تفسير سورة الأعراف

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الأعراف مكية إلا ثمان آيات
من قوله ( فاسألهم ) إلى قوله ( وإذ تنقنا ) وقيل إلى قوله ( وأعرض عن الجاهلين ) وآياتها مائتان وست.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ المص كتاب١ أي : هو كتاب أو خبر المص إن كان اسم سورة.
١ قال ابن عباس: معناه أنا الله أفضل وعنه أنه قسم أقسم الله به وهي اسم من أسماء الله، وقيل غير ذلك ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن وتفسير الحدس ولا حجة في شيء من ذلك والحق ما قدمناه في سورة البقرة والله أعلم بمراده وهو سره في كتابه العزيز/١٢ فتح. .
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ المص كتاب١ أي : هو كتاب أو خبر المص إن كان اسم سورة.
١ قال ابن عباس: معناه أنا الله أفضل وعنه أنه قسم أقسم الله به وهي اسم من أسماء الله، وقيل غير ذلك ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن وتفسير الحدس ولا حجة في شيء من ذلك والحق ما قدمناه في سورة البقرة والله أعلم بمراده وهو سره في كتابه العزيز/١٢ فتح..


﴿ أُنزل إليك ﴾ صفته، ﴿ فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾ أي : شك١ ونهيه عنه للمبالغة، أو نهي لأمته أو ضيق قلب من تبليغه مخافة التكذيب٢ ﴿ لتُنذر به ﴾ : متعلق بأنزل أو بلا يكن فإنه إذا لم يكن ذا حرج كان أجسر على الإنذار ﴿ وذكرى ﴾ موعظة، ﴿ للمؤمنين ﴾ تقديره : لتنذر به الكافرين ولتذكر ذكرى للمؤمنين أو عطف على محل تنذر، أو عطف على كتاب.
١ قال مجاهد وقتادة الحرج: الشك/١٢ فتح..
٢ لأن انتفاء الشك في كونه من عند الله يقويه على الإنذار ويشجعه لأن المتيقن يقدم على بصيرة ويباشر بقوة نفس وصاحب اليقين جسور متوكل على ربه/١٢ فتح..
﴿ اتّبعوا١ ما أُنزل إليكم من ربكم ﴾ اتبعوا أوامر الله ونواهيه، ﴿ ولا تتّبعوا من دونه ﴾ : من دون ربكم٢، ﴿ أولياء ﴾ من الجن والإنس فيضلوكم ﴿ قليلا ما تذكّرون ﴾ تتعظون اتعاظا قليلا وما مزيدة لتأكيد القلة.
١ لما أمره بالإنذار والتذكير أمر أمته بالاتباع /١٢ وجيز..
٢ أي: من دون كتاب الله وسنة رسوله أولياء تقلدونهم في دينكم كما كان يفعله أهل الجاهلية من طاعة الرؤساء فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم/١٢ فتح..
﴿ وكم١ من قرية ﴾ كثيرا منها ﴿ أهلكناها ﴾ بالعذاب لمخالفة الرسل، أي : أردنا إهلاك أهلها ﴿ فجاءها بأسُنا ﴾ عذابنا ﴿ بياتا ﴾ بايتين ليلا ﴿ أو هم قائلون ﴾ عطف على بياتا فإنه حال من القيلولة، أي : الضحى وكلا الوقتين وقت غفلة واستراحة فالعذاب فيهما أفظع.
١ ثم بين أن هذه عادة قديمة أنتم أخذتموها وراثة فانظروا عاقبتهما واتركوا متابعتها وكم من قرية/١٢ وجيز..
﴿ فما كان دعواهم ﴾ دعاؤهم وقولهم ﴿ إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ﴾ أي : أقروا بحقية العذاب تحسرا.
﴿ فلنسألن الذين أُرسل إليهم ﴾ عن إجابتهم الرسل ﴿ ولنسألن المرسلين ﴾ عن إبلاغ١ الرسالة وعما أجيبوا به.
١ ولا يعارض هذا قول الله سبحانه (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) (القصص: ٧٨) لما قدمناه غير مرة أن في الآخرة مواطن ففي موطن يسألون وفي موطن لا يسألون وهكذا سائر ما ورد مما ظاهره التعارض بأن أثبت تارة ونفى أخرى بنفسه أنه إلى يوم القيامة فإنه محمول على تعدد المواقف مع طول ذلك اليوم طولا عظيما/١٢ فتح..
﴿ فلنقصّن عليهم ﴾ على الرسل والأمم يخبر عباده بما عملوا من جليل وقليل ﴿ بعلم ﴾ عالمين بجملته ﴿ وما كنا غائبين١ عنهم فيخفى علينا.
١ ولما قال: (فلنقصن عليهم بعلم) وهو مؤذن بجزاء الأعمال السيئة بمثلها وزاد في الحسنة تسعة أمثالها للفضل يخطر في الخواطر كيف يعلم المثلية والزيادة فقال: (والوزن)/١٢ وجيز..
﴿ والوزن ﴾ أي : للأعمال ﴿ يومئذ ﴾ يوم السؤال ﴿ الحق١ العدل ووزن الأعمال بتقليبها أجساما أو بوزن صحيفة الأعمال أو صاحب الأعمال، قيل : تارة توزن الأعمال وتارة صحيفتها وتارة صاحبها جمعا بين الأحاديث، ويومئذ خبر الوزن والحق صفته. ﴿ فمن ثقُلت موازينه ﴾ جمع موزون أي : أعماله مطلقا أو ميزان وجمعه على الثاني باعتبار كثرة الموزون. ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون الناجون.
١ يومئذ الحق مذهب الجمهور أن في القيامة ميزانا له كفتان ولسان ومثل ذلك ليس بثابت بالنص ولا بالسنة والثقل والخفة من صفات الأجسام فقالوا الموزون الصحف أو بتقليب الأعمال أجساما والكلام الحق أن الموازين يختلف كميزان الشعر وميزان العرض والطول وكيفية ميزان الأعمال علمها عند الله تعالى لا نعلم إلا بعد الرؤية/١٢ وجيز. بلفظه. قال القشيري: وقد أحسن الزجاج فيما قال ولا يحمل الصراط على الدين الحق والجنة والنار على ما يرد الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة. ثم قال: وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر وصارت هذه الظواهر نصوصا انتهى. والحق أن وزن الصحائف وزن حقيقي، وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية وليس في ذلك حجة لأحد، فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاءت البدع كالليل، وقال كل ما شاء وتركوا الشرع خلف ظهورهم، وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ويتحد قبولهم لها، بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه ويوافق ما يذهب إليه هو ومن هو تابع له فتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم، يعرف هذا كل منصف ومن أنكره فليصف فهمه وعقله من شوائب التعصب والتمذهب فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه، وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن والأحاديث في الباب كثيرة جدا، وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه مع قول الله ورسوله الصادق المصدوق والصباح يغني عن المصباح/١٢ فتح البيان في مقاصد القرآن..
﴿ ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ﴾ بتضييع الفطرة السليمة. ﴿ بما كانوا بآياتنا يظلمون١ فينكرونها.
١ ولما تقدم الأمر باتباع القرآن وهو العمدة ووقع بعده ما هو في مورد الاعتبار والاتعاظ رجع إلى ما هو العمدة فقال مخاطبا: (ولقد مكناكم)، والمخاطب المأمورون بقوله: (اتبعوا ما أنزل إليكم)/١٢ وجيز..
﴿ ولقد مكّناكم في الأرض ﴾ بالتمليك والتصرف والقدرة. ﴿ وجعلنا لكم فيها معايش١ أسباب تعيشون بها. ﴿ قليلا ما تشكرون ﴾ أي : شكرا قليلا، وما مزيدة.
١ معايش جمع معيشة، وهي: ما يعاش به من المطعوم والمشروب وما تكون به الحياة/١٢ فتح..
﴿ ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ﴾ خلق آدم من طين غير مصور ثم صوره نزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره ؛ لأنه أبو البشر، أو خلقناكم يا بني آدم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم أو صورناكم في ظهر آدم أو يوم الميثاق حين أخرجهم كالذر، أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام١ النساء، وعلى هذا ﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ : للتراخي في الإخبار.
﴿ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ وقد مر الكلام في أن المأمور به جميع الملك، أو ملائكة الأرضين وان إبليس منهم، أو من الجن.
١ وهذا المعنى رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين/١٢ وجيز..
﴿ قال ما منعك ألا تسجد ﴾ منع بمعنى أحوج واضطر ؛ لأن الممنوع عن شيء مضطر إلى خلافه، أي : ما أحوجك إلى عدم السجدة ؟ أو لا زائدة١ مؤكدة٢ معنى الفعل الداخلة هي عليه والسؤال للتوبيخ ﴿ إذ أمرتك قال أنا خير منه ﴾ كأنه قال : المانع أني خير منه.
﴿ خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ والنار ألطف وأنور، فقاس وقصر النظر٣ بالعنصر، وما نظر إلى تشريف خلقه بيده ونفخ روحه فيه، وأخطأ في القياس أيضا، فإن من طين الحلم والوقار والرزانة والصبر وهو محل النبات والنمو، ومن النار الإهلاك والطيش والسرعة والارتفاع.
١ وقيل: الأولى إنها زائدة؛ لأن زيادتها في صدر الكلام معهود نحو(لا أقسم) (فلا أقسم) ولها مواقع خاصة/١٢ وجيز..
٢ بدليل قوله تعالى في سورة ص (ما منعك أن تسجد) (ص: ٥٧) قاله الكسائي والفراء والزجاج/١٢ فتح البيان..
٣ قال ابن عباس: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس. قال ابن سيرين: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالقياس/١٢ معالم..
﴿ قال فاهبط منها ﴾ من الجنة أو من السماء أو من منزلتك ﴿ فما يكون لك ﴾ ما يستقيم ﴿ أن تتكبّر فيها فاخرج إنك من الصاغرين١ ممن أهانه الله لكبره.
١ وبه علم أن الصغار لازم للاستكبار فكل من تردى برداء الاستكبار عوقب بلبس رداء الهوان والصغار، ومن لبس لباس التواضع ألبسه الله رداء الترافع/١٢ فتح..
﴿ قال أنظِرني ﴾ أمهلني فلا تمتني ﴿ إلى يوم يُبعثون قال إنك من١ المنظرين ﴾ إلى ابتداء القيامة وهي النفخة الثانية فتموت حين موت الخلائق.
١ من الطائفة التي تأخرت آجالهم مثل الملائكة فإنهم ميتون عند النفخة الثانية فلم يبق فيها أحد من ملك وغيره إلا الله هذا ما في الوجيز وفي سورة الحجر (إلى يوم الوقت المعلوم) (الحجر: ٣٨) قال المصنف في المنهية هـ. الأولى أن يقال: إن يوم الدين ويوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم واحد وتغيير الكلام للتفنن، لأنه قد مر في سورة الأعراف أنه قال: (أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين) (الأعراف: ١٤، ١٥) فإنه يدل على الإباحة والملعون عالم بأنه لا يسأل عما لا يجاب عنه/١٢..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:﴿ قال أنظِرني ﴾ أمهلني فلا تمتني ﴿ إلى يوم يُبعثون قال إنك من١ المنظرين ﴾ إلى ابتداء القيامة وهي النفخة الثانية فتموت حين موت الخلائق.
١ من الطائفة التي تأخرت آجالهم مثل الملائكة فإنهم ميتون عند النفخة الثانية فلم يبق فيها أحد من ملك وغيره إلا الله هذا ما في الوجيز وفي سورة الحجر (إلى يوم الوقت المعلوم) (الحجر: ٣٨) قال المصنف في المنهية هـ. الأولى أن يقال: إن يوم الدين ويوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم واحد وتغيير الكلام للتفنن، لأنه قد مر في سورة الأعراف أنه قال: (أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين) (الأعراف: ١٤، ١٥) فإنه يدل على الإباحة والملعون عالم بأنه لا يسأل عما لا يجاب عنه/١٢..

﴿ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ﴾ أي : بسبب إغوائك إياي أقسم بالله لأقعدن لهم كما يقعد القطاع للسابلة١ طريق الإسلام والباء متعلق بأقسم المقدر ؛ ولأن لام القسم مانع من تعلقه بأقعدن، ونصب صراط على الظرف، أو تقديره على صراطك.
١ السابلة الطريق المسلوكة والقوم المختلف عليها/١٢..
﴿ ثم لآتينهم من بين أيديهم ﴾ من قبل آخرتهم فأشككهم فيها أو دنياهم ﴿ ومن خلفهم ﴾ دنياهم أزين لهم أو آخرتهم ﴿ وعن أيمانهم ﴾ من قبل حسناتهم، ﴿ وعن شمائلهم ﴾ قبل سيآتهم، أو المراد من أي وجه يمكن، ﴿ ولا تجد أكثرهم شاكرين ﴾ مطيعين، وإنما قاله ظنا وقياسا، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه.
﴿ قال اخرج منها مذءوما ﴾ معيبا، والذأم : أشد العيب ﴿ مدحورا ﴾ مطرودا، ﴿ لمن تبعك منهم ﴾ لام توطئة القسم وجوابه ﴿ لأملأن جهنم منكم أجمعين ﴾ وهو ساد مسد جواب الشرط.
﴿ ويا آدم ﴾ أي : قلنا ﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة فكُلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة ﴾ وقد مر الخلاف في الشجرة ﴿ فتكونا ﴾ يحتمل النصب على الجواب، والجزم على العطف ﴿ من الظالمين ﴾.
﴿ فوسوس لهما ﴾ فعل الوسوسة لأجلهما ﴿ الشيطان ﴾ والوسوسة حديث يلقيه في القلب ﴿ ليُبدي لهما ﴾ ليظهر لهما، واللام إما للعاقبة وإما للغرض، فإن اللعين يعلم أن العصيان في الجنة سبب لسلب اللباس والفضيحة ﴿ ما وُوري عنهما ﴾ ما غطى عنهما وستر ﴿ من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن ﴾ أكل ﴿ هذه الشجرة إلا ﴾ كراهة ﴿ أن تكونا ملكين ﴾ يحصل لكما ما للملائكة من القوة والاستغناء عن الغذاء وغيره ﴿ أو تكونا من الخالدين ﴾ في الجنة.
﴿ وقاسمهما إني لكما من الصالحين ﴾ أي : أقسم لهما على ذلك، و( لكما ) متعلق بالناصحين على حذف المفسر، أو التوسع في الظرف.
﴿ فدلاهما ﴾ خدعهما ﴿ بغرور ﴾ بما غرهما به من القسم ﴿ فلما ذاقا الشجرة ﴾ وجد طعمها ﴿ بدت لهما سوءاتُهما ﴾ بأن تهافت عنهما لباسهما ﴿ وطفقا ﴾ أخذا ﴿ يخصفان ﴾ يلزقان ﴿ عليهما من ورق ﴾ أشجار ﴿ الجنة وناداهما١ ربهما ألم أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( ٢٢ ) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الهالكين، والأصح أن هذه كلمات تلقاها آدم من ربه٢ فتاب عليه.
١ فيه إثبات النداء لله تعالى، وأنه صفة من صفات الله تعالى أثبته لنفسه في عدة مواضع من كتابه فلابد من إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال: ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة ولا كلام ولا يحب ولا يرضى ولا نادى ولا ناجى ولا استوى كان معطلا جامدا ممثلا له بالمعدومات والجمادات، ومن قال: له علم كعلمي وقوة كقوتي أو حب كحبي أو رضا كرضائي أو يدان كيدي، أو استواء كاستوائي كان مشبها ممثلا له بالحيوانات، بل لابد من إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل ولله المثل الأعلى وكذا قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام في رسالته التدمرية/١٢..
٢ يعني قوله: (فتلقى آدم من ربه كلمات) (البقرة: ٣٧)، إشارة إلى هذه الكلمات/١٢..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:﴿ فدلاهما ﴾ خدعهما ﴿ بغرور ﴾ بما غرهما به من القسم ﴿ فلما ذاقا الشجرة ﴾ وجد طعمها ﴿ بدت لهما سوءاتُهما ﴾ بأن تهافت عنهما لباسهما ﴿ وطفقا ﴾ أخذا ﴿ يخصفان ﴾ يلزقان ﴿ عليهما من ورق ﴾ أشجار ﴿ الجنة وناداهما١ ربهما ألم أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( ٢٢ ) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الهالكين، والأصح أن هذه كلمات تلقاها آدم من ربه٢ فتاب عليه.
١ فيه إثبات النداء لله تعالى، وأنه صفة من صفات الله تعالى أثبته لنفسه في عدة مواضع من كتابه فلابد من إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال: ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة ولا كلام ولا يحب ولا يرضى ولا نادى ولا ناجى ولا استوى كان معطلا جامدا ممثلا له بالمعدومات والجمادات، ومن قال: له علم كعلمي وقوة كقوتي أو حب كحبي أو رضا كرضائي أو يدان كيدي، أو استواء كاستوائي كان مشبها ممثلا له بالحيوانات، بل لابد من إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل ولله المثل الأعلى وكذا قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام في رسالته التدمرية/١٢..
٢ يعني قوله: (فتلقى آدم من ربه كلمات) (البقرة: ٣٧)، إشارة إلى هذه الكلمات/١٢..

﴿ قال١ اهبطوا ﴾ الخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية والعمدة في العداوة آدم وإبليس كما قال تعالى في سورة طه ( اهبطا منها جميعا ) ( طه : ١٢٣ )، أو الخطاب لآدم وحواء وذريتهما ﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ في موضع الحال أي : متعادين لكم ﴿ ولكم في الأرض مستقر ﴾ موضع قرار ﴿ ومتاع إلى حين ﴾ وتمتع إلى آجال معلومة٢.
١ الله تعالى /١٢..
٢ وهذا حال جميع الآباء والأولاد/١٢..
﴿ قال فيها تَحْيَون وفيها تموتون ومنها تُخرجون ﴾ يوم القيامة.
﴿ يا بني١ آدم قد أنزلنا عليكم ﴾ أي : خلقنا لكم ولما كان بقضاء سماوي، وأسباب من السماء٢ قال :( وأنزلنا ) وكم مثله في القرآن ﴿ لباسا يواري ﴾ يستر ﴿ سوءاتكم٣ فأغناكم عن خصف الورق ﴿ وريشا٤ مالا أو ما يتجمل٥ به من الثياب، أو جمالا، ﴿ ولباس التقوى ﴾ خشية الله أو الإيمان أو العمل الصالح، أو العفاف، أو هو اللباس الأول يعني لباسا يواري عوراتكم، أو لباس الحرب وهو مبتدأ ﴿ ذلك خير ﴾ خبره ﴿ ذلك ﴾ أي : خلق اللباس، ﴿ من آيات الله ﴾ الدالة على فضله ﴿ لعلهم يذكّرون ﴾ يتعظون فيتورعون عن كشف العورة.
١ ولما ذكر بيان حال أبويهم من تطاير اللباس عنهما، وأنهما يخصفان عليهما من ورق الجنة امتن على أولادهما وناداهم فقال: (يا بني آدم)/١٢ وجيز..
٢ كالمطر والريح/١٢..
٣ التي قصد الشيطان إبداءها فاحتاج أبوكم إلى خصف الورق ليسترها/١٢ منه..
٤ تريش الرجل إذا تمول فسر به ابن عباس كما نقل عنه في البخاري ومجاهد وعروة ابن الزبير والسدي والضحاك/١٢ منه..
٥ فإن الزينة عرض صحيح وفي بعض الأوقات سنة مستحبة/١٢..
﴿ يا بني١ آدم لا يفتننّكم الشيطان ﴾ لا يضلنكم ﴿ كما أخرج أبويكم ﴾ فتنهما فأخرجهما ﴿ من الجنة ينزع عنهما لباسهما ﴾ حال من أبويكم أو من فاعل أخرج، والشيطان سبب الإخراج والنزع ﴿ ليُريهما سوءاتهما ﴾ فإن كل واحد منهما ما رأى عورة صاحبه قط ﴿ إنه يراكم هو وقبيله ﴾ جنوده ﴿ من حيث لا ترونهم ﴾ تعليل للنهي فإن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة ﴿ إنا جعلنا الشياطين أولياء ﴾ أحباء ﴿ للذين لا يؤمنون ﴾ فإنهم متابعوهم، أو سلطانهم عليهم ليزيد غيهم.
١ ولما قص علينا حكاية إغواء الشيطان أبوينا وبين عداوته القديمة أخذ يحذرنا منه فقال: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان) الآية/١٢ وجيز..
﴿ وإذا١ فعلوا فاحشة ﴾ ككشفهم عورتهم في الطواف نسائهم ورجالهم ﴿ قالوا وجدنا عليها ﴾ على تلك الفعلة المتناهية في القبح ﴿ آباءنا والله أمرنا بها ﴾ اعتقدوا أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع٢ ﴿ قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ﴾ فإنه لا يأمر إلا بما لا ينفر عنه الطبع السليم، ولا يستعيبه العقل المستقيم ﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾.
١ ولما ذكر أن الكافرين محبون تابعون للشياطين بين متابعتهم في شيء عجيب فقال: (وإذا فعلوا فاحشة) الآية/١٢ وجيز..
٢ لما سمعوا من آبائهم أنهم على دين إسماعيل/١٢ وجيز..
﴿ قل أمر ربي بالقسط ﴾ بالعدل لا الإفراط ولا التفريط ﴿ وأقيموا ﴾ عطف على أمر ربي، ومثله شائع١ ﴿ وجوهكم عند كل مسجد ﴾ استقيموا في العبادة في محالها وهي متابعة الأنبياء أو وجهوا وجوهكم إلى الكعبة في الصلاة حيث كنتم، أو صلوا في أي مسجد كنتم فيه إذا حضرت الصلاة ولا تؤخروها إلى مساجدكم ﴿ وادعوه مخلصين ﴾ فلا تقبل عبادة إلا إذا كانت موافقة للشريعة خالصة ﴿ له الدين ﴾ الطاعة ﴿ كما٢ بدأكم ﴾ أنشأكم ابتداء ﴿ تعودون ﴾ بإحيائكم وإيجادكم بعد موتكم وفنائكم أو كما خلقكم مؤمنا وكافرا تعودون٣ مؤمنا وكافرا.
١ يعني عطف الإنشاء على الإخبار وهو على سبيل الحكاية وبتأويل هذا الكلام ومثله شائع/١٢ منه..
٢ ولما أمر بالطاعة الخالصة لله تعالى توجه النفس إلى فائدتها وظهور إفادتها يوم الدين أشد على هذا اليوم فقال: (كما بدأ لكم) الآية/١٢ وجيز..
٣ قال السدي: معناه كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال كذلك تعودون: تخرجون من بطون أمهاتكم/١٢ منه..
﴿ فريقا هَدى ﴾ فوفقهم للإيمان ﴿ وفريقا حق عليهم الضلالة١ وانتصابه بمقدر تفسيره ما بعده، أي : وفريقا أضل٢ ﴿ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ﴾ فيتبعونهم ﴿ ويحسبون أنهم مهتدون٣.
١ فنفوا واستحالوا الحشر كالمشركين والفلاسفة/١٢ وجيز..
٢ وأما جعل المضمر المفسر خذل دون أضل ليلائم الهدى، ولحقت عليهم الضلالة كما فعله الزمخشري فتبعه القاضي فاعتزل/١٢ منه..
٣ ودلت الآية على أن المخطئ والمعاند سواء في الضلال فتدعو بالويل على الخوارج، وعلى كل مبتدع، ولما أمر ربنا بالقسط وهو الوسط بين الإفراط والتفريط يأمر وينهى بما هو الوسط وعما هو من أحد الشقين فقال: (يا بني آدم) الآية/١٢ وجيز..
﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم ﴾ ثيابكم التي تستر عورتكم ﴿ عند كل مسجد ﴾ بصلاة وطواف ﴿ وكلوا واشربوا ﴾ نزلت حين كان بنو عامر لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ولا يأكلون إلا قوتا فقال المسلمون : نحن أحق أن نفعل ذلك : أي : كلوا ما طاب، ﴿ ولا تُسرفوا ﴾ : بتحريم الحلال ﴿ إنه لا يحب ﴾ لا يرتضي فعل ﴿ المسرفين١ المعتدين حده في حلال أو حرام، أو معناه لا تسرفوا بإفراط الطعام والشراب.
١ وفي البخاري عن ابن عباس كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة، أي: ما دام تعدم ولا تجد فيك الخصلتان اللتين هما السرف في الأكل والخيلاء في اللبس/١٢ منه. [ذكره البخاري معلقا (١٠/٢٦٤)]..
﴿ قل من حرّم زينة الله ﴾ التي حرمتموها على أنفسكم في الطواف ﴿ التي أخرج ﴾ من النبات والحيوان والمعادن كالقطن والحرير والدروع ﴿ لعباده الطيبين من الرزق ﴾ المستلذات من المآكل والمشارب كما حرمتم من عند أنفسكم في أيام الحج ﴿ قل هي ﴾ : أي : الطيبات مخلوقة ﴿ للذين آمنوا في الحياة الدنيا ﴾ بالأصالة والكفرة شريكهم تبعا ﴿ خالصة يوم القيامة ﴾ لا يشاركهم الكافرون وقيل : خالصة في الآخرة من التنغيص والغم خلافا للدنيا، ونصبه على الحال من المستكن في الظرف ﴿ كذلك ﴾ كتفصيلنا هذا الحكم ﴿ نفصّل ﴾ جميع ﴿ الآيات لقوم يعلمون ﴾ أن الله هو الذي يحرم ويحلل أو لقوم غير جاهلين.
﴿ قل إنما حرّم ربي الفواحش ﴾ ما تزايد قبحه كالكبائر ﴿ ما ظهر منها وما بطن ﴾ جهرها وسرها ﴿ والإثم ﴾ كل ذنب، أو الصغائر أو الخمر١ ﴿ والبغي ﴾ الظلم ﴿ بغير الحق ﴾ متعلق بالبغي مؤكد له معنى ﴿ وأن تُشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانا ﴾ برهانا ومن المحال إنزال البرهان على الإشراك فيكون هذا تهكما واستهزاء ﴿ وأن تقولوا على الله٢ ما لا تعلمون ﴾ بالافتراء عليه.
١ وأما تفسيره بالخمر فليس بشيء فإن السورة مكية وتحريم الخمر في المدينة/١٢ وجيز..
٢ لما ذكر أن بني آدم فريقان وأمر بخلاف قوله (وفريقا حق عليهم الضلالة) ثم بين حال تلك الجماعة الضالة ومآلهم فقال (ولكل أمة أجل)/١٢ وجيز..
﴿ ولكل أمة ﴾ كذبت رسولها ﴿ أجل ﴾ وقت معين لنزول العذاب والاستئصال ﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ أي : إذا جاء وقت العذاب لا يتأخر ولا يتقدم أقصر وقت، ويصل إليهم في ذلك الوقت المقدر١، أو لا يطلبون التأخر والتقدم ؛ لشدة الهول.
١ فهو بمنزلة المثل يقصد من مجموع الكلام ألا تغيير ولا تبديل لحكم الله تعالى، قالوا: قوله: (لا يستقدمون) لا يمكن عطفه على (لا يستأخرون)؛ لأن إذا شرطية لا يترتب عليها إلا ما يستقبل، ولا يترتب على مجيء الأجل في الاستقبال إلا مستقبل والاستقدام سابق على مجيء الأجل في الاستقبال، فالوجه أن يقال: إن قوله ولا يستقدمون منقطع من الجواب على الاستئناف أي: وهم لا يستقدمون الأجل أي: لا يسبقونه وتحقيق العلامة على هذا المنوال/١٢ وجيز..
﴿ يا بني آدم إما يأتينّكم رسل منكم ﴾ إن حرف شرط وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ﴿ يقصّون عليكم آياتي ﴾ التي فيها الفرائض والأحكام ﴿ فمن اتّقى ﴾ الشرك منكم ﴿ وأصلح ﴾ عمله ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ في الآخرة ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ وهذا الشرط والجزاء إما يأتينكم.
﴿ والذين كذّبوا بآياتنا ﴾ منكم عطف على من اتقى ﴿ واستكبروا عنها ﴾ فتركوا العمل بها ﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾.
﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ تقوّل عليه ما لم يقله ﴿ أو كذّب بآياته ﴾ أو كذب ما قاله ﴿ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ﴾ ينالهم ما كتب عليهم وهو قوله :( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) ( الزمر : ٦ )، أو ما وعدوا في الكتاب من خير أو شر أو ما أثبت لهم في اللوح المحفوظ أو مما كتب لهم من العمل والرزق١ والعمر ﴿ حتى إذا جاءتهم رسلنا ﴾ ملك الموت وأعوانه ﴿ يتوفّونهم ﴾ أي : أرواحهم حال من الرسل ﴿ قالوا ﴾ جواب إذا ﴿ أين ما كنتم ﴾ ما موصولة أي : أين الآلهة التي كنتم ﴿ تدعون٢ تعبدونها ﴿ من دون الله ﴾ وهو سؤال وتقريع ﴿ قالوا ضلّوا عنا ﴾ غابوا فلا نراهم ولا ننتفع بهم ﴿ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين٣.
١ هذا القول قوي في المعنى والسياق يدل عليه وإن كان الأول والثاني منقولين عن أكثر السلف/١٢ منه..
٢ تستغيثونها في طلب حوائجكم/١٢ وجيز..
٣ فالمقصود من الآية زجر الكفار عن الكفر؛ لأن التهويل بذكر هذه الأحوال مما يحمل العاقل على المبالغة في النظر والاستدلال والتشدد في الاحتراز عن التقليد/١٢ كبير..
﴿ قال ﴾ الله لهم يوم القيامة ﴿ ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ﴾ أي : ادخلوا في النار كائنين في زمرة أمم تقدم زمانهم أي : كفار الجن والإنس ﴿ كلما دخلت أمّة ﴾ في النار ﴿ لعنت أختها ﴾ في الدين التي ضلت بالاقتداء بها ﴿ حتى إذا ادّاركوا ﴾ تلاحقوا واجتمعوا ﴿ فيها جميعا قالت أُخراهم ﴾ دخولا في النار ﴿ لأُولاهم ﴾ أي : لأجل أولهم دخولا، أي : الأتباع للمتبوعين، فإن المتبوع دخل قبل التابع ؛ لأنه أشد جرما، أو آخر كل أمة لأولها، أو أهل آخر الزمان لأولهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين ﴿ ربنا هؤلاء أضلّونا ﴾ أي : سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم ﴿ فآتهم عذابا ضِعفا ﴾ مضاعفا ﴿ من النار ﴾ : أي : أضعف عليهم العقوبة ﴿ قال١ لكل ضعف ﴾ أي : لكل واحد ضعف من عذاب جهنم في هذا الحين، أو لكل عذاب لا مزيد له، أو عذاب ضعف ما يتصور أحدكم في شأن الآخر ﴿ ولكن لا تعلمون ﴾ ما لكل فريق منكم من العذاب.
١ الله تعالى/١٢..
﴿ وقالت أولاهم ﴾ القادة ﴿ لأُخراهم ﴾ الأتباع ﴿ فما كان لكم علينا من فضل ﴾ رتبوا هذا الكلام على قول الله يعني : أن القادة لما سمعوا قوله تعالى :( لكل ضعف ) : قالوا للسفلة : ما لكم فضل علينا فإنا متساوون في الضلال والعذاب ﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ﴾ من قول القادة، أو من قول الله.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ﴾ أي : عن الإيمان بها، ﴿ لا تُفتّح لهم ﴾ لأرواحهم ﴿ أبواب السماء ﴾ بل يهوى بها إلى السجين١ أو لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء ﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ﴾ أي : حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه ﴿ وكذلك ﴾ مثل ذلك الجزاء الفظيع ﴿ نجزي المجرمين ﴾.
١ رواه أبو داود وابن ماجة والنسائي/١٢ وجيز لمصنف جامع البيان..
﴿ لهم من جهنم مهاد ﴾ فراش ﴿ ومن فوقهم غَوَاش ﴾ لحاف جمع غاشية ﴿ وكذلك نجزي١ الظالمين ﴾ سماهم مرة ظالما ومرة مجرما ؛ لتعدد قبائحهم وتكثرها.
١ وكفى لكل ظالم ومجرم نقصا بأن وصف الكفار بتلك الألقاب زجرا/١٢ وجيز.
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلّف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ ( لا نكلف ) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب بأن هذه المرتبة الجليلة ممكنة الوصول إليها بسهولة.
﴿ ونزعنا ﴾ أخرجنا ﴿ ما في صدروهم من غلّ ﴾ حسد وحقد كان بينهم في الدنيا فلم يبق بينهم إلا التواد١ ﴿ تجري من تحتهم ﴾ تحت منازلهم ﴿ الأنهار وقالوا ﴾ لما رأوا تلك النعمة ﴿ الحمد لله الذي هدانا لهذا ﴾ لعمل هذا ثوابه ﴿ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ اللام لتوكيد النفي ويدل ما قبل لولا على جوابه ﴿ لقد جاءت رُسل ربنا بالحق ﴾ فحصل لنا هذه النعمة بإرشادهم ﴿ ونودوا أن تلكم الجنة ﴾ إذا رأوها من بعيد، أو بعد دخولها، وأن هي المخففة أو مفسرة فإن المناداة من القول ﴿ أورثتموها ﴾ حال من الجنة أو خبر والجنة صفة ﴿ بما كنتم تعملون ﴾ أعطيتموها بلا تعب كالميراث، أو ميراثكم من أهل الجنة، فقد ورد ( ما من أحد إلا وله منزل في الجنة وفي النار، والكافر يرث المؤمن منزله٢ من النار والمؤمن الكافر من الجنة ).
١ حتى تصير الجنة دار متمحض السرور قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم (ونزعنا ما في صدورهم)/١٢ وجيز..
٢ رواه ابن ماجة والنسائي وغيرهما /١٢ وجيز. [وله أصل في مسلم (٥/٦١٢) ط الشعب. ولفظة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كانوا يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا مكانك من النار)].
﴿ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ﴾ تبجحا بحالهم وشماتة بالكفرة ﴿ أن قد وجدنا ﴾ يحتمل المخففة والتفسير ﴿ ما وعدنا ربنا ﴾ في الدنيا من الثواب ﴿ حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم ﴾ من العذاب وأهوال الآخرة ﴿ حقا قالوا نعم فأذّن مؤذن ﴾ نادى مناد ﴿ بينهم أن لعنة الله على الظالمين ﴾ ( أن ) كما مر ﴿ الذين يصدّون عن سبيل الله ﴾ صفة الظالمين.
﴿ الذين يصدّون عن سبيل الله ﴾ أي : يمنعون الناس عن اتباع شرعه ﴿ ويبغونها عِوجا ﴾ زيغا وميلا حتى لا يتبعها أحد ﴿ وهم بالآخرة كافرون ﴾.
﴿ وبينهما حجاب ﴾ بين الجنة والنار حاجز يمنع من وصول أهل النار إلى الجنة، وهو الأعراف ﴿ وعلى الأعراف ﴾ وهو السور المضروب١ بينهما ﴿ رجال يعرفون كلا ﴾ من أهل الجنة والنار ﴿ بسيماهم ﴾ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها قبل دخول أهل الجنة الجنة والنار النار وبعّده لارتفاع محلهم وإشرافهم، وبإعلام الله تعالى إياهم فهم يعرفونهم بأشخاصهم، والأصح بل الصحيح أنهم قوم استوت حسناتهم وسيآتهم ﴿ ونادوا ﴾ عطف على يعرفون ﴿ أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ وأن مثل ما مر ﴿ لم يدخلوها ﴾ استئناف٢ ﴿ وهم يطمعون ﴾ في دخولها عطف، أو حال من النفي أي : هم عند عدم الدخول كانوا طامعين.
١ وتصور هذا السور بين الجنة التي في الكرسي والنار التي في أسفل السافلين موقوف بالمشاهدة/١٢ وجيز..
٢ كان سائلا سأل عن حال أهل الأعراف فقيل: لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون دخولها/١٢ منه..
﴿ وإذا صُرفت أبصارهم ﴾ فيه إشارة إلى أن نظرهم إلى أصحاب النار لا برغبة منهم وميل ﴿ تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين١ في النار.
١ معنى الآية: أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى ألا يجعلهم من زمرتهم، والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف حتى يقدم المرء على النظر والاستدلال، ولا يرضى بالتقليد ليفوز بالدين الحق فيصل بسببه إلى الثواب المذكور في هذه الآيات ويتخلص عن العقاب المذكور فيها/١٢ كبير..
﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا ﴾ من الكفرة ﴿ يعرفونهم بسيماهم ﴾ من رؤساء الكفرة يقولون : يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل يا فلان يا فلان ﴿ قالوا ﴾ لهم ﴿ ما أغنى عنكم جمعكم ﴾ لم تنفعكم كثرتكم أو جمعكم المال ﴿ وما كنتم تستكبرون ﴾ عن الحق.
﴿ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ﴾ من تتمة قول أهل الأعراف لأولئك الكفار، والإشارة إلى ضعفاء الجنة التي كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنهم لا يدخلون الجنة ﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ أي : ثم يقال لأهل الأعراف ذلك، أو لما عير أهل الأعراف أهل النار قال أهل النار : إن دخل هؤلاء الجنة فوالله أنتم لا تدخلونها تعييرا لهم فقال الملائكة : أهؤلاء أي : أهل الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار أنه لا ينالهم الله برحمته ؟ !، ثم قالت الملائكة لهم ( ادخلوا الجنة ) الآية.
﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو ﴾ ألقوا١ علينا ﴿ مما رزقكم الله ﴾ من الطعام ﴿ قالوا إن الله حرّمهما ﴾ أي : ماء الجنة وطعامها ﴿ على الكافرين ﴾.
١ قيل: طلبهم مع اليأس كالغريق يتشبث بالزبد لكن ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما مشعر بأنهم طامعون في حصول ما التمسوا/١٢ وجيز..
﴿ الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا١ فاستهزءوا به أو جعلوا اللهو واللعب دينهم، وهو ما زين لهم الشيطان كتحريم البحيرة والتصدية وغيرهما ﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ فتركوا الآخرة ﴿ فاليوم ننساهم ﴾ نعاملهم معاملة الناسين فنخليهم في جهنم ﴿ كما نسوا لقاء يومهم هذا ﴾ فلم يستعدوا له ﴿ وما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾ وكما كانوا منكرين أنه من عند الله.
١ وفي الآية لطيفة عجيبة وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم كافرين ثم بين من حالهم أنهم اتخذوا دينهم لهوا أولا ثم لعبا ثانيا ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثا ثم صار عاقبة هذه الأحوال والتدرجات أنهم جحدوا بآيات الله، وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة، وقد يؤدي حب الدنيا إلى الكفر و الضلال /١٢ كبير..
﴿ ولقد جئناهم بكتاب ﴾ قرآن ﴿ فصّلناه ﴾ بينا مواعظه وأحكامه ﴿ على علم ﴾ منا بما فصلناه به حال من المفعول ﴿ هدى ورحمة ﴾ نصبهما بالحال من المفعول ﴿ لقوم يؤمنون ﴾.
﴿ هل ينظرون ﴾ ينتظرون ﴿ إلا تأويله ﴾ ما يئول إليه أمر الكتاب من صدق وعده ووعيده وكذبهما ﴿ يوم يأتي تأويله ﴾ وهو يوم القيامة ﴿ يقول الذين نسوه ﴾ تركوا الإيمان به والعمل له ﴿ من قبل ﴾ قبل إتيانه أي : في الدنيا ﴿ قد جاءت رُسل ربنا بالحق ﴾ ونحن كذبناهم ﴿ فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ﴾ اليوم ﴿ أو نُردّ ﴾ أي : هل نرد إلى الدنيا ؟ ﴿ فنعمل ﴾ جواب هل نرد ﴿ غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم ﴾ بصرف العمر في الكفر ﴿ وضل ﴾ غاب وبطل ﴿ عنهم ما كانوا يفترون ﴾أي : لم ينفعهم آلهتهم.
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ١ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ أي : في مقدار ستة أيام الدنيا أو أيام الآخرة كل يوم ألف سنة٢ ﴿ ثم استوى٣ على العرش ﴾ أجمع السلف على أن استواءه على العرش صفة له بلا كيف نؤمن به ونكل العلم إلى الله تعالى وليس المراد منه خلق العرش بعد السماوات والأرض كما فسر بعض العلماء ﴿ يُغشي الليل النهار ﴾ يغطيه به وفيه حذف، أي : ويغشى النهار الليل ولم يذكر للعلم به ﴿ يطلبه حثيثا ﴾ يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء، والجملة حال من النهار وحثيثا صفة مصدر، أي : طلبا سريعا ﴿ والشمس ﴾ عطف على السماوات ﴿ والقمر والنجوم مسخّرات ﴾ نصب على الحال ﴿ بأمره ﴾ بقضائه وتصريفه ﴿ ألا له الخلق ﴾ لا خالق إلا هو ﴿ والأمر ﴾ لا يجري٤ في ملكه إلا ما يشاء ﴿ تبارك الله ﴾ تعالى وتعظم ﴿ رب العالمين ﴾.
١ ولما كان مدار القرآن على أصول أربعة التوحيد والنبوة والمعاد والقدرة وبين كلا من الأربعة وأطال الكلام فيها رجع إلى بيان كل منها مفصلا ومجملا لأجل جدال الخصم وعناده فقال: (إن ربكم) الآية/١٢ وجيز..
٢ وقدرته الشاملة وسعت أن يخلقها في لمحة لكن حكمته الباهرة اقتضت المدة وعلمها عند الله تعالى/١٢ وجيز..
٣ قال الكلبي ومقاتل: استقر، وقال أبو عبيدة: صعد. ذكر القولين البغوي في تفسيره، وفي صحيح البخاري في كتاب الرد على الجهمية قال أبو العالية (استوى على السماء): ارتفع، وقال مجاهد (استوى على العرش): علا على العرش انتهى. وأبو العالية هذا تابع بصري راو عن ابن عباس، وفي كتاب العلو للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: (الرحمن على العرش استوى) (طه: ٥)، أي: ارتفع، وقال محمد بن جرير الطبري في قوله (ثم استوى على العرش الرحمن) (الفرقان: ٥٩)، أي: علا وارتفع وقال الفراء (ثم استوى) أي: قعد قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل: كان قاعدا ثم استوى قائما رواه البيهقي في الصفات له، وروى الدارقطني عن إسحاق الكاذي قال: سمعت أنا أبا العباس ثعلبا يقول في (استوى على العرش) علا واستوى بوجهه أقبل، واستوى القمر امتلأ، واستوى زيد وعمرو تشابها، واستوى إلى السماء أقبل هذا الذي يعرف من كلام العرب، وقال داود بن علي كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: ما معنى قوله (على العرش استوى)؟ قال: هو على عرشه كما أخبر، فقال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى. فقال: اسكت لا يقال استولى على الشيء حتى يكون له مضادا فإذا أغلب أحدهما قيل: استولى. وقال محمد بن أحمد بن النصر: سمعت ابن الأعرابي صاحب اللغة يقول: أرادني ابن أبي داود أن أطلب له في بعض لغات العرب ومعانيها (الرحمن على العرش استوى) بمعنى استولى فقلت: والله ما يكون هذا، ولا أجبته، وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن الربيع بن أنس استوى أي: ارتفع، وقال البغوي في تفسيره: قال ابن عباس وأكثر مفسري القرآن: ارتفع إلى السماء، وقال الخليل بن أحمد في (ثم استوى إلى السماء) (البقرة: ٢٩، فصلت: ١١)، ارتفع رواه أبو عمرو بن عبد البر في شرح الموطأ له انتهى. وذكر الذهبي في موضع آخر من الكتاب المذكور بسنده عن محمد بن جرير الطبري: وحسب أمرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى فمن تجاوز عن ذلك فقد خاب وخسر ومحمد بن جرير هو أحد الأئمة الكبار في وقته في التفسير والحديث والفقه والتاريخ وصاحب المصنفات الكثيرة ذكره أبو إسحاق وذكر ترجمته إلى أن قال: وقال أبو حامد الأسفراني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا أو كلاما هذا معناه، وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: ما على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، قلت: فمن أراد الإنصاف فليطالع تفسيره في آيات الصفات والعلو في مواردها، فمن ذلك قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء) نقل فيه عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع وقال في تفسير قوله (ثم استوى على العرش) في كل مواضعه أي: علا وارتفع وانتهى/١٢. .
٤ قال سفيان بن عيينة: فرق الله بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر نقل عنه البغوي في التفسير، وفي البخاري قال ابن عيينة: بين الله الخلق من الأمر بقوله (ألا له الخلق والأمر) انتهى. قال الحافظ ابن الحجر في فتح الباري: سئل سفيان بن عيينة عن القرآن أمخلوق هو؟ فقال: يقول الله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) ألا ترى كيف فرق بين الخلق والأمر، فالأمر كلامه، فلو كان كلامه مخلوقا لم يفرق، ووضع البخاري بابا في صحيحه فقال: باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب وأمره فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون غير المخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون/انتهى ١٢..
﴿ ادعوا ربكم تضرّعا وخُفية ﴾ أي : ذوي تذلل واستكانة وخفية، فالأصح أنه يكره الصياح والنداء في الدعاء ﴿ إنه لا يحب المعتدين ﴾ المتجاوزين في شيء أمروا به ومنه الإطناب في الدعاء بمثل مسألة الجنة ونعيمها وإستبرقها وقصورها وأمثال ذلك.
﴿ ولا تُفسدوا في الأرض ﴾ بالشرك والمعاصي ﴿ بعد إصلاحها ﴾ ببعث الأنبياء، وقيل : لا تفسدوا بالمعاصي فإن من شؤمها يمسك المطر فتخرب الأرض بعدما كانت مخضرة ﴿ وادعوا خوفا وطمعا ﴾ من عقابه وثوابه حالان من الفاعل ﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ المطيعين في أمره ونهيه لم يقل قريبة، لأن الرحمة بمعنى الثواب ولاكتساب المرجع التذكير من المضاف إليه كما صرح الزمخشري في ( ما إن مفاتحه لينوء ) ( القصص : ٧٦ )، بالياء التحتانية.
﴿ وهو الذي يرسل الرياح بُشرا ﴾ جمع بشير يبشر بالمطر، أي : باشرات، أو للبشارة، ومن قرأ نشرا بالنون وضمها وشين مضمومة أو ساكنة أو فتح النون وسكون الشين فمن النشر أي : ناشرات للسحاب الثقال ﴿ بين يدي رحمته ﴾ قدام المطر قيل : الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه ﴿ حتى إذا أقلّت ﴾ حملت الرياح ﴿ سحابا ﴾ أي : سحائب ﴿ ثقالا ﴾ بما فيها من الماء ﴿ سُقناه ﴾ أي : السحاب ﴿ لبلد ميّت ﴾ لأجل أرض لا نبات فيها ﴿ فأنزلنا به ﴾ بالبلد أو بسبب السحاب ﴿ الماء فأخرجنا به ﴾ بسبب الماء أو بالبلد فالباء للظرفية ﴿ من كل ﴾ أنواع ﴿ الثمرات كذلك ﴾ مثل إخراج الثمرات وإحياء البلد ﴿ نُخرج الموتى ﴾ من قبورهم بعد إحيائهم ﴿ لعلكم تذكرون ﴾ أن من قدر على ذلك قدر على هذا.
﴿ والبلد الطيب ﴾ أي : أرض كريمة التربة ﴿ يخرج نباته بإذنه ﴾ بمشيئته وتيسيره سريعا حسنا ﴿ والذي خَبُث ﴾ ترابه ﴿ لا يخرج ﴾ أي : نباته حذف المضاف وأقيم المضاف إليه، أي : الضمير المجرور مقامه فصار مرفوعا مستترا ﴿ إلا نكدا ﴾ بطيئا عديم النفع ونصبه على الحال ﴿ كذلك نصرّف الآيات ﴾ نبينها مكررا ﴿ لقوم١ يشكرون ﴾ فيتفكرون في الآية وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر.
١ ولما قص في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني وقص من أخباره ما قص واستطرد من ذلك إلى المعاد، ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار أتبع ذلك بأحوال الرسل، فبدأ بقصة نوح إذ هو الآدم الثاني وأمته أدوم تكذيبا وأقل استجابة، وغرقهم وهلاكهم بالمطر الذي هو الرحمة فقال: (لقد أرسلنا نوحا) الآية/١٢ وجيز..
﴿ لقد أرسلنا ﴾ جواب قسم محذوف ﴿ نوحا إلى قومه ﴾ لما ذكر قصة آدم في أول السورة شرع في قصص الأنبياء ﴿ فقال يا قوم اعبدوا الله ﴾ أي : وحده ﴿ ما لكم من إله غيره ﴾ صفة إله اعتبار محله ﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾ القيامة.
﴿ قال الملأ ﴾ : أي : الأشراف والسادة ﴿ من قومه إنّا لنراك في ضلال مبين ﴾ بين لأنك تركت دين آبائك.
﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ﴾ أي : أقل ما يطلق عليه اسم الضلال ﴿ ولكني رسول من رب العالمين ﴾ ثابت على الصراط المستقيم١.
١ فيه إشارة إلى جواب ما يقال: لا بد أن يكون لفظ لكن متوسطا بين كلامين متغايرين نفيا وإثباتا فكأنه قال: ليس بي ضلالة لكن ثابت على الطريق السوي، لأني رسول من رب العالمين/١٢ منه..
﴿ أُبلّغكم ﴾ صفة لرسول١ أو استئناف ﴿ رسالات ربي وأنصح لكم ﴾ يقال نصحته ونصحت له ﴿ وأعلم من الله ﴾ من جهته بالوحي ﴿ ما لا تعلمون ﴾ من صفات لطفه وقهره.
١ من قبيل أنا الذي سمتني أمي حيدرة فإن الظاهر يبلغكم/١٢ منه..
﴿ أو عجبتم ﴾ الهمزة للإنكار، أي : أكذبتم وعجبتم١ من ﴿ أن جاءكم ذكر ﴾ موعظة ﴿ من ربكم على ﴾ لسان ﴿ رجل منكم ﴾ من جنسكم ﴿ ليُنذركم ﴾ عاقبة المعاصي ﴿ ولتتقوا ﴾ من المعصية بسبب الإنذار ﴿ ولعلكم تُرحمون ﴾ بالتقوى.
١ فيه بيان أن الواو للعطف على محذوف وهو كذبتم/١٢ منه رح..
﴿ فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك ﴾ ظرف معه أي : صاحبوه في الفلك، أو حال من ضمير معه، أو من الموصول، والأصح أنهم ثمانون١ ﴿ وأغرقنا ﴾ بالطوفان ﴿ الذين كذّبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين ﴾ عمى القلوب عن معرفة الله تعالى.
١ روى ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس/١٢ منه..
﴿ وإلى عاد ﴾ : أي : إلى قومه عطف على ( نوحا ) ﴿ أخاهم ﴾ في النسب، أو واحد منهم كقولك : يا أخا العرب ﴿ هودا ﴾ عطف بيان لأخاهم ﴿ قال يا قوم اعبُدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ﴾ عذاب الله.
﴿ قال الملأ ﴾ الأشراف ﴿ الذين كفروا من قومه ﴾ ومن أشرافهم من آمن به١ ﴿ إنا لنراك في سفاهة ﴾ في خفة عقل ﴿ وإنا لنظنّك من الكاذبين ﴾.
١ صرح به مجاهد وغيره/١٢ فظهر فائدة قوله الذين كفروا حيث لم يقل قال الملأ من قومه كما قال في قصة نوح/١٢ منه..
﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني ﴾ كامل١ العقل لأني ﴿ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
١ إشارة إلى جواب سؤال قد كتبنا على حاشية (ولكني رسول من رب العالمين) في قصة نوح/١٢ منه. رح..
﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ١ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ على الرسالة لا أكذب فيها.
١ وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في مواضع الضرورة إلى مدحها وفي إجابة الأنبياء من ينسبهم إلى السفاهة والضلال بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أصل الناس وأسفههم أدب حسن وخلق عظيم وتعليم من الله لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيال حلمهم على ما يكون منهم/١٢ فتح..
﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ﴾ قد مر تفسيره قريبا فلا نعيده ﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ في مساكنهم أو في الأرض بأن أخذ منهم وأعطاكم ﴿ وزادكم في الخلق بسطة ﴾ قامة وقوة ﴿ فاذكروا آلاء الله ﴾ تعميم بعد تخصيص ﴿ لعلكم تُفلحون ﴾ بسبب ذكر النعم وشكره.
﴿ قالوا أجئتنا ﴾ مجاز من القصد والتعرض أي : أقصدتنا ﴿ لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ﴾ من الأصنام ﴿ فأتِنا بما تعدنا ﴾ من العذاب ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في الوعد١.
١ والوعيد مختص بالشر والوعد يطلق على الخير والشر/١٢ منه..
﴿ قال قد وقع ﴾ وجب وحق أو جعل متحقق الوقوع كالواقع ﴿ عليكم من ربكم رجس ﴾ عذاب ﴿ وغضب أتُجادلونني في أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ﴾ أي : في أشياء ما هي إلا أسماء أحدثتموها فما هي إلا موضوعاتكم ومخترعاتكم وليس تحتها مسميات، فإن معنى الإلهية فيها بالكلية منتف فكيف تتخذونها إلها ﴿ ما نزّل الله بها من سلطان ﴾ ما جعل الله لكم في عبادتها حجة ولا دليلا ﴿ فانتظروا ﴾ أمر الله تعالى ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾ حتى تروا حالكم وحالنا.
﴿ فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذّبوا بآياتنا ﴾ أهلكناهم١ عن آخرهم واستأصلناهم ﴿ وما كانوا مؤمنين٢ والناجي في الدارين المؤمنون.
١ وفي هذا توبيخ شديد لقريش فإنهم أيضا كذبوا بآيات الله فحق عليهم رجس وغضب/١٢ وجيز.
٢ والفارق بين الناجي والهالك هو الإيمان هذا إخبار من الله تعالى أنهم ممن علم الله أنهم يموتون على الكفر قال صاحب فتح البيان -ونعم ما قال: وقد أطال القوم في بيان قصة قوم هود وهلاكهم وإجمال القرآن يغني عن تفصيل لا يسند/١٢..
﴿ وإلى ثمود ﴾ : أي : إلى قبيلته، ﴿ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ ﴾ معجزة ﴿ من ربكم ﴾ على صدقي ﴿ هذه ناقة الله لكم آية ﴾ استئناف يبين البينة وإضافة الناقة إلى الله ؛ لأنها جاءت من عنده بلا سبب معهود، فإنها خرجت من الصخرة يوم عيدهم بمحضرهم حين سألوا تلك المعجزة وعهدوا أن يؤمنوا به بعد ما تظهر، ونصب آية على الحال والعامل معنى الإشارة ﴿ فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء ﴾ من الضرب والطرد والأذى ﴿ فيأخذكم١ عذاب أليم ﴾ جواب للنهي.
١ وناصب الفعل أن المقدرة بعد الفاء/١٢ وجيز..
﴿ واذكروا إذ١ جعلكم خُلفاء من بعد عاد ﴾ في مساكنهم ﴿ وبوّأكم ﴾ سكنكم ﴿ في الأرض٢ تتخذون من سهولها قصورا ﴾ تبنون القصور من سهولة الأرض بما تصنعون منها اللبن والآجر ﴿ وتنحِتون الجبال بيوتا ﴾ كانوا يثقبون في الجبال ويسكنون في الشتاء فيها لتنعمهم، ونصب بيوتا على الحال المقدرة٣ ؛ لأن الجبل ما كان بيتا في حال النحت، أو تقديره من الجبال بيوتا ﴿ فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا ﴾ العثى : أشد الفساد ﴿ في الأرض مفسدين ﴾ أي : لا تبالغوا في الفساد في حال فسادكم.
١ أي: نعمه/١٢..
٢ فيه دلالة على فسحة ديارهم وسعة تصرفهم/١٢ وجيز..
٣ ضد المحققة..
﴿ قال الملأ ﴾ الأشراف ﴿ الذين استكبروا ﴾ عن الإيمان ﴿ من قومه للذين استُضعفوا ﴾ أي : الرعايا ﴿ لمن آمن منهم ﴾ بدل من للذين بدل البعض ؛ لأن ضمير منهم راجع إلى للذين فإن المستضعفين كثيرون والمؤمنون أربعة آلاف ﴿ أتعلمون أن صالحا مُرسل من ربه ﴾ قيل قالوه على الطنز١ والسخرية. ﴿ قالوا إنا بما أُرسل به المؤمنون ﴾ عدلوا به عن مثل نعم إشارة إلى أن إرساله معلوم مسلم إنما الملام في الإيمان به ونحن مؤمنون.
١ الطنز: الكلام باستهزاء. لسان العرب مادة (طنز) (٤/٢٧٠٩) ط دار المعارف..
﴿ قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ﴾ فما سلموا إرساله الذي ادعوا ظهوره.
﴿ فعقروا الناقة ﴾ نحروها وكلهم راضون بنحرها فأسند الفعل إلى جميعهم ﴿ وعتوا ﴾ استكبروا ﴿ عن ﴾ قبول ﴿ أمر ربهم وقالوا يا صالح١ ائتنا بنا تعدنا ﴾ من العذاب ﴿ إن كنت من المرسلين ﴾.
١ حين قال لهم صالح: (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم)/١٢..
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ الزلزلة فإنه كان عذابهم صيحة من السماء وزلزلة من الأرض١ تقطعت قلوبهم في صدورهم ﴿ فأصبحوا في دارهم ﴾ أرضهم ومسكنهم ﴿ جاثمين ﴾ خامدين ميتين.
١ هكذا ذكره الإمام أبو جعفر بن الجرير وغيره من علماء التفسير فلا منافاة بين هذا وبين ما وقع في موضع آخر (فأخذتهم الصيحة) (المؤمنون: ٤١)، لأن في عذابهم رجفة وصيحة فبين في كل موضع شيئا/١٢ منه..
﴿ فتولّى ﴾ أعرض ﴿ عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون الناصحين ﴾ خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب نبينا -عليه الصلاة والسلام- قليب بدر بقوله ( هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) قيل : ويجوز أن يتولى عنهم ويقول ذلك حين مقدمة نزول العذاب وهذا كما قال بعضهم في الآية تقديم١ وتأخير.
١ وترتيبه إن كنت من المرسلين فتولى عنهم إلى قوله: (لا تحبون الناصحين) ثم (فأخذتهم الرجفة)/١٢ منه..
﴿ ولوطا١ أي : أرسلنا، أو اذكر لوطا ﴿ إذ قال ﴾ ظرف على الأول وبدل من لوطا على الثاني ﴿ لقومه أتأتون الفاحشة ﴾ تلك٢ الفعلة القبيحة ﴿ ما سبقكم ﴾ استئناف مقررة للإنكار ﴿ بها ﴾ الباء للتعدية ﴿ من أحد ﴾ من زائدة للاستغراق ﴿ من العالمين ﴾ من للتبعيض أي : ما فعلها أحد قط قبلكم.
١ ولوطا هو ابن هاران بن تارخ فهو ابن أخي إبراهيم وليس من أنبياء بني إسرائيل وكانا ببابل بالعراق فهاجرا إلى الشام، فنزل إبراهيم أرض فلسطين ونزل لوط بالأردن وهي قرية بالشام، وبعثه الله إلى أمة يقال لها سذوم بالذال المعجمة وهي بلد بحمص/١٢ فتح. قال سيبويه: نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة فلذلك صرفت/١٢..
٢ طهر فمه عن أن يمسه باسم النجس/١٢ وجيز..
﴿ إنكم ﴾ الهمزة للإنكار ﴿ لتأتون الرجال ﴾ من أتى المرأة إذا غشيها ﴿ شهوة ﴾ للاشتهاء أنكر أن يكون الحامل على هذه القباحة مجرد الشهوة، أو حال أبي : مشتهين غير ملتفتين إلى سماجتها ﴿ من دون النساء ﴾ المخلوق لكم ﴿ بل أنتم قوم مسرفون ﴾ إضراب على الإنكار إلى الإخبار عن طريقتهم وعادتهم كأنه قال : بل أنتم قوم لكم الإسراف في الأمور كلها وهو الباعث لكم إلى تلك القبيحة.
﴿ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم ﴾ أي : قال بعضهم لبعض : أخرجوهم في مقابلة النصح والإرشاد ﴿ إنهم أُناس يتطهّرون ﴾ من دبر الرجال١ والنساء قيل قالوا سخرية.
١ هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة، وأما قول من يقول قولهم سخرية فمعناه أنهم أناس يتطهرون عن الفواحش/١٢ منه، كما يقول الشياطين من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد/١٢ كبير..
﴿ فأنجيناه وأهله ﴾ فإنه ما من أحد سوى أهل بيته ﴿ إلا امرأته ﴾ فإنها تستر الكفر ﴿ كانت من الغابرين١ الباقين في ديارهم فهلكت.
١ ولم يقل من الغابرات كأنها من الرجال في فعلها/١٢ وجيز..
﴿ وأمطرنا عليهم مطرا ﴾ نوعا من المطر وهو حجارة ﴿ فانظر ﴾ يا محمد ﴿ كيف كان عاقبة المجرمين ﴾.
﴿ وإلى مدين ﴾ قبيلة، أو المراد بلد مدين ﴿ أخاهم ﴾ في النسب ﴿ شُعيبا١ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة ﴾ معجزة ﴿ من ربكم ﴾ وليس في القرآن أنها ما هي ﴿ فأوفوا الكيل ﴾ أراد بالكيل الذي هو المصدر ما يكال به كالعيش على المعاش ﴿ والميزان٢ ولا تبخسوا الناس أشياءهم٣ لا تنقصوهم حقوقهم قيل كانوا مكاسين٤ ﴿ ولا تفسدوا في الأرض٥ بالكفر ﴿ بعد إصلاحها ﴾ ببعث النبي وأمره بالعدل ﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى العمل بما أمرهم ﴿ خير لكم ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿ إن كنتم مؤمنين٦ مصدقين بمقالي.
١ عن عكرمة والسدي قال ما بعث الله نبيا مرتين إلا شعيبا مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة وكان شعيب أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، وكان قومه أهل كفر وبخس في المكيال والميزان/١٢ فتح..
٢ وجاز أن يكون المراد المصدر كالميعاد فحينئذ المراد من الكيل المصدر فتطابقا/١٢ وجيز..
٣ أمرهم أولا بشيء خاص ثم نهاهم عن شيء عام فقال أشياءهم/١٢ وجيز..
٤ المكس: النقص. أي ينقصون في المكيال..
٥ وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين التعظيم لأمر الله ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة، والشفقة على خلق الله ويدخل فيه ترك النجس والإفساد وحاصلها يرجع إلى ترك الإيذاء كأنه تعالى يقول إيصال النفع إلى الكل متعذر وأما كف الشر عن الكل فممكن/١٢ كبير..
٦ وأما الكافر فلا خير له لا في الآخرة ولا في الدنيا/١٢ وجيز..
﴿ ولا تقعدوا بكل صراط توعِدون ﴾ فإنهم يقعدون طرق الناس يوعدون الآتين إلى شعيب للإيمان بالقتل١ وغيره، أو معناه النهي عن وعيد الناس لإعطاء أموالهم فإنهم مكاسين ويوعدون في موضع الحال ﴿ وتصدّون ﴾ عطف على توعدون ﴿ عن سبيل الله من آمن به ﴾ بشعيب أو بالله توعدون وتصدون تنازعا في من آمن والعمل للثاني ﴿ وتبغونها ﴾ وتطلبون لسبيل الله ﴿ عِوجا ﴾ بإلقاء الشبه ووصفها للناس بالاعوجاج ﴿ واذكروا إذ كنتم قليلا ﴾ في العدد والعُدد ﴿ فكثّرتم ﴾ بالأموال والبنين ﴿ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ قبلكم فاعتبروا منهم.
١ قاله السدي وكثير من المفسرين/١٢ وجيز..
﴿ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أُرسلتُ به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ﴾ بتعذيب المكذبين ﴿ وهو خير الحاكمين١ لا حيف في حكمه ولا معقب له.
١ هذا من أحسن المحاورة إذا أبرز المتحقق في صورة المشكوك ومتعلق لم يؤمنوا محذوف أي: به، والخطاب في منكم لقومه، فاصبروا خطاب للطائفتين وبيننا أي: بين الجميع وفيه وعد للمؤمنين بالنصر ووعيد للكافرين بالخسار/١٢ وجيز..
﴿ قال الملأ ﴾ الأشراف ﴿ الذين استكبروا ﴾ عن الإيمان ﴿ من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملّتنا١ أي : ليكونن أحد الأمرين إما الإخراج أو العود، وشعيب -عليه السلام- قط لم يكن على ملتهم لكن غلّبوا قومه عليه فإنهم كانوا على ملتهم ﴿ قال ﴾ شعيب ﴿ أولو كنا كارهين ﴾ أي : أنعود في ملتكم وإن كنا كارهين لها ؟
١ ويمكن أن يكون العود بمعنى الصيرورة فلا يستدعي الرجوع إلى حاله سابقة فإن شعيبا لم يكن قط على ملتهم/١٢ وجيز..
﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ يدل على جواب الشرط قد افترينا، أي : قد افترينا الآن إن هممنا١ بالعود بعد الخلاص منها فإن المرتد مفترى في إثبات الند، وفي ظهور الحقية عنده للدين الباطل فهو أقبح من الكافر ﴿ وما يكون ﴾ لا يمكن ﴿ لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله٢ ربنا ﴾ ارتدادنا فإنه مصرف القلوب كيف يشاء، ولو أراد الله بأحد سوء فلا مرد له ﴿ وسِع ربنا كل شيء علما ﴾ أحاط علمه بما كان وما يكون، وعِلماً تمييز، ﴿ على الله توكلنا ﴾ في تثبيتنا على الإيمان وتخليصنا منكم، ﴿ ربنا افتح ﴾ اقض واحكم ﴿ بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ فأنزل على كل منا ما يستحقه٣ لا أن تهلكهم بدعائي وهم غير مستحقين للعذاب ﴿ وأنت خير الفاتحين ﴾.
١ جواب عما يقال ظاهره إخبار مقيد بالشرط وما تقدم بمنزلة الجزاء وظاهر أن الافتراء الماضي لا يتعلق بالعود وحاصل الجواب أن قد افترينا بمعنى المستقبل؛ لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال كأنه قيل: قد افترينا الآن إن هممنا العود قاله أبو البقاء رحمه الله/١٢ منه..
٢ يعني لا يمكن الارتداد ونحن على هذا الطبع المستقيم نعم لو أراد ارتدادنا فهو قادر على تغيير طبعنا وتبدله كمرآة أكله الصداء فإنها لا تقبل الجلاء نعم للحداد أن يذيبها ويجعلها مرآة تقبل الجلاء/١٢ وجيز..
٣ هذا المعنى يستفاد عن قوله: (بالحق) وإلا فجميع حكم الله بالحق ولا يصدر عن الله شيء إلا وهو حق/١٢ منه..
﴿ وقال الملأ الذين كفروا من قومه ﴾ والله ﴿ لئن اتّبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾ لاستبدالكم دينه الباطل بدين آبائكم الحق، وجملة إنكم إذا لخاسرون ساد مسد جواب القسم والشرط.
﴿ فأخذتهم الرجفة ﴾ الزلزلة ﴿ فأصبحوا في دارهم ﴾ مدينتهم ﴿ جاثمين ﴾ ميتين قد اجتمع عليهم أنواع من العذاب بسحابة فيها شرر من النار ولهيب وهو قوله تعالى ( عذاب يوم الظلة ) ( الشعراء : ١٨٩ ) في سورة الشعراء ثم جاءتهم صيحة من السماء وهو قوله تعالى ( فأخذتهم الصيحة ) ( الحجر : ٨٣ ) في سورة الحجر ورجفة من الأرض فزهقت أرواحهم وخمدت أجسادهم.
﴿ الذين كذّبوا شعيبا ﴾ مبتدأ ﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ خبره أي : كأن لم يقيموا فيها قط ﴿ الذين كذّبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾ لا الذين صدقوه كما زعموا.
﴿ فتولّى عنهم ﴾ الظاهر أنه بعد عذابهم وموتهم ﴿ وقال ﴾ تأسفا بهم ﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ﴾ وقد كفرتم ﴿ فكيف آسى ﴾ أحزن ﴿ على قوم كافرين ﴾ مستحقين للعذاب.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ﴾ فكذبه أهلها ﴿ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ ﴾ الفقر ﴿ والضراء ﴾ المرض ﴿ لعلهم يضّرّعون ﴾ كي يتضرعوا ويتركوا الاستكبار عن الإيمان.
﴿ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ﴾ أعطينا السلامة والسعة مكان البلاء والشدة ابتلاء واستدراجا ﴿ حتى١ عفوا ﴾ كثروا عددا ومالا ﴿ وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ﴾ فأصابنا مثل ما أصابهم وهذا عادة الدهر ولم ينتبهوا وغفلوا ﴿ فأخذناهم بغتة ﴾ فجأة مصدر أي : هذا النوع من الأخذ ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ بنزول العذاب.
١ عفا النبات والشجر والوبر إذا كثرت/١٢ وجيز..
﴿ ولو أن أهل القرى ﴾ أي : تلك القرى التي أرسلنا فيها رسلا ﴿ آمنوا واتقوا ﴾ المعاصي ﴿ لفتحنا عليهم بركات ﴾ يسرنا الخير لهم ﴿ من السماء والأرض ﴾ من كل جانب أو قطر السماء أو نبات الأرض ﴿ ولكن كذّبوا ﴾ رسلنا ﴿ فأخذناهم بما كانوا يكسبون١ بسبب كفرهم وعصيانهم.
١ لما حكى عن بعض الأمم السالفة أخذ يحذر قريشا ويخوفهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم فقال: (أفأمن) الهمزة للتوبيخ دخلت على أمن والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها. قال صاحب البحر: ما قاله الزمخشري في هذه الآية من أن الفاء بعد الهمزة عاطف على ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجملة رجوع إلى مذهب النحاة ويخرج لهذه الآية على خلاف ما قدر من مذهبه في غير آية من أن يقدر محذوفا بين الهمزة وحرف العطف كما يصرح بذلك/١٢ وجيز..
﴿ أفأمن ﴾ الهمزة للإنكار وهو عطف على فأخذناهم بغتة، أو فأخذناهم بما كانوا، وحاصله فعلوا كيت وكيت فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن ﴿ أهل القرى أن يأتيهم بأسُنا ﴾ عذابنا ﴿ بياتا ﴾ أي : وقت بيات، أي : بيتوتة فنصبه على الظرف بحذف المضاف ﴿ وهم نائمون ﴾ جملة حالية.
﴿ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضُحًى ﴾ ضحوة النهار ظرف ﴿ وهم يلعبون١ من فرط غفلتهم.
١ وهذا وقت لعبهم واشتغالهم بدنياهم قيد كل ظرف بما يناسبه من الحال، وجاء نائمون باسم الفاعل؛ لأنها حالة ثبوت واستقرار وجاء يلعبون بالمضارع؛ لأنهم يشتغلون بأفعال متجددة شيئا فشيئا، وكلا الحالين حال ترفه وطمأنينة ففجأة المصائب فيها أشد/١٢ وجيز..
﴿ أفأمنوا مكر الله ﴾ استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر١ واستدراجه ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ فطرتهم.
١ وفي الحديث: (اللهم أمني مكر الشيطان ولا تأمني مكرك يا الله)/١٢ وجيز..
﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا ﴾ أي : يرثون ديار من قبلهم ﴿ أن ﴾ أي : أن الشأن ﴿ لو نشاء أصبناهم ﴾ بالبلاء ﴿ بذنوبهم ﴾ بسببها كما عذبنا من قبلهم وجملة أن لو نشاء فاعل يهد ومن قرأ بالنون فهو مفعول وفي الهداية حينئذ تضمين التبيين ولهذا عدى باللام ﴿ ونطبع ﴾ نختم ﴿ على قلوبهم ﴾ هو استئناف ولهذا غير الأسلوب أي : نحن نطبع، أو عطف على مدلول أو لم يهد يعني يغفلون ونطبع وليس بعطف على أصبناهم، لاستلزام انتفاء كونهم مطبوعين مع بطلانه لقوله :( فهم لا يسمعون ) وقوله :( كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ) وقوله :( فما كانوا ليؤمنوا ) ؛ لدلالته على أن حالهم منافية للإيمان ﴿ فهم لا يسمعون ﴾ الموعظة أبدا سماع قبول.
﴿ تلك القرى ﴾ إشارة إلى قرى الأمم التي مر ذكرها ﴿ نقصّ عليك ﴾ حال، أو خبر إن جعلت القرى صفة تلك ﴿ من أنبائها ﴾ أي : بعض أخبارها ﴿ ولقد جاءتهم رُسلهم بالبينات ﴾ المعجزات ﴿ فما كانوا ليُؤمنوا ﴾ أي : ما صلحوا للإيمان بعد رؤية المعجزات ﴿ بما كذّبوا من قبل ﴾ أي : قبل رؤيتهم تلك المعجزات يعني بعدما طبعناهم لا يمكن لهم الإيمان بما جاءهم الرسول أو الباء للسببية أي : كفرهم السابق سبب كفرهم اللاحق وعن بعض السلف المراد من قبل يوم أخذ الميثاق فإنهم حينئذ أقروا باللسان وأضمروا التكذيب ﴿ كذلك ﴾ مثل ذلك الطبع الشديد ﴿ يطبع الله على قلوب الكافرين ﴾ الوارثين والموروثون.
﴿ وما وجدنا لأكثرهم ﴾ أي : الأمم الماضية ﴿ من عهد ﴾ وفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق، أو عهدهم مع أنبيائهم ﴿ وإن وجدنا ﴾ أي : إن الشأن علمنا ﴿ أكثرهم لفاسقين ﴾ خارجين عن طاعتنا وعند الكوفيين أن نافية واللام بمعنى إلا.
﴿ ثم بعثنا١ من بعدهم ﴾ أي : الرسل الذين مر ذكرهم ﴿ موسى بآياتنا ﴾ المعجزات ﴿ إلى فرعون وملئه فظلموا بها ﴾ أي : بالآيات بأن وضعوا الكفر بها مكان الإيمان ﴿ فانظر ﴾ يا محمد ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾.
١ ولما قص أخبارهم الأمم وما آل إليه أمرهم أتبع بقصص موسى عليه السلام وفرعون وبني إسرائيل فإن معجزاته أظهر وأمته أكثر الأمم عنادا وبين موسى وشعيب قرابة ونسب فقال: (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا) الآية/١٢ وجيز..
﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَيَ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ على بمعنى الباء أي : بألاّ أقول، كما تقول : رميت على القوس أو أصله حقيق على ألاّ أقول كما هو قراءة نافع فقلب لأمن الإلباس، أو أراد موسى أن يغرق في وصف نفسه بالصدق فيقول : أنا حقيق على قول الحق، أي : واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله، ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به أو معناه أني حريص على ألاّ أقول.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٤:﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَيَ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ على بمعنى الباء أي : بألاّ أقول، كما تقول : رميت على القوس أو أصله حقيق على ألاّ أقول كما هو قراءة نافع فقلب لأمن الإلباس، أو أراد موسى أن يغرق في وصف نفسه بالصدق فيقول : أنا حقيق على قول الحق، أي : واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله، ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به أو معناه أني حريص على ألاّ أقول.

﴿ قد جئتُكم ببيّنة ﴾ وهي العصا ﴿ من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ خلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة فإن فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة.
﴿ قال إن كنت جئت بآية ﴾ من عند من أرسلك ﴿ فأت بها ﴾ أحضرها عندي ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في دعواك.
﴿ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ﴾ حية عظيمة لا يشك في أنها حية.
﴿ ونزغ يده ﴾ أخرجها من جيبه بعدما أدخلها فيه ﴿ فإذا هي بيضاء للناظرين ﴾ لها شعاع غلب١ نور الشمس ثم أعادها إلى كمه فعادت إلى لونها الأول وللناظرين متعلق ببيضاء، أي : بيضاء للنضارة.
١ هكذا قاله مجاهد وغيره/١٢..
﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ في صنعته أي : قالوا ذلك موافقين لقول فرعون كما حكاه تعالى :( قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم ) ( الشعراء : ٣٤ )، فوافقوه وقالوا كمقالته أو قال الملأ بطريق التبليغ من لسان فرعون إلى القوم يعني قبط.
﴿ يريد أن يُخرجكم ﴾ يا معشر القبط ﴿ من أرضكم فماذا تأمرون١ تشيرون في أمره.
١ من المؤامرة في إعرابه وجهان أحدهما ماذا مفعول ثان محذوف حرف الجر والمفعول الأول محذوف أي: بأي شيء تأمرونني، والثاني أن ما مبتدأ وذا بمعنى الذي خبر عنه ومفعول تأمرون محذوف أي: أي شيء الذي تأمروننيه، أي: تأمرونني به/١٢ وجيز..
﴿ قالوا ﴾ بعدما اتفقوا رأيهم ﴿ أرجِه وأخاه ﴾ الإرجاء التأخير أي : أخر أمره وأمر أخيه أو احبسه وأصله أرجئه ﴿ وأرسِل في المدائن حاشرين ﴾ أي رجالا يحشرون إليك من في مدائن صعيد مصر من نواحي مصر من السحرة.
﴿ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ١ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴾ على موسى.
١ يعني بعدما بعث فأتوه/١٢ وجيز..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٢:﴿ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ١ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴾ على موسى.
١ يعني بعدما بعث فأتوه/١٢ وجيز..

﴿ قال ﴾ فرعون ﴿ نعم ﴾ إن لكم أجرا ﴿ وإنكم لمن المقرّبين١ فهو معطوف على محذوف سد مسد نعم.
١ يعني لا أقتصر لكم في الأجر بل أزيدكم في الرفعة والمنزلة/١٢ وجيز..
﴿ قالوا يا موسى إما أن تُلقي ﴾ عصاك ﴿ وإما أن نكون نحن المُلقين ﴾ ما معنا من الحبال ورغبتهم في أن يلقوا قبله، ولهذا غيروا نظم الكلام إلى آكد وجه١.
١ من تأكيد ضمير المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر/١٢..
﴿ قال ﴾ موسى كرما ووثوقا على الله ﴿ ألقوا١ فلما ألقوا سحروا أعين الناس ﴾ خيلوا إليها ما لا حقيقة له٢ ﴿ واسترهبوهم ﴾ خوفوهم٣ ﴿ وجاءوا بسحر عظيم ﴾ قيل خمسة عشر ألف ساحر وقيل أكثر٤، ومع كل عصى وحبال غلاظ طوال، والقوا فإذا حيات قد امتلأت الوادي تركب بعضها بعضا.
١ وليس أمرهم بالإلقاء قبله من قبيل إباحة السحر بل لإبطاله/١٢..
٢ فيه دلالة على أن سحرهم من باب التخييل لا يقلب عينا/١٢ وجيز..
٣ وأرهبوهم، فاستفعل بمعنى أفعل/١٢..
٤ قال السدي: كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ونقل ابن جرير: أنهم سبعون ألف ساحر/١٢ منه..
﴿ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ﴾ فألقاها ﴿ فإذا هي تلقف ﴾ تبتلع ﴿ ما يأفكون ﴾ ما يزورونه من الإفك، فلما أكلت حبالهم وعصيهم بأسرها، قالت السحرة : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا.
﴿ فوقع الحق ﴾ ثبت وظهر ﴿ وبطل ما كانوا يعملون ﴾ من السحر.
﴿ فغُلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ﴾ صاروا أذلاء، وأرجعوا إلى مدينتهم أذلاء مغلوبين، والضمير لفرعون وقومه.
﴿ وأُلقي السحرة ساجدين١ ألقاهم الله تعالى، أو ألهمهم أن يسجدوا، أو من سرعة سجودهم كأنهم ألقوا٢.
١ وقد سجدوا شكرا على المعرفة وظهور الحق وقد نفعهم علمهم وإن كان حراما، وقالوا رب موسى بالبدل من رب العالمين لتدفع توهم غير الله تعالى لقول فرعون (أنا ربكم الأعلى) (النازعات: ٢٤)/١٢ وجيز..
٢ يعني أنه تمثيل شبه حالهم في سرعة الخرور بحال من ألقى/١٢ وجيز.
﴿ قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ﴾ لا رب القبط فإنه فرعون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢١:﴿ قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ﴾ لا رب القبط فإنه فرعون.
﴿ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن١ لكم ﴾ في الإيمان ﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ﴾ أي : حيلة صنعتموها أنتم وموسى في مصر قبل الخروج إلى هنا ﴿ لتُخرجوا منها أهلها ﴾ أي : القبط فتبقى المصر لكم ﴿ فسوف تعلمون ﴾ عاقبة صنيعكم.
١ من غير رخصتي في الإيمان، ولما خاف أن يصير إيمان السحرة حجة قومه ألقى في الحال نوعين من الشبهة: أحدهما أن هذا مما تواطئوا بينهم لا أن هذا غلبة حقيقية، وأن ذلك طلب منهم للملك فقال: (إن هذا لمكر مكرتموه) الآية/١٢ وجيز..
ثم فصل ما أجمل وقال :﴿ لأقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف١ من كل شق طرفا ﴿ ثم لأصلّبنّكم أجمعين٢.
١ لما ظهرت الحجة عاد إلى عادة ملوك السوء بالتهديد إذا غلبوا بحجة، قوله: (من خلاف)، أي من مختلفات من اليد اليمنى والرجل اليسرى وقد يجيء بسطه إن شاء الله تعالى في سورة طه/١٢ وجيز..
٢ وما أوعدهم لا يعلم من القرآن أنه عمل به أو لم يعمل /١٢ وجيز..
﴿ قالوا إنا إلى ربنا ﴾ بالموت ﴿ مُنقلبون ﴾ فلا نخاف من وعيدك، أو مصيرنا ومصيرك إلى الله فيحكم بيننا.
﴿ وما تنقم ﴾ تنكر ﴿ منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا١ ثم أعرضوا عنه وفزعوا إلى الله تعالى، وقالوا :﴿ ربنا أفرغ ﴾ أفض ﴿ علينا صبرا ﴾ حتى لا نرجع من الدين ﴿ وتوفّنا مسلمين ﴾ قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره : كانوا أول النهار سحرة وفي آخره شهداء.
١ وما هو إلا أصل المفاخر/١٢..
﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ﴾ لفرعون ﴿ أتذر موسى وقومه١ بني إسرائيل ﴿ ليفسدوا في الأرض ﴾ بدعوتهم إلى مخالفتك ﴿ ويذَرك وآلهتك ﴾ عطف على يفسدوا، أو جواب للاستفهام بالواو، كما يجاب بالفاء وقيل : لفرعون بقرة يعبدها ويأمر أن يعبدوا بقرة حسناء، وقيل علق على عنقه صليبا يعبده، وقيل : اتخذ لقومه أصناما وأمر بعبادتها، وقال لهم : هذه آلهتكم وأنا ربكم الأعلى ﴿ قال سنُقتّل أبناءهم ﴾ كما كنا نفعل من قبل حين حكمت الكهنة بوجود مولود على يده زوال ملكنا ﴿ ونستحيي نساءهم ﴾ نتركهن أحياء للخدمة ﴿ وإنّا فوقهم قاهرون ﴾ هم تحت أيدينا مقهورون.
١ قالوا: ذلك إغراء لفرعون بموسى وقومه وتحريضه بقتلهم للخوف على الملك والجاه/١٢ وجيز..
﴿ قال موسى لقومه ﴾ حين شكوا إليه ﴿ استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده١ فلربما يأخذ منهم ويعطيكم بسهولة كالميراث ﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ أي : عاقبة الأمر بالنصر والظفر للمتقين فثقوا بالله تعالى وقال بعضهم معناه الآخرة للمتقين خاصة.
١ وعدهم النصر بالصبر وذكرهم ما وعد الله تعالى به بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريث أرضهم وديارهم/١٢ وجيز..
﴿ قالوا ﴾ بنو إسرائيل ﴿ أوذينا ﴾ بقتل١ الأبناء ﴿ من قبل٢ أن تأتينا ﴾ بالرسالة ﴿ ومن بعد ما جئتنا ﴾ بإعادة القتل ﴿ قال ﴾ موسى ﴿ عسى ربك أن يُهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض ﴾ أرضهم وملكهم ﴿ فينظر ﴾ يرى ﴿ كيف تعملون ﴾ من شكر وكفران وطاعة وعصيان.
١ وإخدام النساء /١٢..
٢ مخافة ما كان يتوقع من هلاك ملكه على يد مولود منا/١٢ وجيز..
﴿ ولقد١ أخذنا آل فرعون بالسنين ﴾ بالجدوب لقلة الأمطار ﴿ ونقص٢ من الثمرات لعلهم يذّكّرون ﴾ لكي ينتبهوا ويتعظوا.
١ ولما وعد موسى قومه بهلاك عدوهم من جانب وحي الله تعالى شرع سبحانه بيان مقدمات افتتانهم فقال: (ولقد أخذنا)/١٢ وجيز..
٢ أي: لم يبارك في طعامهم وفواكههم/١٢ وجيز..
﴿ فإذا جاءتهم الحسنة ﴾ السعة والمال ﴿ قالوا لنا هذه ﴾ لأجلنا ونحن١ مستحقوها ولم يشكروا منعمها ﴿ وإن تُصبهم سيئة ﴾ بلاء وجدب ﴿ يطّيروا بموسى ومن معه ﴾ يتشاءموا بهم وقالوا ما هذا إلا بشؤمهم ﴿ ألا إنما طائرهم عند الله ﴾ : أي : شؤمهم٢ من قبل الله ومن عنده، أو سبب شؤمهم وهو أعمالهم القبيحة عنده مكتوب ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ ما أصابهم٣ من الله تعالى.
١ ووجدوا خلاف ذلك ظلما/١٢..
٢ أي: شؤمهم من عند الله وقبله هم يتفاءلون بالطير بطيرانه من جانب إلى جانب وصوته فهذا اللفظ مستعار/١٢ وجيز..
٣ والحاصل إنما أصبناهم يتضرعوا ويندرجوا تحت أمرنا ونهينا فلم يتضرعوا ولم يسلموا بل تنفروا عن رسولنا إليهم وشتموه وتطيروا به/١٢ وجيز..
﴿ وقالوا ﴾ لموسى ﴿ مهما تأتنا به ﴾ أي : أيما شيء تأتنا به فمحل مهما الرفع وجاز النصب بفعل يفسره تأتنا أي : أيما١ شيء تحضرنا تأتنا به ﴿ من آية ﴾ بيان لمهما وسموها آية على زعم موسى ﴿ لتسحرنا بها ﴾ الضمير لما في مهما باعتبار المعنى فإن٢ من آية فضلة جيء للتبيين ﴿ فما نحن لك بمؤمنين ﴾ فدعا عليهم موسى عليه السلام.
١ يريد أنه من باب شريطة التفسير والمضمر تحضرنا الذي هو في معنى تأتنا فيكون من قبيل زيدا مررت به/١٢..
٢ قوله فإن من آية إلخ جواب لسؤال وهو أن الظاهر أن يكون الضمير لآية لا لما فما الموجب إلى العدول/١٢ منه..
﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان ﴾ أرسل الله تعالى مطرا١ سبعة أيام امتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل مع أن بيوتهم مشتبكة٢ أو المراد من الطوفان الوباء أو الجدري٣ ثم فزعوا إلى موسى وعهدوا بالإيمان إن كشف عنهم العذاب، فلما كشف نقضوا عهودهم ﴿ والجراد ﴾ فأرسل الله إليهم الجراد فأكل زروعهم وثيابهم حتى٤ مسامير أبوابهم ثم عهدوا وكشف فنقضوا ﴿ والقُمّل ﴾ فأرسل الله إليهم السوس٥ أو أولاد الجراد قبل أجنحتها أو الحمنان٦ صغار القردان أو دواب سود صغار أو القمل بفتح القاف حتى أكلت أبدانهم ومصت٧ دماءهم فعهدوا فلما كشف نقضوا ﴿ والضفادع ﴾ فأرسل الله تعالى إليهم الضفادع حتى لا يستطيعوا الطبخ والأكل فإنه يمتلئ قدورهم وظروفهم وأفواههم فعهدوا ونقضوا ﴿ والدم ﴾ صارت مياههم دما وسالت النيل عليهم بالدم أو المراد بالدم الرعاف فعطشوا فعهدوا ونقضوا ﴿ آيات مفصّلات ﴾ مبينات لا يشتبه على أحد أنها نقمة من الله ونصبها على الحال ﴿ فاستكبروا ﴾ عن الإيمان ﴿ وكانوا قوما مجرمين ﴾
١ مع ظلمة شديدة/١٢..
٢ يعني مع بيوت القبط وزرعهم ينمو وزرع القبط يموت من الماء/١٢ وجيز..
٣ الأول رواية عن ابن عباس وهو قول الضحاك والثاني لعطاء ومجاهد ورواية عن ابن عباس أيضا وروى ابن جرير وابن مردويه عن عائشة مرفوعا والثالث لأبي قلابة/١٢ منه..
٤ كما قال مجاهد/١٢ منه..
٥ الذي يخرج من الحنطة كذا قال ابن عباس/١٢ منه..
٦ قاله أبو عبيدة/١٢..
٧ كذا قاله مجاهد وعكرمة وقتادة/١٢..
﴿ ولما وقع عليهم الرّجز ﴾ الآيات المفصلات أو الطاعون فهو عذاب سادس. ﴿ قالوا يا موسى ادعُ لنا ربك بما عهِد عندك ﴾ أي : بحق عهده عندك وهو النبوة أو بما أنت تعلمه من أسمائه التي تدعو بها فيستجيب الدعاء ﴿ لئن كشفت عنا الرّجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل ﴾.
﴿ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه ﴾ حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون أو مهلكون فيه وهو الغرق ﴿ إذا هم ينكُثون ﴾ عهدهم أي : فلما كشفنا العذاب فجاءوا النقض بلا مهل وتأمل.
﴿ فانتقمنا ﴾ أردنا الانتقام١ ﴿ منهم فأغرقناهم في اليمّ ﴾ البحر العميق ﴿ بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ﴾ لا يتفكرون في آياتنا.
١ فسرنا بذلك، لأن الإغراق هو الانتقام وجاز أن يكون فأغرقنا لمجرد التفسير فحينئذ فانتقمنا على ظاهر معناه ولا حاجة إلى تأويل/١٢ منه..
﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون ﴾ بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم ﴿ مشارق الأرض ﴾ أرض الشام ﴿ ومغاربها١ التي باركنا فيها ﴾ بالسعة والرخاء ﴿ وتمّت كلمة ربك ﴾ هي وعده إياهم بالنصر والظفر ﴿ الحسنى ﴾ صفة الكلمة ﴿ على بني إسرائيل بما صبروا ﴾ بسبب صبرهم على الشدائد ﴿ ودمّرنا ﴾ استأصلنا ﴿ ما كان يصنع فرعون وقومه ﴾ من العمارات ﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ يرفعون من البيوت والقصور أو من البساتين.
١ هو مفعول ثان لأورثنا والمفعول الأول هو القوم بحذف مضاف أي: ذرية القوم فإنهم لم يعودوا إلى أرض مصر بأعيانهم بل أقاموا بالأرض المقدسة وذريتهم كسليمان عليه السلام دخل مصر التي باركنا/١٢ وجيز..
﴿ وجاوزنا١ ببني إسرائيل البحر ﴾ عبرنا بهم ﴿ فأتوا على قوم ﴾ مروا عليهم ﴿ يعكُفون ﴾ يقيمون ﴿ على ﴾ عبادة ﴿ أصنام لهم قالوا يا موسى٢ اجعل لنا إلها ﴾ مثالا نعبده ﴿ كما لهم٣ آلهة ﴾ ما كافة ﴿ قال إنكم قوم تجهلون ﴾ لأن العاقل لا يطلب معبودا مخلوقا لا يضر ولا ينفع.
١ ولما ذكر إنعامه على بني إسرائيل وانتقامه على القبط أخذ يبين كفران بني إسرائيل نعمهم وصنيعهم في مقابلة ما أنعم عليهم فقال: (وجاوزنا)/١٢ وجيز..
٢ قوله تعالى (اجعل لنا إلها) قال الإمام الرازي في مفاتيح الغيب المعروف بالكبير: واعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وخالقا ومدبرا لأن الذي يجعل موسى وتقديره لا يمكن أن يكون خالقا للعالم ومدبرا له ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر: ٣) إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول: لم كان هذا القول كفرا فنقول أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله كفر سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم أو اعتقد فيه أن عبادته تقربه إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا يليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام/١٢ كبير..
٣ يعني كما لهم أصنام يعبدونها ويعظمونها فاجعل لنا إلها نعبده ونعظمه قال البغوي: ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم، فرد عليهم موسى عليه السلام بقوله (إنكم قوم تجهلون) يعني تجهلون عظمة الله وأنه لا يستحق أن يعبد سواه، لأنه هو الذي أنجاكم من فرعون وقومه فأغرقهم في البحر وأنجاكم منه. عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم) أخرجه الترمذي وصححه النسائي وأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه/١٢ لباب التأويل المعروف بخازن. [وصححه الشيخ الألباني في (صحيح الترمذي) (١٧٧١) وفي (ظلال الجنة)]..
﴿ إن هؤلاء ﴾ إشارة إلى القوم ﴿ متبّرٌ ﴾ مكسر مدمر ﴿ ما هم فيه ﴾ أي : دينهم فاعل متبرأ أو مبتدأ ومتبر خبره ﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ ألبتة لا محالة.
﴿ قال أغير الله أبغيكم ﴾ أطلب لكم ﴿ إلها وهو فضّلكم على العالمين ﴾ بأن أعطاكم نعما وخصكم بها.
﴿ وإذ أنجيناكم من آل فرعون ﴾ أي : واذكروا هذا اللطف العظيم ﴿ يسُومونكم ﴾ استئناف أو حال أي : يبغونكم ﴿ سوء العذاب ﴾ شدته ﴿ يُقتّلون ﴾ بدل من يسومون مبين له ﴿ أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم ﴾ أي : العذاب ﴿ بلاء من ربكم عظيم ﴾ قيل الإشارة إلى الإنجاء بمعنى المنحة١ لا المحنة.
١ يعني أنه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غيره حتى تقولوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة/١٢ لباب..
﴿ وواعدنا موسى١ ثلاثين ليلة ﴾ ذا القعدة للمناجاة وإرسال كتاب من عنده ﴿ وأتممناها بعشر ﴾ من ذي الحجة نقل أنه بعد صوم الشهر استاك فزال خلوفه فلذلك أمر بصوم عشر ليكون لفمه خلوف٢ ﴿ فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة٣ وقال موسى لأخيه هارون اخلُفني ﴾ كن خليفتي ﴿ في قومي وأصلح ﴾ ارفق بهم واحملهم على طاعة الله تعالى ﴿ ولا تتّبع سبيل المفسدين ﴾ لا تطع من دعاك إلى الفساد٤.
١ وعد موسى قومه وهو بمصر إن أهلك الله عدوكم أتاهم بكتاب من الله فيه بيان ويأتون ويذرون فلما هلك فرعون سأل ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة/١٢ وجيز..
٢ وفي الحديث: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)/١٢. [أخرجه البخاري (١٨٩٤) ومسلم (٣/٢٠٦) ط الشعب..
٣ نصب أربعين بالخبر من تم؛ لأن تم من الأفعال الناقصة بمعنى التصيير فإن لم تجعله من الناقصة فنصبه على التمييز/١٢ وجيز..
٤ وهو صلوات الله وسلامه عليه يعرف حيلة قومه/١٢ وجيز..
﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا ﴾ أي : لوقتنا الذي وقتنا له ﴿ وكلّمه١ ربه ﴾ فلما سمع كلامه اشتاق لقاءه ﴿ قال رب أرني ﴾ نفسك بأن تتجلى إلي ﴿ أنظر إليك ﴾ أراك ﴿ قال لن تراني٢ في الدنيا وقد وردت أحاديث صحاح صريحة على رؤية الله تعالى في الآخرة وأجمعت الأمة على ذلك سوى المعتزلة وحسبهم من الخسران والحسرة أن عاملهم الله تعالى في الآخرة بعقيدتهم وحرمهم من نعمة لقائه كما قال جدي قدس سره ﴿ ولكن انظر إلى الجبل فإن٣ استقر مكانه ﴾ ويطيق الرؤية مع أنه أعظم وأثقل جسما ﴿ فسوف تراني فلما تجلّى ربه للجبل ﴾ ظهر نور ربه وقد ورد ما تجلى إلا قدر الخنصر٤ ﴿ جعله دكًّا ﴾ أي : مدكوكا كالتراب ومن قرأ دكاء فمعناه أرضا مستوية ﴿ وخرّ موسى صعِقا ﴾ سقط مغشيا عليه ﴿ فلما أفاق قال سبحانك ﴾ أنزهك مما لا يليق بك أو قال سبحانك لعظمة ما رأى ﴿ تُبت إليك٥ من مسألة الرؤية بغير إذن ﴿ وأنا أول المؤمنين ﴾ بأنه لا يراك أحد إلى يوم القيامة أو أول قومي إيمانا.
١ قال الزمخشري تكليمه أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظا في الألواح انتهى. وإليه ذهب المعتزلة وهو مذهب فاسد يرده الكتاب والسنة وأين للشجر وذلك الجرم أن يقول: (إنني أنا الله) (طه: ١٠٤)، وذهب الحنابلة ومن وافقهم من أهل الحديث أن كلامه تعالى حروف وأصوات مقطعة وأنه قديم وهو الحق وقد نطق به السنة المطهرة وقال جمهور المتكلمين: إن كلامه صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأراد به الكلام النفسي ولا توجد له رائحة في السنة المطهرة وكذا ما ذكره الشيخ في التأويلات أن موسى سمع صوتا دالا على كلام الله تعالى وهو ظاهر البطلان لمخالفة نص القرآن، وقد سكت جمع من السلف والخلف عن الخوض في تأويل صفة كلام الله تعالى وقالوا: إنه متكلم بكلام قديم يليق بذاته بحرف وصوت لا يشبه كلام المخلوق ليس كمثله شيء وله المثل الأعلى/١٢ فتح البيان..
٢ فإن الأعين الدنيوية لا تطيق النظر إلى وجهه الكريم والأحاديث الصحاح في رؤية الله تبارك وتعالى لا ينكرها إلا مخانيث الحكماء أي: المعتزلة وحسبهم من الخسران أن عاملهم بعقيدتهم في الرؤية وفي الخلود في النار من مات غير تائب من الكبيرة/١٢ وجيز..
٣ فإن استقر مكانه عند تجليه سبحانه نبه على أن الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بألا يستقر وفيه تسكين لفؤاد موسى؛ بأن المانع من الانكشاف إشفاقي عليك وأما أن المانع محالية الرؤية لتجرد الرب فليس في القرآن إشارة إليه، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته مرتين وهذا من خواصه وما أطاق أحد من الأنبياء غير نبينا صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين رؤيته وهو على صورته/١٢ وجيز..
٤ كما نقله الترمذي مرفوعا عن ابن عباس/١٢ منه. [أخرجه الترمذي (٣٢٨٢) وصححه الشيخ الألباني في (صحيح الترمذي) (٢٤٥٨) من حديث أنس رضي الله عنه]..
٥ ما هو خلاف الأدب كمسألة الرؤية بغير إذن كالشفاعة من غير إذن فيها/١٢ وجيز..
﴿ قال يا موسى إني اصطفيتك ﴾ اخترتك ﴿ على الناس برسالتي ﴾ بوحيي ﴿ وبكلامي ﴾ من غير واسطة ﴿ فخُذ ما آتيتك ﴾ أعطيتك من الرسالة ﴿ وكن من الشاكرين ﴾ ولا تطلب ملا لا طاقة لك به.
﴿ وكتبنا له في الألواح ﴾ ألواح التوراة وقيل الألواح قبل نزول التوراة وهي من خشب أو من جوهرة ﴿ من كل شيء ﴾ هم إليه محتاجون في أمر دينهم ﴿ موعظة وتفصيلا لكل شيء ﴾ تبيينا لكل أمر ونهي حلال وحرام فنصبهما على المفعول له أي : للموعظة ولتبيين الحلال والحرام وقيل من كل شيء مفعول كتبنا وموعظة وتفصيلا بدل منه ﴿ فخذها ﴾ أي : فقلنا له خذ الألواح ﴿ بقوة ﴾ بجد وعزيمة ﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ أي : التكليف عليك يا موسى أشد من التكليف على قومك قيل في الألواح ما هو أحسن كالصبر بالإضافة إلى الانتصار مثلا فأمرهم على طريقة الندب أن يتبعوا أفضل ما فيها وهو الصبر والعفو ﴿ سأريكم دار الفاسقين ﴾ أي : سترون عاقبة من خالف أمري كيف تصير إلى الهلاك أو هي جهنم فاحذروا أن تكونوا منهم أو منازلهم كيف تكون خاوية على عروشها قيل هذا بشارة بأنه سيرزقهم أرض أعدائهم.
﴿ سأصرف عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض ﴾ أي : أمنعهم عن فهم الحجج والأدلة الدالة على وحدانيتي وعظمتي وأنزع عنهم فهم كلامي ﴿ بغير الحق ﴾ صلة يتكبرون أو حال فإن تكبر المحق على المبطل حق والتكبر على المتكبر صدقة ﴿ وإن يروا كل آية ﴾ معجزة ﴿ لا يؤمنوا بها ﴾ لعنادهم١ ﴿ وإن يروا سبيل الرُّشد ﴾ طريق الهدى والسداد ﴿ لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغيّ ﴾ طريق الضلال ﴿ يتخذوه سبيلا ذلك ﴾ إشارة إلى مصيرهم إلى هذه الحالة ﴿ بأنهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ﴾ لا يتدبرون فيها.
١ أو اختلال عقلهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد/١٢ بيضاوي..
﴿ والذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ﴾ أي : لقائهم الدار الآخرة ﴿ حبطت أعمالهم ﴾ بطلت فليس لها نفع ﴿ هل يُجزون إلا ما كانوا يعملون ﴾ إلا جزاء أعمالهم.
﴿ واتخذ قوم موسى ﴾ أي : اتخذ السامري١ لهم بإعانتهم ورضاهم فكأنهم هم الذين اتخذوا ﴿ من بعده ﴾ من بعد ذهابه إلى الجبل ﴿ من حُليّهم ﴾ التي استعاروا من القبط ﴿ عجلا جسدا ﴾ بدنا ذا لحم ودم بدل من عجلا ﴿ له خوار ﴾ صوت البقر قال بعضهم : استمر على كونه من الذهب إلا أنه يدخل في فيه الهواء فيصوت كالبقر٢ ﴿ ألم يروا أنه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا ﴾ أي : ألم يروا حين اتخذوه إلها أنه حيوان لا يقدر على كلام ولا على إرشاد فكيف اعتقدوا على أنه خالق القوى والقدر ؟ !٣ ﴿ اتخذوه ﴾ إلها ﴿ وكانوا ظالمين ﴾ فلوضعهم الأشياء في غير موضعها اتخذوه إلها.
١ روي أنه لما وعد موسى قومه ثلاثين ليلة فأبطأ عليهم في العشر المزيدة قال السامري لبني إسرائيل وكان مطاعا فيهم: إن معكم حليًّا من حلي آل فرعون الذي استعرتموه منهم لتتزينوا به في العيد وخرجتم وهو معكم وقد أغرق الله أهله من القبط فهاتوه فدفعوه إليه فاتخذ منه العجل المذكور/١٢ فتح..
٢ وفي الوجيز وأما أنه صنع من حليهم شكل ولد البقر مجسدا من الذهب لا روح فيه إلا أنه عمله مجوفا بطور إن دخل فيه الهواء خرج منه صوت كصوت البقر فليس بوجه سديد لقوله تعالى في سورة طه: (ما خطبك يا سامري قال بصرت) (طه: ٩٥، ٩٦) وإذا كان هو على صورة العجل لا حياة فيه فليس بقبض التراب من أثر جبريل دَخْلُ/١٢..
٣ جمع القدرة/١٢..
﴿ ولما سُقط في أيديهم ﴾ كناية عن الندامة فإن النادم يعض يده ﴿ ورأوا ﴾ أُعلموا ﴿ أنهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ﴾ بقبول توبتنا ﴿ ويغفر لنا ﴾ هذا الذنب العظيم ﴿ لنكونن من الخاسرين ﴾ الهالكين.
﴿ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان ﴾ عليهم ﴿ أسِفًا١ شديد الغضب أو حزينا فإنه قد أعلمه الله بذلك وهو على الطور٢ كما قال تعالى :( فإنا قد فتنا قومك من بعدك ) ( طه : ٨٥ )، ﴿ قال بئسما خلفتموني من بعدي ﴾ أي : فعلتم بعد ذهابي وفاعل بئس ضمير يفسره ما والمخصوص بالذم محذوف أي : بئس فعلا فعلتموه من بعدي فعلكم ﴿ أعجِلتم أمر ربكم ﴾ وهذا كما يقال لمن ولى أحدا غير مستحق للولاية : عجلت أمر السلطنة أي : في حالها وأمرها أو ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته أي : سبقتم أمر ربكم أو ميعاد ربكم أو سخط ربكم ﴿ وألقى الألواح٣ طرحها غضبا ﴿ وأخذ برأس أخيه ﴾ بشعره ﴿ يجرّه إليه ﴾ خوفا عن أن يكون قد قصر في نهيهم وهارون أكبر من موسى٤ ﴿ قال ابن أُمّ ﴾ كانا أخوين من أب وأم وذكر الأم ليرققه٥ ﴿ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني ﴾ أي : بذلت وسعي في النهي حتى قهروني وقاربوا قتلي ﴿ فلا تُشمت بي الأعداء ﴾ لا تفعل بي شيئا يشمتون٦ لأجله ﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ معدودا في عداد عابدي العجل في عقوبتك.
١ قال ابن جرير الطبري: أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا وأن السامري قد أضلهم فلذلك رجع موسى وهو غضبان أسفا/١٢..
٢ كما في سورة طه/١٢ منه..
٣ من شدة الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل قال ابن عباس: لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفع إلا سدسها رفه الله منها ستة أسباعها وبقي سبع وقال مجاهد: لما ألقاها موسى ذهب التفصيل يعني أخبار الغيب وبقي الهدى أي: ما فيه المواعظ والأحكام وعن ابن جريج قال: كانت تسعة رفع منها لوحان وبقي سبعة/١٢ فتح..
٤ بثلاث سنين هكذا قال محيي السنة/١٢ منه..
٥ ويستعطفه عادة العرب التحنن بذكر الأم/١٢ وجيز..
٦ في الأصل : يشتمون..
﴿ قال ﴾ لما علم براءة ساحته ﴿ رب اغفر لي ﴾ ما صنعت بأخي ﴿ ولأخي ﴾ أن قصر في نهيهم ﴿ وأدخلنا في رحمتك ﴾ بمزيد الإنعام أو في جنتك ﴿ وأنت أرحم الراحمين ﴾.
﴿ إن الذين اتخذوا العِجل ﴾ إلها ﴿ سينالهم غضب من ربهم ﴾ وهو أمرهم بقتل أنفسهم للتوبة كما مر فهو حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى حين أخبره أو غضب في الآخرة ﴿ وذلّة في الحياة الدنيا ﴾ إخراجهم من ديارهم وهوانهم إلى الأبد وقيل المراد من الذين اتخذوا العجل : أبناؤهم وهم يهود زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف الأبناء بقبائح فعل الآباء ﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾ على الله تعالى.
﴿ والذين عملوا السيئات ﴾ أي : الشرك ﴿ ثم تابوا من بعدها ﴾ بعد السيئات ﴿ وآمنوا ﴾ أخلصوا الإيمان واشتغلوا بما هو مقتضى الإيمان ﴿ إن ربك من بعدها ﴾ بعد التوبة ﴿ لغفور رحيم ﴾.
﴿ ولما سكت١ أي : سكن ﴿ عن موسى الغضب أخذ الألواح٢ التي ألقاها ﴿ وفي نُسختها ﴾ أي : في الألواح فإنها نسخت من اللوح المحفوظ أو لما ألقى الألواح تكسرت ثم رد عليه لوحان أو لما تكسرت نسخ منها نسخة أخرى ﴿ هدًى ﴾ من الضلال ﴿ ورحمة ﴾ من العذاب ﴿ للذين هم لربهم يرهبون ﴾ للخائفين ودخول اللام في المفعول لضعف الفعل بالتأخير٣ وقيل في يرهبون تضمين معنى الخضوع٤.
١ كأنه جعل الغضب شخصا آمرا ناهيا يهيجه لما فعل ويأمره بشتم قومه فسكت عن الإغراء/١٢ وجيز..
٢ هو جواب لما/١٢..
٣ يعني دخول اللام في المفعول مقربة لوصول الفعل إلى المفعول المتقدم نحو إن كنتم للرؤيا تعبرون/١٢ وجيز..
٤ وهو مستعمل باللام/١٢ منه..
﴿ واختار موسى قومه ﴾ منصوب بنزع الخافض أي : من قومه ﴿ سبعين رجلا لميقاتنا ﴾ أمر موسى أن يختار١ من بني إسرائيل سبعين ليدعوا ربهم فلما دعوا قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا من قبلنا ولا من بعدنا فكره الله تعالى ذلك فأخذتهم الرجفة أو اختار٢ سبعين ليعتذروا من عبادة العجل فلما سمعوا كلام الله تعالى قالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا أو أخذتهم٣ الرجفة فإنهم علماء وما نهوا بني إسرائيل عن عبادة العجل، وقال بعضهم : ما ماتوا ثم بعد تضرع موسى كشف عنهم الرجفة فاطمأنوا أو ماتوا لكن أحياهم الله تعالى بدعاء موسى ﴿ فلما أخذتهم الرجفة قال ﴾ موسى :﴿ ربّ لو شئت ﴾ لو للتمني ﴿ أهلكتهم من قبل وإيّاي ﴾ تمنى هلاكهم وهلاكه قبل أن يرى ما يرى، أو المراد أهلكتهم أي : عبدة العجل من قبل عبادتهم ﴿ أتُهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ من التجاسر على طلب الرؤية فإن بعضا من السبعين طلبوا الرؤية، أو من عبادة العجل، ولذلك قيل : علماؤهم ما عبدوا العجل ﴿ إن هي إلا فتنتك ﴾ اختبارك وامتحانك حين أسمعتهم كلامك فطمعوا في الرؤية، أو حين خلقت في العجل خوارا فضلوا ﴿ تضل بها من تشاء ﴾ ضلاله ﴿ وتهدي ﴾ بها ﴿ من تشاء ﴾ هداه ﴿ أنت وليُّنا ﴾ القائم بأمرنا ﴿ فاغفر لنا ﴾ ذنوبنا٤ الماضية ﴿ وارحمنا ﴾ بأن لا توقعنا بعد في مثله ﴿ وأنت خير الغافرين ﴾ لأنك تغفر الذنوب جميعا بلا عرض ولا عوض.
١ هذا قول ابن عباس وهذا يدل على أن ذلك قبل عبادتهم العجل/١٢ منه..
٢ وهو قول السدي ومحمد بن إسحاق/١٢ منه..
٣ هو قول مجاهد وقتادة وابن جريج/١٢ منه..
٤ اعلم أن كونه تعالى وليًّا للعبد يناسب أن يطلب العبد منه دفع المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وفضله وإلهيته وأيضا اشتغال العبد بالتوبة والخضوع والخشوع يناسب طلب هذه الأشياء لذكر السبب الأول أولا وهو كونه تعالى وليا له وفرع عليه طلب هذه الأشياء ثم ذكر بعده السبب الثاني وهو اشتغال العبد بالتوبة والخضوع فقال: (إنا هدنا إليك)/١٢ كبير..
﴿ واكتُب ﴾ أي : أثبت ﴿ لنا في هذه الدنيا حسنة ﴾ عافية وطاعة ﴿ وفي الآخرة ﴾ جنة وقربة ﴿ إنّا هُدنا ﴾ رجعنا وتبنا ﴿ إليك قال ﴾ الله مجيبا في قوله :( إن هي إلا فتنتك ) ﴿ عذابي أصيب به من أشاء ﴾ تعذيبه ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ في الدنيا حتى الشجر والحجر ﴿ فسأكتبها ﴾ فسأوجب رحمتي في الآخرة ﴿ للذين يتقون ﴾ الكبائر ﴿ ويُؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ بما أنزل على مع جميع الأنبياء لا يكفرون بشيء منها قيل لما اختار موسى سبعين١ قال لهم : أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم ؟ فقالوا : لا نريد إلا أن نصلي في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في القلوب، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظرا قال تعالى :( فسأكتبها للذين يتقون ) الآية.
١ هذا وإن كان كلام بعض السلف لكن فيه بعد لأنه يلزم رجع الضمير إلى ما لا شعور عليه بوجه فلذلك ذكرناه بصيغة التمريض/١٢ منه..
﴿ الذين يتّبعون ﴾ أي : هم الذين أو بدل من الذين يتقون، والمراد اليهود الذين في آخر الزمان وآمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام أو عامة أمته الصالحين ﴿ الرسول النبي الأمّي ﴾ الذي لا يكتب ولا يقرأ ﴿ الذي يجدونه مكتوبا عندهم ﴾ اسمه وصفته ﴿ في التوراة والإنجيل١ يأمرهم ﴾ النبي ﴿ بالمعروف ﴾ والخير ﴿ وينهاهم عن المنكر ﴾ والشر ﴿ ويحل لهم الطّيبات ﴾ مما حرموا على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة ومما حرم عليهم في التوراة من لحوم الإبل والشحوم ﴿ ويحرّم عليهم الخبائث ﴾ كالدم ولحم الخنزير والميتة والربا ﴿ ويضع ﴾ يخفف ويسقط ﴿ عنهم إصرهم ﴾ أي : ثقلهم العهد الثقيل الذي أخذ عليهم بالعمل والتوراة ﴿ والأغلال التي كانت عليهم ﴾ التكاليف الشاقة التي كانت في دينهم ﴿ فالذين آمنوا به ﴾ بهذا الرسول ﴿ وعزّروه ﴾ عظموه ﴿ ونصروه ﴾ على عدوه ﴿ واتبعوا النور ﴾ أي : القرآن ﴿ الذي أُنزل معه٢ أي : مع نبوته وقيل : متعلق باتبعوا القرآن مع اتباع النبي أي : اتبعوا الكتاب والسنة ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون٣ في الدارين.
١ أخرج ابن سعد والبخاري وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن عطاء بن يسار فقال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وروى نحو هذا مع اختلاف في الألفاظ وزيادة ونقص في بعض عن جماعة وذكر الخميسي في تاريخه أن لفظ محمد مذكور في التوراة باللغة السريانية بلفظ (لمنحمنا) ومعنى هذا اللفظ في تلك اللغة هو معنى لفظ محمد وهو الذي يحمده الناس كثيرا وذكر أن لفظ أحمد مذكور في الإنجيل بهذا اللفظ العربي الذي هو أحمد/١٢ فتح. [الحديث أخرجه البخاري (٤٨٣٨)]..
٢ إشارة إلى أن الظرف إن تعلق بأنزل فلابد من تقدير مضاف كنبوته أو إرساله وإن تعلق باتبعوا على معنى اتبعوا القرآن والنبي لم يحتج إلى تقدير/١٢ منه..
٣ الفائزون في الدارين لا غيرهم ولما ذكر صفة النبي الأمي وأخبر أن من أدركه فآمن به أفلح أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- باشتهار دعوته إلى الناس كافة فقال: (قل يا أيها الناس)/١٢ وجيز..
﴿ قل يا أيها الناس١ خطاب عام لا يشذ عنها أحد ﴿ إني رسول الله إليكم جميعا٢ الذي ﴾ صفة الله والفصل غير أجنبي أو منصوب بتقدير أعني ﴿ له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو ﴾ بدل اشتمال من له ملك السماوات والأرض ﴿ يُحيي ويُميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي الذي يؤمن بالله وكلماته ﴾ جميع كتبه ﴿ واتّبعوه ﴾ في الإيمان بالله وجميع الكتب، بما أمر ونهى ﴿ لعلكم تهتدون ﴾ لكي تهتدوا.
١ يا من أطلق عليه ناس/١٢..
٢ بحيث لا يشذ عنكم فرد/١٢ وجيز..
﴿ ومن قوم١ موسى ﴾ بني إسرائيل ﴿ أمّة يهدون ﴾ الناس ﴿ بالحق٢ محقين ﴿ وبه ﴾ بالحق ﴿ يعدلون ﴾ في الحكم وهم الثابتون على الحق من اليهود قرنا بعد قرن أو من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأتباعه أو قوم وراء الصين٣ هم على الحق٤ آمنوا بمحمد لا يصل أحد منهم إلينا ولا منا إليهم.
١ ولما ذكر أن الرحمة الخاصة الثابتة لمتبعي نبينا الذي هو ثابت صفته في كتابين سماويين، وهو مسقط عن المسلمين الإصر والأغلال التي كانت عليهم أخذ يبين أنه بقي من أهل الكتاب من استمر على الطريقة الحسنى والدين القيم فقال: (ومن قوم موسى) الآية/١٢ وجيز..
٢ بالحق فيه خلاف كثير أن المراد من هذه الجماعة من هم؟ وأن الظاهر أنهم قوم في أطراف الأرض ليس لهم همة إلا اتباع الحق حيث كان/١٢ وجيز..
٣ هذا قول الكلبي والضحاك والربيع وابن جريج ونقل عن ابن عباس السدي أيضا/١٢ منه..
٤ وفي لباب التأويل وهذه الحكاية ضعيفة ولم يرو بها نقل صحيح ولا رواها أحد من أئمة الحديث، ولا يلتفت إلى قول الإخباريين والقصاص في ذلك انتهى ملخصا، وفي الفتح قال الكلبي والضحاك والربيع: هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يسمى نهر الأردن ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويصحون في النهار ويزرعون ولا يصل إليهم أحد منا وهم على الحق إلى آخر القصة وما أبعدها عن الصحة وأقربها إلى الوضع وقد ابتلى بذكرها جمع من المفسرين الذين ليس لهم معرفة بعلم الحديث انتهى/١٢..
﴿ وقطّعناهم ﴾ صيرنا بني إسرائيل قطعا وفرقناهم ﴿ اثنتي عشرة ﴾ مفعول ثان لقطع لأنه متضمن معنى صير أو حال وتأنيثه للحمل على الأمة أو القطعة ﴿ أسباطا١ تمييز له وهو من الجمع الذي وقع موقع المفرد فإن معناها القبيلة ؛ لأن كل قبيلة أسباط لا سبط أو بدل منه ﴿ أُممًا ﴾ بدل أو نعت لأسباطا ﴿ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه ﴾ في التيه٢ ﴿ أن اضرب بعصاك الحجر ﴾ جنس الحجر أو حجرا خاصا كان معه كما ذكره في سورة البقرة ﴿ فانبجست ﴾ أي : فضرب فانفجرت ﴿ منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس ﴾ كل قبيلة ﴿ مشربهم وظللنا عليهم الغمام ﴾ لدفع حر الشمس ﴿ وأنزلنا عليهم المنّ ﴾ شيء كالترنجين ﴿ والسلوى ﴾ طير كالسماني وقلنا لهم ﴿ كلوا من طيبات ﴾ مستلذات ﴿ ما رزقناكم وما ظلمونا ﴾ ما رجع ضر كفران نعمه إلينا ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ يضرون أنفسهم ووبال فعلهم راجع إليهم.
١ والأسباط أولاد الولد يعني اثنا عشر قبيلة من اثني عشر ولدا من أولاد يعقوب ولما ذكر أنهم جماعة كثيرة بيّن نعمته عليهم في مشربهم ومأكلهم فقال وأوحينا/١٢ وجيز..
٢ أمما؛ لأن كل سبط كان جماعة كثيرة العدد وكانوا مختلفي الآراء يؤم بعضهم غير ما يؤمه الآخر؛ وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة ولتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة فأما اليهود فإن الله يقول: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) فهذه التي تنجوا وأما النصارى فإن الله يقول: (منهم أمة مقتصدة) (المائدة: ٦٦)، فهذه التي تنجو وأما نحن فيقول: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) (الأعراف: ١٨١)، فهذه التي تنجو من هذه الأمة وقد قدمنا أن زيادة كلها في النار لم تصح لا مرفوعة ولا موقوفة/١٢ فتح..
﴿ وإذ قيل لهم ﴾ أي : واذكر هذا الزمان ﴿ اسكنوا هذه القرية١ بيت المقدس أو ريحا ﴿ وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حِطّة ﴾ أي : مغفرة يعني استغفروا أو اقروا بالذنب أو احطط عنا الخطايا ﴿ وادخلوا الباب ﴾ باب البلد ﴿ سُجّدا ﴾ شكرا لله تعالى على الفتح والإنقاد من التيه ﴿ نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين ﴾ ثوابا وهو استئناف٢ ولم يأت بالعطف إشعارا على أنه تفضل محض.
١ بيت المقدس وقد مر في سورة البقرة بتغييرات في الألفاظ من غير تناقض/١٢ وجيز..
٢ كأن سأل سائلا ماذا بعد الغفران لهم؟ فقال: سنزيد المحسنين، ولو أتى بالواو لدل على أن زيادة الثواب جزاء لدخولهم الباب سجدا ومقابل له/١٢ منه..
﴿ فبدّل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم ﴾ بدلوا بحطة حنطة استهزاء ﴿ فأرسلنا عليهم رجزا ﴾ عذابا مقدرا ﴿ من السماء بما كانوا يظلمون ﴾ بسبب ظلمهم.
﴿ واسألهم ﴾ أي : سل يا محمد هؤلاء اليهود الذين بحضرتك سؤال توبيخ وتقريع ﴿ عن القرية ﴾ أي : خبر أهلها ﴿ التي كانت حاضرة البحر ﴾ قريبة منه، وهي أيلة بين مدين والطور ﴿ إذ يعدون في السبت ﴾ بدل من اشتمال القرية أو ظرف كانت أو حاضرة، ومعناه يتجاوزون حدود الله يوم السبت ﴿ إذ تأتيهم حيتانُهم ﴾ ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل ﴿ يوم سبتهم ﴾ أي : يوم تعظيمهم أمر السبت من سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة ﴿ شُرَّعا ﴾ ظاهرة على الماء حال من الحيتان ﴿ ويوم لا يسبِتون ﴾ لا يعظمون سبتهم وهو غير يوم السبت ﴿ لا تأتيهم كذلك ﴾ مثل ذلك الامتحان التام ﴿ نبلوهم ﴾ نختبرهم بإظهار السمك في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائها في اليوم المحلل لهم ﴿ بما كانوا يفسُقون ﴾ بسبب خروجهم عن طاعة الله تعالى.
﴿ وإذ قالت ﴾ عطف على إذ يعدون ﴿ أمّة منهم ﴾ أي : فرقة من أهل القرية فإنهم ثلاث فرق : فرقة ارتكبوا الخطيئة، وفرقة ناهية، وفرقة سكتوا فما ارتكبوا وما نهوهم، فقالت الفرقة الساكتة للناهية :﴿ لم تعِظون قوما الله مُهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ﴾ فإنهم علموا لكثرة عدم نفع الموعظة أنها لا تنفع لا محالة استحقوا سخط الله تعالى ﴿ قالوا ﴾ أي : الفرقة الناهية مجيبا لهم هذه ﴿ معذرة إلى ربكم ﴾ حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر، ومن قرأ بالنصب فتقديره وعظناهم معذرة ﴿ ولعلهم يتقون ﴾ عن الاصطياد في السبت فلا نيأس من أن تدركهم الرحمة.
﴿ فلما نسُوا ما ذُكّروا به ﴾ تركوا ترك الناسي ﴿ أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا ﴾ خالفوا أمرنا ﴿ بعذاب بئيس ﴾ شديد١ ﴿ بما كانوا يفسُقون ﴾ بسبب فسقهم والأصح أن الفرقة المرتكبة دون غيرهم صاروا قردة والفرقتين الأخريين نجوا وعند بعضهم أن الفرقة الساكتة أيضا مسخوا.
١ والأصح لدلالة بعض الأحاديث واتفاق السلف أن المسخ صوري ومعنوي ثم هلكوا بعد ثلاث ولم يبق منهم نسل والفرقة الساكتة الذين قالوا: لم تعظون ناجية أو مهلكة فيه خلاف، وكان ابن عباس متوقفا ثم صرح بأنهم من الناجين وفي القرآن إشارة إلى أنهم كانوا وعظوهم أولا ثم سكتوا حين علموا ألا نفع للوعظ ولما ذكر تعالى قبح أفعالهم واستعصائهم أخبر أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة فقال: (وإذ تأذن)/١٢ وجيز..
﴿ فلما عَتوا ﴾ تكبروا ﴿ عن ﴾ ترك ﴿ ما نُهوا عنه قلنا لهم ﴾ عن بعض السلف أنهم سمعوا مناديا قال :﴿ كونوا قردة خاسئين ﴾ ذليلين أو المراد من أمرهم سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك لا حقيقة الأمر والأصح أن المسخ صوري ومعنوي ثم هلكوا بعد ثلاثة أيام ولم يبق منهم نسل ؛ والعذاب البئيس هو المسخ فهذه الآية تقرير وتفصيل١ للأولى.
١ يعني لقوله: (وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس) وقيل المسخ معنوي لا صوري والعذاب البئيس غير المسخ وهو قد كان أولا ثم كان المسخ آخرا/١ منه..
﴿ وإذ تأذّن ربك ﴾ أعلم أو قال أو أمر وحكم ﴿ ليبعثن عليهم ﴾ على اليهود وأجرى تأذن كعلم الله وشهد الله مجرى القسم ولذلك أجيب بقوله ليبعثن ﴿ إلى يوم القيامة من يسُومهم ﴾ يعذبهم ﴿ سوء العذاب ﴾ أي : أوجب الله على نفسه ليسلطن عليهم من يعذبهم بضرب الجزية والإهانة وسبي النساء إلى آخر الدهر ﴿ إن ربك لسريع العقاب ﴾ لمن أصر على المعصية ﴿ وإنه لغفور رحيم ﴾ على من تاب وأناب.
﴿ وقطّعناهم في الأرض أُممًا ﴾ فرقناهم في البلاد فلا تجتمع كلمتهم مفعول ثان ؛ لأن القطع بمعنى التصيير ﴿ منهم الصالحون ﴾ صفة أمم ﴿ ومنهم ﴾ ناس ﴿ دون ذلك١ منحطون عن الصلاح ﴿ وبلوناهم ﴾ امتحناهم ﴿ بالحسنات ﴾ بالنعم ﴿ والسيئات ﴾ بالنقم ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ عما كانوا فيه.
١ فدون مرفوع بأنه صفة لموصوف محذوف هو مبتدأ ومنهم خبره/١٢ منه..
﴿ فخلف من بعدهم ﴾ من بعد ذلك الجيل الذي فيهم الصالح والطالح ﴿ خلف ﴾ والخلف بسكون العين البدل السوء ﴿ ورِثوا الكتاب ﴾ التوراة من أسلافهم ﴿ يأخذون عرَض هذا الأدنى ﴾ أي : حطام هذه الدنيا الحقير كالرشوة في تبديل حكم الله والجملة حال من فاعل ورثوا ﴿ ويقولون سيُغفر لنا ﴾ الفعل مسند إلى الجار والمجرور ﴿ وإن يأتهم عرضٌ ميله يأخذوه ﴾ أي : يرجون المغفرة والحال أنهم مصرون على الذنب عائدون على مثله. عن السدي كان بعضهم يطعن في حكامهم بأخذ الرشوة فإذا جعل مكان حاكمهم من يطعن بأخذ الرشوة هو أيضا يأخذ فحاصله وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه ﴿ الم١ يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ﴾ أي : في التوراة ﴿ أن لا يقولوا ﴾ أي : بأن لا يقولوا أو عطف بيان لميثاق ﴿ على الله إلا الحق٢ ودرسوا ما فيه ﴾ فهم ذاكرون لهذا الميثاق عطف على ألم يؤخذ ﴿ والدار الآخرة للذين يتقون ﴾ المعاصي لا للذين يخالفون أمر الله تعالى فإن مصيرهم إلى النار ﴿ أفلا تعقلون ﴾ فيعلموا ذلك ويرتدعوا عما هم فيه.
١ أي: أخذ عليهم الميثاق ودرسوا وليس من عطف الإخبار على الإنشاء؛ لأن الهمزة للإنكار لا لمحض الاستفهام/١٢ منه..
٢ استثناء منقطع البتة/١٢ منه..
﴿ والذين يُمسّكون بالكتاب ﴾ اعتصموا بكتابهم فآمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ﴿ وأقاموا الصلاة إنا لا نُضيع ﴾ خبر الذين يمسكون ﴿ أجر المصلحين١ أي : أجرهم لإصلاحهم.
١ إشارة إلى أنه من باب وضع المظهر موضع المضمر، ولذلك لا يحتاج إلى ضمير المبتدأ فإن المصلحين هم الذين تمسكوا بالكتاب وجاز أن يكون والذين عطفا على للذين يتقون وقوله إنا لا نضيع اعتراض/١٢ منه..
﴿ وإذ نتقنا ﴾ رفعنا ﴿ الجبل فوقهم كأنه ظُلة ﴾ الظلة : كل ما أظلك ﴿ وظنوا ﴾ تيقنوا ﴿ أنه واقع بهم ﴾ ساقط عليهم إن خالفوا وقلنا لهم :﴿ خذوا ما أتيناكم ﴾ من الكتاب ﴿ بقوة ﴾ بجد واجتهاد في العمل به ﴿ واذكروا ما فيه ﴾ فاعملوا به ﴿ لعلكم تتقون ﴾ كي تتقوا عن القبائح وذلك أنهم أبوا قبول أحكام التوراة فرفع الطور فوقهم وقيل لهم : إن قبلتم وإلا ليقعن عليهم فسجدوا وقبلوا.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ﴾ بدل من بني آدم ﴿ ذُرّيتهم ﴾ أي : أن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء١ في الترتيب ﴿ وأشهدهم على أنفسهم ﴾ أشهد بعضهم على بعض ﴿ ألست بربكم قالوا بلى شهدنا٢ قال بعضهم : شهدنا قول الملائكة لا قول بني آدم وهو أنه قال الله تعالى للملائكة اشهدوا على إقرارهم قالوا شهدنا ﴿ أن تقولوا ﴾ أي : كراهة أن تقولوا ﴿ يوم القيامة إنا كنا عن هذا ﴾ أي : عن إنك ربنا ﴿ غافلين ﴾ لم ننبه عليه ولذلك نصبنا الأدلة على الربوبية وأرسلنا الرسل بذكرهم العهد فلا يكون لهم عذر.
١ والمعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، وأخذ عليهم العهد وهؤلاء هم عالم الذر وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وموقوفا على غير واحد من الصحابة ولا ملجيء للمصير إلى المجاز وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل/١٢ف، واختلف الناس في كيفية الاستخراج على أقوال لا مستند لها والحق وجوب اعتقاد إخراجها من ظهر آدم كما شاء الله تعالى كما ورد في الصحيح قال المقبلي في الأبحاث ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات الواردة في ذلك/١٢ فتح..
٢ أي: على أنفسنا بأنك ربنا واختلفوا في الإجابة هذه كيف كانت أجابوا بلسان المقال أم أجابوه بلسان الحال والظاهر الأول، ونكل علم كيفيتها إلى الله سبحانه/١٢ فتح، والظاهر أنه لما ردهم إلى ظهره قبض أرواحهم، وأما أن الأرواح أين رجعت بعد رد الذريات إلى ظهره فهذه مسألة غامضة لا يتطرق إليها النظر بأكثر من أن يقال: رجعت كما كانت عليه قبل حلولها في الذرات والحق أن كل ما لم يرد فيه نص من كتاب والسنة فإطوائه على غرة أولى وترك الخوض فيه أحرى/١٢ فتح..
﴿ أو تقولوا ﴾ عطف على أن تقولوا ﴿ إنما أشرك آباؤنا من قبل ﴾ قبل زماننا ﴿ وكنا ذرية من بعدهم ﴾ فاقتدينا بهم ﴿ أفتُهلكنا بما فعل المبطلون ﴾ الآباء المبطلون بتأسيس الشرك. اعلم أن الأحاديث الصحاح الدالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة والنار وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم ففي حديثين موقوفين على ابن عباس١ وابن عمر٢ -رضي الله عنهم- كما حققه الثقات من المحدثين ووافقهما أكثر السلف والخلف كأبيّ بن كعب ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وغيرهم وقال بعض السلف والخلف٣ : المراد بهذا الإشهاد أنه خلقهم على فطرة الإسلام ونصب لهم دلائل التوحيد ولظهورها صارت بمنزلة أن قيل لهم :( ألست بربكم قالوا بلى ) وأنت تعلم أن ابن عباس حبر الأمة وأعلم أن الناس بمعاني القرآن٤.
١ ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (٢/٢٥٩) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن جرير واللالكائي في (السنة)]..
٢ ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (٢/٢٦١) وعزاه إلى ابن جرير وابن منده في (كتاب الرد على الجهمية)..
٣ اعلم أن المتأخرين عدلوا عن تفسير الصحابة وعن ما يدل عليه الأحاديث الذي لا يمكن رده وعن ظاهر القرآن لشيئين: الأول أن لو كان المراد ما قالوا لكان المناسب أن يقال: وإذ أخذ ربك من آدم من ظهره الثاني: أنه تعالى جعل علة أخذ العهد هي أن لا يقولوا في القيامة إنا غافلون عن ربوبيتك وإذا كان كذلك فالواجب أن لا ينسيهم الله هذا العهد حتى يكون له فائدة، وإلا فهو كأن لم يكن وقد أشرنا إلى دفع الإشكال الثاني بقولنا ولذلك نصبنا الأدلة على الربوبية. إلخ فلا تغفل وأما الجواب عن الأول فهو أن الله أخرج من نفس آدم أولاده الذين من صلبه ثم من أولاده أولادهم وهكذا إلى أن أخرج جميع بني آدم فأخذ منهم الميثاق ثم ردهم إلى أصلاب آبائهم وهل لمؤمن أن يعتقد تضييقا في قدرة الله تعالى ففي الصحيحين أنه يقال لرجل من أهل النار: أرأيت لو كان لك جميع الدنيا أكنت مفتديا به يقول: نعم فيقال: قد أردت منك أهون من ذلك أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت أن لا تشرك بي/١٢ منه..
٤ مع أن التمثيل بمثل تلك العبارة والحكاية لم يقع في كلام الله ولا في كلام البلغاء/١٢ وجيز..
﴿ وكذلك ﴾ مثل ذلك التبيين ﴿ نُفصّل الآيات ﴾ لفوائد جمة ﴿ ولعلهم يرجعون ﴾ لكي يرجعوا عن اتباع الأصل.
﴿ واتل عليهم١ على اليهود أو على قومك ﴿ نبأ الذي آتيناه فانسلخ منها ﴾ من الآيات بأن أعرض وكفر ﴿ فأتبعه الشيطان ﴾ لحقه وأدركه ﴿ فكان من الغاوين ﴾ صار من الضالين٢ هو رجل من بني إسرائيل والأكثرون على أنه٣ بلعم بن باعوراء٤ عالم باسم الله الأعظم سألوا عنه أن يدعوا على موسى وجنوده فأبى٥ ثم ألحوا وجاءوه بالرشوة فقبل فدعا عليهم فقبل الله ثم دعا موسى عليه فنزع عنه الإيمان والاسم الأعظم، وقال بعضهم : ما يسر الله له الدعاء على موسى لكن قال لهم : أخرجوا السناء تستقبلهم فعسى أن يزنوا ففعلوا فوقع واحد من بني إسرائيل في الزنا فنزل عليهم الطاعون فقتل أحد علمائهم الزاني فكشف عنهم العذاب قيل فحسب من هلك في الطاعون في ساعة من النهار فوجدوا سبعين ألفا.
١ ولما ذكر لأهل الكتاب الميثاق الخاص الذي في كتابهم واتبعه الميثاق العام لهم ولغيرهم أمر نبيه أن يتلو عليهم حال من انسلخ من الميثاقين كيف أسقطه من ديوان السعداء بعد أن كان معدودا في زمرة الأبرار الأخيار فقال: (واتل عليهم) الآية/١٢ وجيز..
٢ بعد أن كان من الهادين المهديين/١٢ وجيز..
٣ صرح بذلك ابن مسعود وابن عباس وقد صح عن عبد الله بن عمر أن المراد منه أمية بن أبي الصلت فقيل مراد ابن عمر أنه يشبهه في كثرة علمه وتلقيه كتب الأوائل ومع ذلك إلى موالاة المشركين ومناصرتهم/١٢ منه..
٤ وفي حاشية النسخة: رجل منعاني/١٢ وجيز..
٥ كذا رواه ابن جرير وابن عساكر ومحمد بن إسحاق وغيرهم/١٢ منه..
﴿ ولو شئنا لرفعناه ﴾ إلى الدرجات العلى ﴿ بها ﴾ بسبب تلك الآيات ﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ مال إلى الدنيا وزخارفها فإن جميع زخارفها من الأرض ﴿ واتّبع هواه ﴾ في أخذ الرشوة والإعراض عن أمر الله تعالى ﴿ فمثله كمثل الكلب ﴾ في أخس أحواله وهو ﴿ إن تحمل عليه ﴾ إن شد عليه فطرد ﴿ يلهث١ : هو إخراج الكلب اللسان ﴿ أو تتركه ﴾ غير متعرض له بالزجر ﴿ يلهث ﴾ قد نقل : إن بلعم لما دعا عليهم اندلع لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب أو مثله في أنه إن وعظته أو تركته فهو على الضلال كالكلب في لهثته في الحالتين أو إن قلب الكافر ضعيف كالكلب فإن لهث الكلب من ضعف قلبه ولا يلهث سائر الحيوان إلا في حال إعياء أو عطش ﴿ ذلك مَثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا فاقصُص القَصَصَ٢ المذكور على اليهود أو على كفار مكة ﴿ لعلهم يتفكّرون ﴾ فيعلموا أنها شابهت قصتهم وحالهم فيتعظوا٣.
١ اللهث التنفس بسرعة وتحرك أطراف الفم مع امتداد اللسان/١٢ وجيز..
٢ أي: القصة المذكورة عليهم/١٢..
٣ فإن الله تعالى أعطاهم النعم ما لم يعط أحدا ميزهم بالعلم وأنزل عليهم الكتب وجعل فيهم الأنبياء فيعرفون محمدا كما يعرفون أبناءهم فلو مالوا إلى الأرض لأحل الله عليهم ذل الدنيا والآخرة/١٢ منه..
﴿ ساء مثلا القوم ﴾ أي : مثل القوم على حذف المضاف ﴿ الذين كذّبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ﴾ أي : وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فتقديم المفعول للتخصيص.
﴿ من يهد الله فهو المهتدي ﴾ والاهتداء من أعظم الصفات ﴿ ومن يُضلل فأولئك هم الخاسرون ﴾ والإفراد في الأول والجمع في الثاني إشارة إلى أن طريق الهدى واحد فهم كرجل واحد وأنواع الضلال مختلفة متكثرة.
﴿ ولقد ذرأنا١ خلقنا ﴿ لجهنم ﴾ اللام للعاقبة ﴿ كثيرا من الجن والإنس ﴾ وهم الذين حقت عليهم كلمة الشقاوة ﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يُبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾ أي : لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي خلقها الله للاهتداء، ﴿ أولئك كالأنعام ﴾ في عدم فقه معرفة الحق والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر بل صرفوا مشاعرهم وقصروها في أسباب التعيش ﴿ بل هم أضل ﴾ فإن الدواب تفعل ما خلقت له إما بالطبع وإما بالتسخير وترتدع عن مضارها بخلاف الكافر فإنه خلق ليعبد الله وهو يعبد الشيطان ويعلم بعضهم أنه يضره ويرتكبه عنادا ﴿ أولئك هم الغافلون ﴾ أشد غفلة لا غفلة بعد.
١ ولما علم من القصص أن أكثر الخلق هالك صرح بذلك مقسما؛ لأنه لا يكاد يصدق أن الإنسان أضل من البهائم قال (ولقد ذرأنا) الآية/١٢ وجيز..
﴿ ولله١ الأسماء الحسنى٢ هي أحسن الأسماء دالة على أحسن المعاني وليست منحصرة في التسعة والتسعين٣ ﴿ فادعوه بها ﴾ سموه بتلك الأسماء ﴿ وذروا٤ الذين يُلحدون في أسمائه ﴾ ذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على آلهتهم بزيادة ونقصان كاللات من الله والمنات من المنان والعزى من العزيز وقيل الإلحاد فيها تسميته بما لم يرد في الكتاب ولا في السنة كيا سخي ويا مكار، ويا عاقل ﴿ سيُجزون ما كانوا يعملون ﴾ من الإلحاد.
١ ولما ذكر حكاية بلعم وهو كان عالما بالاسم الأعظم ثم بين لنا علامة من هو مخلوق لجهنم وختم بكمال غفلتهم نبهنا أن لا نكون من الغافلين فقال: (ولله الأسماء الحسنى)/١٢..
٢ قال ابن كثير في تفسيره: والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء مدرج في هذا الحديث يعني حديث الترمذي الذي سرد فيه الأسماء وأنهم جمعوها من القرآن/١٢ فتح..
٣ كما ورد: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)/١٢ وجيز، ومنه الحديث رواه أحمد في مسنده وأخرج أبو حاتم وابن حبان في صحيحه بمثله/١٢ فتح. [وقال الشيخ أحمد شاكر في (تعليقه على المسند) (٣٤١٢): إسناده صحيح]..
٤ قوله تعالى: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته ما يفعله كثير من الفلاسفة والمتكلمين المتفلسفين الذين يجعلون الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني تخالف لغة العرب وتناقض ثبوت الصفات فهؤلاء عمدوا إلى لفظ الغنى والقديم والواجب بنفسه فصاروا يجعلونها تدل على معاني وتستلزم معاني تناقض شيء من الصفات وتوسع في التعبير ثم ظنوا أن هذا الذي فعلوه موجب الأدلة غلط منهم فموجب الأدلة العقلية لا تتلقى عن مجرد التعبير وموجب الأدلة السمعية تتلقى من عرف التكلم بالخطاب لا من الوضع للأحداث فليس لأحد أن يجعل الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني ثم يريد أن يفسر مراد الله بتلك المعاني بل هذا من فعل أهل الإلحاد المفترين؛ فإن هؤلاء عمدوا إلى معاني ظنوها ثابتة فجعلوها هي معنى الوحدة والوجوب والغنى والقدم ونفي المثل، ثم عمدوا إلى ما جاء في القرآن والسنة من تسمية الله بأنه أحد واحد وغني ونحو ذلك من نفي المثل والكفو عنه فقالوا: هذا يدل على المعاني التي سميناها بهذه الأسماء، وهذا من أعظم الافتراء على الله وكذلك فعل من فعل بلفظ المتكلم وغير ذلك من الأسماء ولو فعل هذا بكلام سيبويه وبقراط؛ لفسد ما ذكروه من النحو والطب ولو فعل هذا بكلام آحاد العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، لفسد العلم بذلك ولكان ملبوسا عليهم فكيف إذا فعل هذا بكلام رب العالمين وهذه طريقة الملاحدة الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته ومن شركهم في بعض ذلك مثل قول من يقول: الواحد هو الذي لا ينقسم ومعنى قوله لا ينقسم أي: لا يتميز منه شيء عن شيء ويقول: لا تقوم به صفة ثم زعموا أن الأحد والواحد في القرآن يراد به هذا ومعلوم أن كل ما في القرآن من اسم الواحد والأحد كقوله تعالى: (وإن كانت واحدة فلها النصف) (النساء: ١١)، وقوله: (قالت إحداهما يا أبت استأجره) (القصص: ٢٦)، وقوله: (ولم يكن كفوا أحد) (الإخلاص: ٤) وقوله: (وإن أحد من المشركين استجارك) (التوبة: ٦)، وقوله: (ذرني ومن خلقت وحيدا) (المدثر: ١١)، وأمثال ذلك يناقض ما ذكروه فإن هذه الأسماء أطلقت على قائم بنفسه مشار إليه يتميز منه شيء عن شيء وهو الذي يسمونه في اصطلاحهم جسما، وكذلك إذا قالوا الموصوفات تتماثل أو الأجسام تتماثل أو الجواهر تتماثل وأرادوا أن يستدلوا بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) (الشورى: ١١)، على نفي مسمى هذه الأمور التي سموها بهذه الأسماء في اصطلاحهم الحادث كان هذا افتراء على القرآن فإن هذا ليس هو المثل في لغة العرب لا لغة لقرآن ولا غيرها، قال تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (محمد: ٣٨)، فنفى مماثلة هؤلاء لهؤلاء مع اتفاقهم في الإنسانية فكيف يقال: إن لغة العرب توجب أن كل ما يشار إليه مثل لكل ما يشار إليه وقال تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) (الفجر: ٧، ٨)، فأخبر أنه لم يخلق مثلها في البلاد وكلاهما بلد فكيف يقال، إن كل جسم فهو مثل لكل جسم في لغة العرب حتى يحمل على ذلك قوله (ليس كمثله شيء) وقد قال شاعر العرب: ليس كمثل الفتى زهير.
وقال الآخر: ما إن كمثلهم في الناس من بشر
ولم يقصد هذا أن ينفي وجود جسم من الأجسام، وكذلك لفظ التشابه ليس هو التماثل في اللغة قال تعالى: (وأتوا به متشابها) (البقرة: ٢٥) وقال تعالى: (متشابها وغير متشابه) (الأنعام: ١٤١)، ولم يرد به شيئا هو مماثل في اللغة، وليس المراد هنا كون الجواهر متماثلا في العقل أو ليست متماثلة فإن هذا مبسوط في موضعه، بل المراد أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن لا يجعلون مجرد هذا موجبا لإطلاق اسم المثل ولا يجعلون نفي المثل نفيا لهذا فحمل القرآن على ذلك كذب على القرآن/١٢، هذا ما قاله شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام قدس الله روحه في بعض رسائله. .

﴿ وممّن١ خلقنا أمّة يهدون بالحق ﴾ يقولونه ويدعون إليه ﴿ وبه يعدلون ﴾ يعملون ويقضون وهم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان إلى يوم الدين وهذه صفة من ذرأ للجنة كما وصف من ذرأ لجهنم.
١ ولما قال: (ولقد ذرأنا لجهنم) قال في مقابله: (وممن خلقنا أمة يهدون) الآية/١٢ وجيز..
﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ﴾ سنقربهم إلى الهلاك والعذاب قليلا قليلا ﴿ من حيث لا يعلمون ﴾ كلما جددوا معصية جددنا لهم وأسبغنا عليهم النعم وننسيهم الشكر والاستدراج١ الاستصعاد أو الاستنزال درجة درجة.
١ من الدرجة وذلك؛ لأن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة/١٢ منه..
﴿ وأُملي لهم ﴾ وأمهلهم ليزدادوا ضلالا بعد ضلال ﴿ إن كيدي١متين ﴾ مكري شديد.
١ ولذلك لما قيل لحكيم فلان عدوك قال: اللهم طول عمره وزاد ماله، ولما أمر في هذه السورة بالتوحيد، وعن مُرّة: عندهم الآمر بترك الطريقة القديمة مجنون سيما إذا قال كثرة النعمة وطول العمر مصيبة أمر بتفكرهم في أن يعلموا أنه ليس بمجنون فقال: (أو لم يتفكروا)/١٢ وجيز..
﴿ أولم يتفكروا١ فيعلموا ﴿ ما بصاحبهم ﴾ أي : محمد عليه الصلاة والسلام ﴿ من جِنّة٢ جنون نزلت٣ حين علا عليه الصلاة والسلام الصفا فدعاهم يحذر فقال قائل منهم : إن صاحبكم مجنون بات يهوت إلى الصباح ﴿ إن هو إلا نذير مبين ﴾ إنذاره.
١ في الاستفهام معنى التحريض مع شيء من التوبيخ/١٢ وجيز..
٢ حاصله أو لم يعملوا الفكر ليعلموا ما بصاحبهم من جنة وعدم إعمال الفكر في الأمور علامة الجنون سيما إذا انضم إليه التكلم بقضية ظاهر نقيضها على كل عاقل/١٢ وجيز..
٣ قاله قتادة/١٢..
﴿ أولم ينظروا ﴾ نظر استدلال ﴿ في ملكوت السماوات والأرض ﴾ ربوبيتها وملكها وقيل عجائبها والتاء فيه للمبالغة ﴿ وما خلق الله من شيء ﴾ وفيما يقع عليه اسما لشيء ففي كل شيء له آية ﴿ وأن ﴾ أي : أنه ﴿ عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم ﴾ أي : أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم ليسارعوا إلى ما ينجيهم من العذاب واسم كان ضمير الشأن ﴿ فبأيّ حديث بعده ﴾ بعد القرآن ﴿ يؤمنون ﴾ إن لم يؤمنوا به وليس بعد هذا البيان حديث آخر ينتظر وروده ليؤمنوا به.
﴿ من يُضلل الله فلا هادي له ويذرُهم في طغيانهم يعمهون ﴾ حال من هم ومن قرأ ويذرهم بالياء والجزم فعطل على محل فلا هادي.
﴿ يسألونك١ عن الساعة ﴾ أي : القيامة ﴿ أيّان مرساها٢ متى يكون، وأي وقت إثباتها ؟ نزلت في قريش يسألون وقتها استبعادا لوقوعها ﴿ قل إنما علمها عند ربي لا يُجلّيها لوقتها إلا هو ﴾ أي : لا يظهر أمرها في وقتها إلا هو أي : الخفاء به مستمر إلى وقت الوقوع واللام للتأنيث كقولهم كتب لثلاث من رجب ﴿ ثقُلت في السماوات والأرض ﴾ عظمت وشقت٣ على أهل السماوات والأرض لهولها أو ثقلت٤ عليهما عند الوقوع حتى انشقت وانهدمت، أو ثقل٥ علمها وخفاؤها على أهلهما وعلى الوجوه كلمة في استعارة منبهة على تمكن الثقل، أو معناه خفيت في السماوات والأرض لا يعلمها شيء وكل خفي ثقيل ﴿ لا تأتيكم إلا بغتة ﴾ فجأة على غفلة ونصبه على المصدر فإنها نوع من الإتيان ﴿ يسألونك كأنك حفيٌّ عنها ﴾ أي : عالم بها من حفى٦ عن الشيء بالغ في السؤال عنه، والمبالغة في السؤال مستلزم للعلم أطلق الحفي وأريد العالم، أو كأنك بالغت في السؤال عنها حتى علمت، أو عنها متعلق بيسألونك أي : يسألونك عنها كأنك شفيق بهم من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا٧ قالوا يا محمد بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة، وكأنك في موقع الحال أي : مشبها حالك بحال الحفي ﴿ قل إنما علمُها عند الله ﴾ لا يطلع عليه أحد كرره تأكيدا ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أن علمها٨ مختص بالله.
١ ولما قال قد اقترب أجلهم وما هذا إلا تخويفهم من الساعة فقد سألوا منها فقال: (يسألونك) الآية/١٢ وجيز..
٢ رُسُوُّ الشيء ثباته واستقراره/١٢ منه..
٣ نقله ابن جرير عن ابن عباس واختاره من بين الأقوال/١٢ منه..
٤ قول ابن عباس وابن جريج/١٢..
٥ قاله ابن نجيح والضحاك وقد روي عن ابن عباس/١٢ منه..
٦ الأول أن حفى مجاز عن العلم والوجه الثاني أنه مستعمل في معناه الحقيقي فلا تغفل/١٢ منه..
٧ رواه قتادة وغيره/١٢..
٨ لما اختص علم الساعة بأنه لا يعلمها إلا هو ربما ظن ظان أنه -صلى الله عليه وسلم- عالم بها لما يلقى إليه من الغيب فرفع الظن وقال: (قل لا أملك) الآية/١٢ وجيز..
﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرًّا ﴾ أي : جلب نفع ولا دفع ضر ﴿ إلا ما شاء١ الله ﴾ : أي : لكن ما شاء يصل فمنقطع أو إلا نفعا وضرا يملكني الله ويوفقني به فتمصل ﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء ﴾ أي : لكانت حالي من استكثار الخير واستفزاز٢ المنافع واجتناب السوء على خلاف ما هي عليه، فلم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى، ورابحا وخاسرا في التجارة ﴿ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾ أي : إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة لهم فإنهم المنتفعون بهما، أو ما أنا إلا نذير للكافرين وبشير للمؤمنين فمتعلق النذير محذوف، ونزلت حين قالت قريش : ألا تعلم الرخص قبل الغلاء فتشتري وتربح والأرض التي تريد أن تجدب فترتحل٣ إلى المخصبة.
١ هو إظهار للعبودية وبراءة عما يختص بالربوبية من علم الغيب أي: أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني/١٢ مدارك، وهو إظهار للعبودية والتبرء عن ادعاء العلم بالغيوب/١٢ بيضاوي..
٢ الاستكثار/١٢ منه..
٣ ولما ذكر من أول السورة إلى هذه الآية التي هي قريب من آخرها القصص والأمثال والأحكام في المهتدين والضالين وكل من القسمين أصناف مختلف بعضهم في ثبوت ورسوخ من حالهم وبعضهم في تزلزل وتقلب أخذ يبين أن هذا تقدير خالقكم من ابتداء خلقكم ولذلك يكون إلى الانتهاء فقال: (هو الذي)/١٢ وجيز..
﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ آدم ﴿ وجعل منها زوجها ﴾ خلق من ضلع آدم حواء ﴿ ليسكُن ﴾ ليطمئن ﴿ إليها ﴾ ويأنس بها فإنها جزءه ﴿ فلما تغشّاها ﴾ جامعها ﴿ حملت حملا خفيفا ﴾ عليها يعني النطفة ﴿ فمرّت به ﴾ استمرت به أو قامت وقعدت بالحمل لخفته ﴿ فلما أثقلت ﴾ صارت ذات ثقل لكبر الولد ﴿ دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا ﴾ بشرا سويًّا فإنهما أشفقا أن يكون بهيمة ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ لك.
﴿ فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء١ فيما آتاهما ﴾ لما حملت حواء جاءها إبليس في غير صورته وقال : هذا الذي في بطنك ربما يكون بهيمة، وهل تدري من أين يخرج فخوفها مرارا كثيرة ثم قال : لي عند الله منزلة وإن دعوت أن يخرج سالما سويا أتسميه عبد الحارث وهذا اسم إبليس في الملائكة، فلم ينزل بها حتى غرها فسمته عبد الحارث بإذن من آدم ولم تعرف حواء أنه إبليس وقد صح هذا النقل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وكثير من السلف٢ والخلف، وهذا ليس بشرك حقيقي لأنهما ما اعتقدا أن الحارث ربه بل قصدا إلى أنه سبب صلاحه فسماه الله تعالى شركا للتغليظ ويكون لفظ شركاء من إطلاق الجمع على الواحد ﴿ فتعالى الله عما يُشركون٣ فإن الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم، وعن الحسن البصري رحمه الله يقول : هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا، ونصروا، وعلى هذا تقدير الآية جعل أولادهما له شركاء فيما أتى أولادهما فسموه عبد شمس وعبد مناف وغيرهما، فحذف المضاف وهو الأولاد وأقيم المضاف إليه مقامه، وقوله :( شركاء ) و( تعالى الله عما يشركون ) بلفظ الجمع٤ يدل عليه قيل معناه هو الذي خلق آل قصي وهم قريش من نفس واحدة وهو قصي فجعل من جنسها زوجها عربية قرشية فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد المناف وعبد العزى وعبد القصي وعبد الدار وقيل تم الكلام عند قوله آتاهما ثم ذكر كفار مكة فقال :( تعالى الله عما يشركون ).
١ قال قتادة أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة/١٢ لباب..
٢ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير والسدي وذكر الترمذي والنسائي والإمام أحمد والحاكم في مستدركه وابن مردويه وابن أبي حاتم حديثا مرفوعا يدل على ما نقلناه عن ابن عباس لكن في رواة الكل نوع ضعف هكذا قال المحدثون/١٢ منه وفي الفتح حسنه الترمذي وصححه الحاكم/١٢. [وضعفه الشيخ الألباني في (ضعيف سنن الترمذي)]..
٣ أيُّ: شرك كان/١٢..
٤ قال الشيخ ولي الله المحدث الدهلوي وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى متخالفة في المبنى ولا يخلو كل واحد منها من بعد وضعف وتكلف بوجوه: الأول أن الحديث المرفوع المتقدم يدفعه وليس في واحد من تلكم الأقوال قول مرفوع حتى يعتمد عليه ويصير إليه بل هي تفاسير بالآراء المنهي عنها المتوعد عليها. الثاني: أن فيه انخرام نظم الكلام سياقا وسباقا. الثالث: أن الحديث صرح بأن صاحبة القصة هي حواء وقوله: (جعل منها زوجها) إنما هو لحواء دون غيرها، والقصة ثابتة ولا وجه لإنكارها بالرأي لمحض. الرابع: إن الحديث ليس فيه ذكر حواء وكان هذا شركا منها في التسمية، ولم يكن شركاء في العبادة، قيل: والشرك في التسمية أهون قلت: وفيه بعد ظاهر، لأن الله تعالى ساق آيات التشنيع عليها وهو شرك وإن لم يكن في العبادة، وما قيل إنها إنما قصدت أن الحارث كان سبب نجاة الولد كما يسمى الرجل نفسه عبد ضيفه فهو خطأ؛ لأن الأعلام كما يقصد بها المعاني العلمية كذلك قد يلاحظ معها المعاني الأصلية بالتبعية كما صرح به أهل المعاني، وكان اسم أبي بكر الصديق في الجاهلية عبد الكعبة واسم أبي هريرة عبد الشمس فغيّرهما النبي -صلى الله عليه وسلم- سماهما صديقا وعبد الرحمن وما قيل: إنها سمته بعبد الحارث بإذن من آدم فهذا يحتاج إلى دليل يدل عليه ويصح وأنى له الدليل ولعلها سمته بغير إذن منه ثم تابت من ذلك والحاصل أن ما وقع إنما وقع من حواء من آدم عليه السلام، ولم يشرك آدم قط وعلى هذا في الآية إشكال والذهاب إلى ما ذكرناه متعين تبعا للكتاب والحديث وصونا لجانب النبوة عن الشرك بالله تعالى والذي ذكروه في تأويل هذه الآية الكريمة يرده كله ظاهر الكتاب والسنة كما تقدم وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل والله أعلم/١٢ فتح. .
﴿ أيُشركون ﴾ ابتداء كلام وإنكار على المشركين ﴿ ما لا يخلُق شيئا ﴾ كالأصنام ﴿ وهم يُخلَقون ﴾ مخلوقون لله جيء بضمير العاقلين بناء على اعتقادهم وتسميتهم إلها.
﴿ ولا يستطيعون لهم ﴾ لعُبّادهم ﴿ نصرا ولا أنفسهم ينصُرون ﴾ لا يقدرون على دفع مكروه كمن أراد كسرهم.
﴿ وإن تدعوهم ﴾ أي : الأصنام أو المشركين ﴿ إلى الهدى ﴾ إلى أن يهدوكم أو إلى الإسلام ﴿ لا يتّبعوكم ﴾ إلى مرادكم ولا يجيبوكم ﴿ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾ أي : سواء إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمت عن دعائهم فإن الكفار إذا نزل عليهم أمر دعوا١ الله تعالى دون الأصنام.
١ فعادتهم المستمرة وطبيعتهم أنهم صامتون عن دعوة أصنامهم وليست دعوة الأصنام إلا بحسب هواهم لأجل بيان هذه الفائدة عدل إلى الجملة الاسمية فقال: (أم أنتم صامتون) ولم يقل أم صمتم كأنه قيل لم يفرق الحال بين إحداثكم دعائهم وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم عند الحاجة والشدائد/١٢ منه ووجيز..
﴿ إن الذين تدعون ﴾ تعبدونهم ﴿ من دون الله ﴾ أي : الأصنام ﴿ عباد أمثالكم ﴾ مملوكون مسخرون ﴿ فادعوهم فليستجيبوا لكم ﴾ أي : لا يقدرون على إنجاح سؤال سائل ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ إنهم آلهة.
﴿ ألهم أرجل يمشون بها ﴾ هذا بيان لقصور معبودهم عن عبادهم كأنه قال : عباد أمثالكم بل أنتم أكمل ﴿ أم لهم أيْدٍ يبطِشون بها أم لهم أعين يُبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ﴾ يا محمد ﴿ ادعوا شركاءكم ﴾ في عداوتي ﴿ ثم كيدون ﴾ ثم بالغوا أنتم وشركاؤكم في مكروهي ﴿ فلا تُنظِرون ﴾ لا تمهلوني فإني لا أعبأ بكم.
﴿ إن وليِّي الله الذي نزّل الكتاب ﴾ القرآن ﴿ وهو يتولّى الصالحين ﴾ يلي أمرهم وينصرهم.
﴿ والذين تدعون من دونه ﴾ دون الله ﴿ لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ﴾ فكيف أخاف ذاك العابد وذاك المعبود.
﴿ وإن تدعوهم ﴾ الأصنام ﴿ إلى الهدى ﴾ أي : ما هو صلاحهم أو إلى أن يهدوكم ﴿ لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك ﴾ أي : كأنهم ينظرون فإنهم نحتوها مصورين بالعين والأنف والأذن ﴿ وهم لا يُبصِرون ﴾ لأنهم لا يقدرون إيجاد النور في أعين أصنامهم أو ضمير تدعوهم وتراهم إلى المشركين لقوله تعالى :( صم بكم عمي ) ( البقرة : ١٨ ).
﴿ خذ العفو ﴾ من أخلاق الناس من غير تجسس كقبول أعذارهم والمساهلة معهم وقد ورد١ أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما هذا يا جبريل قال : إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك ) أو خذ الفضل وما تسهّل به من أموالهم وذلك قبل وجوب٢ الزكاة ﴿ وأمر بالعُرف ﴾ بالمعروف وهو كل ما يعرفه الشرع ﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ لا تقابل السفه بالسفه.
١ رواه ابن مردويه عن سعد بن عبادة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وروى ابن جرير وابن أبي حاتم مرسلا/١٢ منه. [وذكره السيوطي في (الدر المنثور) (٣/٢٨٠) وعزاه لابن أبي الدنيا وابن جرير ولبن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الشعبي]..
٢ فإنه لما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعا وكرها/١٢ منه..
﴿ وإما ينزغنّك من الشيطان نزْغٌ ﴾ نزغه إذا طعنه وكأن الشيطان يطعن حين يغري الناس إلى المعاصي وحاصله إذا عرض لك منه أدنى وسوسة تصدك عن الإعراض عن الجهال ﴿ فاستعذ بالله ﴾ فإنه الملجأ أو المنجى ﴿ إنه سميع ﴾ بالدعاء ﴿ عليم ﴾ بالمصالح وبأحوال الناس.
﴿ إن الذين اتقوا ﴾ الكبائر ﴿ إذا مسّهم طائف ﴾ لمة ووسوسة من طاف به الخيال يطيف أو من طاف يطوف ومن قرأ طيف فهو مصدر، أو تخفيف طيف كلين من لان يلين أو كهين من هان يهون ﴿ من الشيطان تذكّروا ﴾ وعيد الله ووعده ﴿ فإذا هم مبصرون ﴾ مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فأنابوا لا كالكفار العمي.
﴿ وإخوانهم ﴾ أي : الكفرة فإنهم إخوان١ الشياطين وأتى بضمير الجمع للشيطان، لأن المراد منه الجنس ﴿ يمدّونهم ﴾ ضمير الفاعل للشياطين أي : يكون الشياطين مددا لهم ﴿ في الغيّ ﴾ أو المراد من الإخوان الشياطين وضمير إخوانهم للجاهلين أي : شياطينهم يكونون مددا لهم ﴿ ثم لا يُقصرون ﴾ لا يمسكون على إغوائهم، أو الضمير للكفرة أي : لا يكفون عن الغي أو الضمير للكفرة٢ والشياطين جميعا أي لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنهم.
١ قال الله تعالى: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)/١٢ منه..
٢ هو قول ابن عباس والسدي/١٢..
﴿ وإذا لم تأتهم بآية ﴾ من القرآن أو معجزة اقترحوها ﴿ قالوا لولا اجتبيتها ﴾ اختلقتها من قبل نفسك قيل : كانوا يسألون الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها وأنشأتها من نفسك، أو معناها لم لا تجهد نفسك في طلب الآيات من الله تعالى حتى نراها ونؤمن بها ﴿ قل إنما أتّبع ما يوحى إليّ من ربي ﴾ لست بمختلق أو إن منعها لا أسألها إلا بإذنه ﴿ هذا ﴾ أي : القرآن ﴿ بصائر ﴾ للقلوب بها تبصر الحق ﴿ من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ فلو كان لكم بصيرة لكفاكم القرآن آية.
﴿ وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا١ لعلكم ترحمون ﴾ الأصح أنها نزلت في ترك التكلم في الصلاة٢ أو ترك القراءة مع الإمام إذا جهر فيها ولا شك أنه يستحب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن مطلقا.
١ أي عما سواه فلا حجة فيه لمن منع القراءة مع الإمام في الجهرية للإجماع على جواز اجتماع قارئين يسمع كل واحد منهما قراءة الآخر في غير الصلاة مع أن الإمام مأمور بالسكوت وقت قراءة المأموم/١٢ تبصير الرحمن..
٢ كذا قاله ابن عباس وابن مسعود وأبو هريرة وجماعة لا تحصى من السلف قال مجاهد: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم وجماهير السلف أن المراد بذلك في الصلاة/١٢ منه، واختلف العلماء في القراءة خلف الإمام فذهب جماعة إلى إيجابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسر ّ يروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ وهو قول الأوزاعي وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أنه يقرأ فيما أسرّ الإمام فيه القراءة، ولا يقرأ فيما جهر الإمام فيه يروى عن ابن عمر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسر الإمام أو جهر الإمام يروى ذلك عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي حجة من لا يرى القراءة خلف الأمام هذه الآية، وحجة من قال يقرأ في السرية دون الجهرية أن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام، فحملنا مدلول الآية على الصلاة الجهرية وحملنا مدلول السنة على الصلاة السرية جمعا بين دلائل الكتاب والسنة، وحجة من أوجب القراءة خلف الإمام في الصلاة السرية والجهرية قال: الآية واردة في غير الفاتحة؛ لأن دلائل السنة قد دلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام، ولم يفرق بين السرية والجهرية، قالوا: وإذا قرأ الفاتحة خلف الإمام فيتتبع سكتاته ولا ينازعه في القراءة، ولا يجهر بالقراءة خلفه ويدل عليه ما روي عن عبادة بن الصامت قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: (أراكم تقرءون وراء إمامكم قال قلت: يا رسول الله أي والله. قال. لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) أخرجه الترمذي بطوله وفي الصحيحين أقصر منه: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) يقولها ثلاثا غير تمام. فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام قال: اقرأ بها في نفسك/ لباب التأويل المعروف بالخازن. وقال الرازي لا حجة لمانعي القراءة في الآية لأن الخطاب فيها مع الكفار؛ لأنهم طلبوا معجزة فبين تعالى أن القرآن بصائر وهدى لو استمعوا له وأنصتوا حتى يفقهوا فصاحته وعلومه الكثيرة الدالة على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- ولو قلنا إن المراد منه قراءة المأموم خلف الإمام لم يحصل بين هذه الآية وبين ما قبلها تعلق بوجه من الوجوه، وانقطع النظم وحصل فساد الترتيب، وذلك لا يليق بكلام الله تعالى فوجب أن يكون المراد منه شيئا آخر سوى هذا الوجه، وعند هذا يسقط استدلال الخصوم بهذه الآية من كل الوجوه ومما يقوى أن حمل الآية على ما ذكرناه أولى وجوه: الأول: أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم قالوا: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) (فصلت: ٢٦) فلما حكى عنهم ذلك ناسب أن يأمرهم بالاستماع والسكوت حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن إلى آخر ما بين الوجوه وللقوم في المسألة كلام مشبع ورسائل متفرقة ردًّا وإثباتا من شاء تفاصيل المسألة فليرجع إليها وذكر دلائل المسألة في هذا المقام أزيد مما بينا يوجب السآمة ويشغل عن أصل المراد منه:
فدع عنك نهبا صيح في حجراته! وهات حديثا ما حديث الرواحل/١٢..

﴿ واذكر ربك في نفسك ﴾ أمر بذكره أول النهار وآخره ﴿ تضرّعا ﴾ متضرعا ﴿ وخيفة ﴾ خائفا ﴿ ودون الجهر من القول ﴾ وهو كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- أن تسمع نفسك دون غيرك ﴿ بالغدو١ والآصال ﴾ بهذين٢ الوقتين لفضلهما ﴿ ولا تكن من الغافلين ﴾ عن ذكره وهذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء والآية مكية وأما حمل الآية على غير هذا المعنى فبعيد، ولا يساعده نقل سديد.
١ الغدوة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والأصيل الوقت من بعد العصر إلى المغرب/١٢فتح..
٢ والغدو جمع الغدوة والآصال جمع أصيل العشاء/١٢..
﴿ إن الذين عند ربك ﴾ أي : الملائكة المقربين ﴿ لا يستكبرون عن عبادته ويسبّحونه ﴾ ينزهونه ﴿ وله ﴾ لا لغيره ﴿ يسجُدون ﴾ لا يشركون بالعبادة غير الله تعالى أي : هم مع كونهم آمنين من سوء العاقبة وعذابه متوجهون إلى الله تعالى دائما فأنتم مع خوفكم تتمادون في الغفلة وتعبدون غيره وهذه أول سجدة في القرآن لتاليها ومستمعها بالإجماع.
والحمد لله حق حمده. .
Icon