تفسير سورة غافر

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة غافر من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة [ ﴿ حم ﴾ ]١ المؤمن وهي مكية
١ من م، في الأصل: ذكر أن..

سُورَةُ حم الْمُؤْمِنِ
وهي مكية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٥) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٦)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو هجاء أسماء الرب جل وعلا؛ وهو قول ابن عباس، رضي الله عنهما.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فواتح السور كلها، وكذلك قال في سائر الحروف المقطعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أصله (حم) أي: قضى، كقول الشاعر:
ألست ترى أن الذي حم كائن
أي: الذي قضى كائن، إلا أنه ذكره بالهجاء كمن ذكر زيدا بالهجاء.
وقد قلنا نحن: إن تفسير الحروف المقطعة ما ذكر على أثرها، وقد ذكرنا أقاويل الناس واختلافهم فيها في غير موضع ما أغنانا عن ذكرها في هذا الموضع، واللَّه أعلم.
وقوله: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢)
قد ذكرنا قوله: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) في سورة الزمر، غير أنه ذكر العزيز الحكيم وهاهنا ذكر العزيز العليم وهما واحد، واللَّه أعلم.
وقوله: (غَافِرِ الذَّنْبِ... (٣) يخرج على وجهين:
أحدهما: (غَافِرِ الذَّنْبِ) أي: متجاوز الذنب، وهو في حق المؤمنين خاصة.
والثاني: (غَافِرِ الذَّنْبِ) أي: ساتر الذنب، وهو يحتمل للكافر والمؤمن جميعًا؛ فإنه يستر كثيرًا على المؤمن والكافر جميعًا الذنب في الدنيا، ولم يفضحهما، ويتجاوز عن المؤمن خاصة في الآخرة، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَابِلِ التَّوْبِ).
الآية ٢ وقوله تعالى :﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ قد ذكرنا قوله :﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾ في سورة الزمر [ الآية : ١ ] أنه ذكر ﴿ العزيز الحكيم ﴾ وههنا ذكر ﴿ العزيز العليم ﴾ وهما واحد، والله أعلم.
الآية ٣ وقوله /٤٧٤ – أ/ تعالى :﴿ غَافِرِ الذّنب ﴾ يخرّج على وجهين :
أحدهما :﴿ غافر الذنب ﴾ أي متجاوز الذنب، وهو في حق المؤمنين خاصة.
والثاني :﴿ غافر الذنب ﴾ أي ساتر الذنب، وهو يحتمل للكافر والمؤمن جميعا، فإنه يستر كثيرا على المؤمن والكافر جميعا في الدنيا، ولم يفضحهما، ويتجاوز عن المؤمن خاصة في الآخرة، والله الموفق.
وقوله تعالى :﴿ وقابل التّوب ﴾ يخبر أنه يقبل التوبة، وإن عظُمت المعصية، وجلّت الذنوب، وكثرت، والله أعلم. قال أبو عوسجة : التّوب جماعة التوبة.
وقوله تعالى :﴿ شديد العقاب ﴾ أي لمن لم يتب.
وقوله تعالى :﴿ ذي الطَّوْل ﴾ قال أبو عوسجة : أي ذي القدرة، وقال القتبي : ذي التفضّل ؛ يقال : طُلْ عليّ برحمتك، أي تفضّل. وقيل : ذي السعة، وكله قريب بعضه من بعض.
وقوله تعالى :﴿ لا إله إلا هو إليه المصير ﴾ وحّد نفسه، وأخبر أن مصير الخلق إليه في الآخرة، فيجزيهم بأعمالهم، والله أعلم.
يخبر أنه يقبل التوبة وإن عظمت المعصية، وجلت الذنوب وكثرت، واللَّه أعلم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: التوب: جماعة التوبة.
وقوله: (شَدِيدِ الْعِقَابِ).
أي: لمن لم يتب.
وقوله: (ذِي الطَّوْلِ).
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي: ذي القدرة.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: ذي التفضل، يقال: طُلْ عليَّ برحمتك، أي: تفضل.
وقيل: ذي السعة والغناء.
وقيل: ذي النعم؛ وكله قريب بعضه من بعض.
وقوله؛ (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ).
وحَّد نفسه، وأخبر أن مصير الخلق إليه في الآخرة فيجزيهم بأعمالهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤)
أي: يجادل في دفع آيات اللَّه والطعن في آيات اللَّه الذين كفروا باللَّه أو كفروا بآيات اللَّه، وكانت مجادلتهم ما ذكر حيث قال: (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي: يبطلوا به الحق، أهل الكفر هم الذين كانوا يجادلون في دفع آيات اللَّه والطعن فيها، فأما أهل الإيمان بها كانوا يفرحون بنزولها ويزدادون بذلك إيمانًا؛ كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ)، وكقوله: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، ونحو ذلك من الآيات، كانوا يستسلمون لها ويقبلونها، ويستقبلون لها بالتعظيم والتبجيل، وباللَّه التوفيق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ). معلوم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يغره تقلبهم في البلاد، لكنه ذكر الخطاب له، وأراد به غيره؛ لما يحتمل أن يظن قوم أن أهل الكفر لما كانوا فيه من التقلب في البلاد والسعة في عيشهم وأن أهل الإيمان في ضيق وشدة وخوف - أن أُولَئِكَ على الحق وهَؤُلَاءِ على الباطل، فجائز أن يظن ظان ما ذكرنا، فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن الأمن والسعة، ليس بدليل على كون صاحبه على الحق، ولا الضيق والشدة بدليل على كون صاحبه على الباطل، ولكن محنة: امتحنهم مرة بالسعة
والأمن، ومرة بالضيق والخوف؛ دليل ذلك: وجود الحالين جميعًا في كل فريق مع اختلاف مذاهبهم، وتضاد أقاويلهم.
ويحتمل أن يكون المراد منه أهل مكة، أي: لا يغررهم تقلبهم في البلاد وأمنهم وسعتهم بعد ما نزل بأهل الآفاق والنواحي أنهم على الحق، وأن ذلك إنما يدفع عنهم لمكانهم، وإنما يدفع ذلك عنهم، ويكونون على أمن؛ لمكان كونهم بقرب من البيت؛ لحرمته وشرفه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٥)
ذكر هذا لتصبير رسوله على تكذيب قومه إياه بالباطل؛ يقول: لست أنت بأول من كذبه قومه، ولا بأول من جادله قومه بباطل، لم يزل الأمم المتقدمة يكذبون رسلهم، ويجادلونهم بالباطل؛ فصبروا على ذلك؛ فاصبر أنت على تكذيب قومك، ومجادلتهم إياك بالباطل كما صبر أُولَئِكَ كقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، وهو ما ذكر في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) وهمَّت كل أمة برسولهم ما ذكر، لكن اللَّه تعالى بفضله عصم رسله عما همَّ أُولَئِكَ الكفرة بهم من القتل والمجادلة بالباطل، وفي ذلك آية من آيات الرسالة لهم حيث حفظهم عما هموا بهم وكادوا بلا أعوان وأنصار كانوا للرسل مع كثرة أُولَئِكَ الكفرة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).
أي: كيف وجدوا عقابي، أليس وجدوه حقا على ما وعد الرسل - عليهم السلام - أنه نازل؟! بهم أو يقول: أليس وجدوه أليمًا شديدًا؛ واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٦)
يحتمل قوله: (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) ما ذكر في قوله: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ...) الآية. وقوله: (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ)، يحتمل أن يكون قوله: (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) ما قال: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، فذلك الذي حق عليهم من كلمة ربك، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ
الآية ٦ وقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ يحتمل قوله :﴿ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ما ذكر [ في ]١ قوله :﴿ سُنّة الله في الذين خلوا من قبل ﴾ الآية [ الأحزاب/٦٢ ] وقوله :﴿ لقد مضت سُنّة الأولين ﴾ [ الأنفال/٣٨ ].
ويحتمل٢ أن يكون قوله :﴿ حقت كلمة ربك على الذين كفروا ﴾ ما قال :﴿ لأملأن جهنم من الجِنّة والناس أجمعين ﴾ [ هود : ١١٩ والسجدة : ١٣ ]. فذلك الذي حق عليهم [ من ]٣ كلمة ربك، والله أعلم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ الواو ساقطة من الأصل وم..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ... (٧)
قد ذكرنا في غير موضع أن التسبيح بحمد ربهم هو الثناء عليه، والحمد له بالتبرئة والتنزيه عن جميع أوصاف الخلق ومعانيهم، وعن جميع ما قال الملاحدة فيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).
هذه أرجى آية للمؤمنين، والآيات التي فيها استغفار الرسل للمؤمنين من نحو قول نوح - عليه السلام - حيث قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وقول إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)، وما أمر اللَّه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يستغفر لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات إنما هو في الذنوب التي ليس له أن يعذبهم عليها، وهي الصغائر، وليس له أن يغفر الكبائر، ويستدل على ذلك بقوله: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ)، إنما أمره أن يستغفر للذي تاب، فأما من لم يتب، ولم يأمره بالاستغفار، فيجب القول بما قلنا؛ عملا بالآيتين.
لكن نقول نحن: إنه لو كان استغفاره لمن ذكر خاصة لأصحاب الصغائر على ما قالوا، يصير كأنه أمر النبي - عليه السلام - أن يستغفر لهم، ولا يحزن عليهم؛ إذ هم مغفور ذنبهم؛ فيحصل قولهم على ما ذكرنا، وذلك وخش من القول، واللَّه أعلم.
ثم يجيء أن يكون المعتزلة والخوارج في الظاهر أبعد الخلائق من المعاصي وأقربهم إلى الطاعات، ونحن أقرب الخلائق إلى المعاصي وأبعدهم عن الطاعات؛ لأنهم لا يرون النجاة إلا بأعمالهم ولا يرون برحمة اللَّه، ولا بشفاعة أحد، ولكن بأعمالهم؛ فيجب أن يكونوا أبداً متكلين ملازمين على الطاعات في كل وقت وساعة، لا يعصون اللَّه طرفة عين، ونحن لم نر النجاة بالأعمال، ولكن إنما نرى ذلك برحمة اللَّه تعالى، وبشفاعة من ارتضى بشفاعته؛ فيجب أن نكون معتمدين على رحمة اللَّه وفضله غير مشتغلين بشيء من الطاعات.
ثم في الحقيقة يجب أن يكونوا هم أقرب الخلائق إلى المعاصي وأبعدهم من الطاعات، ونحن ألزم الخلائق بالطاعات وأبعدهم من المعاصي؛ لأنا نرى عند الله
6
لطائف وفواضل باقية، لم يعطنا ما لو أعطانا لم يصدر منا إلا الخير والطاعات؛ وسلمنا عن المعاصي وأنواع الشرور، وعصمنا؛ فيجب أن نكون متكلين على الطاعات؛ لنصل إلى تلك اللطائف، وهم لا يرون بقي عنده شيء من اللطائف، بل يقولون: قد أعطانا كل شيء حتى لم يبق عنده شيء من مصالح الدِّين؛ فيجب أن يكونوا ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
ثم قولنا: إن اللَّه تعالى ينجينا برحمته وبشفاعة من جعل له الشفاعة لا بأعمالنا، وعلى ذلك روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللَّه "، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟! قال: " ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته "، والمعتزلة يقولون: لا، بل ندخل بأعمالنا، وكذلك قول الخوارج.
وأصل قولنا: إن لله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يعذب عباده على جميع المعاصي: على الصغائر والكبائر جميعاً، وله أن يغفر جميع المعاصي سوى الشرك والكفر، على ما ذكرنا من دلائل الآيات وغيرها.
وقوله: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا).
قوله: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً) فرحمة الدنيا يدخل فيها الكافر والمؤمن جميعًا، فأما رحمة الآخرة، فهي للمؤمنين خاصة، هو كما ذكر في قصة موسى - عليه السلام - حيث قال: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ)...) إلى قوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ...) الآية، وكقوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، كأنه يقول: قل هي للذين آمنوا، والذين لم يؤمنوا، ثم هي خالصة للذين آمنوا يوم القيامة؛ فعلى ذلك قوله: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً)، هي رحمة الدنيا: المؤمن والكافر جميعا في تلك، فأما رحمة الآخرة ليست إلا للذين آمنوا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَعِلْمًا) أي: علم ما فيها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) ويحتمل وجوهًا:
أحدها: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) من الشرك، (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي: دينك، وهو الإسلام.
والثاني: أي: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) عن الكبائر والفواحش (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي: طاعتك.
والثالث: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) عن جميع المعاصي صغائر أو كبائر واتبعوا طاعتك،
7
واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) ظاهر.
ثم قوله: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا).
لا يمكن العمل بها على قول المعتزلة؛ لأن رحمة اللَّه عندهم لا تسع لذنب واحد، فإنه ليس له أن يعفو عنه؛ فإن عندهم أن من ارتكب كبيرة، ليس له أن يرحمه، ولكن يعاقبه -على زعمهم- خالدا مخلدا، وإذا كان هذا قولهم ومذهبهم، فليست رحمته بواسعة بزعمهم.
ثم يقولون - أيضاً -: إن اللَّه تعالى قد هدى كل كافر وأعطاه ما يهتدي به، لكنه لم يهتد به، وأنه لم يبق عنده ما يهديه به؛ فعلى هذا القول رحمته لا تتسع لهداية الكافر، فإذن رحمة اللَّه بزعمهم على خلاف ما ذكر اللَّه تعالى ووصفها بالسعة، واللَّه الموفق.
وأما عندنا فهو ما ذكرنا من جمع الكل في ذلك؛ لما ذكرنا أن تلك الرحمة هي الرحمة الدنيوية، أو ما ذكرنا من كون اللطائف عنده من أعطاها اهتدى، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) هذا يخرج على وجوه:
أحدها: أن الوعد كان منه لجملة المؤمنين، فسألوا أن يدخل قوم على الإشارة والتيقين في جملة ذلك الوعد؛ لاحتمال خصوص في الجملة، واللَّه أعلم.
والثاني: سألوه أن يجيبهم على الأسباب والأعمال التي يستوجبون ذلك، واللَّه أعلم.
والثالث: يجوز أن يكون الوعد لهم بشرط الذي سألوه، واللَّه تعالى عالم في الأزل: أنه يوجد ذلك الشرط وهو سؤالهم؛ فيكون لهم ذلك الوعد، ومثل ذلك جائز، قال الله تعالى: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)، إنما يعذبهم بسؤال هَؤُلَاءِ على ذلك كان: إنما تقديره: أنه لا يعذبهم إذا سألوا، وعلم أنهم سألوا؛ وعلى ذلك الحديث الوارد: أن الصدقة تزيد في العمر، جرى تقديره في الأزل أنه يوجد منه الصدقة، فيكون عمره زائدًا؛ على ما لو علم أنه لا يتصدق، وإنما لا يجوز التعليق بالشرط في حق اللَّه تعالى على نحو ما يكون في حق العباد أن يوجد عند وجود الشرط، ولا يوجد عند عدمه، ولا علم لهم بعاقبة ذلك، واللَّه تعالى عالم بالعواقب، فمتى علق بشرط كان ذلك منه في الأزل حكما على أن يوجد مع ذلك الشرط لا محالة، لما علم وجود ذلك الشرط مع علمه أنه لو لم يكن ذلك الشرط كيف كان، واللَّه الموفق.
أما ظاهر الآية أنه إذا وعدها لهم، لأدخلها لا محالة فيها؛ فلا معنى للسؤال في ذلك لما يخرج السؤال في مثله مخرج السؤال في تصديق الوعد والامتناع عن الخلف، ولكن
الآية تخرج على الوجوه التي ذكرنا.
وقوله: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ...) الآية.
سألوه أيضًا إدخال هَؤُلَاءِ في ذلك الوعد أيضًا على ما ذكرنا.
وقوله: (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ... (٩)
هذا يحتمل أنهم سألوا أن يقيهم في الآخرة أمورًا تسوءهم من الأهوال والأفزاع، وغير ذلك من العذاب.
ويحتمل في الدنيا أمر الشرك وغيره؛ يدل عليه قوله: (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي: ومن تق السيئات في الدنيا، فقد رحمته يومئذ (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠)
ذكر أن أهل النار إذا دخلوا النار وعاينوا ما أنكروا من البعث والعذاب، فجعل كل إنسان منهم يمقت نفسه، ويلومها، فينادون: لمقت اللَّه إياكم أكبر مما أوجب عليكم من اللعن، والنقمة أكبر مما تمقتون به أنفسكم وأشد؛ هذا وجه، ووجه آخر: جائز أن يقال لهم: إن الواجب عليكم أن تروا مقت اللَّه إياكم وقت ارتكابكم العصيان وعند تعاطيكم ما تعاطيتم أكبر وأشد من مقتكم العذاب ودخولكم النار؛ لأنكم إن رأيتم مقت اللَّه إياكم عند ارتكابكم ما ارتكبتم أنه ينزل بكم، لزجركم ومنعكم عن ارتكاب ذلك وتعاطيه، وحملكم على إيثار ما دعيتم إليه. من التوحيد لله تعالى والإيمان به، واللَّه تعالى أعلم.
وعلى هذين التأولين يرجع تأويل قوله: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ).
أحدهما: أن ذكر اللَّه إياكم بالرحمة والمغفرة أكبر وأعظم من ذكركم إياه، وصلواتكم وعبادتكم له.
والثاني: أن ذكر نفس نهي اللَّه تعالى إياكم عن المعاصي وقت ارتكابها أكبر -في الرهبة عنها والمنع- من الصلاة نفسها، إن كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)؛ لما أن الصلاة فيها أعمال تشغل عن ذكر النهي، واللَّه أعلم.
ثم قوله تعالى: (مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ).
يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: مقت بعضكم بعضًا كقوله: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا).
ويحتمل ذلك كقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى) أي: يمقت كل إنسان نفسه؛ لما كان
الآية ١٠ وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية ذكر أهل النار [ إذا دخلوا النار ]١ وعاينوا ما أنكروا من البعث والعذاب يجعل كل إنسان منهم يمقت نفسه، ويلومها، فينادون لمقت الله إياكم في ما أوجب عليكم من اللعن والنقمة أكثر مما تمقتون به أنفسكم، وأشد. هذا وجه، [ ووجه ]٢ آخر جائز [ وهو ]٣ أن يقال لهم : إن الواجب عليكم أن تروا مقت الله إياكم وقت ارتكابكم العصيان وعند تعاطيكم ما تعاطيتم أكبر وأشد من مقتكم العذاب ودخولكم النار، لأنكم إذا رأيتم مقت الله إياكم عند ارتكابكم ما ارتكبتم أنه يُنزل بكم لَزَجركم ومَنعكم عن ارتكاب ذلك وتعاطيه، وحملكم على إيثار ما دعيتم إليه من التوحيد لله تعالى والإيمان به، والله تعالى أعلم.
وعلى هذين التأويلين يرجع تأويل قوله :﴿ ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] :
أحدهما : أن ذكر الله تعالى إياكم بالرحمة والمغفرة أكبر وأعظم من ذكركم إياه وصلاتكم وعبادتكم له.
والثاني : أن ذكر نفسٍ نهي الله تعالى إياها عن المعاصي وقت ارتكابها أكبر [ من الزجر ]٤ عنها والمنع من الصلاة نفسها [ وإن كانت الصلاة تنهى عن ذلك بقوله :]٥ ﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] لما أن الصلاة منها أعمال تشغل عن ذكر النهي، والله أعلم.
ثم قوله تعالى :﴿ مقتكم أنفسكم ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن مقت بعضكم بعضا كقوله :﴿ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ﴾.
[ والثاني ]٦ : يحتمل ذلك لقوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ أي يمقت كل إنسان نفسه لما كان [ منها ]٧ من العصيان والكفر.
وإنما احتمل هذين الوجهين لأن المنع لهم من طاعة الله تعالى واتباع أمره ونهيه يكون بأنفسهم، ويكون من بعضهم بعضا. فيكون محتملا لكلا الوجهين. وهو كقوله تعالى :﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلّموا على أنفسكم تحية من عند الله ﴾ [ النور : ٦١ ] وقوله :﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ [ البقرة : ١٩٥ } ولا تهلكوا بعضكم بعضا٨ /٤٧٥ – أ/ إذ الظاهر أن المرء مع قيام عقله لا يهلك نفسه، ولا يلقيها في التهلكة، وكذا لا يسلِّم على نفسه.
ويحتمل الظاهر أيضا أن يسلّم [ المرء ]٩ على نفسه إذا دخل البيت، ولم يكن فيه١٠ غيره.
ولذلك نهى عن إهلاك نفسه عند شدة الغضب ونحو ذلك، والله أعلم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: في الرحمن..
٥ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: إن كانت..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ في الأصل وم: لبعض..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ في الأصل وم: معه..
من العصيان والكفر، وإنما احتمل هذين الوجهين؛ لأن المنع لهم من طاعة اللَّه تعالى واتباع أمره ونهيه، يكون بأنفسهم، ويكون من بعضهم بعضًا؛ فيكون محتملا لكلا الوجهين، وهو كقوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وقوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ): ولا تهلكوا بعضكم ببعض؛ إذ الظاهر أن المرء مع قيام عقله لا يهلك نفسه، ولا يلقيها في التهلكة، وكذا لا يسلم على نفسه.
ويحتمل الظاهر أيضًا أن يسلم على نفسه إذا دخل البيت، ولم يكن معه غيره؛ ولذلك نهي عن إهلاك نفسه عند شدة الغضب، ونحو ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عز جل -: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١).
قال بعض أهل التأويل: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم اللَّه تعالى في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان، وهو قول ابن عَبَّاسٍ وابن مسعود فيما أرى، ويقولون هو كقوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ): إحدى الموتتين هي التي تنقضي بها آجالهم، ثم يحييهم في القبر، ثم يميتهم، ثم يحييهم للبعث يوم القيامة، فهما موتتان وحياتان، وإلى هذا يذهب ابن الراوندي، ويحتج بهذا على عذاب القبر، وهو أشبه وأقرب؛ لأنهم بكونهم في أصلاب آبائهم أمواتا لا يقال: (أَمَتَّنَا) وهم كانوا أمواتا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ).
يحتمل اعترافهم بذنوبهم: هو ما أنكروا في الدنيا قدرة اللَّه تعالى على البعث والإحياء بعد الموت والعذاب لهم لما عاينوا ذلك وشاهدوا أقروا به، فإنكارهم ذلك هو ذنبهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون ذنوبهم التي اعترفوا بها ما ذكر في سورة (تبارك) حين قال لهم الخزنة لما ألقوا في النار: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)، فيكون اعترافهم بذنوبهم هذا، واللَّه أعلم.
وقوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
قوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ) أي: ذلك المقت الذي ذكر أو العذاب الذي نزل بكم إنما كان (بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ)، أي: كفرتم بتوحيده، (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) أي: توحيد اللَّه (تُؤْمِنُوا) به، أي: يصدقوا هذه الآية كقوله: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)، فهما
الآية ١٢ وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ﴾ قوله ﴿ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ ﴾ أي ذلك المقت الذي ذكر والعذاب الذي نزل بكم إنما كان ﴿ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ﴾ أي كفرتم بتوحيده ﴿ وإن يُشرَك به ﴾ أي توحيد الله ﴿ تؤمنوا ﴾ به أي تصدقوا.
هذه الآية كقوله :﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [ الزمر : ٤٥ ] فهما بمعنى واحد، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ﴾ قال قتادة : لما خرج أهل حروراء قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : من هؤلاء ؟ قيل المحكِّمون. قال قائل : هم القُرّاء، قال [ رضي الله عنه ]١ : ليسوا بالقرّاء لكنهم العيّابون الخيّابون. قالوا : إنهم يقولون : لا حكم إلا لله، قال علي رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل. وذكر : عُنِي بها باطل.
١ في الأصل وم: عليه السلام..
بمعنى واحد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ).
قال قتادة: لما خرج أهل حروراء قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " من هَؤُلَاءِ؟ قيل: المحكمون، قال قائل: هم القراء، قال - عليه السلام - ليسوا بالقراء، ولكنهم العيابون الخيابون، قال: إنهم يقولون " لا حكم إلا لله، قال علي - رضي الله عنه -: كلمة حق أريد بها باطل "، وذكر: " عني بها باطل ".
* * *
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)
وقوله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ).
اختلف في قوله: (يُرِيكُمْ) هو ما أراهم بمكذبي رسله ومصدقهم من أوائلهم حيث استأصل هَؤُلَاءِ بتكذبيهم رسله، وأنجى مصدقيهم بتصديقهم إياه؛ ليحذر هَؤُلَاءِ عن تكذيب رسوله. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراهم آيات وحدانيته وربوبيته وقدرته وسلطانه في السماوات والأرض ما لو تأملوا لعرفوا ذلك؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، آيات وحدانيته وربوبيته، وذكر أنهم يمرون عليها، أي: يرونها - لكنهم يعرضون عنها، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ): يا أهل مكة إذا سافرتم رأيتم آيات المتقدمين ومنازلهم وهلاكهم؛ وهو الأول بعينه.
وقوله: (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا).
يخبر عن آيات وحدانيته أيضًا: أنه ينزل رزقهم من السماء، وحيل الخلق تنقطع عن استنزال الرزق من السماء؛ ليعلموا أن منشئ الأرض والسماء واحد حيث اتصل منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما.
ويحتمل أنه يذكر نعمه عليهم حيث يعلمون أنه هو الذي أنزل أرزاقهم من السماء دون من يعبدون من الأصنام، فكيف تصرفون عبادتكم وشكركم إلى غيره؟!
وقوله: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ).
وما يتذكر بما ذكر من الآيات ولا يتأملها إلا من ينيب إليه بطاعته.
أو يقول: لا يتذكر ولا يتعظ بآياته ومواعيده إلا من ينيب إليه بالقبول لأمره وطاعته.
وقوله: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤)
كأن هذا صلة ما تقدم من قوله تعالى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ...) الآية، وصلة قوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) يقول: فادعوا اللَّه يا أصحاب مُحَمَّد، وأيها المؤمنون مخلصين له الدِّين، ولو كره الكافرون ذلك، ووحدوه، ولا تشركوا به شيئًا على ما يشرك به أهل مكة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ... (١٥) يحتمل وجهين:
أحدهما: رفيع السماوات درجة على درجة، وطبقًا على طبق؛ على ما رفعها واحدة على أخرى.
والثاني: قوله: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) أي: درجات أهلها ومنازلهم التي جعلها لهم في الآخرة على تفضيل بعض على بعض في الدرجات؛ كقوله - تعالى -: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا): أخبر أنه فضل بعضًا على بعض في الدرجات في الآخرة، فجائز أن يكون ما ذكر من رفع الدرجات هو رفع السماوات درجة فدرجة، فهو إخبار عن قدرته وسلطانه أنه من قدر على رفع السماوات في الهواء وإقرارها فيه بلا سبب من أسباب إمساكها من التعليق بشيء، مع ثقلها وغلظها ولا شيء يقر في الهواء بحيث لا ينحط ولا يتسفل ولا يرتفع عن أماكنه بلا سبب من الأسفل والأعلى لا يحتمل أن يعجزه شيء أو يخفى عليه شيء أو يمنعه شيء عما يريد، والله أعلم. وإن كان المراد بالدرجات التي يجعل لأهلها في الآخرة إنما يستوجبونها باللَّه تعالى بأعمال تكون لهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ)، اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو جبريل - عليه السلام - (يُلْقِي) أي: ينزل بالوحي بالنبوة (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)؛ كقوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ)، أخبر أنه أمين؛ ليعلم أنه ليس في إنزاله غلط ولا شيء مما قاله بعض الروافض: إنه بعث إلى فلان وأداه إلى غيره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الروح هاهنا هو الوحي والرسالة؛ يقول: (يُلْقِي) هو الوحي على من يختار ويصطفي من عباده، واللَّه أعلم.
الآية ١٥ وقوله تعالى :﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : رفيع السماوات درجة على درجة وطبقا على طبق على ما رفعها واحدة على أخرى.
والثاني : قوله :﴿ رفيع الدرجات ﴾ أي درجات أهلها ومنازلهم التي جعلها لهم في الآخرة على تفضيل بعضهم على بعض في الدرجات كقوله تعالى :﴿ انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض ﴾ في الدرجات ﴿ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾ [ الإسراء : ٢١ ].
أخبر أنه فضّل بعضا على بعض في الدرجات. فجائز أن يكون ما ذكر من رفع الدرجات هو رفع السماوات درجة فدرجة، فهو إخبار عن قدرته وسلطانه أنه من قدر على رفع السماوات في الهواء وإقرارها فيه بلا سبب من أسباب إمساكها من التعليق بشيء من ثقلها وغلظها، ولا شيء يقرّ في الهواء بحيث لا ينحطّ، ولا يتسفّل، ولا يرتفع عن مكانه١ بلا سبب من الأسفل والأعلى، لا يحتمل أن يعجزه شيء، أو يخفى عليه شيء، أو يمنعه عما يريد، والله أعلم.
وإن كان المراد بالدرجات التي تُجعل لأهلها في الآخرة إنما يستوجبونها بالله تعالى بأعمال، تكون لهم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ﴾ اختلف فيه.
قال بعضهم : هو جبرائيل عليه السلام ﴿ يلقي ﴾ أي ينزل الوحي والنبوّة على من يشاء من عباده كقوله :﴿ نزل به الروح الأمين ﴾ ﴿ على قلبك ﴾ [ الشعراء : ١٩٣ و١٩٤ ] أخبر أنه أمين ليعلم أنه ليس في إنزاله غلط ولا شيء مما قاله بعض الرّوافض أنه بعث إلى فلان، وأدّاه إلى غيره.
وقال بعضهم : الروح ههنا، هو الوحي والرسالة ؛ يقول :﴿ يلقي ﴾ وهو الوحي على من يختار، ويصطفي من عباده، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ﴾ اختلف فيه :
قال بعضهم : يوم يلقى أهل الأرض أهل السماء. وقال بعضهم : يوم يلقى الآخرون الأولين٢.
وجائز أن يكون قوله : يلقى الإنسان عمله وأفعاله التي عملها، والله أعلم.
وقالت الباطنية : أي يوم تلقى الصّور المتولّدة من الأجساد بأعمال الخير والشر التي كانت لهم في الدنيا الصور التي كانت لهم روحانية ؛ لأن من مذهبهم أن من مات منهم بحدث، ويتولد بالأعمال التي كانت لهم من الخير صُورٌ روحانية ؛ تلقى هذه الصورة الحادثة المتولّدة من الأجساد [ بعد الموت ويكون البعث عندهم للأرواح، فتتّصل هذه الأرواح النورانية بالنور الصِّرف، ويستدلّون بقوله :﴿ يوم هم بارزون ﴾ أي تبرز تلك الصور الروحانية من الأجساد ]٣ إذ الخلائق كلهم في جميع الأحوال والأوقات بارزون ظاهرون لله تعالى، ثم يكونون في وقت مستورين /٤٧٥ – ب/ عنه.
ولكن هذا فاسد لأنه لو كان الأمر على ما يقوله الباطنية لكانت الأنفس إذا نامت، وخرجت منها الصور الروحانية، فرأت رؤيا، كانت تراها مختلطة غير متحقّقة، وفي حالة اليقظة تراها متحققة غير مختلطة، دلّ أن الإدراك للأجساد بواسطة الصور الروحانية يجب أن يكون البعث للكل، والله أعلم.
ولكن الوجه في ذلك ما ذكرنا. وأصله أنه سمّى ذلك اليوم على ما سمّى يوم الجمع٤ ويوم التغابن٥ ويوم الحشر٦ وغير ذلك. سمّى اليوم على أسماء مختلفة :[ سمّى ]٧ كل اسم من تلك لمعنى غير المعنى الآخر، والله أعلم.
١ في الأصل وم: أماكنها..
٢ في الأصل وم: الأولون..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ الشورى: ٧ والتغابن: ٩..
٥ التغابن: ٩.
٦ الحشر: ٢..
٧ ساقطة من الأصل وم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ).
اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: يوم يلقى أهل الأرض أهل السماء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يوم يلقى الآخرون الأولين.
وجائز أن يكون هو يوم يلقى الإنسان عمله وأفعاله التي عملها، واللَّه أعلم.
وقالت الباطنية: أي: يوم يلقى الصور المتولدة من الأجساد بأعمال الخير والشر التي كانت لهم في الدنيا الصور التي كانت لهم روحانية؛ لأن من مذهبهم أن من مات منهم يحدث ويتولد بالأعمال التي كانت لهم من الخير صورًا روحانية تلقى هذه الصورة الحادثة المتولدة من الأجساد بعد الموت، ويكون البعث عندهم للأرواح فتتصل هذه الأرواح النورانية بالنور الصرف، ويستدلون بقوله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ)، أي: تبرز تلك الصور الروحانية من الأجساد؛ إذ الخلائق كلهم في جميع الأحوال والأوقات بارزون ظاهرون لله تعالى لم يكونوا في وقت مستورين عنه.
ولكن هذا فاسد؛ لأنه لو كان الأمر على ما يقوله الباطنية لكانت الأنفس إذا نامت وخرجت منها الصور الروحانية، فرأت رؤيا كانت تراها مختلطة غير متحققة، وفي حالة اليقظة تراها متحققة غير مختلطة؛ دل أن الإدراك للأجساد بواسطة الصور الروحانية، فيجب أن يكون البعث للكل، واللَّه أعلم.
ولكن الوجه في ذلك ما ذكرنا، وأصله أنه سمي ذلك اليوم على ما سمي: يوم الجمع، ويوم التغابن، ويوم الحشر، وغير ذلك، سمي ذلك اليوم على أسماء مختلفة، كل اسم من ذلك لمعنى غير المعنى الآخر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ظاهرون، لا شيء هنالك يسترهم، أي: يرتفع يومئذ جميع السواتر؛ وهو كقوله تعالى: (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا). أي: لا شيء فيها، يذكر هذا لأن من الناس من يقول: يستر الأشياء عن اللَّه تعالى بالسواتر ردًّا لقولهم.
ويحتمل أن يكون قوله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ) سمي ذلك اليوم: يوم البروز؛ لما يتفقون جميعًا ويقرون بالكلمة التي اختلفوا في الدنيا فيها، فيبرزون جميعًا متفقين مقرين على تلك الكلمة يومئذ وهي كلمة التوحيد، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون سماه: يوم البروز، والمصير، والرجوع، وما ذكر؛ لأن المقصود من إنشاء الدنيا وما فيها من الخلائق ذلك اليوم وتلك الدار، وكذلك صار إنشاء الدنيا وإنشاء ما فيها حكمة؛ لما عرف أن الإنشاء للإفناء خاصة ليس بحكمة، فخص ذلك اليوم بما ذكرنا وإن كانوا في جميع الأحوال بارزين إليه ظاهرين له، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ).
ظاهر، وهو رد لقول من يقول: إن شيئًا يستر على اللَّه تعالى اللَّه عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).
قال عامة أهل التأويل: إذا أهلك اللَّه تعالى أهل الأرض وأهل السماء فلم يبق أحد إلا اللَّه تعالى، فعند ذلك يقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فلا يجيبه أحد، فيقول هو في نفسه ويجيب نفسه: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، لكن هذا بعيد لا يحتمل أن يقول: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ولا أحد سواه، ويجيب نفسه: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)؛ لما لا حكمة في ذلك: أن يسأل نفسه ثم يجيبها، لكن الوجه فيه - واللَّه أعلم - أنه إنما يقول لهم ذلك إذا بعثهم وأحياهم: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فيقول الخلائق له بأجمعهم: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، يقرون له جميعًا يومئذ بالملك والربوبية وإن كان بعض الخلائق في الدنيا قد نازعوه في الملك فيها وادعوا لأنفسهم، فيقرون يومئذ أن الملك في الدنيا والآخرة لله تعالى، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ... (١٧)
أي: من خير أو شر.
(لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ).
أي: لا تجزى غير ما كسبت.
ويحتمل (لَا ظُلْمَ) أي: لا نقصان في الحسنات التي عملوها، ولا زيادة على السيئات التي اكتسبوها، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
قد ذكرنا هذا أيضًا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨).
سمى ذلك اليوم الآزفة، لقربه ودنوه منه؛ وعلى ذلك سماه: غدا، وقريبًا؛ كقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)، وقوله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ...) الآية
14
؛ فعلى ذلك سماه " آزفة " لدنوه وقربه منهم، يقال: أزف فلان إلى فلان، أي: قرب ودنا منه، ومعناه: أي: أنذرهم بما إليه مرجع عاقبتهم ومصيرهم؛ لأن أهل العقل والتمييز إنما يعملون ويسعون للعاقبة وما إليه يرجع أمورهم وهو ذلك اليوم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ).
يخبر عن شدة حالهم وفزعهم في ذلك اليوم، ليس أن يزول قلوبهم عن أمكنتها وترتفع إلى الحناجر حقيقة، ولكنه وصف لشدة حالهم في ذلك اليوم وكثرة خوفهم وفزعهم وضيق صدورهم؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)، أي: ضاقت صدورهم وقلوبهم بما حل بهم من الشدائد والأهوال، ليس أن صارت الأرض في الحقيقة مضيقة لا يسعون فيها، ولكن وصف لضيق صدورهم لعظم ما نزل بهم، فكنى بضيق الأرض عن ضيق صدورهم؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من كون القلوب لدى الحناجر كناية عن ضيق صدورهم لشدة حالهم وعظيم ما حل بهم، واللَّه أعلم.
والحناجر هي مواضع الذبح من الشاة وغيرها من الدواب، واحدها: حنجرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَاظِمِينَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الكاظم: المغموم الذي يتردد خوفه في جوفه غيظًا؛ لما كان منه في الدنيا.
وقيل: الكاظم لا يتكلم، قد كظم من الخوف.
وقيل: الذي لا يفتح فمه؛ وهو قريب بعضهم من بعض.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ).
أي: قريب، وقيل: الحميم: هو الذي يهتم بأمر صاحبه، ويسعى في دفع ما نزل به من البلاء.
وقوله: (وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ).
أي: يجاب: يذكر: ألا يكون لهم في الآخرة قريب يهتم لأمرهم، ولا شفيع يشفع لهم؛ فيجاب كما يكون في الدنيا؛ وكذلك قوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي: لا يكون لهم شفعاء ينفعهم شفاعثهم، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ...) الآية ٢٥٤.
15
الآية ١٨ وقوله تعالى :﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ ﴾ سمّى ذلك اليوم يوم الآزفة لقربه ودُنوّه منه، وعلى ذلك سمّاه [ ﴿ لغد ] [ الحشر : ١٨ ] ]١ و{ قريبا ﴾ [ الحشر : ١٥ ] كقوله :﴿ اقترب للناس حسابهم ﴾ [ الأنبياء : ١ ] فعلى ذلك سمّاه ﴿ يوم الآزفة ﴾ لدنوّه وقربه منهم. يقال : أزِف فلان إلى فلان، أي قرُب، ودنا منه.
ومعناه : أي أنذرهم بما إليه مرجع عاقبتهم، ومصيرهم، لأن أهل العقل والتمييز إنما يعملون، ويسعون للعاقبة، وما إليه ترجع أمورهم، وهو ذلك اليوم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ ﴾ يخبر عن شدة حالهم وفزعهم في ذلك اليوم ؛ ليس أن تزول قلوبهم عن أمكنتها، وترتفع إلى الحناجر حقيقة، ولكنه وصف لشدة حالهم في ذلك وكثرة خوفهم وفزعهم وضيق صدورهم، وهو كقوله تعالى :﴿ ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت ﴾ [ التوبة : ١١٨ ] أي ضاقت صدورهم وقلوبهم بما حل بهم من الشدائد والأهوال، ليس أن صارت الأرض في حقيقة مضيّقة، لا يسَعون فيها، ولكن وصف لضيق صدورهم لعِظم ما نزل بهم. فكنّى بضيق الأرض عن صدورهم.
فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من كون القلوب لدى الحناجر كناية عن ضيق صدورهم لشدة حالهم وعظيم ما حل بهم، والله أعلم.
والحناجر، هي مواضع الذبح من الشاة وغيرها من الدواب، واحدتها٢ حنجرة.
وقوله تعالى :﴿ كَاظِمِينَ ﴾ قال بعضهم : الكاظم المغموم الذي يتردّد حزنه في جوفه غيظا لما كان منه في الدنيا.
وقيل : الكاظم [ الذي ]٣ لا يتكلم، قد كُظم من الخوف، وقيل : الذي لا يفتح فمه، وهو قريب بعضهم من بعض.
وقوله تعالى :﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ﴾ أي قريب، وقيل : الحميم هو الذي يهتم لأمر صاحبه، ويسعى في دفع ما نزل به من البلاء.
وقوله تعالى :﴿ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ أي يجاب ؛ يذكر ألا يكون لهم في الآخرة قريب، يهتم لأمرهم، ولا شفيع يشفع لهم، فيجاب، كما يكون في الدنيا، وكذلك قوله ﴿ فما تنفعهم شفاعة الشافعين ﴾ [ المدثر : ٤٨ ] أي لا يكون لهم شفعاء تنفعهم، وهو ما قال عز وجل في آية أخرى :﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ الآية [ البقرة : ٢٥٤ ].
١ في الأصل وم: غدا..
٢ في الأصل وم: واحدها..
٣ ساقطة من الأصل وم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ... (١٩) والخيانة واحد، وهو ما قال عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ)، أي: خيانة منهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي النظرة بعد النظرة: أما الأولى فليس فيها شيء، وأما الثانية فعليه مأثمها.
وقوله: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ).
أي: ما لم يتكلم به المرء ولم يعمل، كل ذلك يعلمه اللَّه تعالى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: خائنة الأعين: هي النظرة فيما لا يحل والغمزة بعينه؛ وهو مثل الأول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: خائنة الأعين: هي التي ينتظرها: غفلة الناس إذا غفلوا عنه، نظر إلى ما يهواه ويحبه، و (تُخْفِي الصُّدُورُ) هو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ)، يذكر هذا ليكونوا أبدًا مراقبين أنفسهم، حافظين لها عما لا يحل من السمع والبصر والفؤاد، وعلى ما ذكر في آية أخرى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، ليكونوا أبدًا على حذر من ذلك وخوف، والله أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٢١) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ).
قال أهل التأويل: أي: الحكم بالحق. والقضاء المذكور في الكتاب يخرج على وجوه: أحدها: (يَقْضِي) أي: يأمر؛ كقوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)؛ وكقوله: (إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا)، أي: إذا أمر أمرًا، يقول: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي: يأمر بالحق، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي: لا يملكون الأمر بالحق، فكيف تعبدون من دونه؟!
والثاني: القضاء: الوحي والخبر؛ كقوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ)
الآية ٢٠ وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ﴾ قال أهل التأويل : أي الحكم بالحق. والقضاء ههنا١ المذكور في الكتاب يخرّج على وجوه :
أحدها : يقضي، أي يأمر، كقوله :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] وكقوله :﴿ إذا قضى الله ورسوله أمرا ] [ الأحزاب : ٣٦ ] إذا أمر أمرا. يقول :{ والله يقضي بالحق ﴾ أي يأمر بالحق.
والثاني : القضاء الوحي والخبر كقوله تعالى :﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ﴾ [ الإسراء : ٤ ] أي أوحينا إليهم.
فكأنه يقول : والله يوحي بالحق، ويخبر به ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ﴾ لا يملكون الوحي ولا الخبر. فكيف اخترتم عبادتهم على عبادة من يوحي بالحق، ويخبر به ؟ والله أعلم.
والثالث : القضاء، هو الخلق والإنشاء كقوله تعالى :﴿ فقضاهُن سبع سماوات ﴾ [ فصلت : ١٢ ] أي خلقهم فيكون قوله على هذا ﴿ والله يقضي بالحق ﴾ يخلق ﴿ بالحق والذين يدعون من دونه ﴾ لا يخلقون شيئا، وقد يعلمون استحقاق العبادة إنما تجوز في الخلق والإنشاء، وهو كقوله تعالى :﴿ أفمن يخلُق كمن لا يخلق ﴾ [ النحل : ١٧ ] وكقوله تعالى /٤٧٦– أ/ ﴿ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق ﴾ [ الرعد : ١٦ ] يقول : خلق من يدعون من دونه كخلق الله حتى تشابه ذلك عليهم، فعبدوهم ؛ إذ يعلمون أن من خلق ليس كمن لم يخلق، وقد تعلمون أنها لم تخلق شيئا، فكيف عبدتموها ؟ والله أعلم.
ثم قوله أهل التأويل :﴿ يقضي بالحق ﴾ [ يحتمل وجهين :
أحدهما :]٢ أي يحكم بالحق في الدنيا بالآيات والحجج ما عرف كل أحد أنها حجج وآيات وبراهين، والحكم بما ذكرنا حكم بالحق، والله أعلم.
والثاني : أي يحكم بالحق في الآخرة، وهو الشفاعة، أي لا يجعل الشفاعة لمن يعبدون على رجاء الشفاعة كقولهم :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ } ولكن إنما يجعل لمن ارتضى كقوله :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال :﴿ السميع ﴾ للمؤمنين٣ أي المجيب، و﴿ البصير ﴾ بأفعالهم.
وجائز أن يكون قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ صلة ما تقدم من قوله ﴿ يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور ﴾ يقول :﴿ السميع ﴾ لما يكون منهم ظاهرا من قول أو فعل، و﴿ البصير ﴾ بما أخفوا في قلوبهم، وتكن صدورهم ؛ يخبر بهذا ليكونوا أبدا مراقبين حافظين أنفسهم ما ظهر [ منها ]٤ وما خفي، والله أعلم.
١ ساقطة من م..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: للمؤمن..
٤ ساقطة من الأصل وم..
أي: أوحينا إليهم، فكأنه يقول: واللَّه يوحي بالحق ويخبر به، والذين يدعون من دونه لا يملكون الوحي ولا الخبر، فكيف اخترتم عبادتهم على عبادة من يوحي بالحق ويخبر؟! واللَّه أعلم.
والثالث: القضاء هو الخلق والإنشاء؛ كقوله تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) أي: خلقهن، فيكون قوله على هذا (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ)، أي: يخلق بالحق، والذين يدعون من دونه لا يخلقون شيئًا، وقد يعلمون استحقاق العبادة إنما يجوز بالخلق والإنشاء؛ وهو كقوله تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ)، (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ)، يقول: خلق من يدعون دونه كخلقه حتى تشابه ذلك عليهم فعبدوهم؛ إذ يعلمون أن من خلق ليس كمن لم يخلق، وقد تعلمون أنها لم تخلق شيئًا، فكيف عبدتموها؟! واللَّه أعلم.
ثم أقول: أصل التأويل (يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي: يحكم بالحق في الدنيا بالآيات والحجج ما عرف كل أحد أنها حجج وآيات وبراهين، والحكم بما ذكرنا حكم بالحق، واللَّه أعلم.
والثاني: أي يحكم بالحق في الآخرة وهو الشفاعة، أي: لا يجعل الشفاعة لمن يعبدون على رجاء الشفاعة؛ كقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، ولكن إنما يجعل لمن ارتضى؛ كقوله تعالى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: السميع للمؤمن، أي: المجيب للمؤمن، والبصير لعقاب أُولَئِكَ.
وقيل: السميع لأقوالهم، البصير بأفعالهم.
وجائز أن يكون قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) صلة ما تقدم من قوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) يقول: السميع بما يكون منهم ظاهرا من قول أو فعل، والبصير بما أخفوا في قلوبهم وتكن صدورهم، يخبر بهذا؛ ليكونوا أبدًا مراقبين حافظين أنفسهم ما ظهر وما خفي، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٢١).
هذا يخرج على وجهين:
17
أحدهما: ما قال الحسن: إنهم لو ساروا فنظروا في آثار من كان قبلهم من مكذبي الرسل، لكان لهم في ذلك زجر ومنع عن مثل صنيع أُولَئِكَ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الخبر، أي: قد صاروا في الأرض، ونظروا في آثار من تقدمهم، لكنهم لم ينظروا نظر اعتبار أنه لماذا أصابهم ما أصابهم؟ واللَّه أعلم.
وقال قائلون: هو على الإيجاب والإلزام، أي: سيروا في الأرض وانظروا في آثار أُولَئِكَ الذين كانوا من قبل هَؤُلَاءِ؛ كقوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا).
ولكن نقول: ليس على حقيقة السير في الأرض بالأقدام ولا نظر العين والبصر، ولكنه أمر منه لهم بالتفكر والاعتبار في آثار من كان قبلهم، وإلى ماذا صار عاقبة أمر صنيع مكذبي الرسل ومصدقيهم؟ لينزجروا عن مثل صنيع مكذبهم، ويرغبوا في مثل صنيع مصدقهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً)، في أبدانهم وأنفسهم، (وَآثَارًا)، أي: خبر أو ذكر في الأرض.
ويحتمل (وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ) أي: أشد أعمالا في الأرض، وليس كما يقول بعض المعتزلة: أي: أنهم كانوا أشد منهم قوة في الخيرات، فإن كان ما ذكر فذلك ليكون أصلح لهم، وهذا بعيد سمج من القول، والوجه فيه ما ذكرنا أنهم كانوا أشد منهم قوة في أبدانهم وأنفسهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ).
يخبر أن أُولَئِكَ الذين كانوا من قبل هَؤُلَاءِ كانوا أشد من هَؤُلَاءِ قوة وأشد آثارا في الأرض، ثم لم يمنعهم شدة قوتهم في أبدانهم وأنفسهم وما ذكر من آثار الأرض ولم يدفعوا عن أنفسهم ما نزل بهم من عذاب اللَّه، فأنتم يا أهل مكة دونهم في البطش والقوة، فكيف تمنعون عذاب اللَّه إذا نزل بكم؟! واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ).
ذكر - واللَّه أعلم - أن أُولَئِكَ قد عبدوا الأصنام رجاء أن تشفع لهم في الآخرة وتقربهم إلى اللَّه زلفى، كما تعبدون أنتم على رجاء الشفاعة لكم والتقرب إليه، ولو كانت عبادتهم إياها طريق الشفاعة وسبب التقريب، لكان يغيثهم من عذاب اللَّه في الدنيا، وهو كما ادعت اليهود أنهم أبناء اللَّه وأحباؤه، فقال ردَّا عليهم بقوله: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) أي: في الدنيا لو كنتم على ما تزعمون؛ إذ لا أحد يهلك ويعذب ولده وحبيبه في الدنيا فعلى ذلك الأول.
18
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢)
فقوله: (ذَلِكَ) يقول: ذلك العذاب والإهلاك الذي نزل بهم لما كانت أتتهم رسلهم بالبينات، فكفروا وكذبوا الآيات والأدلة التي أتتهم رسلهم أنهم رسل اللَّه إليهم، فأصابهم ما أصابهم، كذلك فأنتم يا أهل مكة إذا كذبتم الرسول بعد ما أتتكم البينات والأدلة على رسالته، ينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ بالتكذيب والعناد ورد الآيات والأدلة، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (٢٧)
وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا).
يحتمل (بِآيَاتِنَا) أي: بحججنا، وذكرنا أنه يحتمل أن الآيات والسلطان واحد، ويحتمل أنهما غيران.
وقوله:
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ (٢٤) ليعلم أنه كان مبعوثًا إلى الكل لم يبعث إلى بعض دون بعض.
وقوله: (فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ).
دل قولهم: ساحر كذاب على أن موسى - عليه السلام - قد آتاهم من الآيات والحجج ما عجزوا عن إتيان مثلها والمقابلة لها؛ فخافوا أن يتبعه الناس لذلك، فموهوا بقولهم: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ) على سائر الناس؛ لئلا يتبعوه فيما يدعو؛ لما عرف الناس أن السحر ليس يعرفه كل أحد وأن أكثر الناس يعجزون عن السحر، وكانوا يعرفون أن السحر يكون كذبًا، فموهوا بذلك القول أمر موسى - عليه السلام - على أتباعهم، ونسبوه إلى الكذب من غير أن ظهر من موسى كذب قط، وقد كان لم يزل من فرعون تمويه وتلبيس على قومه أمر موسى؛ مخاقة أن يتبعوه؛ لما أتاهم من الحجج والأدلة التي ظهرت عندهم أنها حجج وأدلة، من ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) وقوله: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)، قال هذا بعد ما اتبعه السحرة وآمنوا به؛ ليموه بذلك أمرهم على من لم يبع موسى من الأتباع، وقوله: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا)، وغير ذلك من التمويهات التي كانت منه؛ فعلى ذلك هذا القول منهم حيث قالوا: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ) لأنهم اعتادوا.
الآية ٢٣ وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ يحتمل ﴿ بآياتنا ﴾ أي بحججنا. وذكرنا [ أن الآيات تحتمل السلطان، وأنهما ]١ واحد، ويحتمل أنهما متغايران٢.
١ في الأصل وم: أنه يحتمل أن الآيات والسلطان..
٢ في الأصل وم: غيران..
الآية ٢٤ وقوله تعالى :﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ ﴾ ليعلم أنه كان مبعوثا إلى الكل، لم يُبعث إلى بعض دون بعض.
وقوله تعالى :﴿ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ دل قولهم :﴿ ساحر كذّاب ﴾ على أن موسى عليه السلام قد أتاهم من الآيات والحجج ما عجزوا عن إتيان مثلها والمقابلة لها. فخافوا أن يتبعه الناس لذلك. فموّهوا بقولهم :﴿ ساحر كذّاب ﴾ على سائر الناس لئلا يتّبعوه في ما يدعو لما عرف الناس أن السحر ليس يعرفه كل أحد، وأن أكثر الناس يعجزون عن السحر، وكانوا يعرفون أن السحر يكون كذبا. فموّهوا بذلك القول أمر موسى عليه السلام على أتباعهم، ونسبوه إلى الكذب من غير أن ظهر من موسى كذب قط، وقد كان لم يزل من فرعون تمويه وتلبيس على قومه مخافة أن يتّبعوه لما أتاهم من الحجج والأدلة التي ظهرت عندهم أنها حجج وأدلة.
من ذلك قوله١ تعالى :﴿ يريد أن يخرجكم من أرضكم بسِحره ﴾ [ الشعراء : ٣٥ ] وقوله :﴿ إنه لكبيركم الذي علّمكم السحر ﴾ [ طه : ٧١ ] قال هذا بعدما اتبعه السحرة، وآمنوا به ليُموّه بذلك أمرهم على من يتّبع موسى من الأتباع، وقوله :﴿ إن هذا لمكر مكرتُموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ﴾ [ الأعراف : ١٢٣ ] وغير ذلك من التمويهات التي كانت منه.
فعلى ذلك هذا القول منهم حين٢ قالوا :﴿ ساحر كذّاب ﴾.
وجائز أن يكون قولهم : إنه كذّاب لأنهم اعتادوا عبادة الأصنام دون الله تعالى. فلما جاء موسى، صلوات الله عليه، بما يمنعهم عن عبادة ما اعتادوا من العدد، ودعاهم إلى عبادة الواحد، قالوا : إنه كذّاب، وكذلك قال٣ أهل مكة عن رسولنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : إنه ساحر كذّاب :﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا ﴾ [ ص : ٥ ] سمّوه كذّابا لما دعاهم إلى عبادة الواحد، ومنعهم عن عبادة ما اعتادوا من العدد، والله أعلم.
١ في الأصل وم: وقوله..
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ أدرج بعدها في الأصل وم: إنه وكذا..
وجائز أن يكون قولهم: إنه كذاب؛ لأنهم اعتادوا عبادة الأصنام دون اللَّه تعالى، فلما جاء موسى - عليه السلام - بما يمنعهم عن عبادة ما اعتادوا من العدد، ودعاهم إلى عبادة الواحد - قالوا: إنه كذاب، وكذلك قال أهل مكة لرسولنا وسيدنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إنه (سَاحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، سموه: كذابًا؛ لما دعاهم إلى عبادة الواحد، ومنعهم عن عبادة ما اعتادوا من العدد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي جاءهم بالتوحيد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: جاءهم بالرسالة.
وكأن غير هذا أقرب، أي: فلما جاءهم بما يظهر عندهم من الحجج أنها آيات، وأنها من عندنا جاءت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ).
أمر أتباعه أن يقتلوا أبناء من آمن منهم؛ لينزجروا بذلك عن متابعة موسى؛ لما رأى ما كان من التمويهات والحيل لم يمنعهم عن اتباعه، بل كانوا يتبعونه، فأوعدهم بقتل الأبناء كما كان يقتل الأبناء عندما قيل له: إن ذهاب ملكك بولد يولد كذا... ، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ).
لا شك أن كيدهم في الآخرة في ضلال، ولكن أراد كأن كيدهم في الدنيا ظهر أنه ضلال؛ حيث لم يمنعهم كيده وحيله وتمويهاته عن اتباع موسى، عليه السلام.
وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦).
قال هذا؛ لما رأى أنه لم يمنعهم عن اتباع موسى ما ذكر من قتل الأبناء، قال عند ذلك: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) وهو يحتمل وجوها:
أحدها: يحتمل أنه هم فرعون أن يقتل موسى - عليه السلام - فمنعه قومه أو الملأ من قومه عن قتله، فقال عند ذلك: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى).
والثاني: يحتمل أنه قال هذا مبتدأ من غير أن كان منهم منع إياه عن قتله، وهو كما قال ربنا - جل وعلا - لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)، من غير أن كان من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منع له عن ذلك، وهذا في كلام العرب موجود سائغ التكلم به على الابتداء من غير أن كان من أحد منع عما يريدون أن يفعلوا، واللَّه أعلم.
والثالث: يحتمل (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) أي: ذروني لائمتي في قتل موسى، أي: لا تلوموني إذا أنا قتلته، واللَّه أعلم.
الآية ٢٦ وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ﴾ /٤٧٦– ب/ قال هذا لما رأى أنه لم يمنعهم عن اتباع موسى ما ذكر من قتل الأبناء. قال عند ذلك :﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ﴾ [ ثم يحتمل قوله :﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ﴾ ]١ وجوها :
أحدها : يحتمل أنه همّ فرعون أن يقتل موسى عليه السلام فمنعه قومه أو الملأ من قومه عن قتله، فقال عند ذلك :﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ﴾.
والثاني : يحتمل أنه قال مبتدئا من غير أن كان منهم منع له عن قتله، وهو كما قال ربنا عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ ذرني ومن خلقت وحيدا ﴾ [ المدثر : ١١ ] من غير أن كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم منع له عن ذلك. وهذا في كلام العرب موجود سائغ التكلم به على الابتداء من غير أن كان من أحد منع عما يريدون أن يفعلوا، والله أعلم.
والثالث : يحتمل ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ﴾ أي ذروني ولائمتي٢ في قتل موسى، أي لا تلوموني إذا أنا قتلته، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه كان ذلك من فرعون ؛ يقول :﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾ يمنعني عن قتله إن كان صادقا في ما يدّعي من الرسالة لأن من أرسل رسولا، فهمّ أحد قتله أو الضرر به منعه المُرسِل عن ذلك فعلى ذلك يقول، والله أعلم.
والثاني : يكون ذلك أمرا من الله عز وجل موسى بالدعاء على فرعون بالهلاك لمّا همّ قتله. وعلى ذلك الرسل عليهم السلام قد أذن لهم بالدعاء على فراعنتهم ومعانديهم ومكابريهم إذا بلغوا في العناد غايته٣ والتمرّد نهايته٤، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ﴾ قد كان هناك تبديل الدين، فإنه قد أظهر موسى عليه السلام دين الحق، وآمن [ كثير ]٥ من أتباعه. لكن كأنه أراد، والله أعلم، بقوله :﴿ أن يبدّل دينكم ﴾ أي يذهب بدينكم من الأصل.
وقوله تعالى :﴿ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ ذكر اللعين [ وقد ]٦ سمى إظهار التوحيد في الأرض ودين الإسلام فسادا ليعلم أن كل مدّع شيئا، وإن كان مبطلا في دعواه ؛ فعنده أنه على حق، وأن خصمه [ على الباطل ]٧ فلا يُقبل قول أحد إلا ببرهان، والله أعلم.
ويحتمل أن فرعون اللعين أراد بقوله :﴿ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ قتل أبنائهم أي يقتل موسى أبناءكم مجازاة لما قتلتم أنتم أبناءهم، والله أعلم.
١ في الأصل وم: له..
٢ الواو ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: غايتهم..
٤ في الأصل وم: نهايتهم..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: و..
٧ في الأصل وم: باطل..
وقوله: (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ)، يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه كان ذلك من فرعون يقول: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) يمنعني عن قتله إن كان صادقًا فيما يدعي من الرسالة؛ لأن من أرسل رسولا، فهمَّ أحد قتله أو الضرر به، منعه المرسِل عن ذلك، فعلى ذلك يقول، واللَّه أعلم.
والثاني: يكون ذلك أمرًا من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - موسى بالدعاء على فرعون بالهلاك؛ لما هم قتله، وعلى ذلك الرسل - عليهم السلام - قد أذن لهم بالدعاء على فراعنتهم ومعانديهم ومكابريهم إذا بلغوا في العناد غايتهم والتمرد نهايتهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ).
قد كان هناك تبديل الدِّين فإنه قد أظهر موسى - عليه السلام - دين الحق وآمن أتباعه، لكن كأنه أراد - واللَّه أعلم - بقوله: (أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ)، أي: يذهب بدينكم من الأصل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ).
ذكر اللعين، وسمى إظهار التوحيد في الأرض ودين الإسلام: فسادًا ليعلم أن كل مدعٍ شيئًا وإن كان مبطلا في دعواه فعنده أنه على حق وأن خصمه على باطل؛ فلا يقبل قول أحد إلا ببرهان، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن فرعون اللعين أراد بقوله: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) قتل أبنائهم أي: يقتل موسى أبناءكم مجازاة لما قتلتم أنتم أبناءهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (٢٧)
يحتمل قوله: (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ)، أي: متكبر على التوحيد.
ويحتمل متكبر على الرسل لا يؤمن بما يدعوه الرسول إلى الإيمان بيوم الحساب، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (٣١) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ... (٢٨)
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: من آل فرعون في الظاهر، وإلا لم يكن في الحقيقة من آله، وإنما هو من آل موسى وأتباعه؛ حيث آمن به وترك اتباع فرعون، واللَّه أعلم.
والثاني: من آله، أي: من نسبه؛ لأنه ذكر أنه كان ابن عمه، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ).
إشفاقًا على نفسه، ولا يظهر الموافقة لهم على ما هم فيه؛ إذ قدر على الكتمان دون إظهار الموافقة لهم، وعلى ذلك المكره على إظهار الكفر إذا قدر على ألا يظفر ما أريد منه من كلمة الكفر ولا يقتل بالامتناع لا يسع له إظهار ذلك لهم، فإن لم يقدر فحينئذ يسع؛ فعلى ذلك ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ).
فيه إخبار أنه كان يكتم إيمانه؛ إشفاقًا على نفسه، فلما خاف إهلاك رسول الله موسى - عليه السلام - فعند ذلك أظهر ما كان يكتمه وإن كان في إظهار ذلك إهلاك نفسه بعد أن يرجو نجاة نبي - من الأنبياء - عليهم السلام - وهكذا يجب ألا يسع كتمان ما كان يكتمه وإن كان نفسه تهلك إذا أظهر إذا كان في إظهار ذلك نجاة رسول من رسل الله تعالى - عليهم السلام - بحجج يدفع الهلاك بها عن نفس ذلك الرسول؛ وكذلك ذكر عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أهل مكة لما هموا قتل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإهلاكه، ألقى أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نفسه عليه، وقال ما قال ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه حيث قال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) فعند ذلك نزلت هذه الآية على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولم تكن نزلت قبل ذلك، واللَّه أعلم.
22
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ).
أي: جاءكم من البينات ما يبين أنها آيات من عند اللَّه لا اختراعًا من موسى - عليه السلام - ويبين أنه صادق فيما يقول ويدعي.
وقوله: (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ).
أي: وإن كان كاذبًا فيما يدعوكم إليه فعليه كذبه، وإن كان صادقًا فيما يقول ويدعي يصيبكم بعض الذي يعدكم، فهو يعلم أنه صادق فيما يقول حقيقة، ولكن لما كان عند القوم احتمل الأمر، ذكر على ما في زعمهم؛ دفعًا للقتل عن موسى، عليه السلام.
ثم الإشكال أنه قال: (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ذكر أنه يصيبهم بعض الذي يعد الرسل، والرسل إذا وعدوا شيئًا يصيبهم بكماله، لا يجوز أن يكون خلاف ما أخبروا أو دون ما ذكروا، لكن يخرج على وجوه:
أحدها: أنه كان وعده إياهم أن يصيبهم العذاب في الدنيا والآخرة، فيقول: (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، وهو ما وعد لهم أن يصيبهم في الدنيا، وأما ما وعد لهم في الآخرة، فهو يصيبهم في وقت آخر وهو في الآخرة، فما أصابهم في الدنيا فهو بعض ما جرى الوعيد منه لهم؛ لأن الوعيد كان منه في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل أنه كان - عليه السلام - وعدهم بأنواع من العذاب، وقد أصابهم بعض ذلك من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونحو ذلك، وفي بعض ما وعدهم هو هلاكهم؛ فكأنه يقول لهم: إنكم قد أصابكم كثير من ذلك، فيصيبكم بعض ما يعدكم الذي فيه هلاككم مبالغة في الزجر؛ لما قد أصابهم ما وعد لهم من أنواع العذاب، ولم يكن وعده كذبًا، فبعض ما يعدكم - وهو الهلاك - كيف يكون كذبًا؟! واللَّه أعلم والموفق.
والثالث: أراد بالبعض: الكل؛ لأنه أراد بهذا البعض: الهلاك، وهو البعض الأقصى، فيدخل العالي فيه لأنه إذا أوعده بأنواع من العذاب منها الهلاك يكون الهلاك هو البعض الأقصى؛ إذ لا عذاب في الدنيا بعد الهلاك، فيكون سائر أنواع العذاب في الدنيا يكون قبل الهلاك، فإذا أريد به هذا البعض يدخل فيه ما قبله، ويكون ذكره ذكرا للكل؛ إذ لا وجود له بدون سائرها؛ لذلك قال: (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)، هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه لا يهدي من هو في علمه أنه يؤثر الإسراف والكذب.
23
والثاني: لا يهدي من هو مختار الإسراف والكذب وقت اختيارهم الإسراف والكذب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا... (٢٩) يخرج على وجهين:
أحدهما: يحتمل أن يقول ذلك بعد ما سألوه أن يتبع دينهم وما هم فيه: إني لو اتبعتكم وأجبتكم ومعكم الملك والحشم والغلبة وليس معي ذلك، فإذا جاء بأس اللَّه وعذابه فصرتم أنتم ممتنعين عنه بما معكم، فمن ينصرنا من عذاب اللَّه وليس معنا ذلك؟! وإن كان يعلم حقيقة أن ما معهم من الغلبة لا يمنع من عذاب اللَّه، لكن قال ذلك بناء على اعتقادهم؛ إظهارًا للعذر عندهم؛ كي لا يقدموا على قتله لصيانة حياته، ومثل هذا لا بأس به، واللَّه أعلم.
والثاني: يقول على الرفق بهم وإظهار الموافقة لهم في الظاهر؛ يقول: إنه قد جاءنا من اللَّه البينات ما أوضح الحق وبين السبيل، فإذا رددنا ذلك وكذبناهم جاءنا بأس اللَّه جملة وعذابه، فمن يمنعنا عنه وينصرنا من عذابه إذا خالفنا أمره وتركنا اتباع دينه؟! على هذين القولين يخرج القول منه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما آمركم إلا بما رأيته لنفسي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي ذلك، لكن ليس للَّعِين أن يختار لهم ما اختار لنفسه؛ لأن ما اختار لنفسه باطل فاسد، وكذب اللعين أيضًا حيث قال: ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي؛ لأنه اختار لهم أن يعبدوه ولم يختر لنفسه عبادة أُولَئِكَ أن يعبدهم، فهو كذب من القول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
كذب أيضًا في قوله: إنه لا يهديهم إلا سبيل الرشاد، بل كان يهديهم سبيل الغي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ... (٣١).
كأن فيه إضمار القول: إني أخاف عليكم يوما مثل يوم الأحزاب، ويوما مثل يوم قوم نوح وعاد، فهو - واللَّه أعلم - صلة قوله فيما تقدم: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) وعظهم مرة واحتج عليهم بما جاءهم موسى بالبينات؛ حيث قال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)،
24
وتتركون اتباعه وتتبعون رجلا لم يأتكم بالبينات، هذا منه احتجاج عليهم: أن كيف تقتلون رجلا وتتركون اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات من ربكم، وتتبعون من لا بينة معه ولا برهان؟! يسفههم في صنيعهم الذي أرادوا أن يصنعوا به، واللَّه أعلم، ووعظهم أيضًا وعظًا لطيفًا فيه رفق حيث قال: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) يقول - واللَّه أعلم -: إنكم إن قتلتم ذلك الرجل بعدما جاءكم بالبينات وتركتم اتباعه، فجاءكم عذاب اللَّه وبأسه، فمن ينصركم عن ذلك العذاب ويمنعكم عنه إذا قتلتم نبيه بغير حق؟! ثم وعظهم وعظًا بما نزل بمكذبي من كان قبلهم من الرسل حيث قال: (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ) يقول: إني أخاف عليكم أن ينزل بكم ويقع عليكم من عذاب اللَّه بتكذيبكم الرسول موسى - عليه السلام - وترككم اتباعه بعدما جاءكم بالبينات أنه رسول وأنه صادق فيما يقول ويدعي، كما نزل ووقع من العذاب بالأحزاب الذين كانوا من قبلكم ممن ذكر بتكذيبهم الرسل واستقبالهم إياهم بما استقبلوا بعد ظهور صدقهم عندهم بما تستقبلون أنتم رسولكم موسى، بعدما ظهر صدقه عندكم بالبينات التي جاءكم، واللَّه أعلم.
ثم ما ذكر من الأحزاب فيحتمل أن يكون تفسيره ما ذكر على أثره من قوم نوح وعاد وثمود، ويحتمل سواهم من الأمم، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: مثل صنيع قوم نوح ومن ذكر وفعلهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: مثل عذاب قوم نوح ومن ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ).
في هذه الآية للمعتزلة نوعُ تعلقٍ؛ يقولون: إن اللَّه تعالى قد أراد من العباد ما يفعلون من أفعال الظلم والجور، وقد أخبر اللَّه تعالى أنه لا يريد ظلمًا للعباد.
ولكن الآية في التحقيق عليهم؛ لأنه قال في آية أخرى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)، أخبر أنه أراد ألا يجعل لهم حَظًّا فِي الْآخِرَةِ، ولو لم يرد منهم ما يستوجبون به العذاب كان في تعذيبه إياهم ظالما على زعمهم؛ دل أنه أراد منهم ما يستوجبون به العذاب وهو فعل الظلم، واللَّه أعلم.
ثم تأويل الآية يخرج على وجهين:
أحدهما: أن الإرادة هي صفة كل فاعل يفعل عن اختيار، فكأنه قال: واللَّه لا يظلم عباده؛ كقوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
25
الآيتان ٣٠ و٣١ وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴾ ﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ كأن فيه إضمارا ؛ يقول : إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ويوما مثل يوم نوح وعاد وثمود. فهو، والله أعلم، صلة قوله في ما تقدم : يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ؟ وعظهم مرة، واحتج عليهم بما جاءهم موسى بالبينات حين١ قال :﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ وتتركون اتّباعه، وتتبعون رجلا لم يأتكم بالبينات ؟
هذا منه احتجاج عليهم : أن كيف تقتلون رجلا، وتتركون اتّباعه بعد ما جاءكم بالبينات من ربكم، وتتبعون من لا بيّنة معه ولا برهان ؟ يُسفّههم في صنيعهم الذي أرادوا أن يصنعوا به، والله أعلم.
ووعظهم أيضا وعظا لطيفا، فيه رفق حين٢ قال :﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾ يقول، والله أعلم : إنكم إن قتلتم ذلك الرجل بعد ما جاءكم البينات، وتركتم اتباعه، فجاءكم عذاب الله، فمن ينصركم من ذلك العذاب ؟ ويمنعكم٣ عنه إذا قتلتم نبيّه بغير حق ؟
ثم وعظهم وعظا بما نزل بمكذّبي من كان قبلهم من الرسل حين٤ قال :﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴾ ﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ﴾ يقول : إني أخاف عليكم أن ينزل بكم، ويقع عليكم من عذاب الله بتكذيبكم الرسول موسى عليه السلام وترككم اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات أنه رسول، وأنه صادق في ما يقول، ويدعو، كما نزل، ووقع من العذاب بالأحزاب الذين كانوا من قبلكم ممن ذكر بتكذيبهم الرسل واستقبالهم إياهم بما استقبلوا بعد ظهور صدقهم عندهم بما تستقبلون أنتم رسولكم موسى بعد ما ظهر صدقه عندكم بالبينات التي جاءكم، والله أعلم.
ثم ما ذكر من الأحزاب فيحتمل أن يكون تفسيره ما ذكر على إثره من قوم نوح وعاد وثمود. ويحتمل سؤالهم من الأمم، والله أعلم.
ثم قوله :﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ﴾ قال بعضهم : أي مثل صنيع قوم نوح ومن ذكر وفعلهم.
وقال بعضهم : أي مثل عذاب قوم نوح ومن ذكر، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ في هذه الآية للمعتزلة نوع تعلّق ؛ يقولون، إن الله تعالى قد أراد من العباد [ أن يفعلوا ]٥ ما يفعلون من أفعال الظلم والجور، وقد أخبر الله تعالى أنه لا يريد ظلما للعباد.
ولكن الآية في التحقيق عليهم لأنه قال في آية أخرى ﴿ يريد الله ألا يجعل لهم حظًّا في الآخرة ﴾ [ آل عمران : ١٧٦ ] أخبر أنه أراد ألا يجعل لهم حظًّا في الآخرة، ولو لم يرد منهم ما يستوجبون به العذاب، كان في تعذيبه٦ إياهم ظالما على زعمهم. دل أنه أراد بهم ما يستوجبون به العذاب، وهو فعل الظلم، والله أعلم.
ثم تأويل الآية يخرّج على وجهين :
أحدهما : أن الإرادة، هي صفة كل فاعل يفعل عن اختيار. فكأنه قال : والله لا يظلم عباده كقوله تعالى :﴿ وما رأيك بظلاّم للعبيد ﴾ [ فصلت : ٤٦ ].
والثاني : فيه إخبار أنه لا يعاقب أحدا بذنب غيره، ولا يؤاخذه بجريمة غيره، ولا يزيد على قدر ما يستحقون به العذاب، ولا ينقصهم من ثواب حسناتهم شيئا كقوله تعالى :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرّة ﴾ [ النساء : ٤٠ ] وغير ذلك من الآيات التي فيها إخبار أنه لا يجزيهم بأكثر مما يستوجبون، ليس على ظن أولئك، والله أعلم.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ من م، في الأصل: ويمنعهم..
٤ في الأصل وم: حيث..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: تعذيبهم..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:الآيتان ٣٠ و٣١ وقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴾ ﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ كأن فيه إضمارا ؛ يقول : إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ويوما مثل يوم نوح وعاد وثمود. فهو، والله أعلم، صلة قوله في ما تقدم : يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ؟ وعظهم مرة، واحتج عليهم بما جاءهم موسى بالبينات حين١ قال :﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ وتتركون اتّباعه، وتتبعون رجلا لم يأتكم بالبينات ؟
هذا منه احتجاج عليهم : أن كيف تقتلون رجلا، وتتركون اتّباعه بعد ما جاءكم بالبينات من ربكم، وتتبعون من لا بيّنة معه ولا برهان ؟ يُسفّههم في صنيعهم الذي أرادوا أن يصنعوا به، والله أعلم.
ووعظهم أيضا وعظا لطيفا، فيه رفق حين٢ قال :﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾ يقول، والله أعلم : إنكم إن قتلتم ذلك الرجل بعد ما جاءكم البينات، وتركتم اتباعه، فجاءكم عذاب الله، فمن ينصركم من ذلك العذاب ؟ ويمنعكم٣ عنه إذا قتلتم نبيّه بغير حق ؟
ثم وعظهم وعظا بما نزل بمكذّبي من كان قبلهم من الرسل حين٤ قال :﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴾ ﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ﴾ يقول : إني أخاف عليكم أن ينزل بكم، ويقع عليكم من عذاب الله بتكذيبكم الرسول موسى عليه السلام وترككم اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات أنه رسول، وأنه صادق في ما يقول، ويدعو، كما نزل، ووقع من العذاب بالأحزاب الذين كانوا من قبلكم ممن ذكر بتكذيبهم الرسل واستقبالهم إياهم بما استقبلوا بعد ظهور صدقهم عندهم بما تستقبلون أنتم رسولكم موسى بعد ما ظهر صدقه عندكم بالبينات التي جاءكم، والله أعلم.
ثم ما ذكر من الأحزاب فيحتمل أن يكون تفسيره ما ذكر على إثره من قوم نوح وعاد وثمود. ويحتمل سؤالهم من الأمم، والله أعلم.
ثم قوله :﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ﴾ قال بعضهم : أي مثل صنيع قوم نوح ومن ذكر وفعلهم.
وقال بعضهم : أي مثل عذاب قوم نوح ومن ذكر، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ في هذه الآية للمعتزلة نوع تعلّق ؛ يقولون، إن الله تعالى قد أراد من العباد [ أن يفعلوا ]٥ ما يفعلون من أفعال الظلم والجور، وقد أخبر الله تعالى أنه لا يريد ظلما للعباد.
ولكن الآية في التحقيق عليهم لأنه قال في آية أخرى ﴿ يريد الله ألا يجعل لهم حظًّا في الآخرة ﴾ [ آل عمران : ١٧٦ ] أخبر أنه أراد ألا يجعل لهم حظًّا في الآخرة، ولو لم يرد منهم ما يستوجبون به العذاب، كان في تعذيبه٦ إياهم ظالما على زعمهم. دل أنه أراد بهم ما يستوجبون به العذاب، وهو فعل الظلم، والله أعلم.

ثم تأويل الآية يخرّج على وجهين :

أحدهما : أن الإرادة، هي صفة كل فاعل يفعل عن اختيار. فكأنه قال : والله لا يظلم عباده كقوله تعالى :﴿ وما رأيك بظلاّم للعبيد ﴾ [ فصلت : ٤٦ ].
والثاني : فيه إخبار أنه لا يعاقب أحدا بذنب غيره، ولا يؤاخذه بجريمة غيره، ولا يزيد على قدر ما يستحقون به العذاب، ولا ينقصهم من ثواب حسناتهم شيئا كقوله تعالى :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرّة ﴾ [ النساء : ٤٠ ] وغير ذلك من الآيات التي فيها إخبار أنه لا يجزيهم بأكثر مما يستوجبون، ليس على ظن أولئك، والله أعلم.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ من م، في الأصل: ويمنعهم..
٤ في الأصل وم: حيث..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ في الأصل وم: تعذيبهم..

والثاني: فيه إخبار أنه لا يعاقَبُ أحد بذنب غيره، ولا يؤاخذ بجريمة غيره، ولا يزيد على قدر ما يستحقون به العذاب، أو لا ينقصهم من ثواب حسناتهم شيئًا؛ كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، وغير ذلك من الآيات ما فيها إخبار أنه لا يجزيهم بأكثر مما يستوجبون ليس على ظن أُولَئِكَ، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ... )
وعظهم أيضًا بعذاب الآخرة وما يكون منهم من الندامة بتركهم اتباع الرسول، بعدما وعظهم بعذاب الدنيا وما نزل بأوائلهم بصنيعهم مثل صنيعهم، وهو ما قال: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ...) الآية.
ثم قوله: (يَوْمَ التَّنَادِ) فيه لغات ثلاث:
إحداها: (يَوْمَ التَّنَادِي) بالياء.
والثانية: بالتخفيف على حذف الياء.
والثالثة: بالتشديد.
فمن قرأها بالتشديد، يقول: هو من ند يند ندًّا إذا مضى لوجهه هاربًا فارًّا من عذاب اللَّه، إذا عاينوا العذاب، وهو من ند الإبل وغيره - واللَّه أعلم -.
ومن قرأه بالياء فهو التفاعل عن النداء، فهو على نداء بعضهم بعضًا يوم القيامة؛ كقوله تعالى -: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ)، وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)، ونحوه.
ومن قرأه بغير الياء، فقد حذف الياء؛ كقوله: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)، وأصله: التنادي، واللَّه أعلم.
ثم قوله تعالى: (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ... (٣٣) قَالَ بَعْضُهُمْ: يوم تولون هاربين من النار مدبرين عنها؛ كقوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ).
أي: ما لكم من عذاب اللَّه إذا نزل بكم من مانعٍ يمنعكم من عذابه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٢:الآيتان ٣٢ و٣٣ وقوله تعالى :﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾ ﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ﴾ الآية. وعظهم١ أيضا بعذاب الآخرة وما يكون منهم من الندامة بتركهم اتباع الرسول بعد ما وعظهم، وبعذاب٢ الدنيا وما نزل بأوائلهم بصنيعهم مثل صنيعهم، وهو ما قال :﴿ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴾ ﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ﴾ الآية.
ثم قوله :﴿ يوم التّنادِ ﴾ فيه ثلاث لغات، إحداها : يوم التّنادي أي بالياء، والثانية بالتخفيف على حذف الياء [ التّناد ]٣ والثالثة : بالتشديد [ التّناد ]٤.
فمن قرأها بالتشديد٥ فيقول : هو من نَدَّ يَنْدُّ نَدًّا إذا مضى [ هائما على ]٦ وجهه هاربا فارًّا من عذاب الله، إذا عاين العذاب، وهو من نَدَّ الإبل وغيره، والله أعلم.
ومن قرأ بالياء، فهو التفاعل من النداء، فهو على نداء بعضهم بعضا يوم القيامة كقوله تعالى :﴿ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ] وقوله عز وجل :﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء ﴾ [ الأعراف : ٥٠ ] وقوله عز وجل :﴿ ويوم يناديهم فيقول أبن شركائي الذين كنتم تزعمون ﴾ [ القصص : ٦٢ ] وقوله عز وجل :﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾ [ القصص : ٦٥ ] ونحوه.
ومن قرأ بغير الياء فقد حذف الياء كقوله :﴿ فاقض ما أنت قاض ﴾ [ طه : ٧٢ ] وأصله : التنادي، والله أعلم.
ثم قوله تعالى :﴿ يوم تُولّون مدبرين ﴾ قال بعضهم : يوم تولّون هاربين من النار مدبرين عنها كقوله تعالى :﴿ يوم يفرّ المرء من أخيه ﴾ [ عبس : ٣٤ ].
وقوله تعالى :﴿ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾ أي ما لكم من عذاب الله إذا نزل بكم من مانع يمنعكم من عذابه.
وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ قد ذكرناه.
١ في الأصل وم: وعظيم..
٢ من م، في الأصل: وعذاب..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ انظر مختصر في شواذ القرآن ص ١٣٢ والجامع لأحكام القرآن ح ١٥/٢٩٧..
٦ ساقطة من الأصل وم..

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) قد ذكرناه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤).
أي: جاءكم يوسف من قبل موسى - عليه السلام - بالبينات، أي: بالآيات والأدلة على رسالته وصدقه، جائز أن يكون هذا قول ذلك الرجل لقومه يخبرهم عن سفه أوائلهم من تكذيبهم يوسف بأرض مصر قبل موسى، وما كان من القول منهم بعدما ذهب من بينهم وردهم آياته وحججه التي أتاهم بها، وما أخبر أنهم وأوائلهم لم يزالوا في شك وريب مما جاءتهم الرسل من الآيات والأدلة، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ) ويقول: لم تزل عادتكم وعادة أوائلكم هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا).
جائز أن يكون وإن خاطبهم بقوله: (جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ)، وقوله: (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ)، وقوله: (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) إنما أراد آباءهم وأوائلهم؛ لأن يوسف - عليه السلام - لم يكن في زمن هَؤُلَاءِ مبعوثًا إليهم على ما عاتب الأبناء بصنع آبائهم في غير آي من القرآن؛ كقوله: (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ)، وقوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ)، وهَؤُلَاءِ لم يقتلوا الأنبياء ولا اتخذوا العجل، وإنما فعل ذلك آباؤهم وأوائلهم، ثم جاء العتاب لهم بسوء صنيع آلائهم وأوائلهم؛ فعلى ذلك هذا.
وجائز أن يكون وإن خاطبهم بما ذكر من سوء الصنيع والتكذيب، إنما يخبر عن صنيع آبائهم وأوائلهم فيحذرهم عن مثل صنيع أُولَئِكَ من التكذيب لهم والرد لأدلتهم، والقول بعد ذهابه من بينهم، والكذب على اللَّه: إنه لم يبعث رسولا؛ يقول: إياكم أن تكذبوه وتردوا آياته وحججه، ثم تقولوا إذا مات موسى: لن يبعث اللَّه من بعده رسولا، كما قال أوائلكم: إذا مات يوسف: لم يكن من بعده رسول بقولهم: (حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) ويشبه أن يخرج الآية على هذا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ).
فقد ذكرنا تأويله من وجهين فيما تقدم.
ثم قوله: (حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) يخرج من وجهين:
أحدهما: آمنوا به، وأنكروا رسالة غيره بعده بقولهم: لن يبعث اللَّه من بعده رسولا.
والثاني: أي: أنكروا رسالته في حال حياته ولم يؤمنوا به، فإذا هلك أنكروا أن يكون هو مبعوثًا إليهم رسولا، فيحذر هَؤُلَاءِ صنيع أُولَئِكَ ألا يكونوا كأُولَئِكَ آمنوا به وأنكروا رسالة غيره من الرسل بعده.
أو يقول: لا تكونوا كأُولَئِكَ يكذبونه ما دام حيًّا، فإذا هلك يكذبون رسالته، يحذرهم سفه أوائلهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥).
أي: يجادلون في دفع آيات اللَّه وردها بغير حجة وسلطان أتاهم من اللَّه، أو بغير حجة مكن لهم الاحتجاج بها، وإلا كان أهل الإيمان قد يجادلون فيها حتى إذا ظنوا أنها آيات اللَّه آمنوا بها وأقروا بها، لكن الوجه فيه ما ذكرنا، أي: جادلوا في دفع آيات اللَّه وردها بغير حجة أتتهم؛ كقوله: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا).
هكذا الواجب على أهل الإيمان أن يمقتوا من الأعمال ما مقتها اللَّه تعالى، أو يمقتوا من مقته اللَّه من أعدائه؛ وعلى ذلك ذكر: إن خير أعمالكم حُب ما أحبه اللَّه وبُغْضُ ما أبغضه اللَّه أو كلام نحوه، وشر أعمالكم حب ما أبغضه وبغض ما أحبه اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ).
أي: هكذا يطبع اللَّه على كل قلب من جادل في دفع آيات اللَّه وردها بغير حجة، أي: يطبع على كل من تعود التكبر والتجبر عليس الآيات والرسل، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى...) من هو كذا، وكذلك يضلل، ونحوه كله حروف الاعتلال، بين اللَّه تعالى العلل التي لها لا يهديهم ويضلهم؛ وكذلك في قوله: (لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) ومسرف مرتاب ونحوه، أي: لا يهدي من كان طبعه وعادته الإسراف والكذب وكفران النعم ودفع الآيات والحجج بلا حجة وبرهان، فأمّا من كان طبعه وعادته غير هذا لكنْ لجِهْل جَهِلَ ذلك، أو لما يتحقق عنده لظنه وقلة التأمل، أو لاشتغاله بأمور الدنيا، أو لمعنى من المعاني يجوز أن يهديه اللَّه تعالى ويرشده، على هذا يخرج هذه الآيات، واللَّه أعلم.
وعلى ذلك ما كان يصنعه فرعون اللعين من التمويهات والتلبيسات على أتباعه في
أمر موسى - عليه السلام - بعد معرفته أن ذلك ليس بقدح في الآيات والحجج التي أتاهم موسى - عليه السلام - أراد أن يموه ويلبس على قومه، فكل من كانت عادته وطبيعته ما ذكرنا من التمويه والتلبيس والمجادلة في دفع الآيات بلا حجة والتكبر عليها - فلا يهديه اللَّه تعالى ويطبع على قلبه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (٣٧) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى... ).
للمشبهة تعلق بظاهر هذه الآية يقولون: لولا أن موسى - عليه السلام - كان ذكر وأخبر فرعون: أن الإله في السماء، وإلا لما أمر فرعون هامان أن يبني له ما يصعد به إلى السماء ويطلع إلى إله موسى على ما قال تعالى خبرًا عن اللعين.
لكنا نقول: لا حجة لهم؛ فإنه جائز أن يكون هذا من بعض التمويهات التي كانت منه على قومه في أمر موسى - عليه السلام - ومن بعض مكائده التي كانت منه به؛ من نحو قوله: (سَاحِرٌ كَذَّابٌ)، وقوله: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)، وقوله: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)، ونحو ذلك من التمويهات التي كانت منه؛ فعلى ذلك قوله: (ابْنِ لِي صَرْحًا...) و (فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) تمويه منه على قومه بموسى؛ يقول: إن موسى إنما يدعو إلى إله في السماء فهو نحو إله يكون في الأرض، يموه بذلك على الناس أمر موسى من غير أن كان من موسى ذكر، أو أخبر أن اللَّه - تعالى - في السماء على ما كان منه سائر التمويهات وإن لم يكن من موسى ذكر
تلك التمويهات له، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن فرعون قال ذلك؛ لما رأى أن البركات والخيرات تنزل من السماء؛ فظن أنه في السماء.
ثم اختلف في الأسباب: قَالَ بَعْضُهُمْ: أسباب السماوات: أبوابها.
ويحتمل أسباب السماوات: هي الطرق التي تصعد إلى السماء.
وحقيقة الأسباب: هي ما يوصل بها إلى الأشياء ويقصد إليها، وقد علم اللعين أنه لا يصل إلى ذلك بما ذكر من بناء الصرح، لكنه أراد بذلك ما ذكرنا من التمويهات والتلبيس على قومه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا... (٣٧)
قال هاهنا: (لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا) بعدما قطع القول فيه: إنه كاذب وإنه كذاب؛ ليعلم أنه على حق، وأنه صادق، لكنه يموه بذلك على قومه.
وقوله: (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: زين الشيطان عليه سوء عمله.
ويحتمل أن يقال: زين له سوء عمله بالأتباع وكثرة الأموال والحشم الذي أعطي له، زين له سوء عمله بالأسباب التي أعطيت له، فيكون اللَّه تعالى مزينًا له سوء عمله بإعطاء الأسباب.
ويحتمل زين له سوء عمله، أي: خلق في طبعه أن يرى ذلك حسنا مزينًا وإن كان قبيحًا في نفسه حقيقة على ما تقدم ذكره.
وقوله: (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ).
وقرئ: (صَدَّ) بالفتح، فمن قرأ بالفتح فله معنيان:
أحدهما: صَدَّ هو بنفسه صدودًا. والثاني: صد هو الناس عن سبيله صدًّا.
ومن قرأ (صُدَّ) بالضم، أي: لم يوفق، ولم يرشد؛ لما علم منه اختيار صده.
وقوله: (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ).
أي: في خسار، التباب: الخسار، يقال في قوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ): أي: خسرت، ويقال: تبًّا له، أي: هلاكا له، وقيل: تبت يد الرجل، أي: خابت.
ثم أخبر عما ذكر ووعظ ذلك الرجل المؤمن من آله، وهو قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي
آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨)
أي: أبين لكم سبيل الرشاد، مرة خوفهم بما نزل بأوائلهم بتكذيب الرسل وترك اتباعهم، ومرة بَيَّنَ سفههم في أنفسهم بسوء صنيعهم، ومرة وعظهم ونصحهم ودعاهم إلى اتباعه ليبين لهم سبيل الرشاد ويهديهم إليه، وإن خاف على نفسه الهلاك بعدما أظهر الإيمان ولم يبال هلاك نفسه.
وقال الكسائي: الرشاد والرُّشد والرَّشَد ثلاث لغات، ولا يقرأ هاهنا غير (الرَّشَادِ).
ثم قال: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩)
أي: متاع ومنفعة يبلغ إلى منتهى آجالكم، يبلغ به العاصي والمطيع إلى أجله، يخبر أنها على الانقضاء والذهاب عن قريب، ويخبر أن دار الآخرة هي دار القرار، أي: تقر بأهلها: إن كان أهلها أهل خير قرت بهم خيرا أبدًا لا يزول، وإن كان أهلها أهل شر يقر بهم الشر أبد الآبدين.
ثم أخبر عن عدل اللَّه تعالى في أعدائه وفضله في أوليائه حيث قال: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا... (٤٠)
أي: لا يجزى ولا يزيد لهم على مثل جنايتهم؛ لأن المثل هو العدل في جميع الأشياء، يخبر ألا يزيد على عقوبة عملهم، ولكن يجزيهم بمثله، وأما جزاء الحسنة فإنه يزيد لهم على قدر ما يستوجبون؛ فضلا منه وإحسانًا.
ثم فيه دلالة نقض قول المعتزلة: إن صاحب الكبيرة في النار أبدًا؛ لو كان على ما ذكروا كان في ذلك تسوية بين صاحب الكبيرة وبين صاحب الشرك؛ فإما أن يكون نقصانًا لصاحب الشرك عن مثل عقوبته أو زيادة لصاحب الكبيرة، وقد أخبر أنه لا يجزى إلا مثلها فذلك خلاف ظاهر الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ).
دل هذا عمى أن العمل الصالح لا ينفع ولا يجزي إلا من كان منه الإيمان به.
وقوله: (يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ).
يحتمل بلا تبعة: ويحتمل بغير تقدير وعدّ، وقد ذكرناه فيما تقدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١)
كأنه قال: يا قومِ، ما لي أدعوكم إلى ما به نجاتكم وأنصح لكم، وتدعونني أنتم إلى ما به هلاكي، فمتى يكون بيننا موالاة واجتماع؟! أي: لا يكون، إنما يذكر هذا وأمثاله
الآية ٣٩ ثم قال :﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ﴾ أي متاع ومنفعة، يبلغ إلى منتهى آجالكم ؛ يبلغ به العاصي والمطيع إلى أجله. يخبر أنها على الانقضاء والذهاب عن قريب، ويخبر أن دار الآخرة، هي دار القرار ﴿ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ أي تقرّ بأهلها ؛ إن كان أهلها أهل خير قرّت بهم خيرا أبدا، لا يزول، وإن كان أهلها أهل شر يقرّ بهم الشر أبد الآبدين.
الآية ٤٠ ثم أخبر عن عدل الله تعالى في أعدائه وفضله في أوليائه حين١ قال :﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ﴾ أي يجزي٢، ولا يزيد لهم على مثل جنايتهم، لأن المثل هو العدل في جميع الأشياء ؛ يخبر ألا يزيد على قدر عقوبة عملهم، ولكن يجزيهم بمثله.
وأما جزاء الحسنة فإنه يزيد لهم على قدر ما يستوجبون فضلا وإحسانا :﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾.
ثم فيه دلالة نقض قول المعتزلة : إن صاحب الكبيرة في النار أبدا. لو كان على ما ذكروا كان في ذلك تسوية بين صاحب الكبيرة وبين صاحب الشرك، فأما أن يكون نقصانا لصاحب الشرك عن مثل عقوبته أو زيادة لصاحب الكبيرة، وقد أخبر أنه لا يجزي إلا مثلها، فذلك خلاف ظاهر الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ دل هذا على أن العمل الصالح لا ينفع، ولا يجزى به إلا من كان منه الإيمان به.
وقوله تعالى :﴿ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ يحتمل بلا تبعة، ويحتمل بلا تقدير وعدد، وقد ذكرناه في ما تقدم.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ أدرج قبلها في الأصل وم: لا..
الآية ٤١ وقوله تعالى :﴿ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ﴾ كأنه قال : يا قوم مالي ولكم، أدعوكم إلى ما به نجاتكم، وأنصح لكم، وتدعونني أنتم إلى [ ما ]١ به هلاكي ؟ فمتى يكون بيننا موالاة واجتماع ؟ أي لا يكون.
إنما يذكر هذا وأمثاله٢ في المواعظ [ إذا ]٣ انتهت غايتها، وبلغت نهايتها، فلم٤ ينجع فيهم، وهو كقوله تعالى :﴿ لكم دينكم ولي دين ﴾ [ الكافرون : ٦ ] وقوله تعالى :﴿ لي عملي ولكم عملكم ﴾ الآية [ يونس : ٤١ ].
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: وأمثالهم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: فلما..
في المواعظ إذا انتهت غايتها وبلغت نهايتها، فلما تنجع فيهم؛ وهو كقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وقوله تعالى: (لِي عَمَلِى وَلَكُم عَمَلُكُمْ...) الآية.
ثم فسر ما يدعون إليه وما يدعوهم إليه من النجاة حيث قال: (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢).
هذا منه تفسير ما دعاهم إلى النجاة وبيان ما يدعونه إلى الهلاك.
ثم قوله: (وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) قد يستعمل قوله: (مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) في نفي العلم، أي: ليس ذلك، وذلك في إثبات العلم بخلافه وضده؛ يقول: وأشرك به ما ليس لي به علم ولا كان من الشريك وغيره، أو يقول: تدعونني لأكفر باللَّه وأشرك به ما ليس لكم به علم، واللَّه أعلم.
ثم بين عجز ما يعبدون من الأصنام وغيرها، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣).
(لَا جَرَمَ)، أي: حقًّا؛ يقول - واللَّه أعلم -: بحق أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة، أي: لم تدعكم إلى عبادة نفسها، أي: الأصنام التي عبدوها، والأول أشبه؛ لأنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام؛ رجاء أن تشفع لهم، فأخبر أنها لا تشفع بقوله: (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ)، أي: شفاعة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ).
يقول - واللَّه أعلم -: إن مرجعنا إلى ما أعد اللَّه لنا، أعد لكم النار، وأعد لي الجنة، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) والمقتصدين من أصحاب الجنة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤)
أي: ستذكرون إذا عاينتم ما أعدّ لكم وأعد لنا: أن ما كنتم عليه ودعوتموني إليه دعاءٌ إلى الهلاك، وما دعوتكم إليه هو دعاءٌ إلى الجنة.
أو يقول: ستذكرون ما نصحت بدعائي إياكم إلى ما به نجاتكم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ)، هذا يخرج على وجوه:
أحدها: كأنهم خوفوه وأوعدوه بأنواع الوعيد والتخويف، فقال عند ذلك: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ)، وأتوكل عليه، فيحفظني ويدفع عني شركم وما تقصدون بي، واللَّه أعلم.
والثاني: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي: عليه أتوكل، وأَكِلُ في جميع الأمور من الخيرات والشرور، وهو الكافي لذلك.
الآية ٤٣ ثم بيّن عجز ما يعبدون من الأصنام وغيرها، وهو ما قال عز وجل :﴿ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ ﴾ :﴿ لا جرم ﴾ أي حقا. يقول، والله أعلم : بحق ﴿ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ ﴾ أي لم تدعكم إلى عبادة أنفسها١، أي الأصنام التي عبدوها.
والأول أشبه لأنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام رجاء أن تشفع لهم. فأخبر أنها لا تشفع بقوله :﴿ ليس له دعوة ﴾ أي شفاعة، والله أعلم
وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ ﴾ يقول، والله أعلم : إن مرجعنا إلى ما أعدّ الله لنا، أعدّ لكم النار، وأعدّ لي الجنة ﴿ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ والمقتصدين من أصحاب الجنة، والله أعلم.
١ في الأصل وم: نفسها..
الآية ٤٤ وقوله تعالى :﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ﴾ أي ستذكرون إذا عاينتم ما أعدّ لكم وأعد لنا أن ما كنتم عليه، ودعوتموني إليه دعاء إلى الهلاك، وما دعوتكم إليه، هو دعاء إلى الجنة، أو يقول : ستذكرون ما نصحت بدعائي إياكم إلى ما به نجاتكم.
وقوله تعالى :﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ﴾ هذا يخرّج على وجوه :
أحدها : كأنهم خوّفوه، وأوعدوه بأنواع الوعيد والتخويف، فقال عند ذلك :﴿ وأُفوّض أمري إلى الله ﴾ وأتوكّل عليه، فيحفظني، ويدفع شركم وما تقصدون بي، والله أعلم.
والثاني :﴿ وأفوّض أمري إلى الله ﴾ أي عليه أتوكل [ وبه أكِل ]١ في جميع الأمور من الخيرات والشرور، وهو الكافي لذلك.
والثالث : إظهار الحاجة إليه، والمؤمن أبدا يكون مُظهرًا للحاجة إلى الله تعالى في كل وقت وكل ساعة، والله أعلم.
والرابع :﴿ وأفوّض أمري إلى الله ﴾ أي لا أشتغل بشيء في أمري، أصيّره إلى الله تعالى.
وعلى قول المعتزلة : لا يصح تفويض [ الأمر ]٢ إلى الله تعالى لأنهم يقولون : إن عليه أن يعطي جميع ما يحتاج إليه المكلّف حتى لا يبقى عنده مزيد، وإذا لم يبق عنده شيء فليس لتفويض الأمر إليه معنى، والله الموفّق.
١ في الأصل وم: وأكل..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
والثالث: إظهار الحاجة إليه، والمؤمن أبدا يكون مظهرًا للحاجة إلى اللَّه - تعالى - في كل وقت وكل ساعة، واللَّه أعلم.
والرابع: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي: لا أشتغل بشيء في أمري أصيره إلى اللَّه، تعالى.
وعلى قول المعتزلة لا يصح تفويض الأمر إلى اللَّه تعالى؛ لأنهم يقولون: إن عليه أن يعطيه جميع ما يحتاج إليه المكلف حتى لا يبقى عنده مزيد، وإذا لم يبق عنده شيء، فليس لتفويض الأمر إليه معنى، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥)
دل هذا على أنهم قد قصدوا قصد المكر به؛ حيث أخبر أنه وقاه سيئات ما مكروا، فجائز أن هموا به قتله، ويحتمل غيره.
ثم يحتمل ما وقاه عن مكرهم بما وقى موسى - عليه السلام - لما أهلكهم وأنجاه من شرهم.
ويحتمل توجيه آخر لا نفسره؛ لأنا لا نحتاج إليه، وإنَّمَا حاجاتنا إلى أن نعلم أنه كان بذل نفسه لله تعالى وحفظه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ).
استدل بعض الناس على عذاب القبر بقوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦) وإنما يعرض أرواحهم على النار فتألمت أجسادهم في القبور لذلك، وكذلك يعرض أرواح أهل الجنة فيتلذد أجسادهم بتلذذ الأرواح بعد أن أحدث فيها الحياة التي تحقق الألم واللذة هذا في القبور، ثم إذا دخلوا النار يكون لهم ما ذكر من العذاب، حيث قال: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون ما ذكر من العرض على النار قبل القيامة قبل أن يدخلوا النار؛ كقوله - تعالى -: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (٢٥)، يكون عرضهم على النار هو وقت وقفهم للسؤال وحبسهم لذلك، ثم يدخلون النار؛ فيكون لهم العذاب الذي ذكر؛ وهو قول الحسن.
ثم قوله: (غُدُوًّا وَعَشِيًّا).
يحتمل قدر غدو وقدر عشي، فإن كان التأويل في عذاب القبر يحتمل ما قَالَ بَعْضُهُمْ: أن يقال لهم: هذا لكم ما دامت الدنيا.
ويحتمل أنه ذكر على إرادة الغدو والعشي حقيقة ذلك كل وقت، لكن يتجدد التألم
33
والوجع بكل قدر عشي وغدو، واللَّه أعلم.
وذكر عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها جعلت أرواحهم في أجواف طير سود، فهي تعرض على النار كل يوم مرتين (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) إلى أن تقوم الساعة. فهو تفسير لما ذكر من الغدو والعشي، ثم إن ثبت هذا عنه فهو سماع عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه باب لا يدرك بالتدبير مع ما روي عن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - قال: إن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا مات أحدكم عرض على مقعده بالغداة والعشي: إن كان من أهل الجنة فمن الجنة، وإن كان من أهل النار فمن النار، يقال له: ها ذاك مقعدك حتى يبعث إليه يوم القيامة " فإن ثبت هذا وصح عنه، فهو دليل لوجوب عذاب القبر، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله: ، أي: يعذبون في الأوقات كلها بعد إدخالهم فيها، وذكر الغدو والعشي يخرج على سكون النار في أوقات ثم تلتهب؛ كقوله تعالى: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)، واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة فيما ذكر من إدخال آل فرعون في أشد العذاب، والخصوصية لهم في ذلك من بين غيرهم من الكفرة؟
قيل لوجهين: أحدهما: أن غير موسى من الرسل - عليهم السلام - قد نسبوا إلى السحر كما نسب إليه موسى، لكن لم يتبين ولا تحقق لقومهم براءة رسلهم فيما قرفهم الرؤساء والقادة منهم بالسحر والكذب بما وجد منهم التمويه على السفلة والأتباع، وقد تحقق لآل فرعون براءة موسى مما قرفه فرعون بالسحر والكذب، وتبين عندهم صدق ما ادعى من الرسالة، وذلك مما أقر جميع سحرة فرعون أن ما جاء به موسى حق وما يقوله صدق، وإيمانهم بموسى - عليه السلام - نهارا جهارا، واختاروا القطع والصلب، ولم يمتنعوا عن متابعته، وما رأوا من انقلاب العصا حية تسعى وتلقف ما صنعوا؛ فيكون عنادهم أشد ومكابرتهم أكبر؛ فلذلك استحقوا أشد العذاب، واللَّه أعلم.
والثاني: أن آيات موسى أكثرها كانت حسية وآيات غيره عقلية، ومعرفة ما كان سبيله الحس مما لا يتمكن فيه شبهة؛ وقد يتمكن الشبهة فيما كان سبيله العقل، فيكون عنادهم أشد.
34
الآية ٤٦ وقوله تعالى :﴿ وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾ استدل بعض الناس على عذاب القبر بقوله :﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ﴾ وإنما تُعرض أرواحهم على النار، فتتألم أجسادهم في القبور لذلك.
وكذلك تُعرض أرواح أهل الجنة، فتلذّذ بتلذّذ الأرواح بعد أن أحدث فيها الحياة التي [ بها ]١ يتحقق الألم واللذة. هذا في القبور.
ثم إذا أدخلوا النار يكون لهم ما ذكر من العذاب حين٢ قال :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ والله أعلم.
وجائز أن يكون ما ذكر من العرض على النار قبل القيامة قبل أن يدخلوا النار كقوله تعالى :﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴾ ﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾ ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٢ و٢٣ و٢٤ ] يكون عرضهم على النار، هو وقت وقفهم للسؤال وحبسهم لذلك. ثم يدخلون النار، فيكون لهم العذاب الذي ذكر، وهو قول الحسن.
ثم قوله تعالى :﴿ غُدوًّا وعشيًّا ﴾ يحتمل قدر غدوّ وقدر عشيّ. فإن كان التأويل في عذاب القبر يحتمل ما قال بعضهم : أن يقال لهم : هذا لكم ما دامت الدنيا. ويحتمل أنه ذكره على إرادة الغُدوّ والعَشيّ حقيقة ذلك : كل وقت. لكن يتجدّد التألّم والوجع لكل قدر غدوّ وقدر عشيّ والله أعلم.
وذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه [ أنه قال : جعلت أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود ؛ يعرضون على النار كل يوم مرتين، يقال : يا آل فرعون هذه داركم، قال عبد الله : فذلك عرضها فإن ثبت هذا عن ابن مسعود ]٣ فهو تفسير لما ذكر من الغدوّ والعشيّ.
ثم إن ثبت هذا عنه فهو سماع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه باب لا يًدرَك بالتدبّر مع ما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنه /٤٧٨– ب/ ٤[ أنه ] قال : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال٥ :( إذا مات أحدكم عُرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ : إن كان من أهل الجنة فمن الجنة، وإن كان من أهل النار فمن النار. يقال له : هذا مقعدك حتى يُبعث إليه يوم القيامة ) [ البخاري : ٣٢٤٠ ] فإن ثبت هذا، وصحّ عنه، فهو دليل لوجوب عذاب القبر، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله :﴿ النار يعرضون عليها غدوّا وعشيّا ﴾ يعذّبون في الأوقات كلها بعد إدخالهم فيها.
وذكر الغدوّ والعشيذ يخرّج على سكون النار في أوقات ثم تلهُّبها٦، كقوله تعالى :﴿ كلما خبت زدناهم سعيرا ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ] والله أعلم.
فإن قيل : ما الحكمة في ما ذكر من إدخال آل فرعون في أشد العذاب والخصوصية لهم في ذلك من بين غيرهم من الكفرة ؟ قيل : بوجهين :
أحدهما : أن غيّر موسى من الرسل عليهم السلام قد نُسبوا إلى السحر كما نُسب إليه موسى، لكن لم يتبيّن، ولا تحقّق لقومهم براءة رسلهم في ما قرفهم الرؤساء والقادة منهم بالسحر والكذب بما وُجد منهم التمويه على السفلة والأتباع، وقد تحقّق لآل فرعون براءة موسى مما قرفه فرعون بالسحر والكذب، وتبيّن عندهم صدق ما ادّعى من الرسالة، وذلك مما أقر به جميع سحرة فرعون أن ما جاء به موسى حق، وما يقوله صدق، وإيمانهم بموسى عليه السلام نهارا جهارا، واختاروا القطع والصلب، ولم يمتنعوا عن متابعته وما رأوا من انقلاب العصا حية تسعى، وتلقف ما صنعوا. فيكون عنادهم أشد ومكابرتهم أكبر. لذلك استحقوا أشد العذاب، والله أعلم.
والثاني : أن آيات موسى عليه السلام أكثرها كانت حسّية، وآيات غيره عقلية ؛ ومعرفة ما كان سبيله الحِسّ مما لا يتمكن فيه شبهة، وقد تتمكن الشبهة في ما كان سبيله العقل، فيكون عنادهم أشد.
وبعد فإنهم قد اتبعوا فرعون لما ادّعى لنفسه من الألوهية بلا حجة وبرهان، طلبوا منه، وتركوا اتباع موسى عليه السلام بما ادّعى من الرسالة بعد ما أقام على ذلك من البينات والحجج والبراهين. فلذلك قال : جُعلت أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود، يُعرَضون على النار كل يوم مرتين، يقال : يا آل فرعون هذه داركم.
قال عبد الله : فذلك عرضها. فإن ثبت هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه كان لهم أشد العذاب، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ أدرج قبلها في الأصل وم: أنه..
٦ في الأصل وم: تلهب..
وبعد، فإنهم قد اتبعوا فرعون بما ادعى لنفسه من الألوهية بلا حجة وبرهان طلبوا منه، وتركوا اتباع موسى - عليه السلام - بما ادعى من الرسالة بعدما أقام على ذلك من البينات والحجج والبراهين؛ فلذلك قال: " جعلت أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين، يقال: يا آل فرعون، هذه داركم "، قال عبد اللَّه: فذلك عرضها، فإن ثبت هذا عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لهم أشد العذاب، والله أعلم.
قوله تعالى: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (٤٧) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ. وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٥٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ).
ما ذكر هاهنا وفي آي من القرآن وهو ما ذكر: (فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ)، قد علم الضعفاء الأتباع لا يملكون دفع ما هم فيه؛ لأنهم لو كانوا يملكون ذلك، لدفعوا عن أنفسهم، فإذا لم يملكوا دفع ذلك عن أنفسهم [فلئلا] يملكوا دفع ذلك عنهم أحق، لكنهم قالوا ذلك لهم ليزدادوا حسرة وندامة؛ وهو كقوله تعالى في آية أخرى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ...)، إلى قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ).
ويحتمل أنهم إنما قالوا لهم ذلك لما قالوا لهم في الدنيا: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) فيقولون لهم لذلك في الآخرة: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي: حاملون عنا بعض الذي علينا من العذاب (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا) في الدنيا (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا) ونعذب (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (٤٨)
هذا من أُولَئِكَ الذين استكبروا؛ جوابًا للضعفاء على أحد التأويلين، ولا يكون جوابًا
الآية ٤٨ وقوله تعالى :﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ﴾ هذا من أولئك الذين استكبروا جوابا للضعفاء على أحد التأويلين ولا يكون جوابا للآخر، وهو جواب لقولهم الذي قالوا في الدنيا ﴿ ولنحمل خطاياكم ﴾ فيقولون :﴿ إن الله قد حكم بين العباد ﴾ ألا يزيد العذاب على مثل السيئة، وقد حكم الله تعالى على كل منها بالمثل، فلا يزيد على ذلك، والله أعلم.
للآخر، وهو جواب لقولهم الذي قالوا في الدنيا: (وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ)، فيقولون: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) ألا يزيد العذاب على مثل السيئة، وقد حكم اللَّه تعالى على كل منا بالمثل، فلا يزيد على ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩)
كان فزع الكفرة أبدًا إلى الخلق إذا نزل بهم البلاء في الدنيا، إلا أن يضطروا، فعند ذلك يفزعون إلى اللَّه، فأما ما لم ييئسوا منهم فلا يفزعون إليه؛ فعلى ذلك يكون فزعهم في الآخرة إلى الخلق، وهو ما سألوا أهل الجنة من الماء، أخبر اللَّه تعالى عنهم بقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)، فلما أيسوا من ذلك عند ذلك فزعوا إلى مالك، وهو ما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) سألوا الموت، فلما أخبرهم أنهم ماكثون، فعند ذلك فزعوا إلى الخزنة وقالوا: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ. قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، فلما أيسوا منهم ومما سألوهم من تخفيف العذاب عنهم عند ذلك فزعوا إلى اللَّه تعالى، وهو قولهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، وقولهم: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ)، لم يفزعوا إلى اللَّه تعالى إلا بعد ما انقطع رجاؤهم منهم، وأيسوا، وباللَّه العصمة والنجاة.
وقد استدل بقوله تعالى: (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى... (٥٠) من لا يرى الحجة والحكم يلزمهم بمجرد العقل دون الرسل - عليهم السلام - حيث احتج عليهم الخزنة بتكذيبهم الرسل وردهم البينات التي أتتهم الرسل.
واستدلوا أيضًا بقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وبقوله - تعالى -:
(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ)، وقوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا)، وغيرها من الآيات التي فيها أنه لا يعذبهم إلا بعدما قامت عليهم الحجة من جهة الرسل ولزمهم الحكم بهم، فعند ذلك يعذبون.
لكن تأويل الآية يخرج عندنا على وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك في قوم خاص الذين لا يرون لزوم الحجة والحكم إلا من جهة الرسالة، فيحتج عليهم بما كانوا يرونه؛ ليكون أقرب إلى الإلزام والحجة، وإن كان
الآية ٥٠ [ فردّ عليهم الخزنة، و ]١ ﴿ قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ فلما أيسوا منهم ومما سألوهم من تخفيف العذاب عنهم، عند ذلك فزعوا إلى الله تعالى، وهو قولهم :﴿ ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] وقولهم :﴿ ربنا أخّرنا إلى أجل قريب نُجِب دعوتك ونتّبع الرسل ﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ] لم يفزعوا إلى الله تعالى إلا بعد ما انقطع رجاؤهم منهم، وأيِسوا، وبالله العصمة والنجاة.
وقد استُدلّ بقوله تعالى :﴿ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى ﴾ من لا يرى الحجة، فالحكم يلزمهم بمجرد العقل دون الرسل عليهم السلام حين٢ احتج عليهم الخزنة بتكذيبهم الرسل وردّهم البينات التي أتتهم [ بها ]٣ الرسل. واستدل أيضا بقوله :﴿ وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا ﴾ [ الإسراء : ١٥ ] وبقوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ ﴾ [ طه : ١٣٤ ] وبقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا ﴾ [ القصص : ٥٩ ] وغيرها من الآيات التي فيها أنه لا يعذّبهم إلا بعد ما قامت عليهم الحجة من جهة الرسل، ولزمهم الحكم بهم. فعند ذلك يُعذَّبون. لكن تأويل الآية يخرّج عندنا على وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك في قوم خاص : الذين لا يرون لزوم الحجة والحكم إلا من جهة الرسالة، فيحتج عليهم بما كانوا يرون به ليكون أقرب إلى الإلزام والحجة، وإن كان يجوز أن يحتج عليهم بما هو حجة، وهم لا يرونها حجة، والله أعلم.
والثاني : إنما ذكر ذلك على المبالغة والنهاية في الحجة، وإن كانت الحجة قد تلزمهم، والحكم قد ثبت بدون ذلك، وهو العقل لأن إرسال الرسل وإقامة المعجزات أقرب إلى الوصول إلى الحق. وقد أقام كلا الحُجّتين، فذكر٤ أظهر الحجّتين ليكون أقرب إلى إظهار عنادهم. وهذا كما في تعذيب الكفرة في الدنيا أنهم لم يعذَّبوا بنفس الكفر حتى كان منهم مع الكفر الاستهزاء بالرسل والعناد لهم وغير ذلك.
وإنما كانوا يستوجبون العذاب بنفس الكفر /٤٧٩– أ/ لكن ترك تعذيبهم حتى يبلغوا النهاية والإبلاغ في التكذيب والعناد، وهو كقوله تعالى :﴿ الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ [ فصلت : ٧ ] ذكر هذا على النهاية والإبلاغ في الجناية منهم. وإن كانوا يستوجبون العذاب بجحودهم الزكاة دون جحود البعث أو جحود البعث دون جحود الزكاة.
فعلى ذلك الآيات التي ذكرها هي على الإبلاغ والنهاية، وإن كانت الحجة تلزمهم، والحكم يثبُت بدون الرسل، والله الموفّق.
وبعد فإن قوله :﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ ﴾ [ طه : ١٣٤ ] [ دلالة ]٥ أن الحجة والحكم قد لزمهم بدون الرسل، لأنه لو لم يلزم لكان في التعذيب ظالما، لأنه يعذِّب قبل أن يلزمهم الحكم، فيصير تقدير الآية : ولو أنا ظلمناهم ﴿ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ ﴾ ]٦ فلا تكون ظالما في ما عذّبتنا، والظلم من الله تعالى محال، فيستحيل تقدير الآية على هذا الوجه.
دلّ أن التعذيب قيل الرسل عدل وحكمة، وليس بظلم، والله الموفّق.
وبعد فإن في قوله :﴿ ألوم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ﴾ دلالة أن الحجة إنما تلزم بالبينات لا بنفس الرسل، والبينات قد وُجدت، وسبب المعرفة وطريقها، وهو العقل، قائم.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾ ليس على الأمر بالدعاء، ولكن معناه : إنكم، وإن دعوتكم فلا تنفعكم دعوتكم كقوله :﴿ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ﴾ [ الفرقان : ١٤ ] أي هلاكا، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: فذكروا..
٥ ساقطة من الأصل..
٦ ساقطة من م..
يجوز أن يحتج عليهم بما هو حجة وهم لا يرونها حجة، واللَّه أعلم.
والثاني: إنما ذكر ذلك على المبالغة والنهاية في الحجة، وإن كانت الحجة قد تلزمهم والحكم قد ثبت بدون ذلك وهو العقل؛ لأن إرسال الرسل وإقامة المعجزات أقرب إلى الوصول إلى الحق، وقد أقام كلا الحجتين فذكرو أظهر الحجتين؛ ليكون أقرب إلى إظهار عنادهم، وهذا كما في تعذيب الكفرة في الدنيا أنهم لم يعذبوا بنفس الكفر حتى كان منهم مع الكفر الاستهزاءُ بالرسل والعناد لهم وغير ذلك، وإنَّمَا كانوا يستوجبون العذاب بنفس الكفر، لكن ترك تعذيبهم حتى يبلغوا النهاية والإبلاغ في التكذيب والعناد؛ وهو كقوله تعالى: (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، ذكر هذا على النهاية والإبلاغ في الجناية منهم، وإن كانوا يستوجبون العذاب بجحودهم الزكاة دون جحود البعث، أو جحود البعث دون جحود الزكاة؛ فعلى ذلك الآيات التي ذكرها هي على الإبلاغ والنهاية، وإن كان الحجة تلزمهم والحكم يثبت بدون الرسل، واللَّه الموفق.
وبعد، فإن قوله: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) فلا تكون ظالمًا فيما عذبتنا، والظلم من اللَّه تعالى محال؛ فيستحيل تقدير الآية على هذا الوجه؛ دل أن التعذيب قبل الرسل عدل وحكمة وليس بظلم، واللَّه الموفق.
وبعد: فإن في قوله: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) دلالة أن الحجة إنما تلزم بالبينات لا بنفس الرسل، والبينات قد وجدت، وسبب المعرفة وطريقها -وهو العقل- قائم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ).
ليس على الأمر بالدعاء، ولكن معناه: أنكم وإن دعوتم لا ينفعكم دعوتكم؛ كقوله: (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) أي: هلاكا، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
يحتمل ما ذكر من النصر للرسل والمؤمنين وجوهًا:
أحدها: أن ينصرهم في الدنيا بالحجج والآيات التي أعطاهم في الدِّين حتى يدفع بها تسويلات الشيطان وتمويهات السحرة وتغلبها وتعلو على كل هذا في الدنيا، وفي الآخرة أيضًا ينصرهم بما يشهد لهم عليهم الملائكة والجوارح بالتكذيب للرسل والمؤمنين،
37
وأنهم دعوهم إلى التوحيد والإيمان، لكنهم كذبوهم وكفروا بما دعوهم إليه، فذلك نصره إياهم في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم. والثاني: ينصرهم؛ لما يجعل لهم العواقب وآخر الأمر وإن كان في الابتداء قد يكون عليهم، وعلى ذلك لم يذكر عن أحد من الرسل إلا وقد كان عاقبة الأمر له؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)؛ فهذا النصر هو النصر في الأبدان والأول هو نصر في الدِّين، ولكن إن كان هو نصرا في الأبدان فهو نصر يرجع إلى الدِّين؛ لما يقوم الدِّين بسلامة الأبدان، ويتحقق به عز المسلمين، واللَّه الموفق.
والثالث: ذكر نصرهم؛ لما أعطاهم من النعمة في الدنيا والسعة فيها، وهو يذكر للرسل والمؤمنين نصرا ونعمة ومعونة، أما هي للكفرة فتنة ومحنة لا غير لا تذكر باسم النصر والنعمة؛ إذ هي في حق المسلمين وسيلة إلى النعمة الأبدية، وفي حق الكفرة إلى العذاب الأبدي، فتكون نعمة في حقهم حقيقة؛ ولذلك قال تعالى: (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، وقال؛ (بَل هِيَ فِتْنَةٌ)، وقوله: (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ)، وقد أخبر أن ما أعطاهم من الأموال والسعة إنما هي فتنة ومحنة لهم، واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: ذكر أنه ينصرهم، وقد نرى مؤمنًا قد ينقطع حججه ويعجز عن إقامتها ونراه مغلوبًا، والكافر هو الغالب؟!
قيل: عن هذا جوابان:
أحدهما: من جعل العاقبة له والغلبة والنصر في آخر الأمر.
والثاني: جائز أن يكون وعده النصر لهم والظفر بالحجة بالشريطة، وهي القيام بوفاء ما لله عليهم من الحق في ذلك، فالنصر والظفر بالحجة في المناظرة أن يكون يزجي عمره في معرفة الحجج والدلائل وأن يكون عارفًا بطرق النظر، ومتى كان هذا الشرط موجودًا يكون النصر له لا محالة، وشرط الظفر في المحاربة أن يكونوا قاصدين إعزاز دين اللَّه تعالى، دون ابتغاء الدنيا وكلمتهم واحدة ونحوها، ومتى كان المحاربة بشرائطها يكون الظفر لا محالة للمسلمين؛ وذلك كقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهاد: هم الملائكة يكتبون أعمال بني آدم، يشهدون عليهم بما
38
عملوا من الأعمال.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأشهاد: هم الرسل يشهدون عند رب العالمين على الكفرة بالتكذيب والرد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يشهد عليهم الجوارح يومئذ بما كان منهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
ذكر هاهنا: (لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)، وذكر في موضع آخر: (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) وبينهما اختلاف من حيث الظاهر؛ لأن القول بأنه لا ينفع معذرتهم بعد وجودها منهم، وقد أخبر أنه لا يؤذن لهم بالاعتذار، لكنهم يعتذرون بلا إذن لهم، فلا يقبل اعتذارهم ولا ينفعهم ذلك؛ فيكون جمعا بينهما من هذا الوجه.
ويحتمل لا ينفع الظالمين معذرتهم لو كان منهم الاعتذار، ولا يقبل اعتذارهم، لكن لم يؤذنوا بالاعتذار حتى يعتذروا؛ وهو كقوله - تعالى -: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ)، أي: لو كان منهم فذلك لا يقبل، وكذا قوله تعالى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، أي: لو كانت لهم شفعاء يشفعون لهم، لكان لا ينفعهم شفاعتهم لا أن كان شفعاء؛ فعلى ذلك قوله تعالى: (لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)، أي: لو كانوا يعتذرون لا يقبل اعتذارهم ولا ينفعهم معذرتهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣)
يحتمل الهدى هاهنا وجوهًا:
أحدها: أي: آتيناه التوراة وفيها البيان والدعاء إلى الرشد، وجميع كتب اللَّه تعالى فيها هدى ونور ورحمة.
والثاني: أي: آتاه التوحيد والإسلام.
ويحتمل: آتاه النبوة والرسالة، وآتاه كل ما لله عليه من حق، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ).
يحتمل قوله: (الْكِتَابَ): التوراة خاصة، ويحتمل التوراة وسائر الكتب؛ لأن الكتب في بني إسرائيل كانت كثيرة، كان فيها التوراة والزبور والإنجيل وغير ذلك، فجائز أن يريد بالكتاب: جميع الكتب التي كانت فيهم؛ إذ ذكر الكتاب بالألف واللام، وإنه يحتمل الجنس والعهد؛ فيجوز الصرف إلى التوراة لمكان العهد، ويجوز الصرف إلى
الآية ٥٣ وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى ﴾ يحتمل الهدى ههنا وجوها :
أحدها : أي آتيناه التوراة، وفيها البيان والدعاء إلى الرشد، وجميع كتب الله تعالى فيه هدى ونور ورحمة.
والثاني : أي آتاه التوحيد والإسلام.
[ والثالث ]١ : آتاه النبوة والرسالة، وآتاه كل ما لله عليه من حق، والله أعلم.
١ في الأصل وم: ويحتمل..
الجميع لمكان الجنس، واللَّه أعلم.
وفي الآية دلالة أن لا جميع كتب اللَّه التي أنزلت فيهم غيرت وبدلت، بل فيهم ما لم يغير ولم يبدل حيث قال: (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ. هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤).
ثم قوله - تعالى -:
(هُدًى): هو ما ذكرنا أن جمع كتب اللَّه تعالى هدى من الضلالة إلى الرشد، وبيان لما لله عليهم وما لبعض على بعض.
وقوله: (وَذِكْرَى) قَالَ بَعْضُهُمْ: موعظة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تفكرا لأهل اللب والعقل.
وجائز (وَذِكْرَى)، أي: ذكر ما سبق، أي: يذكرهم ما نسوا.
وقوله: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ)؛ لأن أهل اللب هم الذين يتفكرون ويتأملون فيه، أو أن أهل اللب هم المنتفعون بالذكرى وما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥)
يحتمل قوله: (فَاصْبِرْ) وجوهًا:
أحدها: التكذيب، كان يتأذى بتكذيبهم إياه.
والثاني: كان يتأذى باستهزائهم به.
والثالث: أنواع ما يكيدون: من همهم قتله وضربه وغير ذلك.
والرابع: يحتمل قوله تعالى: (فَاصْبِرْ)، أي: اصبر على تبليغ الرسالة إليهم، ولا يضجرك تكذيبهم إياك، ولا يمنعك ذلك عن تبليغها، واللَّه أعلم.
والخامس: اصبر ولا تستعجل لهم العذاب قبل ميقاته، وذلك أن الرسل - عليهم السلام - كانوا لا يستعجلون العذاب ما لم يؤذن لهم بذلك، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) إن كان المراد من وعده نفس الوعد؛ فيكون تأويله: إن وعد اللَّه صدق، أي: لا يخلف، ولا يكون كذبًا؛ لأن خلف الوعد في الشاهد إنما يكون لأحد معنيين:
إما لعجزه عن القيام بوفائه.
وإما لضرر يخاف أن يلحقه لو قام بوفاء ما وعد، واللَّه تعالى بريء عن المعنيين جميعًا متعال عن ذينك.
وإن كان المراد من قوله - تعالى -: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي: موعود اللَّه؛ فيكون تأويله: إن موعد اللَّه تعالى لكائن حقًّا، فوعد اللَّه تعالى على الوجهين اللذين ذكرناهما، وعلى هذا يذكر أمر اللَّه تعالى: قد يراد به نفس الأمر، كقوله: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
40
بَعْدُ)، ويذكر ويراد به المفعول؛ كقوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)، أي: ما يكون بأمره مفعولا، ويكون موعود اللَّه مفعولا، واللَّه أعلم. وما ذكر الصلاة أمر اللَّه.
ثم لسنا ندري ما كان من وعده لرسوله حتى أخبر أنه كائن، فجائز أن يكون ما قال بعض أهل التأويل: إنه وعد له أن يعذب كفار مكة يوم بدر بالقتل وغير ذلك، فكذبوه، وقالوا مستهزئين به: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، قال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) يحتمل غيره.
وقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ):
جائز أن يكون ما ذكر في قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، باستغفاره إياه.
وجائز أن يكون قوله: (ليَغفِرَ لَكَ اللَّهُ)، ما يغفر له من أمته بشفاعته كما ذكر في الخبر: " يغفر للمؤذن مد صوته " أي: يجعل له الشفاعة إلى حيث يبلغ صوته.
وقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ).
قد ذكرنا التسبيح بحمد ربه، ثم جائز أن يريد بالتسبيح نفس التسبيح، فإن كان كذلك فيكون ذكر العشي والإبكار ليس هو ذكر التوقيت له، ولكن الأوقات كلها الليل والنهار؛ كقوله - تعالى -: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ): ليس يريد نفس الغداة والعشي خاصة دون غيرهما من الأوقات، بل هما عبارة عن جميع الأوقات كأنه يقول: اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم آناء الليل والنهار؛ فعلى ذلك الأول يحتمل هذا، واللَّه أعلم.
وإن كان المراد من التسبيح هاهنا: الصلاة، فكأنه يقول: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) كناية عن صلاة النهار.
أو أن يكون (الْإِبْكَارِ) كناية عن صلاة الغداة، و (بِالْعَشِيِّ) كناية عن صلاة العشاء على ما ذكره بعض الناس، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى
41
الآية ٥٥ وقوله تعالى :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ يحتمل قوله :﴿ فاصبر ﴾ وجوها.
أحدها :[ اصبر على ]١ التكذيب ؛ كان يتأذّى بتكذيبهم /٤٧٩– ب/ إياه.
والثاني :[ اصبر على الاستهزاء ]٢ كان يتأذّى باستهزائهم به.
والثالث :[ اصبر على ]٣ أنواع ما يكيدون : من همّهم بقتله وضره وغير ذلك.
والرابع٤ : يحتمل قوله تعالى :﴿ فاصبر ﴾ أي اصبر على تبليغ الرسالة إليهم، ولا يُضجرنّك تكذيبهم إياك، ولا يمنعك ذلك عن تبليغها، والله أعلم.
والخامس٥ : اصبر، ولا تستعجل لهم العذاب قبل ميقاته ؛ وذلك أن الرسل عليهم السلام كانوا لا يستعجلون العذاب ما لم يُؤذن لهم بذلك، والله أعلم.
ثم قوله تعالى :﴿ فاصبر إن وعد الله حق ﴾ إن كان المراد من وعده نفس الوعد فيكون تأويله : أن وعد الله صدق أي لا يُخلف، ولا يكون كذبا، لأن خلف الوعد في الشاهد إنما يكون لأحد معنيين : إما لعجزه عن القيام بوفائه، وإما لضرر يخاف أن يلحقه لو قام بوفاء ما وعد، والله تعالى بريء من المعنيين جميعا، مُتعال عن ذَينِك.
وإن كان المراد من قوله تعالى :﴿ إن وعد الله حق ﴾ أي موعود الله، فيكون تأويله إن موعود الله تعالى لكائن حقا. فوعد الله على الوجهين اللذين ذكرناهما. وعلى هذا يذكر أمر الله تعالى، ويراد به نفس الأمر كقوله تعالى :﴿ لله الأمر من قبل ومن بعد ﴾ [ الروم : ٤ ] ويذكر، ويراد به المفعول كقوله تعالى :﴿ وكان أمر الله مفعولا ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] أي ما يكون بأمره مفعولا، ويكون موعود الله مفعولا، والله أعلم. وكان٦ ذكر الصلاة أمر الله [ أي بأمر الله ]٧.
ثم لسنا ندري ما كان من وعده لرسول حتى أخبر أنه كائن. فجائز أن يكون ما قال بعض أهل التأويل : إنه وعد له أن يعذّب كفار مكة يوم بدر بالقتل وغير ذلك، فكذّبوه، وقالوا مستهزئين به :﴿ متى الوعد إن كنتم صادقين ﴾ [ يونس : ٤٨ و. . . . ] فقال٨ :﴿ فاصبر إن وعد الله حق ﴾ ويحتمل غيره.
وقوله تعالى :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ جائز أن يكون ما ذكر في قوله :﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ [ الفتح : ٢ ] باستغفاره إياه.
وجائز أن يكون قوله :﴿ ليغفر لك الله ﴾ ما يغفر له من أمته بشفاعته كما ذكر في الخبر :( يغفر للمؤذّن مدّ صوته ) [ أحمد ٢/١٣٦ ] أي يجعل له الشفاعة إلى حيث يبلُغ صوته.
وقوله تعالى :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ قد ذكرنا التسبيح بحمد ربه. ثم جائز أن يريد بالتسبيح نفس التسبيح. فإن كان كذلك فيكون ذكر العشيّ والإبكار ليس هو ذكر التوقيت له، ولكن ذكر الأوقات كلها : الليل والنهار كقوله تعالى :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [ الكهف : ٢٨ ] ليس يريد نفس الغداة والعشيّ خاصة دون غيرها من الأوقات، بل [ هما ]٩ عبارة عن جميع الأوقات ؛ كأنه يقول :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم ﴾ آناء الليل والنهار.
فعلى ذلك الأول يحتمل هذا، والله أعلم.
وإن كان المراد من التسبيح ههنا الصلاة فكأنه يقول : فصل بحمد ربك بالعشيّ والإبكار كناية عن صلاة النهار، أو يكون الإبكار كناية عن صلاة الغداة، والعشيّ عن صلاة العشاء على ما ذكر بعض الناس، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: والثالث..
٥ في الأصل وم: والرابع..
٦ في الأصل وم: وما..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ الفاء ساقطة من الأصل وم..
٩ من م، ساقطة من الأصل وم..
وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)
قال عامة أهل التأويل: إن اليهود جادلوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الدجال أنه منهم، وأنه في الطول كذا ونحوه؛ وعلى ذلك نسق الآيات التي تتلو هذه الآية.
ولكن لسنا ندري بماذا صرفوا مجادلتهم في آيات اللَّه إلى المجادلة في الدجال، ولا يسع أن نحمل ما ذكر من مجادلتهم في آيات اللَّه على المجادلة في الدجال، إلا أن يثبت خبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بطريق التواتر أن المجادلة المذكورة في الآية في الدجال؛ فحينئذ يصرف إلى ذلك، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) أي: يجادلون في دفع آيات اللَّه بغير حجة أتتهم من اللَّه، وكانت المجادلة في دفع آيات اللَّه من رؤساء الكفرة وأكابرهم، كانوا يموهون بمجادلتهم في دفع آيات اللَّه تعالى والطعن فيها على أتباعهم وسفلتهم؛ ليبقى لهم الرياسة والمأكلة التي كانت لهم، وهو ما ذكر: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ...) الآية، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، وغير ذلك من الآيات، لم يزل الأكابر منهم والرؤساء يطعنون في آيات اللَّه تعالى ويدفعونها، يريدون التمويه والتلبيس على أتباعهم وسفلتهم، ليبقى لهم العز والشرف الذي كان لهم، ويبطلوا به الحق، ويطفئوا نوره؛ كقوله - عز وجل -: (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، وقوله - تعالى -: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)، هذا كان مرادهم من مجادلتهم في آيات اللَّه والطعن فيها.
ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم يجادلون، ويفعلون ذلك؛ تكبرًا منهم على آيات الله والخضوع لرسله، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ).
أي: ما في صدورهم إلا كبر، أي: كبرهم هو الذي حملهم على المجادلة في آيات اللَّه، ثم الذي حملهم على الكبر جهلهم بسبب العز والشرف، ظنوا أن العز والشرف إنما يكون بالأتباع الذين يصدرون عن آرائهم، ولو عرفوا منهم يكون العز والشرف، لكانوا لا
يفعلون ذلك، إنما العز والشرف في طاعة اللَّه تعالى واتباع أمره، ليس في اتباع من اتبعهم ولا في ائتمار من ائتمرهم، ولكن فيما ذكرنا، واللَّه أعلم.
ثم أخبر أنهم ليسوا ببالغين إلى ما قصدوا من إطفاء النور الذي أعطى المؤمنين، ولا إدحاض الحق وإبطاله حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ)، وقوله: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
قال عامة أهل التأويل: أمره أن يستعيذ باللَّه من فتنة الدجال، لكن عندنا: أمره أن يتعوذ باللَّه من مكائد أُولَئِكَ الأكابر والفراعنة، قد هموا أن يمكروا به ويكيدوا، أمره أن يتعوذ باللَّه من مكرهم وكيدهم، كما أمره أن يتعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم، حيث قال: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ...) الآية، وهذا أولى من الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧)
قال أهل التأويل: أي: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الدجال، لكن قد ذكرنا بعد صرف الآية إلى الدجال.
ثم يحتمل قوله: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) وجهين:
أحدهما: الآية نزلت في مقرين بخلق السماء والأرض، منكرين بالبعث؛ يقول: إن خلق السماوات والأرض مبتدأ بلا احتذاء بغير أكبر وأعظم من إعادة الناس، فإذا عرفتم أنه قدر على خلق السماوات والأرض مبتدأ بلا احتذاء بغير، لكان قدرته على إعادة الخلق أحق؛ إذ إعادة الشيء في عقولكم أهون من البداية؛ كقوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، فكيف أنكرتم قدرته على البعث وقد أقررتم بقدرته على خلق ما ذكر؟!
والثاني: أن تكون الآية نزلت في مقرين بخلق الناس منكرين بخلق السماوات والأرض؛ يقول: إن خلق السماوات والأرض وإمساكها في الهواء بلا تعليق من الأعلى ولا عماد من الأسفل، مع غلظها وكثافتها أكبر وأعظم في الدلالة على حدثها وخلقها من خلق الناس؛ لأن خلق الناس إنما يكون بالتغير والتولد من حال إلى الحال الأخرى، فيجوز أن يتوهم كون ذلك وافتراقه ثم اجتماعه من بعد وظهور ذلك منه، وأمَّا السماء فهي على حالة واحدة فلا [يتمكن] توهم ذلك لما ذكرنا.
ويحتمل أن تكون الآية في نازلة كانت وسبب، لسنا نحن نعرف ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨)
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يستوي من عمي من توحيد اللَّه وشكر نعمه ومن أبصر وحدانية اللَّه وقام بشكر نعمه، كما لم يستو عندكم من جهل حق آخر وكفر نعمه وإحسانه ومن عرف حقه وقبل إحسانه وقام بشكره، فإذا عرفتم أنه لا استواء بين هذين عندكم، فاعرفوا أنه لا يستوي من عمي عن وحدانية اللَّه وشكر نعمه ومن أبصر وحدانيته وقام بشكره، وكذلك ما ذكر من قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) يقول: إذا عرفتم أنه لا يستوي من آمن باللَّه وصدق خبره وأحسن إليه ومن كذبه وأساء إليه؛ فعلى ذلك لا يستوي من آمن باللَّه وصدقه وقابل إحسانه بالشكر ومن كذبه وكفره نعمه وإحسانه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) حقيقة الأعمى البصر والبصير نفسه؛ يقول: تعرفون أنه لا يستوي الأعمى أعمى البصر والبصير نفسه في الدنيا؛ فعلى ذلك لا يستوي من عمي عن دينه ومن أبصر في الآخرة، وقد عرفتم أنهم قد استووا في هذه الدنيا -أعني: المسيء والمحسن والصالح والمفسد والمطيع والعاصي- وفي الحكمة: التفريق بينهما؛ دل أن هناك دارًا أخرى يفرق بينهما فيها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ)].
أي: قليلا ما يتذكرون أن لا استواء بين من ذكر من المحسن والمسيء والصالح والمفسد والمطيع والعاصي، واللَّه أعلم.
* * *
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩) أخبر أنها آتية لا محالة وقد ذكرنا، إنما صار خلق الدنيا وما فيها حكمة بالساعة (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) بها، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ
الآية ٥٩ وقوله تعالى :﴿ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ أخبر أنها آتية، لا محالة، وقد ذكرنا أنما صار خلق الدنيا وما فيها حكمة بالساعة ﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ بها، والله أعلم.
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠)
نزلت في أهل التوحيد يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، ثم تخرج على الاستغفار مرة؛ لما كان منهم من التضييع في حقوق اللَّه تعالى وما أمرهم به ونهاهم عنه والتفريط في ذلك، استغفروا أغفر لكم.
ويحتمل (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ): اطلبوا مني التوبة عن ذلك أتوب عليكم، واللَّه أعلم.
وإن كانت الآية في أهل الكفر فيكون قوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، أي: وحدوني أغفر لكم.
ويحتمل اعبدوني أغفر لكم؛ وهو كقوله: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، وقد جاء في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ...) "، وفي بعض الأخبار: " الدعاء مخ العبادة "، وأصل هذا: أنه ينظر كل أحد إلى ما ارتكبه، فإن كان سببا يستوجب به العقوبة كان استغفاره القيام بقضاء ما تركه وضيعه، والعزم على ألا يعود إلى ذلك أبدًا، وإن كان سببًا غير معروف، تركه ويستغفر اللَّه تعالى في ذلك، ويطلب منه التجاوز والمغفرة، وأصل ذلك ما قال اللَّه تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي).
ذكر الإجابة بالشريطة، وهو أنهم إذا آمنوا به وأوفوا عهده يعرف لهم ذلك، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).
استدل بعض الناس بهذه الآية على أن قوله: (ادْعُونِي) إنما أراد به العبادة على ما ذكرنا.
فَإِنْ قِيلَ: إن هذه السورة نزلت بمكة، وأهل مكة كانوا يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وفي ظاهر ذلك أنهم لا يستكبرون عن عبادته، لكنهم لم يروا
أنفسهم أهلا لعبادة اللَّه فعبدوا غيره دونه، كمن يعظم ويخدم خادما من خدم ملك من ملوك الدنيا لا يكون مستكبرًا عن خدمة الملك.
لكن تأويل الآية يخرج على وجهين:
أحدهما: أن اللَّه تعالى أمر عباده بطاعة رسوله والإجابة له إلى ما يدعوهم، فإذا لم يجيبوه إلى ما يدعوهم إليه ولم يطيعوه استكبارا منهم وتكبرا عليه، صار ذلك منهم كالاستكبار عن طاعة اللَّه وعن عبادته.
والثاني: أنهم وإن كانوا عبدوا الأصنام رجاء أن تقربهم إلى اللَّه زلفى، ولم يقصدوا قصد الاستكبار عن عبادته فهم تركوا عبادته، مع أنهم أمروا بها وبلغ إليهم أمره على ألسن الرسل، فكأنهم استكبروا عن عبادة اللَّه تعالى؛ إذ في الشاهد يخدم المرء لبعض خواص الملك ليقربه إليه: إذا أمره الملك أن يخدمه وقربه إلى مجلسه فامتنع - يقدر ذلك منه استكبارا، ويبين أن خدمته لذلك ما كان ليقربه إلى الملك؛ حيث قربه فلم يقرب، ففي الغائب كذلك؛ لذلك كان استكبارا منهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ).
قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (دَاخِرِينَ): صاغرين ذليلين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١) يذكرهم نعمه التي أنعم عليهم، يستأدي بذلك شكره، حيث قال: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) راحة لأنفسكم وأبدانكم، (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) تبصرون فيه معايشكم وما تحتاجون إليه.
ثم قوله: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) أي: يبصر به وفيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أخبر أن ذلك كله منه لهم فضل ومنة ورحمة لا باستحقاق يستحقون ذلك قبله (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)
يقول: ذلك الذي صنع بكم هو ربكم لا الأصنام التي تعبدون من دونه، (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) هو خلقكم وخلق كل شيء واحد لا شريك له، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي: أنى تصرفون وتعدلون عن عبادته والقيام بشكره، واللَّه أعلم.
الآية ٦٢ وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ يقول : ذلك الذي صنع [ لكم هذا ]١ هو ربكم لا الأصنام التي تعبدون من دونه ﴿ خالق كل شيء ﴾ هو خلقكم، وخلق كل شيء، واحد، لا شريك [ له ]٢ ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي أنى تصرفون، وتعدلون عن عبادته والقيام بشكره ؟ والله أعلم.
١ في الأصل وم: بكم..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)
عن عبادته والقيام بشكره قبلكم، وأصل الإفك: الصرف؛ كقوله: (أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا) أي: لتصرفنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤)
يذكرهم عظم نعمه عليهم حيث جعل لهم الأرض بحيث يقرون عليها ويتعيشون، والسماء بناء عليهم حيث لا تسقط عليهم، وجعل منافع بعضها متصلة بمنافع البعض على بعد ما بينهما؛ ليعلم أن ذلك كله صنع واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، يحتمل وجهين:
أحدهما: قوله: (فَأَحْسَنَ) أي: أحكم وأتقن في الدلالة على معرفة وحدانية الله تعالى وربوبيته، على ما أظهر في كل شيء من الدلالة على وحدانيته وربوبيته.
والثاني: قوله: (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، أي: حسن تركيبها منتصبًا قامتها غير منكبة كسائر الصور التي خلقها منكبة على وجهها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ).
قال بعض أهل التأويل: أي: رزقكم من الحلال، لكن الأشبه: أي: رزقكم من أطيب ما أخرج من الأرض؛ لأن اللَّه تعالى أخرج من الأرض نباتًا مختلفًا جعل أطيبه وألينه رزقًا للبشر، وسائره رزقًا للدواب.
(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ).
ذلك الذي صنع بكم هذا هو ربكم، لا الأصنام التي تعبدونها.
(فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥)
قال أهل التأويل: (الْحَيُّ): الذي لا يموت أبدًا، لكن هذا مما يعرفه كل أحد، وأصل الحي هو النهاية والغاية في الثناء عليه والمدح، لا كل شيء يبلغ في الانتفاع به غايته يسمى: حيًّا، نحو الأرض والأشجار وكل شيء يبلغ في الانتفاع به، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
هو المعبود في لسان العرب، ويسمى العرب كل معبود: إلهًا، كأنه يقول: لا إله ولا معبود يستحق العبادة إلا هو.
الآية ٦٤ وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾ يذكّرهم عظم نعمه عليهم حين١ جعل لهم الأرض بحيث يقرّون عليهم، ويتعيّشون، والسماء بناء عليهم بحيث٢ لا تسقط عليهم، وجعل منافع بعضها متصلة بمنافع البعض على [ بعد ]٣ ما بينهما ليُعلم أن ذلك كله صنع واحد.
وقوله تعالى :﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : قوله :﴿ فأحسن ﴾ أي أحكم، وأتقن في الدلالة على معرفة وحدانية الله تعالى وربوبيته على ما أظهر في كل شيء من الدلالة على وحدانيته وربوبيته.
والثاني : قوله :﴿ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ أي أحسن تركيبها منتصبا ؛ أقامها٤ غير مُنكبّة كسائر الصور التي خلقها منكبّة على وجهها.
وقوله تعالى :/٤٨٠– ب/ ﴿ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ قال بعض أهل التأويل : أي رزقكم من الحلال. لكن الأشبه أي رزقكم من أطيب ما أخرج من الأرض، لأن الله تعالى أخرج من الأرض نباتا مختلفا، جعل أطيبه وألينه رزقا للبشر، وسائره رزقا للدواب.
[ وقوله تعالى ]٥ :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ ذلك الذي صنع لكم هذا، هو ربكم لا الأصنام التي تعبدونها ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل وم: قامتها..
٥ ساقطة من الأصل وم:.
الآية ٦٥ وقوله تعالى :﴿ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ قال أهل التأويل :﴿ الحي ﴾ هو الذي لا يموت أبدا. لكن هذا مما يعرفه كل أحد.
وأصل الحي، هو النهاية والغاية [ في ]١ الثناء عليه والمدح [ لأن ]٢ كل شيء يبلغ في الانتفاع به غايته، يسمّى حيا، نحو الأرض والأشجار والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ هو المعبود في لسان العرب، ويسمّي العرب كل معبود إلها، كأنه يقول : لا إله، ولا معبود، يستحق العبادة إلا هو.
وقوله تعالى :﴿ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ أي ادعوه بإخلاص الدين له. ثم يحتمل قوله ﴿ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ ﴾ وجهين :
أحدهما : أي اعبدوه مخلصين له العبادة، ولا تشركوا فيها غيره من نحو ما كانوا يعبدون الأصنام دونه رجاء الشفاعة وتقريبهم إليه. أخلصوا العبادة والدين. والإخلاص هو التصفية له.
والثاني : ادعوه على حقيقة الدعاء له والتسمية ؛ كأنه يقول : والله أعلم : ادعوه، وسمّوه إلها، لا تدعوا، ولا تسمّوا غيرا إلها لأنهم كانوا يسمّون، ويدعون الأصنام التي عبدوها آلهة.
وقوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي الحمد لله، ربٌّ على خلقه بما أنعم عليهم، والله أعلم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل وم: لا..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).
أي: ادعوه بإخلاص الدِّين له.
ثم يحتمل قوله: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وجهين:
أحدهما: أي اعبدوه مخلصين له العبادة، لا تشركوا فيها غيره؛ من نحو ما كانوا يعبدون الأصنام دونه رجاء الشفاعة لهم وتقريبهم إليه، أخلصوا العبادة والدِّين، والإخلاص: هو التصفية له.
والثاني: ادعوه على حقيقة الدعاء له والتسمية؛ كأنه يقول - واللَّه أعلم -: ادعوه وسموه: إلها، لا تدعوا ولا تسموا غيرًا: إلها؛ لأنهم كانوا يسمون ويدعون الأصنام التي عبدوها: آلهة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
أي: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) على خلقه بما أنعم عليهم وصنع إليهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي).
كان الكفرة دعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى عبادة ما عبدوا هم من الأصنام، فقال: إني نهيت عن ذلك، وهو كما ذكر في غير آي من القرآن، حيث قال: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وغير ذلك من الآيات.
وقوله: (لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي)، يحتمل وجهين:
إن كان المراد من البينات القرآن أو الآيات التي جعلت معجزة له، على ما قاله أهل التأويل - فهو على التأكيد والإبلاغ، فإنه كان النهي عن عبادة غير اللَّه تعالى والشرك بالله لازمًا قبل مجيء الرسل وما أتوا من البينات على ما تقدم، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل قوله: (لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي): العقل الذي يعرف به ذلك، ويكون قوله: (جَاءَنِيَ) أي: ظهر لي؛ كقوله تعالى: (جَاءَ الْحَقُّ)، أي: ظهر الحق، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
أي: أمرت أن أجعل الخلق وكل شيء لله سالمًا خالصًا لا أشرك فيه غيره، والله الموفق.
وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) بذكرهم الوجوه التي بها يوصل إلى معرفة شكر ما أنعم عليهم؛ قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) أي: خلق أصلكم من تراب، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي: خلقكم من نطفة، يذكرهم هذا؛ ليعلم خلقه إياهم من تراب - أعني: خلق أصلهم ليس باستعانة منه بذلك التراب؛ لأنه لو كان على الاستعانة منه، لكان لا معنى لخلق أنفسهم من الماء على الصورة التي جعلهم من تراب وعلى جنسه؛ إذ ليس في الماء من آثار التراب شيء، ولا في الماء والنطفة من آثار العلقة شيء، ولا في العلقة من آثار الطفولية شيء من اللحم والعظم والجلد والشعر وغير ذلك، ليس في التراب معنى الماء ولا في الماء معنى التراب، ولو كان على الاستعانة بذلك لكان المخلوق من أحدهما لا يكون مثل المخلوق من الآخر في تركيبه وتصويره، وهما يختلفان في أنفسهما، وكذلك ما ذكر من تقلبه من حال إلى حال وتبديله من نوع إلى نوع، وليس في كل حال يقلب إليها من الحال التي كانت شيء ولا من شبهها؛ ليعلم أن كل ذلك إنما كان بقدرة ذاتية وعلم ذاتي وتدبير ذاتي كذلك، لا باستعانة شيء مما ذكر ولا سبب له في ذلك، ولكن كان بمعنى جعل فيه كان ذلك كذلك بوجود ذلك المعنى، واللَّه أعلم.
وقولهَ عزوجل -: (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي: تبلغوا حتى يشتد كل شيء منكم من البينة والعقل وغير ذلك.
وقوله: (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ).
أي: منكم من يتوفى من قبل أن يبلغ شيخًا.
وقوله: (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى).
أي: لتبلغوا الأجل الذي جعل لكم.
وقوله: (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ):
ما بين لكم وذكر لكم.
وقوله: (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
أي: وهو الذي يخلق حياة كل شيء ويخلق موت كل شيء، وعلى قول المعتزلة: يجوز أن يسمى كل عبد: محييا مميتًا؛ لقولهم: إن القتيل ليس بميت بأجله، بل ميتة القاتل، وقولهم: إن المتولدات من الفعل هي فعل ذلك الفاعل؛ فعلى قولهم هذا يجوز تسمية كل أحد: محييًا مميتًا.
الآية ٦٨ وقوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ أي هو الذي يخلق حياة كل شيء، ويخلق موت كل شيء.
وعلى قول المعتزلة يجوز أن يسمّى كل عبد مُحيِيا مميتا لقولهم : إن القتيل ليس بميّت بأجله، بل يميته القاتل، وقولهم : إن المتولّدات من الفعل، هي١ فعل ذلك الفاعل. فعلى قولهم هذا يجوز تسمية كل أحد مُحيِيًا مميتًا.
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فإنما يترجم بقوله :﴿ كن ﴾ من غير أن كان منه كاف ونون. فذلك تكوينه، والله الموفّق.
وقد ذكرنا هذا في ما تقدم على الإبلاغ.
١ في الأصل وم: هو..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا).
يترجم بقوله: (كُنْ) من غير أن كان منه كاف ونون، فذلك تكوينه - واللَّه الموفق - وقد ذكرنا هذا فيما تقدم على الإبلاغ.
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (٧٤) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ).
قوله: (أَلَمْ تَرَ) هو على حقيقة الرؤية والنظر.
ويحتمل (أَلَمْ تَرَ): ألم تعلم، معناه: ألم تعلم سفه الذين يجادلون في آيات اللَّه، أو جهل الذين يجادلون في آيات اللَّه، أي: في دفع آيات اللَّه والطعن فيها بلا حجة على ما تقدم ذكره في قوله: (يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ)، فعلى ذلك هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّى يُصْرَفُونَ).
أي: آية، أي: حجة تصرفهم أو صرفتهم عن آيات اللَّه، أو من أين يصرفون ويعرضون عن آيات اللَّه بعد ما تقرر عندهم أنها آيات اللَّه؟! واللَّه أعلم.
وقوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠)
جائز أن يكون قوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا) تفسير مجادلتهم التي ذكر في دفع آيات اللَّه.
وجائز أن يكون قوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ): الذي آتاهم الرسل وكذبوا بما أرسلنا به رسلنا، أي: كذبوا - أيضًا - بما أمرهم الرسل بالوحي من غير كتاب؛ إذ الوحي نوعان: متلو، وغير متلو، فلم يكن قوله: (وَبِمَا أَرْسَلْنَا) تفسيرًا للكتاب، وعلى التأويل الأول قوله: (وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا) أي: الكتاب؛ فيكون تفسيرًا له، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ):
وعيد لهم، أي: سوف يعلمون علم عيان بعدما علموا علم خبر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ).
ذكر أن في السلاسل ثلاث لغات: الرفع والنصب والخفض.
الآية ٧٠ وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ﴾ جائز أن يكون قوله :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ ﴾ الذي أتاهم الرسل، وكذّبوا بما أرسلنا، أي كذّبوا أيضا بما أمرهم الرسل بالوحي من غير كتاب ؛ إذ الوحي نوعان : متلوٌّ وغير متلوّ، فلم يكن قوله ﴿ وبما أرسلنا به رسلنا ﴾ تفسيرا للكتاب.
وعلى التأويل الأول قوله :﴿ وبما أرسلنا به رسلنا ﴾ أي الكتاب فيكون تفسيرا له، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ وعيد لهم، أي سوف يعلمون علم عيان بعد ما علموا علم خبر، والله أعلم.
الآيتان ٧١ و٧٢ وقوله تعالى :﴿ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ﴾ ﴿ فِي الْحَمِيمِ ﴾ ذكر أن في السلاسل ثلاث لغات : الرفع والنصب والخفض١ : فمن رفعها يقول معناه : إذ جُعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم، يُسحبون بها في الحميم. ومن قال بالخفض فتأويله : إذ الأغلال في أعناقهم، أي تجعل الأغلال في السلاسل، فيُسحبون بها في الحميم. ومن قال بالنصب فكأنه٢ قرأ : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون [ في الحميم، أي يسحبون ]٣ السلاسل في الحميم.
وقوله تعالى :﴿ يُسجَرون ﴾ أي يُجرّون، والحميم قد مر تأويله، وهو ماء يشرب منه، قد انتهى حرّه غايته.
وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ﴾ أي يوقدون. ذكر ما يُسقَون فيها، وهو الحميم، وذكر ما يُحرقون به.
قال أبو عوسجة :﴿ يُسحَبون ﴾ أي يُجرّون، وصرفه : سَحَبَ يَسْحَبُ سَحْبًا، أي يجُرّ. وقوله :﴿ يُسجَرون ﴾ أي يوقدون بهم، يقال : سجرت /٤٨١– أ/ أي أوقدت فيه، وصرفه : سَجَرَ يَسْجُرُ سَجْرًا.
١ انظر معجم القراءات القرآنية ح٦/٥٧ و/٥٨..
٢ الفاء ساقطة من الأصل وم..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
فمن رفعها يقول: معناه: إذ جعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم يسحبون بها في الحميم.
ومن قال بالخفض فتأويله: إذ الأغلال في أعناقهم وفي السلاسل، أي: يجعل الأغلال في السلاسل، فيسحبون بها في الحميم.
ومن قال بالنصب كأنه قرأه: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون. في الحميم) أي: يسحبون السلاسل في الحميم.
وقوله: (يُسْحَبُونَ) أي: يجرون، والحميم: قد مر تأويله، وهو ما يشرب منه وقد انتهى حره غايته.
وقوله: (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) أي: يوقدون، ذكر ما يسقون فيها وهو الحميم، وذكر ما يحرقون به.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يُسْحَبُونَ) أي: يجرون، وصرفه: أسحب، يسحب إسحابًا، أي: جرًّا.
وقوله: (يُسْجَرُونَ) أي: يوقدون بهم، يقال: سجرت، أي: أوقدت فيه، وصرفه: سجر يسجر سجرًا.
وقوله: (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ... )
ظاهر هذه الآية: أن هذا القول لهم بعدما دخلوا النار؛ لأنه ذكر على أثر قوله: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)، فظاهرها أن قوله: (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ) بعد دخولهم النار، وظاهر قوله بعد هذا متصلا به: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) - على أن ذلك القول إنما يقال لهم قبل أن يدخلوا النار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا... (٧٤)
هذا القول منهم يخرج على وجهين:
أحدهما: على إنكارهم وجحودهم عبادة الأصنام التي عبدوها في الدنيا وأشركوها إياه في ألوهيته؛ وهو كقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ...) الآية، وقوله: (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، أنكروا ما كان منهم، وأقسموا على ذلك، وهذا يدل على أن الآية لا تضطر أهلها إلى قبول الآيات والتصديق لها؛ لأنهم أنكروا أن يكونوا مشركين بعدما عاينوا العذاب وظهر لهم خطؤهم وكونهم على الباطل، ثم لم يمنعهم ما عاينوا من الكذب.
الآيتان ٧٣ و٧٤ وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ ﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ظاهر هذه الآية أن هذا القول لهم بعد ما دخلوا النار لأنه ذكره على إثر قوله :﴿ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ﴾ ﴿ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ﴾ فظاهرها أن قوله ﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ بعد دخولهم النار.
وظاهر قوله بعد هذا متصل به ﴿ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [ غافر : ٧٦ ] على أن ذلك القول إنما يقال لهم قبل أن يدخلوا النار.
وقوله تعالى :﴿ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ﴾ هذا القول منهم يخرّج على وجهين :
أحدهما : على إنكارهم وجحودهم عبادة الأصنام التي عبدوها في الدنيا، وأشركوها إياه في ألوهيته، وهو كقوله :﴿ ثم لم تكن فتنتهم ﴾ الآية [ الأنعام : ٢٣ ] بقوله :﴿ يحلفون لكم ﴾ [ التوبة : ٩٦ ] أنكروا ما كان منهم، وأقسموا على ذلك.
وهذا يدل على أن الآية لا تضطر أهلها إلى قبول الآيات والتصديق لها لأنهم أنكروا أن يكونوا مشركين بعد ما عاينوا العذاب، وظهر لهم خطؤهم وكونهم على الباطل، ثم لم يمنعهم ما عاينوا من الكذب.
والثاني : قوله :﴿ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ﴾ ليس على الإنكار والجحود، ولكن لما رأوا أن عبادتهم الأصنام لم تنفعهم يومئذ، ولم تُغنهم عما نزل بهم، فقالوا عند ذلك :﴿ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ﴾ أي الذي كنا نعبده في الدنيا، كان باطلا، لم يك شيئا حين لم ينفعنا ذلك في هذا اليوم.
فإن كان تأويل الآية هذا فهذا يدل على أن قوله تعالى :﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ ﴿ من دون الله ﴾ بعد ما دخلوا النار.
وإن كان تأويله الأول على الإنكار والجحود فذلك يدل على أن القول قبل أن يدخلوا النار حين تشهد عليهم الجوارح، وذلك يقرر قوله :﴿ ادخلوا أبواب جهنم ﴾ [ غافر : ٧٦ ] والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴾ أي هكذا يضل الله من علم منه اختيار الكفر والضلال يضله، وهو كقوله :﴿ ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ﴾ [ التوبة : ١٢٧ ] أي إذ علم منهم اختيار الانصراف صرفهم، وكذلك قوله :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ [ الصف : ٥ ] أي إذ علم منهم أنهم يختارون الزّيْغ أزاغهم، والله أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٣:الآيتان ٧٣ و٧٤ وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ ﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ظاهر هذه الآية أن هذا القول لهم بعد ما دخلوا النار لأنه ذكره على إثر قوله :﴿ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ﴾ ﴿ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ﴾ فظاهرها أن قوله ﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ بعد دخولهم النار.
وظاهر قوله بعد هذا متصل به ﴿ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [ غافر : ٧٦ ] على أن ذلك القول إنما يقال لهم قبل أن يدخلوا النار.
وقوله تعالى :﴿ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ﴾ هذا القول منهم يخرّج على وجهين :
أحدهما : على إنكارهم وجحودهم عبادة الأصنام التي عبدوها في الدنيا، وأشركوها إياه في ألوهيته، وهو كقوله :﴿ ثم لم تكن فتنتهم ﴾ الآية [ الأنعام : ٢٣ ] بقوله :﴿ يحلفون لكم ﴾ [ التوبة : ٩٦ ] أنكروا ما كان منهم، وأقسموا على ذلك.
وهذا يدل على أن الآية لا تضطر أهلها إلى قبول الآيات والتصديق لها لأنهم أنكروا أن يكونوا مشركين بعد ما عاينوا العذاب، وظهر لهم خطؤهم وكونهم على الباطل، ثم لم يمنعهم ما عاينوا من الكذب.
والثاني : قوله :﴿ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ﴾ ليس على الإنكار والجحود، ولكن لما رأوا أن عبادتهم الأصنام لم تنفعهم يومئذ، ولم تُغنهم عما نزل بهم، فقالوا عند ذلك :﴿ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ﴾ أي الذي كنا نعبده في الدنيا، كان باطلا، لم يك شيئا حين لم ينفعنا ذلك في هذا اليوم.
فإن كان تأويل الآية هذا فهذا يدل على أن قوله تعالى :﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ ﴿ من دون الله ﴾ بعد ما دخلوا النار.
وإن كان تأويله الأول على الإنكار والجحود فذلك يدل على أن القول قبل أن يدخلوا النار حين تشهد عليهم الجوارح، وذلك يقرر قوله :﴿ ادخلوا أبواب جهنم ﴾ [ غافر : ٧٦ ] والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴾ أي هكذا يضل الله من علم منه اختيار الكفر والضلال يضله، وهو كقوله :﴿ ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ﴾ [ التوبة : ١٢٧ ] أي إذ علم منهم اختيار الانصراف صرفهم، وكذلك قوله :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ [ الصف : ٥ ] أي إذ علم منهم أنهم يختارون الزّيْغ أزاغهم، والله أعلم.

والثاني: قوله: (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا...) ليس على الإنكار والجحود، ولكن لما رأوا أن عبادتهم الأصنام لم تنفعهم يومئذ ولم تغنهم عما نزل بهم فقالوا عند ذلك: بل لم نكن ندعو شيئًا من قبل، أي: الذي كنا نعبده في الدنيا كان باطلا، لم يك شيئًا؛ حيث لم ينفعنا ذلك في هذا اليوم.
فإن كان تأويل الآية هذا، فهذا يدل على أن قوله: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) بعدما دخلوا النار.
وإن كان تأويله الأول على الإنكار والجحود، فذلك يدل على أن ذلك القول قبل أن يدخلوا النار حين يشهد عليهم الجوارح، وذلك يقرر قوله: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ)، والله تعالى أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ).
أي: هكذا يضل اللَّه من علم منه اختيار الكفر والضلال يضله؛ وهو كقوله: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، أي: إذ علم منهم اختيار الانصراف صرفهم، وكذلك قوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، أي: إذ علم منهم أنهم يختارون الزيغ أزاغهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥)
أي: ذلك جزيتكم من النار بما كنتم تسرون في الدنيا بالباطل؛ إذ هم كانوا كذلك في الدنيا يفرحون ويسرون على كونهم على الباطل.
وقيل: (تَفْرَحُونَ) أي: تبطرون، لكن هو على الفرح والرضاء بما اختاروا لأنفسهم.
وقوله: (وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ).
أي: وبما كنتم تتكبرون، كذلك كانوا يسرون ويرضون بكونهم على الباطل، وينكرون بذلك على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين، والمرح: التكبر؛ وهو كقوله: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا)، أي: تكبرًا.
وقوله: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦).
قد ذكرناه فيما تقدم.
* * *
قوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ
الآية ٧٦ وقوله تعالى :﴿ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ ﴾ الآية، وقد ذكرنا في ما تقدم.
لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ. اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
وقوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ... (٧٧)
قد ذكرنا هذا أيضًا.
وقوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ).
كأنه كان يتوقع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نزول ما وعد لهم ويخطر ذلك بباله، ويطمع ذلك، فنهاه عن توقع نزول العذاب الذي وعد للكفرة في الوقت الذي يطمع فيه، وعن الخطر بباله النصر له وإهلاك أُولَئِكَ في الوقت الذي يتوقع، كأنه يقول: إن شئنا أريناك بعض الذي نعدهم، وإن شئنا توفيناك ولم نرك شيئًا؛ وهو كقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)، وإلا ظاهر قوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) حرف شك لا يحتمل ذلك من اللَّه تعالى؛ إذ هو يعلم أنه يفعل ذا أو لا يفعل، أو يكون ذا أو لا يكون، لكن الوجه فيه ما ذكرنا: أنه كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يطمع نزول ما وعد، ويحدث نفسه بذلك، فيقول له: ليس ذلك إليك، إنما ذلك إلينا على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " هذه الآية من المكتوم؛ لأن ظاهره شك ".
وفي الآية دلالة الرسالة؛ لأنها خرجت مخرج العتاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والتوبيخ له (١)، ثم أظهر ذلك على الناس، والسبيل في مثله في عرف الناس الإخفاء والإسرار عن الناس؛ فدل أنه إنما أظهر عليهم للأمر بالتبليغ، وكذلك في قوله - تعالى -: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)؛ إذ المرء لا يظهر مثل ذلك من غير أمر وتكليف ممن وجب عليه طاعته، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) يقول: لست أنت بأول رسول أرسلت إليهم فاستعبدوك وأنكروك وكذبوك، بل قد أُرْسِلَ إلى الأمم السالفة رسل مثل ما أرسلت أنت إلى هَؤُلَاءِ.
وقوله: (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ).
في الآية دلالة: أنا لم نؤخذ بمعرفة أعين الرسل وأساميهم على التعيين، كما أنا لا نؤخذ بالإيمان باللَّه - تعالى - بجميع ما جاء منه على التفصيل والتعيين بأساميهم؛ لكن على الجملة، وعلى هذا قلنا: إن الإيمان برسول واحد إيمانٌ بجميع الرسل؛ إذ المرء
(١) عبارة فيها إساءة أدب. (مصحح النسخة الإلكترونية).
الآية ٧٨ وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ ﴾ يقول : لست أنت بأول رسول أرسلت إليهم، فاستعبدوك وأنكروك، وكذّبوك، بل قد أرسل إلى الأمم السالفة رسل مثل ما أرسلت أنت إلى هؤلاء.
وقوله تعالى :﴿ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ في الآية دلالة أنا لم نؤخذ بمعرفة أعين الرسل وأساميهم على التعيين كما أنا لا نؤخذ بالإيمان بالله تعالى [ بجميع ما جاء منه على التفصيل والتعيين بأساميهم لكن على الجملة.
وعلى هذا قلنا إن الإيمان برسول واحد إيمان بجميع الرسل ؛ إذ لم يؤخذ منه الإنكار لغيره على الجملة والتعيين، وكذلك الإيمان بالله تعالى ]١ إيمان بالرسل جميعا، لأن الإيمان بالله إيمان بأمره ونهيه، فيكون إيمانا بمن جاء الأمر والنهي على يده، والله الموفّق.
وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ كأنهم سألوه أن يأتي بآية بعد آية على إثر آية أخرى، فقال عند سؤالهم ذلك ﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ أي ليس لرسول أن يأتي بالآية على شهوته أو على شهوة السائل.
وهذه الآية تدل على نقض قول الباطنية، فإنهم يقولون : إن أنفس الرسل جواهر روحانية يأتون [ بالآيات حين يشاؤون ]٢ من غير إذن من الله تعالى ومن غير سؤال عنها إياهم٣ في وقت الإتيان.
ولو كان الأمر على ما قالوا لم يكن لقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ معنى، وإنه مخالف للآية، فإن فيها إخبارا أنه لا يأتي الرسل بالآيات إلا بإذن من الله تعال، والله الموفّق.
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ أي إذا جاء الأمر بعذاب الله، وإذا جاء الأمر بموعود الله، يعبّر بالأمر عن الموعود الذي أوعدوا، وقد ذكرنا معنى الخسران في ما تقدم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل وم: بها الآية حيث شاؤوا..
٣ في الأصل وم: إياه..
يوجد منه الإنكار لغيره على الجملة أو التعيين، وكذلك الإيمان باللَّه تعالى إيمان بالرسل جميعًا؛ لأن الإيمان باللَّه إيمان بأمره ونهيه؛ فيكون إيمانًا بمن جاء الأمر والنهي على يده، واللَّه الموفق.
وقوله: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ).
كأنهم سألوه أن يأتي بآية بعد آية على أثر آية أخرى، فقال عند سؤالهم ذلك: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: ليس لرسول أن يأتي بالآية على شهوته أو على شهوة السائل.
وهذه الآية تدل على نقض قول الباطنية؛ فإنهم يقولون: إن أنفس الرسل جواهر روحانية يأتون بها الآية حيث شاءوا وكيف شاءوا، فكان للرسل عندهم بسبب الجواهر الروحانية التي فيهم - قدرةُ إتيانِ الآيات كيف شاءوا من غير إذن من اللَّه تعالى، ومن غير سؤال منهم إياه في وقت الإتيان، ولو كان الأمر على ما قالوا لم يكن لقوله: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) معنى، وأنه مخالف للآية؛ فإن فيها إخبارًا: أنه لا يأتي الرسل بالآيات إلا بإذن من اللَّه تعالى، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ).
أي: إذا جاء الأمر بعذاب اللَّه، أو إذا جاء الأمر بموعود اللَّه، يعبر بالأمر عن الموعود الذي أوعدوا، وقد ذكرنا معنى الخسران فيما تقدم.
وقوله: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩)
ذكرهم بهذه الآية وبالآية التي تقدم ذكرها لوجهين:
أحدهما: يذكرهم النعمة التي أنعمها عليهم حيث قال: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)، وقال: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)، ثم قال هاهنا: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)، ذكرهم أولا بدء إنشائهم حيث خلقهم من تراب ثم من نطفة... إلى آخر ما ذكر.
وفيه دلالة وحدانيته وعلمه وتدبيره وقدرته، ثم ذكرهم من بعد نعمه... إلى آخره؛ يستأدي بذلك شكره وحمده على ذلك، هذا وجه.
والثاني: يذكرهم أنه إنما أنشأ هذه الأشياء التي ذكرها وعدّها عليهم للبشر، لم ينشئها
الآية ٨٠ فذلك قوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾.
لأنفسها، كأنه يقول - واللَّه أعلم -: قد أنشأت هذه الأشياء لكم تنتفعون بها وتستعملونها كيف شئتم، فما بالكم أشد إنكارًا وكفرًا بالنعمة من غيركم من العالم، وسائر العالم أشد خضوعًا واستسلامًا لنعمه والقيام بشكرها له؟!
ثم في الآية نقض قول المعتزلة؛ لأنهم يقولون: ليس لله تعالى أن يؤلم طفلا ونعما إلا بعوض يعوضها، ثم لا شك أن ما سخر من الأنعام والدواب للبشر، ومكن لهم استعمالها والانتفاع بها أنواع المنافع؛ أنها تتأذى وتتألم بذلك؛ فيجب على قولهم: ألا يكون لله تعالى أن يؤلم إلا بعوض ترضى به هذه الأشياء؛ إذ هكذا حكم كل مجعول بعوض أن يشترط رضا أربابها في العوض، وإذا لم تكن هذه الأشياء من أهل الرضاء بحيث ألا يجوز التعويض؛ فدل أن ذلك بناء على ما قلنا من أن الأصلح ليس بواجب، واللَّه الموفق.
ثم جعل منافعها مختلفة منها الركوب ومنها الأكل وغير ذلك من الانتفاع بصوفها ووبرها، وما أعطى لهم أيضًا من السفن يركبون بها البحار؛ ليصلوا إلى حوائجهم في الأمصار التي بعدت منهم ونأت؛ فضلا منه ومنة، فذلك قوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠).
وقوله: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
يحتمل أنه أراهم آيات وحدانيته وألوهيته، وأراهم آيات نعمه وإحسانه إليهم ونحوها، يقول: [فأي] آيات اللَّه التي أراكم تنكرونها أنها ليست من اللَّه تعالى.
* * *
قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (٨٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
قد ذكرنا معناه في غير موضع.
وقوله: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً).
الآية ٨٢ وقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ قذ ذكرنا معناه في غير موضع.
وقوله تعالى :﴿ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً ﴾ أي كانوا أكثر عددا منكم وأشد في القوة والبطش.
وقوله تعالى :﴿ وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ ﴾ أي أكثر أعمالا منكم، ثم كانت عاقبتهم الهلاك والاستئصال.
وقوله تعالى :﴿ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ يقول : لم يغن عنهم كثرة العدد والحشم والأموال، ولا قوة الأبدان في دفع العذاب عن أنفسهم. فأنتم يا أهل مكة أحق ألا تقدروا على دفع العذاب عن أنفسكم إذا نزل بكم مع ضعفكم وقلة عددكم، والله أعلم.
أي: كانوا أكثر عددًا منكم وأشد في القوة والبطش.
وقوله: (وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ).
أي، أكثر أعمالا منكم، ثم كانت عاقبتهم الهلاك والاستئصال.
وقوله: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
يقول: لم يغن عنهم كثرة العدد والحشم والأموال، ولا قوة الأبدان في دفع العذاب عن أنفسهم، فأنتم -يا أهل مكة- أحق ألا تقدروا على دفع العذاب عن أنفسكم إذا نزل بكم مع ضعفكم وقلة عددكم! واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٨٣)
يحتمل قوله: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) وجهين:
أحدهما: أي: فرحوا بما عندهم أنه علم وليس هو في الحقيقة علمًا، لكن عندهم أن ذلك علم؛ وهو كقوله: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)، أي: انظر إلى إلهك الذي هو عندك إله، وإلا لم يكن ذلك عند موسى - عليه السلام - إلها، لكنه ذكر على ما عند ذلك الرجل للتعريف؛ فعلى ذلك قوله: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي: بما عندهم أنه علم وإن لم يكن في الحقيقة علمًا، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل أن يكون على حقيقة العلم، وذلك من أهل الكتاب؛ قد كان من أهل الكتاب الإيمان بما عندهم من الكتاب، وهو على الحقيقة علم لا شك فيه، لكنهم لما كذبوا غيره من الكتب والعلوم وكفروا بها، لم ينفعهم إيمانهم بما عندهم من العلم؛ كقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ..)، كان إيمانهم بما أنزل إليهم حقًّا، لكنهم لما كفروا بغيره أبطل ذلك الكفر إيمانهم بالذي أنزل إليهم؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).
أي: يحويهم العذاب بما كانوا يستهزئون بالرسل.
وقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) يحتمل هذا وجهين:
يحتمل أن يكون هذا القول منهم وما ذكر من الإيمان منهم إذا رأوا بأس اللَّه - بعد وفاتهم في قبورهم، أي: عذاب اللَّه، فإن كان التأويل هذا، فهذا يدل على عذاب القبر لمن شاء اللَّه تعالى في حقه العذاب، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل أن يكون ذلك منهم في حياتهم؛ حين رأوا بأس اللَّه في الدنيا آمنوا بما
الآية ٨٤ وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴾ يحتمل هذا وجهين :
[ أحدهما :]١ أن يكون هذا القول منهم وما ذكر من الإيمان منهم إذا رأوا بأس الله بعد وفاتهم في قبورهم أي عذاب الله. فإن كان التأويل هذا فهذا يدل على عذاب القبر لمن شاء الله تعالى في حقه العذاب، والله أعلم.
والثاني : يحتمل أن يكون ذلك منهم في حياتهم حين رأوا بأس الله في الدنيا آمنوا بما ذكروا.
فإن كان ذلك في الحياة فلم ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا، وقد تقدم ذكر هذا في سورة يونس٢ على الاستقصاء، والله أعلم.
١ في الأصل وم: يحتمل..
٢ في قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إن أتاكم عذابه﴾ إلى قوله ﴿أثم إذا ما وقع آمنتم به﴾ [الآيتان: ٥٠ و٥١]..
ذكروا، فإن كان ذلك في الحياة، فلم ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما قال اللَّه تعالى:
(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا (٨٥) وقد تقدم ذكر هذا في سورة يونس - عليه السلام - على الاستقصاء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ)،
ألا يقبل الإيمان عند رؤية بأس اللَّه ومعاينة عذابه.
والثاني: كذلك سنة اللَّه التي قد خلت في عباده من التعذيب والانتقام من مكذبي الرسل في الدنيا واستئصالهم، يخوف أهل مكة بما أنزل إليك؛ ليحذروا مثل صنيعهم.
وقوله: (وَخَسِرَ هُنَالِكَ):
أي: خسر عند ذلك الكافرون، واللَّه أعلم.
* * *
Icon