَآئِهَآ﴾ [الحاقة: ١٦ - ١٧].
وقال قتادة: يوم تولون مدبرين، أي: منطلقاً بكم إلى النار.
وقال مجاهد: يوم تولون " فارين غير معجزين ".
﴿مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾، أي: ما لكم من عذاب الله سبحانه من مانع يمنعكم منه وينصركم.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾، أي: من يخذله الله فلا يوفقه للرشاد، فما له من موفق يوفقه له.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات﴾، أي: ولقد جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالآيات الواضحات من حجج الله تعالى.
قال وهب بن منبه: فرعون موسى هو فرعون يوسف.
6430
(قال مالك): عمَّر (أربعمائة سنة).
وقال غيره: هو غيره.
قيل: هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب. والله أعلم بذلك.
روي أنه أقام فيهم عشرين سنة يدعوهم إلى الإيمان ثم مات.
وقيل: إن هذا من قول موسى، وقيل: هو من قول (مؤمن آل) فرعون.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ﴾، أي: فلم تزالوا مُرتابين فيما أتاكم به يوسف من عند ربكم ﴿حتى إِذَا هَلَكَ﴾، (أي: مات يوسف).
﴿قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً﴾، أي: قلتم لن يأتينا من بعد يوسف
6431
رسول يدعونا إلى الحق.
ثم قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾، أي: هكذا يصد الله تعالى عن إصابة الحق من هو كافر شاك في الحق.
ثم قال تعالى: ﴿الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ (أي: كذلك يضل الله الذين يجادلون في حجج الله وآياته بغير حجة أتتهم) من عند الله تعالى.
ثم قال: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ﴾ أي: كبر جدالهم مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا.
﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ أي: كما طبع الله على قلوب المسرفين المجادلين في آيات الله بالباطل، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر على الله سبحانه أن يوحده.
﴿جَبَّارٍ﴾، أي: متعظم عن اتباع الحق. ﴿آتِيهِمْ﴾ [هود: ٧٦]: وقف عند الجماعة.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب﴾، (أي: وقال فرعون - لما وعظه المؤمن وزجره عن قتل موسى - لزيره هامان: ابن لي بناء لعلي أطلع عليه فأبلغ (أبواب السماء) وطرقها، وكان أول من بنى بهذا الأَجُرّ.
6432
قال ابن عباس: أسباب السماوات منازل السماوات.
والأسباب في اللغة: كلما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب.
وقيل: لعلي أبلغ من أسباب السماوات أسباباً أتسبب بها إلى (رؤية إله) موسى.
﴿وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً﴾، أي: أظن موسى فيما يدعى كاذباً.
أشهب عن مالك قال: سمعت أن فرعون عاش (أربعمائة سنة) وأنه أقام (بعدما) أتاه موسى بالآيات وقال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] أربعين سنة.
قال مالك قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ [آل عمران: ١٧٨].
وقال: لم يكن فرعون من بني إسرائيل.
ويروى أن فرعون مكث أربع مائة سنة لم يصدع له رأس، يغدو عليه الشباب ويروح.
6433
قال ابن لهيعة: كان فرعون من أبناء مصر واسمه، الوليد بن مصعب بن معان.
ثم قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ﴾، أي: هكذا زين الله تعالى لفرعون قبيح عمله لما كفر حتى سولت له نفسه بلوغ أسباب السماوات والتطلع إلى (رب العزة).
ثم قال: ﴿وَصُدَّ عَنِ السبيل﴾، أي: مُنع من الاهتداء إلى الحق، أي: منعه الله تعالى من ذلك لكفره وعتوه.
ثم قال: ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ﴾، أي: وما احتيال فرعون ومكرره إلا في خسارة وذهاب وضلال وباطل لا ينتفع بحيلته ومكره.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون﴾ - إلى قوله - ﴿نَصِيباً مِّنَ النار﴾.
أي: وقال لفرعون / المؤمن من قومهم: اتبعون فقولوا مثل قولي تهتدوا إلى
6434
الحق والرشاد والصواب.
وقال لهم: ﴿ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ﴾ تستمتعون به إلى أجل ثم تفارقونه بالموت.
﴿وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار﴾، أي: هي الدار التي تستقرون فيها وتخلدون ولا تموتون فيها، فاعملوا لها.
ثم قال تعالى حكاية عن قول المؤمن: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، أي: من عمل بمعصية الله سبحانه في هذه الدنيا، جوزي بذلك في الآخرة، ومن عمل بطاعة الله تعالى وهو مؤمن بالله سبحانه فأولئك يدخلون الجنة في الآخرة يرزقهم الله تعالى فيها بغير حساب.
قال قتادة: لا، والله ما هنالك مكيال ولا ميزان.
قال قتادة: من عمل سيئة شركاً بالله تعالى، ومن عمل صالحاً: خيراً.
وقال بعض أهل التأويل: إن المؤمن في هذه الآية هو موسى، قال لهم:
6435
﴿ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد﴾، إلى أخر الآيات.
وأكثر المفسرين على أنه مؤمن آل فرعون. والله أعلم.
ثم قال تعالى حكاية عن المؤمن أنه قال لهم:
﴿وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار﴾، أي: إذا آمنتم به وصدقتم رسوله، وأنتم تدعونني إلى عمل أهل النار وهو الكفر بالله تعالى وبرسوله.
قال مجاهد: إلى النجاة إلى " الإيمان بالله ".
ثم قال تعالى: ﴿تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾، أي: تدعونني للكفر والشرك في عبادة الله سبحانه فأعبد أوثاناً لم يأمرني بعبادتها من له الملك والقدرة.
﴿وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار﴾، أي: أدعوكم إلى عبادة العزيز، أي: العزيز في انتقامه ممن كفر به، الغفار لمن تاب إليه من الشرك وعمل بطاعته.
ثم قال: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة﴾، أي: لا محالة أن الذي تدعونني إلى عبادته - وهم الأصنام والأوثان والشياطين - ليس له دعوة (في الدنيا) ولا في الآخرة، أي: لا ينفذ له أمر ولا نهي ولا شفاعة
6436
في الدارين.
﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى الله﴾ أي: في الآخرة، منقلباً ومرجعنا إليه.
﴿وَأَنَّ المسرفين﴾ يعني: من أسرف فكفر بخالقه سبحانه وعبد معه غيره هو من أصحاب النار.
" وأن " في الثلاثة المواضع في موضع نصب بإسقاط الباء.
وذكر سيبويه أنه سأل الخليل عن لا جرم فقال: لا رد لكلام.
والمعنى: وجب أن لهم النار وحق أن لهم النار.
فالمعنى على هذا: وجب بطلان دعوة ما تدعونني إلى عبادته.
قال مجاهد (وابن جبير والشعبي وغيرهم): المسرفون هم السافكون الدماء بغير حق.
6437
وقال قتادة (وابن سيرين) وغيرهما: " المسرفون: المشركون ".
ثم قال: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ﴾، هذه حكاية من الله ( تعالى) عن مؤمن آل فرعون أنه قال ذلك لفرعون وقومه.
والمعنى: فستذكرون أيها القوم إذا عاينتم عقاب الله تعالى وحل بكم، صدق ما أقول لكم من أن المسرفين هم أصحاب النار.
ثم قال ﴿وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله﴾.
قيل: إنهم تواعدوه بالقتل فقال: أفوض أمري إلى الله، أي: أسلمه إليه وأتوكل عليه.
﴿إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد﴾، أي: عالم بأمور عباده، بالمطيع منهم والعاصي فيجازي كلا على ما يجب له.
ثم قال تعالى: ﴿فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ﴾، أي: فوقى الله المؤمن عقاب
6438
سيئات، كفرهم في الآخرة.
﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب﴾، أي: حل بهم ذلك ونزل بهم.
وقيل: الهاء في " فوقاه الله " تعود على موسى.
ورجوعهما على مؤمن آل فرعون عليه أكثر المفسرين واسم المؤمن حزقيل بن جبال.
رُوي أنه لما خاطبهم بذلك خاف منهم فهرب إلى الجبل فقصده رجلان ليوقعا به المكروه فلم يقدرا عليه.
ثم بيّن تعالى سوء العذاب ما هو فقال: النار ﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾، أي: في قبورهم.
قال قتادة: كان قبطياً من قوم فرعون فآمن. قال: وذكر لنا أنه كان بين يدي موسى يومئذ يسير ويقول أين أمرت يا نبي الله؟
6439
(فيقول: أمامك، فيقول له المؤمن: وهل أمامي إلا البحر؟! فيقول له موسى): أما والله ما كذبت ولا كذبت، ثم يسير ساعة (ثم يقول) مثل ذلك ويجاوبه موسى بمثل جوابه الأول حتى انتهى إلى البحر فضربه موسى فانفلق اثنى عشر طريقاً، لكل سبط طريق.
وقوله: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب﴾ يدل على أن فرعون في أشد ما في العذاب لأن من كان على دينه إذا حل به أشد العذاب فهو أحرى أن يحل عليه أشد من ذلك.
قال السدي: بلغني أن أراوح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدواً وعشيا حتى تقوم الساعة.
﴿غُدُوّاً﴾ مصدر جعل ظرفاً.
6440
وقال حماد بن محمد الفزاري وسأله رجل فقال: رحمك الله، رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب - بيضاً - فوجاً فوجاً لا يعلم عددها إلا الله، / فإذا كان العشي رجع مثلها سوداً؟!
قال: وفطنتم إلى ذلك! قال: نعم.
قال: إن تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداً، فتنبت عليها من الليل رياشٌ بيضاء، وتتناثر السود، ثم تغدو " يعرضون على النار غدواً وعشياً " ثم ترجع إلى وكورها، فذلك دأبها في الدنيا.
فإن كان يوم القيامة قال الله: " ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ".
وكانوا يقولون: كانوا ست مائة ألف مقاتل.
قال قتادة: يعرضون على النار صباحاً ومساءً. يقال: هذه منازلكم، توبيخاً ونقمةً وصغاراً لهم، قال مجاهد: غُدوا وعشياً ما كانت الدنيا.
6441
ويدل على أن هذا العرض يكون في الدنيا قوله بعد ذلك: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب﴾.
فمن وصل الألف نصب " آل فرعون " على النداء المضاف.
ومن قطعها نصبهم " بأدخلوا ".
وقوله: ﴿سواء العذاب﴾ وقف حسن إن رفعت " النار " على إضمار مبتدأ أو على الابتداء.
وأجاز أبو حاتم الوقف على " وعشياً "، وهو بعيد، لأن " ويوم تقوم الساعة " منصوب بيعرضون، أي: يعرضون على النار في الدنيا، يوم تقوم الساعة. ومن نصبه " بأدخلوا " حسن أن يقف على " وعشياً "
6442
وهو حسن. " والعذاب " وقف إن نصبت " وإذ يتحاجون " على معنى: واذكر إذ يتحاجون. وعليه التفسير وهو حسن جيد.
وإن نصبته على العطف على ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة﴾ [غافر: ١٨] لم تقف دونه، وهو بعيد لبعد ما بينهما. وقد قال به قوم.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النار فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار﴾، أي: واذكر يا محمد إذ يتخاصم في النار الضعفاء من الكفار - وهم التابعون - مع المستكبرينَ هم المتَّبَعُون على الشرك فيقول التابعون للمتبوعين: إنا كنا لكم في الدنيا تبعاً على الضلالة والكفر بالله سبحانه، فهل أنتم دافعون عنا حظاً من النار، فقد كنا نسارع في محبتكم وطاعتكم في الدنيا، ولولا أنتم لكنا مؤمنين فنسلم من هذا العذاب.
فأجابهم المتبعون: ﴿إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ﴾، أي: في النار، فلا نقدر أن ندفع عن أنفسنا شيئاً منها ولا عنكم.
﴿إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد﴾، أي: أسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. فلا
6443
نحن - مما نحن فيه من البلاء - خارجون ولا هم مما هم فيه من النعيم - منتقلون.
قوله: ﴿وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعوا رَبَّكُمْ﴾ - إلى قوله - ﴿هُوَ السميع البصير﴾، أي: وقال أهل جهنم لخزنتها: (ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب)، أي: قدر يوم من أيام الدنيا.
فأجابتهم الخزنة: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات﴾، أي: بالحجج الظاهرات الدالات على توحيد الله تعالى.
﴿ قَالُواْ بلى﴾ قد أتتنا بذلك.
قالت لهم الخزنة: ﴿فادعوا﴾، أي: فادعوا ربكم الذي أتتكم الرسل (من عنده) بالدعاء إلى الإيمان به.
﴿وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾، أي: في خسران، لأنهم لا ينتفعون به ولا يُجابون، بل يقال لهم: ﴿قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨].
6444
وروى أبو الدرداء عن النبي ﷺ أنه قال: " يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، ويستغيثون فيغاثون بالضريع ﴿لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾ فيأكلونه فلا يغني عنهم شيئاً، ويستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيغصون به فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب، فيرفع لهم الحميم بالكلاليب فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطع أمعاءهم وما في بطونهم. ويستغيثون بالملائكة فيقولون: ﴿ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب﴾ فيجيبونهم: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات﴾. إلى آخر الآية ".
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد﴾، أي: إنا لنعلي كلمة الرسل والمؤمنين وحجتهم على من خالفهم من دينهم بإهلاك من
6445
خالفهم والانتقام منهم في الدنيا.
قال السدي: كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا فلا تذهب تلك الأمة الظالمة حتى يبعث الله تعالى قوماً فينتصر بهم لأولئك المقتولين.
وقيل: معنى الآية الخصوص ولفظها عام.
والمعنى: إنه تعالى ينصر من أراد من الأنبياء والمؤمنين ويعطيهم الظفر في الدنيا على من خالفهم.
وامتنعت الآية من العموم لوجودنا أمماً قد قتلت المؤمنين والأنبياء.
قال أبو العالية: " ينصرهم بالحجة ".
(وعن أبي الدرداء) يرفعه: " من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم، ثم تلا هذه الآية. ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ﴾.
وروى أنس أن النبي ﷺ قال: " من حمى مؤمناً من منافق
6446
يغتابه بعث الله تعالى ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من النار. ومن ذكر مسلماً بشيء يشينُه به وقفه الله جل وعز على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ".
ومعنى /: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد﴾. أي: وينصرهم يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين (على الأمم) المكذبة بأن الرسل قد بلغتهم وأن الأمم كذبتهم، هذا قول قتادة، وقال مجاهد: الأشهاد الملائكة.
ثم قال تعالى: مفسراً يوم " يقوم الأشهاد " ما هو فقال: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ﴾، أي: لا ينفع الكفار اعتذارهم إذ لا يعتذرون إلا بباطل لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا بالرسل والكتب والحجج. فلا حجة لهم إلا الكذب وقولهم والله ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] ".
ثم قال: ﴿وَلَهُمُ اللعنة﴾، أي: وللكافرين اللعنة من الله تعالى وهي البُعد من رحمته سبحانه. ولهم مع اللعنة ﴿سواء الدار﴾، أي: عذاب الآخرة.
وأجاز أبو حاتم الوقف على: " في الحياة الدنيا " على أن تنصب " ويوم يقوم الأشهاد " بإضمار فعل. فإن جعلته بدلاً أو عطفاً لم تقف دونه.
6447
وقال غيره الوقف: " الأشهاد ".
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى﴾، أي: البيان للحق الذي بعثناه به.
﴿وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب﴾، أي: التوراة، أي: علمناهم إياها وأنزلناها عليهم.
﴿هُدًى وذكرى﴾، أي: بياناً وتذكيراً، ﴿لأُوْلِي الألباب﴾ أي: لأصحاب العقول.
ثم قال تعالى ﴿فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾، أي فاصبر يا محمد لأمر ربك وأنفذ ما أرسلت به.
﴿إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾، أي: إن الذي وعدك الله من النصر والتأييد لدينك حق لا بد منه، فربك منجز لك ما وعدك. وقد فعل به ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿واستغفر لِذَنبِكَ﴾، أي: واسأل ربك أن يستر عليك ذنبك بعفوه ورحمته.
﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار﴾، أي: وصل بالشكر منك لربك بالعشي وذلك من زوال من زوال الشمس إلى الليل. والإبكار من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس.
وقيل: الإبكار هنا: من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى. والأول
6448
أعرف عند العرب.
والعشي والإبكار مصدران جعلا ظرفين على السعة، وواحد الإبكار: بكر. والتقدير: في العشي وفي الإبكار.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾، أي: يخاصمونك يا محمد فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة أتتهم في مخاصمتك.
﴿مَّا هُم بِبَالِغِيهِ﴾، أي: ما في صدورهم إلا كبر يتكبرون من أجله عن اتباعك وقبول ما جئتهم به حسداً وتكبراً.
﴿فاستعذ بالله﴾، أي: ليس ببالغين الفضل الذي أتاك الله تعالى فحدسوك عليه.
وقيل: المعنى: ما في صدورهم إلا عظمة، ما هم ببالغين تلك العظمة، لأن الله تعالى مذلهم ومخزيهم، قاله مجاهد.
وقال الزجاج: معناه: ما هم ببالغين إرادتهم في محمد ﷺ. مثل رسل
6449
القرية.
وقيل: المعنى: ما هم ببالغين الكبر.
فالمعنى: إنهم قوم رأوا أن اتباعهم لمحمد ﷺ نقص لجاههم ومختلفته رفعة لهم، فأعلم الله تعالى نبيه ﷺ أنهم لا يبلغون الإرتفاع الذي قصدوه بالتكذيب.
ثم قال لنبيه ﷺ: ﴿ فاستعذ بالله﴾، أي: تعوذ يا محمد بالله من شرهم وبغيهم وحسدهم، وذلك أنها نزلت في اليهود.
قال قتادة: معناه: فاستجر بالله يا محمد من شر هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان، ومن كبرهم.
﴿إِنَّهُ هُوَ السميع البصير﴾، أي: السميع لما يقولون، البصير بأعمالهم.
قوله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ - إلى قوله - ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي: لا بتداعُ خلق السماوات والأرض أعظم
6450
عندكم من خلق الناس (إن كنتم تستعظمون خلق الناس).
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي لا يعلمون أن خلق جميع ذلك هين على الله تعالى، وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن كذب بالبعث فنبههم أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس بعد موتهم وإعادتههم.
فمن قدر على إحداث السماوات والأرض، ورفع السماوات بغير عمد، وتسخير شمسها وقمرها ونجومها واختلاف ليلها ونهارها وتسخير سحابها وإنزال غيثها وتصريف رياحها، فكيف لا يقدر على خلق الناس وبعثهم بعد موتهم، فذلك أهون على الله وأصغر!.
قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء﴾، أي وما يستوى الكافر الذي لا يؤمن، والمؤمن في التدبر في آيات الله تعالى، والإعتبار في وحدانتيه وقدرته، ولا يستوي المؤمن الذي يعمل الصالحات والمسيء، وهو الكافر الذي يعمل بما لا يرضى الله تعالى به.
﴿قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ﴾، أي: قليلاً تذكرهم حجج الله سبحانه وآياته وقيل: المعنى: لا يستوي العالم المستدل بآيات الله سبحانه وقدرته على بعث الأموات، والجاهل الذي قد عمي عن الاستدال بذلك / وجهل معرفة الاستدلال والبرهان على قدرة الله سبحانه، كما لا يستوي الأعمى والبصير.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا﴾، أي: لا شك فيها، ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، أي: لا يصدقون بقيام الساعة.
ثم قال تعالى ذكره ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، أي: اعبدوني وأخلصوا العبادة لي أجب دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.
6451
قال ابن عباس: ادعوني استجب لكم ووحدوني أغفر لكم.
وروى النعمان بن بشير عن النبي ﷺ أنه قال: " الدعاء هو العبادة وتلا رسول الله ﷺ ﴿" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني﴾ " الآية.
ويدل على أن الدعاء العبادة قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾، ومعناه: إن الذين يتعظون عن إفرادي بالعبادة والإخلاص لي.
﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، أي صاغرين، قاله السدي وأبو عبدة.
وقال السدي: يستكبرون على عبادتي، أي: عن دعائي.
ثم قال تعالى: ﴿الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً﴾. هذا تذكير
6452
من الله تعالى لخلقه على نعمه أنه جعل لهم الليل لتسكن فيه جوارحهم وتهدأ حركاتهم، وجعل النهار مبصراً ليتصرفوا في معايشهم ومنافعهم.
ولم يجعل الليل دائماً فيمتنعوا من التصرف (في منافعهم) فيضيعوا، ولا جعل النهار دائماً فيمتنعوا من السكون والراحة، بل دبر أحسن تدبير وأتقن أحسن غتقان.
فلا تصلح الألوهية والعبادة (إلا له) لا إله إلا هو.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾، أي: لذو تفضل عليهم وإحسان بما أمتعهم به من المنافع وحسن التدبير.
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ﴾، أي لا يشكرونه بالطاعة وإخلاص العبادة والشكر على نعمه.
ثم قال تعالى: ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ خالق كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ﴾، (أي: الذي) فعل هذه النصالح لكم وأحسن إليكم هو الله ربكم خالقكم وخالق كل شيء.
﴿لاَّ إله إِلاَّ هُوَ﴾، أي: لا معبود غيره تصلح له العبادة.
6453
﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾، أي: فمن أي وجه تقلبون عن الحق، وإلى أي وجه تذهبون عنه فتعبدون سواه.
ثم قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾، أي كذهابكم عن محمد ﷺ وما جاء به، وانصرافكم عنه إلى الباطل، ذهاب الذين كانوا من قبلكم يكذبون بحجج الله فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم في الضلال.
﴿يُؤْفَكُ﴾، بمعنى: أفك، لأنه أمر قد مضى، ودل على ذلك قوله: ﴿كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾.
ومعنى " يوفك ": يُغلب ويصرف عن الحق.
ثم قال: ﴿الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسمآء بِنَآءً﴾، أي جعل لكم الأرض قراراً تستقرون عليها، وتسكنون فوقها، وجعل لكم السماء بناءً فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم.
﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾، أي: وخلقكم فأحسن خلقكم.
﴿وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات﴾، أي: من حلال الرزق وطيبه ولذيذه، هو الله
6454
ربكم الذي لا تصلح (الألوهية إلا له ولا تحسن) العبادة لغيره.
ثم قال: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ﴾، أي الذي خلق هذه الأشياء لكم وأحسن إليكم، هو الله ربكم لا تصلح الربوبية (إلا له).
﴿فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين﴾، أي: مالك جميع الخلق.
ثم قال تعالى ﴿هُوَ الحي لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾، أي: لا معبود غيره يستحق العبادة.
﴿فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾، أي: مفردين له (العبادة والألوهية).
﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾، أي: الشكر العام لله مالك جميع الخلق. وكان جماعة من المفسرين يأمرون من قال لا إله إلا الله أن يتبع ذلك الحمد (لله رب العالمين)، امتثالاً بهذه الآية لأنها أمر من الله جل ذكره أن يقال ذلك.
قال ابن عباس: " من قال لا إله إلا الله، فليقل على إثرها الحمد لله رب
6455
العالمين " وكذلك قال ابن جبير.
﴿فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾: قولوا الحمد لله رب العالمين.
وقرأ أبو رزين: " صوركم " بكسر الصاد، وأصلها الضم. وعلة ذلك عند سيبويه أن جميع فُعْلة وفِعْلة قد اشتركا في الإسكان للعين.
في الجمع المسلم. قالوا: ركبة وركبات، فاسكنوا، وأصل الكاف الضم، وقالو: هند وهندات، فأسكنوا، وأصل النون الكسر. فلما اشتركا في ذلك اشتركا في التكسير في الضم والكسر فقالوا: صُورة وصوَرٌ وصِور ورشوة ورشا فأدخلوا فعلة في الضم وهو
6456
(الفعلة وكذلك) (أدخلوا فعلة) في الكسر وهو الفعلة.
ثم قال تعالى ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾، أي: قل يا محمد إني نهيت أن أعبد الأوثان والأصنام التي تعبدونها أنتم من دون الله سبحانه.
﴿لَمَّا جَآءَنِيَ البينات مِن رَّبِّي﴾، إني نهيت عن ذلك لما آتتني آيات الكتاب الذي نزل علي من عند ربي.
﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين﴾ أي: أمرت في الكتاب (الذي أنزل) أن أخلص العبادة والخضوع بالطاعة لرب الخلق ومالكهم وخالقهم ورازقهم.
ثم قال تعالى ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾، يعني آدم.
﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ - إلى آخر الآية، يعني به ذرية آدم وقوله: ﴿ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً﴾ هذا جمع للعدد الكثير وحكم القليل فيه " أشيخ " كفلس وأفلس. إلا أنهم استثقلوا الضمة على الياء. فشبهوا باب فعل بفعل. وحق فعل في
6457
القليل أن يجمع على أفعال كجمل وأجمال فجمعوا فعلاً عند الاستثقال بضمة الياء على " أفعال " فقالوا: أشياخ ". والأصل (أشيخ، ومثله زيد) وأزياد، والأصل أزيد. فإن اضطر شاعر جاز أن يأتي به على أفعال فيقول أزيد وأشيخ كما قالوا: عين وأعين وإنما حسن في أعين في غير الشعر لأنها مؤنثة. والشيخ ما جاوز الأربعين.
وهذه الآية حجة على المشركين وتنبيه لهم على قدرة الله تعالى.
وأن من قدر على هذه الأشياء قادر على إحياء الموتى، فضرب ذلك لهم ونبههم عليه لعلهم يعقلون ما دعوا إليه فيتوبون من الكفر.
وقوله: ﴿ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ﴾ متعلق بمضمر إذ ليس بمتصل
6458
بما قبله في اللفظ.
والتقدير: ثم من علقة، ثم يعمركم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً.
﴿وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ﴾، أي قبل هذا كله، وهو السقط وشبهه، نحو الإزلاق وهو ما سقط نطفة، ومثل الإجهاض وهو ما سقط مضغه، والإسقاط ما سقط تام الخلق.
وقد قال الخليل: (الإجهاض: التام) الخلق. وعلى الأول أكثر الناس.
وقوله: ﴿أَجَلاً مُّسَمًّى﴾، يعني به أجل الموت للكل، أي: يعمركم لتبلغوا أجل الموت.
وقوله: ﴿أَشُدَّكُمْ﴾، قيل: (ثمان عشرة) سنة. وقال ربيعة (ومالك: الأشد
6459
الخلق). وقيل: الأشد: ثلاثة وثلاثون سنة.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً﴾ - إلى قوله - ﴿فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾.
﴿فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ﴾، أي: فإذا أراد تكوين شيء وحدوثه فإنما يقول له كن، فيكون ما أراد تكوينه موجوداً بغير معاناة ولا كلفة. ولا مؤنة.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله أنى يُصْرَفُونَ﴾، (أي: ألم تر) يا محمد إلى هؤلاء المشركين الذين يخاصمونك في حجج الله تعالى وأدلته من أي وجه يصرفون عن الحق، ويعدلون عن الرشد.
قال ابن سيرين: (إن لم) تكن هذه الآية نزلت في القدرية فإني لا
6460
أدري فيمن نزلت.
وروى هذا المعنى عقبة بن عامر الجهني عن النبي ﷺ.
وقال ابن زيد وغيره (من المفسرين): هم المشركون.
يدل على هذا قوله بعده: ﴿الذين كَذَّبُواْ بالكتاب وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ فهذا من صفتهم وهو تهدد ووعيد للمكذبين بكتاب الله سبحانه وبما جاء به الرسل.
ثم قال تعالى: ﴿إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ * فِي الحميم﴾، المعنى: فسوف يعلمون إذا ثبتت الأغلال في أعناقهم ماذا ينزل بهم بعد ذلك من العذاب.
وجاءت " إذ " وهي لما مضى مع " سيوف " وهي لما مضى مع " سوف " وهي لما يستقبل، لأن أفعال الله جل ذكره بعباده في معادهم كالكائنة الحالة بهم لصحة وقوع ذلك وكونه. فأخبر عنها وهي لم تكن بلفظ ما قد كان، لصحة وقوعها وثبات كونها، فهي كالكائنة، فلذلك
6461
اجتمعت " إذ " و " سوف ".
ولا يجوز هذا المعنى إلا من الله جل ذكره لأنه يعلم ما يكون في غدٍ كعلمه بما كان في أمس.
قال الحسن: ما في جهنم وادٍ ولا صغارٌ ولا غل ولا قيد ولا سلسلة إلا واسم صاحبه عليه مكتوب. ومن رفع السلاسل عطفها على الأغلال. ويتم الكلام على السلاسل. ويكون يسحبون مستأنفاً. فإن جعلته حالاً جاز، ولم تقف على السلاسل.
وقرأ ابن عباس: والسلاسل بالنصب. " يسحبون " بفتح الياء والتقدير أنه نصب السلاسل يسحبون.
6462
قال ابن عباس: وذلك أشد عليهم، يكلفون أن يسحبوها ولا يطيقون.
وأجاز بعضهم والسلاسل بالخفض، عطف على الأعناق "، يحمله على المعنى. (لأن المعنى: أعناقهم في الأغلال والسلاسل، كما حمل على المعنى) قول الشاعر:
قد سالَمَ الحيّاتُ منه القدما الأفعوان والشجاع الشجعما
لأن ما سالمك فقد سالمته، فكذلك الأعناق في الأغلال والسلاسل هو مثل الأغلال والسلاسل في الأعناق.
وعلى هذا أجاز الكوفيون: قاتل زيد عمراً العاقلان والعاقلين، يرفع العاقلين على النعت لهما، وينصبهما لأنهما فعالان في المعنى مفعولان.
وأجازوا
6463
أيضاً: قاتل زيد عمرو برفعهما. وفي كتاب الزجاج أن التقدير في جواز خفض السلاسل وفي السلاسل يسحبون والحميم على تقدير: يسحبون في الحميم والسلاسل. ثم يقدم المعطوف على المخفوض. وهو غلط لأن المعطوف على ما فيه حرف الجر لا يقدم. لم يجز أحدٌ مررت وزيدٍ بعمرو. إنما أجازوا هذا / في المرفوع، نحو: قام وزيدٌ عمرو. استقبحوه في المنصوب، نحو: رايت وزيداً عمراً، ولم يجيزوه في المخفوض البتة لأن الفعل غير دال عليه.
ثم قال تعالى ﴿ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ﴾، قال السدي: يسجرون، يحرقون. وقال ابن زيد: توقد عليهم.
وأصله من الملء، يقال: سجرت الشيء إذا ملأته ومنه ﴿والبحر المسجور﴾ [الطور: ٦].
6464
فيكون المعنى على هذا. ثم تملأ بهم النار، ومعناه، ثم تملأ بهم النار كما يملأ التنور بالحطب.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ الله﴾، أي: يقال لهم أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياهم من دون الله ينقذونكم مما أنتم فيه من العذاب؟! يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً على ما سلف منهم في الدنيا من عبادة غير الله سبحانه.
فأجاب المشركون عند ذلك ﴿ضَلُّواْ عَنَّا﴾، أي: عدلوا عنه فأخذوا غير طريقنا وتركونا في العذاب.
ثم استدركوا فقالوا: ﴿بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً﴾، أي: لم نكن نعبد في الدنيا شيئاً.
قال الله جل ذكره: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين﴾، أي: كما أضل هؤلاء الذين ضل عنهم في الآخرة ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله، كذلك يضل الله أهل الكفر به عنه وعن طاعته.
ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾، أي: ذلكم الذي حل بكم من العذاب بفرحكم في الدنيا بغير ما أمر الله تعالى به من المعاصي وبرمحكم فيها، والمرح: الأشر والبطر.
6465
قال ابن عباس: الفرح هنا والمرح: الفخر والخيلاء والعمل في الأرض بالخطيئة وكان ذلك في الشرك، وهو مثل قوله في قارون: ﴿لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين﴾ [القصص: ٧٦].
ثم قال: ﴿ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، أي: أبواب جهنم السبعة ماكثين فيها إلى غير نهاية.
﴿فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾، أي: فجهنم بئس مثوى من تكبر في الدنيا عن عبادة الله تعالى وطاعته.
ثم قال تعالى: ﴿فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾، أي: فاصبر يا محمد على ما تلقى من مشركي قومك ومجادلتهم لك بغير الحق وتكذيبهم، إن الله منجز لك ما وعدك به من الظفر والنصر عليهم، وإحلال العذاب بهم.
﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ يا محمد في حياتك، ﴿بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب، ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل أن يحل بهم ذلك، ﴿فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾، أي: إلينا مصيرهم، فنحكم بينك وبينهم بالحق فنخلدهم في النار ونخلدك ومن اتبعك ومن آمن بك في (النعيم المقيم. وهذا كله وعيد من الله تعالى لقريش وتعزية للنبي ﷺ وتصبير له.
6466
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ﴾ - إلى آخر السورة: أي: ولقد أرسلنا (يا محمد من قبلك) رسلاً إلى أممهم، منهم من أنبأناك بخبره، ومنهم من لم ننبئك بخبره.
روي عن أنس أنه قال: عدة الرسل ثمانية آلاف، بعث النبي ﷺ بعدهم. منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل.
وروى سلمان الفارسي عن النبي ﷺ أنه قال: " بعث الله تعالى أربعة آلاف نبي ".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ في الآية: بعث الله تعالى عبداً حبشياً وهو الذي لم يقصص خبره على نبيه ﷺ.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾، (أي: ليس لرسول ممن تقدمك يا محمد أن يأتي إلى قومه بآية فاصلة بينه وبينهم إلا بإذن الله له) بذلك فيأتيهم بها.
6467
وهذا تنبيه من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه ليس له أن يأتي قومه بما يسألونه من الآيات دون إذن الله تعالى له بذلك.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق﴾، (أي: فإذا (جاء قضاء) الله بين الأنبياء والأمم قضي بينهم بالعدل، فينجي رسله والمؤمنين، ويهلك، هنالك، المبطلون، أي: الكاذبون على الله سبحانه.
ثم قال تعالى: ﴿الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا﴾ أي: خلق لكم الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير وغير ذلك من البهائم لتركبوا منها، يعني: الخيل والإبل والحمير والبغال.
﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾، يعني: الإبل (والغنم والبقر).
التقدير عند الطبري: لتركبوا منها بعضاً، ومنها بعضاً تأكلون ثم حذف ذلك استغناء بدلالة الكلام على ما حذف.
ثم قال ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾، يعني: الأنعام، وذلك جعلهم من جلودها بيوتاً ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين.
6468
وذكر الزجاج أن الأنعام هنا: الإبل، يركبونها ويأكلون لحومها ويستمتعون بجلودها وأوبارها. وهذه الآية. تدل على إباحة أكل لحوم الإبل عند من جعلها خصوصاً في الإبل.
وقد قال تعالى في غيرها مما لا يؤكل: ﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا﴾ [النحل: ٨] ولم يذكر إباحة أكلها.
ثم قال تعالى ﴿وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ﴾، أي: ولتبلغوا بالحمولة على بعضها - يعني: الإبل - حاجة في صدوركم لم تكونوا لتبلغوها لولا هي إلا بشق الأنفس، كما قال: ﴿" وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس "﴾ [النحل: ٧].
6469
ثم قال: ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ﴾، أي على الإبل.
وما شابهها من الأنعام في البر، وعلى السفن في البحر تحملون.
﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾، أي حججه / وأدلته على وحدانيته.
﴿فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ﴾، أي: فأي حجج الله التي يريكم أيها الناس في السماء والأرض - تنكرون صحتها فتكذبوا - من أجلها فسادها - بتوحيد الله سبحانه.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾، أي: أفلم يسافر قومك - يا محمد - من قريش فينظروا آثار الأمم التي كذبت الرسل من قبلهم كيف بادوا وهلكوا، فيخافون أن ينزل بهم بتكذيبهم إياك فيما جئتهم به مثل ما نزل بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة لأنبيائها.
﴿كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً﴾، أي: كانت الأمم المهلكة قبلهم بالتكذيب أكثر من قريش.
﴿وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض﴾، أي: أكثر عدداً وأكثر آثاراً بالبناء والحرث
6470
والعمل من قريش.
﴿فَمَآ أغنى عَنْهُم﴾، أي: عن الأمم الماضية.
﴿مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ من الأموال والأولاد والبناء والعمل بل أهلكوا ودمروا بتكذيبهم الرسل وكفرهم. (فماذا ينتظر) قومك يا محمد مع تكذيبهم بما جئتهم به، وهم دون أولئك في القوة والكثرة والآثار في الأرض من البناء (والتصرف والحرث) وغير ذلك. وهذا كله تنبيه وتهدد لقريش.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾، يعني: الأمم الماضية، جاءتهم رسلهم بالآيات الواضحات. ﴿فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم﴾ لجهالتهم.
﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، أي: وحل بهم عقاب استهزائهم بما جائتهم به الرسل واستعجالهم للعذاب.
والمعنى: فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا، نحو قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا﴾ [الروم: ٧].
6471
وقيل: الضمير في " فرحوا " للرسل، أي: فرح الرسل بما عندهم من العلم أن الله مهلك من كفر بهم وكذبهم، وناصر دينهم، فينجي الأنبياء ومن آمن بهم ويهلك الكفار.
وقيل: في الكلام حذف. والتقدير: فلما جاءت الرسل قومها كذبوهم فأوحى الله تعالى إليهم أنه معذبهم، ففرحوا بما أوحى إليهم من هلاك من كذبهم، فالضمير للرسل في " فرحوا "، والضمير في " حاق بهم " للمكذبين للرسل.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ﴾، أي: لما رأت الأمم المكذبة للرسل عذاب الله تعالى وانتقامه الذي وعد الرسل بإيقاعه على من كذبهم، قالوا أمنا بالله وحده، أي: أقررنا بتوحيد الله وكفرنا بما كنا به مشركين من الأصنام والأوثان).
قال الله جل ذكره: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ أي: لم ينفعهم التوحيد عند معاينتهم العذاب.
﴿سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾، أي: سن الله ذلك سنة فيمن تقدم من عباده أنه من آمن عند معاينة العذاب لم ينفعه ذلك.
﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون﴾، أي: وهلك عند معاينة العذاب من تمادى على كفره
6472
حتى حل به العذاب، فلم ينفعهم إيمانهم عند المعاينة العذاب لأنهم مضطرون إلى ذلك حين عاينوا العذاب وإنما كان ينفعهم الإيمان لو آمنوا قبل معاينتهم ما يلجئهم إلى الإيمان ويضطرهم.
فكذلك فعل الله تعالى فيمن خلا من عباده، لا يقبل إيمانهم عند معاينتهم العذاب واضطرارهم إلى الإيمان، فهو قوله تعالى ﴿سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ﴾ في عباده ".
6473
Icon