تفسير سورة سورة المائدة من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها عشرون و مائة
ﰡ
﴿ أوفوا بالعقود ﴾بالعهود المؤكدة، وهي ما ألزمه الله عباده وعقده عليهم من التكاليف، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود المعاملات والأمانات ونحوها، مما يطلب شرعا الوفاء به. والإيفاء والوفاء : الإتيان بالشيء وافيا. يقال : وفى ووفى و أوفى بمعنى. والعقود : جمع عقد، وأصله الربط محكما، تجوز به عن العهد الموثق، وهو المراد هنا. ﴿ أحل لكم بهيمة الأنعام ﴾البهيمة : اسم لذوات الأربع من دواب البر والبحر. والأنعام : الإبل والبقر والغنم، ولا يدخل فيها الحافر لغة. والإضافة للبيان، وهي بمعنى ﴿ من ﴾كخاتم فضة. وألحق بها في حل الأكل ما يماثلها في الاجترار وعدم الأنياب، كالظباء و بقر الوحش.
﴿ إلا ما يتلى عليكم ﴾أي إلا ما يتلى عليكم تحريمه في الآية الثالثة. ﴿ غير محلى الصيد وأنتم حرم ﴾أي أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها، غير مجوزين للاصطياد أو الانتفاع بالمصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة، سواء أكنتم في الحل أم في الحرم. يقال : أحرم فهو محرم وحرام و هم حرم. فإذا تحللتم من الإحرام حل لكم ذلك، لقوله تعالى :﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾. وفي حكم المحرم من كان في الحرم وليس محرما. و﴿ غير ﴾حال من الضمير في ﴿ لكم ﴾. و﴿ محلى ﴾ : جمع محل بمعنى مستحل. و﴿ الصيد ﴾مصدر بمعنى الاصطياد، أو اسم للحيوان المصيد. و جملة﴿ وأنتم حرم ﴾حال من الضمير في﴿ محلي ﴾.
﴿ لا تحلوا شعائر الله ﴾لا تنتهكوا حرمة أعلام دين الله و متعبداته في الحج وهي مناسكه. أو الأعمال الحجية التي جعلها الله علامة على طاعته والتسليم إليه. جمع شعيرة بمعنى العلامة( آية ١٥٣ البقرة ص ٥٣ ).
﴿ ولا الشهر الحرام ﴾ولا تحلوا الأشهر الحرم الأربعة بالقتال فيها، وهو عند الجمهور منسوخ بآية :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾. ﴿ ولا الهدي ﴾ولا تحلوا حرمة ما يهدي إلى البيت الحرام من الأنعام تقربا إلى الله تعالى بالتعرض له، ﴿ ولا الهدي ﴾ولا تحلوا حرمة ما يهدي إلى البيت الحرام من الأنعام تقربا إلى الله تعالى بالتعرض له، بنحو غصب أو سرقة أو حبس عن بلوغه محله.
﴿ ولا القلائد ﴾جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي ليعلم أنه مهدى إلى البيت الحرام فلا يتعرض له أحد بسوء. والمراد : لا تحلوا ذوات القلائد وهي البدن بالتعرض لها. وخصت بالذكر مع أنها من الهدي اعتناء بها، لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر. ﴿ ولا آمين البيت الحرام ﴾أي ولا تحلوا أذى قوم قاصدين البيت الحرام. جمع آم، من الأم وهو القصد المستقيم. والمراد بهم المشركون، وهو منسوخ بآية :﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ أو بآية السيف أو بهما.
﴿ يبتغون فضلا ﴾المراد منه : التجارة والمكاسب. ﴿ ورضوانا ﴾هو ما يطلبونه من الرضاء بزعمهم.
﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم ﴾لا يحملنكم بغضكم للمشركين من أجل صدهم إياكم عن المسجد الحرام يوم الحديبية على اعتدائكم عليهم انتقاما منهم، من جرمه على كذا حمله عليه. أولا يكسبنكم بغضكم لهم الاعتداء عليهم، من جرم بمعنى كسب، غير أنه يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه، ومنه الجريمة. وأصل الجرم قطع الثمرة من الشجرة، وأطلق على الكسب لأن الكاسب ينقطع لكسبه. والشنآن : البغض أو البغض المصحوب بتقزز. مصدر شنأه-كمنعه وسمعه-أي أبغضه.
﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ﴾أي على فعل الطاعات واجتناب المنكرات والمنهيات. ﴿ ولا تعاونوا على الإثم ﴾وهو ترك ما أمر الله بفعله، وفعل ما أمر بتركه. ﴿ والعدوان ﴾وهو مجاوزة حدود الله.
﴿ وما أهل لغير الله به ﴾ما ذكر على ذبحه غير اسمه تعالى، من صنم أو وثن أو طاغوت أو نحو ذلك ( آية ١٧٣ البقرة ص ٥٢٠ ). ﴿ والمنخنقة ﴾البهيمة التي تموت بالخنق، سواء أكان بفعلها كأن تدخل رأسها في موضع لا تستطيع التخلص منه فتموت، أم بفعل غيرها. ﴿ والموقوذة ﴾البهيمة التي تضرب بمثقل غير محدد، كخشب أو حجر حتى تموت، وكانوا في الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها. ﴿ والمتردية ﴾البهيمة التي تسقط من علو فتموت من التردي، مأخوذ من الردى بمعنى الهلاك.
﴿ والنطيحة ﴾التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح. يقال : نطحه ينطحه وينطحه، أصابه بقرنه.
﴿ وما أكل السبع ﴾أي ما بقي من الحيوان بعد أكل السبع منه﴿ إلا ما ذكيتم ﴾استثناء من التحريم، أي إلا ما أدركتم ذكاته من المنخنقة وما عطف عليها وفيه بقية حياة، يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه فإنه يحل، من التذكية و هي الإتمام. يقال : ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها. والمراد هنا : إتمام فري الأوداج و إنهار الدم والتفصيل في الفقه. ﴿ وما ذبح على النصب ﴾جمع نصاب، ككتب وكتاب. أو نصب، كسقف وسقف. أو واحد الأنصاب، وهي والنصب أحجاز نصبوها حول الكعبة، كانوا يذبحون عليها ويعظمونها و يلطخونها بالدماء، وهي غير الأصنام، إنما الأصنام المصورة المنقوشة. ﴿ وأن تستقسموا بالأزلام ﴾وأن تطلبوا علم ما قسم لكم في سفر أو غزو و نحو ذلك بواسطة الأزلام، وتسمى القداح، وهي سهام كانت لديهم في الجاهلية مكتوب على أحدها : أمرني ربي، وعلى الآخر : نهاني ربي، والثالث غفل من الكتابة، فإذا أرادوا شيئا من ذلك أتوا على بيت الأصنام و استقسموها، فإن خرج الآمر أقدموا على الأمر، وإن خرج الناهي أمسكوا عنه، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا حتى يخرج الآمر او الناهي. وواحد الأزلام : زلم، كجمل وصرد. ﴿ ذلكم فسق ﴾ أي الاستقسام بالأزلام. أو تناول جميع ماذكر من المحرمات خروج عن طاعة الله تعالى. ﴿ اليوم يئس الذين كفروا ﴾المراد به : يوم عرفة، وهو يوم الجمعة عام حجة الوداع. واليأس : انقطاع الرجاء، هو ضد الطمع. ﴿ من دينكم ﴾أي من إبطال أمر دينكم. ﴿ فمن اضطر في مخمصة ﴾أي فمن ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات في مجاعة شديدة ﴿ غير متجانف لإثم ﴾أي غير مائل إليه بأن يكون غير باغ ولا عاد فأكل فلا إثم عليه. والاضطرار : الوقوع في الضرورة. والمخمصة : خلو البطن من الغداء عند شدة الجوع. و﴿ متجانف ﴾من الجنف وهو الميل. يقال : جنف عن الحق كفرح –إذا مال عنه. وجنف عن طريقه-كفرح وضرب-جنفا و جنوفا، مال عنه.
﴿ وما علمتم من الجوارح ﴾وأحل لكم صيد ما دربتم على صيد من سباع البهائم، كالفهود والكلاب. وسباع الطير : كالصقور ونحوها مما يقبل التعليم والتدريب. وسميت جوارح لكسبها القوت لأصحابها من الصيد. يقال : جرح فلان أهله يجرح ويجترح، أي تكسب لعياله. ﴿ مكلبين ﴾أي مؤدبين ومعودين لها على الصيد، من الكلب بمعنى الضراوة. يقال : كلب الكلب يكلب واستكلب، ضرى وتعود أكل الناس. { و اذكروا اسم الله عليه أي على ما عملتم من الجوارح عند إرساله.
﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب ﴾أي وذبائحهم حلال لكم إذا ذكروا عليها اسم الله تعالى عند الذبح، فإن ذكروا اسم غيره قيل لا تحل. وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل، وهو قول الشعبي وعطاء قالا : فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
﴿ والمحصنات من المؤمنات... ﴾وأحل لكم العفائف من المؤمنات ومن الكتابيات. وخص المحصنات بهذا المعنى بالذكر للترغيب في نكاحهن، والحث على اختيارهن. ﴿ أجورهن ﴾أي مهورهن.
﴿ محصنين غير مسافحين ﴾أعفاء بالنكاح، غير مجاهرين بالزنا. يقال : سفح الماء يسفحه إذا صبه. ﴿ ولا متخذي أخذان ﴾أي صديقات للزنا بهن سرا جمع خدن وهو الصديق، يطلق على الذكر والأنثى( آية ٢٤ النساء ص ١٤٦ ).
﴿ قمتم إلى الصلاة ﴾أردتم القيام إليها وأنتم محدثون حدثا أصغر. ﴿ وأيديكم إلى المرافق{ أي واغسلوا أيديكم مع المرافق، وأرجلكم مع الكعبين. ف{ إلى ﴾ بمعنى مع، كما في قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا أمولاهم إلى أموالكم ﴾أي مع أموالكم . ﴿ وإن كنتم مرضى ﴾( آية ٤٣ النساء ص ١٥٢ ).
﴿ و ميثاقه الذي واثقكم به ﴾واذكروا عهد الله الذي عاهدكم عليه، وهو الميثاق الذي أخذه عليكم حين بايعتم الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبببتم وكرهتم في ليلة العقبة أو تحت الشجرة.
﴿ كونوا قوامين لله ﴾ليكن من دأبكم أن تقوموا الله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به، من العمل بطاعته واجتناب منهياته. ﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم ﴾( آية ٢ من هذه السورة ص ١٨٣ ).
﴿ اذكروا نعمة الله عليكم ﴾ تذكير بنعمة خاصة بعد التذكير بنعمة عامة، وهو إنجاؤهم من كيد أعدائهم. ﴿ أن يبسطوا إليكم أيديهم ﴾أي يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك. يقال : بسط يده إليه، إذا بطش به. وبسط إليه لسانه، إذا شتمه. والبسط في الأصل : مطلق المد، وإذا استعمل في اليد واللسان كان كناية عما ذكر.
﴿ ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل ﴾بيان لما كانوا عليه من نقض العهود والمواثيق، وتحريف التوراة والإعراض عنها، والخيانة للرسل. ﴿ نقيبا ﴾كفيلا، كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود، من التنقيب و هو البحث والتفتيش و النقيب : من ينقب عن أحوال القوم وأسرارهم فيكون شاهدهم وضمينهم وعريفهم. وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجيل. ﴿ و عزرتموهم ﴾نصرتموهم مع تعظيمهم وطاعتهم، من التعزير وهو النصر والإعانة مع التعظيم والتفخيم، وذلك بالذب عنهم والإعانة لهم والانقياد إليهم. ﴿ وأقرضتم الله قرضا حسنا ﴾هو ما كان عن طيب نفس. أو ما لا يتبعه من ولا أذى أو ما كان من حلال.
﴿ لعناههم ﴾طردناهم من رحمتنا بسبب نقضهم ميثاقهم عقوبة لهم. ﴿ على خائنة منهم ﴾على خيانة
و غدر منهم. اسم وضع موضع المصدر، كقائلة في موضع القيلولة. وتلك عادتهم مع رسلهم.
﴿ ومن الذين قالوا إنا نصارى ﴾بيان لقبائح النصارى وجناياتهم إثر بيان قبائح اليهود وشرورهم. و﴿ نصارى ﴾ جمع نصران، كندامي جمع ندمان، ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب. وقد صارت كلمة نصراني لقبا لكل من اعتنق المسيحية. أي وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم.
﴿ فأغرينا بينهم... ﴾ألزمنا أو ألصقنا بينهم العداوة والبغضاء. يقال : أغريت فلانا بكذا حتى غري به، نحو ألزمته به وألصقته، وأصل ذلك من الغراء و هو ما يلصق به.
﴿ يبين لكم على فترة من الرسل ﴾أي يبين لكم شرائع الدين على انقطاع من الرسل، و طموس من السبل، وتغيرالأديان، وكثرة عبادة الأوثان، فكانت النعمة به أتم النعم. وأصل الفترة : الانقطاع، يقال : فتر الماء إذا انقطع عما كان عليه من البرودة إلى السخونة. وفتر عن عمله يفتر ويفتر فتورا، إذا انقطع عما كان عليه من الجد. وسميت المدة التي بين النبيين فترة، لفتور الدواعي فيها إلى العمل بتلك الشرائع.
﴿ ادخلوا الأرض المقدسة ﴾هي بيت المقدس، وقيل : دمشق وفلسطين والأردن. وقيل : أرض الطور وما حوله.
﴿ إن فيها قوما جبارين ﴾شديدي البطش متغلبين، لا تتأتي مقاومتهم، وكانوا من العمالقة بقايا قوم عاد، استحوذوا عليها وملكوها بعد أن كانت في حوزة اليهود في زمن يعقوب عليه السلام. جمع جبار، صيغة مبالغة، من جبر- الثلاثي- وهو الذي يقهر الناس ويكرهم على ما يريده.
﴿ يتيهون في الأرض ﴾أي يسيرون متحيرون في الأرض، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى، من التيه وهو الحيرة. يقال : تاه يتيه و يتوه إذا تحير. وتوهه إذا حيره. وقع في التيه والتوه،
أي في مواضع الحيرة. وأرض تيه أي مضلة، ومنه سميت هذه الأرض البرية التي بين مصر والشام بالتيه.
﴿ فلا تأس على القوم الفاسقين ﴾فلا تحزن عليهم، من الأسى وهو الحزن. يقال : أسى أسى- كتعب أي حزن، فهو أسي مثل حزين. وأسا على مصيبته –من باب عدا-حزن.
﴿ قربا قربانا ﴾اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من صدقة أو ذبيحة أو نحوها. وهو في الأصل مصدر قرب منه- ككرم-إذا دنا. وكانت أمارة قبول القرابين أن تنزل من السماء نار بيضاء فتأكلها، فإن لم تنزل لم تكن مقبولة، فتأكلها السباع والطير لعدم جواز أكل القرابين إذ ذاك.
﴿ أن تبوء بإثمي وإثمك ﴾ترجع وتقر، من البوء وهو الرجوع واللزوم، يقال : باء إليه رجع، وبؤت به إليه رجعت. و باء بحقه أقر ولزم، أي أنى أريد أن تبوء بإثم قتلك لي، وبإثمك الذي قد صار إليك بذنوبك من قبل قتلي.
﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه ﴾سهلته له وزينته بعد هذه الموعظة وهذا الزجر. يقال : طاع الشيء يطوع ويطاع أي سهل وانقاد. وطوعه فلان له سهله.
﴿ ياويلنا ﴾أصلها : يا ويلتي، وهي كلمة جزع وتحسر، تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة، كأن المتحسر ينادي ويلته ويطلب حضورها، بعد تنزيلها منزلة من ينادي، ولا يكون ذلك إلا في أشد حال. والويلة كالويل : الفضيحة والبلية والهلاك.
﴿ من أجل ذلك ﴾أصل معنى الأجل : الجناية التي يخاف منها آجلا. يقال : أجل الرجل على أهله شرا يأجله-بضم الجيم وكسرها-أجلا، إذا جناه أو أثاره وهيجة، ثم استعمل في تعليل الجنايات، كما في قولهم : من أجلك فعلت كذا، أي من جراك وجنايتك، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل.
والمعنى : من أجل هذه المفاسد الحاصلة بسبب هذه الجريمة الفظيعة، شرعنا القصاص، وكتبنا في التوراة تعظيم القتل العمد العدوان، وشددا على بني إسرائيل فيه، لشيوعه فيهم، حتى أنهم تجرءوا على قتل الأنبياء. وهم أو ل أمة نزل الوعيد عليهم في القتل العمد العدوان مكتوبا.
﴿ لمسرفون ﴾لمجاوزون الحد بارتكاب المعاصي و الآثام، ومنها القتل بغير حق. والإسراف : مجاوزة حد الحق. أو هو التباعد عن حد الاعتدال مع عدم المبالاة به.
﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ﴾نزلت في قطاع الطريق ومحاربتهم الله والرسول، ومخالفتهم الأمر، وخروجهم عن الطاعة، فإذا قتلوا فقط قتلوا حدا، وإذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا أخذوا المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. الأول-لأخذ المال. والثاني-لإخافة الطريق. وإذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض، أي أخرجوا إلى بلد آخر من بلاد الاسلام وسجنوا فيه. وقيل المراد بالنفي السجن دون إخراج من البلد. قال الآلوسي : والظاهر أن هذا التفصيل علم بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل : الإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق :﴿ اتقوا الله ﴾اجتنبوا المعاصي، التي منها المحاربة والفساد. وافعلوا الطاعات، التي منها التوبة والاستغفار ودفع الفساد.
﴿ وابتغوا إليه الوسيلة ﴾أي اطلبوا الزلفى إليه بالأعمال المرضية عنده وبهجر معاصيه، والابتغاء : الطلب. والوسيلة هنا : ما يتقرب به إلى الله تعالى من فعل الطاعات واجتناب المعاصي، من وسل إلى كذا، أي تقرب إليه بشيء، وقيل : الوسيلة الحاجة، أي اطلبوا متوجهين إليه تعالى حاجتكم، فإن بيده مقاليد السماوات والأرض، ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره.
﴿ فاقطعوا أيديهما ﴾أي يديهما. والمراد. اليد اليمنى من كل منهما، وحدها لغة : من رؤوس الأصابع إلى الرسغ. ﴿ نكالا ﴾ : عقوبة منه تعالى على انتهاك حرمة المال. ( راجع في معنى النكال آية ٦٦ البقرة ص ٣٢ ). والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لولاة الأمور ومن أذن له في إقامة الحدود.
﴿ يا أيها الرسول لا يحزنك ﴾نزلت في المتهافتين في الكفر من المنافقين واليهود، نعيا عليهم، ووعيدا لهم. ﴿ سماعون للكذب ﴾أي هم جميعا مستجيبون للكذب قابلون له. مستجيبون لقوم آخرين منهم لم يحضروا مجلسك، ولم يسمعوا منك تكبرا وعتوا. ثم وضفهم الله بأن دأبهم تحريف جنس الكلام عن مواضعه، فيحرفون كلامك ويحرفون التوراة، ويحرفون القرآن حسب أهوائهم و أغراضهم. ومع ذلك يقولون لأتباعهم : إن أتاكم محمد بما نقوله فخذوه، وإن أتاكم بغيره فارفضوه.
و ما يقولون إلا كذبا و باطلا وقولا محرفا. ﴿ لهم في الدنيا خزي ﴾فخزي المنافقين بافتضاحهم، وازدياد غمهم بسرعة انتشار الإسلام وقوة شوكته. وخزي اليهود بالذل وظهور كذبهم في كتمان ما في التوراة، وإجلاء بني النضير من ديارهم.
﴿ أكالون للسحت ﴾هم أكالون للمال الحرام كالربا والرشوة. سمي سحتا من سحته إذا استأصله، لأنه مسحوت البركة أي مقطوعها. أو لأنه يذهب فضيلة الإنسان و يستأصلها. واليهود أرغب الناس في المال الحرام و أحرصهم عليه.
﴿ فإن جاءوك فاحكم بينهم ﴾خير الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ترافع إليه أهل الكتاب بين الحكم بينهم، والإعراض عنهم، ثم نسخ التخيير بقوله تعالى :﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾. وقيل : إن التخيير ثابت بهذه الآية، وقوله تعالى :﴿ وأن احكم ﴾بيان لكيفية الحكم عند اختياره، وأية لا يحكم إلا بإحكام الإسلام. وأما إذا تحاكم مسلم وذمي فإنه يجب الحكم بينهما بأحكام الإسلام اتفاقا. وتفصيل الأحكام في الفقه.
﴿ بالقسط ﴾أي بالعدل، وهو ما جاء به الإسلام من الأحكام.
﴿ فمن تصدق به فهو كفارة له ﴾فمن عفا من أصحاب الحق عن القصاص وتصدق به على الجاني فذلك كفارة لذنوبه. والضمير في ﴿ له ﴾يعود إلى المتصدق.
﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى ﴾أتبعناهم على آثارهم بعيسى، أي جعلناه يقفوا أثارهم ويتبعهم. ( راجع آية ٨٧ البقرة ٣٦ ).
﴿ ومهيمنا عليه ﴾رقيبا على ما سبقه من الكتب السماوية المحفوظة من التغيير، حيث يشهد لها بالصحة، ويقرر أصول شرائعها، وما شرع مؤبدا من فروعها، وما نسخ منها، من الهيمنة وهي الحفظ والارتقاب. يقال إذا رقب الرجل الشيء وحفظه : قد هيمن عليه، وهو مهيمن.
﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ﴾الخطاب للأمم الثلاثة. والشرعة : الشريعة وهي الطريق الظاهر الموصل للماء. والمراد بها الدين. وسمي الدين شريعة تشبيها بشريعة الماء، من حيث إن كلا سبب الحياة. والمنهاج : الطريق الواضح في الدين، من نهج الأمر ينهج إذا وضح. والعطف باعتبار جمع الأوصاف. وقيل : هما بمعنى واحد هو الطريق، والتكرير للتأكيد. أي ولكل أمة من الأمم الحاضرة والغابرة وضعنا شرعة و منهاجا خاصين بها. فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتها ما في التوراة، والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمد عليهما الصلاة والسلام شرعتها ما في الإنجيل، وأما هذه الأمة فشرعتها ما في القرآن فقط، فآمنوا به واعملوا به، وليس لأحد بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إيمان مقبول إلا الإيمان به.
﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ﴾أي ولو شاء الله أن يجعل الأمم جميعا تدين بدين واحدة وملة واحدة في جميع الأعصار لفعل، ولكنه تعالى حكيم خبير يعلم ما للأمم والعصور من خصائص و طبائع، وما يناسب كل أمة من أحكام وشرائع يستقيم بها أمرها وتقتضيه مصلحتها، فانزل شرائع شتى، تتفق جميعها في الأصول، ويختلف بعض أحكامها في الفروع باختلاف الأمم والعصور، ومن الطبيعي أن ينسخ بعضها بعضا في بعض الأحكام. واقتضت حكمته تعالى أن يختم شرائعه بشريعة عامة كاملة في العلم، وبعث به خاتم رسله وأفضل خلقه، وأمره ببيانه للناس، فمنهم من أدرك هذه الحكمة، فعرف ربه حق المعرفة، وأمن به وبكتبه ورسله وعمل بأحكامه. ومنهم من جهلها فجمدت قريحته وفسدت سريرته، وآمن ببعض وكفر ببعض، فكان لله عاصيا، ولحكمته جاحدا، ولرسله مكذبا، وعن كتبه معرضا، وبغضب الله حقيقا، ولنقمته أهلا.
﴿ واحذرهم أن يفتنوك ﴾أي واحذر فتنتهم لك، وأن يصرفوك عن بعض ما أنزل إليك ولو كان أقل قليل، بتصوير الباطل بصورة الحق، أو بالكذب على التوراة بإنكار بعض أحكامها.
﴿ أفحكم الجاهلية يبغون ﴾أي أينصرفون عن قبول حكمك بما أنزل الله ويعرضون عنه، فيبغون حكم الجاهلية ؟
﴿ لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ﴾نهى الله المؤمنين أن يتخذ أحد منهم أحدا من اليهود والنصارى وليا ونصيرا، أي لا تصافوهم مصافاة الأحباب، ولا تستنصروا بهم، فإنهم جميعا يد واحدة عليكم، يبغونكم الغوائل، و يتربصون بكم الدوائر، فكيف يتوهم بينكم وبينهم مولاة ؟ ﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾أي من جملتهم، وحكمه حكمهم( راجع آية ١١٨-١٧٠آل عمران ص ١٢٢ ).
﴿ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ﴾كان المنافقون يعتذرون عن موالاة اليهود بقولهم : إننا نخشى أن تدور علينا دائرة من دوائر الدهر، ودولة من دوله، بأن ينقلب الأمر للكفار، وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج إليهم. أو نخشى أن يدور علينا الزمن بمكروه، كالجدب والقحط، فلا يميروننا ولا يقرضوننا. و الدائرة : النائبة من حوادث الدهر، التي تحيط بالناس إحاطة الدائرة بما فيها. وأصلها ما |أحاط بالشيء، ثم استعير لما ذكر، وتطلق على الهزيمة.
﴿ أقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾الجهد : الوسع والطاقة، من جهد نفسه يجهدها في الأمر، إذا بلغ أقصى وسعها و طاقتها فيه، أي أقسموا مجتهدين في أيمانهم. والمراد أنهم أكدوا الأيمان وشددوها بأقصى وسعهم.
﴿ أذلة على المؤمنين ﴾عاطفين عليهم متذللين لهم، لينى الجانب معهم، جمع ذليل : من تذلل إذا تواضع. ولتضمينه معنى الحنو عدي بعلى. ﴿ أعزة على الكافرين ﴾أشداء غلظاء عليهم، من أعزني فلان، إذا أظهر العزة من نفسه، وأبدى الجفوة والغلظة. والعزة : حالة تمنع الإنسان من أن يغلب ويقهر.
﴿ هزوا ﴾سخرية. وأصله هزءا، فأبدلت الهمزة واوا لضم ما قبلها. يقال : هزأ منه وبه –كمنع وسمع-هزؤا وهوؤا، سخر كاستهزأ. ﴿ ولعبا ﴾أخذا على غير طريق الجد. مصدر لعب يلعب، كسمع.
﴿ هل تنقمون منا ﴾هل تكرهون منا وتعيبون علينا. يقال : نقم عليه أمره ونقمت منه نقما –من باب ضرب- عبته وكرهته أشد الكراهة، والواو في ﴿ وأن ﴾ بمعنى مع
﴿ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة ﴾خطاب لليهود وقد قالوا للمسلمين : لا نعلم دينا شرا من دينكم. ومرادهم لا نعلم أهل دين شرا من أهل دينكم، فانزل الله الآية. أي قل لهم : هل أخبركم بشر من أهل ذلك عقوبة عند الله يوم القيامة هو من أبعده الله عن رحمته وغضب عليه، وجعل منهم قردة وخنازير في طباعهم وقلوبهم، وأطاع الشيطان و كل داع إلى ضلالة﴿ أولئك شر مكانا ﴾ من غيرهم﴿ وأضل عن سواء السبيل ﴾أكثر ضلالا عن السبيل السواء، وهو الملة الحنفية الحقة. و السواء : الوسط المعتدل.
﴿ وإذا جاءوكم قالوا آمنا ﴾ نزلت في منافقي اليهود الذين كانوا يدخلون على الرسول صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان به وبما جاء به نفاقا. ﴿ و الله أعلم بما كانوا يكتمون ﴾وقلوبهم من الكفر، وهو وعيد لهم.
﴿ يسارعون في الإثم والعدوان ﴾يبادرون إلى ارتكاب الحرام، من الكفر والكذب، وأكل السحت والربا، وإلى الظلم أو مجاوزة الحد في العصيان.
﴿ لولا ينهاهم الربانيون ﴾أي هلا ينهاهم عن ذلك علماء أهل الإنجيل، وعلماء أهل التوراة من اليهود. وهو توبيخ شديد وذم بليغ، لأولئك القادة الذين تركوا النهي عن هذه المنكرات. ولذا قال تعالى فيهم :﴿ لبئس ما كانوا يصنعون ﴾.
﴿ يد الله مغلولة ﴾قال اليهود ذلك حين كف الله عنهم ما بسط لهم من الرزق، عقوبة على عصيانهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكنوا بذلك عن بخله تعالى بالعطاء، كما يكنى ببسط اليد عن الجود و السخاء. ومثله في الكناية عن البخل : فلان جعد الأنامل، ومقبوض الكف.
﴿ غلت أيديهم ﴾دعاء عليهم بالبخل، ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله. أو دعاء عليهم بأن يعذبوا في جهنم بالأغلال، فتشد أيديهم إلى أعناقهم بها جزاء هذه الكلمة الشنيعة. ﴿ ولعنوا بما قالوا ﴾أي أبعدوا عن رحمة الله بسببه. هو دعاء ثان عليهم. ﴿ بل يداه مبسوطتان ﴾أي بالجود والعطاء الذي لا نهاية له. ﴿ ينفق كيف يشاء ﴾﴿ إن ربك يبسط الزرق لمن يشاء ويقدر ﴾. وتقدم القول في آيات الصفات ومنها صفة اليد في المقدمة ﴿ وألقينا بينهم العداوة والبغضاء ﴾أي بين طوائف اليهود، فهم طوائف متعادية متباغضة في الدين ولا يزالون كذلك. ولا يخلوا أحد منهم من الحسد والأثرة، وهما غرس نكد خبيث، لا ينبت إلا شرا و عداوة وبغضا. والعداوة : أخص من البغضاء، فإن كل عدو مبغض، وقد يبغض من ليس بعدو. ﴿ كلما أوقدوا نارا للحرب ﴾أي كلما أرادوا كيدا وشرا للمؤمنين صرفه الله
عنهم، وكلما أرادوا حربا غلبوا. وقيل : المراد كلما أرادوا محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ردهم الله وقهرهم، بحل عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم.
﴿ منهم أمة مقتصدة ﴾من أهل الكتاب طائفة معتدلة لم تغل ولم تقصر، وهم من أسلم منهم، كعبد الله بن سلام و أصحابه، والنجاشي و أصحابه، ومن نهج نهجهم.
﴿ بلغ ما أنزل إليك ﴾أمر صلى الله عليه وسلم بالبلاغ للثقلين كافة فبلغ الرسالة و أدى الأمانة. روى عن عائشة رضي الله عنها قالت :﴿ من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب -وقرأت- يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ﴾وفي رواية :﴿ لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية :{ وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ﴾. نزلت هذه الآية- حين ضاق ذرعا بقومه، وعرف أن من الناس من يكذبه-لتثبيته و بشارته بحفظ الله تعالى له وكفالته إياه. ﴿ والله يعصمك من الناس ﴾يحفظك من الكفار أن يعتدوا عليك بالقتل.
﴿ فلا تاس ﴾فلا تحزن و لا تتأسف على القوم الكافرين لزيادة طغيانهم، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم، وضرره عائد إليهم. وفي المؤمنين غنى لك عنهم.
﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا ﴾نظم الآية : إن الذين آمنوا –أي بألسنتهم –ولم تؤمن قلوبهم. والذين هادوا والنصارى، من آمن منهم بالله واليوم الآخر إيمانا حقا، ويندرج في ذلك : الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وعمل صالحا فلا خوف عليهم، حين يخاف الكفار العذاب. ولا هم يحزنون، حين يحزن المقصرون على تضييع العمر و تفويت الثواب. والصابئون كذلك، فحذف خبره. وإنما عطفت جملة ﴿ الصابئون ﴾على ما قبله للإشارة إلى أنهم من أشد الفرق المذكورة ضلالا. فكأنه قيل : كل هذه الفرق إذا آمنت وعملت صالحا قبل الله توبتها، حتى الصائبة فإنه تعالى يقبل توبتها. و﴿ من آمن ﴾مبتدأ خبره جملة﴿ فلا خوف عليهم ﴾، والجملة من المبتدأ والخبر خبر﴿ إن ﴾
﴿ و حسبوا أن لا تكون فتنة.. ﴾أي ظن اليهود أنه لا نصيب من الله بلاء ولا عذاب بقتل الأنبياء
و تكذيب الرسل، لزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، أو لإمهال الله إياهم، أو لنحو ذلك، فتمادوا في فنون الغي والفساد، وعموا عن الدين الذي جاء به الرسل، وصموا عن استماع الحق الذي ألقوه إليهم.
و هذه هي المرة الأولى من مرتين إفساد بني إسرائيل، حين خالفوا التوراة وارتكبوا المحرمات. ثم عموا وصموا بعد أن تابوا مما كانوا عليه من الفساد، وأنعم الله عليهم بفكاكهم من أسر الذل والمهانة التي لبثوا فيها دهرا طويلا تحت قهر بختنصر، ورجوعهم إلى بيت المقدس بعد التفرق في الأكناف و التشتت في الأرض. فاجترءوا-إلا قليلا منهم- على قتل زكريا و يحيى، وهموا بقتل عيسى عليهم السلام. فكان ذلك هو المرة الأخرى من مرتي الإفساد. وقيل : إن العمى والصم الأول إشارة إلى ما كان منهم في عهد زكريا و يحيى، والثاني إشارة إلى ما كان منهم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم. و﴿ كثير منهم ﴾بدل من الواو في ﴿ عملوا وصموا ﴾.
﴿ لقد كفر الذين قالوا.. ﴾للنصارى عقائد مختلفة متضاربة في عيسى عليه السلام، تنكرها العقول، وتأباها الفطر، وهم فرق شتى وشيع متكاذبة، كل شيعة تكفر الأخرى. فمنهم من يزعم أن الله هو المسيح، ومنهم من يزعم أن الله ثالث آلهة ثلاثة، ومنهم من يزعم أن المسيح ابن الله تعالى. وقد كذبهم الله جميعا، وسجل عليهم الكفر في غير آية، وندد بعقولهم وهددهم أشد التهديد بما ذكره من الآيات البينات، التي منها هذه الآيات.
﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول ﴾فهو بشر مخلوق الله تعالى، وعبد من أصفياء عباده، اختاره للرسالة، كسائر الرسل الذين مضوا قبله، وسيمضي كما مضوا، فكيف يكون إلاها أو جزء إله ؟
إن ذلك باطل من القول. و﴿ أمه صديقة ﴾أي وما أمه إلا أمة من إماء الله كسائر النساء ديدنها الصدق مع الله، أو التصديق له في سائر أمورها، فمن أين لكم وصفها بما وصفتموها به ؟ ﴿ كانا يأكلان الطعام ﴾أي كانا محتاجين إلى القوت، وإلى القوى التي لا بد منها في هضمه، وإحالته إلى ما به قوام الجسم والحياة، وفي نفض ما لا بد من نفضه من المواد، وليس شيء من ذلك في قدرتهما، وإنما هو بقدرة الله تعالى وتدبيره، فهما في ذلك كسائر البشر، فكيف تنسبون إليهما ما نسبتم من الباطل المحال ؟
وقيل- كما قال الآلوسي-إنه كناية عن قضاء الحاجة، لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض. وهذا أمر مذاقا في أفواه مدعى ألوهيتهما، لما في ذلك- مع الدلالة على الاحتياج المنافي للألوهية- من البشاعة ما لا يخفى. ﴿ أنى يؤفكون ﴾كيف يصرفون عن استماع الحق وتبينه مع ما بينا من دلائله. إن ذلك لشيء يتعجب منه غاية التعجب. يقال : أفكه عن الشيء يأفكه أفكا، صرفه عنه وقلبه، فأنا آفكه وهو مأفود وقد أفكت الأرض أفكا : صرف عنها المطر.
﴿ لا تغلوا في دينكم ﴾لا تجاوزوا الحد في دينكم، فترفعوا عيسى عن رتبة الرسالة، وأمه عن رتبة الصديقية إلى ما انتحلتموه في حقهما. ﴿ غير الحق ﴾ غلوا باطلا. ﴿ قد ضلوا من قبل ﴾ وهو أسلافهم الذين كانوا قبل البعثة. ﴿ وضلوا عن سواء السبيل ﴾أي عن قصد طريق الحق الذي هو الإسلام.
بعد البعثة، بسبب حسدهم و بغيهم، وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم. و السواء في الأصل : الوسط المعتدل، والمراد به الدين الحق.
﴿ ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ﴾أي ترى كثيرا من اليهود، وهم كعب بن الأشرف وأصحابه، يوالون المشركين و يضافونهم، لعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم، ويتواطئون معهم على محاربته.
﴿ لتجدن أشد الناس.. ﴾أي لتجدن أشد الكفار عداوة للمؤمنين اليهود، لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم، و انهماكهم في اتباع أهوائهم وتمرنهم على التمرد، والاستعصاء على الأنبياء، وتمكن الحسد والبغي في قلوبهم، إلى حد استيجاب إيصال الأذى والشر إلى من خالفهم في الدين، وقد جعلهم الله قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين، بل هم أعرق فيها ولذا قدموا في الذكر عليهم، ﴿ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ﴾فهم ألين عريكة وأساس انقياد إلى الحق، وفيهم من هو معرض عن الدنيا و لذاتها والتنافس فيها، ومن كان شأنه ذلك لا يحسد الناس ولا يعاديهم.
والآية نزلت في النجاشي وأصحابه. وقيل : في الوفد الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب مسلمين. وقيل : في جماعة من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام، فلما بعث محمد صلى الله عليه و سلم آمنوا به وصدقوه، فأثنى الله تعالى عليهم في هذه الآية. ﴿ ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون ﴾عن إتباع الحق والانقياد له إذا فهموه. أو أنهم يتواضعون ولا يتكبرون
كاليهود. و﴿ قسيسين ﴾أي علماء، جمع قسيس صيغة مبالغة : من تقسس الشيء إذا تتبعه بالليل. سموا بذلك في الأصل لتتبعهم العلم بكثرة﴿ ورهبانا ﴾أي عبادا، جمع راهب، من الرهبة وهي المخافة. ومنه الترهب وهو التعبد. والرهبانية وهي الغلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة.
﴿ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ﴾نزلت في جماعة من الصحابة اعتزموا المبالغة في الزهد و التقشف والعزوف عن متاع الدنيا، مبالغة منهم في التعبد، فنهوا عن ذلك، أي لا تحرموا على أنفسكم ما لذ وطاب من الحلال، ولا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام، وتمتعوا بأنواع الرزق الحلال الطيب.
﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾آ( آية ٢٢٥ البقرة ص٧٥ ). و﴿ في ﴾بمعنى من. أو متعلق باللغو. ﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتكم الأيمان ﴾أي بتعقيدكم الأيمان و توثيقها بالقصد والنية، أي إذا حنثتم فيها، وحذف للعلم به. والمراد بالمؤاخذة : المؤاخذة الدنيوية بوجوب الكفارة. ﴿ فكفارته ﴾ أي فكفارة الحنث فيه. والكفارة : اسم للفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة، أي تسترها وتمحوها، إذ الممحو لا يرى كالمستور. ﴿ أو تحرير رقبة ﴾أي عتق نسمة من الرق. ﴿ فمن لم يجد فصيام.. ﴾فمن لم يجد شيئا من الأمور الثلاثة المخير بينها، فعليه صوم ثلاثة أيام. وأحكام الكفارة مفصلة في الفقه ﴿ واحفظوا أيمانكم ﴾أي عن الحنث فبروا بها، إذا لم يكن الحنث خيرا وأفضل.
﴿ وإنما الخمر والميسر والأنصاب ﴾( راجع في تفسير الخمر و الميسر آية ٢١٩ من البقرة ص ٧١ ) وفي تفسير الأنصاب و الأزلام ( آية ٣من هذه السورة ). ﴿ رجس ﴾أي خبث مستقذر، أو إثم أو شر. وعن الزجاج : الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل قبيح. يقال : رجس- كفرح وكرم- عمل عملا قبيحا. وأصله من الرجس، وهو شدة صوت الرعد و هدير البعير، فسمي العمل الشديد في القبح رجسا. ﴿ فاجتنبوه لعلكم ﴾فكونوا جانبا من هذا الرجس بعيدين عنه، لكي تفلحوا بالاجتناب عنه، والأمر للوجوب.
﴿ فهل أنتم منتهون ﴾استفهام إنكاري بمعنى انتهوا. وهو من أبلغ ما ينهى به، ولذا قالوا : قد انتيهينا يا رب. إذ فهموا التحريم المؤكد القاطع.
﴿ ليس على الذين آمنوا... ﴾مات ناس من الصحابة قبل تحريم الخمر والميسر وقد طعموهما، فقال بعض الصحابة : كيف بأصحابنا الذين ماتوا قبل تحريمهما ؟ فنزلت الآية مبينة حال من مات قبل التحريم وحال من مات بعده. أي لا إثم على الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيما تناولوه منهما قبل التحريم إذا ما اتقوا الشرك-أو ما حرم عليهم قبل ذلك –وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة، ثم اتقوا الخمر والميسر بعد التحريم و آمنوا بتحريمهما، ثم ثبتوا على اتقاء جميع ما شرع تحريمه و أحسنوا العمل، فتكرير الاتقاء باعتبار الأوقات الثلاثة. والمراد أنه لا جناح عليهم إذا كان من شأنهم أنهم كلما أمروا بشيء أو نهوا عن شيء سارعوا إلى الطاعة والامتثال، فكلما حرم الله عليهم مباحا اتقوه. وظاهر أن انتقاء الجناح إنما يعتمد اتقاء المحرمات، ولا دخل فيه لباقي الصفات الحميدة المذكورة، وإنما ذكرت شهادة باتصاف هؤلاء الصحابة بها.
﴿ ليبلونكم الله بشيء من الصيد ﴾ليختبرنكم بنوع من البلايا-وهو تحريم مصيد البر صغارا وكبارا-وأنتم محرمون أو في الحرم، ليتميز من يخاف الله وهو لم يره ممن لا يخافه. فمن اصطاده منكم بعد ما أعلمكم الله بذلك فله عذاب أليم، لاعتدائه وعدم مبالاته بطاعة ربه، ومن لم يتعود كبح نفسه وطاعة ربه في الهين من هذا البلايا لا يكاد يكبحها عن العظائم و المزالق. وهذا سر من أسرار الابتلاء.
﴿ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ﴾أي لا تقتلوا صيد البر –وهو ما توالده ومثواه في البر مما هو ممتنع لتوحشه خلقة وطبعا-وأنتم محرمون ولو كنتم خارج الحرم، ومثله لو كنتم في الحرم وأنتم حلال. وقيل :﴿ حرم ﴾جمع حرام، و هو يقع على المحرم و إن كان في الحل، وعلى من في الحرم وإن كان حلالا، وهما سيان في النهي عن قتل الصيد. واستثني من ذلك الحدأة والغراب والفأرة والعقرب و الكلب العقور، وسميت في الحديث فواسق. ولا شيء على المحرم إذا قتل نحو السبع والنمر والفهد إذا ابتدأت بالأذى و التعدي. وقيل مطلقا، وتفصيل الأحكام في الفقه.
﴿ فجزاء مثل ما قتل من النعم ﴾أي فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول في الخلقة والمنظر، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب سخل، أو ما يساوي قيمة هذا الجزاء من الطعام، فيعطى لكل مسكين مد. أو ما يعادل هذا الطعام صياما، فيصوم عن كل مد يوما. وإن لم يوجد للمقتول مماثل كالعصفور والجراد فعليه قيمته يشترى بها طعام لكل مسكين مد أو يصوم عن كل مد يوما. وقوله تعالى :﴿ من النعم ﴾حال من ﴿ مثل ﴾أو صفة له. و ذهب آخرون إلى أن المماثلة إنما تعتبر ابتداء بحسب القيمة، فيقوم المقتول من حيث هو، فإن بلغت قيمته قيمة الهدي يخير الجاني بين أن يشتري بها هديا يهدى إلى الكعبة و يذبح في الحرم و يتصدق بلحمه على من يشاء وبين أن يشترى بها طعاما للمساكين، لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما. وإن لم تبلغ قيمته قيمة هدي يخير بين إعطائها المسكين وصوم يوم كامل. وقوله ﴿ من النعم ﴾تفسير للهدي المشترى بالقيمة على أحد وجوه التخيير. ﴿ هديا بالغ الكعبة ﴾أي الحرم.
وخصت الكعبة بالذكر للتعظيم إذ هي الأصل. ولا يجزي الذبح في غيره. ﴿ أو كفارة ﴾معطوف على ﴿ جزاء ﴾و﴿ أو ﴾للتخيير، وكذلك بالذكر في قوله :﴿ أو عدل ذلك صياما ﴾أي أو ما يعادل ذلك الطعام صياما، فيصوم عن طعام كل مسكين يوما. والعدل-بالفتح- : ما عادل الشيء من غير جنسه.
و أما التكسير : فما عادله من جنسه. وقيل هما سيان و معناهما المثل مطلقا. وقرء بالكسر. والتفصيل في الفقه. ﴿ ليذوق و بال أمره ﴾أي جزاء ذنبه وسوء عاقبته. والوبال في الأصل : الثقل و الشدة و الوخامة. يقال : وبل المطر إذا اشتد فهو وبيل، ووبل المرتع وبالا و وبالة بمعنى وخم. ثم قيل في سوء العاقبة : وبال. وفي العمل السيئ : هو وبال على صاحبه.
﴿ أحل لكم صيد البحر.. ﴾هو ما توالده ومثواه في الماء. والمراد بالبحر : جميع المياه، بحرا أو نهرا
او غديرا أو بركة. و بالصيد : الاصطياد أو ما يصاد منه. و بطعام البحر : ما يؤكل من صيده. أي أحل لكم الصيد وأكل ما يؤكل منه، أو الانتفاع بما يصاد منه، وأكل ما يؤكل من حيوان البحر. وقيل : طعام البحر ما يقذفه ميتا. ﴿ متاعا لكم ﴾تمتيعا لكم ﴿ وللسيارة ﴾المسافرين منكم يتزودونه قديدا.
﴿ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ﴾الجعل : التصبير. و﴿ الكعبة وقياما ﴾مفعولا جعل. و﴿ البيت الحرام ﴾بدل من الكعبة. والمراد به الحرم كله. والقيام والقوام :
ما به صلاح الشيء، كما يقال : الملك العادل قوام رعيته، لأنه يدبر أمرهم، ويردع ظالمهم، ويدفع
أعداءهم. وقد صير الله تعالى البيت للناس سببا لإصلاح أمورهم، حيث جعله مثابة و أمنا وملجأ، ومجمعا للتجارات والتعارف والتشاور، وحرمه إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه. كما جعله محجا للناس ومنسكا وسببا لتكفير الخطيئات و زيادة المثوبات. وجعل الأشهر الحرم قواما للناس يأمنون فيها القتل والقتال، و يسافرون فيها في أمن، لتحصيل قدر ما يكفيهم من الأقوات طول العام. وجعل الهدي و ذوات القلائد منه قواما لمعايش الفقراء. وكل ذلك لحكم سامية، ومصالح ظاهرة، اقتضتها حكمة العليم الخبير، ورأفته بعباده.
﴿ لا تسألوا عن أشياء ﴾ نزلت حينما أكثروا من السؤال عن أمور يسوءهم إبداؤها، لكون التكليف بها شاقا عليهم، أو لكونها مستورة وفي إظهارها فضيحة للسائل. فالأول : كسؤالهم عن الحج، هل يجب في كل عام ؟ والثاني : كسؤال بعضهم عن أبيه بقوله : أين أبي ؟ فقال له النبي : أبوك في النار، فنهوا عن السؤال عن أمثال هذه الأمور لاستتباعه إبداءها وقت التنزيل وقد يكون فيه فضيحة، وقد يكون فيه مشقة. وقد سأل السابقون أنبياءهم عن أمثالها فأجابوهم ببيان أحكامها فلم يقوموا بها لمشقتها، فضلوا بترك العمل بها.
﴿ ما جعل الله من بحيرة ﴾ما شرع الله هذه المحرمات التي حرمتموها على أنفسكم، وزعمتم أنه حرمها كذبا على الله تعالى. وكانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن أخرها ذكر شقوا أذنها ومنعوا ركوبها، وتركوها لآلهتهم، لا تنحر ولا يحمل عليها، ولا تطرد عن ماء أو مرعى، وسموها ﴿ البحيرة ﴾ أي مشقوقة الأذن، من البحر وهو الشق. وكان الرجل إذا قدم من سفر، أو نجت ناقته من حرب، أو برأ من مرض سيب ناقته وخلاها وجعلها كالبحيرة، وتسمى﴿ السائبة ﴾. وقيل : هي الناقة التي تعتق للأصنام، وكانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا فهو لألهتهم، و إن ولدت ذكرا و أنثى قالوا : وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لألهتهم، وتسمى﴿ الوصيلة ﴾. وقيل : هي الناقة تبكر بأنثى ثم تثنى بأنثى، فكانوا يتركونها للطواغيت ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر. وكان الفحل إذا لقح ولد ولده قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع ماء ولا مرعى حتى يموت. يقال : حماه يحميه إذا حفظه، ويسمى﴿ الحامي ﴾. وفي تفسير الأربعة خلاف كثير. و أول من ابتدع هذه المنكرات عمرو بن الحي، وكان قد ملك مكة فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان، وغير دين إسماعيل عليه السلام.
﴿ عليكم أنفسكم ﴾الزموا العمل بطاعة الله، فأتوا بما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾أي لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله، وأديتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم الله به، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يدي الظالم إذا أراد ظلما لمسلم أو معاهد ومنعه منه. فإذا أبى النزوع عن ذلك فلا ضير عليكم في تماديه في غيه و ضلاله، إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى.
﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم.. ﴾أي أن المحتضر إذا أراد الوصية وكان في سفر فليحضر من يوصى له بإيصال ماله لورثته مسلما، فإن لم يجد فكافرا، و الاثنان أحوط، فإذا جاءا بما عندهما ووقعت ريبة في كتم بعضه أو في الخيانة فيه فليحلفا، لأنهما مودعان مصدقان بيمينهما. فإذا وجد ما خانا فيه وادعيا أنهما تملكاه بشراء ونحوه ولا بينة لهما على ذلك، يحلف المدعى عليه على عدم العلم بما ادعياه من التملك، وأنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه. والشهادة الأولى بمعنى الحضور أو الإحضار، تقول : شهدت وصية فلان بمعنى حضرت.
والشهادة الثانية في قوله تعالى :﴿ لشهادتنا ﴾بمعنى المشاهد أو ما هو بمنزلته. والثالثة في قوله :﴿ أحق من شهادتهما ﴾بهذا المعنى أو بمعنى اليمين. و الاثنان الكافران وصيتان لا شاهدان بالمعنى المتبادر. وفي تفسير الآية أقوال أخرى. وقوله :﴿ شهادة بينكم ﴾مبتدأ حذف خبره، أي فيما فرض عليكم شهادة ما بينكم. ﴿ اثنان ﴾فاعل ب﴿ شهادة ﴾أي أن يشهد اثنان. ﴿ منكم ﴾أي من المسلمين. ﴿ ضربتم في الأرض ﴾سافرتم.
﴿ تحسبونهما من بعد الصلاة ﴾توقفانهما للحلف بعد صلاتهما، أو بعد صلاة العصر، وهو الوقت الذي يجتمع فيه الناس، ويتحاشى فيه أهل الأديان الكذب في الحلف. ﴿ لا نشتري به ثمنا ﴾لا نحلف بالله كذبا لأجل عرض الدنيا﴿ ولو كان ذا قربى ﴾أي ولو كان المقسم له قريبا منا.
﴿ فإن عثر على أنهما استحقا إثما ﴾أي اطلع على خيانتهما بوجود ما خانا فيه عندهما. ﴿ فآخران ﴾مبتدأ خبره جملة ﴿ يقومان مقامهما ﴾أي يقفان موقفهما في الحبس من بعد الصلاة والحلف. ﴿ من الذين استحق ﴾صفة المتبدأ. و﴿ استحق ﴾بالبناء للفاعل. ﴿ الأوليان ﴾تثنية أولى بمعنى أقرب فاعل. والمراد بالموصول : أهل الميت. و بالأوليان : الأقربان إليه الوارثان له، الأحقان بالشهادة، لعلمهما
و اطلاعهما. ومفعول﴿ استحق ﴾محذوف، تقديره : أن يجردوهما للقيام بالشهادة ليظهروا كذب الكاذبين.
﴿ أن يأتوا بالشهادة على وجهها ﴾أي يصدقوا في حلفهما و لا يكذبا فيه والله أعلم.
﴿ فيقول ماذا أجبتم ﴾أي أي إجابة أجابتكم بها أممكم، حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي، أهي إجابة قبول، أم إجابة رد وإباء ؟ ا﴿ قالوا لا علم لنا ﴾أي بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، سره وعلانيته، ظاهره وخفيه﴿ إنك علام الغيوب ﴾.
﴿ تكلم الناس في المهد ﴾( راجع آية ٤٦ آل عمران ص ١٥٧ ). ﴿ علمتك الكتاب والحكمة ﴾أي الكتابة والفهم لأسرار العلوم. ﴿ تخلق ﴾تصور وتقدر. ﴿ الأكمه ﴾الأعمى المطموس البصر خلقة. ﴿ و إذ كففت بني إسرائيل ﴾وذكر نعمتي عليك إذ صرفت عنك بني إسرائيل حين دبروا قتلك، فأحبطت كيدهم و نجيتك منهم.
﴿ أوحيت إلى الحواريين ﴾ألهمتهم وقذفت في قلوبهم. أو أمرتهم على لسانك. والحواريون. خاصته و أنصاره.
﴿ هل يستطيع ربك ﴾هل ينزل علينا ربك مائدة من السماء إن سألته أن ينزلها. وهو كما يقول الرجل لصاحبه : هل يستطيع أن تقوم ؟ وهو يعلم أنه يستطيع. وقد طلبوا إنزالها لاعتقادهم قدرتهم تعالى على ذلك، فإنهم مؤمنون. وقيل : إن سؤالهم ذلك من قبيل قول إبراهيم عليه السلام :﴿ رب أرني كيف تحي الموتى ﴾. فقال لهم عيسى :﴿ اتقوا الله ﴾أن تسألوا مثل هذا ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾بكمال قدرته. والمائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام، من ماده يميده، إذا أعطاه وأطعمه. ويطلق على نفس الطعام مائدة لعلاقة المجاورة.
﴿ وتطمئن قلوبنا ﴾نسكن قلوبنا وتزداد يقينا﴿ ونعلم ﴾ علم مشاهدة﴿ أن قد صدقتنا ﴾فيما جئت به ﴿ وتكون ﴾لك﴿ عليها من المشاهدين ﴾ عند الذين لم يروها من قومنا، ليؤمن كافرهم، ويزداد الذين آمنوا إيمانا.
﴿ تكون لنا عيدا ﴾يكون يوم نزولها عيدا لنا ولمن يأتي بعدنا. والعيد : بمعنى العائد، مشتق من العود، لعوده بالفرح والسرور. ﴿ و آية منك ﴾و تكون دلالة منك على كمال قدرتك ووحدانيتك. وحجة يصدقون بها رسولك.
﴿ قال الله إني منزلها عليكم ﴾وعد بالإنزال مرة بعد أخرى، مع تهديد بأشد العذاب وأفظعه، إذا كفروا بعد إنزالها. وجمهور المفسرين على أنها أنزلت عدة مرات. وعن الحسن ومجاهد : أنها لم تنزل، لأنهم خافوا بعد هذا الوعيد أن يكفر بعضهم، فاستعفوا و قالوا لا نريدها. والله أعلم.
﴿ و إذ قال الله يا عيسى ﴾أي يقول له ذلك يوم القيامة توبيخا لقومه على رؤوس الأشهاد.
﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني ﴾ وقد اتخذ النصارى عيسى إلاها، كفرا منهم وضلالا. واتخذ قوم منهم
فيما مضى أمه إلاها ويسمون المريميين. وكما اتخذ قوم من اليهود عزيرا ابنا لله تعالى، فتجاوزوا بذلك ربهم و إلاهم الحق. ﴿ تعلم ما في نفسي ﴾تعلم ما في ذاتي ولا أعلم ما في ذاتك. والمراد : تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم، وتعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وتعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل وإطلاق النفس على الذات بالنسبة إليه تعالى جائز.
﴿ فلما توفيتني ﴾فلما أخذتني وافيا بالرفع إلى السماء حيا، إنجاء لي مما دبروه من قتلى، من التوفي وهو أخذ الشيء وافيا أي كاملا. وقد جاء التوفي بهذا المعنى في قوله تعالى :﴿ يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا ﴾. ولا يصح أن يحمل على الإماتة، لأن إماتة عيسى في وقت حصار أعدائه له ليس فيها ما يسوغ الامتنان بها. ورفعه إلى السماء بعد الموت جثة هامدة سخف من القول. وقد نزه الله السماء أن تكون قبورا لجثت الموتى. وإن كان الرفع بالروح فقط، فأي مزية لعيسى في ذلك على سائر الأنبياء، والسماء مستقر أرواحهم الطاهرة. فالحق أنه عليه السلام رفع إلى السماء حيا بجسده، وقد جعله الله وأمه آية، والله على كل شيء قدير. ﴿ للرقيب عليهم ﴾الحفيظ عليهم، المراقب لأعمالهم، الذي لا يغيب عنه شيء من أحوالهم. والله أعلم.