تفسير سورة الحجرات

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة الحجرات مدنية حروفها ألف وأربعمائة وستة وسيعون كلماتها ثلاثمائة وأربعون آياتها ثمان عشرة ).

(سورة الحجرات)
(مدنية حروفها ألف وأربعمائة وستة وسبعون كلماتها ثلاثمائة وأربعون آياتها ثمان عشرة)
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ١٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
155
القراآت:
لا تُقَدِّمُوا بالفتحات من التقدّم: يعقوب الحجرات بفتح الجيم:
يزيد. إخوتكم على الجمع: يعقوب وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَنابَزُوا ولِتَعارَفُوا بالتشديدات للإدغام: البزي وابن فليح ميتا مشدّدا: أبو جعفر ونافع يألتكم بالهمز: أبو عمرو وسهل ويعقوب وقد لا يهمز في رواية. الآخرون: بالحذف بما يعملون على الغيبة: ابن كثير.
الوقوف:
وَاتَّقُوا اللَّهَ ط عَلِيمٌ هـ ج لا تَشْعُرُونَ هـ لِلتَّقْوى ط عَظِيمٌ هـ لا يَعْقِلُونَ هـ خَيْراً لَهُمْ ط رَحِيمٌ هـ نادِمِينَ هـ رَسُولَ اللَّهِ ط وَالْعِصْيانَ ط الرَّاشِدُونَ هـ لأن فَضْلًا مفعول له وَنِعْمَةً ط حَكِيمٌ هـ بَيْنَهُما ج للشرط مع الفاء أَمْرِ اللَّهِ ج لذلك وَأَقْسِطُوا ط الْمُقْسِطِينَ هـ تُرْحَمُونَ هـ مِنْهُنَّ ج للعدول عن الغيبة إلى الخطاب بِالْأَلْقابِ ط بَعْدَ الْإِيمانِ هـ ج لابتداء الشرط مع احتمال وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما ذكر من اللمز والنبز الظَّالِمُونَ هـ مِنَ الظَّنِّ ز للابتداء بأن إلا إنه للتعليل أي لأن بَعْضاً ج فَكَرِهْتُمُوهُ ط وَاتَّقُوا اللَّهَ ط رَحِيمٌ هـ لِتَعارَفُوا ط أَتْقاكُمْ ط خَبِيرٌ هـ آمَنَّا ط قُلُوبِكُمْ ط شَيْئاً ط رَحِيمٌ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط الصَّادِقُونَ هـ فِي الْأَرْضِ ط عَلِيمٌ هـ أَسْلَمُوا ط إِسْلامَكُمْ ج لأن «بل» للإضراب عن الأول صادِقِينَ هـ وَالْأَرْضِ ط تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
لما بين محل النبي ﷺ وعلو منصبه بقوله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ إلى آخر السورة افتتح الآن بقوله لا تُقَدِّمُوا الآية. ففيه تأكيد لما ذكر هناك من وجوب إتباعه والإذعان له. والأظهر أن هذا إرشاد عام. وذكر المفسرون في أسباب النزول وجوها منها ما
روي عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبر أنه قدم ركب من بني تميم على النبي ﷺ فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّر القعقاع بن معبد وقال عمر: بل أمر الأقرع بن جابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك. فتماريا حتى
156
ارتفعت أصواتهما فأنزل الله الآية.
وقال الحسن والزجاج: نزلت في رجل ذبح الأضحية قبل الصلاة وقبل ذبح النبي ﷺ فأمره بإعادتها وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن تزول الشمس. وعند الشافعي يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة. وعن عائشة أنها نزلت في صوم يوم الشك. وروي أنها في القتال أي لا تحملوا على الكفار في الحرب قبل أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقدّم إما متعد وحذف المفعول للعموم حتى يتناول كل فعل وقول، أو ترك مفعوله كما في قوله «فلان يعطي ويمنع» لأن النظر إلى الفعل لا إلى المفعول كأنه قيل: يجب أن لا يصدر منكم تقدم أصلا في أيّ فعل كان. وإما لازم نحو بين وتبين بمعنى يؤيده قراءة يعقوب. قال جار الله: حقيقة قولهم «جلست بين يدي فلان» أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله حتى ينظر إليك من غير تقليب حدقة وذكر الله للتعظيم.
وفيه أن التقديم بين يدي رسول الله ﷺ كالتقديم بين يدي الله. قال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا. وقيل: معناه لا تخالفوا كتاب الله وسنة رسوله.
وعن الحسن في رواية أخرى: لما استقر رسول الله ﷺ بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدؤه بالمسألة حتى يكون هو المبتدئ
وَاتَّقُوا اللَّهَ في التقديم أو أمرهم بالتقوى ليحملهم على ترك التقدمة فإن المتقي حذر عن كل ما فيه تبعة وريب إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بنياتكم وأفعالكم. ثم أعاد النداء عليهم مزيدا للتنبيه، وفيه نوع تفصيل بعد إجمال وتخصيص بعد تعميم.
وعن ابن عباس أن ثابت ابن قيس بن شماس كان في أذنه وقر وكان جهوريّ الصوت وكان يتأذى رسول الله ﷺ بصوته إذا كلمه، فحين نزلت الآية فقد ثابت فتفقده رسول الله ﷺ فاعتذر بأنه رجل جهير الصوت يخاف أن تكون الآية نزلت فيه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة.
وعن الحسن: نزلت في المنافقين كانوا يرفعون بأصواتهم فوق صوت رسول الله ﷺ استخفافا واستهانة وليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهى المؤمنون عن ذلك. وعلى هذا فإما أن يكون الإيمان أعم من أن يكون باللسان أو به وبالقلب، وإما أن يكون الإيمان حقيقة فيكون تأديبا للمؤمنين الخلص حتى يكون حالهم بخلاف حال أهل النفاق، ويكون كلامهم لرسول الله ﷺ أخفض من كلامه لهم رعاية لحشمته وصيانة على مهابته. قوله وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ أي جهرا مثل جهر بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ قيل: تكرار للمعنى الأوّل لأجل التأكيد فإن الجهر هو رفع الصوت والجمهور على أن بين النهيين فرقا. ثم اختلفوا فقيل: الأول فيما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر. والثاني فيما إذا سكت
157
ونطقوا فنهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه فيما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوّة. وقيل:
النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا ينادي وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضهم لبعض فلا يقال: يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم ولكن يا نبي الله يا رسول الله. ثم علل كلا من النهيين بقوله أَنْ تَحْبَطَ أي كراهة حبوط أعمالكم وذلك أن الرفع والجهر إذا كان عن استخفاف وإهانة كان كفرا محبطا للأعمال السابقة. والمفعول له يتعلق بالفعل الأول في الظاهر عند الكوفيين وبالعكس عند البصريين. وجوز في الكشاف أن يقدر الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول له كأنهما شيء واحد ثم يصب عليهما الفعل جميعا صبا واحدا، والمعنى أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط لأنه كان بصدد الأداء إليه فجعل كأنه سبب في إيجاده كقوله لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨] وفي قوله وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به. ومثله قول الحكيم: إن كلا من الأخلاق الفاضلة والرذيلة تكون أوّلا حالا ثم تصير ملكة راسخة وعادة مستمرة. ومنه قول أفلاطون: لا تصحب الشرير فإن طبعك يسرق وأنت لا تدري. فالعاقل من يجتهد في الفضائل أن تصير ملكات، وفي الرذائل أن تزول عنه وهي أحوال.
قال ابن عباس: لما نزلت الآية قال أبو بكر: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا السرار أو كأخي السرار حتى ألقى الله فأنزل الله فيه وفي أمثاله إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ
هو افتعل من المحنة وهو اختبار بليغ يقال: امتحن فلان لأمر كذا أي جرب له فوجد قويا عليه، أو وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحقق الشيء باختباره فكأنه قيل: عرف الله قلوبهم كائنة للتقوى فاللام متعلقة بالمحذوف كقولك: أنت لهذا الأمر. أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف لأجل التقوى وحصولها فيها سابقة ولا حقة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ لطاعتهم. وفي تنكير الوعد وغير ذلك من مؤكدات الجملة تعريض بعظم ما ارتكب غيرهم واستحقاقهم أضداد ما استحق هؤلاء. يروى أنه كان إذا قدم على رسول الله ﷺ وفد أرسل إليهم أبو بكر من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار. قال العلماء: إن النهي لا يتناول رفع الصوت الذي ليس باختيار المكلف كما مر في حديث ثابت بن قيس، ولا الذي نيط به صلاح في حرب أو جدال معاند أو إرهاب عدوّ.
ففي الحديث أنه ﷺ قال للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: أصرخ بالناس
وكان العباس أجهر الناس صوتا. وفيه قال نابغة بني جعدة:
158
زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم
وأبو عروة كنية العباس. زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيشق مرارة السبع في جوفه. ويروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه فأسقطت الحوامل لشدّة صوته. ثم علمهم أدبا أخص فقال إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أي من جانب البر والخارج مناداة الأجلاف بعضهم لبعض. والحجرة البقعة التي يحجرها المرء لنفسه كيلا يشاركه فيها غيره من الحجر وهو المنع «فعلة» بمعنى مفعولة، وجمعت لأن كلا من أمهات المؤمنين لها حجرة. روي أن وفدا من بني تميم قدم على النبي ﷺ وهو سبعون رجلا منهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن. فدخلوا المسجد ونادوا النبي ﷺ من خارج حجراته كأنهم تفرقوا على الحجرات أو أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها أو نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالا له صلى الله عليه وسلم. والفعل وإن كان مستندا إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم لأن رضا الباقين به كالتولي له.
وحكى الأصم أن الذي ناداه عيينة والأقرع قالا: أخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين منا شين. فتأذى رسول الله ﷺ من ذلك فخرج إليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين. فقال لهم: فيم جئتم؟ فقالوا: جئنا بخطيبنا وشاعرنا نفاخرك ونشاعرك. فقال: ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا. فقام خطيبهم فخطب وقام شاعرهم وأنشد فأمر النبي ﷺ ثابت بن قيس فقام وخطب وأمر حسانا فقام وأنشد. فلما فرغوا قام الأقرع وقال: والله ما أدري ما هذا، تكلم خطيبنا وكان خطيبهم أحسن قولا، وأنشد شاعرنا وكان شاعرهم أشعر. ثم دنا من رسول الله ﷺ وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله.
وعن زيد بن أرقم أنهم قالوا: نمتحنه فإن يكن ملكا عشنا في جنابه، وإن يكن نبيا كان أولى بأن نكون أسعد الناس به. وقيل: إنهم وفدوا شافعين في أسرى بني العنبر. أما إخبار الله تعالى عنهم بأن أكثرهم لا يعقلون فإما لأن الأكثر أقيم مقام الكل على عادة الفصحاء كيلا يكون الكلام بصدد المنع، وإما لأن الحكم بقلة العقلاء فيهم عبارة عن العدم فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم، وإما لأن فيهم من رجع وندم على صنيعه فاستثناه الله تعالى. وإنما حكم عليهم بعدم العقل لأنهم لم يعقلوا أن هذا النحو من النداء خارج عن قانون الأدب ومنبئ عن عدم الوقار والأناة ولا سيما في حق النبي ﷺ فإنه لم يكن يحتجب عن الناس إلا عند الخلوة والاشتغال بمهامّ أهل البيت فلذلك قال وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ وفائدة قوله إِلَيْهِمْ أنه لو خرج لا لأجلهم لزمهم الصبر إلى أن يكون خروجه إليهم لأجلهم لَكانَ
159
الصبر خَيْراً لَهُمْ في دينهم وهو ظاهر وفي دنياهم بأن ينسبوا إلى وفور العقل وكمال الأدب. وقيل: بإطلاق أسرائهم جميعا
فقد روي أن النبي ﷺ أطلق النصف وفادى النصف
وَاللَّهُ غَفُورٌ مع ذلك لمن تاب رَحِيمٌ في قبول التوبة.
سئل رسول الله ﷺ عن وفد بني تميم فقال: إنهم جفاة بني تميم ولولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم.
ويحكى عن أبي عبيدة وهو المشهور بالعلم والزهادة وثقة الرواية أنه قال: ما وقفت بباب عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه. ثم أرشدهم إلى أدب آخر فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ وقد أجمع المفسرون على
أنها نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله ﷺ إلى بني المصطلق مصدقا وكان بينهما إحنة، فلما سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم خافهم فرجع فقال: إن القوم هموا بقتلي ومنعوا صدقاتهم. فهم النبي ﷺ بغزوهم، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فاتهمهم النبي ﷺ وقال:
لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم، ثم ضرب بيده على كتف علي رضي الله عنه فقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله.
وقيل:
بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع.
قال جار الله: في تنكير الفاسق والنبأ عموم كأنه قيل: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ فتوقفوا فيه واطلبوا البيان لأن من لا يتجافى جنس الفسوق لا يتجافى بعض أنواعه الذي هو الكذب.
والفسوق الخروج عن الشيء والانسلاخ منه فسقت الرطبة عن قشرها، ومن مقلوبه «فقست البيضة» إذا كسرتها وأخرجت ما فيها. ومن تقاليبه أيضا «قفست الشيء» بتقديم القاف إذا أخرجته من يد مالكه غصبا. والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه. واختبر لفظة «إن» التي هي للشك دون «إذا» تنبيها على أنه ﷺ ومن معه بمنزلة لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب إلا على سبيل الفرض والندرة، فعلى المؤمنين أن يكونوا بحيث لا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور. ثم علل التبين بقوله أَنْ تُصِيبُوا أي كراهة إصابتكم قَوْماً حال كونكم جاهلين بحقيقة الأمر. والندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك متمنيا أنه لم يقع ولا يخلو من دوام وإلزام. ومن مقلوباته «أدمن الأمر» إذا دام عليه. ومدن بالمكان أقام به. قال الأصوليون من الأشاعرة: إن خبر الواحد العدل يجب العمل به لأن الله تعالى أمر بالتبين في خبر الفاسق، ولو تبينا في خبر العدل لسوّينا بينهما. وضعف بأنه من باب التمسك بالمفهوم. واتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لأن باب الشهادة أضيق من باب التمسك بمفهوم الخبر. وأكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول الله ﷺ فصار
160
فاسقا بكذبه. وقيل: إن الوليد لم يقصد الكذب ولكنه ظن حين اجتمعوا لإكرامه أن يكونوا هموا بقتله. ولقائل أن يقول: لفظ القرآن وسبب النزول يدل على خلافه. نعم لو قيل: إنه تاب بعد ذلك لكان له وجه. ثم أرشدهم إلى أمر آخر قائلا وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ وليس هذا الأمر مقصودا بظاهره لأنه معلوم مشاهد فلا حاجة إلى التنبيه عليه، وإنما المراد ما يستلزم كونه فيهم كما يقال لمن يغلط في مسألة أو يقول فيها برأيه: اعلم أن الشيخ حاضر. ثم قيل: المراد لا تقولوا الباطل والكذب فإن الله يخبره ويوحي إليه. وقيل: أراد أن الرأي رأيه فلا تعدوا رأيه وقد صرح بهذا المعنى في قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ لوقعتم في العسر والمشقة والحرج لأنه أعلم منكم بالحنيفية السهلة السمحاء، ومن جملة ذلك قصة الوليد فإنه لو أطاعه وقبل قوله لقتل وقتلتم وأخذ المال وأخذتم فاتهمتم.
قال جار الله: الجملة المصدّرة بلو ليس كلاما مستأنفا لاختلال النظم حينئذ ولكنها حال من أحد الضميرين في فِيكُمْ وهو المستتر المرفوع أو البارز المجرور. والمعنى أن فيكم رسول الله على حالة يجب تغييرها وهي أنكم تطلبون منه اتباع آرائكم. قلت: قد ذكرنا في وجه النظم بيانا آخر. ثم قال: فائدة تقديم خبر «أن» هو أن يعلم أن التوبيخ ينصب إلى هذا الغرض. وفائدة قوله يُطِيعُكُمْ بلفظ الاستقبال الدلالة على ما أرادوه من استمرار طاعته لهم وأنه لا يخالفهم في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء. وفي قوله فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ، وفيه أيضا تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب. ويمكن أن يكون إشارة إلى تصويب رأي بعضهم لا إلى تصويب بعض رأيهم فقد قيل: إن بعضهم زينوا لرسول الله ﷺ الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد، وبعضهم كانوا يرون التحلم عنهم إلى أن يتبين أمرهم، وقد أشار إلى هذا البعض بقوله وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أي إلى بعضكم وإلا لم يحسن الاستدراك يعني ب لكِنَّ فإن من شرطه مخالفة ما بعده لما قبله. فلو كان المخاطبون في الطرفين واحدا لم يكن للاستدراك معنى بل يؤدّي إلى التناقض لأنه يكون قد أثبت لهم في ثاني الحال محبة الإيمان وكراهة العصيان، وذكر أوّلا أنه توجب إجابتهم الوقوع في العنت. قال أهل اللغة: الطاعة موافقة الداعي غير أن المستعمل في حق الأكابر الإجابة، وفي حق الأصاغر الطاعة، وقد ورد القرآن على أصل اللغة. استدلت الأشاعرة بقوله حَبَّبَ وكَرَّهَ على مسألة خلق الأفعال. وحملها المعتزلة على نصب الأدلة أو اللطف والتوفيق أو الوعد والوعيد. والمعنى ولكن الله حبب إليكم الإيمان فأطعتموه فوقاكم العنت والكفر واضح. وأما الفسوق والعصيان فقيل: الأوّل الكبائر والثاني
161
الصغائر. ويحتمل أن يكون الكفر مقابل التصديق بالجنان، والفسوق مقابل الإقرار باللسان لأن الفسق هاهنا أمر قولي بدليل قوله إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ سماه فاسقا لكذبه والعصيان مقابل العمل بالأركان أُولئِكَ البعض المتبينون هُمُ الرَّاشِدُونَ وهذه جملة معترضة.
وقوله فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً كل منهما مفعول له والعامل فيهما حَبَّبَ وكَرَّهَ ويجوز أن يكونا منصوبين عن الراشدين لأن الرشد عبارة عن التحبيب والتكريه المستندين إلى الله، فكأن الرشد أيضا فعله فاتحد الفاعل في الفعل والمفعول له بهذا الاعتبار. ويجوز أن يكونا مصدرين من غير لفظ الفعل وهو الرشد فكأنه قيل: فأولئك هم الراشدون رشدا لأن رشدهم إفضال وإنعام منه. قال بعض العلماء: الفضل بالنظر إلى جانب الله الغنيّ، والنعمة بالنظر إلى جانب العبد الفقير وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الخلق وما بينهم من التمايز والتفاضل حَكِيمٌ في تدابيره وأفضاله وأنعامه.
ثم علمهم حكما آخر.
في الصحيحين عن أنس أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبيّ. فانطلق إليه على حمار وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فبال الحمار فقال: إليك عني فو الله لقد آذاني نتن حمارك. فقال عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
جمع لأن الطائفتين في معنى القوم، أو الناس، أو لأن أقل الجمع اثنان فرجع إليهم رسول الله ﷺ فأصلح بينهم. وعن مقاتل: قرأها عليهم فاصطلحوا. وقال ابن بحر: القتال لا يكون بالنعال والأيدي وإنما هذا في المنتظر من الزمان. والطائفة الجماعة وهي أقل من الفرقة لقوله فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: ١٢٢] وارتفاعها بمضمر دل عليه ما بعده أي إن اقتتلت طائفتان واختير «أن» دون «إذا» مع كثرة وقوع القتال بين المؤمنين ليدل على أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادرا وعلى سبيل الفرض والتقدير، ولهذه النكتة بعينها قال طائِفَتانِ ولم يقل «فريقان» تحقيقا للتقليل كما قلنا. وفي تقديم الفاعل على الفعل إشارة أيضا إلى هذا المعنى لأن كونهما طائفتين مؤمنين يقتضي أن لا يقع القتال بينهما ولهذا اختير المضيّ في الفعل ولم يقل يقتتلون لئلا ينبئ عن الاستمرار.
وفيه أيضا من التقابل ما فيه. وإنما قدم الفعل في قوله إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ليعلم أن المجيء بالنبإ الكاذب يورث كون الجائي به فاسقا سواء كان قبل ذلك فاسقا أم لا، ولو أخر الفعل لم تتناول الآية إلا مشهور الفسق قبل المجيء بالنبإ. قال بعض العلماء: إنما
162
قال اقْتَتَلُوا على الجمع ولم يقل «فأصلحوا بينهم» لأن عند القتال يكون لكل منهم فعل برأسه، أما عند العود إلى الصلح فإنه تتفق كلمة كل طائفة وإلا لم يتحقق الصلح فكان كل من الطائفتين كنفس واحدة فكانت التثنية أقعد. والبغي الاستطالة وإباء الصلح، والفيء الرجوع وبه سمي الظل لأنه يرجع بعد نسخ الشمس، أو لأن الناس يرجعون إليه، والغنيمة لأنها ترجع من الكفار إلى المسلمين. ومعنى قوله إِلى أَمْرِ اللَّهِ قيل: إلى طاعة الرسول أو من قام مقامه من ولاة الأمر بقوله أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: ٥٩] وقيل: إلى الصلح لقوله وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال: ١] وقيل: إلى أمر الله بالتقوى فإن من خاف الله حق خشيته لا تبقى له عداوة إلا مع الشيطان. وإنما قال فَإِنْ بَغَتْ ولم يقل «فإذا» بناء على أن بغي إحداهما مع صلاح الأخرى كالنادر، وكذا قوله فَإِنْ فاءَتْ لأن الفئة الباغية مع جهلها وعنادها وإصرارها على حقدها كالأمر النادر نظيره قول القائل لعبده: «إن مت فأنت حر». مع أن الموت لا بد منه وذلك لأن موته بحيث يكون العبد حيا باقيا في ملكه غير معلوم.
واعلم أن الباغية في اصطلاح الفقهاء فرقة خالفت الإمام بتأويل باطل بطلانا بحسب الظن لا القطع، فيخرج المرتد لأن تأويله باطل قطعا، وكذا الخوارج وهم صنف من المبتدعة يكفرون من أتى بكبيرة ويسبون بعض الأئمة. وهكذا يخرج مانع حق الشرع لله أو للعباد عنادا لأنه لا تأويل له. ولا بد أن يكون له شوكة وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي.
والأكثرون على أن البغاة ليسوا بفسقة ولا كفرة لقوله تعالى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
وعن عليّ رضي الله عنه: إخواننا بغوا علينا
ولكنهم يخطؤن فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل كما وقع للخارجة عن عليّ رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص لمواطأته إياهم. وكما قال مانعو الزكاة لأبي بكر: أمرنا بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا وصلاة غير النبي ﷺ ليست بسكن لنا. واتفقوا على أن معاوية ومن تابعه كانوا باغين
للحديث المشهور «إن عمارا تقتله الفئة الباغية» «١»
وقد يقال:
إن الباغية في حال بغيها ليست بمؤمنة وإنما سماهم المؤمنين باعتبار ما قبل البغي كقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة: ٥٤] والمرتد ليس بمؤمن
(١) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب ٦٣ مسلم في كتاب الفتن حديث ٧٠ الترمذي في كتاب المناقب باب ٣٤ أحمد في مسنده (٢/ ١٦١)
163
بالاتفاق. أما الذي يتلفه العادل على الباغي وبالعكس في غير القتال فمضمون على القاعدة الممهدة في قصاص النفوس وغرامة الأموال، وأما في القتال فلا يضمن العادل لأنه مأمور بالقتال ولا الباغي على الأصح، لأن في الوقائع التي جرت في عصر الصحابة والتابعين لم يطلب بعضهم بعضا بضمان نفس ومال، ولأنه لو وجبت الغرامة لنفرهم ذلك عن العود إلى الطاعة. والأموال المأخوذة في القتال تردّ بعد انقضاء الحرب إلى أربابها من الجانبين.
والمراد من متلف القتال ما يتلف بسبب القتال ويتولد منه هلاكه حتى لو فرض إتلاف في القتال من غير ضرورة القتال كان كالإتلاف في غير القتال، والذين لهم تأويل بلا شوكة لزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال وإن كان على صورة القتال، وحكمهم حكم قطاع الطريق إذا قاتلوا، ولو أسقطنا الضمان لأبدت كل شرذمة من أهل الفساد تأويلا وفعلت ما شاءت وفي ذلك إبطال السياسات، ولهذه النكتة قرن بالإصلاح. والثاني قوله بِالْعَدْلِ لأن تضمين الأنفس والأموال يحتاج فيه إلى سلوك سبيل العدل والنصفة لئلا يؤدي إلى ثوران الفتنة مرة أخرى. واحتج الشافعي لوجوب الضمان إذا لم يكن قتال بأن ابن ملجم قتل عليا رضي الله عنه زاعما أن له شبهة وتأويلا فأمر بحبسه وقال لهم: إن قتلتم فلا تمثلوا به فقتله الحسن بن علي رضي الله عنه وما أنكر عليه أحد. وأما الذين لهم شوكة ولا تأويل فالظاهر عند بعضهم نفي الضمان وعند آخرين الوجوب. وأما كيفية قتال الباغين فإن أمكن الأسر لم يقتلوا، وإن أمكن الإثخان فلا يذفف عليه كدفع الصائل إلا إذا التحم القتال وتعسر الضبط. قوله وَأَقْسِطُوا أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين. قال أهل اللغة: القسط بالفتح والسكون الجور من القسط بفتحتين وهو اعوجاج في الرجلين. وعود قاسط يابس، والقسط بالكسر العدل والهمزة في أقسط للسلب أي أزال القسط وهو الجور. وحين بين إصلاح الخلل الواقع بين الطائفتين أراد أن يبين الخلل الواقع بين اثنين بالتشاتم والسباب ونحو ذلك فقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أي حالهم لا يعدو الأخوة الدينية إلى ما يضادّها فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ بإيصال المظلوم إلى حقه وبدفع إثم الظلم عن الظالم. والتثنية بحسب الأغلب، ويحتمل أن يقال: إنه شامل لما دون الطائفتين.
روي أن النبي ﷺ قال «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل»
وَاتَّقُوا اللَّهَ في سائر الأبواب راجين أن يرحمكم ربكم.
ثم شرع في تأديبات أخر. والقوم الرجال خاصة لقيامهم على الأمور.
قال جمهور المفسرين: إن ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنيه وقر وكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
164
أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول. فجاء يوما وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا. فقال له رجل: أصبت مجلسا فاجلس.
فجلس ثابت مغضبا ثم قال للرجل: يا فلان ابن فلانة يريد أمّا كان يعير بها في الجاهلية فسكت الرجل استحياء فنزلت.
وقيل: نزلت في الذين نادوا رسول الله ﷺ من وراء الحجرات واستهزؤا بالفقراء. وقيل: في كعب بن مالك قال لعبد الله: يا أعرابي. فقال له عبد الله: يا يهودي. وقيل: نزلت وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ في عائشة وقد عابت أم سلمة بالقصر. ويروى أنها ربطت حقويها بثوب أبيض وأسدلت طرفها خلفها وكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجر خلفها كأنه لسان كلب.
وعن عكرمة عن ابن عباس: أن صفية بنت حييّ أتت رسول الله ﷺ فقالت: إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد.
وتنكير القوم والنساء للبعضية أو لإفادة الشياع. وإنما لم يقل «رجل من رجل ولا امرأة من امرأة» زيادة للتوبيخ وتنبيها على أن السخرية قلما تصدر عن واحد ولكن ليشاركه في ذلك جمع من الحاضرين لأن ميل الطباع إلى التلهي والدعابة والازدراء بالضعفاء وأهل السآمة أكثريّ. وإنما لم يقل «رجل من امرأة» وبالعكس لأن سخرية الجنس من الجنس أكثر فاقتصر على ذلك والباقي فيه بالأولى. وقوله عَسى أَنْ يَكُونُوا كلام مستأنف ينبىء عن سبب النهي. عن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا. قوله سبحانه وَلا تَلْمِزُوا تأديب آخر واللمز الطعن باللسان. والمعنى حضوا أنفسكم بالانتهاء عن الطعن في أمثالكم من أهل هذا الدين ولا عليكم أن تعيبوا غير أهل دينكم. قيل: اللمز والسب خلف الإنسان، والهمز العيب في وجهه الإنسان. وقيل: بل الأمر بالعكس لأن من تقاليب همز هزم، وهو يدل على البعد، ومن مقلوب اللمز اللزم وهو يدل على القرب فيشمل العيب بالإشارة أيضا. قوله وَلا تَنابَزُوا تأديب آخر والنبز بالسكون القذف بالمكروه من الألقاب، واللقب من الأعلام ما دل على مدح أو ذم، والنبز بالفتح اللقب القبيح فهو أخص من اللقب كما أن اللقب أخص من العلم. وإنما قال وَلا تَنابَزُوا ولم يقل ولا تنبزوا على منوال وَلا تَلْمِزُوا لأن النبز لا يعجز الإنسان عن جوابه غالبا فمن ينبز غيره بالحمار كان لذلك الغير أن ينبزه بالثور مثلا ولا كذلك اللمز فإن الملموز كثيرا ما يغفل عن عيب اللامز فلا يحضره في الجواب شيء فيقع اللمز من جانب واحد فقط. ثم أكد النهي عن التنابز بقوله بِئْسَ الِاسْمُ أي الذكر الْفُسُوقُ وفي قوله بَعْدَ الْإِيمانِ وجوه أحدها: استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول «بئس الشأن الصبوة
165
بعد الشيخوخة» أي معها. وثانيها بئس الذكر أن يذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه، وكانوا يقولون لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه. وثالثها أن يجعل الفاسق غير مؤمن كما يقال للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة «بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة» فمعنى بعد الإيمان بدلا عن الإيمان وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهي عنه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأن الإصرار على المنهي كفر إذ جعل المنهي. كالمأمور فوضع الشيء في غير موضعه قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ فيه تأديب آخر. ومعنى اجتنبوا كونوا منه في جانب. وإنما قال كَثِيراً ولم يقل الظن مطلقا لأن منه ما هو واجب كحسن الظن بالله وبالمؤمنين كما
جاء في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي» «١»
قال النبي ﷺ «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» «٢»
وقال «إن حسن الظن من الإيمان»
ومنه ما هو محظور وهو سوء الظن بالله وبأهل الصلاح.
عن النبي ﷺ «إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء».
وهو الذي أمر في الآية باجتنابه. ومنه ما هو مندوب إليه وهو إذا كان المظنون به ظاهر الفسق وإليه الإشارة
بقوله ﷺ «من الحزم سوء الظن»
وعن النبي ﷺ «احترسوا من الناس بسوء الظن»
ومنه المباح كالظن في المسائل الاجتهادية. قال أهل المعاني: إنما نكر كَثِيراً ليفيد معنى البعضية المصرح بها في قوله إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ولو عرّف لأوهم أن المنهي عنه هو الظن الموصوف بالكثرة والذي يتصف بالقلة مرخص فيه. والهمزة في الإثم عوض عن الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه.
تأديب آخر وَلا تَجَسَّسُوا وقد يخص الذي بالحاء المهملة بتطلب الخبر والبحث عنه كقوله فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف: ٨٧] فبالجيم تفعل من الجس، وبالحاء من الحس. قال مجاهد: معناه خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله.
عن النبي ﷺ أنه قال في خطبته «يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو كان في جوف بيته» «٣»
وهذا الأدب كالسبب لما قبله. فلما نهى عن ذلك نهى عن سببه أيضا. تأديب آخر وَلا يَغْتَبْ يقال غابه واغتابه بمعنى، والاسم الغيبة بالكسر وهي ذكر العيب بظهر الغيب،
وسئل
(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥، ٣٥ مسلم في كتاب التوبة حديث ١ الترمذي في كتاب الزهد باب ٥١ ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٨ الدارمي في كتاب الرقاق باب ٢٢ أحمد في مسنده (٢/ ٢٥١، ٣١٥)
(٢) رواه مسلم في كتاب الجنة حديث ٨١- ٨٢ أبو داود في كتاب الجنائز باب ١٣ ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١٤ أحمد في مسنده (٣/ ٢٩٣، ٣١٥)
(٣) رواه أحمد في مسنده (٤/ ٤٢١، ٤٢٤) [.....]
166
رسول الله ﷺ عنها فقال «أن تذكر أخاك بما يكره فإن كنت صادقا اغتبته وإن كنت كاذبا فقد بهته» «١»
ثم مثل ما يناله المغتاب من عرض صاحبه على أفظع وجه فقال أَيُحِبُّ إلى آخره. وفيه أنواع من المبالغة منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه، ومنها إسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ ففيه إشعار بأنه لا أحد يحب ذلك، ومنها تقييد المكروه بأكل لحم الإنسان، ومنها تقييد الإنسان بالأخ، ومنها جعل الأخ أو اللحم ميتا ففيه مزيد تنفير للطبع. وإنما مثل بالأكل لأن العرب تقول لمن ذكر بالسوء إن الناس يأكلون فلانا ويمضغونه، وفلان مضغة للماضغ. شبهوا إدارة ذكره في الفم بالأكل. والميت لمزيد التنفير كما قلنا، أو لأن الغائب كالميت من حيث لا يشعر بما يقال فيه. أما الفاء في قوله فَكَرِهْتُمُوهُ ففصيحة أو نتيجة لأنها للإلزام أي بل عافته نفوسكم فكرهتموه. أو فتحققت بوجوب الإقرار وبحكم العقل وداعي الطبع كراهتكم للأكل أو اللحم أو الميت فليتحقق أيضا أن تكرهوا لما هو نظيره وهي الغيبة. وقال ابن عباس: هي إدام كلاب الناس.
وعنه أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوما فبعثاه إلى رسول الله ﷺ فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فعند ذلك قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة «لبئر من آبار مكة» لغار ماؤها. فلما راحا إلى رسول الله ﷺ قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ فقالا: ما تناولنا لحما. فقال: إنكما قد اغتبتما فنزلت.
قلت:
قد تبين في الحديث أن في الآية مبالغة أخرى وهي أنه أراد باللحم الميت المدوّد المنتن المخضر، وقد عبر رسول الله ﷺ بالأمر الحسي عن الأمر المعنوي الذي أدركه بنور النبوّة منهما. واعلم أن الغيبة وإن كانت منهية إلا أنها مباحة في حق الفاسق.
ففي الحديث «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»
وروي «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واتقوا الله فيما نهاكم وتوبوا فيما وجد منكم».
وحين علم المؤمنين تلك الآداب الجميلة عمم الخطاب منعا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية.
قال بعض الرواة: إن ثابت بن قيس حين قال «فلان ابن فلانة» قال النبي صلى الله عليه وسلم: من الذاكر فلانة؟ فقام ثابت فقال: أنا يا رسول الله. فقال: انظر في وجوه القوم فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت؟ قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال: فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين، فأنزل الله هذه الآية.
وعن مقاتل: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي ﷺ بلالا حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد:
(١) رواه أحمد في مسنده ٢/ ٢٣٠، ٣٨٤، ٣٨٦) مسلم في كتاب البر حديث ٧٠ أبو داود في كتاب الأدب باب ٣٥ الترمذي في كتاب البر باب ٢٣ الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦.
167
الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحرث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء. فأتى جبريل عليه السلام فأخبره.
وأقول: الآية تزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.
ويروى أن رسول الله ﷺ رأي في سوق المدينة غلاما أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف النبي صلى الله عليه وسلم: فاشتراه رجل وكان رسول الله ﷺ يراه عند كل صلاة ففقده يوما فسأل عنه صاحبه فقال: محموم. فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقيل:
هو في ذمائه. فجاءه وتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت.
وقوله مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى فيه وجهان: أحد هما من آدم وحوّاء فيدل على أنه لا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة، والثاني كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين كالذباب والذئاب مثلا، لكن التفاوت بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين، لأن الكافر كالأنعام بل أضل، والمؤمن هو الناس وغيره كالنسناس.
والحاصل أن الشيء إما أن يترجح على غيره بأمر يلحقه ويترتب عليه بعد وجوده، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله. وهذا القسم إما أن يرجع إلى القابل أو إلى الفاعل كما يقال «كان هذا من النحاس وهذا من الفضة وهذا عمل فلان» فذكر الله سبحانه أنه لا ترجح بحسب الأصل القابل لأنكم كلكم من ذكر وأنثى، ولا بحسب الفاعل فإن الله هو خالقكم. فإن كان تفاوت فبأمور لاحقة وأحقها بالتمييز هو التقوى لما قلنا، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما، ولا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشي النسب قارونيّ النشب. ثم بين الحكمة التي من أجلها رتبهم على شعوب وقبائل وهي أن يعرف بعضهم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه فقال وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا أي ليقع بينكم التعارف بسبب ذلك لا أن تتفاخروا بالأنساب. قيل: الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. وقال جار الله: الشعب بالفتح الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب. أوّلها شعب وهي أعم سمي بذلك لأن القبيلة تنشعب منها، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة وهي الأخص مثال ذلك: خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة.
فائدة: لا ريب أن الخلق يستعمل في الأصول أكثر، والجعل يستعمل فيما يتفرع
168
عليه، ولهذ قال خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: ١] وقال في الآية خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ ولكنه قال في موضع آخر وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] فبين أن الأصل في الخلق والغرض الأقدم هو العبادة ليعلم منه أن اعتبار النسب وغيره مؤخر عن اعتبار العبادة فلهذا قال إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وفيه معنيان: أحد هما أن التقوى تفيد الإكرام عند الله. والثاني أن الإكرام في حكم الله يورث التقوى والأول أشهر كما يقال «ألذ الأطعمة أحلاها» أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة.
عن النبي ﷺ أنه طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال «الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها. يا أيها الناس إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم قرأ الآية»
وعنه ﷺ «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» «١»
قال ابن عباس: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بظواهركم خَبِيرٌ ببواطنكم وحق مثله أن يخشى ويتقى. وحين حث عموم الناس على تقواه وبخ من في إيمانه ضعف.
قال ابن عباس: إن نفرا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر، وأفسدوا طريق المدينة بالقذاة، وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله هذه الآيات.
أي قالوا آمنا بشرائطه فأطلع الله نبيه على مكنون ضمائرهم وقال: لن تؤمنوا إيمانا حقيقيا وهو الذي وافق القلب فيه اللسان. وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا يعني إسلاما لغويا وهو الخضوع والانقياد خوفا من القتل ودخولا في زمرة أهل الإيمان والسلم. ثم أكد النفي المذكور بقوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وفيه فائدة زائدة هي أن يعلم أن الإيمان متوقع منهم لأن «لما» حرف فيه توقع وانتظار. ثم حثهم على الطاعة بقوله وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ أي لا ينقصكم مِنْ ثواب أَعْمالِكُمْ شَيْئاً يعني الثواب المضاعف الموعود في نحو قوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: ١٦٠] ألت يألت بالهمز إذا نقص وهي لغة غطفان. يقال ألته السلطان حقه أشدّ الألت. ولغة أسد وأهل الحجاز لأته ليتا. وقال قطرب: ولته يلته بمعنى صرفه عن وجهه. فيكون يَلِتْكُمْ على وزن «يعدكم»، وعلى الوجه المتقدم على وزن «يبعكم». إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وأخلص نيته. ثم وصف المؤمنين المحقين بقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ومعنى «ثم» في قوله ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا كما في قوله رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: ٣٠] وارتاب مطاوع رابه
(١) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٥٢٤)
169
إذا أوقعه في الشك مع التهمة أي ثم لم يقع في قلوبهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لمن صدّقوه وذلك بتشكيك بعض شياطين الجن والإنس. وقال جار الله: وجه آخر لما كان زوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيها على مزيته وإشعارا بأنهم مستقرون على ذلك في الأزمنة المتطاولة غضا جديدا. وفي قوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ تعريض بأن المذكورين أولا كاذبون ولهذا قال قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إشارة إلى كذبهم في دعواهم ورب تعريض لا يقاومه التصريح. ثم أراد تجهيلهم بقوله قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ والباء قيل للسببية والأظهر أنه الذي في قولهم ما علمت بقدومك أي ما شعرت ولا أحطت به. وذكر في أسباب النزول أنه لما نزلت الآية الأولى جاءت هؤلاء الأعراب وحلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية. والاستفهام للتوبيخ أي كيف تعلمونه بعقيدتكم وهو عالم بكل خافية والتعليم إفادة العلم على التدريج والمعالجة؟ وقيل:
تعريض من لا يعلم بإفهام المعنى لأن يعلم قوله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ نزلت في المذكورين وفي أمثالهم. يقال: منّ عليه صنعه إذا اعتدّه عليه منة وإنعاما. قال أهل العربية: اشتقاق المنة من المن الذي هو القطع لأنه إنما يسدي النعمة إليه ليقطع بها حاجته لا غير من غير أن يعمل لطلب مثوبة وعوض. ثم قال بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ حيث هداكم للإيمان الذي ادّعيتموه. وفي إضافة الإسلام إليهم ازدراء بإسلامهم، وفي إيراد الإيمان مطلقا غير مضاف إشارة إلى الإيمان المعهود الذي يجب أن يكون المكلف عليه. وجواب الشرط محذوف أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء الإيمان الحقيقي فلله المنة عليكم. ثم عرض بأنهم غير صادقين فقال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الآية والمراد أنه لا يخفي عليه ضمائرهم والله أعلم بالصواب.
170
Icon