ﰡ
وحكمته افتتاح هذه السورة وامثالها ابسماء الحروف التي ليس لها معنى مفهومٌ غير مسمّاها الذي تدل عليه، وهي تنبيهُ السامع الى ما سيُلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام، حتى يفوتَه من شيء. فكأنه أداةُ استفتاحٍ يمنزلة ألا، وهاء التنبيه.
والسوَر التي بدئت بالأحرف وبذكر الكتاب، هي التي نزلت بمكة لدعوة المشركين الى الإسلام، واثبات النبوة والوحي. أما ما نزل منها بالمدينة البقرة وآل عمران، فالدعوة فيه موجَّهة الى اهل الكتاب. وهكذا الحال في سورة مريم والعنكبوت والروم، و (ص)، و (ن) فإن ما فيها يتعلق بإثبات النبوّة والكتاب كالفتنة في الدين بإيذاء الضعفاء لإرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة، وكالإنباء بقصص فارسَ والروم ونصرِ الله للمؤمنين على المشركين وكان هذا من اظهر المعجزات الدالة على نبوّة محمد ﷺ.
الحرج: الضيق من عاقبة المخالفة الذكرى: التذكر النافع والموعظة المؤثرة. ولاية الله لعباده: تولّي أمروهم ونصرهم على اعدائهم. تذكّرون: اصله تتذكرون.
لقد أُنزلَ إليك القرآن من عند ربِّك لتنذِر به المكذبين ليؤمنوا، وتذكِّر به المؤمنين ليزدادوا إيماناً، فلا يكن في صدرك ايها النبيّ ضيق من الإنذار به وابلاغه إلى من أُمرتَ بالإبلاغه اليهم. ولا تخشَ تكذيبهم، واصبِر كما صبر أولو العزمِ من الرسل.
أما انتم يا أصحاب الرسول فاتّبعوا ما اوحاه ربكم ولا تتّبعوا من دون الله أولياءَ تولُّونهم أمورَكم وتستجِيبون لهم وتستعينون بهم، فالله وحدَه هو الذي يتولّى أمر العباد بالتدبير والخلق والتشريع، وبيده النفع والضرر.
﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾.
ما تتَّعظون إلا قليلا، حيث تتركون دينه تعالى وتتّبعون غيره.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: «تذكرون» بفتح التاء والذال المخففة، وابن عامر: «يتذكرون» بالياء والتاء. وقرأ الباقون «تذكرون» بتشديد الذال والكاف.
بعد ان بين الله تعالى انه أنزل الكتاب الى الرسول الكريم لنيذر به الناسَ ويكونَ موعظةً وذِكرى لأهل الايمان، وانه طلب اليه ان يأمر الناس باتباع ما أُنزل اليهم من ربهم، وان لا يتبعوا من دونه أحداً- أردف هنا بالخويف من عاقبة الخالفة لذلك، وبالتذكير بما حلّ بامم قبلَهم بسبب إعارضهم عن الحق، وإصرارهم على الباطل.
﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾.
لقد اهلكنا كثيراً من القرى بسبب عبادة اهلها غيرَ الله وسلوكهم غير طريقه. وقد جاءهم عذابنا في وقت غفلتهم ليلاً وهم نائمون، كما حدث لقوم لوط، او نهاراً وهم مستريحون وقت القيلولة كقوم شعيب.
﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾.
فاعترفوا بذنبهم الذي كان سببَ نكبتهم، وكان دعاؤهم واستغثُتهم حين جاءهم عذابنا أن قالوا- حيث لاينفهم ذلك - إنّا كنّا ظالمين لأنفسنا بالمعصية.
بعد ان أمر الله الرسُلَ في الآية السابقة بالتبليغ، وأمر الأمم بالقبول والاتّباع، ثم ذكّرهم بعذاب الأمم التي عاندت وعصت الرسُل السابقين- ذكر هنا ان الحساب يوم القيامة دقيق وعادل، حيث يُسأل كل انسان عن عمله ويحاسب عليه. يومئذٍ يُسأل الناسُ: هل بَلَغَتهم الرسالة؟ وبماذا اجابوا المرسلين؟ ولنسأل الرسل ايضا: هل بلَّغتم ما أُنزل اليكم؟ وبماذا اجابكم اقوامكم؟
﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾.
ولَنخبرنّ الجميع أخباراً صادقة بجميع ما كان منهم، لأننا أحصينا عليكم كل شيء. إننا لم نكُ غائبين عنهم في وقتٍ من الأوقات ولا حالٍ من الاحوال، وسيكون السؤال ههنا للإعلام والإخبار، توبيخاً لهم وتأنيباً على رؤوس الاشهاد.
روى الترمذي عن أبي الأسلمي عن النبي ﷺ انه قال: «لا تزولُ قدما عبدٍ حتى يُسألَ عن عُمُره فِيمَ أفناه، وعن عِلمه فيم عمِل به، وعن مالِه من اين اكتسبَه وفيم انقه، وعن جمسه فيم أبلاه» ﴿والوزن يَوْمَئِذٍ الحق...﴾ وفي ذلك اليوم يكون تقدي الأعمال تقديرا عادلا، ليأخذ كلُّ واحداٍ ما يستحقه من ثواب وعقاب فالذين كثُرت حسناتُهم ورجَحَتْ على سيئاتهم همُ الفائزون بالنجارة من العذاب، والحائزون للنعيم في دار الثواب. أما الذين كثُرت سيئاتهم ورجحت على حسناتهم فهم الخاسِرون، لأنهم باعوا أنفسَهم للشيطان.
ونحن لا نعلم كيفية وزن الحسنات والسيئات واذا كان العلم الحديث قد صنع موازين للحر والبرد واتجاه الريح والامطار وخزن المعلومات في الكمبيوتر وغير ذلك فان الله تعالى لا يعجز عن وزن الحسنات والسيئات وهو القادر على كل شيء.
بعد ان بين الله تعالى أنه هو واضعُ الدِين فيجب اتّباعه، وقفّى على ذلك بذكر عذاب الدنيا، وذكَر عذاب الآخرة- أردف هنا بذكر ما انعم به على عباده.
ولقد مكّناكم في الأرض وجعلنا لكنم أوطاناً تستقرون فيها، ومنحناكم القوة لاستغلالها، وهيأنا لكم وسائل العيش فيها، من نبات وأنعام وطير وسمك ومياه عذبه واشربة مختلفة الطعوم والروائح، ووسائل مختلفة للتنقل والارتحال من جهة الى اخرى تتقدم بتقدم العلم والاختراع، وغير ذلك مما يرفّه عنكم ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ وكل ذلك يقتضي منكم الشكَر الكثير، لكنّكم ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ وكما قال تعالى في آية اخرى ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾.
قراءات:
معايش بالياء، قرأ بذلك جميع القرّاء ورُوي عن نافع «معائش» بالهمز.
بعد ان ذكّر الله عباده في الآية بنعمة عليهم- بيّن هنا ان الله خلق النوع الانساني مستعدّاً للكمال، لكنه قد تَعرِض له وسوسة من الشيطان تحُول بينه وبين هذا الكمال الذي يبتغيه.
الخطابُ لبني آدم جميعا... لقد خلقنا مادة هذا النوع الانساني، وقدّرنا إيجاده، ثم صوّرناه على هذه الصورة الجميلة، ثم قلنا للملائكة اسجُدوا لآدمَ سجود تعظيم، فأطاعوا أمرنا وسجدوا له الا إبليس. لقد أبى واستكبر، وامتنع عن السجود ولما قال له الله تعالى منكراً عليه عصيانه: ما منعك من امتثال أمري، فرفضت ان تسجد لآدم مع الساجدين؟ اجاب ابليس في عنادٍ وكبر: أنا خيرٌ من آدم، لأنك خلقتَني من نار، وخلقتَه من طين والنارُ أشرفُ من الطين.
فجزاه الله على عناده وكيده بطرِده من دار كرامته، وقال له: اهبط منها بعد ان كنتَ في منزلة عالية.
﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾.
اي ليس ينبغي ان تكبر في هذا المكان المعَدَّ للكرامة والتعظيم، ثن تعصي ربك فيه ﴿فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين﴾ اي المحكوم بالذلة والهوان.
قال ابليس لله: «قال أنظِرْني إلى يوم يُبعثون» أي أمهلْني الى يوم القيامة، فأجابه الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾ اي اني أجبتُك إلى ما طلبتَ، لما في ذلك من الحكمة التي انا بها عليم.
﴿قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ اي أنني بسبب حكمك عليَّ بالغواية والضلال، أُقسم ان أقعد لأبناء آدم هذا على صراطك المستقيم، كي اصرفَهم عنه مُتّخِذاً في ذلك كل وسلة ممكنة.
﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ أي من كل جهة أستطيعها، ملمساً كل غفلة او ضعف فيهم. حتى لا يكون اكثرُهم مؤمنين.
﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ لنعمك عليهم.
فزاده الله نِكايةً وقال له: اخرُج من دار كرامتي مذموما بِكِبرك وعصيانك وهالكاً مطرودا من الجنة. وأٌقسِم أن من تَبِعك من بني آدم لَيكَونن في جهنَّم معك.
روى احد وابو داود والنسائي من حديث ابن عمر قال: لم يكن رسول الله ﷺ يدعُ هؤلاء الدعوات: «اللهم اخفظني من بين يَديّ ومن خَلْفي، وعن يَمين وعن شِمالي ومِن فوقي، وأعوذُ بك ان أُغتال من تحتي».
فدلاهما بغرور: خدعهما. قاسمها اقسم لها وحلف ليخدعهما. سواءاتهما: عوراتهما. يخصفان: يلزقان ورقة فوق ورقة. ما روي عنهما: ما غُطي وستر.
لا يزال الحديث متّصلاً في الكلام على النشأة الاولى للبشر.
﴿وَيَا آدَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾.
الجنة: هي التي خُلق فيها آدم، أما هو فقد خُلق من الأرض بنص القرآن الكريم. وقد تكررت قصة آدم في سبعة مواضع من القرآن الكريم.
وجمهور المفسرين على انها جنة الجزاء التي وُعد بها المتّقون يوم القيامة. ولاخطاب لآدم. وهو: أُسكن انت وزوجُك حوّاء الجنة، وتنعّمها بما فيها، فكُلا من أيّ طعام أردتما إلا هذه الشجرة (شجرة قد عينها الله لهما) فلا تقرباها حتى تظلما نفسيّكما بمخالفة اوامري.
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان...﴾.
فزيّن لهما الشيطانُ مخالفة أمر الله، حتى اذا أكلا منها انكشفت عورتُهما. وقال الشّيطان لهما: إنما نهاكُما عن الأكل من هذه الشجرة حتى لا تكنا ملَكَين، أو من الخالدِين الّين لا يموتون أبدا.
﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ وأقسم لهما أنه ناصح لهما فيما رغّبهما فيه من الأكل من تلك الشجرة.
﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة﴾.
فما زال يخدعهما بالترغيب في الأكل حتى أطاعاه، فلمّا ذاقا طعمها انكشفت لهما عورتُهما، فخجِلا وجعلا يجمعان بعض أوراق الشجر من الجنة ليستُروا بها عوارتهما.
فعاتبه الله تعالى على عصاينه أمره، وإطاعتِه للشيطان فقال:
﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ﴾.
وناداهما ربهما منّبهاً لهما على خطئهما، ومعاتباً لهما قائلاً: ما نَهَيتُكما عن ان تقربا هذه الشجرة وقلتُ لكما إن الشيطان لا يرد لكما الخير فان أطعتُماه أخرجكما من الجنة الى حيث الشقاء والتعب!
عند ذاك قال آدم وزوجته نادمَين متضرعَين: يا ربّنا، لقد ظلمنا أنفسَنا بمخالفة امرك، وإن لم تغفر لنا ما فعلناه لنكونَنَّ من الخاسرين.
﴿قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾.
قال الله لآدم وزوجته حواء، وللشيطان، اهبطوا من هذه الجنة جيمعا، الى الأرض هناك سيكون استقراٌ وبقاء الى زمن مقدَّر في علم الله، وهو الأجل الذي تنتهي فيه أعماركم. كما ان لكم فيها متاعاً تنفتعون به في معاشكم.
ثم فصّل بقوله: ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾.
أي أنكم في هذه الأرض التي خُلقتم منها تولَدون وتعيشون، وفيها تموتون وتُدفون، ومن هذه الأرض تُخرجون عند البعث، كما قال تعالى في سورة طه: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى﴾.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وخلف ويعقوب: «تخرجون» بفتح التاء وضم الراء، والباقون «تخرجون» بضم التاء وفتح الراء.
بعد ان ذكر الله تعالى خبر آدم وحواء والشيطان، وإبعادهم جميعاً إلى الأرض، وذكر ان الشيطان عدو لهما- بيّن هنا أنه انعم على آدم ونسله بأن خلق لهم كلِّ ما يحتاجونه من اللباس والطعام، وأن خير لباس يتزيّن به الإنسان هو تقوى الله. لذلك حذّرهم من الشيطان وفتنته بوسائله الكثيرة وأتباعه المتنوّعين.
هنا نادى الله بني آدم وامتنّ عليهم بما أنعم عليم من اللباس على اختلاف انواعه، وقال لهم: لقد خَلقنا لكم، ملابس تستر عوارتِكم، وموادّ تتزينون بها، لكن الطاعةَ والتقوى خير لباس يقيكم العذاب فتجمّلوا بها وتلك النعم من الآيات الدالة على قدرة الله، وعلى رحمته، ليتذكر الناس بها عظمته وأنه وحده يستحق الالوهية وتلك القصة من سُنن الله الكونية التي تبيّين جزاءَ مخالفة أمرِ الله فيتذكر بها الناس ويحرِصُون على طاعة ربهم. وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.
﴿يا بني آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة...﴾.
يا بني آدم لا تستجيبوا للشيطان ولا تغفلوا عن محاولته خداعكم وايقاعكم في المعاصي، فتخرجوا من هذه النعم التي لا تدوم بالشكر والطاعة. إياكم أن تفعلوا كما فعل أبواكم آدمُ وحواء، فأخرجهما الشيطان من النعيم والكرامة. انه يأتيكم وأعوانُه بوسائل متعددة، حيث لا تشعرون بهم، ولا تُحسّون بأسليبهم ومكرهم. وليس للشيطان سلطانٌ على المؤمنين، إذ جعلناه وأعوانه أولياءَ للّذين لا يؤمنون إيماناً صادقاً، فهم اتباعه وجنوده.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر والكسائي «ولباس التقوى» بالنصب، والباقون بالرفع.
بعد ان بيّن الله حالة الشياطين وأنهم قرناء للعاصين مسلَّطون عليهم- ذكر هنا أثر ذلك التسلط، وهو الطاعةُ لهم في أقبحِ الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح. لذا فإنهم يقولون: إنّنا نقلّد آباءَنا والله أمَرَنا بذلك.
وسببُ ذلك أن العرب ما عدا قريشاً كانوا لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها من قبلُ، ويقولون: لا نطوف في ثيابٍ عَصينا فيها. وكانت قريش فقط تطوف في ثيابها، ومن اعراه قريشيُّ ثوباً طاف فيه، ومن كان معه ثوبٌ جديد طاف فيه ثم يلقيه، ومن لم يجد ثوباً طاف عريانَ. كان هذا مذهبهم، رجالاً ونساءً، فحرَّم ذلك الإسلام فقال:
﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا﴾.
واذا فعل الذين لا يؤمنون بالله عملا قبيحا لطوافهم في البيت عرايا، وغير ذلك من الامور الباطلة، فلامهم الناس على ذلك، قالوا وجدنا آباءَنا يفعلون كما نفعل، ويسيرون على هذا المنهاج، ونحن بهم مقتدون، والله أمرنا به ورضي عنه حيث أقرّنا عليه.
وقد ردّ الله على ذلك بقوله:
﴿قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء﴾ قل ايها النبيّي منكِراً عليهم افتراءَهم: ان الله لا يأمر بهذه الأمور المنكَرة.
ثم ردّ عليهم أيضا بقوله:
﴿أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أتنسِبون الى اله ما لا تعلمون انه شَرَعَه لعباده، وليس عندكم دليل على صحة ما تقولون!!
وبعد ان أنكر عليهم ان يكونوا على علم بأمر الله فيما فعلوا، بيّن ما يأمر به الله من محاسن الأعمال وكارم الاخلاق بقوله لرسوله:
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط﴾ أي بالعدل، وما لا فُحش فيه. وأمركم ان تخصّوه بالعبادة في كل زمانٍ ومان، وان تكونوا مخلِصين له الدينَ، ولا تتوجهوا الى غيره.
وبعد أن بيّن أصلَ الدين، وأمَرَنا بالتوجّه إليه وحدَه- ذكّرنا بالبعث والجزاء على الاعمال فقال:
﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ أي إنكم أيها البشَر كما بدأ الله خلقَكم وتكوينَكم ستعودون اليه اليوم القيامة، تاركين ما حوله من النِعم وراء ظهوركم.
﴿فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾.
وسيكون الناس يوم القيامة فريقين: فريقاً وفّقه الله لأنه آمن وعمل عملاً صالحا، وفريقاً حكم عليه بالضلالة لأنه اختار طريق الباطل وهؤلاء الضالُّون قد اتّخذوا الشياطينَ أولياء من دون الله فاتَّبعوهم، فضلّوا وهم يظنّون أنهم مهتدون، لاغترارهم بخداع الشياطين.
في هاتين الايتين تأكيدٌ على ستر العورة، والتزُّين والتجمُّل عند كل صلاة: فاللهُ سبحانه بعد أن أمر بالعدل في كل الأمور- أكّد هنا بنداء إلى بين آدم: خُذوا زينتكم من الثياب الحسنة، مع الخشوعِ والتقوى عند كل مكان للصلاة، وفي كل وقتٍ تُؤَدون فيه العبادة. ثم إنه أمَرَنَا بالاعتدال في الأكل والشرب، وأن لا نتجاوز الحدّ المعقول: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ لأن الإسراف في المطعَم يُضِرّ بالصحة، والإسراف في المال يؤدّي الى الفقر، وبذلك يجني المرء على أُسرته، ومن ثم على وطنِه حين يغدو عالةً على المجتمع.
والتزيُّن للعبادة عند كل مسجد وِفق عُرف الناس في تزينّهم في المجتمعات والمحافل، أمرٌ مطلوب شرعاً، لكيون المؤمن في أجمل حال عندما يقف بين يدي ربه، او في أيّ اجتماع. وهو أصلٌ من الأصول الدينية والمدنيّة عند المسلمين. وقد كان سبباً في تعليم القبائل البدائية، والاوساط المتأخرة في إفريقية وغيرها من الامم التي تعيش عراةَ الأجسام رجالا ونساء. وكان هذا من فضل الاسلام، الذي نقل امما وشعوبا من الوحشية الى الحضارة الراقية.
وقد روى النَّسائي وابنُ ماجه ان النبي ﷺ قال «كُلُوا وشرابوا وتصدَّقوا والبَسوا في غير مَخيِلَةٍ ولا سَرَف، فإن الله يحبّ ان يرى أثَرَ نِعمه على عبده». ومعنى «مخيلة» كِبر وإعجاب بالنفقس.
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ...﴾.
قل لهم يا محمد، منكراً عليهم افتراءَ التحليل والتحريم على الله: من الذي حرَّم زينةَ الله التي خلَقها لعباده؟ ومن الذي حرم الحلالَ الطيبَ من الرزق؟ وقل لهم: إن الطيّبات نعمةٌ من الله، ما كان ينبغي ان يتمتع بها إلا الّين آمنوا في الدينا، لأنهم يؤدون حقّها بالشُّكر ولاطاعة، لكن رحمةَ الله الواسعة شملتْ جميع عباده الطائعين والعاصين في الدينا اما في الآخرة فسوف تكون النعم خالصة للمؤمنين وحدهم.
روى ابو داود عن ابي الأحوص قال: «اتيتُ رسول الله ﷺ في ثوب دون، فقال:» ألَكَ مال؟ قلت: نعم، قال: من أيّ المال؟ قلت: قد آتانّي اللهُ من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا آتاك الله فَلْيَرَ أثَرَ نِعمته عليك وكرامته لك «.
﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾.
ان هذا التفصيلَ لِحُكم الزينة والطيبات من الرزق الذي ضلَّ فيه كثير من الأمم والأفراد، ما بين إفراط وتفريط، انما جاء في كتابنا هذا أيها الرسول، لِقومٍ يدركون ان الله وحدَه مالكُ الملك، بيده التحليل والتحريم.
قراءات:
قرأ نافع» خالصةٌ «بالرفع، والباقون» خالصة «بالنصب.
بعد أن أنكر الله فعلَ من حرمّ زينةَ الله التي أخرجها لعباده والطّيبات من الرزق- بيّن هنا أصولا لمحرّرمات، حتى يعلمَ الناسُ انه لم يحرّم عليم إلا ما هو ضارٌّ لهم. فقلْ ايها الرسول لِلْذين افتروا على الله الكذب: إنما حرّم ربي هذه الأمورَ التسة، لما لها من ضرر شديد وخطر عظيم على الأُمم وهي:
١، ٢- الفواحشُ، الظاهرة والباطنة، من الأعمال المتجاوِزة لحدود الله.
٣- الإثم: وهو كل معصية لله أياً كان نوعها.
٤- البغي بغير الحق، وهو الظلم الذي فيه اعتداءٌ على حقوق الأفراد والجماعات.
٥- الشِرك بالله وهو أقبح الفواحش.
٦- ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي تفتروا عليه سبحانَه بالكذِب في التحليل والتحريم بغيرِ علمٍ ولا يقين.
بعد ان بيّن تعالى المحرمات على بني آدم، ذكر هنا حال الأمم وأنها مهما طال امها فانها ذاهبة، ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ اي أمدٌ ونهاية معلومة ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ...﴾ فاذا جاء ذلك الوقت الّذي وقَّته الله لنهايتهم - ذهبوا، لا يتأخّرون عنه ولا يتقدّمون حتى وقتاً قصيرا.
والأجلُ المضروب إما أجَلُ كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يُنهي الحياة، واما أجلُ كل أمةٍ من الأمم بمعنى الأمدِ المقدَّر لقوّتها في الارض. وسواء كان المعنّى هذا الأجَل أو ذلك فإنه مرسوم محدَّد.
يا بني آدم: إن يأتِكم رسُلٌ من أبناء جنسكم من البشر ليبلّغوكم آياتي التي أوحيتُها لهم، كنتم فريقين: فالّذين يؤمنون ويعملون لاصالحاتِ لا خوفٌ عليهم من عذاب الآخرة ولا هم يحزَنون في ديناهم واخراهم.
اما الّذين يكذّبون اولئك الرسُل، ويستكبرون عن اتّباع الآيات فأولئك أهلُ النار، يخلُدون فيها بادا، لأن التكذيبَ للرسل والاستكبار عن الانقياد لله يُلحِق المستكبرين بوليّهم إبليس في النار: حيث خاطبه ربّه: ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأعراف: ١٨].
أولاً: عند احتضارهم يوم الموت، فيقول: إن من اشدِّ الناس ظُلماً أولئك الّذي يفترون على الله الكذب أو يكذّبون بآيات الله. كيف تأييهم رسُل الله لقبض أرواحهم!.
ثم يأتي المشهد الثاني يوم القيامة حيث يدخلون جهنم. كيف يلعن بعضهم بعضاً عندما يتقابلون، وكيف يطلبون العذاب المضاعف!
قراءات:
قرأ الجمهور: «لا تعلمون» بالتاء، وقرأ ابو بكر عن عاصم: «لا يعلمون» بالياء.
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً...﴾.
لا أحدّ أظلمُ من الذين يفترون الكذبَ على الله، بنسبة الشريك والولد إليه، وادّعاء التحلي والتحريم من غير حُجة، او يكذّبون بآيات الله المُوحى بها فيكتبه أولئك ينالون في الدنيا نصيباً مما قُدّر لهم من الرزق والحياة، حتى اذا جاءهم ملائكة الموت، قال لهم الملائكةُ موبخين إياهم: أين الشركاءُ الّذين كنتم تعبُدون في الدنيا من دون الله! دعوهم يدرأون عنكم الموت؟ فيقولون: لقد بترّأوا منّا وغابوا عنّا. ونحن نشهد على أنفسنا أننا كنّا بعبادتنا لهم في ضلال ظاهر.
﴿قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ...﴾.
يومئذ يقول الله لهؤلاء الكفار: ادخلوا النار منع أممِ من كفّار الجن والإنس، قد مضَت من قبلكم، كلما دخلت جماعةٌ النار ورأت ما حلّ بها من الخِزي لَعَنَتْ سابِقتَها التي اتّخذتها قُدوة لها. حتى اذا تتاعبوا فيها مجتمعين، قال التابعون يذمُّون المتبوعين: ربّنا هؤلاء أضلّونا بتقلِيدِنا لهم، وبتسلُّطهم علينا. إنهم هم الذين صرَفونا عنا لحق، فعاقبّهم عقاباً مضاعفا. وهنا يردّ صاحب العزّة والجلال: لكلٍ منكم عذابٌ مضاعَف، لا ينجو منه أحد، ولا تعلمون شدّته ولا مداه.
﴿وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ....﴾.
إذ ذاك يقول المتبوعون للتابعين: إذا كان الأمر كما ذكرتم من أنا أضلَلْناكم فما كان لكنم علينا أدنى فضلٍ تطلُبون به ان يكون عذابُكم دون عذابنا.
فيقول الله لهم جيمعاً: ذوقوا العذابَ الّذي استوجَبْتُموه بما كنتم تقترفون من كفرٍ وعصيان.
وبهذا ينتهي ذلك المشهد الأليم، ليتبعه تقريرٌ وتوكيد لهذا المصير المؤلم الذي لن يتبدل بقوله تعالى ﴿إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا...﴾.
الجمل: الحيوان المعروف. سم الخيا «ثقب الابرة. يلج: يدخل المجرمين: المفسدين المذنبين، وأصل الجرم القطعُ، والجرم الذنب. المهاد: الفراش الغواشي: الاغطية، وكل ما يستر ويغطي، والمعنى ان النار محيطة بهم من كل جهة.
في هاتين الآيتين تتمةُ ما سلَفَ من وعيد الكفار وجزاء المكذّبين.
ان الذين كذّبوا بآياتنا المنزَلَة في الكتُب، ولم يتّبعوا رسُلنا، بل تكبّروا عن التصديق بما جاءوا به ولم يتوبوا- ميؤوس من قبول أعمالهم، ومن المستحيل ان يدخُلوا الجنة، كاستحالة دخول الجمل في ثُقب الإبرة.
﴿وكذلك نَجْزِي المجرمين﴾.
على هذا النحو من العقاب نعاقبُ المرجمين المكذِّبين والمستكبرين من كل أُمة.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: لا تُفْتَحُ بالتخفيف وقرأ حمزة والكسائي: لا يُفْتَحُ بالياء.
﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ...﴾.
إنّ لهم في جهنم فراشاً من نار، وأغطيةً من نار، أي أن النار محيطة بهم مطبِقة عليهم كما جاء في كثير من الآيات ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ﴾ وهذا جزاء الظالمين.
يعرض الله تعالى هنا المشهدَ المقابل، وهو حال المؤمنين وما يلاقونه يوم القيامة من نعيم، وكيف يُذهِب من صدروهم كلَّ حقدٍ وغل، فيحمَدون الله على نِعمه وما أورثهم من جنات. وتلك طريقة القرآن الكريم، وهذا منهجه الحكيم.
والذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة التي لم نكّلفهم إى ما يُطيقونه منها، هم اهل الجنة يتنعّمون فيها، خالدين فيها ابدا.
لقد أخرجْنا ما كان من صدورهم من حقد، فهم اليوم في الجنة، إخوان متحابّون- وهذا بخلاف الكّفار الّذين يلعن بعضُهم بعضا- تجري من تحتهم الأنهار بمائها العذب، ويعبّرون عن رسورهم بما نالوا من النعيم قائلين: الحمدُ لله الّذي هدانا فدلَّنا على طريق هذا النعيم، ووفّقنا الى سلوكه ولولا أن هدانا الله، بإرسال الرسل وتوفيه لنا، ما كان في استطاعتِنا ان نهتدي وحدنا. لقد جاءت رُسل ربّنا بالوحي الحق فآمنّا برسالاتهم.
وهنا يناديهم ربهم ويقول لهم: إن هذه الجنةَ هبةٌ من الله أُعطيتموهما فضلاً مني دون عوض منكم، كالميراث، كل هذا جزاء إيمانكم واعمالكم الصالحة في الدنيا.
قراءات:
قرأ ابن عامر: «ما كنا لنهتدي» بدون واو والباقون وما كنا لنهتدي.
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخّدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، ان رسول الله ﷺ قال: «إذا دخل أهلُ الجنة الجنةَ، ينادي منادٍ، إن لكم ان تَصِحُّوا فلا تَسْقموا أبدا، وإن لكم ان تَحيوا فلا تموتوا أبدا، وان لكنم ان تَشُبّوا فلا تهرَموا أبدا، وإن لكم أن تَنْعَموا فلا تيأسوا ابدا».
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: «سَدِّدوا وقاربوا وأبشِروا، فإنه لا يُدخِل أحداً الجنةَ عملُه» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا، إلا أن يتغمّدَني الله بمغفرٍة ورحمة».
سدِّوا وقاربوا: لا تغْلوا في دينكم، ولا تتكلفوا من العمل ما لا طاقة لكم به.
وهذا الحديث تنبيهٌ من النبي الكريم لنا حتى لا نغترَّ بأنفُسِنا وبأعمالنا فنتلّكلَ عليها كما يفعل كثير من المتدينين. فنارهم يشمخون بانوفهم، ويتعالون على غيرهم، وهذا ليس من الاسلام.
ومعنى الحديث: إن هذا الجزاءَ الذيَ يحصَل عليه الطائعُ ليس بَدَلاً مماثلاً لطاعتهن وليس جزاء مساوياً كالشأن بين البدَلَين، وان كانت الطاعة هي التي اوجبتْه. لذا فإنه لن يدخلَ أحدُكم الجنةَ بعملٍ يساوي ما فيها من النعيم ففضلُ الله عظيمٌ سابغ باعتبار جعلِه الجنةَ بَدَلاً من عمل محدود لا يقابلها في ذاته.
بعد أن ذكر الله وعيدَ الكفار وثواب أهلِ الإيمان بيّن ما يكون بين الفريقَين: فريق أهل الجنة، وفريق أهل النار، من المناظرة والحِوار بعد ان يستقرّ كلُّ منهما في داره. ولا يقتضي هذا الحوارُ والتخاطب قُرب المكانب على ما هو معهود في الجنيا، فعالَمُ الآخرة عالَمٌ مختلِف كل الاختلاف فيجوز أن يكونَ بين الجنة والنار آلافُ لأميال او اكثر، ومع ذلك يمكن للفريقَين ان يروا بعضَهم، ويسمعوا كلام بعضٍ بحالٍ لا ينَعْلَمُه، وبطريقةٍ تختلف كل الاختلاف عن حالِنا وعالمنا.
﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار...﴾.
ونادى اهل الجنة النار قائلين: قد وجدْنا ما وَعدَنا ربُّنا من الثواب حقّاً، فهل وجدتُم أنتم مثل ذلك في العذاب حقا؟ فأجابوهم: نعم، قد وجَدْنا ما أوعدَنا به ربُّنا حقّا كما بلَّغنا إياه على ألسنةِ الرسل فنادى منادٍ بين أهل الجنة وأهل النار قائلا: إن الطردَ من رحمة الله هو جزاءُ الظالمين لأنفهسم، الجانِين عليها بالكفر والضلال.
قراءات:
قرأ ابن كثير، وابن عامر وحمزة والكسائي: «أنَّ لعنةَ الله». بالتشديد وقرأ نافع وابو عمرو وعاصم: أنْ لعنةُ اللهِ باسكان النون ان، ورفع لعنة.
﴿الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً...﴾.
إنهم همُ الّذين يُعرِضون عن سبيل الله ويمنعون الناسَ عن السَّير في الطريق السويّ، وهو الايمان والعمل الصالح، ويبغون الطريق المعوجّة الضالَة المضلة.
﴿وَهُمْ بالآخرة كَافِرُونَ﴾.
وهم منكرِون للبعث والجزاء. ولذلك تجدهم لا يبالون، فيأتون المنكَر من القول والعمل. هؤلاء هم شر الناس.
فيه هاتين الآيتين والآيتين اللاحقتين يجيء ذكر لفرقة لم يتحدث عنها القرآن الكريم باسمِها ومكانها وندائها إى في هذه السورة. وهي الفرقة التي سميت «أصحابَ الأَعراف» وسُمّيَت السورة باسمها.
وذلك وصفٌ لمشهد آخر من مشاهد يوم القيامة يبين أنَّ بين اهل النار واهل الجنة حجاباً، وأن هناك جماعةً على الأعراف ينادون أهلَ الجنة بالتحيّة والتكريم.
﴿يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ﴾.
يعرفون كلا من السعداء والاشقياء بعلامات تدل عليهم من اثر الطاعة والعصيان.
﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ لم يدخلوا الجنةَ بعد، وهم يرجون دخولها.
﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين﴾.
وإذا تحوّلت أبصارُهم إلى أصحاب النار، قالوا من هول ما رأوا: يا ربّنا، لا تُدخِلنا مع هؤلاء الظالمين.
ثم يأخذ اصحاب الاعراف في تبكيت أهل النار من جهةِ مان كانوا يجمعون من جموعٍ ليصدُّوا عن سبيل الله، وما كانوا يُبدون من استكبارٍ عن تقبُّل دعوة الحق. ولا ينسون توبيهم من جهة موققِهم من التسضعَفِين من المؤمنين في الدنيا مثل بلالٍ وصُهيب وآلِ ياسر وغيرهم، حيث كانوا يستهزئون بهم ويُقسمون الأيمان المغلّظة على انهم لا يمكن ان يكونوا صالحين، فقال تعالى ﴿ونادى أَصْحَابُ الأعراف﴾.
ثم وجّه إليهم سؤال توبيخٍ وتأنيب:
﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ؟﴾.
أهولاء الذين حلفتم في الدنيا أن رحمة الله لن تنالهم! ها هم قد دخلوا الجنة، وكانوا من الفائزين.
﴿ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾.
قال الله تعالى لأصحاب الاعراف بعد أن طال وقوفُهم، وهم ينظرون إلى الفريقين: ادخُلوا الجنةَ لا خوف عليكم من أمر مستقبلكم، ولا أنتم تحزنون عن أمرٍ فاتكم.
وقد تكلم العلماء في هذا المقام كثيرا، وتعدّدت الآراء فبعضهم قال إن رجال الأعراف ملائكة، وبعضهم قال إنهم الانبياء، او عدول الأُمم الشهداءُ على الناس، او أهل الفترة، او هم الّذين تساوت حسناتُهم وسيئاتهم الى غير لك من الأقوال.
والذي يجب أن نقفَ عنده هو ان هناك حجاباً بين الجنة، والنار، اللهُ أعلمُ بحقيقته، لأنه في عالم الآخرة. والمقصودُ ان ذلك الحجاب يحجِز بين الفريقين، لكنّه لا يمنع من وصول الأصوات وان هناك مكاناً له صفةُ الامتياز والعلوّ، فيه رجال لهم من المكانة ما يجعلهم مشرِفين على هؤلاءِ وهم ينادون كلّ فريقٍ بما يناسبه.. يحيُّون أهل الجنة، ويبِكّتُون أهل النار. ثم إن أصحاب هذا الحجاب يدخلون الجنة برحمة من الله وفضله.
في هاتين الآيتين مشهد من مشاهد الآخرة بين أصحاب الجنة. فبعد ان بين الله تعالى مقال أهل الجنة لأهل النار، ومقال أصحاب الاعراف لأهل الجنة- ذكر كيف يستجدي أهلُ النار، بعد ان لفحتهم حرارةُ النار واشتد بهم الظمأ، من أهل الجنة ان يمنحوهم شيئا مما يتمتعون به من شارب وطعام: فينادونهم قائلين: أفِيضوا علينا بعض الماء، او أعطونا شيئاً من طيبات المأكل والملبس في الجنة فيجيبهم اهل الجنة: اننا لا نستطيع، لان الله تعالى حرّم ماء الجنة ورزقها على الكافرين، كما حرم عليهم دخولها.
وقد وصف أهلُ الجنة الكافرين بأنهم كانوا السببَ في ذلك الحرمان:
﴿الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ أي شَغَلتْهم بزخارفها، وكان دينهم اتّباعَ الهوى والشهوات. لقد ظنّوا أن الحياة الدنيا لا حياةَ غيرها، فعكفوا على الجانب الماديّ المظلم، وحرموا انفسهم من الجانب الروحي المشرق. هكذا عاشوا في ظلام المادّة وهم يحسبَون أنهم يُحسِنُون صنعا.
وكثيراً ما يضيف القرآن الكريم هذا الوصفَ الى الكفار ويعلن انه سبب نكبتم وسوء مصيرهم.
بعد هذا يسمع أهل لنار الحكم الالهي العادل:
﴿فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾.
فاليوم نعاملهم معاملةَ الشيء المنسِيّ الذي يبحث عنه أحد لقد جَحَدوا بآيات الكون فلم تفتّح لها يعونُهم، ولم تتجه إلهيا قلوبُهم، وأعرضوا عن حكم الله وإرشاده. بذلك نسُوا لقاءَ يومهم هذا، فوقعوا فيما وقعوا فيه.
بعد ان بين الله احوال اهل الجنة وأهل النار وأهل الاعراف وما دار بينهم من حوار، عقَّب بذِكر حال القرآن الكرين، وأنه حجةُ الله على البشر كافة، أزاح عِلل الكفار وأبطل معاذيرهم. ثم أردف تعالى بذِكر حال المكذبين وما يكونم منهم يوم القيامة من الندم والحسرة وتمنّي العودة الى الدنيا ليعملوا غير الذي كانوا يعلمون. لكن، هيات.. لقد فات الأوان وطُويت حياة العمل.
لقد جئناهم بكتابٍ كامل البيان هو القرآن فصّلنا آياتِه تفصيلاً على علم منّا، فيه أدلّةُ التوحيد وآياتُ الله في الكون، وما يحتاج اليه المكلَّفون من العلم والعمل وفيه بيان الطريق المستقيم.
﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ هل ينتظرون إلا عاقبةَ ما وُعدوا به على أَلسنة الرسُل من الثواب والعقاب؟ ليس أمامهم شيء ينتظرونه إلا وقوعَ تأويله من امر الغيب لاذي يقع في المستقبل، في الدنيا ثم في الآخرة.
﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق﴾.
ويوم يأتي هذا المَآل، وهو يوم القيامة، وينكشف كل شيء - يقول الذين تركوا اوامره وبياناته، معترفين بذنوبهم: قد جاءنا الرسُل من عند ربِّنا داعيِين إلى الحق الذي أُرسلوا به، فكفرنا بهم.
ثم ذكر الله حالهم في ذلك اليوم العصيب، وتلهُّفَهم على النجاة. فقال:
﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾.
هنا يتمنَّوْن الخلاصَ بكل وسيلة ممكنة، إما بشفاعةِ الشافعين، وإما بالرجوع الى الدنيا. ولك ذلك مستحيل.
﴿قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾.
قد غبنوا أنفسَهم بغرورهم في الدنيا وباعو نعيم الآخرة الدائمَ بالخسيس من عَرَضٍ الدينا الزائل، وغاب عنهم ما كانوا يكذِبونه من ادْعاءِ إلةٍ غير الله.
في الآيات السابقة كان القول في أمر المَعادِ والفئات من الناس في ذلك اليوم، وما يدور من حوار بين لتك الفئات. وهنا، يذكر الخَلق والتكوينَ وبيان قدرته تعالى وعظيم مصنوعاته.
إن ربّكم الذي يدعوكم بواسطة رسُله إلى الحق هو خالقُ الكون ومبدعه: خلق السماوات والأرض في ستة أيام. وهي غير أيامنا المعروفة لأن الإنسان عندما يخرج من جو الارض ينعدم لديه الزمان المعروف عندما ويصبح غير محدود، كما قال تعالى: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ هذا مع انه جل جلاله قارد على ان يخلق الكون في لحظة واحدو، ولكنه يقرّب إلى أفهامنا الأمور على قدر مانستطيع فهمها.
﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش...﴾ ثم استولى على السلطان الكامل.
وهو الذي يجعل الليلَ يستر النهارَ بظلامه، ويعقِّب الليلَ النهارَ سريعاً بانتظام كأنه يطلبه كذلك خلقَ الشمسَ والقمر والنجوم، وهي خاضعة له مسيِّراتٌ بأمره. إن له وحده الخلقَ والأمَر المطاع ﴿تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين﴾.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة ثلاثة معان:
اولها: أن السماواتِ والأرضَ خلقهما الله تعالى في ستة أيام، لكنها ليست بقدر ما نراه الآن ونعيش فيه، ونعدّه في الحساب، بل المراد يتغر أحوالٍ بين ظَلام وغَبَش، وإصباح وضُحى، وظهيره وأصيل.
والأحوال الستةُ التي اعتُبرت أياماً كما يذكرها العلماء المختصّون، هي: حال الأثير، وهي التي عَبَّر عنها في سورة الدخان بأنها دخان. ثم كان من هذا الأثير شموسٌ لا حصر لها، منها شمسُنا ثم الأرض والكواكب وهذا النظام الذي نعيش فيه، وهو ذرّةٌ في هذا الكون الواسع.
ثانيها: أن كلّ ما في الكون هو في سلطان الله وحده، ولا سلطان لأحد سواه ومهما يُؤْتَ الانسان من قوةٍ فلن يستطيع تسيير الكون على ما يريد، وأقصى ما يستطيعه أن ينتفع به، ويعرف بضع ما فيه من أسرار.
ثالثها: أن تعاقب الليل والنهار جاءَ بعد خلْقِ الأرض والسماوات، في احوال نسبية بالنسبة لأصل تكوين الارض والعلاقات بينهما وحركاتهما.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عصام: يُغَشّىِ، بالتشديد وقرأ نافع وبان كثير وابو عمرو وعاصم في رواية حفص يُغْشي بضم الياء وسكون الغين.
بد ان ذكر سبحانه وتعالى الأدلة على توحيد الربوبية، امر بتوحيد الألوهية أي إفراده تعالى بالعبادة.
اذا كان الله قد أنشأ الكونَ وحده، فاعدوه متضرّعين مبتهِلين، جهراً وغير جهر. والدعاء خفية أفضلُ، لما روى أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنهـ قال: كنا مع النبي ﷺ في سفَر فجعل الناس يجِدُّون بالتكبير فقال رسول الله: «أيها الناس، اربَعوا على أنفسِكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا. إنكم سَميعاً قريباً وهو معكم» رواه مسلم ومعنى اربَعوا على انفسكم: ارفقوا بأنفسكم.
وفي الحديث ايضا «خيرُ الذِكر الخَفِي، وخير الرزق ما يكفي» رواه احمد وابن حبان وابو يعلى عن سعد بن ابي وقّاص رضي الله عنهـ.
وفصّل بعض العلماء فقال: ان التضرُّع بالجهر المعتدِل يحسُن في حال الخَلوة، والأمنِ من رؤية الناس للداعي وسماعهم لصوته. أما الدعاء خفيةً فيحسُن في حال اجتماع الناس في المساجد وغيرها إلى ما ورد في رفعُ الصوت من الجميع كالتلبيةِ في الحج وتكبير العيدين.
﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾.
لا تعتدوا بإشراك غيره معه في الدعاء او بظلم أحدٍ من الناس، فان الله لا يحب ذلك.
﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾.
ولا تفسِدوا في الأرض بإشاعة المعاصي والعدوان، بعد أن أصلحها الله بما خلق فيها من المنافع وما هدى الناس اليه من الاستغلال.
والإفساد هنا شامل لإفساد العقول والعقائد والآداب الشخصية، والاجتماعية من جميع وجوهها.
وبد ان بيّن في الآية الأولى كيفيّةَ الدعاءِ أعاد الأمر به في الآية الثانية. وذلك إيذاناً بانَّ من لا يعرف أنه محتاج إلى رحمة ربه، ولا يدعو ربه تضرّعاً وخفية - يكون أقربَ الى الإفساد منه الى الاصلاح فقال:
﴿وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ ادعوه سبحانه خائفين من عقابه، طامعين في ثوابه. ثم إنه بيّن فائدة الدعاء وعلّل سبب طلبه فقال: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين﴾، إن رحمته قريبة من كل محسِن، وهي أكيدةٌ محققة. والجزاء من جنس العلم، فمن أحسن في عبادته نال حُسن الثواب، ومن احسن في الدعاء نال خيراً مما طلب وقريب (فعيل) يوصف بها المذكر والمؤنث.
قال الراغب: كلُّ موضع ذكَر الله فيه إرسال الريح بلفظ الواحد كان للعذاب، وكل موضع ذكَر فيه الريحَ بلفظ الجمع كان للرحمة. واظن ان هذا في الغالب، لان الله تعالى يقول: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ وفي سورة يوسف: ﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ سورة [يوسف: ٩٤].
بُشرا: مبشرة بين يدي رحمته: قدّام رحمته اقلّت: حملت. سحابا ثقالا: غيما مثقلا بالمياه البلد: يطلق على البلدة، وعلى الموضع لبلدٍ ميت: ارض لانبات فيها.
الثمرات: كل ما تحمله الأشجار من جميع الانواع النكد: العسِر: الشحيح: القلي النفع نصرّف الآيات: نبدل الاشياء من حال الى حال.
إن الله سبحانه تعالى وحده هو الذي يُطلِق الرياح مبشَرة برحمته «وهي هنا الأمطار التي تُنبت الزرعَ وتسقي الغرس) فتحمل هذه الرياحُ سحاباً محمَّلاً بالماء، يسوقه الله إلى بلد ميتٍ لا نبات فيه فينزل الماء، وبه يُنبت الله أنواعاً من كل الثمرات تدل على قدرة الله وعلمه ورحمته وفضله.
وبعد ان ذكَّرهم بهد الآيات والنعم قفّى على ذلك ما يزيل إنكارهم للبعث فقال: ﴿كذلك نُخْرِجُ الموتى﴾.
بمثل ذلك الإحياء للأرضِ بالإنبات نُخرج الموتى فنجعلهم أحياء.
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
أي تفطنون لهذا الشبه فيزول استبعادُكم للبعث، وبذلك تتذكّرون قدرة الله تؤمنون به.
قراءات:
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (الرّيح» بالافراد. وقرأ ان عامر: نُشْراً جمع نشور، وقرا حمزة الكسائي: نَشْراً بفتح النون وقرأ عصام كما هو بالمصحف «بُشْراً» وقرأن نافع: نُشُراً بضم النون والشين.
وبعد أن ضرب الله إحياءَ البلاد بالمطر مثلاً لبعث الموتى، ضربا لخلاف نتاج البلاد مَثَلاً لما في البشَر من اختلاف الاستعداد لكّلٍ من الهدى والكفر.
﴿والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً﴾.
أما الأرض الجيدة التربة فإن نباتها يخرج نامياً حياً بإذن ربه، ويكون كثير الغلّة طيب الثمرة. وأما الأرضُ الخبيثة فإنها لا تُخرج إلا نباتاً قليلاً عديم الفائدة.
﴿كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾.
في مثل ذلك التصريف البديع نردّد الآياتِ الدالّةَ على القدرة الباهرة، ونكررها لقوم يشكرون نِعمنا، وبذا يستحقُّون المزيد منها.
بعد ان ذكر الله تعالى الإنسان ومعادَه، وان مردَّه إليه يوم القيامة- جاء هنا يذكر قصص الأنبياء مع أُممهم، وكيف أعرضتْ عن دعوتهم. وذلك حتى يبيّن للرسول الكريم أن إعراضَ المشركين عن قبول الدعوة ليس أمراً جديدا، بل وفي هذا تسليةٌ له ﷺ.
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِه﴾.
أكّد الله تعالى مخاطِباً البشَر جميعا بأنه أرسلَ نوحاً إلى قومه الّذين بُعث فهم، وقال لهم مذكِّرا بأنه منهمك يا قومُ اعبُدوا الله تعالى وحدَه، فليس لكم أيُّ إلهٍ غيره تتوجّهون إليه فيعبادتكم إني أخاف عليكم عذابَ يومٍ شديدٍ هولهُ، وهو يوم الحساب والجزاء...
قراءات:
قرأ الكسائي: «ما لكم من إله غيرِهِ» بكسر الراء والهاء. والباقون «غيرُهُ» بضم الراء والهاء.
﴿قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾.
قال اهل الصدارة والزعامة منهم مجيبين تلك الدعوة الى الوحدانية واليوم الآخر: يا نوح، إنا لَنراك في ضلالٍ بيّن عن الحقِ، كيف تنهانا عن عبادة آلهتنا من الاصنام؟
﴿قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾.
قال نوح مجيبا لهم، ونافياً ما رموه به: لستُ ضالاً كما تزعمون، بل أنا رسولٌ لكنم من رب العالمين، أهدِيكم باتّباعي إلى ما يوصلكم الى السعادة في الدنيا والآخرة.
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
وإني في هذه الدعوة الى الوحدانية والايمان باليوم الآخر، أُبلِّغكم ما أرسلني به ربّي، وأَمحضُكم النُّصح. واعلموا أنني في هذا التبليغ وذلك النصح على علمٍ من الله أوحاهُ إليَّ لا تعلمون منه شيئا.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: «أُبِلغُكم» باسكان لاباء والباقون: أبَلِّغكم بفتح الباء وتشديد اللام المكسورة.
﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ...﴾.
أترمونَنِي بالضلالة والبُعد عن الحق، ثم تعجَبون من أن يأتيكم ذِكرٌ وموعظة من خالقكم، وعلى لسان رجل منكم جاء يحذّركم عاقبةَ كفركم، رجاء ان تكونوا في رحمة الله في الدنيا والآخرة.
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك...﴾.
لكنهم مع تلك البينات لم يؤمن اكثرهم، بل كذّبوه، وأصرّوا على كفرهم، فأنجيناهُ هو والّذي أخذّهم معه في الفُلك من الطوقان، واغرقنا من كذّبه. لقد عاندوا فكانوا بلك قوماً عُمي القلوب والبصيرة. وقد ذُكرت قصة نوح مفصلة في سورة هود.
روى مسلم وابو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله ﷺ قال: «الدينُ النصيحة، قلنا لِمَن يا رسولَ الله؟ قال: لِلّه ولرسوله ولأئمةِ المسلمين، وعامّتِهم».
تعرض هذه الآيات قصة هودٍ مع قومه، قومٍ عاد، فقد كانوا عباد أوثانٍ، منازلُهم في الأحقاف- وهو الرمل - بين عُمان وحضرموت. وقد رزقهم الله القوة والغنى، فلمّا جاءهم هودٌ بالرسالة من عند ربه ليوحّده، ويكفّوا عن الإفساد في الأرض، أبوا ذلك، وكذّبوه، وأصروا على عبادة اصنامهم.
ولقد قال لهم: يا قوم، اعبُدوا الله وحده، ليس لكم إله غيره، «افلا تتَّقون» أي تخسون الله، علّه ينجيكم من الشَّرِ والعذاب.
﴿قَالَ الملأ الذين كَفَرُوا﴾.
فأجاب ذَوُو الزعامة والصدراة من قومه: انا لَنراك في خِفّة م العقل، وضلالٍ عن الحق، كيف لا وقد تركتَ ديننا، ودعوتَنا هذه الدعوة الغريبة!! إنا لَنعتقدُ أنك من الكاذبين.
قال: يا قوم، ليس بي في الدعوة أيُّ قدرس من السفاهة ولست بكاذبٍ، بل أنا رسول اليكم من ربّ العالمين، جئتكم بالهداية التي تخلًّصكم.
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾.
إنني أنقُل اليكم أوامر ربي ونواهيه، وامحضكم النصح الخالص ولست من الكاذبين.
﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ﴾.
هل أثار عجبكم واستغربتم ان يجيء إليكم تذكير بالحقّ من ربّكم على لسان رجلٍ مكم يخّوفكم عقابَ الله حتى تتركوا ما انتم عليه.
ثم اشار الى ما أصاب المكذِّبين الذين سبقوهم، وإلى نعم عليهم فقال:
﴿واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَسْطَةً...﴾.
اذكُروا فضلَ الله عليكم إذ جعلكم وارثِين للأرض من بعد قوم نوحٍ الذين أهلكهم لتكذيبهم نبيِّهم نوحاً، وزادكم قوةً في الأبدان والسلطان وكل هذه نِعم تقتضي الإيمان، فتذكّروا هذه النِعم، واشكروا الله على ذلك بإخلاص العبادة له وتَرْك الإشراك به.
لكنهم منع هذه الدعوة بالحسنى قالوا متسغربين: أجئتَنا لتدعُونَا إلى عبادة الله وحدَه، وأن نترك ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام؟
وقد ان استنكروا التوحيد تحدَّره وقالوا: ائتِنا بالعذابِ الّذي تهدُّونا به أن كنت صادقاً في قولك ووعيدك.
فأجابهم هود على تحدّيهم هذا:
﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ...﴾.
انكّم لعنادكم قد حقَّ عليكم عذابُ الله يَنزِل بكم، وغضبُه عليكم. تُجادلونني في أصنامٍ سمّيتموها أنتم وآباؤكم؟ ما جعل الله من حجّة تدلّ على ألوهّيتها، ولا لها قوةٌ خالقةٌ تجعلكم تبعدونها. وما دمتم كفرتم ولَجَجْتم هذه اللجاجة فانتظِروا نزول العذاب الذي طلبتموه، ونحن ننتظر معكم.
فلما جاء أمرُنا ووقع العذابُ أنجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمةٍ منا، فيما استأصلْنا دابر الكافرين الذين جحوا بآياتنا، حتى لم نبقِ منهم أحداً.
وهكذا طُويت صفحةٌ أُخرى من صحائق المكذبين.
وهذه قصة اخرى من قصص الأنبياء مع أقوامهم، هي قصة صالح عليه السلام ومفادها:
لقد أرسلنا الى ثمود اخاهم صالحاً الذي يشاركهم في النسَب والوطن، وكانت دعوته كدعوة الرسُل قبله. قال لهم: أخلِصوا العبادة لله وحده، مالكم إله غيره، قد جاءتكم حجةٌ وبرهان على صدق ما أقول، وحقيقةِ ما أدعو اليه. هذه ناقةٌ ذات خَلق خاص، فيها الحُجة وهي ناقةُ الله، فاتركوها تأكل مما تُنبته أرض الله من العشب لا تتعرّضوا لها ولا تنالوها بسوء، فإذا فعلتم أخذكم شديد.
وفي سورة الشعراء تفسير أوضحُ قَسَم الماءَ الموجود في البلدة بين قومه وبين الناقة «هذه ناقةٌ لها شرْبٌ ولكن شرب يومٍ معلوم».
ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم، وبوجوب شكرها بعبادته تعالى وحده فقال:
﴿واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ﴾.
تذكّروا أن الله جعلكم وارثين لأرض عادٍ، وأنزلكم منازل طيبةً في أرضهم، فصرتُم تتّخذون من السهول قصوراً فخمة، وتنحتون في الجبال بيوتاً حصينة. اذكروا نعم الله تعالى اذا مكّنكم في الأرض ذلك التمكين، ولا تيعيثوا فيها مفسدين.
وعلى ذلك أجاب أهلُ الصدارة، والزعامة، مخاطبين الذين آمنوا من المستضَعفِين متهكّمين عليهم: أتعتقدون أن صالحاً مرسَلٌ من ربّه؟ فأجابهم اهل الحق: نحن مصدّقون بما أُرسِل به صالح.
قراءات:
قرأ ابن عامر: «وقال الملأ» بالواو.
﴿قَالَ الذين استكبروا إِنَّابالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾.
فردّ عليهم المستكبرون: إنا جاحِدون ومنكِرون لِلّذي آمنتم وصدّقتم به من نبوّة صالح هذه.
ثم لجّ العناد بأولئك المستكبرين، فتحدَّوا الله ورسوله، وذبحوا الناقة وتمرّدوا وتجاوزوا الحقدّ في استكبارهم، وقالوا متحدِّين: يا صالح، ائتِنا بالعذاب الذي وعدْتَنا «إن كنتَ من المرسَلين» عندئذ «فاخذتهم» الرّجْفة «أي دمّرتهم الزلازل الشديدة، ومن ثمّ» فأصبَحوا في دراهم جاثِمين «باتوا مصعوقِين جُثثاً هامدة لا حَراك بها، واصبحت ديارهم خاوِية على عروشِها الى الآن.
روى الامام احمد والحاكم عن جابر قال: لما مر رسول الله ﷺ بالحِجر في غزوة تبوك - قال لا تسألوا الآياتِ، فقد سألها قومُ صالح، فكانت الناقةُ تَرِدُ من هذا الفَجّ، وتصدُرُ من هذا الفَجّ، فَعَتَوا عن أمر ربهم، فعقَروها وكانت تشرب ماءهم يوماً، ويشربون لَبَنَها يوما، فعقروها، فأخذتهم صحيةٌ أحمدَ اللهُ مَن تحت أديمِ السماءِ منهم.
وفي البخاري أن رسول الله لمّا نزل الحِجْر في غزوة تبوك أمرهم ان لا يشربوا من آبارها ولا يسقوا منها، فقالوا: قد عَجَنّا منها واستقينا. فأمرهم النبي الكريم ان يطرحوا ذلك العجين، ويُهْرِيقوا ذلك الماء. ثم ارتحلَ بهم حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها الناقة.
﴿فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين﴾.
قال لهم صالحٌ بعد ان جرى لهم ما جرى، فرآهم صرعى بيوتُهم خاوية، قال: يا قوم قد ابلغتُكم أوامر ربي ونواهيَه، ومحضتُ لكم النصح، لكنّكم بإصراركم على الكفر صِرتُم لا تحبّون من ينصحكم.
جاء ذِكر قصّة لوطٍ بتمامها في عدة سُوَر باختلاف يسير. وتتلخّص في أن قوم لوطٍ كانوا أهل شرْ وأذى... كانوا يقطعون الطريق على الناس، قد ذهب الحياء من وجوههم، فلا يستقبحون قبيحا، ولا يرغبون في حسن، كما قال تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر﴾.
وكان أشنعَ عملٍ لهم هو ما اشتُهروا به من إييان الذكور، فأرسل الله عليهم العذاب ودمّر قراهم، وطمس معالمها فلم تعد تُعرف إلى الآن.
﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة﴾.
ولقد أرسلنا لوطاً نبيَّ الله إلى قومه، يدعوهم إلى التوحيد وينبّههم إلى وجوب التخلّي عن أقبحِ جريمة يفعلونها، وهي اتصال الرجل منهم بالرجل أو الغلام في مباشرة جنسية شاذة. وفي ذلك خروج على الفطرة وقد قال لهم: يا قوم، إنكم قد ابتدعتم تلك الفاحشة بشذوذكم، وفي هذا إسرافٌ ليس له مثيل في تجاوز حدود الاعتدال.
﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾.
فكان جواب قوط لوطٍ على هذا الاستنكار لأقبحِ الافعال ان قالوا: أخرجوا لوطاً هذا مع آله وأتباعه من بلدكم. إنهم يتعفّفون عن مشاركتنا في ما نفعل.
وهكذا يتجلّى الانحرافُ في جوابهم: يخرجون لوطاً وأتباعه لأنهم مستقيمون! أما الفاسقون الفاسدون، فقد بلغ من قِحَتِهِم وفُجورهم أن يفعلوا الفاحشة ويفخَروا بها، بل أن يحتقروا من يتنزه عنها.
وتأتي الخاتمة سريعا بلا تطويل ولا تفصيل:
﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين﴾.
ولقد حقّت عليهم كلمةً العذاب، فأنجينا لوطاً وأهلَه، الا امرأته لقد رفضتْ ان تؤمن به، فكانت من الهالكين. ثم أمطرنا عليهم حجارةً مدمّرة، ومادَت الأرض بالزلازل من تحتِهم، فانظُر أيها المعتبِر كيف كانت عاقبة المجرمين.
قال الامام ابنُ القيّم في زاد المعاد: هذا لم تكن تعرفُه العرب، ولم يُرفع إليه حديث صحيح في ذلك. لكنه ثبت عنه ﷺ انه قال: «اقتُلوا الفاعل والمفعول به».
رواه اهل السسنن الأربعة بإسناد صحيح وقال الترمذي: حسنٌ صحيح، وحكم به أبو بكر الصدّيق، وكتب به إلى خالد بن الوليد، بعد مشاورة الصحابة وكان عليُّ كرّم الله وجهه أشدَّهم في ذلك.
وقد طعن ابن حَجَر في هذه الأحاديث وقال: إنها ضعيفة. ولذلك يجب على الحاكم ان يتحرّى جيدا، فإن عقوبة القتلِ أعظمُ الحدود، فلا يؤخَذُ فيها إلا بالصحيح القاطع من كتابٍ او سُنّة متواتِرةٍ او إجماع.
شُعيب نبيُّ من أنبياء العرب، واسمه في التوراة رعوئيل، ومعناه: صديقُ الله وقد ذُكر شعيب في القرآن الكريم عشر مرات: في سورة الأعراف، وسورة هود، وسورة الشعراء، وسورة العنكبوت. أما قومُه فهم شعب مَدْيَن بنِ إبراهيم عليه السلام، وكانت منازلهم في شمال الحجاز على الساحل.
وكان اهل مَدْيَن في عيشٍ رغيد لأنهم أهلُ تجارة. وكانوا يعبدون غير الله تعالى، ويفعلون الشرور، من ذلك أنهم كانوا يطفّفون المكيالَ والميزان، ويماكسون الناس في سِلعهم ليشتروها بأبخس الأسعار وكان شعيب ينهاهم عن كل ذلك ويحذّرهم بأسَ الله تعالى، فأنكروا عليه ما جاء به ولم يستمعوا اليه.
ويسمّيه المفسرون خطيبَ الأنبياء، لحُسن مراجعته لِقومه، وبراعته في اقامة الحجة عليهم. ومع ذلك فقد مضَوا في غَيّهم، وتمادَوا في صدّ الناس عنه.
﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾.
ولقد أَرسلْنا إلى مَدْيَنَ أخاهم شعيباً قال: يا قوم، اعبُدوا الله وحده، قد جاءكم الحججُ المبينةُ لحقِّ من ركمن ممثْبِتَةً رسالتي إليكم. (ولم تذكر الآية ما هي معجزته ولم يأتِ لها ذِكر في بقية السُوَر التي ذُكرت فيها قصةُ شعيب) غير أنه كانت هناك بينّة جاءهم بها، ودعاهم الى توحيد الله كما أمَرَهم بالإصلاح بينهم بالمعاملة العادلة.
﴿فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ﴾.
لقد أمرهم بإيفاء الكيلِ والميزان إذا باعوا، ونهاهم عن ان يُنقِصوا حقوق الناس اذا اشتروا منهم. وطلب إليهم ألا يفسِدوا في الأرض الصالحة، كإفساد الزع وقطْع الأرحام والمودّة.
﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾.
لا تعرضوا كل طريقٍ من طرق الحق والهداية، تهدّون سالكه، وتمنعون طالبي الخير من الوصول.
﴿وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ تريدون سلوك الطريق المعوَجّ. تذكَّروا اذ كنتم قليلا فكثّركم الله بما بارك في نَسِلكم، واشكُروا له ذلك بعبادته وحدَه، واعتبِروا بعاقبة المفسِدين قبلكم، وإلا أصابكم مثلُ ما أصابهم.
﴿وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مَّنكُمْ آمَنُواْ﴾.
واذا كانت طائفة منكم قد آمنت بالحق الذي ارسلتُ به فيما لم تؤمن طائفة ثانية فانتظروا حتى يحكُم الله بين الفريقين. إنه خير من يفصل، وأَعدلُ من يقضي وهو خير الحاكمين.
انتهى الجزء الثامن، نسأل الله تعالى ان يوفقنا إلى ما فيه رضاه، وإلى أن يُتِمّ هذا التفسير على أحسن حال، الهَّم اجعلنا ممن يستمعونَ القولَ فيتبعون أحسنَه.
وقد تَوَلَّى الردَّ عليه اشرافُ قومه وكبراؤهم كما هو الشأن في بحث كبريات المسائل ومهمّات الأمور.
قال أولئك الاشراف: قَسماً لَنُخرجّنك يا شعيب أنت ومن آمن معكم من بلادنا، لو ترجعُنَّ إلى ديننا الّذي هجرتموه. فردّ عليهم شعيب قلائلا: أنصيرُ في ملّتكم ونحن كارهون لها لفسادها؟.
ثم بالغَ في قطع طمعهم من العود الى ملّتهم كما يطلبون، فقال: إننا نكون كاذبين مفترين على الله إنْ عُدنا الى ملتكم بعد أن هدانا الله. ولا ينبغي لنا ان نفعل ذلك بمحض اخيارنا ورغبتنا، الا أن يشاء الله ويههات ذلك! لأنه ربُّنا، عليم بمصلحتنا وخيرنا، ولن يشاء رجوعنا إلى باطلكم. لقد وَسِع كل شيء عِلما، ومن عِلمه أنَّهُ يهدينا الى ما يحفظ علينا إيماننا. لقد سلّمنا أمرنا اليه، وتوكّلنا عليه، وهو الذي سيحكم بيننا وبين قومنا وهو خير الحاكمين.
بعد أن يئس القوم من مطاوعة شعيب وأصحابه لهم، وعلموا انهم ثابتون على دينهم، خافوا ان يكثُر المهتدون بظهرو قوة شعيبٍ وثباته على دعوته، فاتّجه زعماؤهم الى أبتاعهم يهددونهم قائلين:
﴿وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾.
وقال زعماء قوم شعيب الكافرون: واللهِ إن طاوعتُم شعيباً في قَبول دعوته وآمنتم به، لتخسَروا شرفَكم وثروتكم، كما تكونون قد تخلّيتهم عن ملّتكم التي مات عليها آباؤكم من قبل.
بعد هذا ذكرا لله تعالى عاقبةَ أمرِهم وما أصابهم من نكالٍ فقال:
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ أي دهمْتُهم الزلزلة فأهلكمتهم في ديارهم وظلّموا منكّبين على وجوههم لا حياة فيهم.
﴿الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين﴾.
هذا شأن الله مع الذين كذّبوا شعيبا، وهدّدوه وأنذروه بالإخلاج من قريتهم... لقد هلكوا وهلكت قريتهم فحُرِموها كأن لم يعيشوا فيها بحال، وهكذا فان الذين كذّبوا شعيبا وزعموا ان من يتّبعه هو الخاسر قد باتوا هم الخاسرين.
فلما رأى شيعب ما نزل بهم نم الهلاك المدمِّر، أعرض عنهم، وقال مبرّئاً نفسه من التقصير معهم: لقد أبلغتُكم رسالات ربي، وأديتُ إليكم ما بعثني به ربي، كما بالغتُ في إسداءِ النصح لكم، فكيف أحزنُ على قومٍ كافرين؟
اشار الله تعالى هنا الى سُنته في الأمم التي تكذّب رسلَها، فهو يُنزل بها البؤسَ وشظَف العيش وسوء الحال في دنياهم ليتضرّعوا الى ربهم ويُنيبوا إليه بالتوبة. ثم ذكرَ أنه بدّل الرخاء بالبؤس ليعتبروا ويشكرون، لكنهم لم يفعلوا، فاخذهم أخذَ عزيزٍ مقتدر.
وما بعثنا نبيّاً من الأنبياء في مدينةٍ من المدن، يدعو أهلَها الى الدين القويم، ثم أعرضوا عن قبول تلك الدعوة- إلا أصبناهم بالفقر والمرض، كي يتذللوا ويخضعوا ويبتهلوا إلى الله راجين كشفَ ما نزل بهم.
ثم إنهم لمّا لمْ يفعلوا ذلك، بل تابعوا كفرهم وعنادهم، امتحنهم الله بالعافية مكان البلاء، فوهبهم رخاءً وسعة وصحةً وعافية، حتى كثُروا ونَموا في أموالهم وأنفسهم، وقالوا جهلاً منهم: إن ما أصاب آباءنا من المحَن وبالبلاء كان شأنَ الدهر، يداول الضرّاءَ والسّراءَ بين الناس. لم ينتبهوا أنَّ ذلك كان جزاءَ كفهرم فيرتدعوا، فكانت عاقبة ذلك أن أصابهم اللهُ بالعذاب المدمّر فجأة وهم غافلون عما سيحلُّ بهم.
فلنعتبر نحن المسلمين، فإننا قد تركنا ديننا والعمل به، وأهملنا قرآننا وتعاليمه فسلّط الله علينا شرّ خلقه وأخسَّ الناس، يسلبوننا مقدّساتِنا وأرضينا، ويُذلّوننا شرَّإذلال. كل هذا ونحن لا ينقصُنا المال ولا الرجال، ولكن ينقصُنا الإيمان بالله والحزم والثقة بأنفسنا، وهدايةُ الحكّام فينا كي يتبعدوا عمّا هم فيه من انصراف عن الله وتناحر بينهم وفرقة.
بعد ان بين الله أخْذّه لأهل القرى الذين كذّبوا رسُلهم- ذكر هنا لأهل مكةَ ما يكون من إغداقِ النعم لو آمنوا بالرسول واهتَدوا بهدْية، واعتبروا بسنّة الله في الأُمم من قبلهم.
لو أن أهل تلك القرى آمنوا بما جاء به انبياؤهم، وعملوا بوصاياهم، وابتعدوا عما حرمه الله- لفتحْنا عليهم أنواعاً من بركات السماء والارض نِعماً لا تحصى، كالمطر والنبات والثمار والمعادن والأرزاق، والسلامة من الآفات.. لكنهم جحدوا وكذبوا أولئك الرسل، فأنزلنا بهم عقوبتنا، لِما كانوا يقترفونه من الشرك والمعاصي. ثم عجب الله من حالهم وغفلتهم فقال:
﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ...﴾.
هل جهِلَ أهل هذه القرى فاطمأنّوا الى أنه لن يأتيَهم عذابنا وقتَ بياتِهم! وفي هذا تحذير للناس أجمعين.
أو أن ينزل بهم العذاب في النهار وقتَ الضحى وهم منهمكون في أعمالهم العابثة حتى كأنها لَعِب!!
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: «أوْ أمن» بتسكين الواو. والباقون اَوَ أمن بفتح الواو.
﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون﴾.
هل جَهِلوا سُنّة الله في المكذّبين، فأمِنوا عذابه ليلا او نهارا؟ إنه لا يحهل تدبير الله وقُدرتَه في عقوبة المكذّبين برسُله الا الذين خسروا أنفسَهم غباءً، فلم يفقهوا ما فيه سعادتهم.
فلا يجوز لأحد ان يأمن مكر الله ويظلّ مسترسلاً في المعاصي، اتّكالاً على عفوه ومغفرته ورحمته. وقد كان النبي ﷺ يكثر من الدعاء بقوله: «اللهم يا مقلّبَ القلوب والأبصار ثبِّتْ قلبي عل دينك» وقد بين لنا الله تعالى ان الراسخين في العلم يدعونه فيقولون: «ربّنا لا تُزِغْ قلوبنا بعد إذا هديتَنا وهبْ لنا من لدُنْك رحمة».
وكما ان الآمن من مر الله خُسران ومفسدة، فاليأس من رحمة الله كذلك لذا وجب ان يظل المؤمن بين الخوف والرجاء دائما.
﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾.
هذا تحذير للسامعين، وخطابٌ لجميع الناس حتى يتّعضوا ويستقيموا. ومعناه: أغابَتْ عن الذين يخلْفونَ مَن قَبلهم من الأمم سُنّةُ الله فيمن قبلهم!! وإن شأننا فيهم كشأنِنا فيمن سبقوهم، لو نشاء ان نعذّبهم أصبنْاهم كما أصبنْا أمثالَهم.
ولا يرد الله سبحانُه وتعالى للناس بهذا التحذير الشديد ان يعيشوا خائفين قلقين، كلا، بل يلطب منهم اليقظة ومراقبة النفس والعظة من تجارب البشر.
هكذا ينبغي ان نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يُفع، ومن مكر الله الذي لايُدرك. إنه لا يدعو الى القلق وانما الى اليقظة، ولا يؤدي الى الفزع بل الى الحساسية، وهو لايعطل الحياة وإنما يحرسها من الاستهتار والطغيان.
هذا الخطاب موجه الى النبي ﷺ تسليةً له على الصبر في دعوته، وذلك عن طريق تذكيره بما في قصص أولئك الرسُل مع اقوامهم من العِبر والمواعظ، وبيان ان ما يلاقيه هو مِنْ قومه من ضرورة العناد والإيذاء ليس بِدعاً.
تلك القرى التي بعدُ عهدها وجَهِل قومُك حقيقة حالها، نقصّ عليك الآن بعض أخبارها. لقد جاء أهلَ تلك القرى رسلُهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم، فلم يؤمنوا بها...
﴿يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين﴾.
هكذا جعل الله حجابا على قلوب الكافرين وعقولهم فيخفَى عليهم طريق الحق وينأون عنه.
إننا لم نجد لأكثرِ أولئك الاقوام وَفَاءً بِمَا أوصيناهم بهمن الايمان، على لسان الرسل، بل وجدنا اكثرهم خارجين على كل عهد، فطريّ وشرعي، فهم ناكثون غادرون.
وفي التعبير ب «اكثرهم» إيماءٌ الى ان بعضهم قد آمن. وهذا من دأب القرآن الكريم في تحقيق الحقائق على وجه الصدق، فهو لا يسلب احداً حقه، ولا يعطيه حق غيره.
الملأ: اشراف القوم ظلموا بها: جحدوا وكفروا حقيق: جدير وخليق به. نزع يده: اخراجها لهم. فماذا تأمرون: فماذا تشيرون في امره أرجِه: أرجئه أي أخِّره في المدائين: في مدائنك وبلادك. حاشرين: جامعين للحسرة. ساحر عليم: علام بفنون السحر ماهر فيها.
هذه قصة سيدنا موسى، وقد ذُكرت بتطويلٍ وتفصيل في اثنتين وخمسين آية. وقد جاء ذِكر موسى في نحو اثنتين وعشرين سورةً بين مختصَر ومطوّلة، وذكر اسمه اكثر من مائة وثلاثين مرة. وسرُّ هذا التكرار ان قصص موسى شبيه بقصص النبي ﷺ، فقد كانت شريعتُه دِينيةً ودينوية، ولقيب من أُمته عَنَتاً كبيرا.
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى﴾.
ثم بعثنا من بعد أولئك الرسلِ موسى بالمعجزات الّتي تدلّ على صِدقه فيما كلفناه تبليغه الى فرعون وقومه فبلّغهم موسى الدعوة، وأراهم آية الله لكنهم ظلموا انفهسم وقومهم بالكفر، فاستحقّوا من الله عقوبة صارمة كانت فيها نهاية امرهم.
قراءات:
قرأ ابو بكر وأبو عمرو ويعقوب: «أرجئْهُ» وقرأ حمزة والكسائي: «بكل سحَّار».
وقال موسى: يا فِرعون، إن مرسَلٌ من الله ربّ العالمين، لأبلِّغَكم دعوتَه، وأدعوكم الى شريعته وأنا حريص على قول الصدق، فاستمعوا اليّ.
ثم بيّن ان الله أيّده بآيات تدل على صدقه في دعواه فقال:
﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ﴾.
ها أنا قد جئتكم بآيةٍ عظيمة الشأن، ظاهرةِ الحجّة، في بيان الحق الذي جئت به، فاترك بني إسرائيل لأُخرجَهم من العبوديّة في ديارك الى دارٍ غيرها يعبدون فيها ربهم بِحرّيَّةٍ.
قال فرعون لموسى: ان كنت جئتَ مؤيَّداً بآية من عند من أرسلكَ فأَظهِرها لديَّ إن كنتَ صادقا.
فوقف موسى وألقى عصاه التي كانت بيده اليمنى أمام فرعون وقومه، فاذا العصا حيّة تسعى من مكانٍ الى مكان، لم تخفَ على أحد.
واخرج يدَه من جيبه فإذا هي بيضاء ناصعةُ البياض تتلألأ للناظرن مع ان موسى أسمرُ البشرة.
فلما أظهر موسى آية الله تعالى، ثارت نفوسُ بطانةِ فرعون وعظماءِ قومه وقالوا: «إن هذا لَساحرٌ عليم» ماهرٌ في فنون السِحر، وليس ذلك بآيةٍ من الله. انظروا، لقد وجّه إرادته لسلب مُلككم، وإخراجكم من أرضكم بسِحره. فكِّروا يا قوم فيما يكون سبيلاً للتخلص منه.
وحين استشارهم فرعون بقوله: فماذا تأمرون؟ أجابوه: أَخّرِ الفصل في موسى وأخيه هارون الذين يعاونه في دعوته، وأرسلْ في مدائن ملكك رجالاً من جُندك يجمعون لك عظماء السَّحَرة من كل البلاد.
والسِّحر أعمالٌ غريبة وحِيَلٌ تخفَى حيقتُها على جماهير الناس، لخفاءِ أسبابها ومهارةِ من يزاولها من السّحَرة. وقد كان السحر فناً منا لنفون العالية التي يتعلمها قدماء المصريين في معاهد خاصة لهم. وكان شائعا في لك العصر ولا يزال السحر، او خفة الحركمة موجودا الى الآن، وفي امريكا وأوروبا عدد كبير من السحرة والمشعوِذين. اما في البلاد الجاهلة المتأخرة، وبين القبائل الهمجيّة فله شأن عظيم.
ولما جاء السحَرة من جميع المدائن، واجتمع الناس ليروا ذلك المشهد الكبير، قال السحَرةُ لفرعون: إننا نريد مكافأةً عيظمة اذا غلبنا موسى وأخاه، فقال فرعون مجيباً لهم: نعم، ان لكن أجراً عظيماً على ما تقومون به، وأنتم أولا وأخيراً من أهل الحظوة لدى العرش.
ثم توجه السحرة الى موسى، بعد ان وعدهم فرعون ومنّاهم، واظهروا الثقة بأنفسهم واعتدادَهم بسحرهم، فقالوا: يا موسى: اما ان تلقي ما عند اولاً، وإما أن نبدأ نحن.
فاجابهم موسى اجابة الواثق بالغلبة والنصر، «أَلقوا» فلما ألقى كل واحد من السحرة ما كان معه من حبال وعصي، سحروا بها أعينَ الناس المشاهدين ومَوَّهوا عليهم ان مافعلوه هو حقيقة.
﴿واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾.
فهالَ الأمر الحاضرين وأوقع في قلوبهم الرهبة والرعب. وبخاصة حين جعلت حبالهم وعصُّيهم التي ألقوها تسير وتتحرك كأنها حقيقة.
عند ذلك أصدر الله امره الى موسى بقوله: ﴿أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ فالقاها موسى، فاذا تلك العصا تبتلع ما لفّقه السحرة من التمويه.
وهكذا، فان الباطل يكبُر ويتزايد، ويسترهب القلوب ويُخَيَّل الى الكثيرين أنه غالب، وما إن يواجه الحق حتى يبطُل وينكشف زيفهُ.
﴿فَوَقَعَ الحق﴾ وعندئدٍ ثبت الحق وذهب ما عداه، ﴿وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾ ومن ثَم ذلّ السحرة وصغُروا بعد الزهو الذي استشعروه قبل قليل. كما هُزم فرعون وملؤه في ذلك المجمع العظيم.
﴿وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ﴾.
أما السحرة فقد بهرهم الحقُّ لما عاينوا قدرة الله فخرُّوا ساجدين لربهم مذعِنين للحق.
وقالوا: آمنا برب العالمين، ورب موسى وهارون، فانه الإله المعبود لا اله الا هو. لقد صدقنا بما جاءنا به موسى، وزالت من نفوسهم عظمة فرعون.
قراءات:
قرأ حفص آمنتم على الإخبار، وقرأ حمزة والكسائي وابو بكر: أأَمنتم... بهمزتين، على الاستفهام، وقرأ الباقون أآمنتم بتحقيق الهمزة الأولى وتليين الثانية.
هال ذلك الامرُ فرعون، وأثار حميته فقال للسحرة: هل آمنتم وصدقتم برب موسى وهارون قبل أن آذن لكم؟ ان ما فعلتموه انتم وموسى وهارون، ليس الا مكراً دبّرتموه في المدينة (مصر) كي تُخرجوا منها أهلَها بخِدعكم وحيلكم لسوف ترون ما يحلّ بكم من العذاب، جزاء ذلك إنني أٌقسِم لأُنكّلنّ بكم أشد التنكيل: لأقطعنّ ايديكم وارجلكم من خِلاف، اليد من جانب والرِجل من الآخر، ثم لأصلِبنّ كل واحد منكم وهو على هذه الحالة المشوّهة.. لِتكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكيد لفرعون والخروج عن أمره.
سمع السحرةُ هذا التهديد والوعيد من ذلك الجبّار المتكبر، فرجعوا الى ربهم، وأبجابوا فرعون قائلين: «إنّا إلي ربِّنا مُنقَلِبون»، أي أنهم لم يأبهوا لتهديداته. ثم أضافوا: هل تعاقبنا يا فرعون لأنّنا صدّقنا موسى، وأذعنّا لآيات ربنا! انها واضحة دالّة على الحقّ، وقد جاءتنا، فهل تريدنا أن لا نعتبر بها!؟
ثم توجهوا الى الله ضارعين: ﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ يا ربّنا هبْ لنا صبراً واسعاً نقوى معه على احتمال الشدائد، وتوفّنا على الإسلام غير مفتونين بتهديد فرعون، ولا مطيعين له في قوله ولا فعله.
بعد ان شاهد فرعون وقومه ما شاهدوا، من ظهور موسى وغلبتِه وايمان السحرة به، قال الاشراف الكبراء من القوم، يا فرعون الجبار، هل تترك موسى وقومه احرارا آمنين؟ إنَّ عاقبتهم إن ظلّوا في هذه الديار ان يفسدوا عليك قومك بادخالهم في دينهم، وعندئذ يظهر لأهل مصر عجزُك وعجز آلهتك.
قال فرعون مجيبا للملأ: سنتقل أبناء قوم موسى كلّما تناسلوا، ونستبقى نساءهم أحياء، فهن يخدمننا. بذلك لا يكون لهم قوة، ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ نقرهم بالغلبة والسلطان. سنظل معهم كما كنا من قبل، فلا يقدرون على أذانا، ولا الافساد في أرضنا.
ولما رأى موسى أثر الخوف والجزع في نفوس قومه، شدّ من عزمهم وطمأنهم، فقال لهم: أُطلبوا معونة الله وتأييدَه، واصبِروا ولا تجزعوا. إن الأرض في قَبضة الله، يجلعها ميراثاً لمن يشاء من عباده، لا لفرعون. والعاقبةُ الحسنة للّذين يقون الله، بالاعتصام به، والاستمساك بأحكامه.
لكن هذه الوصية وتلك النصائح لم يؤثّر لم تؤثّر في قلوبهم، ففزعوا من فرعون وقومه، ﴿قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ لقد نالَنا الأذى يا موسى، قبل مجيئك وبعده.
وكانوا قبل مجيء موسى مستضعَفين في يد فرعون، يرهقهم بالضرائب، ويتخدمهم في القيام بالاعمال الشاقة، ويقتل ابناءهم ويتسحيي نساءهم ثم جاء موسة، لكنه لم يستطع انقاذهم لذلك قالوا: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾.
عندئذٍ فتح لهم موسى باب الأمل وقال لهم:
﴿قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾.
إن رجائي من فضلِ الله ان يُهلك عدوّكم الذي ظلمكم وآذاكم، ويجعلَكم خلفاءَ في الأرض التي وعدكم إياها، ﴿فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾.
فيعلم سبحاه ما أنتم عاملون بعد هذا التمكين: أتشكرون النعمةَ ام تكفرون؟ وتصلحون في الارض أم تفسدون؟.
ولقد عاقبنا فرعونَ وقومه بالجدب والقحط وضيق الميعشة، بنقص ثمرات الزروع والأشجار... رجاءَ ان ينتبهوا الى ضعفهم وعجزِ ملكهم الجبار أمام قوة الله، فيتعّظوا ويرجعوا عن ظلمهم، ويستجيبوا لدعوة موسى عليه السلام.
ولكن فرعون واعوانه أخذهم الاغترار بقوّتهم وجبروتهم. كانوا اذا جاءهم الخِصب والرخاء قالوا: نحن المستحقون له لما لنا من الامتياز على الناس. ان اصبهم ما يسوؤهم، كجدب او مصيبة في الابدان والرزاق، قالوا: انما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه. لقد غفلوا عن ظلمهم لقومِ موسى كما غفلوا عن فجورهم فيما بينهم. ألا فلْغلموا ان ما نزل بهم كان من عند الله، وبسبب أعمالهم القبيحة، لا نحساً رافقهم لسوء طالع موسى ومن معه. ولكن أكثرهم لا يعلمون حكمة الله في تصرفه مع خلقه.
ثم اخبر الله تعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوِّهم، وإصراهم على الجحود فقال:
﴿وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا....﴾.
قالوا ذلك لموسى: مهما جئتنا أيها الرجل بانواع الآيات التي تستدل بها على حقيقة دعوتك، كيما تصرفنا عما نحن عليه من ديننا، ومن استعباد قومك- فلن نصدّقك او نتّبع رسالتك التي تدّعيها.
فأنزل الله عليهم مزيدا من المصائب والنكبات، بالطوفان الذي يغشى اماكنهم وبالجراد الذي يأكل زروعهم، وبالقُمّل الذي يُهلك حيواناتهم وسنابل غلّتهم، وبالضفادع التي تنشر فتُنَغّص عليهم حياتهم، وبالدم الذي ينزف منهم ولا يتوقف نزيفه- أصابهم الله بهذه المصائب، فلم يتأثروا بها. لقد قسَت قلوبهم، وفسد ضميرهم، فعتَوا عن الإيمان والرجوع الى الحق، وأصروا على الذنوب «وكانوا قوماً مجرِمين» موغِلين في الإجرام كما هو شأنهم.
بعد أن ذكر سبحانه الآيات الخمسة التي أرسلها على قوم فرعون، بيّن هنا ما كان من أثرها في نفوس المصريين جيمعا. لقد طلبوا من موسى ان يرفع الله عنهم العذاب، فاذا هو فعلَ آمنوا به. ثم تبيّن نقضُهم للعهد، وخُلفهم للوعد حتى حلّ بهم عذابُ الاستئصال بالغرق.
﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز...﴾.
ولما وقع ذلك العذابُ بهم اضطربوا وفزِعوا أشد الفزع وقالوا: يا موسى، سل ربّك ان يكشف عنا هذا الرِجز، ونحن نقسِم أن نؤمن لك ونرسل معك بني اسرائيل كما أردت، إن كشفت عنا هذا العذاب.
فلما كشفنا عنهم العذاب، مرة بعد أخرى، اذا هم ينقُضون عهدهم، ويحنثون في قَسمهم، ويعودون الى ما كانوا عليه، ولم تُجدِ فيهم هذه المحن الزاجرة.
﴿فانتقمنا مِنْهُمْ﴾ فانزلنا عليهم نقمتنا، بأن اغرقناهم في البحر جزاء استمرارهم التكذيب بآياتنا، وتمام غفلتهم عما تقتضيه هذه الآيات من الايمان والاذعان.
والخلاصة: لقد كانوا يُظهرون الايمان عند لكل آية من آيات العذاب ثم يكذّبو، حتى اذا انقضى الأجل المضروب لهم انتقمنا منهم بسب استمرارهم على الكذب. وكانوا غافلين عما يعقب ذلك من العذاب في الدنيا والآخرة.
هذا آخر ما قصّة الله علينا وأخبرنا به من نبأ فرعون وقومه، وتكذيبهم بآيات الله. ثم أبتعه بقصَص بني إسرائيل، وما عينوه من الآيات العظام مثل: مجاوزتهم البحر، وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ظلم فرعون مثل: عبادتهم العجل، وطلبهم ان يروا الله جهرة، وغير ذلك من المعاصي، وذلك ليعلم حال الانسان وانه كما وصفه «ظلوم كفاّر» الا من عَصمه الله، «وقيلٌ من عباديّ الشَّكور»
وهذا كلّه ليسلّي رسول الله ﷺ بما أظهر بنو اسرائيل من العناد. ومع كل ذلك فقد أعطيناهم الأرض التي حباها الله بالخِصب والخير الكثير، في مشارقها ومغاربها. وقد نفذت كلمة الله الحسنى وتمّت أما وعد الله بالنصر شاملا لبني اسرائيل، فكان جزاء صبرهم على الشدائد. وأما تدمير ما كان يصنع فرعون وقومه من الصروح والقصور المشيدة، وما يقيمون من عُرُوش للنبات والشجر المتسلق فهو جزاء ظلهمهم وكفرانهم بالله.
وجاز بنو اسرائيل البحر، بعنايتنا وتأييدنا، فلما قطعوه مروا على قوم كانوا منكبّين على عباده أصنام لهم، فلما شاهدوا ذلك غلبَ عليهم ما ألِفوه قديماً من عبادة المصريين للأصنام، فطلبوا نم موسى ان يجعل لهم صنماً يعبدونه كما رأوا القوم يفعلون. عندئذٍ سارع موسى الى توبيخهم قائلاً لهم: حقاً انكم قوم سفهاء لا عقول لكم، لا تعرفون العبادة الصحيحة، ولا من هو الإله الذي يستحق ان يُعبد.
ان القوم الذيين ترونهم عاكفين على عبادة الاصنام قوم هالكون، وما يفعلون باطل وزائل، فهو من بابِ عبادة غيرِ الله.
ويْحَكُم يا بني اسرائيل! أأطلبُ لكم، معبوداً غير الله رب العالمين وخالق السماوات والأرض! أما منحَكم من فضله، لقد خصّكمن بنعمٍ لم يعطها غيركم من أهلِ زمانكم؟ ولقد فضّلكم على أهل عصركم هذا بأن هداكم الى وحدانيته!
اذكروا إذ أنجاكم بعنايته من آل فرعون وظلمهم. وأنتم تعلمون انهم كانوا يذيقونكم، اشد العذاب، ويسخّرونكم لخدمتهم، ولا يرون لكم حرمة الا كما للبهائم. كانوا يقتلون ما يولد لكم من الذكرو، ويسبقون الاناث لتزدادوا ضعفا بكثرتهن، وليجعلوهن خدماً لهم ويستمتعوا بهن. ان فيما نزل بكم من تعذيب فرعون وانجائكم منه اختبار عظيم من ربكم ليس وراءه بلاء واختبار.
بعد أن بيّن الله تعالى ما أنعم به على بني اسرائيل من نجاة لهم من عدوهم وتحريرهم من العبودية- ذكر هنا بدء التشريع المنزل على موسى عليه السلام، وكيف انه واعد موسى ثم أنزل عليه التوراة.
لقد ضرب الله تعالى موعدا لموسى لمناجاته وإعطائه الألواح فيها أصولُ الشريعة في مدة ثلاثين ليلة، ثم اتم مدة الوعد بعشر ليال يستكمل فيها موسى عبادته، ويتلقى أوامر ربه فصارت المدة أربعين ليلة. وعندما توجّه موسى للماجاة قال لأخيه هارون: كمن خليفتي في قومي، أصلحْ ما يحتاجون اليه من امروهم، وراقبهم فيما يأتون وفيما يذرون، واحذر ان تتبع سبيل المفسِدين.
ولما جاء موسى في الموعد الّذي وقّته له ربه لمناجاته كلّمة ربه، لكن موسى قال: رب أرني ذاتك لأتمتع بها وأحصل على فضيلتَي الكلام والرؤية، وأزداد شرفا. فقال له ربّه: لن تطيق رؤيتي يا موسى. ثم اراد الله سبحانه ان يُقنع موسى بانه لا يطيق رؤية ما يطلب فقال: انظر الى الجبل الذي هو أقوى منك، فإن ثبت في مكانه عند التجلّي فسوف تراني اذا تجلّيت لك. فلما تجلى الله للجبل انهدّ الجبل وبات أرضا مستوية. عند ذاك سقط تنزيهاً عظيما عما لا ينبغي في شأنك مما سألت، إن تُبْت إليك من الإقدام على السؤال بغير إذن، وأنا أول المؤمنين من قومي بجلالك وعظمتك.
ولما منع الله موسى من رؤيته عدَّد عليه نعمه ليتسلى بها فقال: يا موسى، لقد اخترتك مفضّلاً إياك على اهل زمانك، بتبليغ التوراة، وبتكليمي إياك من غير واسطة، فخذ ما فضّلتك به، واشكرني كما يجب.
وقد وردت أحاديث كثيرة فيها إمكان رؤية الله عن اكثر من عشرين صحابياً، لكنه ورد عن السيدة عائشة خلافُ ذلك. فقد رُوي عن مسروق قال: قلت لعائشة، يا أمّاه، هل رأى محمد ﷺ ربَّه ليلة المعراج؟ فقالت: لقد قفّ شعري مما قلتَ، ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك ان محمداً رأى ربه فقد كذب، ومن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب، ومن حدثك انه كتم شيئا من الدين فقد كذب. قال مسروق: وكنت متكئا فجلست وقلت: الم يقل الله: «ولقد رآه نزلةً اخرى» فقالت: أنا أول من سأل رسول الله عن ذلك فقال «إنما هو جبريل».
وهذه الرؤية هي في الدنيا، أما الآخرة فانها تختلف عن هذه الدنيا، وكل ما في الحياة الآخرة يختلف اختلافا كليا عن حياتنا الدنيا.
بعد ان اخبر سبحانه في الآيات السالفة انه منع موسى من رؤيته في الدنيا، اخبرنا هنا بما آتاه يؤمئذ فقال:
﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ... الآية﴾.
أي أعطيناه ألواحاً بيّنا له فيها كل شيء من المواعظ والاحكام المفصلة التي يحتاج الناس اليها وقلنا له: خذ الالواح بجدٍّ وحزم، وامُر قومك ان يأخذوا بأفضل ما فيها وأيسره وان لا يشدّدوا على انفهسم. وسأجعلهم يرون دار الخارجين على أوامر الله، وما صارت اليه من الخراب، كما سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي، فلا تخالفوا حتى لا يصيبكم ما أصابهم.
بعد ان بيّن الله تعالى لما لحق فرعون وقومه بسبب من استكباره وظلموه وفساده في الأرض، بيَّن هنا ضلال البشر وتكذيبهم للرسل، وذكر ان السبب في كل ذلك هو التكبر.
ومعنى الآية:
سأمنع اولئك الذين يتطاولون في الأرض ويتكبّرون عن قبول الصواب بغير الحق من التفكير في دلائل قدرتي إنهم يروا كل آية تدل على صدق رسُلنا لا يصدقوا بها، أما حين يشاهدون طريق الضلال فسرعان ما يلكونه راغبين، وذلك لأنهم كذّبوا بآياتنا المنزلة، وغفلوا عن الاهتداء بها.
وامثال هؤلاء كثيرون اليوم في بلادنا من المسلمين، لقد درسوا في الغرب ورأوا رخرف المدنيّة الأوروبية، وغرَّهم بَهْرَجها، وأخذوا منها ما يوفر لهم اللذات والمتع ولم يأخذوا العلم النافع ولا الصناعة المفيدة، والأنظممة النافعة. ان هذه تكلهم جهاً كبيراً فيما هم لا يريدون غير المتع والملذات.
والذين كذّبوا بآياتنا المنزلة على رسلنا للهداية، كما كذّبوا بلقائنا يوم القيامة، ومن ثم أنكروا البعث والجزاء- بطلت أعمالُهم التي كانا يرجون نفعها. لذا فإنهم لن يلاقوا إلا جزاء ما استمروا عليه من العصيان، وانكار دعوة الرسل.
بعد ان ذكر الله خبر مناجاة موسى واصطفاءه له بالرسالة، وأمرَه إياه ان يأخذ الاواح بقوة- بين هنا ما حدث اثناء غياب موسى عن قومه، حيث بدّلوا الوثنية بديانتهم.
لقذ ذهب موسى الى الجبل لمناجاة ربه، فما أسرع ما اتخذ قومه من مصوغاتهم وزينتهم جسماً على صورة عجلٍ من الحيوان، لا يعقل، له صوت كصوت البقر، كان قد صنعه لهم السامريُ وأمرهم بعابدته. لقد عَمُوا، فلم يروا حين عبدوه انه لا يكلمهم ولا يقدر على هاديتهم الى طريق الصواب! ومع هذا فقد اتخذوه إلهاً لهم، وبذلك ظلموا أنفهسم باقترافهم مثل هذا العمل الشنيع.
ولما شعروا بزلتهم وخطيئتهم، تحيَّروا فيما يفعلون، وندموا اشد الندم وتبيّنوا ضلالهم، وقالوا: واللهِ لئن لم يتبْ علينا ربنا، لنكوننّ من الذين خسروا سعادة الدنيا والآخرة.
قراءات:
قرأ حفص يا ابن ام بفتح الميم، وقرأ الكسائي وحمزة وابن عارم: يا ابن أمِّ بكسر الميم.
بعدما ذكرت الآياتُ ما احديه السامريّ من صناعته العجل لبني اسرائيل وعبادتهم له، ثم ندمهم على ذلك وطلبهم الرحمة من ربهم- تورد هذه الآيات ما حدث من غضب موسى وحزنه حين رأى قومه على تلك الحال من الضلال والغّي، وتصف ما وجّهه موسى من التعنيف واللوم لأخيه هارون، الذي سكت عن قومه حين رآهم في ضلالتهم يعمهون.
﴿وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً...﴾.
ولما رجع موسى من مناجاة ربّه ووجد قومه على تلك الحال غضب عليهم، وحزن لأنهم وقعوا في تلك الفتنة، وقال: ما أقبح ما فعلتم بعد غيبتي عنكم! اسبقتم بعبادتكم العجلَ ما أمركم به ربكم من انتظاري حتى أتيكم بالتوراة!؟ آنئذٍ وضع الألواح، واتجه الى اخيه هارون، واخذ يشدّهُ من رأسه، ويجره نحوه من شدة الغضب، ظنّاً منه انه قصر في ردعهم. فقال هارون: لا تعجل بلومي وتعنيفي يا أخي، ولا تظن اني قصرت في ردع القوم. لكنّهم استضعفوني وكادوا يقتلونني حين نهيتهم عن عبادة العجل. لا تدع الأعداء يفرحون لتخاصُمنا ويشتمون بي، ولا تجعلني في زمرة هؤلاء الظالمين فأنا بريء منهم ومن ظلمهم.
قال موسى: ربِّ اغفر لي ما صنعتُ بأخي، واغفر لأخي إن كان قصّر، وأَدخلنا جميعاً في رحمتك التي وسعت كل شيء فأنت أرحكم الراحمين، بل وأرحم بنا منا على انفسنا.
والآية صريحة في براءة هارون من جريمة اتخاذ العجل، في القرآن الكريم. أما التوراة ففيها ان هارون هو الذي صنعه. وهذا احد مواضع التحريف الذي جرى فيها، كما نص عليه القرآن الكريم.
بعد ان ذكرت الآيات عتاب موسى لأخيه هارون، ثم استغفاره لنفسه ولأخيه، استطردتْ تذكر ما استحقه بنو اسرائيل من الجزاء على اتخاذ العجل.
ان الذين اتخذوا العجل إلهاً واستمروا على ذلك، كالسامريّ وأتباعه، سيواجهون مذلّة ومهانة شديدة.
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين﴾.
بمثل هذا الجزاء في الدنيا نجزي كل من اختلق الكذب على الله وعبَدَ غيره.
هذا بخلاف الذين اقترفوا السيئات من الكفر والمعاصي ثم تابوا ورجعوا الى الله وصدقوا به، فإن الله سيغفر لهم ويعفو عنهم، فعفو الله أكبر وأجلّ، وكرمه أعظم، بشرط التوبة والندم والاستغفار.
بعد ان ذكر الله حال القوم وبين انهم قسمان: قسم مصرّ على الذنب وعبادة العجل، وقسم تائب منيب الى ربه- هنا بيان حال موسى بعد ان سكنتْ سَورة غضبه.
ولما ذهب عن موسى الغضبُ باعتذار أخيه، عاد الى الالواح التي ألقاها، فأخذها، وكان فيها الهدى والرشاد، واسباب الرحمة للّذين يخافون الله ويرجون ثوابه.
ثم أمر الله موسى أن يأتيه في جماعة من قومه يعتذرون عمّن عبدوا العجل، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا لم يشاركوا في عبادة العِجل، وذهب بهم الى الطور. وهنالك سألوا الله أن يكشف عنهم البلاء، ويتوب على من عبد العجل من قومه. فأخذتهمفي ذلكالمكان رجفة شديدة غُشي عليهم بسببها، وكان هذا جزاءً لهم لأنهم لم يفارقوا قومهم حين عبدوا العجل، ولم ينهوهم عن المنكر فلما رأى موسى ذلك قال: يا ربِّ، لو شئتَ إهلاكَهم أهلكتَهم من قبل خروجهم الى الميقات، وأهلكتني معهم، ليرى ذلك بنو إسرائيل فلا يتهموني، فلا تهلكنا يا رب بما فعل الجهّال منا، فما محنة عبَدَة العجل الا فتنة منك، أضللتَ بها من شئتَ إضلاله ممن سلكوا سبيل الشر، وهدَيت بها من شئت هدايته.. إنك أنت المتولِّي امرونا والقائم علينا، فتجاوزعن سيئاتنا، وتفضل علينا باحسانك، وانت أَكرم من يفعل ذلك.
كذلك قَدِّر لنا في هذه الدنيا حياة طيبة، وهبْنا من لدنك عافية وتوفيا لطاعتك، وامنحنا من فضلك في الآخرة مثوبة حسنة ومغفرة ورحمة ندخل بها جنتك وننال رضوانك، فقد تُبنا ورجعنا اليك.
فقال له ربه: إن عذابي أصيبُ به من أشاء ممن لم يتب، ورحمتي وسعت كل شيء.
ثم بين من ستكتب له الرحمة فقال:
﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾.
سأكتبها للذين يتّقون شرَ المعاصي من قومك، ويؤدون الزكاة المفروضةَ عليهم، ويصدّقون بجميع الكتب المنزلة وسوف أخصُّ بها أولئك الذين يتبعون الرسول محمدا، الأميَّ الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهو الّذي يجدون وصفه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بكل خير وينهاهم عن كل شر، ويُحِل لهم ما يستطيبه الطبع من الأشياء، ويحرِّم عليهم ما يستخبثه منها، ويزيل عنهم الاثال والشدائد التي كانت عليهم:
فالّذين صدّقوا برسالته وآزروه وأيّدوه ونصروه على أعدائه، واتبعوا القرآن الذي أُنزل معه - هؤلاء هم الفائزون بالرحمة والرضوان دون سواهم.
وقد ترجم الكتاب الى اللغة العربية صديقنا السيد فهمي شما.
بعد ان ذكر تعالى ما في التوراة والانجيل من صفات النبي ﷺ، وشرفَ من يتبعه من اهل الكتاب، ونيلَهم السعادة في الدنيا والآخرة- بيّن هنا عموم رسالته، ودعوة الناس كافّة الى الايمان به.
قل يا أيها النبيّ لجميع بين البشر: إني رسول اليكم جيمعا، أرسلني الله، الذي له وحده ملك السماوات والارض، فهو يدبّر أمرهما بحكمته، ويتصرف فيها كيف يشاء. انّه لا معبودَ بحق إلا هو، وهو وحده الذي يُحيي ويُميت... آمنوا به وحده، وصدّقوا رسوله، فهو النبيّ الأمّيُّ الذي لا يقرأ ولا يكتب. واتّبِعوه في كل ما ينقل منا لدن ربّه، واسلكوا طريقه واقتفوا أثره. بذلك تهتدون وترشدون.
بد ان بيّن تعالى ان من يتبع النبيَّ الكريمَ من قوم موسى مفلحون مهتدون - ذكر هنا حال خواصّ أتباع موسى عليه السلام الذي اتّبعوه حق الاتباع، ثم ذكرحالّين من أحوال بني اسرائيل:
أولاهما: انه قسمهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الاثني عشر.
ثانيتهما: أنهم لما استسقَوا موسى ضرب موسى الحجر (اشارة الى امكانية الحفر)، فانبجستْ منه اثنتا عشرة عيناً، بقدر عدد الأسباط وقد تقدم ذكر هاتين الواقعتين في سورة البقرة.
ومن قوم موسى جماعة تمسَّكوا بما جاء به موسى من الدين الصحيح، فظلوا يهدون الناس الى الحق الذي جاء به نبيُّهم، فلا يتّبعون هوى، ولا يأكلون سُحتاً ولا رشوة.
ثم عدّد الله نعمة على قوم موسى، فذكر انه صيّرهم اثنتي عشرة فرقة، وميّز كل جماعة بنظامها، منعا للتحاسُد والخلاف. وأنه اوحى الى موسى حين طلب قومه الماء في التيه، ان يضرب الصخر في الأرض، ففعل موسى ذلك، فانفجرت عنه ذلك اثنتا عشرة عيناً قد عرف كل سبط من القوم مورد شربهم الخاص بهم. هذا كما جعل لهم السحابَ يلقي عليهم ظلّة في اليته ليقيَهم حر الشمس، وانزل عليهم المنّ وهو طعام حلو شهيّ والسلوى وهو طائر يشبه السُّمانَي. وقال لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم. لكنهم ظلموا انفهسم وكفروا بتلك النعم، وتمسَّكوا بالجحود والانكار. وهذا دأبهم وتلك اخلافهم لم تتغير ولم تتبدل.
هذه الآية الى قوله تعالى: ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ.... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ مدنيّة نزلتْ في المدينة، وقد ضُمت الى هذه السورة المكيّة في هذا الموضع، تكلمةً للحديث عما ورد فيها من قصة بين اسرائيل.
وهنا عَدَل في أُسلوب الحكاية عن ماضي بني اسرائيل، إلى أسلوب المواجهة لذاراريهم التي كانت تواجه رسولَ الله ﷺ في المدينة وتحاروه وتجادله.
يأمر الله تعالى رسلوه الكريم ان يسأل يهود المدينة المنوَّرة في زمانه عن هذه الواقعة المعلومة لهم من تاريخ أسلافهم، وهو يواجههم بهذا التاريخ باعتبارهم أمةً متصلة الأجيال، ويذكّرهم بعصيانهم القديم، فيقول:
اسأل أيها النبي اليهودَ المجاورين لك في المدينة عن فعل اهل القرية التي كانت على شاطئ البحر، كيف كان يفعل أسلافهم فيها فيخالفون أوامر الله بصدد صيد السمك يوم السبت. كانت تأيتهم الحيتانُ ظاهرةً على وجه الماء يوم السبت، مع أنهم مأمورون بالتفرُّغ فيه للعبادة، وأما في غير السبت فلم تكن تأتيهم، كل ذلك ابتلاءٌ واخبتارٌ من الله ليظهر المحسِنَ من المسيء منهم.
وقد انقسم سكان القرية الى ثلاث فرق: فرقة كانت تحتال على صيد السمك يوم السبت الذي حُرّم عليهم الصيد فيه، وفرقة كانت تحدذِر هؤلاء العصاة مغبَّة عملهم واحتيالهم وتنكر عليهم ذلك، وفرقة اخرى تقول لهؤلاء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: ما فائدة تحذيركم لهؤلاء العصاة- وهم لا يرجعون عن غيِّهم وعصيانهم؟ لقد كتب الله علهيم الهلاك والعذاب! وذلك قوله تعالى:
﴿وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً...﴾.
وإذ قالت جماعة من صلَحاء أسلافهم لمن يعظون أولئك الأشرار، لأي سبب تنصحون قوماً سيهلكهم الله بسبب ما يرتكبون من مخالفات، أو يعذّبهم في الآخرة عذابا شديدا؟ لم تعدْ هناك جدوى لنصحهم وتحذيرهم.
قالوا: لقد وعظناكم اعتذاراً الى الله، وأدّينا واجبنا نحوه، لئلا نُنسَب الى التقصير، ولعلّ النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فَيَسْتثيرُ فيها وِجدان التقوى.
فلمّا تركوا ما ذكّرهم به الصالحون وأعرضوا عنه، أنجينا الذين ينهون عن المنكر من العذاب، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب شديد بسبب تماديهم في الفسق، والخروج عن طاعة الله.
﴿فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ...﴾.
فلما تمردوا وأبَوا أن يتركوا ما نُهوا عنه، ولم يردعهم العذاب الشديد جعلناهم كالقِرَدة في مسخ قلوبهم، وعدم توفيقهم لفهم الحق، فكانوا قردة مَهينين، وانتكسوا الى عالَم الحيوان حين تخلّوا من خصائص الانسان.
ثم كانت اللعنةُ الأبدية على جميع اليهود إلا الذين يؤمنون بالنبي الأميّ ويتبعونه. وقد بعث الله على اليهود في فترات من الزمن من يسومهم سوءَ العذاب، وسيظل هذا الأمر نافذا في عمومه الى الأبد، فيبعث الله عليهم بين آونةٍ وأخرى من يسومهم سوء العذاب، وكلّما انتعشوا وطغَوا في الأرض، جاءتهم الضربة ممن يسلّطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية.
وقد يبدو أحياناً أن اللعنة قد توفقت، وان اليهود عزُّوا واستطالوا كما هو ظاهر للعيان في فلسطين الآن، لكن ذلك ما هو إلى فترة عارضة من فترات التاريخ، قود تم ذلك لتنابذ الحكام العرب وفُرقهم فيما بينهم، تفضيلاً للمصلحة الفردية على المصحلة العامة، حتى على حساب الجميع، وبسبب ما تمدهم به امريكا المتصهينة. وذلك لا يدوم أبدا، ولا يدري الا الله من ذا الذي سيسلَّط عليهم في الجولة التالية، وما بعدها الى يوم القيامة، ونحن بانتظار مواكب المجاهدين الفاتحين، وكلآتٍ قريب مهما طال الزمن.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ والله تعالى يعقّب دائما بعد ذكره العذابَ بالرحمة والمغفرة للمحسنين.
تأتي بقية الآيات المدنية الواردة هنا تكملةً لقصة بين اسرائيل بعد موسى، إذ تفرّق اليهود في الأرض جماعاتٍ مختلفة المذاهب، مختلفة المشارب والمسالك، فكان منخم الصالحون وكان منهم دون ذلك، وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات تارة، وبالنعماء أخرى، علّهم يرجعون لاى ربهم ويستقيمون.
وقد فصّل سبحانه عقابهم فذكر بدء إذلالهم بإزالة وحدتهم وتمزيق جمعهم فقالك
﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً....﴾.
وقد فرّقناهم في الأرض جماعات وجعلنا كل فرقة منهم في قطر، منهم الصالحون وهم الذين آمنوا واستقاموا، ومنهم اناس منحطُّون عن الاتصاف بالصلاح. لقد اختبرناهم جميعا بالنعم والنقم ليتوبوا عما نهوا عنه.
فجاء من بعد الّذين ذكرناهم خَلْفُ سوءٍ ورِثوا التوراةَ من أسلافهم، لكنهم لم يعملوا بها، ولم تتأثّر قلوبهم ولا سلوكهم، وكلما رأَوا عَرَضاً من أعراض الدنيا تهافتوا عليه ثم تأولوا وقالوا: «سيُغفرُ لنا»، فهم مصرون على الذنْب مع طلب المغفرة.
ثم وبَّخهم الله على طلبهم المغفرةَ مع إصرارهم على ما هو عليه فقال: إنّا انفَذْنا عليهم العهدّ في التوراة- وقد درسوا ما فيها- أن يقولوا الحق، فقالوا الباطل.... لم يعقِلوا بعدُ ان نعيم الدار الآخرة الدائم خير من مناع الدنيا الفاني، فقل لهم يا محمد: من العجب ان تستمروا على عصيانكم، افلا تعقلون ان ذلك النعيم خير لكم!.
وفي هذه إيماء الى ان الطمع في متاع الدنيا هو الذي افسد على بني إسرائيل امرهم.
وفيه عبرة للمسلمين الذي سرى إليهم كثير من الفساد، وغلب عليهم حبُّ الدنيا وعرضها الزائل، والقرآن الكريم بين أيديهم لكنهم لا يعملون به بل هم عنه غافلون.
﴿والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب...﴾.
والذين يتمسّكون بالتوراة وأقاموا الصلاة المفروضة عليهم، ويعتصمون بحبله في جميع شئونهم - لن يضيع اجرهم عند الله، لأنهم قد اصحلوا اعمالهم.
ثم ختم الله هذه القصة مذكِّراً بِبَدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم عقب بيان مخالفتهم لأمور دينهم حتى بعد أَنْ أخذ الله عليهم الميثاق. وقد ردّ عليهم في قولهم: إن بين اسرائيل لم تصدر منهم مخالفة في الحق، فقال جلّ وعلا:
﴿وَإِذ نَتَقْنَا الجبل...﴾.
اذكر لهم أيها النبيّ حين رفعنا الجبل فوق رؤوسهم كأنه غمامة، يؤمئذٍ فزِعوا مما رأوا، إذ ظنوا ان الجبل واقع عليهم، فقلنا لهم: خذوا ما أعطيناكم من هدى التوراة بجد وعزم على الطاعة، وتذكّروا ما فيه لعّكم تعتبرون وتهذب نفوسكم بالتقوى. لكن اليهود هم اليهود، فقد نقضوا العهد، ونسوا الله، ولجّوا في العصيان حتى استحقوا غضب الله ولعنته، وحقَّ عليهم القول.
بيّن الله هنا هداية بين آدم بنصْب الأدلّة في الكائنات، بعد ان بينها عن طريق الرسل والكتب، فقال: واذكر ايها النبيّ للناس حين أخرج ربُّك من أصلاب بني آدم ما يتوالدون قرنا بعد قرن، ثم نصب لهم دلائل روبيّته في الموجودات، وركّز فيهم عقولاً وبصائر يتمكّنون بها من معرفتها، والاستدلال بها على التوحيد والربوبية، فقال لهم: ألستُ بربكم؟ فقالوا: بلى انت ربنا شهِدنا بذلك على أنفِسنا. وإنما فعل الله هذا لئلا يقولوا يوم القيامة: إنّا كمنّا عن هذا التوحيد غافلين.
وقد اكثرَ المفسرون الكلام في تفسير هذه الآية وأوردوا عدداً من الاحاديث والأقوال، لكنه منا لصعب الوثوق بها، كما أنها غير صحيحة الإسناد.
وأحسنُ ما يقال: إن هذه الآية تعرِض قضية الفطرة في صورة مشهدٍ تمثيلي على طريقة القرآن الكريم. وإن مشهدّ الذرية المستكنّة في ظهور بني آدم قبل ان تظهر الى العالم المشهود لمشهدٌ فريد حتى في عالَم الغيب. وهذه الذرية هي التي يسألها الخالق المربي: ألستُ بربكم، فتعترف له بالربوبية وتقرّ له بالعبودية.
أما كيف كان هذا المشهد؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدَهم على أنفسهم، وكيف خاطبهم- فكل هذه الأمور من المغيَّبات التي تخالف حياتنا الدنيا.
وأقربُ تفسير لأفهامنا ان هذا العهد الذي اخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة، فقد انشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوية وحده، كما جاء في الحديث الصحيح عن ابي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ما من مولود إلا يولَد على الفطرة فأبواه يهوّدانه او ينصرّانه او يمجّسِانه» اخرجه البخاري ومسلم.
وفي سورة [الروم الآية: ٣٠] ﴿فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾ ﴿أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا﴾.
او تقولوا إنما أشرَك آباؤنا من قبلنا. ولقد خرجنا إلى هذا الوجود فوجدنا آباءنا على دينِ فاتّبعنهم، فهل تؤاخذنا يا ربّ بما فعل السابقون من آبائنا، فتجعل عذابنا كعذابهم فلا حجّة لكم أبدا.
﴿وكذلك نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
يرجعون الى فطرتهم وعهِدها مع الله، فاللهُ لا يقبل الاعتذار من أي إنسان بانه يقلّد آباءه واجداده، وقد بين له الرسل الكرام الطريق الى الهدى.
بعد ان ذكر اللهُ تعالى أخْذ العهد والميثاق على بني آدم جميعا، وأشهدّهم على أنفسهم أن الله ربهم.. أيُّ عذر سيكون لهم يوم القيامة في الإشراك بالله جهلاً او تلقيدا!
هنا نفيٌ بضرب المثَل للمكذّبين بآيات الله المنزلة على رسوله الكريم بعد ان أيّدها بالأدلة العقلية والكونية، وهو مثَل من آتاه الله آياتِه فكان عالماً بها قادراً على بيانها، لكنه لا يعمل بها، بل يأتي عمله مخالفا لعلمه. لذا سلبه الله ما آتاه، فكان ذلك الانسان كمثَل الكلب يظل يلهث دون جدوى.
اقرأ اتيها النبيُّ على قومك خبرها الإنسان الذي آتاه الله علماً بآياته المنزلة على رسُله، فأهملها، بل انسلخ منها، كأنما الآيات جلد له متلبِّس بلحمه فهو ينسلخ منه بعد جهد ومشقة، وينحرف عن الهدى ليتّبع الهوى، فلاحقه الشيطان، وتسلط عليه باغوائه، فصار في زُمرة الضالين.
ولو شاء ربك رفعه الى منازل الأبرار لفعل، وذلك بتوفيقه للعمل بتلك الآيات، لكن الرجل اخلد الى الأرض، وهكذا هبط من الأفق المشرق فالتصق بالطين المعتم، ولم يرتفع الى سماء الهداية. لقد ابتع هواه، فبات في قلق دائم، وانشغل بالدنيا وأعراضهم، لذا فإن مثله مثل الكلب في اسوأ حواله... يظل يلهث على غير طائل، تماماً مثل طالب الدنيا الشرِه، يظل يلهث وراء متعه وشهواته، وهي لاتنقضي ولا هو يكتفي منها.
اما من هو الرجل الذي يشير إليه هذا المثل فقد وردت روايات عديد ة تجعله بعضها «بلعام ابن باعوراء» من بني اسرائيل، والبعض الآخر «أميّة بن أبي الصلت» الشاعر العربي المشهور، أو هو «ابو عامر الفاسق» وهناك روايات أخرى لا حاجة لنا بها اصلاً، فلسنا مكلَّفين ان نعرف من هو.
بعد ان أمر الله تعالى نبيه الكريم ان يقصّ خبر ذلك ضلّ على علم منه، يقصَّه الى اولئك الضالين لعلهم يهتدون ويتركون ما هم عليه من الاخلاد الى الضلالة، والكفر - بيّن هنا ان اسباب الهدى والضلال ينتهيان للمستعدّ لأحدهما الى احدى الغايتين بتقدير الله والسيرِ على سنّته في استعمال مواهبه الفطرية، وان الهدى هدى الله.
فمن يوفقه الله لسلوك سبيل الحق فهو المهتدي حقا، الفائز بسعادة الدارين؛ ومن يُحرم من هذا التوفيق بفعل سيطرة هواه فهو الضال خسِر سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
ثم فصّل سبحانه ما أجملَه في الآية السالفة مع بيان سببه فقال:
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ....﴾.
ولقد خلقْنا كثيراً من الجن والانس مآلهم النار يوم القيامة. وتتساءل لماذا؟ فتأتي الإجابة: لأن لهم قلوباً لا يَنقُذون بها الى الحق، وأَعيُناً لاينظرون بها دلائل القدرة، وآذاناً لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماعَ تدبُّرٍ واتعاظ، أفليس اصحاب هذه الصفات كالبهائم، ما داموا لم ينتفعوا بما وهبهم الله من عقول للتدبر، بل الحقّ إنهم اضل منها، فالبهائم تسعى الى ما ينفعها، وتهرب مما يضرها، وهؤلاء لا يدركون ذلك، فيظلون غافلين عما فيه صلاحهم في الدارين.
ثم بعد ذلك ذكرت الآيات الدواء لتلك الغفلة والوسائل التي تخرج الى ضدها وهي ذِكْر الله ودعاؤه في السرّ والعلَن في جميع الاوقات.
ولله دون غيره الأسماءُ الدالة على أكمل الصّفات فاذكروه بها، دعاءً ونداءً وتسمية، واتركوا جميع الذين يلحدون في اسمائه فيما لا يليق بذاته العلّية، لأنه سيلقَون جزاءَ علمهم، وتحلُّ بهم العقوبة.
وللذِكر فوائد، منها: تغذية الإيمان، ومراقبة الله تعالى والخشوع له والرغبة فيما عنده، ونسيان آلام الدنيا. وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الدعاء والالتجاء الى الله، منها الحديث الصحيح: «من نزل به غَم او كربٌ، أو أمرٌ مهم فليقل: لا إله الا الله العظيم الحليم، لا إله الا الله ربّ العرش العظيم، لا إله الا الله ربّ السماوات والأرض ورب العرش الكريم» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
وروى الحاكم في (المستدرك) عن أَنس رضي الله عنهـ قال: قال رسول الله ﷺ لفاطمة رضي الله عنها: «ما يمنعكِ أن تسمعي ما أُوصيكِ به؟ ان تقولي إذا أصبحتِ واذا أمسيتِك يا حيّ يا قيّوم، برحمتِكَ أَسغيث، أصلحْ لي شأني، ولا تكِلْني إلى نفسي طرفة عين».
ثم بيّن وصْف أُمة الإجابة، وهي الامة الاسلامية، الذين أجابوا وأطاعو وهدوا بالحق وبه يَعدِلون.
وممن خلَقْنا للجنة طائفةٌ يدعون غيرهم للحق بسبب حُبِّهم له، ويدلّون الناس على الاستقامة، وبالحق يحكمون.
أخرج ابنُ جَرير وابن المنذِر وابو الشيخ عن ابن جُريج قال: ذَكر لنا النبي ﷺ قال: «هذه أمتي، بالحق يحكُمون ويقضون ويأخذون ويعطون».
فهذه الأمة الثابتة على الحق، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، الشاهدة بعهده على الناس. وفي الحديث الصحيح: «لا تزلا طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحق».
والّذين كذّبوا بآيات الله سندعهم يسترسلوه في غيّهم وضلالهم حتى يصلوا أقصى غاياتهم، وذلك بإدرار النعم عليهم، ومع انهماكم في الغي، حتى يفاجئهم الهلاك وهم غافلون.
إنني أُمهل هؤلاء المكذّبين وسأمد لهم في الحياة بدون اهمال، لكن أخْذي لهم سيكون شديدا، بقدر سيئاتهم الّتي كثُرت بتماديهم فيها، وفي الحدث الصحيح: «ان الله لَميلي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته» رواه البخاري ومسلم عن ابي موسى الاشعري رضي الله عنهـ.
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾.
كان زعماء قريش يقولون للناس: إن محمداً مجنون.. فردّ الله عليهم بقوله: او لم يتفكروا في حاله من بدءِ نشأته! إنهم يعرفونه حقا. أما كان اسمه الامين! وهم يعرفون حقيقة دعوته ايضاً، انه سليم العقل، لا جنون به، بل هو منذر لهم، ناصح ومبلّغ عن الله رسالتَه الى الناس كافة. ولو تأمل مشركو مكة في نشأته ﷺ وما عُرف عنه من الامانة والاستقامة والصدق لما نزعوا الى هذه الفِرية على رجلٍ عرفوه، ولأدركوا أن ما يأتي به من عند ربه لن يصدر عن مجنون.
لقد كذّبوا محمداً فيما يدعوهم اليه من التوحيد، ولم يتأملوا في هذا الملكوت العظيم من السماوات والأرَضِين وما فيها، مما يدل على قدرة الصانع ووحدانيته. كذلك لم يفكروا في انه قد اقترب أجلُهم، فيسارعوا الى طلب الحق قبل مفاجأة الاجل. والحقّ أنهماذا لم يؤمنوا بالقرآن فباي حديث بعده يؤمنون!!
ثم يعقب تعالى بتقرير سنّته الجارية بالهدى والضلال، وفق ما ارادته مشيئته: هداية من يطلب الهدى ويجاهد فيه، واضلال من يصرف قلبه عنه فيقول:
﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
وتفسير ذلك: إن من يكتب الله عليه الضلال لسوء اخياره هو يظل في بُعدِهِ عن الحق وعماه عنه، وحيرته بحيث لا يدري أين يتوجه. وليس في هذا الإهمال ظُلم لأنه جاء بعد البيان والتحذير.
بعد أن أرشد اللهُ من كانوا في عصر التنزيل الى النظر والتفكير في اقتارب اجلهم بقوله: ﴿عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ﴾ قفّى على ذلك بالإرشاد الى النظر والتفكير في أمر الساعة التي ينتهي بها أجل جميع من على هذه الارض. وقد كانت عقيدة الآخرة والحشْر وما فيها من حساب وجزاء غريبةً عن أهل الجزيرة العربية، وكانوا يعجبون من الحياة بعد الموت، ومن البعث للحساب والجزاء. لذلك كله كان التوكيد في القرآن شديداً على عقدية الآخرة.
يسألك مشركو مكة يا محمد عن الساعة والقيامة في اي وقت تكون؟ قل لهم عِلمُ وقتها عند ربي وحده، لا يكشف الخفاء عنها احد سواه، فقد ثَقُلت وعظُم هلوها، وهي لن تأتيكم الا فجأة بلا إشعار ولا انذار وهم يسألونك هذا، وكأنك عالِم بها حريصٌ مهتم بالسؤال عنها، فكرر عليهم الجواب بأن علمها عند الله، ولكن اكثر الناس لا يدركون الحقائق التي تغيب عنهم.
قل لهم أيها الرسول: إني لا أملِك لنفسي جَلْب نفعٍ ولا دفع ضرر الا ما شاء الله ان يقدِّرني عليه. ولو كنت اعلم الغيبَ كما تظنون، لاستكثرت من كلّ خير، ولدفعتُ عن نفسي كل سوء. لكن الحقّ أني لست الا نذيراً للناس أجمعين فالذين يؤمنون ينتفعون بما جئت به، ويذعنون للحق.
فالرسول ﷺ كغيره من الرسل، بشر لا يدّعي الغيب، بل إنه مأمور ان يَكِلَ الغيب الى الله، فذلك من خصائص الألويهة، أما الرسل فهم عباد مكرّمون لا يشاركون الله في صفاته ولا أفعاله، وانما اصطفاهم تبليغ رسالته لعباده، وجَعَلَهم قدوةً صالحة للناس في العمل لما جاؤا به من هدى وفضيلة.
فيه هاتين الآيتين تمثيل لطبع الإنسان وكيف انه: إذا نزل به ما يكره، أو أراد الحصول على ما يجب- اتلجأ الى الله يتضرع، ويقطع على نفسه العهود والمواثيق ان يشكر الله ويطيعه اذا حقق له ما يريد، فاذا تمّ له ما طلب تولى مُعرِضا ولم يوفِ بالعهود والمواثيق.
هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل زوجها من جنسها، وكانا يسكنان معا فلما قاربَ الذكرُ الانثى عَلِقت منه. وكان الحمل في اول عهده خفيفا لا تكاد تشعر به، فلما ثقل الجنين دعا الزوج والزوجة ربهما قائلَين: والله لئن رزقتنا ولدا سليما تام الخلقة، لنكونن من الشاكرين لنعمائك. ونالا ما طلبا، لكنهما جعلا الأصنام شركاء في عطيته الكريمة، وتقربا إليها بالشكر، والله وحده هو المستحق لذلك فتعالى اللهُ يُشِركون.
وهناك بعض الروايات المأخوذة من الاسرائيليات تنسب هذه القصة لآدم وحواء وهذا خلط وتخريف.
هل يصحّ ان يشركوا مع الله أصناماً لا تقدِر أن تخلُق شيئا من الاشياء، بل هي أضعف مخلوقاته! ان الخلق والأمر لله، هو وحده يخلق كل شيء.
ولا تستطيع هذه الاصنام ان تنصر من يعبدونها، بل حتى ان تردّ الأذى عن نفسها اذا تعدى عليها احد.
وإنْ تدْعوا ايها العبادون لغير الله هذه الاصنام طالبين ان ترشدكم الى ما تحبون، فإنها لن تجيبكم. ان دعاءكم إياها وعدمه سواء، فهي لا تنفع ولا تضر، ولا تهدي ولا تهتدي. أما الرب المعبود الذي بيده كل شيء فهو الله.
ثم بالغ في الردّ عليهم واثبت أنّها أحط منزلة من الناس، ووبخهم على عبادة تلك الحجارة والاصنام، فقال:
﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ...﴾.
بل ان هذه الاصنام اقل منكم في الخلق والتكوين، فهل لهم ارجل يمشون بها؟ او أيدٍ يدفعون بها الضر عنكم وعنهم؟ او اعين يبصرون بها؟ او حتى آذان يسمعون بها ما تطلبون منهم؟ ليس لهم شيء من ذلك، فكيف تشركونهم مع الله؟
وهذ التحديث للمشركين ليبني جهلهم وعجز آلهتهم، وقد تحداهم في اكثر من آية ولهم عجز هذه الآلهة. من ذلك قوله تعالى: ﴿ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب﴾ [الحج: ٧٣].
وبعد ان تحدى المشركين وآلهتهم قال لهم: ان الله هو مولِّي أمري وناصري، الذي نزّل عليّ القرآن، وهو وحده الذي ينصر الصالحين من عباده
ثم اكّد هذا التحدي بقوله تعالى: ﴿والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولاا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ وقد تقدم هذا في الآية ١٩٢، وجاء التكرار ليؤكد ان هذه الأصنام لن تناله بأذى وأنها أعجزُ من أن تنصر أحداً.
وبعد ذلك أضاف... وإن تسألوهم الهدايةَ إلى ما فيه خيركم لا يسمعوا سؤالكم، وإنّك يا محمد لتراهم ينظرون إليك، وهم في الحقيقة ولا يَرَوْن شيئا، لأنهم مجرد حجارة وتماثيل لا حياةَ فيها ولا حِسّ.
جاءت هذه التوجيهات الربانية الى الرسول الكريم وأصحابه، وهم لا يزالون في مكّة المكرمة، وفي مواجهة المشركين فيها ومواجهة الأعراب من حولهم في الجزيرة وأهل الأرض كافة.
يا محمد، خذ العفو الميسَّر الممكِنَ من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب منهم ما يشقّ عليهم، واعفُ عن أخطائم وضعفهم. ذلك ان التعامل مع النفوس البشرية بغية هدايتها يقتضي سعةَ صدرٍ، وسماحة طبعٍ، ويسراً في غير إفراطٍ ولا تفريط في دين الله، وهكذا كان رسول الله ﷺ مثال الكمال والخلق العظيم.
وامرْ يا محمد بالعُرف، وهو الخير المعروف، والعُرف اسمٌ جامعٌ لك ما عرف من طاعة الله والتقرب اليه والإحسان الى الناس.
وأعرض أيها الرسول الهادي عن الجاهلين، وهم الذين لا تُرجى هدايتهم، إذ قد يكون إهمالهم والإعراض عنهم أجدي في هدايتهم.
روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنهـ انه قال: «ليس في القرآن آيةٌ أجمعَ لمكارم الأخلاق من هذه» وقال بعض العلماء: تضمنت هذه الآية قواعد الشريعة، فلم يبق حسنة الا وعتْها، ولا فضيلة الا شَرَحتها.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ان عُيَبْنَةَ بن حِصْن، وكان فيه غلظة وجفاء، قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: هِيْ يا ابن الخطاب، أفو اللهِ ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر، حتى همّ ان يوقع به. فقال له الحُرّ بن قيس: يا امر المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه: «خُذِ العفوَ وأمرْ بالعُرف وأعرِض عن الجاهلين» وهذا من الجاهلين.
قال ابن عباس: والله ما جوزَها عمرُ حين تلاها عليه، كان وقّافاً عند كتاب الله.
وان تعرَّض لك يا محمد من الشيطان وسوسةٌ لصرفِك عما أُمرت، كأن تغضب من لجاجتهم بالشر فاستجرْ بالله يصرفه عنك، إنه سميع لكل ما يقال عليم به.
ثم بيّن الله طريق سلامةِ مَن يستعيذ من الشيطان من الوقوع في المعصيةِ فققال:
﴿إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾.
ان اخبار المؤمنين المتقين، إذا ألمَّ بهم من الشيطان وسوسةٌ تذكّروا أن ذاك من إغواء الشيطان عدوِّهم، وعند ذاك يبصرون لاحق فيرجعون عن الأخذ بتلك الوسوسة.
هذا حال المتقين أما اخوان الشياطين من الكفار، فان الشياطين تزيدهم ضلالا بالوسوسة، بذلك فهي تمدهم في غيّهم وافسادهم. ومن ثم تراهم يستمرون في شرورهم وآثامِهم.
واذا لم تأت يا محمد الكفار الذين يعاندونك بآية مما يطلبون، قالوا هلا اختلقتها؟ قل لهم: إنني لا أتّبع الا القرآن الذي يوحي اليّ من ربي، وفيه بصائر وحجج تهديكم الى وجوه الحق والخير، فهو نبع هدى يرشد، ورحمةٍ تغمر المؤمنين وتفيض عليهم البركات.
لما ذكّر اللهُ مزايا القرآن الكريم، وانه بصائر تكشف وتنير وهدى يرشد ويهدي، ورحمة تغمر وتفيض- امر في هذه الآية بالاستماع والانصات له، لتدبُّرِ ما فيه من ذلك. فنذوه إلى أنه:
اذا تُلي القرآن عليكم ايها المؤمنون فأصغوا اليه بأسماعكم، واستجمِعوا حواسكم لتتدبروا مواعظه، وتفوزوا برحمة ربكم.
وبعد أن جاء الأمر بهذا العلاج فيه يختص بالمعاملة، وفيما يختص بقراءة القرآن، يأتي الأمر والتوجيه الى مَلاك الأمر كله وهو ذِكر الله في القلب بعظَمته وجلاله رجاءَ الثواب، على ان يكون ذلك بهدوء واطمئنان لا ازعاج فيه، كيما تهدأ الاعصاب ويسبح الفكر في معاني الجلال والجمال، كما يرشد الى ان يكون ذلك شأن المؤمن في كل وقت.
﴿واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول بالغدو والآصال وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين﴾.
استحضِرْ عظَمة ربك من مشاهداتك في كونه الذي خلق، وفي آثاره العظيمة فيه، وانعاماته المادية والروحية عليك، فتعرَّف من كل هذا على ربوبيته بالتقرب اليه والخضوع له والخوف منه. واذكر ربّك هادئ النفس مطمئن البال في لاصباح وفي المساء تَنغمر نفسك بقيض من الرضا الرّباني، يبعث منك واليك الخير كله، وتكون في مراقبة دائمة وشهود مستمر، بذلك لا تكون في عامة اوقاتك من الغافلين عن ذكر الله.
ثم تختم السورة بالارشاد الى ان الملائكة مع عظيم شرفهم وسمو مرتبتهم معترفون بعوديتهم، خاضعون عزّ الربوبية، لا يخالجهم في عبادتهم كِبر، وهم دائما يسبّحون الله وله يسجدون. فما احوج الانسان وقد ركّبت فيه مبادئ الشهوة والغضب ان يتخذ الى ربه سبيلا، فيعبد بحق.
وهذه الآية إحدلا الآيات التي طُلب الى المؤمنين ان يسجُدوا عند تلاوتها او سماعها، وهي اربع عشرة آية في القرآن الكريم.
وهذه هي السجدة المعرفوة بسجدة التلاوة: وهي سجدة بين تكبيرتين: تكبيرة لوضع الجبهة على الأرض، وأخرى للرفع من السجود، دون تشهد ولا تسليم. ويشترط لها ما يشترط لصلاة م الطهارة والنية واستقبال القبلة.
والحكمة في هذه السجدة انها نوع من التربية العملية الروحية في اعلان التمسك بالحق والاعراض عن الباطل، ومراغمة المبطلين، والسير في طريق المثل العليا للذين حمَّلهم الله امانة الحق والدعوة اليه. وبذلك كانت سجدة الثلاوةو شعارا عاما للمؤمنين في اعلان تقديسهم عبادتهم، وشدتهم في مخلافة البالطل كلَّما قرأوا القرآن أو سموه جعلّنا الله من المسبحين بحمده، الساجدين له، المقتدين بانبيائه، المتشبيهن بالملأ الأعلى، انه سميع مجيب.