تفسير سورة الأعراف

التيسير في أحاديث التفسير
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب التيسير في أحاديث التفسير .
لمؤلفه المكي الناصري . المتوفي سنة 1415 هـ
سورة الأعراف مكية وآياتها ٢٠٦
وأحسن ما ينبغي تقديمه في مطلع هذا الحديث هو التعريف بسورة الأعراف قبل الشروع في تفسير آياتها على وجه التفصيل.
لقد كانت ( سورة الأعراف ) هي أطول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وهي ثالث سورة مكية تقع في المصحف الكريم حسب ترتيبه المعهود، بالإضافة إلى سورة الفاتحة وسورة الأنعام المكيتين، وتعتبر أوفى سورة عالج فيها الوحي الإلهي بالشرح والتوضيح مجموع العقائد الأساسية للدعوة الإسلامية التي هي خاتم الرسالات الإلهية. وهي في نفس الوقت أول سورة اعتنت عناية خاصة بعرض قصص الأنبياء السابقين مع أممهم على أنظار الأمة الإسلامية، وجميع الأجناس البشرية، إعانة لها على التبصر والاعتبار، وتجنب الموبقات والأخطار، فتحدثت عن آدم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى عليهم الصلاة والسلام، وقد خصصت سورة الأعراف التي نحن بصدد تفسيرها من بين هذه القصص قصة موسى وبني إسرائيل، بمزيد من الاستيعاب والتفصيل، مما يساعد على تفهم الأطوار الغريبة التي مر بها هذا العنصر المتمرد العليل، كقوله تعالى :﴿ قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون ﴾ وقوله تعالى :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، اتخذوه وكانوا ظالمين ﴾، وقوله تعالى :﴿ إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وكذلك نجزي المفترين ﴾ وقوله تعالى :﴿ وقطعناهم في الأرض أمما ﴾ وقوله تعالى :﴿ وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾.
والطابع الغالب على هذه السور هو طابع الإنذار، والوعيد بالهلاك والدمار، لكل من يكذب بآيات الله، ولا يشكر نعمة الله، ويستكبر عن طاعة الله، ويتولى غير الله، كقوله تعالى :﴿ وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ﴾، وكقوله تعالى :﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون، أو آمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون، أفأمنوا مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ وقوله تعالى :﴿ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وكذلك نجزي المجرمين ﴾.
وأطلق على هذه السورة اسم " سورة الأعراف " أخذا من قوله تعالى فيها ﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، ونادوا أصحاب الجنة سلام عليكم ﴾، وقوله تعالى أيضا :﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾.
وسورة الأعراف هي إحدى السور التسع والعشرين في كتاب الله التي بدأت ببعض حروف التهجي، وكما بدئت بها سورة البقرة :﴿ ألم، ذلك كتاب الله لا ريب فيه هدى للمتقين ﴾ بدئت سورة الأعراف أيضا ﴿ المص، كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾ وكأن في ذلك المطلع تنبيها إلى أن كتاب الله وإن كان مؤلفا في ظاهره من جنس حروف التهجي التي هي في متناول كل من ينطق باللسان العربي من مختلف الأجناس، إلا أن البشر لا يستطيعون أن يؤلفوا من تلك الحروف إلا كلاما عاديا وأوزانا، بينما الحق سبحانه وتعالى ينزل بها على رسوله قرآنا معجزا وفرقانا، ويودع فيها من سر علمه وحكمته هدى وتبيانا.
وكما تحدثت سورة الأعراف في بدايتها عن كتاب الله فكان براعة الاستهلال ﴿ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾ تحدثت في نهايتها عن كتاب الله أيضا، فكان مسك الختام وفصل المقال ﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ﴾.
والآن فلنتجول في هذا البستان الإلهي النضير، تجول المتبصر المستنير، ولنقف ولو وقفة قصيرة عند بعض زهراته، عسى أن نستمتع بعبير نفحاته.

في حصة هذا اليوم نشرع في تفسير الحزب السادس عشر في المصحف الكريم، وأول ربع فيه يبتدئ بقوله تعالى في فاتحة سورة الأعراف :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم المص، كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾ وينتهي بقوله تعالى :﴿ وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين ﴾.
يقول الله تعالى : في خطابه لنبيه خطاب القريب للقريب :﴿ المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾ فها هنا يمتن الحق سبحانه وتعالى على نبيه باختياره للنبوة من بين سائر العرب، واصطفائه للرسالة من بين كافة البشر، ومعنى ذلك أنه قد وقع الاختيار عليه بدلا من غيره لحكمة إلهية، وأنه مكلف في هذه الأرض بأداء رسالة سماوية سامية ﴿ كتاب أنزل إليك ﴾ إليك يا محمد، لا إلى غيرك من العرب والعجم، فأنت خاتم الرسل إلى كافة الشعوب والأمم. والبشر بالنسبة إلى هذا الكتاب الإلهي الحكيم نوعان :﴿ مؤمنون ﴾ يتوجه إليهم كتاب الله بالتذكير والوعد والبشارة، و﴿ مكذبون ﴾ يتوجه إليهم بالتحذير والوعيد والنذارة ﴿ لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾.
ونظرا لما يفرضه القيام بأداء هذه الرسالة الثقيلة الأعباء، من صبر وجلد وتضحية، وكفاح متواصل الحلقات، مع ما يستتبعه ذلك من مواجهة الصدمات والأزمات، وجه الحق سبحانه وتعالى خطابه الرقيق الرفيق إلى خاتم رسله، قائلا له تثبيتا لفؤاده، وتشجيعا له على بلوغ مراده، ﴿ فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾ أي فلا تتحرج في إبلاغه والإنذار به، لأن الله تعالى قد تعهد في الأزل بأن يشرح صدرك ويعصمك من الناس ﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾﴿ والله يعصمك من الناس ﴾ وإذن فما عليك أيها الرسول إلا أن تقوم بأداء الأمانة وتبليغ الرسالة، ولا يضق صدرك بتكاليف الوحي المنزل، فإنك مؤيد معان، والله المستعان، على غرار قوله تعالى في آية أخرى ﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ﴾.
وبهذا التفسير الواضح يصبح وضع الآية في معناها المراد على النحو الآتي :﴿ كتاب أنزل إليك، لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه ﴾ والتقديم والتأخير أسلوب من أساليب البلاغة المعروفة عند العرب، فقد يقدمون اللفظ على موضعه الطبيعي من الجملة، تنبيها إلى أن معناه هو محور الحديث، وإلى أن السياق مرتبط به أكثر من غيره، حتى يلتفت إليه ذهن المخاطب التفاتا خاصا.
قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " إن كان " الحرج " هو الشك، فقد أنار الله فؤاده " أي النبي " باليقين، وإن كان هو التبرم، فقد حبب الله إليه الدين وخفف عليه ثقل العبادة، حتى جعلت قرة عينه في الصلاة، وإن كان هو الضيق، فقد وسع الله قلبه بالعلوم وشرح صدره بالمعارف، وذلك مما فتح الله عليه من علوم القرآن ".
وإذا كان الخطاب الإلهي قد توجه إلى رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم مباشرة بوجوب أداء الأمانة وتبليغ الرسالة، دون تهاون ولا تردد ولا اعتذار، فإن توجيه هذا الخطاب الإلهي عن طريقه إلى كافة ورثته من أمراء المؤمنين وعلماء المسلمين يكون من باب أولى وأحرى، إذ لا يبرر إهمال هذا الواجب أو التهاون فيه أي مبرر شرعي أو عقلي، قال القاضي عبد الجبار : " وإذا بعثه الله تعالى – أي بعث نبيه – على الأداء، وتوعده على تركه، فغيره بذلك أولى ".
وبمجرد ما انتهى الخطاب الإلهي من التوجه إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في شأن نزول القرآن عليه لنذارة المكذبين، وبشارة المؤمنين، انتقل الخطاب الإلهي مباشرة إلى المؤمنين بالله ورسوله، ليحدثهم في شأن نزول القرآن عليهم، إذ كما أنزل عليه لتبليغه والإنذار به أنزل عليهم لإتباعه وطاعته في السراء والضراء، والسير في حياتهم على محجته البيضاء، فقال تعالى :﴿ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من دونه أولياء ﴾ تنبيها على أن كتاب الله نزل للعمل قبل التبرك، ونزل للأحياء قبل الأموات، وتقريرا لكونه الدستور المقدس والقانون الأعلى، الحاكم على غيره، والمهيمن على سواه في جميع المجالات.
وفي التعبير بقوله تعالى :﴿ ما أنزل إليكم من ربكم ﴾ إشارة إلى أن عناية الله بخلقه، ورعايته لهم، وإلى تمهيد جميع الوسائل لتربيتهم والأخذ بيدهم، وتقويم سلوكهم، حتى يسلكوا طريق السعادة، وينالوا الحسنى وزيادة.
قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " قال علماؤنا معنى هذه الآية – اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم – أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، واستبيحوا مباحه، وارجوا وعده، وخافوا وعيده، واقتضوا حكمه، وانشروا علمه، وفضوا خاتمه، وألحقوا به ملائمه ".
وبعدما تناولت الآيات الكريمة مصرع الظالمين، وأكدت أن المرسل إليهم سيسألون يوم القيامة بمحضر الأنبياء والمرسلين، ووصفت ما تكون عليه موازين المفلحين وموازين الخاسرين، وبينت ما خص الله به النوع الإنساني من تمكين وتكريم، وكيف خلقه في أحسن تقويم، وبعدما عرض كتاب الله قصة آدم وإبليس التي تناولناها من قبل، بمناسبة عرضها في سورة البقرة، وعند الإشارة إليها في سورة آل عمران، وبعدما لفت كتاب الله النظر إلى ما آثاره أمر الله لملائكته بالسجود لآدم من حوار واستفسار، وجه الحق سبحانه وتعالى أربعة نداءات إلهية إلى الناس كافة، يصفهم فيها بوصفهم المشترك العام، وهو بنوتهم جميعا لآدم عليه السلام، تذكيرا لهم بنعمة الوحدة، الوحدة الإنسانية المتمثلة في تناسلهم وتسلسلهم من أب واحد، واشتراكهم في رحم واحد، هو رحم الآدمية والإنسانية، ذلك الأمر الذي يجب أن يكون باعثا لهم على التعاطف والتراحم، لا على التقاطع والتلاحم، وهذه النداءات الأربعة هي الوحيدة من نوعها الواردة في كتاب الله بهذا الوصف الجامع ﴿ يا بني آدم ﴾، أحدها سيرد في الربع القادم، وهو قوله تعالى :﴿ يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آيتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
والثلاثة الباقية منها واردة في هذا الربع :
﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى، ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلكم يذكرون ﴾.
﴿ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما ﴾ – الآية -.
﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين ﴾.
الربع الثاني من الحزب السادس عشر
في المصحف الكريم
وهذا الربع، يتحدث أكبر عدد من آياته الكريمة، عن مشاهد يوم القيامة وأهوالها العظيمة، فيصف أحوال أصحاب الجنة وأصحاب النار، ويعرض ما يتبادله الفريقان من النداءات والأحاديث والحوار.
ولفهم الآيات الأولى في هذا الربع وربطها بما سبقها، نرى من المناسب أن نعود إلى بعض آيات الربع الماضي، فقد رأينا فيه كيف امتن الحق سبحانه وتعالى على عباده بما مكنهم في الأرض من حياة واستقرار، إذ جعلها مسخرة لهم، ووضعها تحت تصرفهم، ولائم بين طبيعتها وطبيعتهم، وآتاهم فيها من أسباب الكسب ووسائل العيش ما يطيب معه القرار، وإن كان شكرهم لله يتناسب مع واسع عطائه، وكثرة نعمه وآلائه ﴿ ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش، قليلا ما تشكرون ﴾.
كما رأينا فيه كيف امتن سبحانه وتعالى على عباده بما خصهم به دون غيرهم من بقية المخلوقات، من نعمة الستر، وما آتاهم من المواد الصالحة لاستعمال اللباس الذي يواري سوآتهم، ويستر عوراتهم، وما أكرمهم به من الرياش والمتاع والأثاث زيادة في التوسعة عليهم، حتى يستوفوا حظهم، في العيش الكريم، من الضروريات والحاجيات والكماليات، ثم ما أعده لهم من لباس التقوى الذي هو أبهى لباس وأشرف حلة يتزين بها عباده المتقون ﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى، ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ﴾ وإلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في سورة النحل :﴿ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ﴾. ودعا الحق سبحانه وتعالى عباده إلى أن يظهروا نعمة الله عليهم فيتجملوا ويتزينوا، ولاسيما في مواطن الخير، كبيوت الله والمناسبات الدينية وما شابهها ﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾، كما دعاهم سبحانه إلى أن يقبلوا على مائدته الكريمة، ليتناولوا منها ما لذ وطاب، لكن حذرهم في نفس الوقت من مغبة الإسراف في الأكل والشراب، حفظا لصحتهم الغالية، وإعانة لهم على القيام بواجباتهم الدينية والدنيوية، ﴿ وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين ﴾ قال بعض السلف : جمع الله الطب كله في نصف آية ﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ﴾.
وبعدما لفت كتاب الله في الربع الماضي أنظار عباده إلى المنن التي امتن عليهم بها، ودعاهم إلى التنعم بها دون إسراف ولا إفراط، توجه الخطاب الإلهي في هذا الربع إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، داعيا إياه إلى التصدي بالرد على كل من يدعون الناس إلى أن يعيشوا عيشا غير كريم، والرد على كل من يدعونهم إلى أن يظهروا في المجتمع بمظهر دميم، مبينا لرسوله أن ذلك منهم مجرد تقول على الله وادعاء، ومحض افتراء، فقال تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾ أي أن الله تعالى أباحها، ودعا عباده إلى استعمالها، وما دام الحق سبحانه هو وحده المختص بالتحليل والتحريم وقد أحلها ولم يحرمها، فليست إذن بحرام.
ومما يستلفت النظر تعبير الآية الكريمة هنا بكلمة " زينة الله " على حد التعبير الوارد في آية أخرى بكلمة ﴿ فطرة الله التي فطر الناس عليها ﴾. ف ﴿ فطرت الله ﴾ وهي الإسلام تنسجم مع ﴿ زينة الله ﴾ تمام الانسجام، والتزمت والرهبانية والحرمان إنما هي بدع ابتدعها المنحرفون عن الفطرة السليمة، من أتباع الملل والمذاهب السقيمة.
وقوله تعالى هنا :﴿ التي أخرج لعباده ﴾ تنبيه إلى أن الحكمة الإلهية فيما خلقه الله من زينة وطيبات إنما هي إكرام الإنسان بسد حاجاته الضرورية، والترفيه عليه بشتى المتع والهبات الكمالية، على حد قوله تعالى في آية أخرى :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ﴾.
وقوله تعالى :﴿ والطيبات من الرزق ﴾ يقتضي أن الخبائث من الرزق حرام وغير حلال، ومن أجل ذلك وصف الله رسوله في كتابه بقوله :﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ ومن الرزق الخبيث ما كان حاصلا عن سرقة أو اختلاس أو غصب أو كسب غير مشروع.
ثم عقب كتاب الله على هذه الحقيقة الدينية بالتلويح إلى حقيقة كونية قائمة، ألا وهي أن زينة الله ورزقه يشترك في تناولهما والانتفاع بهما في هذه الحياة الدنيا المؤمن والكافر، والبر والفاجر، بمقتضى حكمته الإلهية، ورحمته الربانية، مصداقا لقوله تعالى :﴿ وسع كل شيء رحمة وعلما ﴾﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ﴾. لكن إذا كانت الشركة في زينة الله ورزقه قائمة في هذه الدنيا، فإن هذه الشركة ترتفع وتزول، ولا يبقى لها أي أثر في الدار الآخرة، إذ هناك ينفرد المؤمنون وحدهم دون الكافرين بزينة الله ورزقه الأعظم انفرادا تاما، تمييزا لهم وإكراما، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا مخاطبا لنبيه :﴿ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾. قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " يعني أن الكفار يشاركون المؤمنين في استعمال الطيبات في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة خلصت للمؤمنين في النعيم، وكان للكفار العذاب الأليم ".
ومن هنا انتقل كتاب الله إلى تقعيد قاعدة أساسية تستحق أن نقف عندها وقفة خاصة، إذ تعتبر هي المعيار الوحيد الذي حدده الشرع لتمييز الحلال من الحرام، وذلك قوله تعالى مخاطبا لنبيه وملقنا إياه :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ وبموجب هذه الآية أعلن الحق سبحانه وتعالى أنه لم يحرم على خلقه شيئا من الطيبات، فقد أحلها لهم جميعا، وإنما حرم عليهم الخبائث، الخبائث بطبيعتها، والخبائث بآثارها، ومنها الفواحش، و " الفاحشة " هي ما يشتد قبحه من الذنوب كما عرفها الإمام الزجاج، سواء كان الذنب عبارة عن عقيدة فاسدة أو عن قول فاسد، أو عن عمل فاسد، فالعقيدة الفاسدة كأن يشرك الإنسان بالله غيره ﴿ وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ﴾، والقول الفاسد كأن يتقول على الله ما لم يقل، ﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾، والعمل الفاسد كأن يصلي بالمسجد أو يطوف بالكعبة وهو عريان، وإلى هذا أشارت الآية الكريمة من قبل في هذه السورة ﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ﴾ وكأن يرتكب الإنسان فاحشة الزنى، أو فاحشة اللواط، أو يتزوج بزوجة أبيه، وإلى المثال الأول أشار قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾، وإلى المثال الثاني أشار قوله تعالى في سورة النمل :﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون ﴾، وإلى المثال الثالث أشار قوله تعالى في سورة النساء ﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباءكم من النساء إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ﴾. ومن الثابت في الكتاب والسنة أن الطاعات التي يرضى عنها الله ورسوله هي عبارة عن المعتقدات والأقوال والأعمال الصالحة، التي تتحقق عن طريقها سعادة الفرد، ورفاهية المجتمع، واستقرار الدولة، طبقا للتخطيط الإلهي الذي لا يختل، والتوجيه السماوي الذي لا يضل، وبعكس ذلك المعاصي والذنوب التي يحذر منها الله ورسوله، فهي تلتقي كلها في نقطة واحدة : فساد الفرد، وفساد المجتمع، وفساد الدولة، وما من معتقد أو قول أو فعل حرمه الله ورسوله إلا ويتبين عند تحليله وتعييره أنه عامل من عوامل الشقاء والفناء، ولو لم يتبين أثره إلا بعد مرور الأيام، إلا أن المعاصي والذنوب ليست على درجة واحدة، فمنها ما ضرره أقل، ومنها ما ضرره أكثر، ومنها ما ضرره قاصر على مرتكبه وحده، ومنها ما ضرره يقع على مرتكبه ويتعداه إلى الغير، ومن أجل ذلك كان في الذنوب ما هو من قبيل " الصغائر " وما هو من قبيل " الكبائر "، وقد أوضح الإمام الغزالي أنه ما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه. ومن اختيارات الإمام الحليمي : أنه ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها، وتنقيب الكبيرة فاحشة بقرينة صغيرة، مثال ذلك : القبلة يفعلها الرجل مع غير أهله تعتبر من الصغائر، لكن إذا فعلها مع زوجة جاره أصبحت من الكبائر، لمضاعفة ذنب القبلة بهتك حرمة الجوار، ومثال آخر : إذا زنى الرجل بامرأة يكون قد ارتكب كبيرة، فإن زنى بزوجة جاره كان قد ارتكب فاحشة، وهي أعلى درجات الكبيرة، لمضاعفة ذنب الزنى بالاعتداء على عرض الجار، ورد في الصحيحين من حديث عبد الله ابن مسعود أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم، فقال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك. وهكذا يكون ترتيب الذنوب والمعاصي حسب التدرج من الأدنى إلى الأعلى، صغائر، ثم كبائر، ثم فواحش.
ويشهد لوجود هذه الأصناف الثلاثة من الذنوب عدة آيات وردت في كتاب الله منها قوله تعالى في سورة الكهف :﴿ ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرا، ولا يظلم ربك أحدا ﴾ وقوله تعالى في سورة النجم في وصف المؤمنين ﴿ ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ قال ابن كثير : وهذا استثناء منقطع، لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.
وقوله تعالى هنا :﴿ ما ظهر منها وما بطن ﴾ بعد ذكر الفواحش وإعلان تحريمها بصفة عامة تنبيه إلى أن الإسلام لا يكتفي من معتنقيه بالشكليات والظواهر، ولا يرضى منهم بالنفاق، وإنما ينفذ إلى الأعماق والبواطن، فالنية الفاسدة والقصد السيئ والخلق المرذول الذي ينطوي عليه الشخص باطنا، والعمل القبيح الذي يتستر به عن الأعين، كل ذلك يعتبره الإسلام ذنبا ومعصية وفاحشة يؤاخذ بها المكلف، مثل ما يؤاخذ بالفواحش الظاهرة، والإسلام حريص على أن يكون الظاهر عنوان الباطن بالنسبة للمسلم، لا أن يكون ظاهره مجرد واجهة براقة تخلب الأبصار، وتخدع الأغرار، وفي نفس هذا المعنى سبق قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾ وقوله تعالى في نفس السورة :﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ﴾.
وقوله تعالى هنا :﴿ والإثم والبغي بغير الحق ﴾ نبه القاضي أبو بكر " ابن العربي " إلى أن ذكرهما بالاسم الخاص بعد دخولهما في الاسم العام – الفواحش – إنما هو لتأكيد أمرهما قصد الزجر عنهما، نظير قوله تعالى في آية أخرى :﴿ فيهما فاكهة ونخل ورمان ﴾ فذكر النخل والرمان بعد دخولهما في الاسم العام – الفاكهة – للتنويه بهما في نفس المقام، " والإثم " عبارة عن الذم الوارد في الفعل، أو عبارة عن نفس الوعيد الذي يتناول الفعل، و " البغي " تجاوز الحد والتعدي على الغير، فكل فعل ذمه الشرع واستقبحه، أو ورد في شأنه الوعيد بالعقاب على لسان الشارع يعتبر فعلا محرما، وفسر بعضهم " الإثم " بأنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، و " البغي " بأنه الخطايا المتعدية منه إلى بقية الناس، وقوله تعالى هنا :﴿ بغير الحق ﴾ تنبيه إلى أن معيار البغي والظلم الذي يميزه عن غيره هو أن يكون عملا غير مستند إلى أي سند من الحق، لا أن البغي منه ما يكون بحق، ومنه ما يكون بغير حق، فذلك بعيد عن التصور.
جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) وروى الإمام أحمد بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول اله صلى الله عليه وسلم كان يقول :( يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا ) ورواه النسائي وابن ماجه من طريق سعيد ابن مسلم. وروى الطبراني بسنده إلى سعد ابن جنادة قال :( لما فرغ رسول الله صلى الله عيه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اجمعوا، من وجد عودا فليأت به، ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به. قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه – أي ذلك القفر من الأرض – ركاما – أي متراكما بعضه فوق بعض. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( أترون هذا، فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل، ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها محصاة عليه ).
الربع الثالث من الحزب السادس عشر
في المصحف الكريم
في أول هذا الربع، يتحدث كتاب الله عن أصحاب الجنة وأصحاب النار، وحديثه عن هذين الفريقين دون ثالث لهما هو المعهود المتعارف من بداية القرآن الكريم إلى نهايته، لكنه يضيف إليهما في هذه السورة بالخصوص " أصحاب الأعراف " الذين باسمهم سميت هذه السورة " سورة الأعراف " فمن هم أصحاب الأعراف هؤلاء ؟ وما المراد بكلمة الأعراف ؟
عندما نستفسر معاجم اللغة العربية نجد أن كلمة " أعراف " هي جمع لكلمة " عرف " ومن معاني كلمة عرف المكان المرتفع، وظهر الجبل وأعلاه، ومن معانيه السور الذي يحيط بمدينة أو قصر.
وبقريب من هذا المعنى جاءت كلمة " عرفة " و " عرفات "، الدالة على الجبل المقدس الذي يقف فيه حجاج بيت الله الحرام قرب مكة المكرمة يوم تاسع ذي الحجة من كل عام. قال ابن جرير الطبري : " والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ".
" فالأعراف " يمكن حملها على أنها مواقع عالية في الدار الآخرة تشرف على الجنة والنار، وهي بمنزلة خط المرور المحروس الذي يمر عليه القادمون من سفر، لرقابتهم والتحقق من هويتهم، وتوزيعهم تبعا لما معهم من سمات وعلامات، ويظهر من سياق الآيات الواردة في هذا الربع أن مهمة أصحاب الأعراف هي القيام بفرز أهل الجنة من أهل النار عند وصولهم إلى الدار الآخرة، وتوجيه كل من الفريقين إلى مقره الأخير، جنة أو نار، بناء على معرفتهم الخاصة بكلا الفريقين، وتمييزهم لهما، بموجب السمات والعلامات التي يحملها كل فريق، بدليل قوله تعالى في نهاية الربع الماضي :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهذا يدل على معرفتهم بأصحاب النار. وقال السدي : " إنما سمي الأعراف أعرافا، لأن أصحابه يعرفون الناس ".
وأصحاب الأعراف هم من أصحاب الجنة، لمكانتهم الخاصة عند الله، تلك المكانة التي أهلتهم لرقابة الخلائق وفرزها وصرفها إلى مقرها الأخير، فهم يتقدمون إلى أصحاب الجنة بالتهنئة والتحية حينا ﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وهم يتقدمون إلى أصحاب النار بالتنكيت والتبكيت حينا ﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهم عندما تقع أبصارهم على أصحاب النار يتبرءون منهم ويبتهلون إلى الله أن لا يجعلهم معهم ﴿ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾. وقوله تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ يعود الضمير فيه على أصحاب الأعراف، وهو إشارة إلى ما يكونون عليه أثناء قيامهم برقابة الخلائق وفرزها، إذ يتأخر دخولهم إلى الجنة حتى ينتهوا من العمل الموكول إليهم، فتلك الفترة بالنسبة إليهم تكون فترة انتظار، وهم في حال فرزهم للناس وتوزيعهم لا يعرفون الوقت المحدد الذي يصل فيه دورهم لدخول الجنة، والنزول في دار القرار، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قوله تعالى في شأنهم ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ كما حققه القاضي عبد الجبار في كتابه " تنزيه القرآن عن المطاعن ". وعن الحسن أنه تلا هذه الآية ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ ثم قال : " والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها لهم " وقال ابن عباس : " هم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله ". وجاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال :( هم آخر من يفصل بينهم من العبادة، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم ) قال ابن كثير في تفسيره " وهذا مرسل حسن ".
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٦:الربع الثالث من الحزب السادس عشر
في المصحف الكريم
في أول هذا الربع، يتحدث كتاب الله عن أصحاب الجنة وأصحاب النار، وحديثه عن هذين الفريقين دون ثالث لهما هو المعهود المتعارف من بداية القرآن الكريم إلى نهايته، لكنه يضيف إليهما في هذه السورة بالخصوص " أصحاب الأعراف " الذين باسمهم سميت هذه السورة " سورة الأعراف " فمن هم أصحاب الأعراف هؤلاء ؟ وما المراد بكلمة الأعراف ؟
عندما نستفسر معاجم اللغة العربية نجد أن كلمة " أعراف " هي جمع لكلمة " عرف " ومن معاني كلمة عرف المكان المرتفع، وظهر الجبل وأعلاه، ومن معانيه السور الذي يحيط بمدينة أو قصر.
وبقريب من هذا المعنى جاءت كلمة " عرفة " و " عرفات "، الدالة على الجبل المقدس الذي يقف فيه حجاج بيت الله الحرام قرب مكة المكرمة يوم تاسع ذي الحجة من كل عام. قال ابن جرير الطبري :" والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ".
" فالأعراف " يمكن حملها على أنها مواقع عالية في الدار الآخرة تشرف على الجنة والنار، وهي بمنزلة خط المرور المحروس الذي يمر عليه القادمون من سفر، لرقابتهم والتحقق من هويتهم، وتوزيعهم تبعا لما معهم من سمات وعلامات، ويظهر من سياق الآيات الواردة في هذا الربع أن مهمة أصحاب الأعراف هي القيام بفرز أهل الجنة من أهل النار عند وصولهم إلى الدار الآخرة، وتوجيه كل من الفريقين إلى مقره الأخير، جنة أو نار، بناء على معرفتهم الخاصة بكلا الفريقين، وتمييزهم لهما، بموجب السمات والعلامات التي يحملها كل فريق، بدليل قوله تعالى في نهاية الربع الماضي :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهذا يدل على معرفتهم بأصحاب النار. وقال السدي :" إنما سمي الأعراف أعرافا، لأن أصحابه يعرفون الناس ".
وأصحاب الأعراف هم من أصحاب الجنة، لمكانتهم الخاصة عند الله، تلك المكانة التي أهلتهم لرقابة الخلائق وفرزها وصرفها إلى مقرها الأخير، فهم يتقدمون إلى أصحاب الجنة بالتهنئة والتحية حينا ﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وهم يتقدمون إلى أصحاب النار بالتنكيت والتبكيت حينا ﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهم عندما تقع أبصارهم على أصحاب النار يتبرءون منهم ويبتهلون إلى الله أن لا يجعلهم معهم ﴿ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾. وقوله تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ يعود الضمير فيه على أصحاب الأعراف، وهو إشارة إلى ما يكونون عليه أثناء قيامهم برقابة الخلائق وفرزها، إذ يتأخر دخولهم إلى الجنة حتى ينتهوا من العمل الموكول إليهم، فتلك الفترة بالنسبة إليهم تكون فترة انتظار، وهم في حال فرزهم للناس وتوزيعهم لا يعرفون الوقت المحدد الذي يصل فيه دورهم لدخول الجنة، والنزول في دار القرار، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قوله تعالى في شأنهم ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ كما حققه القاضي عبد الجبار في كتابه " تنزيه القرآن عن المطاعن ". وعن الحسن أنه تلا هذه الآية ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ ثم قال :" والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها لهم " وقال ابن عباس :" هم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله ". وجاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال :( هم آخر من يفصل بينهم من العبادة، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم ) قال ابن كثير في تفسيره " وهذا مرسل حسن ".

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٦:الربع الثالث من الحزب السادس عشر
في المصحف الكريم
في أول هذا الربع، يتحدث كتاب الله عن أصحاب الجنة وأصحاب النار، وحديثه عن هذين الفريقين دون ثالث لهما هو المعهود المتعارف من بداية القرآن الكريم إلى نهايته، لكنه يضيف إليهما في هذه السورة بالخصوص " أصحاب الأعراف " الذين باسمهم سميت هذه السورة " سورة الأعراف " فمن هم أصحاب الأعراف هؤلاء ؟ وما المراد بكلمة الأعراف ؟
عندما نستفسر معاجم اللغة العربية نجد أن كلمة " أعراف " هي جمع لكلمة " عرف " ومن معاني كلمة عرف المكان المرتفع، وظهر الجبل وأعلاه، ومن معانيه السور الذي يحيط بمدينة أو قصر.
وبقريب من هذا المعنى جاءت كلمة " عرفة " و " عرفات "، الدالة على الجبل المقدس الذي يقف فيه حجاج بيت الله الحرام قرب مكة المكرمة يوم تاسع ذي الحجة من كل عام. قال ابن جرير الطبري :" والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ".
" فالأعراف " يمكن حملها على أنها مواقع عالية في الدار الآخرة تشرف على الجنة والنار، وهي بمنزلة خط المرور المحروس الذي يمر عليه القادمون من سفر، لرقابتهم والتحقق من هويتهم، وتوزيعهم تبعا لما معهم من سمات وعلامات، ويظهر من سياق الآيات الواردة في هذا الربع أن مهمة أصحاب الأعراف هي القيام بفرز أهل الجنة من أهل النار عند وصولهم إلى الدار الآخرة، وتوجيه كل من الفريقين إلى مقره الأخير، جنة أو نار، بناء على معرفتهم الخاصة بكلا الفريقين، وتمييزهم لهما، بموجب السمات والعلامات التي يحملها كل فريق، بدليل قوله تعالى في نهاية الربع الماضي :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهذا يدل على معرفتهم بأصحاب النار. وقال السدي :" إنما سمي الأعراف أعرافا، لأن أصحابه يعرفون الناس ".
وأصحاب الأعراف هم من أصحاب الجنة، لمكانتهم الخاصة عند الله، تلك المكانة التي أهلتهم لرقابة الخلائق وفرزها وصرفها إلى مقرها الأخير، فهم يتقدمون إلى أصحاب الجنة بالتهنئة والتحية حينا ﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وهم يتقدمون إلى أصحاب النار بالتنكيت والتبكيت حينا ﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهم عندما تقع أبصارهم على أصحاب النار يتبرءون منهم ويبتهلون إلى الله أن لا يجعلهم معهم ﴿ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾. وقوله تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ يعود الضمير فيه على أصحاب الأعراف، وهو إشارة إلى ما يكونون عليه أثناء قيامهم برقابة الخلائق وفرزها، إذ يتأخر دخولهم إلى الجنة حتى ينتهوا من العمل الموكول إليهم، فتلك الفترة بالنسبة إليهم تكون فترة انتظار، وهم في حال فرزهم للناس وتوزيعهم لا يعرفون الوقت المحدد الذي يصل فيه دورهم لدخول الجنة، والنزول في دار القرار، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قوله تعالى في شأنهم ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ كما حققه القاضي عبد الجبار في كتابه " تنزيه القرآن عن المطاعن ". وعن الحسن أنه تلا هذه الآية ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ ثم قال :" والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها لهم " وقال ابن عباس :" هم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله ". وجاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال :( هم آخر من يفصل بينهم من العبادة، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم ) قال ابن كثير في تفسيره " وهذا مرسل حسن ".

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٦:الربع الثالث من الحزب السادس عشر
في المصحف الكريم
في أول هذا الربع، يتحدث كتاب الله عن أصحاب الجنة وأصحاب النار، وحديثه عن هذين الفريقين دون ثالث لهما هو المعهود المتعارف من بداية القرآن الكريم إلى نهايته، لكنه يضيف إليهما في هذه السورة بالخصوص " أصحاب الأعراف " الذين باسمهم سميت هذه السورة " سورة الأعراف " فمن هم أصحاب الأعراف هؤلاء ؟ وما المراد بكلمة الأعراف ؟
عندما نستفسر معاجم اللغة العربية نجد أن كلمة " أعراف " هي جمع لكلمة " عرف " ومن معاني كلمة عرف المكان المرتفع، وظهر الجبل وأعلاه، ومن معانيه السور الذي يحيط بمدينة أو قصر.
وبقريب من هذا المعنى جاءت كلمة " عرفة " و " عرفات "، الدالة على الجبل المقدس الذي يقف فيه حجاج بيت الله الحرام قرب مكة المكرمة يوم تاسع ذي الحجة من كل عام. قال ابن جرير الطبري :" والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا ".
" فالأعراف " يمكن حملها على أنها مواقع عالية في الدار الآخرة تشرف على الجنة والنار، وهي بمنزلة خط المرور المحروس الذي يمر عليه القادمون من سفر، لرقابتهم والتحقق من هويتهم، وتوزيعهم تبعا لما معهم من سمات وعلامات، ويظهر من سياق الآيات الواردة في هذا الربع أن مهمة أصحاب الأعراف هي القيام بفرز أهل الجنة من أهل النار عند وصولهم إلى الدار الآخرة، وتوجيه كل من الفريقين إلى مقره الأخير، جنة أو نار، بناء على معرفتهم الخاصة بكلا الفريقين، وتمييزهم لهما، بموجب السمات والعلامات التي يحملها كل فريق، بدليل قوله تعالى في نهاية الربع الماضي :﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم، ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهذا يدل على معرفتهم بأصحاب النار. وقال السدي :" إنما سمي الأعراف أعرافا، لأن أصحابه يعرفون الناس ".
وأصحاب الأعراف هم من أصحاب الجنة، لمكانتهم الخاصة عند الله، تلك المكانة التي أهلتهم لرقابة الخلائق وفرزها وصرفها إلى مقرها الأخير، فهم يتقدمون إلى أصحاب الجنة بالتهنئة والتحية حينا ﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وهم يتقدمون إلى أصحاب النار بالتنكيت والتبكيت حينا ﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ وهم عندما تقع أبصارهم على أصحاب النار يتبرءون منهم ويبتهلون إلى الله أن لا يجعلهم معهم ﴿ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾. وقوله تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ يعود الضمير فيه على أصحاب الأعراف، وهو إشارة إلى ما يكونون عليه أثناء قيامهم برقابة الخلائق وفرزها، إذ يتأخر دخولهم إلى الجنة حتى ينتهوا من العمل الموكول إليهم، فتلك الفترة بالنسبة إليهم تكون فترة انتظار، وهم في حال فرزهم للناس وتوزيعهم لا يعرفون الوقت المحدد الذي يصل فيه دورهم لدخول الجنة، والنزول في دار القرار، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قوله تعالى في شأنهم ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ كما حققه القاضي عبد الجبار في كتابه " تنزيه القرآن عن المطاعن ". وعن الحسن أنه تلا هذه الآية ﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ ثم قال :" والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها لهم " وقال ابن عباس :" هم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله ". وجاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال :( هم آخر من يفصل بينهم من العبادة، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم ) قال ابن كثير في تفسيره " وهذا مرسل حسن ".

ومن الآيات الكريمة التي تستلفت النظر في هذا الربع ما جاء فيه على لسان أصحاب الجنة في معرض ردهم على أصحاب النار الذين طلبوا منهم أن يفيضوا عليهم من الماء ومما رزقهم الله ﴿ قالوا إن الله حرمهما على الكافرين، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ فها هنا يحدد كتاب الله على لسان أصحاب الجنة تحديدا واضحا الصفات الحقيقية والمميزة للكافرين، ومن سلك مسلكهم من العصاة الضالين، وهذه الصفات لا تعدو الاستغراق في اللهو واللعب، والمبالغة في الغرور والزهو، إلى أقصى الحدود، فعقائد الدين في سلوكهم المنحرف عبارة عن طقوس وشكليات، وشرائع الدين في شريعتهم الباطلة عبارة عن جمود وقيود، وحياتهم القصيرة على وجه الأرض هي بداية الحياة ونهايتها، فلا حياة قبلها ولا حياة بعدها. وأناس سخفاء كهؤلاء يحملون هذه الأفكار البليدة، منحرفين عن فطرة الله، متمردين على نواميسه الخلقية بدءا ونهاية، لا جزاء لهم إلا الحرمان في الآخرة بعد الخسران في الدنيا ﴿ إن الله حرمهما على الكافرين ﴾.
بينما المؤمنون الصادقون الذين أسلموا وجوههم لله، فآمنوا بدينه، وقاموا بممارسة شعائره، وتطبيق شرائعه، واستعدوا للآخرة بالعمل الصالح، دون أن ينسوا نصيبهم من الدنيا جزاهم الحق سبحانه وتعالى خير الجزاء، وخصهم دون غيرهم في الآخرة بالسعادة والهناء، مصداقا لما سبق في الربع الماضي ﴿ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ﴾، والمراد أن الطيبات من الرزق يتمتع بها المؤمنون في الحال والمآل، أما من نال شهوته عاجلا، وعاقبة النار آجلا، فما ظنه " نعمة " ينقلب عليه " نقمة ".
ثم عقب الحق سبحانه وتعالى على جواب أصحاب الجنة لأصحاب النار بما يؤيده ويؤكده، قائلا في شأن أصحاب النار، ﴿ فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾ ومعنى هذه الآية الكريمة أن الكافرين جحدوا آيات الله من جميع الوجوه، وتجاهلوا لقاء يوم القيامة تجاهلا تاما، حتى كأنهم أصيبوا بالذهول والنسيان، فلم يستعدوا ليوم القيامة لا بإيمان ولا بإسلام ولا بإحسان، فعاملهم الله بالمثل، جزاء وفاقا، إذ حرمهم من إحسانه وثوابه، وأعد لهم شديد عقابه، وهذا هو المراد من لفظ النسيان، المسند مجازا إلى الرحمان، في قوله تعالى هنا :﴿ فاليوم ننساهم كما نسوا ﴾ وفي قوله تعالى في آية ثانية ﴿ اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ﴾ وفي قوله تعالى في آية ثالثة ﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾ فهو من باب المقابلة، وعلى طريق المشاكلة، وإلا فالحق سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء علما، بحيث لا يشذ عن علمه شيء، ﴿ لا يضل ربي ولا ينسى ﴾. قال القاضي عبد الجبار : " ربما قيل في قوله تعالى :﴿ فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ﴾ كيف يصح ؟ والنسيان على الله تعالى لا يصح. وجوابنا أن المراد : فاليوم لا نجازيهم بالحسنى كما لم يحسنوا بالطاعة، وأهل اللغة يستعملون النسيان بمعنى الترك، وحقيقته ما ذكرناه ".
وانتقلت الآيات الكريمة إلى وصف ما يكون عليه حال الكافرين ومن لف لفهم من المنحرفين الضالين، من استهتار بالتعاليم السماوية، رغما عن شدة وضوحها، وخروج التوجيهات الإلهية، رغما عن دقة تفصيلها – نظرا لما يداخلهم من تردد في صدق محتوياتها، ومن شك في فعالية توصياتها – حتى إذا ظهرت آثار انحرافهم عنها في الوجود، وأصبحت على مرأى منهم ومسمع، في حيز الواقع وعالم الشهود، فوجئوا مفاجأة كبرى بأن ما كان مجرد " غيب " موعود به في القرآن، قد أصبح حقيقة قائمة ماثلة للعيان، وعندما يأتي ذلك اليوم لا يسعهم إلا أن يعودوا على أنفسهم باللوم، وذلك قوله تعالى في هذا الربع :﴿ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم، هدى ورحمة لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله ﴾ أي يوم يقع عيانا ومشاهدة ما أنذروا به من العقاب والعذاب ﴿ يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ﴾ ثم يعلق كتاب الله على موقف أولئك المترددين الشاكين بالأمس، والمبهوتين المبلسين اليوم ؟، قائلا :﴿ قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٢:وانتقلت الآيات الكريمة إلى وصف ما يكون عليه حال الكافرين ومن لف لفهم من المنحرفين الضالين، من استهتار بالتعاليم السماوية، رغما عن شدة وضوحها، وخروج التوجيهات الإلهية، رغما عن دقة تفصيلها – نظرا لما يداخلهم من تردد في صدق محتوياتها، ومن شك في فعالية توصياتها – حتى إذا ظهرت آثار انحرافهم عنها في الوجود، وأصبحت على مرأى منهم ومسمع، في حيز الواقع وعالم الشهود، فوجئوا مفاجأة كبرى بأن ما كان مجرد " غيب " موعود به في القرآن، قد أصبح حقيقة قائمة ماثلة للعيان، وعندما يأتي ذلك اليوم لا يسعهم إلا أن يعودوا على أنفسهم باللوم، وذلك قوله تعالى في هذا الربع :﴿ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم، هدى ورحمة لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله ﴾ أي يوم يقع عيانا ومشاهدة ما أنذروا به من العقاب والعذاب ﴿ يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ﴾ ثم يعلق كتاب الله على موقف أولئك المترددين الشاكين بالأمس، والمبهوتين المبلسين اليوم ؟، قائلا :﴿ قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾.

وها هنا آيتان كريمتان لا بد من لفت النظر إليهما لتعلقهما بأدب الدعاء والذكر، وهما قوله تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية، إنه لا يحب المعتدين ﴾، وقوله تعالى ﴿ وادعوه خوفا وطمعا، إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾.
ففي الآية الأولى يبين كتاب الله للمؤمنين كيف ينبغي أن يدعوا ربهم ويذكروا اسمه، وفي الآية الثانية يبين كتاب الله للمؤمنين كيف ينبغي أن يجمعوا في الدعاء بين الخوف والرجاء، قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " الأصل في الأعمال الفرضية الجهر، والأصل في الأعمال النفلية السر، وذلك لما يتطرق إلى النفل من الرياء والتظاهر والتفاخر، وقد جعل الباري سبحانه في العبادات ذكرا جهرا، وذكرا سرا، لحكمة بالغة أنشأها بها، ورتبها عليها، وذلك لما عليه قلوب الخلق من الاختلاف بين الحالين ". ثم زاد قائلا " أما الذكر بالقراءة في الصلاة فانقسم حاله إلى سر وجهر، وأما الدعاء فلم يشرع منه شيء جهرا، لا في حالة القيام، ولا في حالة الركوع ولا في حالة السجود، لكن اختلف العلماء في قول قارئ الفاتحة ﴿ آمين ﴾ هل يسر بها أم يجهر ". وقال ابن كثير في تفسيره " قوله تعالى :﴿ تضرعا ﴾ معناه تذللا واستكانة، وقوله ﴿ وخفية ﴾ كقوله :﴿ واذكر ربك في نفسك ﴾ الآية ". وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم :( أيها الناس اربعوا على أنفسكم – أي ارفقوا بها- فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذين تدعون سميع قريب ) الحديث.
ثم نقل ابن كثير عن عبد الله ابن مبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : " إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور – أي الزوار وما يشعرون به، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، وإن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول ﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٢:وانتقلت الآيات الكريمة إلى وصف ما يكون عليه حال الكافرين ومن لف لفهم من المنحرفين الضالين، من استهتار بالتعاليم السماوية، رغما عن شدة وضوحها، وخروج التوجيهات الإلهية، رغما عن دقة تفصيلها – نظرا لما يداخلهم من تردد في صدق محتوياتها، ومن شك في فعالية توصياتها – حتى إذا ظهرت آثار انحرافهم عنها في الوجود، وأصبحت على مرأى منهم ومسمع، في حيز الواقع وعالم الشهود، فوجئوا مفاجأة كبرى بأن ما كان مجرد " غيب " موعود به في القرآن، قد أصبح حقيقة قائمة ماثلة للعيان، وعندما يأتي ذلك اليوم لا يسعهم إلا أن يعودوا على أنفسهم باللوم، وذلك قوله تعالى في هذا الربع :﴿ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم، هدى ورحمة لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله ﴾ أي يوم يقع عيانا ومشاهدة ما أنذروا به من العقاب والعذاب ﴿ يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ﴾ ثم يعلق كتاب الله على موقف أولئك المترددين الشاكين بالأمس، والمبهوتين المبلسين اليوم ؟، قائلا :﴿ قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٢:وانتقلت الآيات الكريمة إلى وصف ما يكون عليه حال الكافرين ومن لف لفهم من المنحرفين الضالين، من استهتار بالتعاليم السماوية، رغما عن شدة وضوحها، وخروج التوجيهات الإلهية، رغما عن دقة تفصيلها – نظرا لما يداخلهم من تردد في صدق محتوياتها، ومن شك في فعالية توصياتها – حتى إذا ظهرت آثار انحرافهم عنها في الوجود، وأصبحت على مرأى منهم ومسمع، في حيز الواقع وعالم الشهود، فوجئوا مفاجأة كبرى بأن ما كان مجرد " غيب " موعود به في القرآن، قد أصبح حقيقة قائمة ماثلة للعيان، وعندما يأتي ذلك اليوم لا يسعهم إلا أن يعودوا على أنفسهم باللوم، وذلك قوله تعالى في هذا الربع :﴿ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم، هدى ورحمة لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله ﴾ أي يوم يقع عيانا ومشاهدة ما أنذروا به من العقاب والعذاب ﴿ يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ﴾ ثم يعلق كتاب الله على موقف أولئك المترددين الشاكين بالأمس، والمبهوتين المبلسين اليوم ؟، قائلا :﴿ قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مما يستحق التنبيه في بداية هذا الربع، أن الآيات الأولى منه استمرار في حكاية قصة هود مع قومه عاد، وتتمة لرده عليهم، وتذكيره إياهم. والذي يقرأ قصة نوح وقصة هود بتمعن وتأمل في نهاية الربع الماضي وبداية هذا الربع، ثم يقرأ ما سيرد في ثنايا هذه السورة الكريمة " سورة الأعراف " من قصص بقية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يرى رأي العين أن كتاب الله أراد أن يكشف الستار عن جملة من الحقائق كلها تستحق النظر والاعتبار، فمن تصوير لوحدة طبيعة الإيمان ووحدة طبيعة الكفر ثانيا، ومن تصوير للغفلة عن النذر وإهمال للشكر على نعمة الاستخلاف في الأرض ثالثا، ومن تصوير لمصارع المكذبين وكونها تجري على سنة واحدة لا تتبدل ولا تتخلف رابعا، وها هو كتاب الله يصف لنا دعوة نوح إلى قومه فيقول :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾، ثم يصف لنا دعوة هود إلى قومه بنفس المعنى والأسلوب فيقول ﴿ وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أفلا تتقون ﴾.
وها نحن نرى قوم هود يتعجبون ويستغربون من أن ينزل الوحي على رجل منهم لينذرهم، فيخاطبهم هود، كما في بداية هذا الربع قائلا :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ على غرار ما قاله نوح مخاطبا لقومه ومستغربا من استغرابهم كما في الربع الماضي ﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مما يستحق التنبيه في بداية هذا الربع، أن الآيات الأولى منه استمرار في حكاية قصة هود مع قومه عاد، وتتمة لرده عليهم، وتذكيره إياهم. والذي يقرأ قصة نوح وقصة هود بتمعن وتأمل في نهاية الربع الماضي وبداية هذا الربع، ثم يقرأ ما سيرد في ثنايا هذه السورة الكريمة " سورة الأعراف " من قصص بقية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يرى رأي العين أن كتاب الله أراد أن يكشف الستار عن جملة من الحقائق كلها تستحق النظر والاعتبار، فمن تصوير لوحدة طبيعة الإيمان ووحدة طبيعة الكفر ثانيا، ومن تصوير للغفلة عن النذر وإهمال للشكر على نعمة الاستخلاف في الأرض ثالثا، ومن تصوير لمصارع المكذبين وكونها تجري على سنة واحدة لا تتبدل ولا تتخلف رابعا، وها هو كتاب الله يصف لنا دعوة نوح إلى قومه فيقول :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾، ثم يصف لنا دعوة هود إلى قومه بنفس المعنى والأسلوب فيقول ﴿ وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أفلا تتقون ﴾.
وها نحن نرى قوم هود يتعجبون ويستغربون من أن ينزل الوحي على رجل منهم لينذرهم، فيخاطبهم هود، كما في بداية هذا الربع قائلا :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ على غرار ما قاله نوح مخاطبا لقومه ومستغربا من استغرابهم كما في الربع الماضي ﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾


وفي القسم الأخير من هذا الربع تناولت الآيات الكريمة قصة نوح عليه السلام وما وصفه به قومه من الضلالة، وقصة هود عليه السلام وما وصفه به قومه من السفاهة، وذكرت الرد المهذب الجميل الذي رد به كل منهما على ما وجه إليه من قدح وتجريح، إذ قال نوح لقومه ﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾. وقال هود لقومه :﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة، ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾.
قال القاضي عبد الجبار : " وهذه الجملة يعرف بها رفق الأنبياء وحسن دعائهم إلى الدين، وفيها إذا تأملها المرء ما يعتبر به ويعرف آداب الأنبياء صلى الله عليهم وسلم في الدعاء إلى الدين، وصبرهم على ما نالهم من الأمم، فيقتدي بهم ".
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مما يستحق التنبيه في بداية هذا الربع، أن الآيات الأولى منه استمرار في حكاية قصة هود مع قومه عاد، وتتمة لرده عليهم، وتذكيره إياهم. والذي يقرأ قصة نوح وقصة هود بتمعن وتأمل في نهاية الربع الماضي وبداية هذا الربع، ثم يقرأ ما سيرد في ثنايا هذه السورة الكريمة " سورة الأعراف " من قصص بقية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يرى رأي العين أن كتاب الله أراد أن يكشف الستار عن جملة من الحقائق كلها تستحق النظر والاعتبار، فمن تصوير لوحدة طبيعة الإيمان ووحدة طبيعة الكفر ثانيا، ومن تصوير للغفلة عن النذر وإهمال للشكر على نعمة الاستخلاف في الأرض ثالثا، ومن تصوير لمصارع المكذبين وكونها تجري على سنة واحدة لا تتبدل ولا تتخلف رابعا، وها هو كتاب الله يصف لنا دعوة نوح إلى قومه فيقول :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾، ثم يصف لنا دعوة هود إلى قومه بنفس المعنى والأسلوب فيقول ﴿ وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أفلا تتقون ﴾.
وها نحن نرى قوم هود يتعجبون ويستغربون من أن ينزل الوحي على رجل منهم لينذرهم، فيخاطبهم هود، كما في بداية هذا الربع قائلا :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ على غرار ما قاله نوح مخاطبا لقومه ومستغربا من استغرابهم كما في الربع الماضي ﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾


وفي القسم الأخير من هذا الربع تناولت الآيات الكريمة قصة نوح عليه السلام وما وصفه به قومه من الضلالة، وقصة هود عليه السلام وما وصفه به قومه من السفاهة، وذكرت الرد المهذب الجميل الذي رد به كل منهما على ما وجه إليه من قدح وتجريح، إذ قال نوح لقومه ﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾. وقال هود لقومه :﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة، ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾.
قال القاضي عبد الجبار :" وهذه الجملة يعرف بها رفق الأنبياء وحسن دعائهم إلى الدين، وفيها إذا تأملها المرء ما يعتبر به ويعرف آداب الأنبياء صلى الله عليهم وسلم في الدعاء إلى الدين، وصبرهم على ما نالهم من الأمم، فيقتدي بهم ".

الربع الأخير من الحزب السادس عشر
في المصحف الكريم
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مما يستحق التنبيه في بداية هذا الربع، أن الآيات الأولى منه استمرار في حكاية قصة هود مع قومه عاد، وتتمة لرده عليهم، وتذكيره إياهم. والذي يقرأ قصة نوح وقصة هود بتمعن وتأمل في نهاية الربع الماضي وبداية هذا الربع، ثم يقرأ ما سيرد في ثنايا هذه السورة الكريمة " سورة الأعراف " من قصص بقية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يرى رأي العين أن كتاب الله أراد أن يكشف الستار عن جملة من الحقائق كلها تستحق النظر والاعتبار، فمن تصوير لوحدة طبيعة الإيمان ووحدة طبيعة الكفر ثانيا، ومن تصوير للغفلة عن النذر وإهمال للشكر على نعمة الاستخلاف في الأرض ثالثا، ومن تصوير لمصارع المكذبين وكونها تجري على سنة واحدة لا تتبدل ولا تتخلف رابعا، وها هو كتاب الله يصف لنا دعوة نوح إلى قومه فيقول :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾، ثم يصف لنا دعوة هود إلى قومه بنفس المعنى والأسلوب فيقول ﴿ وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أفلا تتقون ﴾.
وها نحن نرى قوم هود يتعجبون ويستغربون من أن ينزل الوحي على رجل منهم لينذرهم، فيخاطبهم هود، كما في بداية هذا الربع قائلا :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ على غرار ما قاله نوح مخاطبا لقومه ومستغربا من استغرابهم كما في الربع الماضي ﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾

ونفس الشيء نلاحظه في موقف كبراء القوم وسادتهم من هود كما حكاه عنهم كتاب الله ﴿ قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة ﴾، وفي موقف كبراء القوم وسادتهم من نوح قبله، كما حكاه عنهم كتاب الله أيضا ﴿ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ﴾ فالموقفان متماثلان إن لم يكونا عبارة عن موقف واحد، ولفظ " الملأ " الوارد هنا وفي سورة سبأ ﴿ قالت يا أيها الملأ ﴾ يطلق في اللغة على القادة والسادة، لما لهم من مكانة وهيبة " تملأ " الأبصار، وتستلفت الأنظار.
ثم يأتي جواب كل من هود ونوح قبله لقومهما على ما رموا به الأول من سفاهة، وما رموا به الثاني من ضلالة، على نمط متشابه ومتقارب، إن لم يكن واحدا، فيرد نوح على قومه :﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ﴾ ويرد هود على قومه :﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:مما يستحق التنبيه في بداية هذا الربع، أن الآيات الأولى منه استمرار في حكاية قصة هود مع قومه عاد، وتتمة لرده عليهم، وتذكيره إياهم. والذي يقرأ قصة نوح وقصة هود بتمعن وتأمل في نهاية الربع الماضي وبداية هذا الربع، ثم يقرأ ما سيرد في ثنايا هذه السورة الكريمة " سورة الأعراف " من قصص بقية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، يرى رأي العين أن كتاب الله أراد أن يكشف الستار عن جملة من الحقائق كلها تستحق النظر والاعتبار، فمن تصوير لوحدة طبيعة الإيمان ووحدة طبيعة الكفر ثانيا، ومن تصوير للغفلة عن النذر وإهمال للشكر على نعمة الاستخلاف في الأرض ثالثا، ومن تصوير لمصارع المكذبين وكونها تجري على سنة واحدة لا تتبدل ولا تتخلف رابعا، وها هو كتاب الله يصف لنا دعوة نوح إلى قومه فيقول :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾، ثم يصف لنا دعوة هود إلى قومه بنفس المعنى والأسلوب فيقول ﴿ وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أفلا تتقون ﴾.
وها نحن نرى قوم هود يتعجبون ويستغربون من أن ينزل الوحي على رجل منهم لينذرهم، فيخاطبهم هود، كما في بداية هذا الربع قائلا :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ على غرار ما قاله نوح مخاطبا لقومه ومستغربا من استغرابهم كما في الربع الماضي ﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ﴾


وفي القسم الأخير من هذا الربع تناولت الآيات الكريمة قصة نوح عليه السلام وما وصفه به قومه من الضلالة، وقصة هود عليه السلام وما وصفه به قومه من السفاهة، وذكرت الرد المهذب الجميل الذي رد به كل منهما على ما وجه إليه من قدح وتجريح، إذ قال نوح لقومه ﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾. وقال هود لقومه :﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة، ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾.
قال القاضي عبد الجبار :" وهذه الجملة يعرف بها رفق الأنبياء وحسن دعائهم إلى الدين، وفيها إذا تأملها المرء ما يعتبر به ويعرف آداب الأنبياء صلى الله عليهم وسلم في الدعاء إلى الدين، وصبرهم على ما نالهم من الأمم، فيقتدي بهم ".

وكما تصف قصة نوح تكذيب قومه له، ومصرعهم بعد الإصرار والاستكبار، ونجاته ومن معه من المؤمنين، ﴿ فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوما عمين ﴾ تصف قصة هود تكذيب قومه له، ومصرعهم بعد الإنذار والأعذار، ونجاته ومن معه من المؤمنين ﴿ قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ﴾﴿ فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين ﴾.
وعندما تنتهي قصة هود مع قومه عاد، وتبتدئ قصة صالح مع قومه ثمود نجد نفس المواقف ونفس الانطباعات، فالتشابه تام، والوحدة قائمة، فها هو صالح يدعو قومه بنفس الدعوة قائلا :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم ﴾ وكما ذكر هود قومه بنعم الله عليهم، ولاسيما نعمة الاستخلاف في الأرض، عسى أن يشكروا النعم قائلا :﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ﴾ نجد صالحا أيضا يذكر قومه بنعم الله عليهم، طبقا لنفس الأسلوب إذ يقول :﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا، فاذكروا آلاء الله، ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٣:وعندما تنتهي قصة هود مع قومه عاد، وتبتدئ قصة صالح مع قومه ثمود نجد نفس المواقف ونفس الانطباعات، فالتشابه تام، والوحدة قائمة، فها هو صالح يدعو قومه بنفس الدعوة قائلا :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم ﴾ وكما ذكر هود قومه بنعم الله عليهم، ولاسيما نعمة الاستخلاف في الأرض، عسى أن يشكروا النعم قائلا :﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ﴾ نجد صالحا أيضا يذكر قومه بنعم الله عليهم، طبقا لنفس الأسلوب إذ يقول :﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا، فاذكروا آلاء الله، ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾.

ونفس الموقف الذي وقفه الملأ – وهم القادة والسادة من نوح وهود، يقفه الملأ من صالح أيضا، كما حكى كتاب الله ذلك عنهم :﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه، قالوا ﴾ – أي المؤمنون المستضعفون – ﴿ إنا بما أرسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا ﴾ – وهم الملأ – ﴿ إنا بالذي آمنتم به كافرون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٩:وكما كان مصرع قوم نوح وقوم هود بعد الإنذار لهم والإنكار منهم جاء مصرع قوم صالح بنفس التدريج ونفس الترتيب ﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ﴾﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾. وترتيب هذه الآية كما في التلاوة جاء على أسلوب التقديم والتأخير، كما نبه على ذلك القاضي عبد الجبار، وهو مستعمل كثيرا في لسان العرب.
وكما كان مصرع قوم نوح وقوم هود بعد الإنذار لهم والإنكار منهم جاء مصرع قوم صالح بنفس التدريج ونفس الترتيب ﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ﴾﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾. وترتيب هذه الآية كما في التلاوة جاء على أسلوب التقديم والتأخير، كما نبه على ذلك القاضي عبد الجبار، وهو مستعمل كثيرا في لسان العرب.
وتحدث كتاب الله في هذا الربع عن أكبر فاحشة ارتكبها قوم لوط وانفردوا بها، تنفيرا منها وتحذيرا، ألا وهي فاحشة الشذوذ الجنسي المعروف باللواط التي لم يسبقهم بها أحد من الناس، والتي طالما أنكرها لوط عليهم وهم متمادون عليها ﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنتم قوم مسرفون ﴾، وبنفس هذا المعنى جاءت آية ثانية في سورة العنكبوت :﴿ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ﴾.
وجاءت آية ثالثة في سورة الشعراء في سياق قوله تعالى ﴿ إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون، إني لكم رسول أمين- أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم، بل أنتم قوم عادون ﴾.
قال أبو بكر ابن عياش عن أبي جعفر : " استغنت رجال قوم لوط بوطء رجالهم، واستغنت نساؤهم بنسائهم " ونقله الإمام النووي في كتابه " تهذيب الأسماء واللغات ".
وقال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " إن الله أخبر أن قوم لوط كانوا على معاص فأخذهم منها بهذه، وإنما أخذ الصغير والكبير، لسكوت الجملة عليه والجماهير، فكان منهم فاعل، وكان منهم راض، فعوقب الجميع، وبقي الأمر في العقوبة على الفاعلين مستمرا، وإنما ذكر الله هذه المعصية باسم الفاحشة ﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ﴾ ففاحشة اللواط مساوية للزنى في الاسم وهو " الفاحشة "، ومشاركة له في المعنى لأنه معنى محرم شرعا، فجاز أن يتعلق به الحد، وذلك للزجر عن الموضع المشتهى، بل هذا أحرم وأفحش، فكان بالعقوبة أولى وأحرى "، انتهى كلام ابن العربي.
وقد أحرق مرتكبي هذه المعصية خالد ابن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق، وأحرقهم عبد الله ابن الزبير في زمانه، ثم أحرقهم هشام ابن عبد الملك، ثم أحرقهم خالد القسري بالعراق.
ومذهب مالك وجماعة منهم سعيد ابن المسيب والنخعي أن مرتكبها يرجم، أحصن أو لم يحصن، وقد سأل مالك ابن شهاب عن الذي يعمل عمل قوم لوط، فقال ابن شهاب " عليه الرجم أحصن أو لم يحصن "، ومذهب الشافعي وجماعة أنه يحد حد الزاني، إن كان محصنا فبجزائه وهو الرجم بالحجارة، وإن كان بكرا فبجزائه وهو الجلد مائة. قال ابن العربي : " والذي صار إليه مالك أحق، وهو أصح سندا، وأقوى معتمدا ".
أما أخف الأقوال في مرتكب هذه المعصية فهو أن " يعزر " بدلا من أن يحد، كما ذهب إليه أبو حنيفة، باعتبار أن هذه المعصية لم يرد فيها حد مخصوص، ولا كفارة معينة، و " التعزير " عقوبة تأديبية، بدنية أو مالية، موكولة لاجتهاد الحاكم. لكن هذا القول الخفيف، خفيف الوزن أمام ما ورد في الحديث الشريف، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه أبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
والسر في محاربة الدين والأخلاق لهذه الفاحشة النكراء، أنها تحدث انحرافا في الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتشويها لها بإخراجها عن طريقها، وتؤدي في النهاية إلى تهديد النوع الإنساني بالانقراض تدريجيا، وتعطيل النسل من أصله، حيث أن هذه الفاحشة تعطل طاقة الإخصاب عند صاحبها عن نشاطها الأصلي، وتضييع طاقته في غير جدوى ودون ثمرة، لا للفرد ولا للمجتمع، وذلك مؤد بطبيعته إلى القضاء على أصل من الأصول الأساسية للملة، وهو حفظ النسل الذي يصونه الشرع بكل الوسائل.
قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه الإحياء : " لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات لانقطع النسل، ورفع الوجود قريب من قطع الوجود "، وبين الغزالي في نفس السياق " أن فاحشة اللواط أخطر من فاحشة الزنى بهذا الاعتبار، لأن الزنى لا يفوت أصل الوجود كما يفوته اللواط، وإذا كانت الشهوة داعية إلى الزنى من الجانبين الذكر والأنثى، وإن كان الزنى يشوش الأنساب ويخلطها، ويفوت على الناس تمييزها ".
وهكذا منذ ظهر الدين وعرفت الأخلاق، ظلت الدعوة قائمة مستمرة لحماية المؤمنين من مظاهر الخزي والعار، وتطهير المجتمع من مثل هذه الأوساخ والأقذار، حتى يكون مجتمعا فاضلا، متمسكا بالفطرة، نقيا من الموبقات والأوزار.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٠:وتحدث كتاب الله في هذا الربع عن أكبر فاحشة ارتكبها قوم لوط وانفردوا بها، تنفيرا منها وتحذيرا، ألا وهي فاحشة الشذوذ الجنسي المعروف باللواط التي لم يسبقهم بها أحد من الناس، والتي طالما أنكرها لوط عليهم وهم متمادون عليها ﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنتم قوم مسرفون ﴾، وبنفس هذا المعنى جاءت آية ثانية في سورة العنكبوت :﴿ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ﴾.
وجاءت آية ثالثة في سورة الشعراء في سياق قوله تعالى ﴿ إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون، إني لكم رسول أمين- أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم، بل أنتم قوم عادون ﴾.
قال أبو بكر ابن عياش عن أبي جعفر :" استغنت رجال قوم لوط بوطء رجالهم، واستغنت نساؤهم بنسائهم " ونقله الإمام النووي في كتابه " تهذيب الأسماء واللغات ".
وقال القاضي أبو بكر " ابن العربي " :" إن الله أخبر أن قوم لوط كانوا على معاص فأخذهم منها بهذه، وإنما أخذ الصغير والكبير، لسكوت الجملة عليه والجماهير، فكان منهم فاعل، وكان منهم راض، فعوقب الجميع، وبقي الأمر في العقوبة على الفاعلين مستمرا، وإنما ذكر الله هذه المعصية باسم الفاحشة ﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ﴾ ففاحشة اللواط مساوية للزنى في الاسم وهو " الفاحشة "، ومشاركة له في المعنى لأنه معنى محرم شرعا، فجاز أن يتعلق به الحد، وذلك للزجر عن الموضع المشتهى، بل هذا أحرم وأفحش، فكان بالعقوبة أولى وأحرى "، انتهى كلام ابن العربي.
وقد أحرق مرتكبي هذه المعصية خالد ابن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق، وأحرقهم عبد الله ابن الزبير في زمانه، ثم أحرقهم هشام ابن عبد الملك، ثم أحرقهم خالد القسري بالعراق.
ومذهب مالك وجماعة منهم سعيد ابن المسيب والنخعي أن مرتكبها يرجم، أحصن أو لم يحصن، وقد سأل مالك ابن شهاب عن الذي يعمل عمل قوم لوط، فقال ابن شهاب " عليه الرجم أحصن أو لم يحصن "، ومذهب الشافعي وجماعة أنه يحد حد الزاني، إن كان محصنا فبجزائه وهو الرجم بالحجارة، وإن كان بكرا فبجزائه وهو الجلد مائة. قال ابن العربي :" والذي صار إليه مالك أحق، وهو أصح سندا، وأقوى معتمدا ".
أما أخف الأقوال في مرتكب هذه المعصية فهو أن " يعزر " بدلا من أن يحد، كما ذهب إليه أبو حنيفة، باعتبار أن هذه المعصية لم يرد فيها حد مخصوص، ولا كفارة معينة، و " التعزير " عقوبة تأديبية، بدنية أو مالية، موكولة لاجتهاد الحاكم. لكن هذا القول الخفيف، خفيف الوزن أمام ما ورد في الحديث الشريف، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه أبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
والسر في محاربة الدين والأخلاق لهذه الفاحشة النكراء، أنها تحدث انحرافا في الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتشويها لها بإخراجها عن طريقها، وتؤدي في النهاية إلى تهديد النوع الإنساني بالانقراض تدريجيا، وتعطيل النسل من أصله، حيث أن هذه الفاحشة تعطل طاقة الإخصاب عند صاحبها عن نشاطها الأصلي، وتضييع طاقته في غير جدوى ودون ثمرة، لا للفرد ولا للمجتمع، وذلك مؤد بطبيعته إلى القضاء على أصل من الأصول الأساسية للملة، وهو حفظ النسل الذي يصونه الشرع بكل الوسائل.
قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه الإحياء :" لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات لانقطع النسل، ورفع الوجود قريب من قطع الوجود "، وبين الغزالي في نفس السياق " أن فاحشة اللواط أخطر من فاحشة الزنى بهذا الاعتبار، لأن الزنى لا يفوت أصل الوجود كما يفوته اللواط، وإذا كانت الشهوة داعية إلى الزنى من الجانبين الذكر والأنثى، وإن كان الزنى يشوش الأنساب ويخلطها، ويفوت على الناس تمييزها ".
وهكذا منذ ظهر الدين وعرفت الأخلاق، ظلت الدعوة قائمة مستمرة لحماية المؤمنين من مظاهر الخزي والعار، وتطهير المجتمع من مثل هذه الأوساخ والأقذار، حتى يكون مجتمعا فاضلا، متمسكا بالفطرة، نقيا من الموبقات والأوزار.

وتمضي الآيات الكريمة في هذا الربع وما بعده فتعرض علينا قصة لوط عليه السلام مع قومه، ولوط هو ابن أخ إبراهيم الخليل عليه السلام، كما تعرض علينا قصة شعيب مع قومه أيضا، وفي كلتا القصتين نجد ملامح مشتركة مع ما في القصص السابقة لبقية الأنبياء، فعن موقف قوم لوط من نبيهم يقول كتاب الله :﴿ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون ﴾، وعن موقف قوم شعيب من نبيهم يقول كتاب الله :﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا من قريتنا ﴾.
وعن مصرع قوم لوط ونجاته دونهم في نهاية الأمر، يقول كتاب الله :﴿ فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾.
وعن مصرع قوم شعيب ونجاته دونهم بعد نفاد الصبر، يقول كتاب الله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين ﴾﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٢:وتمضي الآيات الكريمة في هذا الربع وما بعده فتعرض علينا قصة لوط عليه السلام مع قومه، ولوط هو ابن أخ إبراهيم الخليل عليه السلام، كما تعرض علينا قصة شعيب مع قومه أيضا، وفي كلتا القصتين نجد ملامح مشتركة مع ما في القصص السابقة لبقية الأنبياء، فعن موقف قوم لوط من نبيهم يقول كتاب الله :﴿ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون ﴾، وعن موقف قوم شعيب من نبيهم يقول كتاب الله :﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا من قريتنا ﴾.
الربع الأول من الحزب السابع عشر
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، تشير الآية الكريمة إلى الملأ من قوم شعيب وهم كبار قومه وسادتهم، وتلفت النظر إلى أن العامل الأساسي في إصرارهم على الباطل كغيرهم من المبطلين، وفي مقاومة ما جاء به نبيهم شعيب عليه السلام هو ما كانوا عليه من الأنفة والكبر والصلف، وما يتوقعونه من أن يصبحوا مجرد تابعين للنبي شعيب بعدما كانوا سادة متبوعين. والشأن في المتكبرين وذوي الرياسات الزائفة دائما أن يركبوا رؤوسهم، وأن لا يفتحوا آذانهم لسماع كلمة الحق، ولا قلوبهم لتقبلها والرضى بها، ولو كانت لصالحهم ونفعهم عاجلا وآجلا ﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب ﴾ ونلاحظ في نفس الآية نوع التهديد الذي هددوا به شعيبا وصحبه، فهو التهديد بالنفي والإبعاد عن الوطن، كما هدد قوم لوط لوطا وأهله من قبل، ﴿ إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون ﴾ فها هم قوم شعيب يقلدونهم ويهددونه بنفس الأمر
﴿ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ﴾ مما يدل على أن البشر قد عرفوا هذا النوع من العقوبات منذ عهد قديم، وذلك حرصا منهم على أن تبقى دار لقمان على حالها، فتستمر رياستهم الزائفة قائمة، ويبقى استغلالهم الفاحش مستمرا، إذ من أهم ما أخذهم به نبيهم شعيب عليه السلام تطفيفهم في الكيل والميزان، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وإفسادهم في الأرض بعد إصلاحها، ألم يقل لهم، كما سبق في الربع الماضي منذرا ومحذرا ﴿ فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشيائهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾.
وكتاب الله عندما عرض هذه القصة كشأنه في غيرها من القصص، إنما عرضها للاعتبار وضرب المثل بالنسبة لكافة المؤمنين، فليس الأمر بتوفية الكيل والميزان، وليس النهي عن بخس الناس أشياءهم واستغلالهم استغلالا فاحشا، وليس التحذير من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، مجرد تعليمات عامة وتوجيهات إلهية، قاصرة على قوم شعيب دون من دونهم، بحيث يعتبر غيرهم في حل منها، بل هي تعليمات عامة وتوجيهات أبدية إلى كافة المؤمنين في جميع العصور والأجيال. ووصف " الإيمان " المشترك بين كافة المؤمنين يقتضيها ويتضمنها، ولا يسمح بما يضادها أو يناقضها، ﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾.
والعقاب الذي عاقب الله به قوم شعيب على هذه المخالفات قائم إلى يوم الدين بالنسبة لغيرهم كما كان بالنسبة إليهم، وإنه لواقع، ما له من دافع. وإذا كان نوع العقاب الإلهي لمن سلك مسلكهم في هذا الجيل من نوع آخر، فأنواع العقاب الإلهي لا تحصى عدا. قال القاضي أبو بكر ابن العربي : " إنما أذن الله سبحانه في الأموال بالأكل بالحق، والتعامل بالصدق، وطلب التجارة بذلك، فمتى خرج عن يد أحد شيء من ماله بعلمه لأخيه فقد أكل كل واحد منهما ما يرضي الله ويرتضيه " والعكس بالعكس.
وبعدما هدد كبار قوم شعيب نبيهم وصحبه بعقوبة النفي والإبعاد من الوطن التي تمس أدق الأحاسيس في قلب المواطن، وتحرمه من أول أرض تنفس فيها ومس جلده ترابها، عادوا إليه وإلى المؤمنين من صحبه، ليساوموهم على التنازل عن عقيدتهم، ويدعوهم إلى مهادنتهم ومداهنتهم في عقائدهم الباطلة، وإلى غض الطرف عن تصرفاتهم الطائشة، وذلك ما يشير إليه قولهم فيما حكاه كتاب الله عنهم :﴿ أو لتعودن في ملتنا ﴾.
وهذا الخطاب منهم موجه بالأصالة إلى أصحاب شعيب الذين كانوا فارقوا دين قومهم، وخرجوا عن ملتهم، وآمنوا بشعيب. أما شعيب عليه السلام نفسه فلم يكن على ملتهم حتى يعود إليها، إذ عصمه الله منها، وغاية ما يطلبون منه أن يكف عن دعوة الناس إلى الرسالة الجديدة التي جاء بها من عند الله، غير أن شعيبا رد عليهم بأن رجوع الذين آمنوا عن عقيدتهم الصحيحة إلى الملة الضالة التي فارقوها أمر متعذر، مقررا لهم حقيقة ذلك المبدأ الاعتقادي الأصيل الذي أنزله الله من فوق سبع سماوات، ألا وهو مبدأ ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ المعبر عنه في لسان هذا العصر بحرية الاعتقاد. وهكذا أجابهم شعيب قائلا :﴿ قال أو لو كنا كارهين ﴾، أي أتعيدون المؤمنين برسالتي إلى ملتكم الباطلة بعدما كرهوها ومقتوها وآمنوا بالله ؟ إنه لا حق لأحد في أن يفرض معتقده على الغير بالقهر والإكراه.
أتساومونني على أن أدع رسالة ربي لأقر ملتكم الباطلة، ؟ إنه لا سبيل إلى ذلك، ولا سلطة تستطيع أن تفرض علينا التصديق بما هو كذب وافتراء، واتباع ما هو ضلال وباطل، ﴿ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾، وأخيرا قطع شعيب لكبراء قومه الضالين كل أمل في المساومات والتهديدات قائلا :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها ﴾.
وقوله هنا ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ ليس المراد به تجويز عودة أصحاب شعيب إلى الملة الضالة التي فارقوها، ولا احتمال تنازل شعيب عن الرسالة المأمور بتبليغها عن الله، وإنما المراد أحد أمرين، إما استبعاد ذلك بالمرة عن طريق تعليقه بالمشيئة الإلهية، وشعيب يعلم علم اليقين أن الله لا يرضى لعباده الكفر، وأنه يعصم رسله من الناس، وذلك على غرار قوله تعالى فيما سبق :﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ﴾ إذ ليس معنى هذه الآية أن الجمل سيدخل في عين الإبرة وهي سم الخياط، وأن الذين كذبوا واستكبروا سيدخلون فعلا الجنة عندما يدخل الجمل عين الإبرة، وإنما معناه قطع كل أمل لهم في دخول الجنة، بذلك الأسلوب المدهش، الذي يفتح باب الطمع أولا، ليقفله في وجوه الطامعين أخيرا، فتكون حسرتهم أعظم، وخشيتهم أشد.
وإما أنه من باب الأدب مع الله تعالى في تعليق كل شيء بمشيئة الله، على غرار قوله تعالى في سورة الكهف :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله ﴾ جريا مع العقيدة الإيمانية العامة والأصيلة في دين الله :﴿ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ﴾.
ومضى شعيب والمؤمنون معه في طريقهم السوي معتمدين على الله، دون أن يعبئوا بما تعرضوا له من المساومة والتهديد والإكراه، متحملين في سبيل نشر الهداية، كل أذى من أهل الغواية، ﴿ وسع ربنا كل شيء علما، على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٨:الربع الأول من الحزب السابع عشر
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، تشير الآية الكريمة إلى الملأ من قوم شعيب وهم كبار قومه وسادتهم، وتلفت النظر إلى أن العامل الأساسي في إصرارهم على الباطل كغيرهم من المبطلين، وفي مقاومة ما جاء به نبيهم شعيب عليه السلام هو ما كانوا عليه من الأنفة والكبر والصلف، وما يتوقعونه من أن يصبحوا مجرد تابعين للنبي شعيب بعدما كانوا سادة متبوعين. والشأن في المتكبرين وذوي الرياسات الزائفة دائما أن يركبوا رؤوسهم، وأن لا يفتحوا آذانهم لسماع كلمة الحق، ولا قلوبهم لتقبلها والرضى بها، ولو كانت لصالحهم ونفعهم عاجلا وآجلا ﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب ﴾ ونلاحظ في نفس الآية نوع التهديد الذي هددوا به شعيبا وصحبه، فهو التهديد بالنفي والإبعاد عن الوطن، كما هدد قوم لوط لوطا وأهله من قبل، ﴿ إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون ﴾ فها هم قوم شعيب يقلدونهم ويهددونه بنفس الأمر
﴿ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ﴾ مما يدل على أن البشر قد عرفوا هذا النوع من العقوبات منذ عهد قديم، وذلك حرصا منهم على أن تبقى دار لقمان على حالها، فتستمر رياستهم الزائفة قائمة، ويبقى استغلالهم الفاحش مستمرا، إذ من أهم ما أخذهم به نبيهم شعيب عليه السلام تطفيفهم في الكيل والميزان، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وإفسادهم في الأرض بعد إصلاحها، ألم يقل لهم، كما سبق في الربع الماضي منذرا ومحذرا ﴿ فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشيائهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾.
وكتاب الله عندما عرض هذه القصة كشأنه في غيرها من القصص، إنما عرضها للاعتبار وضرب المثل بالنسبة لكافة المؤمنين، فليس الأمر بتوفية الكيل والميزان، وليس النهي عن بخس الناس أشياءهم واستغلالهم استغلالا فاحشا، وليس التحذير من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، مجرد تعليمات عامة وتوجيهات إلهية، قاصرة على قوم شعيب دون من دونهم، بحيث يعتبر غيرهم في حل منها، بل هي تعليمات عامة وتوجيهات أبدية إلى كافة المؤمنين في جميع العصور والأجيال. ووصف " الإيمان " المشترك بين كافة المؤمنين يقتضيها ويتضمنها، ولا يسمح بما يضادها أو يناقضها، ﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾.
والعقاب الذي عاقب الله به قوم شعيب على هذه المخالفات قائم إلى يوم الدين بالنسبة لغيرهم كما كان بالنسبة إليهم، وإنه لواقع، ما له من دافع. وإذا كان نوع العقاب الإلهي لمن سلك مسلكهم في هذا الجيل من نوع آخر، فأنواع العقاب الإلهي لا تحصى عدا. قال القاضي أبو بكر ابن العربي :" إنما أذن الله سبحانه في الأموال بالأكل بالحق، والتعامل بالصدق، وطلب التجارة بذلك، فمتى خرج عن يد أحد شيء من ماله بعلمه لأخيه فقد أكل كل واحد منهما ما يرضي الله ويرتضيه " والعكس بالعكس.
وبعدما هدد كبار قوم شعيب نبيهم وصحبه بعقوبة النفي والإبعاد من الوطن التي تمس أدق الأحاسيس في قلب المواطن، وتحرمه من أول أرض تنفس فيها ومس جلده ترابها، عادوا إليه وإلى المؤمنين من صحبه، ليساوموهم على التنازل عن عقيدتهم، ويدعوهم إلى مهادنتهم ومداهنتهم في عقائدهم الباطلة، وإلى غض الطرف عن تصرفاتهم الطائشة، وذلك ما يشير إليه قولهم فيما حكاه كتاب الله عنهم :﴿ أو لتعودن في ملتنا ﴾.
وهذا الخطاب منهم موجه بالأصالة إلى أصحاب شعيب الذين كانوا فارقوا دين قومهم، وخرجوا عن ملتهم، وآمنوا بشعيب. أما شعيب عليه السلام نفسه فلم يكن على ملتهم حتى يعود إليها، إذ عصمه الله منها، وغاية ما يطلبون منه أن يكف عن دعوة الناس إلى الرسالة الجديدة التي جاء بها من عند الله، غير أن شعيبا رد عليهم بأن رجوع الذين آمنوا عن عقيدتهم الصحيحة إلى الملة الضالة التي فارقوها أمر متعذر، مقررا لهم حقيقة ذلك المبدأ الاعتقادي الأصيل الذي أنزله الله من فوق سبع سماوات، ألا وهو مبدأ ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ المعبر عنه في لسان هذا العصر بحرية الاعتقاد. وهكذا أجابهم شعيب قائلا :﴿ قال أو لو كنا كارهين ﴾، أي أتعيدون المؤمنين برسالتي إلى ملتكم الباطلة بعدما كرهوها ومقتوها وآمنوا بالله ؟ إنه لا حق لأحد في أن يفرض معتقده على الغير بالقهر والإكراه.
أتساومونني على أن أدع رسالة ربي لأقر ملتكم الباطلة، ؟ إنه لا سبيل إلى ذلك، ولا سلطة تستطيع أن تفرض علينا التصديق بما هو كذب وافتراء، واتباع ما هو ضلال وباطل، ﴿ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾، وأخيرا قطع شعيب لكبراء قومه الضالين كل أمل في المساومات والتهديدات قائلا :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها ﴾.
وقوله هنا ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ ليس المراد به تجويز عودة أصحاب شعيب إلى الملة الضالة التي فارقوها، ولا احتمال تنازل شعيب عن الرسالة المأمور بتبليغها عن الله، وإنما المراد أحد أمرين، إما استبعاد ذلك بالمرة عن طريق تعليقه بالمشيئة الإلهية، وشعيب يعلم علم اليقين أن الله لا يرضى لعباده الكفر، وأنه يعصم رسله من الناس، وذلك على غرار قوله تعالى فيما سبق :﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ﴾ إذ ليس معنى هذه الآية أن الجمل سيدخل في عين الإبرة وهي سم الخياط، وأن الذين كذبوا واستكبروا سيدخلون فعلا الجنة عندما يدخل الجمل عين الإبرة، وإنما معناه قطع كل أمل لهم في دخول الجنة، بذلك الأسلوب المدهش، الذي يفتح باب الطمع أولا، ليقفله في وجوه الطامعين أخيرا، فتكون حسرتهم أعظم، وخشيتهم أشد.
وإما أنه من باب الأدب مع الله تعالى في تعليق كل شيء بمشيئة الله، على غرار قوله تعالى في سورة الكهف :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله ﴾ جريا مع العقيدة الإيمانية العامة والأصيلة في دين الله :﴿ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ﴾.
ومضى شعيب والمؤمنون معه في طريقهم السوي معتمدين على الله، دون أن يعبئوا بما تعرضوا له من المساومة والتهديد والإكراه، متحملين في سبيل نشر الهداية، كل أذى من أهل الغواية، ﴿ وسع ربنا كل شيء علما، على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين ﴾.

ومما يلاحظ في هذا السياق أمران اثنان : أولهما ما قدح به كبار قوم شعيب في الذين آمنوا به من قومه، إذ واجهوهم، مؤكدين لهم بجميع وجوه التأكيد أنهم بسبب اتباع شعيب خاسرون ﴿ وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾. وثانيهما ما رد به الحق سبحانه وتعالى عليهم رد صدق وحق، مثبتا لهم ولمن بعدهم أن صفة " الخسران " التي وصفوا بها شعيبا وصحبه إنما كانت في الواقع من نصيب الملأ الكافرين لا من نصيب المؤمنين، وذلك قوله تعالى :﴿ الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرون ﴾. إذ كرر كتاب الله نفس الوصف فأطلقه عليهم وألصقه بهم، وفي مثل هذا المقام يصدق المثل العربي الذائع : " وافق شن طبقة " ؛ فما أوفق الكفران بالخسران.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٣:نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:وعن مصرع قوم لوط ونجاته دونهم في نهاية الأمر، يقول كتاب الله :﴿ فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾.
وعن مصرع قوم شعيب ونجاته دونهم بعد نفاد الصبر، يقول كتاب الله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين ﴾﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.


ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى نقطة جوهرية وردت فيما حكاه كتاب الله عن شعيب عليه السلام :﴿ وقال يا قوم أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على القوم الكافرين ﴾ فها هنا يتحدث شعيب عن النصيحة الخالصة التي لم يزل يسديها إلى قومه، فلم يعر لها الملأ منهم التفاتا ولا اعتبارا، ونفس الشيء تحدث عنه نوح وهود وصالح من قبل شعيب، كما حكى الله ذلك عنهم جميعا، فعلى لسان نوح جاء قوله، ﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ وعلى لسان هود جاء قوله :﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾ وعلى لسان صالح جاء قوله :﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ﴾.
وهكذا نجد أن إسداء النصح إلى الخلق كان شعار الأنبياء والمرسلين واحدا بعد الآخر، وأنهم بذلوا كل المستطاع، بل ما فوق المستطاع، في سبيل هداية الخلق إلى الله وإلى صراطه المستقيم، ولم تزل النصيحة دينا متبعا وسنة متوارثة، إلى أن أنزل الله الوحي على رسوله الكريم، فجدد الأمر بها، وأكدها الذكر الحكيم، وفرض الإسلام بمقتضى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تبادل النصح والإرشاد في شؤون الدين والدنيا على الراعي والرعية. لكن النصيحة لا تعتبر نصيحة في الإسلام إلا إذا كانت خالية من كل غش أو تدليس أو خيانة، وخالصة من جميع الأغراض الشخصية.
ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله. قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ). وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) – رواه أصحاب السنن. وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحته إلا لم يجد رائحة الجنة ) – رواه البخاري في صحيحه في " باب من استرعي رعية فلم ينصح " قال الحافظ ابن حجز :" لم يحطها أي لم يصنها، والاسم الحياطة " ثم زاد قائلا :" ويحصل ذلك – أي عدم حياطتهم – بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، وبترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، وإهمال ردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم، ونحو ذلك ".
وقال حجة الإسلام الغزالي مبينا أدب النصيحة :" ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة ". ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال :" من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه " وختم كلامه قائلا :" فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان ".
وقول شعيب هنا كما حكى عنه كتاب الله ﴿ فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ يتفق معناه تمام الاتفاق مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ بمعنى أن المؤمنين إذا استقاموا على الطريقة المثلى كما أمروا، وأدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وفي طليعتها حق إسداء النصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ثم أصر العصاة على الاسترسال في المعاصي والفواحش دون أن يستجيبوا لنصيحة ولا إرشاد، فإن أولئك الناصحين لهم بعد أن أدوا ما عليهم، واستنفدوا وسائل الدعوة والإصلاح التي يملكونها تصبح ذممهم خالية من المسؤولية، ويصدق عليهم وقتئذ قوله تعالى :﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾، وقوله تعالى :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾، وقوله تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر ﴾.
وبعدما تحدثت الآيات الكريمة عن جملة من قصص الأنبياء وأممهم امتن الحق سبحانه وتعالى على خاتم رسله بما قصه عليه وعلى أمته من أنباء الأمم السالفة ومواقفها من أنبيائها السالفين، إذ إن الحكمة في ذلك هي تمكين رسوله وأمته من وسائل التدبر والاعتبار، حتى يكون الرسول وأمته على بصيرة من سنن الله الثابتة في خلقه، التي مهما اختلفت الأعصار والأمصار، فهي تنتج نفس النتائج وتحدث نفس الآثار، ﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ﴾﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾.
ثم أجمل كتاب الله معركة الحق مع الباطل، وصراع الخير مع الشر، خلال العصور الغابرة، فقال تعالى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ وواضح أن هذه الآية تنطبق على كثير من الأمم والشعوب في هذا العصر.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٣:نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:وعن مصرع قوم لوط ونجاته دونهم في نهاية الأمر، يقول كتاب الله :﴿ فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾.
وعن مصرع قوم شعيب ونجاته دونهم بعد نفاد الصبر، يقول كتاب الله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين ﴾﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.


ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى نقطة جوهرية وردت فيما حكاه كتاب الله عن شعيب عليه السلام :﴿ وقال يا قوم أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على القوم الكافرين ﴾ فها هنا يتحدث شعيب عن النصيحة الخالصة التي لم يزل يسديها إلى قومه، فلم يعر لها الملأ منهم التفاتا ولا اعتبارا، ونفس الشيء تحدث عنه نوح وهود وصالح من قبل شعيب، كما حكى الله ذلك عنهم جميعا، فعلى لسان نوح جاء قوله، ﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ وعلى لسان هود جاء قوله :﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾ وعلى لسان صالح جاء قوله :﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ﴾.
وهكذا نجد أن إسداء النصح إلى الخلق كان شعار الأنبياء والمرسلين واحدا بعد الآخر، وأنهم بذلوا كل المستطاع، بل ما فوق المستطاع، في سبيل هداية الخلق إلى الله وإلى صراطه المستقيم، ولم تزل النصيحة دينا متبعا وسنة متوارثة، إلى أن أنزل الله الوحي على رسوله الكريم، فجدد الأمر بها، وأكدها الذكر الحكيم، وفرض الإسلام بمقتضى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تبادل النصح والإرشاد في شؤون الدين والدنيا على الراعي والرعية. لكن النصيحة لا تعتبر نصيحة في الإسلام إلا إذا كانت خالية من كل غش أو تدليس أو خيانة، وخالصة من جميع الأغراض الشخصية.
ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله. قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ). وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) – رواه أصحاب السنن. وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحته إلا لم يجد رائحة الجنة ) – رواه البخاري في صحيحه في " باب من استرعي رعية فلم ينصح " قال الحافظ ابن حجز :" لم يحطها أي لم يصنها، والاسم الحياطة " ثم زاد قائلا :" ويحصل ذلك – أي عدم حياطتهم – بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، وبترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، وإهمال ردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم، ونحو ذلك ".
وقال حجة الإسلام الغزالي مبينا أدب النصيحة :" ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة ". ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال :" من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه " وختم كلامه قائلا :" فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان ".
وقول شعيب هنا كما حكى عنه كتاب الله ﴿ فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ يتفق معناه تمام الاتفاق مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ بمعنى أن المؤمنين إذا استقاموا على الطريقة المثلى كما أمروا، وأدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وفي طليعتها حق إسداء النصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ثم أصر العصاة على الاسترسال في المعاصي والفواحش دون أن يستجيبوا لنصيحة ولا إرشاد، فإن أولئك الناصحين لهم بعد أن أدوا ما عليهم، واستنفدوا وسائل الدعوة والإصلاح التي يملكونها تصبح ذممهم خالية من المسؤولية، ويصدق عليهم وقتئذ قوله تعالى :﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾، وقوله تعالى :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾، وقوله تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر ﴾.
وبعدما تحدثت الآيات الكريمة عن جملة من قصص الأنبياء وأممهم امتن الحق سبحانه وتعالى على خاتم رسله بما قصه عليه وعلى أمته من أنباء الأمم السالفة ومواقفها من أنبيائها السالفين، إذ إن الحكمة في ذلك هي تمكين رسوله وأمته من وسائل التدبر والاعتبار، حتى يكون الرسول وأمته على بصيرة من سنن الله الثابتة في خلقه، التي مهما اختلفت الأعصار والأمصار، فهي تنتج نفس النتائج وتحدث نفس الآثار، ﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ﴾﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾.
ثم أجمل كتاب الله معركة الحق مع الباطل، وصراع الخير مع الشر، خلال العصور الغابرة، فقال تعالى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ وواضح أن هذه الآية تنطبق على كثير من الأمم والشعوب في هذا العصر.


نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:ومما يلاحظ في هذا السياق أمران اثنان : أولهما ما قدح به كبار قوم شعيب في الذين آمنوا به من قومه، إذ واجهوهم، مؤكدين لهم بجميع وجوه التأكيد أنهم بسبب اتباع شعيب خاسرون ﴿ وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾. وثانيهما ما رد به الحق سبحانه وتعالى عليهم رد صدق وحق، مثبتا لهم ولمن بعدهم أن صفة " الخسران " التي وصفوا بها شعيبا وصحبه إنما كانت في الواقع من نصيب الملأ الكافرين لا من نصيب المؤمنين، وذلك قوله تعالى :﴿ الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرون ﴾. إذ كرر كتاب الله نفس الوصف فأطلقه عليهم وألصقه بهم، وفي مثل هذا المقام يصدق المثل العربي الذائع :" وافق شن طبقة " ؛ فما أوفق الكفران بالخسران.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:وعن مصرع قوم لوط ونجاته دونهم في نهاية الأمر، يقول كتاب الله :﴿ فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾.
وعن مصرع قوم شعيب ونجاته دونهم بعد نفاد الصبر، يقول كتاب الله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين ﴾﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.


ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى نقطة جوهرية وردت فيما حكاه كتاب الله عن شعيب عليه السلام :﴿ وقال يا قوم أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على القوم الكافرين ﴾ فها هنا يتحدث شعيب عن النصيحة الخالصة التي لم يزل يسديها إلى قومه، فلم يعر لها الملأ منهم التفاتا ولا اعتبارا، ونفس الشيء تحدث عنه نوح وهود وصالح من قبل شعيب، كما حكى الله ذلك عنهم جميعا، فعلى لسان نوح جاء قوله، ﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ وعلى لسان هود جاء قوله :﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾ وعلى لسان صالح جاء قوله :﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ﴾.
وهكذا نجد أن إسداء النصح إلى الخلق كان شعار الأنبياء والمرسلين واحدا بعد الآخر، وأنهم بذلوا كل المستطاع، بل ما فوق المستطاع، في سبيل هداية الخلق إلى الله وإلى صراطه المستقيم، ولم تزل النصيحة دينا متبعا وسنة متوارثة، إلى أن أنزل الله الوحي على رسوله الكريم، فجدد الأمر بها، وأكدها الذكر الحكيم، وفرض الإسلام بمقتضى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تبادل النصح والإرشاد في شؤون الدين والدنيا على الراعي والرعية. لكن النصيحة لا تعتبر نصيحة في الإسلام إلا إذا كانت خالية من كل غش أو تدليس أو خيانة، وخالصة من جميع الأغراض الشخصية.
ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله. قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ). وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) – رواه أصحاب السنن. وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحته إلا لم يجد رائحة الجنة ) – رواه البخاري في صحيحه في " باب من استرعي رعية فلم ينصح " قال الحافظ ابن حجز : " لم يحطها أي لم يصنها، والاسم الحياطة " ثم زاد قائلا : " ويحصل ذلك – أي عدم حياطتهم – بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، وبترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، وإهمال ردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم، ونحو ذلك ".
وقال حجة الإسلام الغزالي مبينا أدب النصيحة : " ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة ". ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال : " من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه " وختم كلامه قائلا : " فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان ".
وقول شعيب هنا كما حكى عنه كتاب الله ﴿ فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ يتفق معناه تمام الاتفاق مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ بمعنى أن المؤمنين إذا استقاموا على الطريقة المثلى كما أمروا، وأدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وفي طليعتها حق إسداء النصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ثم أصر العصاة على الاسترسال في المعاصي والفواحش دون أن يستجيبوا لنصيحة ولا إرشاد، فإن أولئك الناصحين لهم بعد أن أدوا ما عليهم، واستنفدوا وسائل الدعوة والإصلاح التي يملكونها تصبح ذممهم خالية من المسؤولية، ويصدق عليهم وقتئذ قوله تعالى :﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾، وقوله تعالى :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾، وقوله تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر ﴾.
وبعدما تحدثت الآيات الكريمة عن جملة من قصص الأنبياء وأممهم امتن الحق سبحانه وتعالى على خاتم رسله بما قصه عليه وعلى أمته من أنباء الأمم السالفة ومواقفها من أنبيائها السالفين، إذ إن الحكمة في ذلك هي تمكين رسوله وأمته من وسائل التدبر والاعتبار، حتى يكون الرسول وأمته على بصيرة من سنن الله الثابتة في خلقه، التي مهما اختلفت الأعصار والأمصار، فهي تنتج نفس النتائج وتحدث نفس الآثار، ﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ﴾﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾.
ثم أجمل كتاب الله معركة الحق مع الباطل، وصراع الخير مع الشر، خلال العصور الغابرة، فقال تعالى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ وواضح أن هذه الآية تنطبق على كثير من الأمم والشعوب في هذا العصر.
وبين كتاب الله في ثنايا هذا العرض ما أدت إليه خيانة الخائنين وفسق الفاسقين من قضاء عليهم، وإبادة لأممهم، فقال تعالى :﴿ ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٣:نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:وعن مصرع قوم لوط ونجاته دونهم في نهاية الأمر، يقول كتاب الله :﴿ فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾.
وعن مصرع قوم شعيب ونجاته دونهم بعد نفاد الصبر، يقول كتاب الله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين ﴾﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.


ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى نقطة جوهرية وردت فيما حكاه كتاب الله عن شعيب عليه السلام :﴿ وقال يا قوم أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على القوم الكافرين ﴾ فها هنا يتحدث شعيب عن النصيحة الخالصة التي لم يزل يسديها إلى قومه، فلم يعر لها الملأ منهم التفاتا ولا اعتبارا، ونفس الشيء تحدث عنه نوح وهود وصالح من قبل شعيب، كما حكى الله ذلك عنهم جميعا، فعلى لسان نوح جاء قوله، ﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ وعلى لسان هود جاء قوله :﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾ وعلى لسان صالح جاء قوله :﴿ يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين ﴾.
وهكذا نجد أن إسداء النصح إلى الخلق كان شعار الأنبياء والمرسلين واحدا بعد الآخر، وأنهم بذلوا كل المستطاع، بل ما فوق المستطاع، في سبيل هداية الخلق إلى الله وإلى صراطه المستقيم، ولم تزل النصيحة دينا متبعا وسنة متوارثة، إلى أن أنزل الله الوحي على رسوله الكريم، فجدد الأمر بها، وأكدها الذكر الحكيم، وفرض الإسلام بمقتضى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تبادل النصح والإرشاد في شؤون الدين والدنيا على الراعي والرعية. لكن النصيحة لا تعتبر نصيحة في الإسلام إلا إذا كانت خالية من كل غش أو تدليس أو خيانة، وخالصة من جميع الأغراض الشخصية.
ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله. قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ). وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) – رواه أصحاب السنن. وفي الحديث الشريف أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحته إلا لم يجد رائحة الجنة ) – رواه البخاري في صحيحه في " باب من استرعي رعية فلم ينصح " قال الحافظ ابن حجز :" لم يحطها أي لم يصنها، والاسم الحياطة " ثم زاد قائلا :" ويحصل ذلك – أي عدم حياطتهم – بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، وبترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، وإهمال ردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم، ونحو ذلك ".
وقال حجة الإسلام الغزالي مبينا أدب النصيحة :" ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة ". ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال :" من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه " وختم كلامه قائلا :" فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان ".
وقول شعيب هنا كما حكى عنه كتاب الله ﴿ فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ يتفق معناه تمام الاتفاق مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ بمعنى أن المؤمنين إذا استقاموا على الطريقة المثلى كما أمروا، وأدوا ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد، وفي طليعتها حق إسداء النصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ثم أصر العصاة على الاسترسال في المعاصي والفواحش دون أن يستجيبوا لنصيحة ولا إرشاد، فإن أولئك الناصحين لهم بعد أن أدوا ما عليهم، واستنفدوا وسائل الدعوة والإصلاح التي يملكونها تصبح ذممهم خالية من المسؤولية، ويصدق عليهم وقتئذ قوله تعالى :﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾، وقوله تعالى :﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾، وقوله تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر ﴾.
وبعدما تحدثت الآيات الكريمة عن جملة من قصص الأنبياء وأممهم امتن الحق سبحانه وتعالى على خاتم رسله بما قصه عليه وعلى أمته من أنباء الأمم السالفة ومواقفها من أنبيائها السالفين، إذ إن الحكمة في ذلك هي تمكين رسوله وأمته من وسائل التدبر والاعتبار، حتى يكون الرسول وأمته على بصيرة من سنن الله الثابتة في خلقه، التي مهما اختلفت الأعصار والأمصار، فهي تنتج نفس النتائج وتحدث نفس الآثار، ﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ﴾﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾.
ثم أجمل كتاب الله معركة الحق مع الباطل، وصراع الخير مع الشر، خلال العصور الغابرة، فقال تعالى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ وواضح أن هذه الآية تنطبق على كثير من الأمم والشعوب في هذا العصر.

الربع الثاني من الحزب السابع عشر
في المصحف الكريم
هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وفي بداية هذا الربع يشير كتاب الله إلى باطل فرعون وسحرته، وما جاؤوا به من سحر عظيم، طمعا في مال فرعون وزلفى إليه، وإلى أن باطلهم قد زهق أمام الحق الذي أبرزه الله على يد موسى وعصاه ﴿ فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين ﴾.
ويحكي كتاب الله هول المفاجأة الكبرى التي فوجئ بها فرعون وملأه عندما سجد السحرة لله، أمام معجزة موسى، وآمنوا برسالته، فاستنكر عليهم فرعون أن يؤمنوا بموسى دون إذن منه، كأن الإيمان عملية مادية يستطيع الضمير لها دفعا، وكأن مفاتيح القلوب في أيدي الطغاة والجبابرة يفتحونها متى شاؤوا ويقفلونها متى شاؤوا ﴿ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ﴾.
واتهم فرعون سحرته بعد إيمانهم بأنهم دبروا مع موسى مؤامرة لقلب نظام الدولة، وإخراج السلطة من يده ويد أعوانه، كما حكى عنه كتاب الله قائلا :﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٨:هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وفي بداية هذا الربع يشير كتاب الله إلى باطل فرعون وسحرته، وما جاؤوا به من سحر عظيم، طمعا في مال فرعون وزلفى إليه، وإلى أن باطلهم قد زهق أمام الحق الذي أبرزه الله على يد موسى وعصاه ﴿ فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين ﴾.
ويحكي كتاب الله هول المفاجأة الكبرى التي فوجئ بها فرعون وملأه عندما سجد السحرة لله، أمام معجزة موسى، وآمنوا برسالته، فاستنكر عليهم فرعون أن يؤمنوا بموسى دون إذن منه، كأن الإيمان عملية مادية يستطيع الضمير لها دفعا، وكأن مفاتيح القلوب في أيدي الطغاة والجبابرة يفتحونها متى شاؤوا ويقفلونها متى شاؤوا ﴿ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ﴾.
واتهم فرعون سحرته بعد إيمانهم بأنهم دبروا مع موسى مؤامرة لقلب نظام الدولة، وإخراج السلطة من يده ويد أعوانه، كما حكى عنه كتاب الله قائلا :﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ﴾.

ثم هددهم بعقاب صارم هو عقاب الصلب بعد قطع الأيدي والأرجل، فقال مخاطبا لهم ﴿ لأقطعن أيديكم وأرجكم من خلاف ثم لأصلبكم أجمعين ﴾ قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " هذا يدل على أن الصلب وقطع اليد والرجل من خلاف عقوبة متأصلة عند الخلق، تلقفوها من شرع متقدم، فحرفوها، حتى أوضحها الله في ملة الإسلام، وجعلها أعظم العقوبات لأعظم الأجرام، يعني جريمة " الحرابة " وهي جريمة العبث بالأمن العام، والمساس بأمن الدولة الداخلي، التي عالجها كتاب الله في قوله تعالى :﴿ إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾.
ت١١٨
غير أن سحرة فرعون الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم وأدركوا البون الشاسع بين ما كانوا عليه من معتقدات الشرك والوثنية، وعقيدة الإيمان والتوحيد التي تلقوها عن موسى غضة طرية، لم يفت في عضدهم تهديد ولا وعيد، ولا صلب ولا تشريد فأعلنوها صيحة مدوية، أمام فرعون الطاغية ﴿ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن – آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ﴾ كأنهم يلوحون بذلك إلى بطلان التهمة المزورة التي اتهمهم بها زورا وبهتانا، لمجرد القضاء عليهم، والتخلص منهم، باسم حماية الدولة من المتآمرين عليها والكائدين لها.
ثم اتجهوا إلى الحق سبحاه وتعالى الذي أشرق نور الإيمان به في قلوبهم ضارعين خاشعين ﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا ﴾ أي صبرا عظيما نتحمل به عدوان فرعون وملإه، وما يهددنا به من قطع وصلب. ﴿ وتوفنا مسلمين ﴾ وكأنهم في هذا المقام لم يعد يهمهم من الحياة إلا أمر واحد، هو أن يختم الله لهم بالخاتمة الحسنى، وهي الوفاة على ملة الإسلام، التي هي ملة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهكذا بعدما كانوا في أول النهار سحرة كفرة، أصبحوا في آخره شهداء بررة، كما صرح بذلك جماعة من مفسري السلف.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٥: ت١١٨
غير أن سحرة فرعون الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم وأدركوا البون الشاسع بين ما كانوا عليه من معتقدات الشرك والوثنية، وعقيدة الإيمان والتوحيد التي تلقوها عن موسى غضة طرية، لم يفت في عضدهم تهديد ولا وعيد، ولا صلب ولا تشريد فأعلنوها صيحة مدوية، أمام فرعون الطاغية ﴿ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن – آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ﴾ كأنهم يلوحون بذلك إلى بطلان التهمة المزورة التي اتهمهم بها زورا وبهتانا، لمجرد القضاء عليهم، والتخلص منهم، باسم حماية الدولة من المتآمرين عليها والكائدين لها.
ثم اتجهوا إلى الحق سبحاه وتعالى الذي أشرق نور الإيمان به في قلوبهم ضارعين خاشعين ﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا ﴾ أي صبرا عظيما نتحمل به عدوان فرعون وملإه، وما يهددنا به من قطع وصلب. ﴿ وتوفنا مسلمين ﴾ وكأنهم في هذا المقام لم يعد يهمهم من الحياة إلا أمر واحد، هو أن يختم الله لهم بالخاتمة الحسنى، وهي الوفاة على ملة الإسلام، التي هي ملة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهكذا بعدما كانوا في أول النهار سحرة كفرة، أصبحوا في آخره شهداء بررة، كما صرح بذلك جماعة من مفسري السلف.

هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وقول كتاب الله هنا على لسان موسى عليه السلام :﴿ استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ﴾ الآية، يمثل حقيقة دينية، وحقيقة كونية، وسنة إلهية، فالتضحية والصبر، كانا دائما ولا يزالان مفتاح الغلبة والنصر، والاستعانة بالله والاعتماد عليه بعد اتخاذ الأسباب، هما الوسيلة الفعالة للنجاح والتغلب على الصعاب، والأرض ملك لله إنما يعيرها لخلقه للارتفاع والانتفاع، وإنما يستخلف فيها – أعزاء كرماء – أولئك الذين يتقون ولا يفسقون، فإن فسقوا وظلموا وأفسدوا استبدل بهم قوما آخرين ﴿ والعاقبة للمتقين ﴾.
هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
ثم يعرض علينا كتاب الله صورة من صور التذبذب والتململ والتردد والقلق، التي عرف بها بنو إسرائيل عبر القرون والأجيال، فرغما عن أن موسى عليه السلام نصره الله نصرا مؤزرا على فرعون وسحرته، ورغما عن أنه طالب فرعون بأن يرسل معه بني إسرائيل كما حكى الله عنه، إذ خاطب فرعون قائلا :﴿ فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ نجد بني إسرائيل يستثقلون ظل موسى ويتضايقون منه، ولا يخجلون أن يخاطبوه دون أدب ولا لياقة، كما حكى كتاب الله عنهم قائلين :﴿ قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ﴾، لكن موسى يكظم غيظه ويرد عليهم ردا هادئا، منبها إلى أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يمتحنهم ويختبرهم، ويظهرهم للناس على حقيقتهم، وذلك بمقتضى سننه الثابتة في هذا الكون، فإن أصلحوا كانوا أهلا للاستخلاف بين الناس، وإن أفسدوا أصدر الحق سبحانه وتعالى في شأنهم حكمه العادل بالحجر والإفلاس ﴿ قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ﴾.
هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
ويصف لنا كتاب الله نماذج مثيرة من عذابه الأليم الذي ينزله بالأمم، متى أصرت على الضلال والعدوان هي وقادتها في مختلف العصور، من أية سلالة كانت، وإلى أية ملة انتسبت، فيحدثنا عما أنزله الله بفرعون وقومه من أنواع المصائب والمتاعب، التي توالت عليهم دون انقطاع، بحيث لا يكادون يفرغون من واحدة منها حتى يستقبلوا أخرى تكون أدهى وأمر ﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ﴾
هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ﴾ وتعني كلمة " السنين " في هذه الآية سنين الجدب والقحط والجوع، وهذا أمر يستغربه كل من يعرف " نيل مصر " حتى قيل فيها إنها " هبة النيل "، وإنها ليست بلد الماء المحدود والزرع القليل.
ومعنى كلمة الطوفان في هذه الآية فيضان النيل وكثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار، " والجراد " معروف بأضراره الفادحة وأخطاره البالغة على الزرع والضرع، ومن اللطائف أن شريحا القاضي الشهير سئل عن الجراد فقال : " قبح الله الجرادة، فيها خلقة سبعة جبابرة، رأسها رأس فرس، وعنقها عنق ثور، وصدرها صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلها رجل جمل، وذنبها ذنب حية، وبطنها بطن عقرب ". وروى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال :( اللهم أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء ).
وتعني كلمة " القمل " الواردة في الآية السوس الذي يخرج من الحنطة وينخرها، وفي عدة تفاسير أنه بسبب ذلك السوس كانت عشرة أجربة لا يبقى منها بعد طحنها إلا ثلاثة أقفزة، إذ لا يبقى فيها من الحنطة إلا أقل القليل، و " الضفادع " معروفة ومشهورة بقفزها ووثبها. وورد في عدة تفاسير أن تلك الضفادع كانت قد ملأت البيوت والأواني والأطعمة. وتعني كلمة " الدم " الدم الرعاف كما قال زيد ابن أسلم، ورواه ابن أبي حاتم.
فهذه جملة المصائب التي نزلت بفرعون وقومه على التتابع والتوالي دون أن يتوبوا من شركهم وكفرهم، ولا أن يتراجعوا عن عتوهم وكبرهم، ثم جاءت القاصمة – قاصمة ظهر فرعون وقومه – فأغرق الله فرعون وجنده، ونصر عبده، وهذه المصائب لا تزال تنزل بمختلف الأمم حتى الآن، ولا يحمي منها إلا التقوى والاستقامة والإيمان.
هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
لكن بني إسرائيل ما كادوا يفلتون من قبضة فرعون، ببركة موسى الذي جدد عقيدة التوحيد على ملة إبراهيم الخليل عليهما السلام، حتى نفخ فيهم الشيطان من روحه، وأخذوا يلحون على موسى أن يعوضهم عن دين التوحيد الذي دعاهم إليه وأنقذهم باسمه، بدين وثني خاص من نوع الأديان القائمة إذ ذاك في عموم المنطقة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا :﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ﴾ فما كان من موسى إلا أن رد عليهم مستنكرا ومحذرا، قال :﴿ إنكم قوم تجهلون ﴾ وكلمة " تجهلون " في هذا السياق إما من الجهل ضد العلم، وإما من الجهال بمعنى السفه، على حد قوله تعالى :﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾.
هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
ثم أخذ يؤكد لهم ما ينتظر المشركين من هلاك وما هم عليه من باطل قائلا :﴿ إن هؤلاء متبر ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعلمون ﴾.
هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وأخيرا ذكرهم موسى بالرسالة التي حملها إليهم إذ جاءهم برسالة التوحيد، وذكرهم بتفضيلهم إن عملوا بها على فرعون وآله، لما كان عليه هو وقومه من الشرك والوثنية، وعدم الاتعاظ بنذر الله المتوالية، وذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله إذ خاطبهم من جديد :﴿ قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين، وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ﴾. الآية. لكن مواعظ موسى عليه السلام لم تترك في نفوس بني إسرائيل أثرها المرغوب، لا في حياته ولا بعد مماته، ولم يلبثوا إلا قليلا حتى فقدوا الرشد والصواب، وتوعدهم الحق سبحانه وتعالى :﴿ ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٠:هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك – والله أعلم – أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل – علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم – بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وأخيرا ذكرهم موسى بالرسالة التي حملها إليهم إذ جاءهم برسالة التوحيد، وذكرهم بتفضيلهم إن عملوا بها على فرعون وآله، لما كان عليه هو وقومه من الشرك والوثنية، وعدم الاتعاظ بنذر الله المتوالية، وذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله إذ خاطبهم من جديد :﴿ قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين، وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ﴾. الآية. لكن مواعظ موسى عليه السلام لم تترك في نفوس بني إسرائيل أثرها المرغوب، لا في حياته ولا بعد مماته، ولم يلبثوا إلا قليلا حتى فقدوا الرشد والصواب، وتوعدهم الحق سبحانه وتعالى :﴿ ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾.

الربع الثالث من الحزب السابع عشر
في المصحف الكريم
تتحدث الآيات الكريمة في بداية هذا الربع، عن الأجل المحدود واليوم الموعود الذي ضربه الله لحضور موسى إلى جبل الطور، وهذا الأجل الذي يمتد أربعين ليلة سيتلقى موسى بعده عن الله كلامه ورسالته، ليصبح بعده " كليم الله ".
ولعل السر في ضرب هذا الأجل، واستغراقه لهذه المدة التي ليست بقصيرة، هو تمكين موسى من التفرغ عن جميع الشواغل، التي تستغرق نشاطه ليل نهار، ولا سيما الشواغل الجديدة التي طرأت عليه منذ جواز بني إسرائيل معه، وإفلاتهم من قبضة فرعون وملإه، وذلك على عهد الأسرة التاسعة عشرة، التي هي آخر أسرة مصرية صميمة كانت على عرش مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والتي منها انتقل الحكم إلى دول أجنبية صرفة تعاقبت على الحكم فيها، الواحدة بعد الأخرى، إلى أن قامت دولة الإسلام الكبرى. فهذا الأجل ضربه الله لموسى، حتى إذا حل " ميقات ربه " كان موسى مقبلا على الله بكليته، منقطعا إليه وإلى عبادته، واقفا على عتبة بابه، منتظرا لاستمطار سحابه.
وسحاب الخيرلها مطر *** فإذا جاء الإبان تجي
وفي طليعة ما جرى في فترة انتظار موسى لميقات ربه ما قام به من تنظيم مؤقت لشؤونهم مدة غيبته عنهم، كما حكاه عنه كتاب الله قائلا :﴿ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾.
ومن لطائف التفسير المتعلقة بهذا السياق ما علق به القاضي أبو بكر " ابن العربي " على هذه الآية إذ قال : " ضرب الأجل للمواعيد سنة ماضية، ومعنى قديم أسسه الله في القضايا، وحكم به للأمم، وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال، وإن أول أجل ضربه الله الأيام الستة التي مدها لجميع الخليقة فيها، وقد كان قادرا على أن يجعل ذلك لهم في لحظة واحدة، لأن قوله لشيء إذا أراده أن يقول له : كن فيكون، بيد أنه أراد تعليم الخلق التأني وتقسيم الأوقات، ليكون لكل عمل وقت ".
ونضيف إلى ما قاله التنبيه إلى سنة الاستخلاف الواردة في نفس السياق، فقد سنها موسى عندما استخلف أخاه هارون عنه أثناء غيبته، فبقيت سنة متبعة من بعده، وبرزت أثناء عهد الرسالة المحمدية، في عدة مناسبات، منها مناسبة غزوة تبوك، حيث فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس جيش قوامه ثلاثون ألف مسلم معهم عشرة آلاف من الخيل، وترك على المدينة خليفة من قبله محمد ابن مسلمة الأنصاري، كما حققه الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه " زاد المعاد ".
ولما جاء موسى لميقات ربه، وتلقى كلامه ورسالته، استشرفت نفسه، بدافع الشوق وحافز الرجاء، وفي غمرة الذهول والدهشة، إلى تجلي الذات الإلهية، فما كان من الحق سبحانه وتعالى إلا أن ألقى جوابا يستطيع أن يتأكد من خلاله أن الكيان البشري الضعيف لا يقوى على استقبال النور الإلهي وجها لوجه ولاسيما في هذه الدنيا، وإذا كان تجلي الذات الإلهية لجبل الطور يجعل الجبل على شموخه وصلابته خاشعا متصدعا، ويدكه دكا في طرفة عين حتى يسيخ في أعماق الأرض، من جلال الله وهيبته، فما بالك بوقع ذلك التجلي على الإنسان الضعيف البنية، والقوي الخشية، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ﴾.
وما كاد موسى يرى ما أصاب الجبل الشامخ من تصدع وانهيار حتى أغمي عليه في الحين، من شدة فزع المنظر وهول الموقف، وذلك قوله تعالى :﴿ وخر موسى صعقا، فلما أفاق ﴾ – أي من الإغماء الذي أصابه – ﴿ قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ﴾.
غير أن هذه الحادثة الكبرى لم يمر عليها وقت طويل حتى أصبحت لها ذيول في حياة بني إسرائيل، ذلك أن بني إسرائيل لم يزل الشك يراودهم فيما تلقاه موسى من كلام الله ورسالته، فأخذوا يلحون عليه أن يسأل لهم من الله ميقاتا خاصا يحضرونه بأنفسهم، ويشاهدونه إلى جانبه عيانا، فاضطر موسى إلى النزول على رغبتهم، وطلب من الله توقيت ميقات لهم، واختار من بينهم، بوحي من الله، وفدا مؤلفا من سبعين عضوا يعتبرون من خيار خيارهم، لكن لما حل الميقات المعين الذي كانوا ينتظرون فيه بكل إلحاح وعناد أن يروا الله جهرة – حسب تعبيرهم الخاص- أخذهم الحق سبحانه وتعالى أخذا وبيلا، فأخذتهم الرجفة وصعقوا في الحين، وكان ذلك عبرة للناس أجمعين، ولم ينج إلا موسى وحده، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في نهاية هذا الربع - :﴿ واختار موسى قومه، سبعين رجلا لميقاتنا، فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ الآية. وفي نفس هذا المعنى ورد في سورة البقرة المدنية :﴿ وإذا قلتم يا موسى لن نومن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ﴾.
وها هنا فائدة لا بد من التنبيه إليها. وهي أن التعبير هنا في كتاب الله بهذا النوع من العدد ﴿ ثلاثين ليلة ﴾ و ﴿ أربعين ليلة ﴾ في سياق قوله تعالى :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ﴾ موافق لطريقة التاريخ المتعارف عند العرب قبل الإسلام وبعده. قال القاضي أبو بكر “ابن العربي” :“التاريخ إنما يكون بالليالي دون الأيام، لأن الليالي أوائل الشهور، وبها كانت الصحابة تخبر عن الأيام، حتى روي عنها أنها كانت تقول : " صمنا خمسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "، والعجم تخالفنا في ذلك فتحسب بالأيام، لأن معولها على الشمس، وحساب الشمس للمنافع، وحساب القمر للمناسك ".
ووصف كتاب الله ما ألقاه الحق سبحانه وتعالى على رسوله موسى، وأشار إلى ما أنزله عليه، وما أوصاه به هو وقومه، وما حذرهم منه من العذاب والهلاك إن خالفوا أمره :﴿ قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء، فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها، سأوريكم دار الفاسقين، سأصرف عن آيتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وكتبنا له في الألواح من كل شيء ﴾ إشارة إلى الألواح التشريعية الموسوية، وجريا على هذه السابقة يبدو أن الرومان بعد مرور أكثر من تسعة قرون على ألواح موسى قد بلغهم صداها، فاستعملوا نفس الاصطلاح، وأخذوا نفس " الألواح " وأطلقوه على أول محاولة حاولوها لوضع قانونهم الوضعي في بداية نشأته سنة ٤٥١ قبل الميلاد، وهو القانون المعروف عندهم باسم " قانون الألواح الاثني عشر ".
وقوله تعالى هنا آمرا لنبيه موسى :﴿ فخذها بقوة ﴾ هو من نوع الأوامر الإلهية العامة، الموجهة لجميع المؤمنين، إلى يوم الدين، و " الأخذ بالقوة " معناه امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه بعزم وحزم وحماس وحمية، أي بدون تردد ولا تهاون، وبكل اندفاع واعتزاز، شأن أهل الإيمان الصحيح، والعقيدة الصادقة.
وقوله تعالى بعد ذلك :﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ وارد مورد الأمر الأول، لموسى ومن معه، ولكل من جاء بعده، وكلمة الأحسن في قوله ﴿ بأحسنها ﴾ يحملها البعض على كل ما كان أرفق وأيسر، بناء على أن كل ما كان أرفق في الدين فهو أحسن، ويحملها البعض على كل ما كان أحوط وأحذر، بناء على أن كل ما كان أحوط للعبادة فهو أحسن، و " لكل وجهة هو موليها " و " لكل مقام مقال ".
وقوله تعالى :﴿ سأوريكم دار الفاسقين ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ﴾ تهديد ووعيد لكل من تحدى أوامر الله من العباد، أو وقف في وجهها وتصدى لها بالمعارضة والعناد.
ومما يتضمنه هذا التهديد الإلهي الخطير خذلان الله للمتكبرين الفاسقين، وحرمانهم من التوفيق والهداية إلى الحق المبين، وذلك معنى قوله تعالى :﴿ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ﴾.
ومن المفارقات العجيبة في شأن بني إسرائيل ما حكاه كتاب الله عنهم من أنهم بمجرد ما فارقهم موسى واستخلف عليهم أخاه هارون، وذهب ليخلو بنفسه، ويتمكن من حضور ميقات ربه في الوقت الموعود، عاد إليهم الشيطان بهمزاته ووساوسه، فأعادوا الكرة للعمل من جديد، في غيبة موسى، على إقامة صنم يعبدونه كما يعبد غيرهم من المشركين مختلف الأصنام والأوثان.
ونظرا لما تعودوا عليه في مصر الفرعونية التي كانوا فارقوها منذ عهد قريب من مشاهدة وعبادة المعبودات الوثنية، وفي طليعتها " العجل أبيس " الذي كان عند قدماء المصريين أهم معبوداتهم الحيوانية، باعتباره ممثلا لإلههم " فتاح " على سطح الأرض، فقد فكر بنو إسرائيل في تقليدهم، واتخذوا لهم صنما من الذهب على صورة العجل الذي طالما رأوه يعبد من دون الله. وليعطوه مظهر العجل الحقيقي حتى يتم التشابه بين عجلهم وعجل قدماء المصريين، صنعوه على هيئة خاصة تجعل له خوارا كخوار العجول الطبيعية، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، اتخذوه وكانوا ظالمين، ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ظلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ﴾ ويتصل بهذا المعنى قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾ وقوله تعالى أيضا :﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾ الآية.
وتذكر كتب التاريخ القديم أن قدماء المصريين كانوا يختارون لعبادتهم عجلا أسود الجلد، بشرط أن تكون على جبهته غرة مثلثة الشكل، وأن اليوم الذي كانوا يجدون فيه عجلا بهذه الأوصاف يعتبر يوم عيد عام، وكما أن يوم موته يكون يوم حداد عام، ثم يستمر حدادهم إلى أن يجدوا عجلا آخر على هيئته، وكانوا يحتفلون بدفنه احتفالا عظيما، ولهذه العجول مقبرة ضخمة بسقارة تعرف باسم السرابيوم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٨:ومن المفارقات العجيبة في شأن بني إسرائيل ما حكاه كتاب الله عنهم من أنهم بمجرد ما فارقهم موسى واستخلف عليهم أخاه هارون، وذهب ليخلو بنفسه، ويتمكن من حضور ميقات ربه في الوقت الموعود، عاد إليهم الشيطان بهمزاته ووساوسه، فأعادوا الكرة للعمل من جديد، في غيبة موسى، على إقامة صنم يعبدونه كما يعبد غيرهم من المشركين مختلف الأصنام والأوثان.
ونظرا لما تعودوا عليه في مصر الفرعونية التي كانوا فارقوها منذ عهد قريب من مشاهدة وعبادة المعبودات الوثنية، وفي طليعتها " العجل أبيس " الذي كان عند قدماء المصريين أهم معبوداتهم الحيوانية، باعتباره ممثلا لإلههم " فتاح " على سطح الأرض، فقد فكر بنو إسرائيل في تقليدهم، واتخذوا لهم صنما من الذهب على صورة العجل الذي طالما رأوه يعبد من دون الله. وليعطوه مظهر العجل الحقيقي حتى يتم التشابه بين عجلهم وعجل قدماء المصريين، صنعوه على هيئة خاصة تجعل له خوارا كخوار العجول الطبيعية، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، اتخذوه وكانوا ظالمين، ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ظلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ﴾ ويتصل بهذا المعنى قوله تعالى في سورة البقرة :﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾ وقوله تعالى أيضا :﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾ الآية.
وتذكر كتب التاريخ القديم أن قدماء المصريين كانوا يختارون لعبادتهم عجلا أسود الجلد، بشرط أن تكون على جبهته غرة مثلثة الشكل، وأن اليوم الذي كانوا يجدون فيه عجلا بهذه الأوصاف يعتبر يوم عيد عام، وكما أن يوم موته يكون يوم حداد عام، ثم يستمر حدادهم إلى أن يجدوا عجلا آخر على هيئته، وكانوا يحتفلون بدفنه احتفالا عظيما، ولهذه العجول مقبرة ضخمة بسقارة تعرف باسم السرابيوم.

وكم كان غضب موسى عليه السلام بالغا، وأسفه شديدا، بعد عودته من طور سيناء، إذ وجد بني إسرائيل قد تنكروا لكل ما نالهم من عفو وإحسان، وانزلقوا إلى عبادة الأوثان :﴿ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بيسما خلفتموني من بعدي، أعجلتم أمر ربكم، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه ﴾ لكن أخاه هارون لم يسعه إلا أن يهدئ روعه، مسترحما ومستعطفا، إذ خاطبه كما حكى عنه كتاب الله قائلا :﴿ قال ابن أم ﴾ أي يا ابن أمي، والغرض من هذا التعبير إثارة عطف أخيه موسى عليه وتسكين غضبه، وليس المراد أنه أخوه من أمه لا غير، فموسى وهارون أخوان شقيقان :﴿ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾.
وفي هذا الخطاب المؤثر وصف هارون بني إسرائيل بوصفين اثنين كل واحد منهما أخطر من الآخر، وصف " الأعداء " ووصف " الظالمين " ومن كان عدوا لله ظالما لربه، إذ أشرك به ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ وعدوا لرسوله ظالما له، إذ خان رسوله وحاول قتل خليفته عند تغيبه، ماذا يرجى منه من استقامة وصلاح، وماذا يرجى له من فوز وفلاح. على أن موسى نفسه وصفهم أيضا بوصف " السفهاء " إذ خاطب ربه قائلا في معرض توبيخهم، والتبرؤ من مخالفتهم :﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ ومن كان ذا سفاهة بشهادة نبيه على سفهه كيف يتأتى منه الرشد، ويزول عنه الطيش، ويتصرف تصرف العقلاء ؟ ﴿ إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وكذلك نجزي المفترين ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٠:وكم كان غضب موسى عليه السلام بالغا، وأسفه شديدا، بعد عودته من طور سيناء، إذ وجد بني إسرائيل قد تنكروا لكل ما نالهم من عفو وإحسان، وانزلقوا إلى عبادة الأوثان :﴿ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بيسما خلفتموني من بعدي، أعجلتم أمر ربكم، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه ﴾ لكن أخاه هارون لم يسعه إلا أن يهدئ روعه، مسترحما ومستعطفا، إذ خاطبه كما حكى عنه كتاب الله قائلا :﴿ قال ابن أم ﴾ أي يا ابن أمي، والغرض من هذا التعبير إثارة عطف أخيه موسى عليه وتسكين غضبه، وليس المراد أنه أخوه من أمه لا غير، فموسى وهارون أخوان شقيقان :﴿ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾.
وفي هذا الخطاب المؤثر وصف هارون بني إسرائيل بوصفين اثنين كل واحد منهما أخطر من الآخر، وصف " الأعداء " ووصف " الظالمين " ومن كان عدوا لله ظالما لربه، إذ أشرك به ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ وعدوا لرسوله ظالما له، إذ خان رسوله وحاول قتل خليفته عند تغيبه، ماذا يرجى منه من استقامة وصلاح، وماذا يرجى له من فوز وفلاح. على أن موسى نفسه وصفهم أيضا بوصف " السفهاء " إذ خاطب ربه قائلا في معرض توبيخهم، والتبرؤ من مخالفتهم :﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ ومن كان ذا سفاهة بشهادة نبيه على سفهه كيف يتأتى منه الرشد، ويزول عنه الطيش، ويتصرف تصرف العقلاء ؟ ﴿ إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وكذلك نجزي المفترين ﴾.

الربع الأخير من الحزب السابع عشر
في المصحف الكريم
قوله تعالى في بداية هذا الربع :﴿ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ﴾ جزء من دعاء موسى عليه السلام، وهو تتمة لدعائه الوارد في نهاية الربع الماضي :﴿ أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ﴾ وهذا الدعاء من حق كل مؤمن يؤمن بالله ورسوله وكتبه أن يدعو به لنفسه ولكافة المؤمنين.
وبعد الانتهاء من هذا الدعاء الشامل لخير الدنيا وخير الآخرة، يبدأ خطاب إلهي عام في موضوع العذاب والثواب، والنعمة والنقمة، ومضمون هذا الخطاب أن رحمة الله العامة تسع كل شيء مما يشاء، وأن عذابه يصيب به من يشاء، وإذا كانت الرحمة شاملة للنبات والحيوان والإنسان وكافة المخلوقات، فإن العذاب إنما يكون بالمرصاد لأعداء الله المتمردين على أوامره، من خصوم النبوات والرسالات، وذلك قوله تعالى :﴿ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ ولا يفهمن أحدا من هذه الآية أن الله يعذب من يشاء من عباده دون مبرر للعذاب، فإرادة الله المطلقة إرادة حكيمة، ومشيئته الحرة من كل قيد مشيئة عادلة، بمقتضى قوله تعالى :﴿ ولا يظلمون نقيرا ﴾، وقوله تعالى في آية أخرى ﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾ وأخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن لله عز وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة }.
ثم نبه كتاب الله إلى أن هناك رحمة خاصة زائدة على الرحمة العامة التي تشمل البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والنبات والحيوان، وجميع المخلوقات المنتشرة في الأكوان، وهذه الرحمة الخاصة اقتضت حكمته واستوجب عدله أن تكون قاصرة على خير أمة أخرجت للناس، متى حافظت على خيريتها ولم تتنازل عن هويتها، وذلك ما وعدها به الحق سبحانه وتعالى وعد حق وصدق إذ قال تعالى :﴿ فسأكتبها ﴾ أي الرحمة الخاصة، وتندرج تحتها عدة نعم جليلة ودقيقة، في الدنيا والآخرة :﴿ للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾.
وهذه الآيات الكريمة تتناول صفات الرسول صلى الله عليه وسلم التي يشترك فيها مع غيره من الأنبياء والرسل السابقين :﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ كما تبرز أهم الصفات، التي ميزته أولا ﴿ النبي الأمي ﴾ والتي ميزت رسالته عن بقية الرسالات ثانيا :﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال ﴾ التي كانت شائعة قبل الإسلام، بمعنى أنه جاء بدين طبعه الله بطابع السماحة واليسر، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( بعثت بالحنيفية السمحة ) وقال صلى الله عليه وسلم :( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وقال صلى الله عليه وسلم :( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل ).
وتتناول نفس الآيات صفات أتباع الرسول عليه السلام من صالحي المؤمنين، فهم أهل إيمان وإحسان، وتقوى وإتباع، وهم أهل وفاء وثبات على العهد الذي عاهدوا الله عليه، من نصرة رسوله، وبذل الأرواح في سبيله في كافة الظروف وجميع البقاع :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول ﴾﴿ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾.
ومما تنبغي ملاحظته هنا ما كررته الآية الكريمة هنا من صفة الإتباع التي هي شارة التكريم والتشريف، وموضع الأفضلية والخيرية للأتباع، فقد كررتها الآية مرتين، بصيغة المضارع الدالة على تجدد العمل حينا بعد حين :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ﴾ وبصيغة الماضي الدالة على وقوع الإتباع فعلا، لا قولا، وعملا لا ادعاء، ﴿ واتبعوا النور الذي أنزل معه ﴾ وكان مسك الختام في هذا المقام، تلك الإشارة الكريمة ذات المغزى البعيد، والطالع السعيد، ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ أي هم الفائزون لا غيرهم، وغيرهم خاسرون حتما، دنيا وأخرى.
وفي قوله تعالى :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ﴾ نقطة مهمة يجب الوقوف عندها، ذلك أن سورة الأعراف سورة ( مكية ) و ( الزكاة ) بالمعنى الذي تعرف به بين المسلمين الآن فريضة ( مدنية )، فما معنى ( الزكاة ) إذن في سورة الأعراف وما ماثلها من السور المكية، مثل سورة فصلت التي ورد فيها في سياق ذم المشركين قوله تعالى :﴿ وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة ﴾ ؟.
والجواب الذي أجاب به المحققون عن مثل هذا السؤال هو أن اسم ( الزكاة ) أطلق أولا بصفة إجمالية لم يكن فيها تقرير لمقادير خاصة، ولا تعيين لأنصبة معينة، ولما كثر عدد المسلمين بمكة نوعا ما فرض الله على أهل الأموال أن يعطوا للمحتاجين صدقة من زرعهم ونخلهم وثمارهم، بقوله تعالى في سورة الأنعام المكية، وهي من آخر ما نزل بمكة :﴿ كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ﴾.
وعندما تألفت جماعة المسلمين بالمدينة من المهاجرين والأنصار قام الأنصار بمواساة المهاجرين، وآثروهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وكانوا يعتبرون تلك العطايا واجبة عليهم، لأن القرآن كرر الأمر بها، وسماها ( زكاة ) وقرنها بالصلاة، وهكذا كانت الزكاة في أول الإسلام مفروضة على المسلمين بوجه إجمالي غير مفصل، وكانت مقاديرها ومواقيتها موكولة إلى أريحية المؤمنين أنفسهم وتقديرهم للظروف دون أي تحديد، اعتمادا على الوازع الديني المجرد، الذي يحث على التقرب إلى الله بكل ما فيه رضاه. وإنما فرضت الزكاة المعينة المحددة الأنواع والأنصبة والمواقيت في سنة اثنتين أو ثلاث بعد الهجرة إلى المدينة، فكان منها زكاة الأنعام، وزكاة الثمار، وزكاة النقدين، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوبها والحكمة في فرضها في غير ما حديث، ومن ذلك قوله لمعاذ وهو يودعه حين بعثه إلى اليمن :( فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ). وهكذا مرت الزكاة بعدة مراحل، ممن فصل القول فيها الشيخ محمد الطاهر " ابن عاشور " في كتابه " أصول النظام الاجتماعي في الإسلام "، وهو في ذلك متفق معنى وروحا مع ما قرره الإمام أبو إسحاق الشاطبي في كتابه " الموافقات " حول التشريع المكي والتشريع المدني وما بينهما من علاقة وتدرج. ثم خاطب الحق سبحانه وتعالى خاتم أنبيائه ورسله مكلفا إياه أن يبلغ الرسالة التي تلقاها من عند الله إلى جميع الناس، فهو رسول الله إلى كافة السلالات والأجناس، وهو رسول الله إلى من عاصره وإلى كل من يأتي بعده إلى يوم الدين :﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ﴾. كما كلفه بأن يدعوهم جميعا إلى الإيمان بالله ورسوله، وأن يأمرهم بإتباعه إن أرادوا الهدى والبعد عن الضلال :﴿ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾ فالسر كله في الإتباع " إتباع الهدى المحمدي " والشر كله في الابتداع " ابتداع الضلالات والبدع ".
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٦:الربع الأخير من الحزب السابع عشر
في المصحف الكريم
قوله تعالى في بداية هذا الربع :﴿ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ﴾ جزء من دعاء موسى عليه السلام، وهو تتمة لدعائه الوارد في نهاية الربع الماضي :﴿ أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ﴾ وهذا الدعاء من حق كل مؤمن يؤمن بالله ورسوله وكتبه أن يدعو به لنفسه ولكافة المؤمنين.
وبعد الانتهاء من هذا الدعاء الشامل لخير الدنيا وخير الآخرة، يبدأ خطاب إلهي عام في موضوع العذاب والثواب، والنعمة والنقمة، ومضمون هذا الخطاب أن رحمة الله العامة تسع كل شيء مما يشاء، وأن عذابه يصيب به من يشاء، وإذا كانت الرحمة شاملة للنبات والحيوان والإنسان وكافة المخلوقات، فإن العذاب إنما يكون بالمرصاد لأعداء الله المتمردين على أوامره، من خصوم النبوات والرسالات، وذلك قوله تعالى :﴿ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ ولا يفهمن أحدا من هذه الآية أن الله يعذب من يشاء من عباده دون مبرر للعذاب، فإرادة الله المطلقة إرادة حكيمة، ومشيئته الحرة من كل قيد مشيئة عادلة، بمقتضى قوله تعالى :﴿ ولا يظلمون نقيرا ﴾، وقوله تعالى في آية أخرى ﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾ وأخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن لله عز وجل مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة }.
ثم نبه كتاب الله إلى أن هناك رحمة خاصة زائدة على الرحمة العامة التي تشمل البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والنبات والحيوان، وجميع المخلوقات المنتشرة في الأكوان، وهذه الرحمة الخاصة اقتضت حكمته واستوجب عدله أن تكون قاصرة على خير أمة أخرجت للناس، متى حافظت على خيريتها ولم تتنازل عن هويتها، وذلك ما وعدها به الحق سبحانه وتعالى وعد حق وصدق إذ قال تعالى :﴿ فسأكتبها ﴾ أي الرحمة الخاصة، وتندرج تحتها عدة نعم جليلة ودقيقة، في الدنيا والآخرة :﴿ للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾.
وهذه الآيات الكريمة تتناول صفات الرسول صلى الله عليه وسلم التي يشترك فيها مع غيره من الأنبياء والرسل السابقين :﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ كما تبرز أهم الصفات، التي ميزته أولا ﴿ النبي الأمي ﴾ والتي ميزت رسالته عن بقية الرسالات ثانيا :﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال ﴾ التي كانت شائعة قبل الإسلام، بمعنى أنه جاء بدين طبعه الله بطابع السماحة واليسر، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( بعثت بالحنيفية السمحة ) وقال صلى الله عليه وسلم :( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وقال صلى الله عليه وسلم :( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل ).
وتتناول نفس الآيات صفات أتباع الرسول عليه السلام من صالحي المؤمنين، فهم أهل إيمان وإحسان، وتقوى وإتباع، وهم أهل وفاء وثبات على العهد الذي عاهدوا الله عليه، من نصرة رسوله، وبذل الأرواح في سبيله في كافة الظروف وجميع البقاع :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول ﴾﴿ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾.
ومما تنبغي ملاحظته هنا ما كررته الآية الكريمة هنا من صفة الإتباع التي هي شارة التكريم والتشريف، وموضع الأفضلية والخيرية للأتباع، فقد كررتها الآية مرتين، بصيغة المضارع الدالة على تجدد العمل حينا بعد حين :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ﴾ وبصيغة الماضي الدالة على وقوع الإتباع فعلا، لا قولا، وعملا لا ادعاء، ﴿ واتبعوا النور الذي أنزل معه ﴾ وكان مسك الختام في هذا المقام، تلك الإشارة الكريمة ذات المغزى البعيد، والطالع السعيد، ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ أي هم الفائزون لا غيرهم، وغيرهم خاسرون حتما، دنيا وأخرى.
وفي قوله تعالى :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ﴾ نقطة مهمة يجب الوقوف عندها، ذلك أن سورة الأعراف سورة ( مكية ) و ( الزكاة ) بالمعنى الذي تعرف به بين المسلمين الآن فريضة ( مدنية )، فما معنى ( الزكاة ) إذن في سورة الأعراف وما ماثلها من السور المكية، مثل سورة فصلت التي ورد فيها في سياق ذم المشركين قوله تعالى :﴿ وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة ﴾ ؟.
والجواب الذي أجاب به المحققون عن مثل هذا السؤال هو أن اسم ( الزكاة ) أطلق أولا بصفة إجمالية لم يكن فيها تقرير لمقادير خاصة، ولا تعيين لأنصبة معينة، ولما كثر عدد المسلمين بمكة نوعا ما فرض الله على أهل الأموال أن يعطوا للمحتاجين صدقة من زرعهم ونخلهم وثمارهم، بقوله تعالى في سورة الأنعام المكية، وهي من آخر ما نزل بمكة :﴿ كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ﴾.
وعندما تألفت جماعة المسلمين بالمدينة من المهاجرين والأنصار قام الأنصار بمواساة المهاجرين، وآثروهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وكانوا يعتبرون تلك العطايا واجبة عليهم، لأن القرآن كرر الأمر بها، وسماها ( زكاة ) وقرنها بالصلاة، وهكذا كانت الزكاة في أول الإسلام مفروضة على المسلمين بوجه إجمالي غير مفصل، وكانت مقاديرها ومواقيتها موكولة إلى أريحية المؤمنين أنفسهم وتقديرهم للظروف دون أي تحديد، اعتمادا على الوازع الديني المجرد، الذي يحث على التقرب إلى الله بكل ما فيه رضاه. وإنما فرضت الزكاة المعينة المحددة الأنواع والأنصبة والمواقيت في سنة اثنتين أو ثلاث بعد الهجرة إلى المدينة، فكان منها زكاة الأنعام، وزكاة الثمار، وزكاة النقدين، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوبها والحكمة في فرضها في غير ما حديث، ومن ذلك قوله لمعاذ وهو يودعه حين بعثه إلى اليمن :( فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ). وهكذا مرت الزكاة بعدة مراحل، ممن فصل القول فيها الشيخ محمد الطاهر " ابن عاشور " في كتابه " أصول النظام الاجتماعي في الإسلام "، وهو في ذلك متفق معنى وروحا مع ما قرره الإمام أبو إسحاق الشاطبي في كتابه " الموافقات " حول التشريع المكي والتشريع المدني وما بينهما من علاقة وتدرج. ثم خاطب الحق سبحانه وتعالى خاتم أنبيائه ورسله مكلفا إياه أن يبلغ الرسالة التي تلقاها من عند الله إلى جميع الناس، فهو رسول الله إلى كافة السلالات والأجناس، وهو رسول الله إلى من عاصره وإلى كل من يأتي بعده إلى يوم الدين :﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ﴾. كما كلفه بأن يدعوهم جميعا إلى الإيمان بالله ورسوله، وأن يأمرهم بإتباعه إن أرادوا الهدى والبعد عن الضلال :﴿ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾ فالسر كله في الإتباع " إتباع الهدى المحمدي " والشر كله في الابتداع " ابتداع الضلالات والبدع ".

ومن هنا انتقل كتاب الله مرة أخرى إلى الحديث عن بني إسرائيل، وكان ذلك عودا على بدأ، فأشارت الآيات الكريمة إلى معجزة جديدة أبرزها الله على يد موسى وعصاه :﴿ إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى، كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ وفي نفس الموضوع ورد قوله تعالى في سورة البقرة المدنية :﴿ وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ﴾ الآية، ثم عقب كتاب الله على ذلك قائلا :﴿ وما ظلمونا، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾.
وجاء دور بني إسرائيل في الانحراف من جديد، ﴿ فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ﴾ و " الرجز " إما العذاب أو الغضب أو الطاعون، وورد في سورة البقرة المدنية قوله تعالى في نفس الموضوع :﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ﴾.
وجاء دور بني إسرائيل في التحايل على التخلص من أوامر الله والتحلل من نواهيه، وبذلك وضعوا سابقة " الحيل " في الشريعة والدين :﴿ وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت، إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ﴾ أي ظاهرة على الماء من كل مكان :﴿ ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾.
وأعلن كتاب الله نوع العقاب الصارم الذي عاقبهم به جزاء تحايلهم على أوامره، وتحللهم من نواهيه، إذ قال تعالى :﴿ فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين، وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾ وفي قوة هذه الصيغة ما يفيد معنى القسم، و " تأذن " بمعنى أمر وأعلم، وقال تعالى :﴿ وقطعناهم في الأرض أمما ﴾ على غرار ما سبق في سورة البقرة المدنية :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلناها نكلا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٦:وأعلن كتاب الله نوع العقاب الصارم الذي عاقبهم به جزاء تحايلهم على أوامره، وتحللهم من نواهيه، إذ قال تعالى :﴿ فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين، وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾ وفي قوة هذه الصيغة ما يفيد معنى القسم، و " تأذن " بمعنى أمر وأعلم، وقال تعالى :﴿ وقطعناهم في الأرض أمما ﴾ على غرار ما سبق في سورة البقرة المدنية :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلناها نكلا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ﴾.
وأخيرا كشف كتاب الله النقاب عن الحكمة الإلهية فيما تقلب فيه بنو إسرائيل – ولا يزالون يتقلبون – من أطوار، بين الشدة والرخاء، والسراء والضراء، والنعمة والنقمة، فقال تعالى :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾. لكنهم استمروا على خيانة العهد كلما عاهدوا، وعلى نقض الميثاق كلما واثقوا :﴿ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ﴾ إلا أنهم ما لبثوا أن جعلوا كتابهم بضاعة للبيع والشراء، حسب مقتضيات الأغراض والأهواء :﴿ يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه، ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه ﴾ ؟.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٨:وأخيرا كشف كتاب الله النقاب عن الحكمة الإلهية فيما تقلب فيه بنو إسرائيل – ولا يزالون يتقلبون – من أطوار، بين الشدة والرخاء، والسراء والضراء، والنعمة والنقمة، فقال تعالى :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾. لكنهم استمروا على خيانة العهد كلما عاهدوا، وعلى نقض الميثاق كلما واثقوا :﴿ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ﴾ إلا أنهم ما لبثوا أن جعلوا كتابهم بضاعة للبيع والشراء، حسب مقتضيات الأغراض والأهواء :﴿ يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه، ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه ﴾ ؟.
وختم هذا الربع مؤكدا أن الدار الآخرة هي أحق من الدنيا بالعمل من أجلها والرجاء فيها، وهي خير للمتقين من كل الوجوه :﴿ والدار الآخرة خير للذين يتقون ﴾ ومنوها بالأجر العظيم الذي ادخره الله للصالحين من عباده، الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون، وللمتمسكين بكتابه، الذين لا يكتمون ما أنزل الله ولا يشترون به ثمنا قليلا :﴿ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾.
الربع الأول من الحزب الثامن عشر
في المصحف الكريم
أول آية في هذا الربع، هي آخر آية من قصة بني إسرائيل وردت في سورة الأعراف، وسبق في نهاية الربع الماضي الحديث عن " ميثاق الكتاب " الذي أخذه الله عليهم كما أخذه من بعد على غيرهم :﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ﴾.
وفي بداية هذا الربع أشار كتاب الله على سبيل التذكير إلى الظرف الذي أخذ عليهم فيه ذلك الميثاق، وهو ظرف لا ينسى، إذ تمت فيه إحدى معجزات موسى عليه السلام، ذلك أن الله أوحى إلى الجبل، فانقلع وارتفع في السماء، حتى كأنه مظلة تظلهم فوق رؤوسهم، فلما رأوا الجبل على تلك الحالة قال لهم موسى عليه السلام ألا ترون ما يقول ربي عز وجل :﴿ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل ﴾، وذلك ليقروا بميثاق الكتاب، ويحسبوا له كل حساب، فلم يسعهم حينئذ إلا القبول بعد التردد، والإقرار بعد التقاعس، نزولا على حكم هذه المعجزة الخارقة للعادة، وإلى المعنى الرئيسي الذي هو محور هذه القصة تشير الآية الكريمة بإيجاز :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم ﴾ أي رفعناه فوق رؤوسهم ﴿ كأنه ظلة ﴾ من الظل، وجمعها ظلل ﴿ وظنوا أنه واقع بهم ﴾ أي ساقط عليهم ﴿ خذوا ما آتاكم بقوة، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ﴾.
وقوله تعالى هنا :﴿ خذوا ما آتاكم بقوة ﴾الآية، أمر إلهي موجه رأسا لبني إسرائيل، على غرار الأمر الإلهي الموجه إلى موسى نفسه، ﴿ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾، وقد سبق في الربع الثالث من الحزب الماضي، والمراد به أن يأخذوا ميثاق الكتاب بجد وحزم وعزم وامتثال كامل، وقد تناول كتاب الله نفس القصة أيضا في سورة البقرة المدنية، حيث قال تعالى :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون، ثم توليتم من بعد ذلك ﴾ الآية. كما تناولها في سورة النساء المدنية أيضا، حيث قال :﴿ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ﴾. ولفظ الطور الوارد في سورة البقرة و النساء المدنيتين المراد به " الجبل " كما ورد هنا في سورة الأعراف :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم ﴾ إذ القرآن يفسر بعضه بعضا، وقد نص على هذا التفسير ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع ابن أنس وغيرهم من مفسري السلف كما نقله ابن كثير.
ثم انتقلت الآيات الكريمة في هذا الربع إلى الحديث عن أقدم وأول ميثاق أخذه الله على كافة العباد، وهم لا يزالون في أصلاب آبائهم سرا مكنونا في عالم الغيب، وهذا الميثاق هو ميثاق فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهو يتضمن في جوهره الإقرار بربوبية الله وبعبودية الإنسان، على أساس من التوحيد والإيمان. فما من إنسان إنسان وكل إلى فطرته الأولى، ولم تتعرض فطرته لعوامل التشويه والإفساد، إلا وهو مقر بألوهية الله وربوبيته للعباد، ومعترف من أعماق قلبه بهذا الميثاق، وملتزم بجميع نتائجه وآثاره على الإطلاق، دون معارضة ولا جحود، ودون أي قيد من القيود، مصداقا لقوله تعالى، ﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ﴾ حتى ما إذا وقع الإنسان بين أيد غير أمينة، فعملت على تشويه فطرته وإفسادها، انحرف عن الفطرة السليمة، واختلطت عليه العقيدة الصحيحة بالمعتقدات السقيمة، ونسي الميثاق الأزلي المعقود بين فطرته وبين ربه، ووقع في شرك الشيطان وحزبه.
وقد أشار كتاب الله في هذا السياق، إلى أن الحكمة الإلهية في المبادرة في أخذ هذا الميثاق هي قطع كل عذر لمن نكث بعد ذلك بالعهد، وإسقاط كل حجة لمن لم يبر بالوعد، مصداقا لقوله تعالى :﴿ ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ وإلى هذه المعاني مجتمعة يشير قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾ وكشف كتاب الله عما قد ينتحلونه من الأعذار لشركهم وكفرهم :﴿ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٢:ثم انتقلت الآيات الكريمة في هذا الربع إلى الحديث عن أقدم وأول ميثاق أخذه الله على كافة العباد، وهم لا يزالون في أصلاب آبائهم سرا مكنونا في عالم الغيب، وهذا الميثاق هو ميثاق فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهو يتضمن في جوهره الإقرار بربوبية الله وبعبودية الإنسان، على أساس من التوحيد والإيمان. فما من إنسان إنسان وكل إلى فطرته الأولى، ولم تتعرض فطرته لعوامل التشويه والإفساد، إلا وهو مقر بألوهية الله وربوبيته للعباد، ومعترف من أعماق قلبه بهذا الميثاق، وملتزم بجميع نتائجه وآثاره على الإطلاق، دون معارضة ولا جحود، ودون أي قيد من القيود، مصداقا لقوله تعالى، ﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ﴾ حتى ما إذا وقع الإنسان بين أيد غير أمينة، فعملت على تشويه فطرته وإفسادها، انحرف عن الفطرة السليمة، واختلطت عليه العقيدة الصحيحة بالمعتقدات السقيمة، ونسي الميثاق الأزلي المعقود بين فطرته وبين ربه، ووقع في شرك الشيطان وحزبه.
وقد أشار كتاب الله في هذا السياق، إلى أن الحكمة الإلهية في المبادرة في أخذ هذا الميثاق هي قطع كل عذر لمن نكث بعد ذلك بالعهد، وإسقاط كل حجة لمن لم يبر بالوعد، مصداقا لقوله تعالى :﴿ ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ وإلى هذه المعاني مجتمعة يشير قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾ وكشف كتاب الله عما قد ينتحلونه من الأعذار لشركهم وكفرهم :﴿ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون ﴾.

ثم عقب كتاب الله على ذلك كله، مبينا أنه إنما يفصل الآيات تفصيلا، لتتضح حقيقة الإيمان الكبرى، وليعود السفهاء الضالون إلى طريق الرشد والهدى، والمبطلون المنحرفون إلى جادة الحق والصواب :﴿ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ﴾.
روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم – أي صرفتهم عنه- وحرمت عليهم ما أحللت لهم ). وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) الحديث.
وانتقلت الآيات الكريمة لوصف صورة من صور الانحراف، الذي طالما تعرضت له فطرة الإنسان في مختلف العصور، فضربت المثل بحالة المكذبين بآيات الله بعد معرفتها، أولئك الذين ينزلون بانحرافهم من أعلى الدرجات إلى أسفل الدركات. وتشمل هذه الصورة بالخصوص من يكرمه الله بمعرفة آياته ليؤدي حقها في نفسه، وليبلغ رسالتها إلى الناس، ثم يستحوذ عليه الشيطان، فلا يلبث أن ينقلب به الحال، ويصيبه الخبال، ويستبدل بالعطاء سلبا، وبالهدي ضلالا، فيعرض عن النظر في آيات الله، ويعلن الحرب على الله، وينسلخ من دينه وعهده، كما ينسلخ الحيوان الذبيح من جلده، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان ﴾ أي استحوذ عليه وجعله تابعا ومطيعا له طاعة عمياء ﴿ فكان من الغاوين ﴾ أي من الحائرين الهالكين :﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ أي أنه بدلا من أن يرتفع إلى أعلى الدرجات، بما أكرمه الله به من الآيات، تنكب طريق الرفعة، واختار لنفسه السقوط إلى الحضيض، والنزول إلى أسفل الدركات، وقوله تعالى :﴿ واتبع هواه ﴾ على غرار قوله تعالى في آية أخرى :﴿ أرأيت من اتخذ إلهه هواه ﴾ فهواه عنده هو الدين المتبع :﴿ فمثله كمثل الكلب ﴾ وما أهون على الله وعلى الناس من يصفه كتاب الله بهذا الوصف المشين :﴿ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ﴾ أي أنه إذا زجر لم ينزجر، وإذا أهمل لم يعتبر، وهذا المعنى قريب من قوله تعالى في آية أخرى :﴿ سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٥:وانتقلت الآيات الكريمة لوصف صورة من صور الانحراف، الذي طالما تعرضت له فطرة الإنسان في مختلف العصور، فضربت المثل بحالة المكذبين بآيات الله بعد معرفتها، أولئك الذين ينزلون بانحرافهم من أعلى الدرجات إلى أسفل الدركات. وتشمل هذه الصورة بالخصوص من يكرمه الله بمعرفة آياته ليؤدي حقها في نفسه، وليبلغ رسالتها إلى الناس، ثم يستحوذ عليه الشيطان، فلا يلبث أن ينقلب به الحال، ويصيبه الخبال، ويستبدل بالعطاء سلبا، وبالهدي ضلالا، فيعرض عن النظر في آيات الله، ويعلن الحرب على الله، وينسلخ من دينه وعهده، كما ينسلخ الحيوان الذبيح من جلده، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان ﴾ أي استحوذ عليه وجعله تابعا ومطيعا له طاعة عمياء ﴿ فكان من الغاوين ﴾ أي من الحائرين الهالكين :﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ أي أنه بدلا من أن يرتفع إلى أعلى الدرجات، بما أكرمه الله به من الآيات، تنكب طريق الرفعة، واختار لنفسه السقوط إلى الحضيض، والنزول إلى أسفل الدركات، وقوله تعالى :﴿ واتبع هواه ﴾ على غرار قوله تعالى في آية أخرى :﴿ أرأيت من اتخذ إلهه هواه ﴾ فهواه عنده هو الدين المتبع :﴿ فمثله كمثل الكلب ﴾ وما أهون على الله وعلى الناس من يصفه كتاب الله بهذا الوصف المشين :﴿ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ﴾ أي أنه إذا زجر لم ينزجر، وإذا أهمل لم يعتبر، وهذا المعنى قريب من قوله تعالى في آية أخرى :﴿ سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾.

ثم عقب كتاب الله على ما وصف به المذبذبين الذين تعرضوا للسلب بعد العطاء من وصف مثير فقال تعالى :﴿ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ﴾.
وبين كتاب الله أن هذا النوع من الخلق هم أقبح مثل بين الناس، لأن الأفكار الخبيثة التي ينشرونها، والطرائق الفاسدة التي يسلكونها، تفعل بأتباعهم المخدوعين، ما لا تفعله الأوبئة والطواعين :﴿ ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ﴾.
وقوله تعالى :﴿ من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ﴾ معناه أن من رضي لنفسه أن يهتدي بهدى الله واستعمل ما وهبه الله من ملكات ومواهب استعمالا رشيدا، واتجه بها كلها اتجاه خير وتقوى وصلاح كان مهتديا وفائزا حقا وصدقا، مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى :﴿ فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى ﴾ ومن أعرض عن ذكر ربه واستعمل ما وهبه الله من ملكات ومواهب استعمالا سفيها، واتجه بها كلها اتجاه شر وفسق وفساد كان ضالا وخاسرا، أولا وآخرا، مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى :﴿ وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ﴾ وعلى مثل هذا الصنف يصدق قوله تعالى في أواخر هذا الربع :﴿ من يضلل الله فلا هادي له، ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾.
ونبه كتاب الله في سياق حديثه عن كثرة أهل النار من أين تتكون، إلى أن الحكمة الإلهية فيما آتاه الله للإنسان من حواس لطيفة متنوعة، وأجهزة دقيقة مختلفة، هي أن تكون نوافذ له يطل منها على الحقائق التي تحيط به من حوله، فإن لم يستعملها للملاحظة والتجربة، وإن لم ينتفع بها في التدبر والاعتبار، واستقصاء حقائق الأشياء القريبة والبعيدة، الحاضرة والغائبة، لم يختلف عن الحيوانات العجماء في شيء، بل إنه ليكون أقل منها درجات وأضل سبيلا، إذ إن الحيوانات العجماء – بحكم ما غرز الله فيها من غرائز بسيطة – تؤدي جميع المهام الموكولة إليها في حدود إحساسها الغريزي على أحسن وجه، وهي لا تعرف أي انحراف عنها أو انصراف، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون ﴾.
ونوه كتاب الله بالهادين المهتدين من أهل الحق والعدل، كما أنذر الضالين المضلين من أهل الباطل والظلم، وأعلن عن استدراجه إياهم، وإهماله لهم، في انتظار أخذهم على بغتة أخذا وبيلا :﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم، إن كيدي متين ﴾ ومن هدده بالكيد له رب العالمين، كان من غير شك أخسر الخاسرين في الدنيا والدين.
الربع الثاني من الحزب الثامن عشر
في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع، يتلقى خاتم الأنبياء والمرسلين من رب العالمين، أمرا إلهيا بقصد التعليم والتلقين لجميع المؤمنين، وهذا الأمر يرمي إلى إزالة كل شك أو ريب، في أن الله وحده هو النافع الضار، والمنفرد بالتصرف المطلق في خلقه دون غيره، ولو كان هذا الغير نبيا أو رسولا، ولو كان هذا الغير خاتم الأنبياء والمرسلين، ويتضمن هذا الأمر تعريف الناس أجمعين بأن الرسول لا يملك حتى لنفسه نفعا ولا ضرا، رغما عن كونه يحمل شارة الرسالة، المؤذنة باصطفائه واختياره على جميع الخلق، ورغما عن كونه في أعلى درجات القرب من الله والحصول على رضاه، وإذا كان الرسول الكريم في منطق القرآن السليم، يعلن عن نفسه، بأمر من ربه، أنه لا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرا، فمن باب أولى وأحرى أن يكون إعلانه عن هذه الحقيقة شاملا لغيره من بقية الناس. وهذه تربية من الله لعباده، وإرشاد لهم بهذا الأسلوب المباشر، حتى لا تختلط في أذهانهم ولا في عقائدهم خصائص الألوهية بخصائص النبوة.
وتأكيدا لنفس المعنى مضى الخطاب الإلهي يلقن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ماذا ينبغي أن يعلم لأمته حتى لا تضل سواء السبيل، فأثبت بأسلوبه الخاص أن علم الغيب بالأصالة إنما هو من اختصاص علام الغيوب وحده :﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾، لكن يحدث أحيانا أن يتكرم الحق سبحانه وتعالى، ويظهر على شيء من غيبه بعضا من خواص خلقه، وذلك لحكمة إلهية، وهذا لا يعدو أن يكون " منحة ربانية " لهم في بعض الظروف، مصداقا لقوله تعالى في سورة الجن المكية :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول ﴾.
وأوضح كتاب الله هنا فيما لقنه لرسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم أن الرسول لو كان يعلم الغيب فعلا لانتفع بعلم الغيب فيما يتناوله من شؤون، ولتفادى بفضله كثيرا من الأحداث والمفاجآت، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم :( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء ).
ومن التفاسير التي أوردها ابن جرير الطبري لهذه الآية :( لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من السنة المخصبة، ولوقت الغلاء من وقت الرخص، ولاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون ). وقال القاضي عبد الجبار : " المراد لو كنت أعلم الغيب وقت خروجي من الدنيا لاستكثرت من الخير والطاعة، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يعرف قدر أجله، ولو عرفه لزاد في الطاعات أضعافا، وليس المراد لاستكثرت من الخير فيما يتصل بلذات الدنيا، وقد يحتمل : لاستكثرت من الخير في دفع المضار عن نفسي والمؤمنين ".
ثم أكد كتاب الله على لسان رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم أن اختصاص الرسالة على وجه الأصالة لا يتجاوز البشارة والنذارة، فهو " بشير ونذير " للناس أجمعين، ولاسيما للمؤمنين الذين هم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، وذلك قوله تعالى بصيغة الحصر :﴿ إن أنا إلا نذير، وبشير لقوم يؤمنون ﴾.
وانتقل كتاب الله إلى وصف حالة يختلط فيها الإيمان بالشرك عند كثير من الناس، ذلك أن الله تعالى طبع الإنسان، ذكرا وأنثى، على حب الذرية والرغبة في إنجاب الأولاد، ومن أجل تحقيق هذه الرغبة يستعمل بعض الناس لجهلهم كل الوسائل الممكنة، حتى الوسائل غير المشروعة، لاسيما إذا طال على بعضهم الانتظار وامتد به الأمد، وهكذا يصبح الزوج والزوجة في قلق واضطراب، تارة يستجيبان لفطرة الله فيتوجهان بدعائهما ورجائهما في إنجاب الولد إلى الله، وتارة ينحرفان عن الفطرة فيعقدان الأمل والرجاء على غير الله، ويظهر أثر ذلك فيما يقدمه الأب أو الأم من نذر إلى غير الله، ومن اعتقاد بأن ذلك الغير كان له تأثير مباشر في تحقيق مناه، أيا كان ذلك الغير، صنما أو إنسانا، حيا أو ميتا.
وإلى وصف هذه الحالة وما ماثلها يشير قوله تعالى هنا :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به ﴾ والتغشي هنا كناية عن المباشرة، وهو تعبير منسجم مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ ﴿ فلما أثقلت ﴾ أي صارت ذات ثقل بحملها :﴿ دعوا الله ربهما ﴾ أي الزوج والزوجة ﴿ لئن- أتيتنا صالحا ﴾ أي لئن أعطيتنا بشرا سويا ووليدا غير مشوه ﴿ لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا ﴾ أي أعطاهما الله مولودا سليما كما طلبا ﴿ جعلا له شركا فيما آتاهما ﴾ أي نسيا الله تعالى، ونسبا نجاح الحمل ونجاح الولادة إلى غير الله من الأصنام والأوثان، أو إلى غير الله من أهل الصلاح المشهورين بين أهل الملل والأديان :﴿ فتعالى الله عما يشركون، أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ﴾. ويتصل بهذا الموضوع قوله تعالى في هذه السورة :﴿ ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين ﴾، وقوله تعالى في سورة لقمان :﴿ هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه، بل الظالمون في ضلال مبين ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٩:وانتقل كتاب الله إلى وصف حالة يختلط فيها الإيمان بالشرك عند كثير من الناس، ذلك أن الله تعالى طبع الإنسان، ذكرا وأنثى، على حب الذرية والرغبة في إنجاب الأولاد، ومن أجل تحقيق هذه الرغبة يستعمل بعض الناس لجهلهم كل الوسائل الممكنة، حتى الوسائل غير المشروعة، لاسيما إذا طال على بعضهم الانتظار وامتد به الأمد، وهكذا يصبح الزوج والزوجة في قلق واضطراب، تارة يستجيبان لفطرة الله فيتوجهان بدعائهما ورجائهما في إنجاب الولد إلى الله، وتارة ينحرفان عن الفطرة فيعقدان الأمل والرجاء على غير الله، ويظهر أثر ذلك فيما يقدمه الأب أو الأم من نذر إلى غير الله، ومن اعتقاد بأن ذلك الغير كان له تأثير مباشر في تحقيق مناه، أيا كان ذلك الغير، صنما أو إنسانا، حيا أو ميتا.
وإلى وصف هذه الحالة وما ماثلها يشير قوله تعالى هنا :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به ﴾ والتغشي هنا كناية عن المباشرة، وهو تعبير منسجم مع قوله تعالى في آية أخرى :﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ ﴿ فلما أثقلت ﴾ أي صارت ذات ثقل بحملها :﴿ دعوا الله ربهما ﴾ أي الزوج والزوجة ﴿ لئن- أتيتنا صالحا ﴾ أي لئن أعطيتنا بشرا سويا ووليدا غير مشوه ﴿ لنكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا ﴾ أي أعطاهما الله مولودا سليما كما طلبا ﴿ جعلا له شركا فيما آتاهما ﴾ أي نسيا الله تعالى، ونسبا نجاح الحمل ونجاح الولادة إلى غير الله من الأصنام والأوثان، أو إلى غير الله من أهل الصلاح المشهورين بين أهل الملل والأديان :﴿ فتعالى الله عما يشركون، أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ﴾. ويتصل بهذا الموضوع قوله تعالى في هذه السورة :﴿ ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين ﴾، وقوله تعالى في سورة لقمان :﴿ هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه، بل الظالمون في ضلال مبين ﴾.

وبعدما لقن كتاب الله خاتم أنبيائه ورسله حججه البالغة ليقارع بها الشرك وأهله، ويبطل بها أباطيلهم وأضاليلهم من أساسها، عاد إلى رسوله بالمواساة والتوجيه، ليثبت فؤاده على الحق، وليسلك به مسالك الأناة والصبر، وليمده بمدد روحي جديد يستعين به على تحمل الأذى، ومواجهة الجفاء، فقال تعالى مخاطبا لنبيه :﴿ خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين، وإما ينزغنك من الشياطين نزغ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم ﴾.
قال قتادة : " هذه أخلاق أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ودله عليها " وقال القاضي أبو بكر " ابن العربي " : " قال علماؤنا هذه الآية من ثلاث كلمات، قد تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات، حتى لم يبق فيها حسنة إلا أوضحتها، ولا فضيلة إلا شرحتها، ولا أكرومة إلا افتتحتها، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة. فقوله تعالى :﴿ خذ العفو ﴾ تولى بالبيان جانب اللين ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف، وقوله تعالى، ﴿ وامر بالعرف ﴾ تناول جانب المأمورات والمنهيات ؛ وأنهما ما عرف حكمه، واستقر في الشريعة موضعه، واتفقت القلوب على علمه. وقوله :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ تناول جانب الصفح بالصبر، الذي به يتأتى للعبد كل مراد في نفسه وغيره. ولو شرحنا ذلك على التفصيل لكان أسفارا ".
وعلى عكس ما فهم بعض المتأخرين من كلمة " العرف " الواردة هنا، فحملها على الأعراف والعادات، نبه القاضي أبو بكر " ابن العربي " وغيره من المفسرين والفقهاء إلى أن المراد بالعرف في هذا السياق هو " المعروف من الدين، المعلوم من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، المتفق عليه في كل شريعة ". وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أوامر ربه حق الامتثال، وطبقها في حياته وسلوكه على التمام والكمال، ثم بسط القاضي أبو بكر " ابن العربي " القول في تفسير هذه الآية وتحليلها فقال : " أما العفو فإنه عام في متناولاته، ويصح أن يراد به : خذ ما خف وسهل مما تعطى، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من الصدقة التمرة والقبضة والحبة والدرهم والسمل " الثوب البالي " ولا يلمز شيئا من ذلك ولا يعيبه، ولقد كان يسقط من الحقوق ما يقبل الإسقاط، حتى قالت عائشة في الحديث الصحيح ( ما انتقم رسول الله لنفسه قط ).
" وأما الاحتمال، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يصبر على الأذى ويحتمل الجفاء، حتى قال صلى الله عليه وسلم :( يرحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ).
" وأما مخالقة الناس وملاطفتهم فقد كان أقدر الخلق عليها وأولاهم بها : فإنه كان صلى الله عليه وسلم يلقى كل أحد بما يليق به، من شيخ وعجوز، صغير وكبير، وبدوي وحضري، وعالم وجاهل، ولقد كانت المرأة توقفه في السكة من سكك المدينة فيقف لها، ولقد كان يقول لأخ صغير لأنس : يا أبا عمير ما فعل النغير، متلطفا ومؤنسا " والنغير تصغيرالنغر " وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار. ولقد كان يكلم الناس بلغاتهم " أي بلهجتهم " تأنيسا لهم وتطييبا لخواطرهم " كلام ابن العربي ".
وقوله تعالى :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم ﴾ ورد معناه في كتاب الله في آيتين أخريين، وإحداهما في سورة ﴿ قد أفلح المؤمنون ﴾ وهي قوله تعالى :﴿ وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون ﴾ وثانيتهما في سورة ﴿ حم السجدة ﴾ وهي قوله تعالى :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم ﴾ قال ابن كثير : " ولا رابع لهن في كتاب الله ".
وأصل " النزغ " الفساد، إما بالغضب أو بغيره، و " العياذ بالله " هو الاستجارة به من الشر، والالتجاء والاستناد إلى حمايته سبحانه، قال ابن جرير في تفسير هذه الآية :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ﴾ أي وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل، أو يحملك على مجازاته ﴿ فاستعذ بالله ﴾ أي فاستجر بالله من نزغه :﴿ إنه سميع عليم ﴾ أي ﴿ سميع ﴾ لجهل الجاهل عليك والاستعاذة به من نزغه، وسميع لغير ذلك من كلام خلقه، إذ لا يخفى عليه شيء، و﴿ عليم ﴾ بما يذهب عنك نزغ الشيطان، وعليم بغير ذلك من أمور خلقه.
وقال القاضي عبد الجبار : " معنى قوله تعالى :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ﴾ التحرز من وسوسة الشيطان، لأن الشيطان لا يتمكن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما كان الخطاب هنا بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره "، أي أن يكون الخطاب الموجه ظاهرا في هذه الآية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، موجها في الحقيقة عن طريقه إلى أمته، فهي المقصودة به بالذات، حتى تتغلب على ما للشيطان من وساوس وهمزات.
وختمت سورة الأعراف بالتنويه بكتاب الله وهديه، ودعوة كل مؤمن إلى سماع القرآن والإنصات إليه من كل قلبه، وبتعريف المؤمنين أجمعين بما يلزمهم من أدب الدعاء وحسن العبادة، حتى يحظوا بالقبول عند الله ويندرجوا في سلك أهل السعادة، وذلك قوله تعالى في ختام سورة الأعراف :﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، ولا تكن من الغافلين، إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٠٤:وختمت سورة الأعراف بالتنويه بكتاب الله وهديه، ودعوة كل مؤمن إلى سماع القرآن والإنصات إليه من كل قلبه، وبتعريف المؤمنين أجمعين بما يلزمهم من أدب الدعاء وحسن العبادة، حتى يحظوا بالقبول عند الله ويندرجوا في سلك أهل السعادة، وذلك قوله تعالى في ختام سورة الأعراف :﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، ولا تكن من الغافلين، إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٠٤:وختمت سورة الأعراف بالتنويه بكتاب الله وهديه، ودعوة كل مؤمن إلى سماع القرآن والإنصات إليه من كل قلبه، وبتعريف المؤمنين أجمعين بما يلزمهم من أدب الدعاء وحسن العبادة، حتى يحظوا بالقبول عند الله ويندرجوا في سلك أهل السعادة، وذلك قوله تعالى في ختام سورة الأعراف :﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، ولا تكن من الغافلين، إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ﴾.
Icon