هذه السورة مكية كلها إلا بضع آيات منها. وهي تتضمن فيضا من المعاني والمشاهد والقصص والأحكام. والسورة مبدوءة بثلاثة أحرف مقطعة. وهي من جملة فواتح السور التي تندرج في تطاق متشابه من القرآن والتي لا تقف على حقيقة المراد منها سوى الله، وإن قيل في تأويله ما قبل.
ويأمره الله عباده باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، وينهاهم في الوقت نفسه عن اتباع غير الله من الشركاء أو الآلهة المصطنعة كالأوثان والأصنام وغير ذلك من صور الآلهة المزيفة المفتراة.
ويحذر الله عباده أيضا عاقبة الإعراض عن دينه، فلئن لم يؤمنوا وظلوا مستنكفين سادرين في ضلالهم وعدوانهم على دين الله ؛ فإنهم يوشك أن يحيق بهم ما حاق بالأمم الغابرة ؛ إذ جاءهم من الله العذاب فدمرهم بسبب ظلمهم وعدوانهم على أنبياء الله. وذلك غير ما ينتظر هؤلاء الظالمين المضلين من عذاب الله بئيس يوم القيامة، يوم يضع الله الموازين الحق ليناقشوا الحساب.
وفي السورة بيان عن قصة إبليس الذي أعرض وتمرد وفسق عن أمر أمر الله فأبى أن يسجد لآدم. ثم أمر الله آدم وزوجه أن يسكنا الجنة ويأكلا مما شاءا منها باستثناء شجرة معلومة لهما، لكنهما قد أضلهما إبليس بعد أن خاض معها جولة من الجدال والتغرير والخادع حتى أغواهما فأكلا منها. ثم أمرهم الله جميعا بالهبوط إلى الأرض ليحيوا حياتهم الدنيا إلى أجل معلوم، وليفعل إبليس وجنوده فعلتهم الطاغية الملعونة في الفتنة والإفساد حتى إذا قامت الساعة سيق إبليس وجنوده وأتباعه من شياطين الإنس والجن فكبكبوا جميعا في النار. من أجل ذلك، ها هو القرآن الحكيم ما زال يهتف بالبشرية في كل آن لكي تحاذر فتنة إبليس وجنوده من شياطين الجن والإنس وأن تبوء إلى الله القادر الحكيم باتباع منهجه القويم فلا تزيغ عنه ولا تنثني.
وفي السورة ما يكشف عن طبيعة الإسلام القائم على الاعتدال والتوسط والمراعاة الكاملة للفطرة البشرية. ومن جملة الأدلة على هذه الحقيقة : إباحة الزينة بكل صورها وأنواعها، وإباحة الأكل والشرب مما يستلذه الإنسان ويستطيب شريطة مجانية الإسراف في ذلك كله ؛ أي اجتناب ما فيه عصيان لله، أو ما حرمه الشارع الحكيم.
وفي السورة تصوير مريع لحال الكافرين الضالين، والأشقاء الظالمين من الإنس والجن وهم يتقاحمون في النار بعضهم إثر بضع. وما تهوي أمة من الأمم في جهنم حتى تلعن أختها التي سبقتها فما من أمة من الأمم تهوي في النار إلا ويحيق بها اللعن من أمة أخرى، حتى إذا اجتمعوا في النار جميعا أخذوا في التقريع فيما بينهم ؛ إذ توبيخ كل أمة غيرها من الأمم، فيزجر الضعفاء الأقوياء ؛ لأنهم أغووهم وأضلوهم، ثم يرد الأقوياء مقالتهم ليرجعوا إليهم التوبيخ والتعنيف والانتهار مما يزيدهم لوعة واستحسارا وتلك حال الذين كفروا في النار سواء فيهم الضالون والمضلون ؛ فهم جميعا مصبورون في النار يجدون من أوان العذاب المفظع ما لا تحتمله الرواسي الشم.
وفي السورة تيئيس للكافرين الظالمين من كل رحمة فهم مبعدون غاية من الخير كيلا يجدوا من المال غير الخزي والهوان في هذه الدنيا، وهم في الآخرة محرمون من جنات الله ؛ إذ لا أمل لهم البتة يدخلوها إلا بمقدار ما يتخيله الذهن من ولج الجمل في اسم الخياط !
ويقص علينا القرآن في هذه السورة حال أصحاب الجنة في النعيم المقيم، وحال أصحاب النار في العذاب الحارق المستديم. يوم يصطرخ الكافرون في النار وهم ينادون أهل الجنة عسى أن يسكبوا علهم شيئا من الماء فيبردون به أو يخفف عنهم من حرارة اللهب أو يطفئ فيهم بعض الظمأ والغلة.
وتعرض السورة لبعض الحقائق الكونية الني يقررها القرآن بأسلوبه المميز كخلق السموات والأرض في سنة أيان وما عقب ذلك الاستواء على العرش. وكذلك الإخبار عن بعض من حقائق الفلك والطبيعة كالليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والرياح والمطر مما لم يكن في حسبان الأولين عند نزول القرآن.
ويقص علينا القرآن من أخبار الأمم السالفة الذين عتوا من أمر ربهم وعصوا أنبياءهم فأخذهم الله بالعذاب الشديد في هذه الدنيا. فهؤلاء قوم نوح أخدهم الله بالطوفان الهادر بعد أن طغوا واستكبروا واستيأس منهم نوح. ثم قوم عاد أصحاب هو دمر الله عليهم بالريح الصرصر العاتية. ثم قوم صالح الذين عقروا ناقة الله فجزاهم الله بالصيحة والرجفة تأتي عليهم لتذرهم صفصفا بياتا. ثم قوم لوط الذين فعلوا الفاحشة النكراء مما لم يسبقهم إلى مثله أحد في العالمين، فجعل الله عاليهم سافلهم وأمطرهم بعد ذلك بالحاجرة زيادة لهم في العذاب والنكل. ثم قوم مدين الذين نصح لهم شعيب وحذرهم الفساد والغش والخيانة في الكيل والميزان فعصوا واستكبروا فأخذهم الله بالصيحة والرجفة فزهقت أرواحهم وتبددت أجسامهم تبديدا.
وأخيرا تقص علينا السورة من أخبار بني إسرائيل ونبيهم موسى عليه السلام، إذ أرسله الله إلى فرعون فأبي وطغي ثم أراه موسى الآية الكبرى الدالة على صدق نبوته لكنه مع ذلك استكبر وتجبر، ثم حشر الناس والسحرة ليواجهوا بسحرهم معجزة موسى، فهزم موسى السحرة، ثم أعلنوا إيمانهم وتصديقهم بمعجزة السماء فتوعدهم فرعون بالتنكيل، لكنهم ثبتوا على الحق وصبروا على ظلم فرعون وزبانيته، ثم جمع فرعون جنوده ليلحق بموسى وبني إسرائيل لينكل بهم تنكيلا. فيمم موسى ومعه بنو إسرائيل صوب البحر فضربه موسى بعصاه فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقا يبسا ممهدا للمشي فيه والمسير.
وتقص علينا السورة كانت مجاوزة بني إسرائيل البحر ليجدوا قوما مشركين يعكفون على أصنام لهم فمالت إلى مثله نفوسهم لولا أن زجرهم موسى زجرا. ثم ذهب وموسى لميقات ربه ليتلقى منه التوراة والأحكام والمواعظ، وليبتهل إليه بالدعاء والذكر، وكان قد استخلف أخاه هارون في قومه ليقودهم ويرشدهم في غيابه لكنهم سرعان ما جنحت نفوسهم لعبادة المحسوس فأبوا إلا أن يصطنعوا لأنفسهم من الحلي عجلا لعبادته بما يكشف عن طبيعة القوم. هذه الطبيعة العجيبة الغائرة في الالتواء والخور.
ثم تقص علينا السورة من أنباء إسرائيل عن القرية التي كانت حاضرة البحر ( أيلة ) إذ احتال أهلها على ملتهم التي حرمت عليهم الاصطياد في السبت لكنهم استحلوا ما حرم الله عليهم فعله باحتيالهم المكشوف الفاضح فجزاهم الله بفعلتهم هذه خزي المسخ إلى قردة وخنازير ! ! لا جرم أنه الخزي والشنار أصاب هؤلاء الأشقياء ليظل التاريخ والكتب مستغرقة في الحديث عنه طيلة الدهر إلى قيام الساعة.
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
قوله تعالى :﴿ المص ١ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ٢ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ٣ ﴾.
كتاب، خبر للمبتدأ ﴿ المص ﴾ وقيل : خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذا كتاب١، والمراد بالكتاب القرآن. والمخاطب في الآية هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى : أن الله أنزل إليك القرآن يا محمد لتقوم بتبليغه للناس ﴿ فلا تكن في صدرك حرج منه ﴾ أي لا تتحرج من إبلاغه للناس ولا تكن في ضيق من إعراضهم وصدهم عنه بل اصبر كما صبر أولو اعزم من الرسل.
قوله :﴿ لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾ أي أنزلنا هذا الكتاب إليك يا محمد لتنذر به الناس فيكون لهم نذيرا يخوفهم العذاب في الدنيا والآخرة. وهو كذلك ذكرى للمؤمنين. أي أنه تذكير لهم لقبلوا على الله بفعل الطاعات والانزجار عن إتيان المعاصي.
قوله :﴿ قليلا ما تذكرون ﴾ قليلا منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، والتقدير : تذكرون تذكرا قليلا. وما زائدة١ والمعنى : أنكم قليلا ما تعتبروا أو تتعظون، فها أنتم لا تتأثرون بالآيات والدلائل ولا تفيئون إلى الحق والصواب بل تتبعون غيره من سبل الضلال والباطل.
كم، خبرية للتكثير في محل رفع مبتدأ. خبره ﴿ فجاءها بأسنا ﴾ بياتا. منصوب على المصدر في موضع الحال. وهم قائلون جملة اسمية في نحل نصب حال من أهل القرية١.
ذلك تخويف من الله لهؤلاء الضالين المشركين. وفيه تذكير بالذل حل بالأمم السابقة من التدمير والتنكيل لفسقهم وإعراضهم عن دعوة الله وتكذيبهم رسل الله فقد جاءهم عذاب الله ﴿ بيانا ﴾ أي ليلا وهم نائمون ﴿ أو هم قائلون ﴾ أي نهارا في وقت القائلة أو القيلولة وهي منتصف النهار ؛ أي أن عذاب الله قد جاءهم وهم في غفلة من السهر والراحة أما ليلا أو نهارا.
الفاء في قوله :﴿ فلنسألن ﴾ لترتيب الأحوال الأخوية على الأحوال الدنيوية واللام لام القسم. والذين أرسل إليهم يعني الأمة. والمراد بالمرسلين الرسل الذين بعضهم الله لدعوة العباد إلى عقيدة التوحيد١.
و تتضمن الآية وعيدا للكافرين وتوبيخا على ما فرطوا في حق الله، ومن أجل عصيانهم النبيين ومجانبتهم دعوة الله ؛ فلسوف يسأل الله الأمم عما أجابوا به رسلهم لما دعوهم إلى دنيه، دين الحق والعدل والتوحيد. وكذلك فإن الله يسأل النبيين المرسلين الذين بعثهم الله للناس، هل بلغوا ما أرسلوا به وماذا أجابهم به قومهم. وذلك كله على سبيل التوعد والتخويف للكافرين مع أنه معلوم أن الله يعلم جواب كل من الفريقين قبل أن يجيب، ويعلم الحقيقة قبل أن يقولها لكل من الفريقين. لكن هذه المساءلة يوم القيامة لهي زيادة في التخويف والتعنيف والتنكيل بالعصاة الذين ظلموا أنفسهم في الدنيا وظلموا غيرهم من الناس.
والمراد بالوزن، وزن أعمال العبد. وإنما يكون ذلك بالحق وهو العدل. وقيل : الوزن مصدر ؛ إذ تقول : وزنت كذا أزنه وزنا وزنة. ومعناه بذلك : أن الوزن يوم القيامة الحق وهو العدل.
قوله :﴿ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ﴾ الموازين جمع ميزان، وهو المعروف والذي يوزن به. فيكون المعنى : أن الموازين تتقل بثقل ما يوضع فيها تبعا لحال الموزون له. فالمؤمن تثقل حسناته على سيئاته. وعكسه الفاسق فإنه تثقل سيئاته على حسناته. وقيل : الموازين جمع موزون ؛ فيكون المراد بالموازي الحسنات. فمن كثرت حسناته ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ أي الفائزون بالنجاة والثواب الذين ظفروا بالخلود في جنات الله.
وقوله :﴿ صورناكم ﴾ أي ذرية آدم، وحقيقة ذلك : أن آدم خلق من طين ثم صور وأكرم بالسجود. أما ذريته فقد صوروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصرب الآباء.
قوله :﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ﴾ أي لما صورنا آدم وجعلناه خلقا سويا ونفخنا فيه من روحنا، أمرنا الملائكة بالسجود له، ابتلاء واختبارا لهم بهذا الأمر كي يستنبن الطائع منهم من العاصي، فسجدوا كلهم باستثناء إبليس فإنه لم يكن من الساجدين لآدم. على أن المراد بالسجود هو تعظيم آدم وليس نفس السجدة. وقيل : المراد نفس السجدة لكن المسجود له هو الله. وقيل : بل إن المسجود له هو آدم.
والجملة الفعلية من ﴿ منعك ﴾ في محل رفع خبر المبتدأ. وألا، في موضع نصب مفعول منعك. ولا زائدة. والتقدير : ما منعك أن تسجد. وإذ، ظرف زمان١ وهذه الآية مما استدل به كثير من الأصوليين على أن الأمر المطلق يفيد الوجوب على الفور ؛ لأن الله ذم إبليس على ترك المبادرة. ولو لم يكن الأمر للفور لما استحق إبليس الذم على التأخير، ولكان له أن يقول : إنك لمن تأمرني بمبادرة السجود على الفور. وقد خاطب الله هذا المخلوق الشقي محتقرا إياه، وتقدير ذلك أنه : أي شيء منعك من السجود لآدم إذ أمرتك بالسجود له ؟ وذلك أن إبليس كائن غريب يختلف اختلافا أساسيا عن سائر الكائنات الأخرى، فغنه هو وجنوده من شياطين الجن ذوو جبلة مستعصية، فطرت على الخبث والنزوع للشر والفسق.
ذلك هو إبليس وجنوده من شياطين الجن. إنهم لا أمل ف هدايتهم البتة ؛ لأنهم أولو طبائع خاوية شريرة، محفلة بالعتو والجحود، غاية في الالتواء والشذوذ.
وهم إنما يجنحون بطبيعتهم في كل آن للإفساد والتضليل والإغواء.
ومما يدل على هذه الحقيقة الراسخة، ما أجاب به إبليس اللعين ؛ ربه إذا قال ﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ ومثل هذا الجواب لا يصدر إلا عن كائن لئيم مقبوح، جبل على الشر والباطل. ومن يجترئ على مثل هذا الجواب اللئيم المتوقح العاتي لرب العالمين إلا كائن لعين أثيم كإبليس ينطق بهذه المقولة في وقاحة لا تبلغها وقاحة الأشرار والعتاة إلا في مثل إبليس الرجيم.
قوله :﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ ذلك اجتراء فاضح من إبليس على ربه، إذ يقول في اغترار جهول أحمق إنه أفضل من آدم ؛ لأنه مخلوق من نار لكن آدم خلق من طين. والنار أشرف من الطين وهو قياس فاسد وسخيف يتعلل به هذا الكائن الشقي أمام حضرة الإلهية. والله جل وعلا حقيق بامتثال لأمره دون تردد، وخليق أن تخر له الجباه والنواصي وتخشع لجلاله وجبروته القلوب الأشر٢ من إبليس بتفضيل النار على الطين مع أنهما كليهما مخلوق لله. بل إنهما معا من جملة المخاليق التي تسبح بحمد الله على الدوام فلا تفتر.
٢ الأشر: المستكبر، البطر. انظر المعجم الوسيط جـ ١ص ١٩..
الفاء في قوله :﴿ فاهبط ﴾ لترتيب الأمر بالهبوط على ما حصل منه عصيان ومخالفة لأمر الله. والهبوط معناه النزول والانحدار١ والضمير في قوله :﴿ منها ﴾ يراد به الجنة ؛ فقد طرد الله منها إبليس لينحدر إلى الأرض صاغرا ذليلا، فإن الجنة بنعيمها الدائم ورخائها الناعم الرخي الكريم لا يستحقه العصاة المستكبرون، فكيف إن كان العاصي إبليس. هذا المخلوق المنكود الظلوم الذي عتا عتوا يدنو دونه العتاة والظالمون جميعا ؟ !
وقيل : يراد بالضمير السماء ؛ أي أمره الله بالنزول من السماء لينحدر منها خاسئا طريدا إلى الأرض ؛ فإن المكث في السماء لا يليق بغير الملائكة الأطهار الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. لكن واحدا لئيما خسيسا كإبليس ما بقي له في الميزان الحق والعدل شيء من كرامة أو اعتبار أو رحمة، إلا اللعن والإبعاد إلى الأرض ليضل فيها فتاتا غرورا شريرا حتى يجد جزاءه الفظيع يوم القيامة. وهذا مقتضى قوله :﴿ فاخرج إنك من الصاغرين ﴾ وهو تأكيد للأمر بالهبوط ؛ فقد أمره الله بالخروج منحدرا إلى الأرض تغشاه مذلة الصغار والتوبيخ والهوان لتفريطه ونكوله عن أمر الله.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٦..
وقيل : المراد بقوله : من بين أيديهم : من الدنيا، ومن خلفهم : من الآخرة، وعن أيمانهم، من قبل الحق، وعن شمائلهم : من قبل الباطل.
أما إتيانهم من قبل الدنيا، فهو أن يدعوهم إلى لذائذها ومباهجها وزيتنها وكفى : فيرغبون فيها عما سواها. وأما إتيانهم من قبل الآخرة فهو أن يشككهم فيها ليرتابوا في قيام الساعة فيكونوا في زمرة الجاحدين الكافرين. وأما إتيانهم من قبل الحق أو الحسنات فهو أن يزهدهم فيها. وإتيانهم من قبل الباطل أو السيئات فهو ترغيبهم في الاستغراق في الباطل والاستكثار من السيئات والمعاصي.
قوله :﴿ ولا تجد أكثرهم شاكرين ﴾ أي لا تجد أكثر بني آدم موحدين لك أو ذائعين لأمرك أو شاكرين لك نعمتك التي أنعمت عليهم. وذلك بسبب إغوائهم، وإزلاقهم في الخطيئة والعصيان. ولقد قال ذلك إبليس على سبيل الظن ؛ لقوله تعالى في آية أخرى :﴿ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ﴾ كذلك كان ظن إبليس في ابن آدم ؛ إذ يعلم مبلغه من الضعف. ضعف العزيمة والإرادة والاحتمال. ويعلم من فطرته المركوزة في عميق كيانه انه نزاع للشهوات فلا تهفو نفسه أو تصبو في الغالب إلا الرغائب الجسد من الطعام والشراب والزينة والاستمتاع والتلذذ بمختلف اللذائذ. وهو لا يضبطه دون الإسراف في ذلك ضابط مقتدر إلا أن يركن إلى عقله المتدبر البصير. ولا يتحقق ذلك إلا قليلا. فوازع العقل في معترك الملذات واستمتاع الأجساد بالغ الضعف والهوان في مقابلة الدوافع المتأججة للغرائز والشهوات. ومن هنا وجد إبليس ضالته في الاقتدار على إغواء الإنسان. أعاذنا الله من إغواء إبليس وجنوده عوذا.
قوله :﴿ لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ﴾ اللام الأولى للقسم، وجوابه ﴿ لأملأن جهنم ﴾ وقيل : اللام لام الابتداء تفيد التوكيد. ومن اسم موصول مبتدأ، والجملة بعده خبر. لأملان، اللام للقسم. فهذا قسم من الله جل جلاله أن من اتبع إبليس من البشر فأطاعه وسار على طريقه، طريق الفسق والضلال، وصدق ظنه عليه، فإنه ( الله عز وعلا ) يملأ جهنم منهم جميعا ؛ أي يملأ جهنم من إبليس وأتباعه من الجن والإنس٣.
٢ مختار الصحاح ص ٢١٨..
٣ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٠٠-١٠٤ وروح المعاني جـ ٨ ص ٩١- ٩٧ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ٣٢- ٣٥..
بعد أن أخرج الله إبليس من الجنة وأهبطه الأرض صاغرا مهينا، قال لآدم وزوجه حواء :﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾. وذلك من السكن، بالتحريك وهو الرحمة والبركة. ومنه السكينة ؛ أي الطمأنينة والوداع والوقار١ فقد أمرهم الله بالبث في الجنة ليستقرا فيها آمنين مطمئنين، تحف بهما الراحة والرحمة وتجللهما الوداعة والطمأنينة ؛ إذ يمكثان في خير معاش وأكرم حياة مما لا يتصور بشر. حياة حافلة بالهناءة واليمن والاستقرار. يضاف إلى ذلك كله ما تشتهيه أنفس بني آدم وهو الطعام بأصنافه وأشكاله على اختلاف طعومه ومذاقه ؛ فقد أتاح الله لآدم وزوجه أن يأكلا مما شاءا من الجنة بكل أنعمها وخيراتها باستثناء شجرة معينة نهاهما عن الأكل مما شاءا من الجنة بكل أنعمها وخيراتها باستثناء شجرة معينة نهاهما عن الأكل منها نهيا باتا مؤكدا ؛ إذ قال ك ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ﴾ أي فتصير من الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان والمخالفة عن أمر الله.
أما نوع الشجرة أو اسمها فغير معلوم على نحو قطعي مجزوم، لوروده في الآية مبهما لإطلاقه ؛ فهو غير مخصص ولا مبين. وكل الذي نعلمه في هذه المسألة أن المنهي عن قرابة أو الأكل منه إن هو إلا شجرة. وما يقل من تأويلات في نوعها وحقيقتها ليس إلا ضربا من الظن الذي لا يغني، فضلا عن أن الخوض في مثل ذلك لا يغني ولا يجدي ولا يزيد من أهمية القصة شيئا ولو كان في الحديث عن اسم الشجرة ما يجدي أو ينفع لبينه الله سبحانه.
الوسوسة، الصوت الخفي، وحديث النفس بما لا نفع فيه ولا خير. والوسواس اسم الشيطان١. والمعنى : أن إبليس بما أوتي من قدرة ذاتية على التزيين والتغرير والإيحاء للنفس من داخلها بما يغريها ويغويها قد ألقى وسوسته لآدم وزوجه لكي يغويهما بعصيانهما أمر ربهما. فقد وسوس إبليس لهما ﴿ ليبدي لهما ما روي عنهما من سوآتهما ﴾ السوءات جمع سوأة، وهي العورة ويراد بها الفرج، لأن ظهوره يسوء صاحبه. واللام لم كي ؛ أي لكي يظهر لهما ما غطي أو ستر من عوراتهما. وكانت عوراتهما مستورة بنور الله، فلما عصيا زال عنهما النور فانكشفت عوراتهما.
قوله :﴿ وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ﴾ ذلك من تغرير إبليس وخداعه لآدم وزوجه. فإن إبليس لا يألو سبيلا أو حلية في إغواء آدم وذريته وإفسادهم. فها هو كشأنه في الإفساد والتضليل، يراوغ آدم ويخادعه بزعمه الكاذب المكشوف أن الله ما نهاكما عن الأكل من هذه الشجرة ﴿ إلا أن تكونا ملكين ﴾ أي كراهة أن تكونا ملكين. أو لئلا تكونا ملكين تعلمان الخير والشر وتستغنيان عن الشهوات.
قوله :﴿ أو تكونا من الخالدين ﴾ أي الذين لا يموتون بطبيعتهم، أو الذين يلبثون في الجنة ماكثين خالدين.
كذلك يكذب إبليس ويخادع ويفتري على الله الكذب وهو يصطنع من الأساليب والحيل ما يغرر به البعاد فيضلهما تضليلا. وكذلك جنود إبليس من البشر في كل زمان، فإنهم ليسوا أقل براعة ولا فظاعة في التحيل والخادع واصطناع المخططات والبرامج المذهلة لإيقاع البشرية في الفساد والضلال ولإغواء المؤمنين بالغ الإغواء ليبعدهم عن دينهم وليحرفوهم عن ملة الإسلام حرفا كليا إن استطاعوا وليثيروا في نفوس المسلمين على امتداد بلادهم وأوطانهم الشبهات والشكوك في منهج الله، منهج الإسلام سواء كان ذلك بالترغيب الناعم المصطنع، المموه بزخرف القول أو بالترهيب بكل ألوان التنكيل والتخويف والترويع٢.
٢ روح المعاني جـ ٨ ص ٩٨ – ١٠١ والكشاف جـ ٢ ص ٧٢ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٤٨..
قوله :﴿ وطفقا يخطفان عليهما من ورق الجنة ﴾ طفقا يخصفان، أي جعلا يخصفان، من الخصف بالسكون وهو الخرز. أي جعل آدم وحواء يلصقان بعض عدو مبين }.
أي أن الله جل وعلا نادى آدم وحواء نداء عتاب وتأنيب٢ : ألم أنهكما وأحذركما قربان هذه الشجرة أو الأكل منها، وأعلمكما أن إبليس لكما عدو، إذ أبان لكما عداوته لنا ترك السجود لآدم حسدا وبغيا ؟
ألم أبين لكما قل ذلك أن إبليس لهو العدو الأول والألد لكما ولذريتكما من بعد كما طيلة أحقاب هذه الدنيا ؟ لا جرم أن إبليس وجنوده من الجن والإنس قد علموا في التضليل والغواية ما فيه الكفاية. فقد أضلوا ذرية آدم وأفسدهم أيما إفساد، وأوردوا بهم إلى التعس والشقاء في هذه الدنيا، وإلى الذل والهوان والخسران في الدار الآخرة.
٢ التأنيب: اللوم والتبكيت أو التعنيف. انظر القاموس المحيط جـ ١ ص ٣٨..
قوله :﴿ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾ المستقر موضع الاستقرار أي لكم قرار في الأرض تستقرونه، وفراش تمتهدونه في حياتكم وبعد مماتكم حتى تقوم الساعة حيث الحساب والجزاء. أما المراد بالمتاع إلى حين فهو استمتاعهم في حياتهم إلى انقطاع الدنيا١.
وقال أهل الظاهر : العورة من الرجل هو الفرج نفسه، وهما القبل والدبر دون غيرهما استنادا إلى ظاهر الآية ﴿ لباسا يواري سوآتهما ﴾ والسوءة الفرج ؛ فهو عورة دون غيره.
أما المرأة الحرة فكلها عورة باستثناء الوجه والكفين. وهو قول أكثر أهل العلم. ويستدل لذلك بالخبر :( من أرادا أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها ) ؛ ولأن كشف ذلك من الإحرام واجب. وقالت الحنفية : قدم المرأة ليست بعورة دفعا للحرج عنها بستر قدمها. وقال أخرون : كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها.
أما الأمة فعورتها ما تحت ثديها ولها أن تبدي رأسها ومعصميها٢ فحكمها في ذلك حكم الرجل. فلما كان عورة من الرجل فهو عورة من الأمة، فبطنها وظهرها عورة، وما سوى ذلك من بدنها ليس بعورة ؛ لأنها تخرج في حاجة سيدها في ثياب مهنتها عادة، وتكليفها بلباس الحرة يلحق بها حرجا شديدا٣.
أما قوله :﴿ وريشا ﴾ فالمراد بالريش هنا اللباس الفاخر. وقيل : المال والخصب والمعاش٤ والمقصود بيان واحدة من نعم الله على عباده ؛ إذ خلق لهم ما يلبسونه لستر عوراتهم وأجسادهم وما يتجملون به في حياتهم من زينة اللباس وفاخرة مما يكسبهم إحساسا بالسعادة ورفاهة العيش.
قوله :﴿ لباس التقوى ذلك خير ﴾ لباس مرفوع على أنه مبتدأ، وخبره ﴿ ذلك خير ﴾ ٥.
أما لباس التقوى، فتأويله على أنه لباس الورع والاستقامة على طريق الله والتزام دينه وشرعه معاصيه، والائتمار بأوامره. وقيل : لباس التقوى يشمل كل وجوه الصلاح والاستقامة مما ينبثق في الأصل عن عقيدة التوحيد الخالص والإيمان بالله وحده دون شريك سواه والازدجار عما نهي عنه وزجر، والاستعصام بشرعه وما أمر. لا جرم أن التمسك بعقيدة الإسلام والأخذ بمنهج الله وحده دون غيره من مناهج الأرض، لسوف يصير بالإنسان المسلم إلى أشرف صيرورة من سلامة الطيع وطهارة الطوية وجمال الخلق بما يفيض على المرء من محاسن السلوك وروعة الحياء وحسن التصرف ما يجعله الإنسان المميز المفضال.
قوله :﴿ ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ﴾ الإشارة هنا إلى ما تقدم من إنزال اللباس والرياش ولباس التقوى. فذلك كله من آيات الله الدالة على فضله على عباده ورحمته بهم ﴿ لعلهم يذكرون ﴾ أي يتفكرون فيما خلقه الله من هذه الآيات وأمثالها فيؤمنون بالله إيمانا صحيحا فيفرون إلى الله وحده، مبادرين الإنابة إليه والثواء إلى جنابه العظيم.
٢ المعصم: موضع السوار من الساعد. انظر مختار الصحاح ص ٤٣٧..
٣ بداية المجتهد جـ ١ ص٩٩ وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي جـ ١ ص١٨١ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ١٨٢، ١٨٣ والهداية للمرغيناني جـ ١ص ٤٣..
٤ مختار الصحاح ص ٢٦٦..
٥ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٨..
وذلك هو دأب الشياطين من البشر في حرصهم البالغ وتمالؤهم بالليل والنهار على الإسلام ؛ ليستأصلوه استئصالا، وعلى المسلمين ؛ ليقضوا عليهم قضاء، أو ليذروهم ضعافا مضطرين أشتاتا لا يربطهم بحقيقة الإسلام غير الاسم الخاوي من كل معاني الإسلام وقيمه ومضامينه.
قوله :﴿ ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ﴾ ينزع، جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير أخرج٢ وتقدير ذلك : أخرج أبويكم من الجنة نازعا عنهما لباسهما لكي تظهر عوراتهما فيرياها. وغرض الشيطان في رؤية آدم وحواء عوراتهما هو أن يغتما ؛ لأنه يسوءهما أن تظهر سوءاتهما لغيرهما كما بدت لهما، وهذه صفة أهل المروءة ؛ إذ يترفعون عن رؤية سوءات أنفسهم أو أن يراها غيرهم. أما ثيابهما التي كانت عليهما قبل العصيان فقد كانت نورا. وقيل : من ثياب الجنة.
قوله :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ المراد بالضمير، الشيطان. والقبيل، معناه الجماعة من الثلاثة فصاعدا. وجمعه قبل، بالضم٣ والمراد بهم هنا أعوان الشيطان وجنوده. وحيث، مبينة على الضم ؛ لأنها مقطوعة عن الإضافة إلى المفرد ؛ إذ لا يجوز إضافتها إلا إلى الجمل، فأنزلت منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبني. وقيل : مبني على الضم ؛ لأنه أشبه الحرف، والحرف يكون مبينا، فكذا شبيهه مبني٤.
هذه مبالغة هامة في تحذير العباد من خبث الشياطين ومكرهم ؛ لأنهم يرون العباد من حيث لا يراهم العباد. لا جرم إذن أن يكون الشياطين بصفتهم هذه، أشد اقتدار على الخداع والإغواء والإضلال، فكيدهم بذلك عظيم وبالغ. وذلك كشأن الذي يرى خصمه من حيث لا يراه خصمه، لا جرم أن الرائي منهما صاحبه أقدر على إيذائه والإيقاع به. ولو كان الآخر يراه لأخذ لنفسه الحسبان والحيطة فكان الإيقاع به أهون وأخف.
وعلى هذا كان حقا على العباد أن يحذروا الشيطان فيتخذوا لمجانبته وعدم الافتتان به كل أسباب الحيطة والحذر.
قوله :﴿ إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون ﴾ أولياء، أي قرناء أو أعوان ؛ فقد سلط الله الشياطين على أعوانهم من غير المؤمنين ؛ ليضلوهم ضلالا مبينا. قال الزمخشري في تأويل ذلك : خلينا بينهم وبينهم، فلم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي٥.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٨..
٣ مختار الصحاح ص ٥٢٠..
٤ البيان لابن اتلنباري جـ ١ ص ٣٥٩..
٥ تفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٢٨١- ٢٨٤ وفتح القدير جـ ٢ ص ١٩٧ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٥٤، ١٥٥ والتبيان للطبري جـ ٤ ص ٣٧٦- ٣٨٢..
الفاحشة، كل ما عظم قبحه. والفاحش كل شيء جاوز حده١. والمراد بالفاحشة هنا كل فعل قبيح بلغ في مراتب القبح النهاية، والمراد بالفاحشة التي كان يفعلها الجاهلون طوافهم بالبيت عراة. وقيل، معناها الشرك.
والحقيقة أن الفاحشة تصدق على عموم الذنوب والخطايا الكبيرة التي كان الجاهليون يتلبسون بها معتذرين بأنهم فعلوا ذلك اقتداء بآبائهم ؛ إذ وجدوهم يفعلونه فهم على آثارهم سائرون. وزعموا أيضا أن الله أمرهم بذلك. وكلا الاعتذارين داحضين. لا جرم أنهما زعمان في غاية الافتراء والبطلان أما الأول، فغن ما فعله آباؤهم من ضلالات ما كان يليق بذي عقل وبصر أن يتشبث به أو يفعله ؛ لأن آباءهم كانوا سادرين في الغي والجهالة، وأنهم في جل حياتهم وأهوائهم وسلوكم وتصوراتهم إنما كانوا يتيهون في العمالة والضلالة. فأنى لأمثال هؤلاء الضالين السفهاء أن يقلدهم الناس ويعتبروا آثارهم.
وأما الثاني، فإن الله برئ من هؤلاء المشركين وضلالاتهم وافتراءهم. إن الله ما أمر بالفحشاء ولا يرضي لعباده الكفر والعصيان والباطل. وفي ذلك قاله سبحانه :﴿ قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ﴾ ثم قال سبحانه موبخا هؤلاء الكاذبين السفهاء الذين زعموا أن الله أمرهم بالفحشاء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا : فقد رد الله فعالتهم ردا شديدا فيه التعنيف لهم والاستنكار ﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ استفهام توبيخ وإنكار ؛ فقد عنفهم الله على كذبهم وافترائهم تعنيفا.
ولا يفوتنا ونحن نتكلم في هذه الخصلة الذميمة وهي تقليد الآباء واتباع آثارهم ومعتقداتهم وإن كانوا على العماية والضلالة، أن ننبه إلى فداحة هذه الخصلة الذميمة ومبلغ خطورتها ؛ فلقد ضل أكثر الناس من مشركين وملحدين وأهل كتاب ووثنين تحت وطأة التقليد الفاسد للآباء الضالين والجاهلين والسفهاء. لقد غرر الآباء المضلون بالأحفاد المغرورين بما تركوه لهم من ركام الضلالة الموروث سواء في العقيدة أو التشريع أو التصور. إنهم ما تركوا سوى الإشراك والركام المضطرب من ضلالات العقيدة المقلوبة المشوهة. ومن أشتات الأحكام والأقوال والتصورات الخارجة عن دائرة العقل السليم، والمجاوزة لكتب الله الحقيقية الأصلية كل مجاوزة، والتي خالطها من التحريف والتزييف والتغيير ما قبلها رأسا على عقب أو جعلها ضربا من عقائد التخريف والهذيان والهوس المحموم.
ومن شديد الخطورة التي تبعث على الأسى والمضاضة أن نجد هذه الظاهرة متلبسة بأهل الكتاب من اليهود والنصارى. أولئك الذين لم يبرحوا تقليد آبائهم وأجدادهم من غير تمحيص أو استبصار أو تدبر، إلا الاتباع الأعمى والانقياد المضلل، لما ورثوه من ملل باهتة مشوهة محرفة، ومن تصور جانح شاطح مجانب للتفكير السليم ومخالف لحقيقة ما جاء به النبيون من بني إسرائيل. لقد اتبعوا ما ورثوه من ركام الضلالات والأخبار المزيفة فزعوا زيغا عظيما. زيغا أفضى بهم إلى الاصطفاء في معسكر العداء والبغضاء والتربص بالإسلام والمسلمين. فها هم أهل الكتاب من يهود ونصارى ما فتئوا يكيدون للإسلام وأهله كل المكائد. ويفتنون في براعة واستباق في التآمر والتأليب على هذا الدين العظيم ؛ ليصطلموه اصطلاما٢ ؛ وليجتثوه من الأرض اجتثاثا أو يذروه مشوها ممزقا مضطربا كالذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم. لكن الله لكل الظالمين والمجرمين والخائنين والمتربصين بالمرصاد ؛ ليرد كيدهم في نحورهم ويذيقهم بأس الخزي والافتضاح، ثم ينصر الله جنده المؤمنين المخلصين ﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ﴾.
٢ الاصطلام: الاستئصال. صلم الأذن صلما واصطلاما أي استأصلها قطعا. انظر المصباح المنير جـ ١ ص ٣٧٠.
وهذه هي الشهادة الكبرى، وهي أعظم مقولة تنطق بها الكائنات في هذا الوجود. وهي شهادة ساطعة مجلجلة تحمل الإقرار الجازم الكامل على وحدانية الله، وأنه سبحانه الموجد لكل شيء، وأنه بذلك يستوجب من العباد أن يعبدوه وحده لا شريك له وان لا يعبدوا غيره من الأنداد المصطنعة والآلهة المفتراة من الأوثان والأصنام والطواغيت. وكل صور الأنداد الذين اصطنعتم أهواء الضالين المفسدين والأصنام والطواغيت. وكل صور الأنداد الذين اصطنعتم أهواء الضالين المفسدين من شياطين الجن والإنس. وعلى هذا يأمر الله نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما أمرهم به ربهم ؛ فقد أمرهم بالحق والعدل والاستقامة على صراط والاستمساك بمنهجه وحده دون غيره من مناهج البشر.
قوله :﴿ وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ﴾ أي توجهوا حيثما كنتم في الصلاة نحو الكعبة. وقيل : اجعلوا سجودكم خالصا لله. وقيل : إذا حضرت الصلاة صلوا في كل مسجد، ولا يقل أحدكم : أصلي في مسجدي. وقيل : المراد إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض ؛ أي حيثما كنتم فهو مسجد لكم، يلزمكم الصلاة عنده وإقامة وجوهكم فيه لله.
قوله :﴿ وادعوه مخلصين له الدين ﴾ أي اعبدوه وأطيعوه مخلصين له دون سواه. ويراد بعبادة الله : مختلف ضروب الأعمال الصالحة والطاعات التي ينبغي بها العابد المطيع وجه الله. ويأتي في طليعة العبادات والطاعات توجه العبد إلى الله بالدعاء. ولئن كان العبد المطيع لربه يدعو ربه في إلحاح وضراعة وخشوع لا جرم أن الله مستجيب إن شاء.
قوله :﴿ كما بدأكم تعودون ﴾ الكاف في ﴿ كما ﴾ في موضع نصب، صفة لمصدر محذوف. وتقديره : وتعودون عودا مثلما بدأكم١. وفي تأويل هذه الآية وجهان : أحدهما، وهو قول ابن عباس : كما خلقكم أولا، تعودون بعد الفناء. وفي الحديث مما أخرجه الصحيحان عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال :( يا أيها الناس إنكم تحشرون على الله حفاة عراة غرلا٢ كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا فاعلين ) وبعبادة أخرى في تأويل الآية : أنه كما أحياكم في الدنيا يحييكم في الآخرة، وليس بعثكم بأشد من ابتداء إنشائكم.
ثانيهما : أن الناس يبعثون على ما ماتوا عليه : المؤمن على إيمانه، والكافر على كفرانه.
٢ الغرل بضم الغين والراء، جمع أغرل وهو الذي لم يختن. والغرلة، القلفة. والأغرل الأقلف. انظر القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٤ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٩٨..
والناس لا محالة فريقان : أحدهما : الفريق المهتدي من عباد الله. أولئك الذين وفقهم الله للهداية والرشاد فكانوا السعداء والصالحين والناجين. وثانيهما : الفريق الضال. وهو الذي أعرض واستكبر، ولما سمع ذكر الله وكلمة الحق والنور طغى وعتى وتجبر، ومضى جامحا مع الفاسقين الشاردين.
على أن المراد بالهداية والإضلال، هو الدلالة التي تنشرح بها صدور المؤمنين للاهتداء، وتضيق بها صدور الكافرين ؛ لشدة إعراضهم عن الحق وفرط نفورهم عن صراط الله القويم.
قوله :﴿ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ﴾ الأولياء، جمع ومفرده الولي. وهو الناصر والحليف٢. والمعنى : أن هذا الفريق الضال وهم الفاسقون والجاحدون والمعارضون عن دين الله قد لتخذوا الشياطين لهم حلفاء وأنصارا وأعوانا ليتولهم وينتصروا بهم، كقول بعض المشركين العرب ؛ إذ يخاطبون أصنامهم الصم : أعل هبل. وذلك غاية ما تفضي السفاهة وهوان الأحلام بالإنسان ؛ إذ تفضي به إلى هاوية الضلالة وإلى الدركات السحيقة من الجهل المطبق وموات الفطرة السليمة.
وهذه حقيقة مريرة تتراءى للعيان في كل الأشقياء من أعوان الشيطان الذين تشمئز قلوبهم من ذكر الحق ومن منهج الإسلام. لكنهم يستبشرون إذا ذكر أولياؤهم من طواغيت البشر الطواغيت الباغية الشريرة الذين استحوذوا على شطر البشرية أو أكثر، بالإضلال والإفساد والتلويث ؛ فأزاغوهم عن دين الله، وأشربوهم الكفر والإلحاد والفساد إشرابا. فباتوا أشباحا من الأناسي المضللين المأفونين٣ الذين يركضون لاهثين سراعا في خفة وذلة وصغار وراء أسيادهم الشياطين المضلين من طواغيت البشر.
قوله :﴿ ويحسبون أنهم مهتدون ﴾ يحسبون من المحسبة والحسبان بكسر الحاء، يعني الظن٤. هؤلاء المشركون المعاندون، والذين عتوا عن منهج الله وعاثوا في الدنيا إضلالا وإفسادا يظنون أنهم على الهداية والرشاد، ولم يعترفوا أنهم على الباطل والضلال. لا جرم أن هؤلاء أشد في تمردهم وكفرهم ؛ لأنهم يستندون في غيهم وضلالهم إلى حسبانهم الخاطئ وظنهم الواهم المريض، إن هؤلاء الجاهلين السفهاء أشد عتوا واضطغانا ممن يعلم في قرارة نفسه أنه على الباطل بالرغم من كونه سادرا في غيه وظلمه٥.
إن هذه إحدى المعضلات الذهنية والنفسية المستعصية في طبائع أهل الديانات المحرفة من اليهود والنصارى وغيرهم من الوثنيين. أولئك الذين يتيهون في غياهب التعصب الذميم والجهالة الطاغية المطبقة ويتشبثون بما ورثوه عن الآباء من كتب قد خالطها التغيير والتبديل، وصيرها التزييف والتحريف حشدا من الكلام الملفق الموهوم. الكلام المصطنع الغالي الذي يسول لصاحبه ظلم الآخرين من الناس والاعتداء عليهم بكل صور العدوان والإجرام. وهم مع ذلك يظنون واهمين أنهم ورثوا عن آبائهم حقا وصدقا ! ! والله يعلم، أولوا العلم الصادقون من الناس يعلمون أنهم ما ورثوا من العقائد والملل والتصورات غير الضلال والأوهام والتلفيق من الكلام المتهافت الخاوي.
٢ مختار الصحاح ص ٧٣٦..
٣ المأفون: الضعيف الرأي والعقل. انظر القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٩٨..
٤ مختار الصحاح ص ١٣٥..
٥ البيان للطيرسي جـ ٤ ص ٣٨٠- ٣٨٥ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٥٤- ١٥٦ وتفسير البحر المحيط جـ ٢ ص ٢٨٢- ٢٨٨..
ذلك رد من الله على المشركين السفهاء من عرب الجاهلية فيما كانوا يفعلونه في طوافهم بالبيت عراة ؛ فقد روي مسلم عن ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية وهي عريانة وعلى فرجها خرقة وهي تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله | وما بدا منه فلا أحله |
وقيل : نزلت في حي من أهل اليمن كان أحدهم إذا قدم حاجا أو معتمرا يقول : لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد دنست فيه. فيقول : من يعترني مئزرا، فإن قدر على ذلك، وإلا طاف عريانا، فأنزل الله :﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾.
وقيل : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس قريش وأحلافهم، فمن جاء من غيرهم وضع ثياب أحمس ؛ فغنه لا يحل له أن يلبس ثيابه، فغن لم يجد من بعيره من الحمس ؛ فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانا، وإن طاف في ثياب نفسه ؛ ألقاها إذا قضى طوافه يحرمها فيجعلها حرما عليه. فأنزل الله الآية٢ وفي رواية أخرى لمسلم عن عورة عن أبيه قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجل الرجل، والنساء النساء، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات.
وفي رواية لغير مسلم : ويقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوابا، ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين : إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى٣.
وفي هذه الآية يخاطب الله سائر بني آدم، وإن كان المقصود بنزولها العرب الذين كانوا يطوفون البيت عراة. والعبرة في عموم اللفظ وليس في خصوص السبب. والآية رد ظاهر للعادات السقيمة التي كان العرب الجاهليون يتلبسون بها ؛ إذ يطوفون بالبيت عراة. وذلك ما كانت تأمرهم به أحلامهم الضالة ويسوله لهم الشيطان. وليس أدل على ذلك من الطواف بالبيت وهم عراة، ظاهرة سوءاتهم للعيان.
ويستفاد من الآية : وجوب ستر العورة في الصلاة أو خارجها، وذلك في حق الرجل والنساء. وهو ما بيناه سابقا. وفي ذلك أخرج مسلم عن المسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :( ارجع على ثوبك فخذه، ولا تمشوا عراة ) وقوله :﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾ أي البسوا ثيابكم لموارة عوراتكم. والأمر المطلق يفيد الوجوب. والواجب هنا إنما هو في ستر العورة وليس في سائر وجوه الزنية. والزينة في الأصل كل ما يتزين به٤ ؛ فهي تعم كل ما يتزين به المرء من اللباس وتوابعه. والآية لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة فقد فهم منها في الجملة استحباب التجمل عند الصلاة لا سيما يوم الجمعة ويوم العيد ؛ ومن الزينة المستحبة أيضا الطيب والسواك واللباس الحسن. ومن أفضل اللباس البياض ؛ فقد روي الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( البسوا من ثيابكم البياض ؛ فغنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثمد ؛ فغنه يجلو البصر وينبت الشعر ).
وأخرج أحمد واهل السنن عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عليكم بثياب البياض فالبسوها ؛ فإنها أطر وأطيب، وكفنوا فيها أمواتكم ).
قوله :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾ الأمر هنا يفيد الإباحة، فقد احل الله لعباده الأكل من صنوف الطعام، والشراب من أنواع الشراب شريطة اجتناب كل محظور منهما. ونهي عن الاسراف. والمراد به تحريم الحلال ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من الطعام إلا ما كان للقوت، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم تعظيما لحجهم. فرد الله في هذه حكمهم وما كانوا يعتقدونه، إذ أباح لهم الأكل والشراب شريطة عدم الإسراف. ومعناه ( الإسراف ) موضع تفصيل. فقد قيل : المراد به هنا تحريم الحلال أو التعدي إلى الحرام. وقيل : معناه الشره في الأكل أو الإفراط في الطعام والشراب. وذكر عن عمر بن الخطاب قوله في ذلك :( إياكم والبطنة٥ من الطعام والشراب، فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما ؛ فإنها أصلح للجسد، وأبعد من السرف، وإن الله تعالى ليبغضن الحبر ٦السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ).
وقيل : الإسراف هو مجاوزة الحد في كل شيء في ذلك الأكل والشراب واللبس وغير ذلك من وجوه الاستمتاع والزينة. وفي ذلك روي الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كلوا واشربوا، والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف ؛ فإن الله يجب أن يرى نعمته على عبده ).
روي الإمام أحمد كذلك عن المقداد بين معد يكرب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلا لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ).
٢ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٢٠..
٣ اللقي، بالفتح والتشديد، معناه: الشيء الملقى لهوانه. انظر مختار الصحاح ص ٦٠٣..
٤ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٣٤..
٥ البطنة: بكسر الباء، وهي الامتداد الشديد من الطعام. يقال: ليس للبطنة خير من خمصة (جوعة) تتبعها. والبطن: الذي لا يهمه إلا بطنه. والمبطون: العليل البطن. مختار الصحاح ص ٥٧..
٦ الحبر: المفرط في التنعم والاستماع بالذائذ..
واخرج مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال :( إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط٢ الناس ). وجاء في طبقات ابن سعد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل. وغير ذلك من الآثار كثير مما يدل على النظافة والتجمل وحسن الهيئة.
قوله :﴿ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ﴾ أي أخبرهم يا محمد أن المسلمين يشاركون الكافرين في زينة الحياة الدنيا وفي طيباتها، ثم تكون للمؤمنين يوم القيامة خالصة لهم من دون الكافرين. وقيل. عن زينة الله والطيبات من الرزق إنما خلقت للمؤمنين على طريق الأصالة زيادة في كرامتهم على الله فهم يأخذون بحظهم منها ما استطاعوا في حدود ما أحل الله لهم. أما الكافرون فغنما شاركوا المسلمين في طيبات الدنيا بالتبعية لهم.
قوله :﴿ خالصة يوم القيامة ﴾ خالصة، منصوب على الحال من ضمير ﴿ للذين ﴾ والتقدير : قل هي استقرت للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة. وقرئت خالصة بالرفع على أنها خبر ثان للمبتدأ ( هي ) ٣ أي بعد أن كانت الدنيا بزينتها وطيباتها مشتركة بين المؤمنين والكافرين ؛ فغنها تصير يوم القيامة خالصة للمؤمنين دون الكافرين الذين لا يستحقون حينئذ غلا النار وهوان الذل والعار.
قوله :﴿ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ الكاف في ﴿ كذلك ﴾ صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام. والمعنى : كما بين لكم الأحكام في اللباس والزينة والحلال من المطعومات والمشروبات وما حرم منها، فغنه يبين لكم جميع أدلته وأحكامه في الحلال والحرام. وذلك كله لقوم يفقهون ما يبينه الله لهم.
٢ غمط الناس، يعني الاحتقار لهم والازدراء بهم. وغمط النعمة عدم شكرها. انظر مختار الصحاح ص ٤٨١..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٩..
قوله :﴿ والإثم والبغي بغير الحق ﴾ الإثم المعصية أو يوجبه من الذنوب. والبغي : التعدي والظلم وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء٢.
قوله :﴿ وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ﴾ وأن تشركوا، المصدر من هذه الجملة في موضع نصب معطوف على الفواحش. وكذلك قوله بعدها :﴿ وأن تقولوا على الله ﴾ ٣ أي كذلك الله حرم عليكم أن تعبدوا معه إلها غيره. والإشراك بالله يأتي في قمة الموبقات والخطايا العظيمات وهو ما لم يجعل الله فيه للمشركين سلطانا ؛ أي حجة وبرهانا.
قوله :﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ أي حرم الله عليكم أن تفتروا الكذب كاتخاذكم الأوثان آلهة مع الله، وتجردكم من الثياب عند الطواف بالبيت فتطوفون عراة، وتحريمكم ما أحله الله لكم مما خلقه لكم كتحريم البحائر والسوائب والوصائل والحوامي وغير ذلك مما تزعمون وتفترون وانتم جاهلون لا تعلمون٤.
٢ مختار الصحاح ص ٥٩ والمصابح المنير جـ ١ ص ٦٤..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٠.
٤ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١١٨- ١٢٣ وروح المعاني جـ ٨ ص ١٠٩- ١١٣ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ٦٤- ٧٠ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢١٠، ٢١١..
ذلك إعلان مرعب ومخوف يبينه الله للطغاة المجرمين الذين يحادون الله ورسله. والذين تمردوا على الله تمرد العتاة الأشقياء الجبابرة فراحوا يعيثون في الأرض الفساد، وينكلون بالمسلمين أشد تنكل، ويقطعون جل زمانهم في التآمر على الإسلام والمسلمين.
إن هؤلاء التعساء الطغاة من البشر قد تودعهم الله أن يحيق بهم العذاب الغليظ على اختلاف صورة وأشكاله لتحل بديارهم النوازل والمصائب والمحن قبل يوم القيامة مثلما حل بالأمم السالفة التي طغت وبغت فأخذها الله بالتدمير والهلاك. فلا يظنن بعد هذه الحقيقة واهم أو جاهل أو مغرور أن الله يعذب الظالمين في هذه الدنيا. فذلك فهم مجانب للصواب. بل إن الله للظالمين المعتادين الذين يبغون في الأرض بغير الحق بكامل المرصاد حتى إذا جاء وعد الله وحان أجل العذاب المقدر ؛ أخذ الله الطاغين والمجرمين والخائنين أخذ عزيز مقتدر.
٢ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٢٣ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ٧٢..
اللفظ ( إما ) هو إن الشرطية، ضمت إليها ما لتأكيد الشرط١، والخطاب في هذه الآية من الله لعباده من ذرية آدم مبينا لهم أنه عن يجئكم رسلي الذين بعثتهم إليكم آمرين وناهين، مبشرين ومنذرين، وهم من أنفسكم ومن جنسكم ليبينوا لكم أحكامي وشرائعي وما ينفعكم في ديناكم أو أخراكم، وذلك جملة شرط، وجوابه الجملة الشرطية بعده وهي :﴿ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ وقيل : جوابه محذوف وتقديره : إن يأتيكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فأطيعوهم ؟
وقوله :﴿ اتقي وأصلح ﴾ أي خاف الله وعمل صالحا يرضيه وانتهى عما نهاه عنه ﴿ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي لا يخافون يوم القيامة كما يخاف الناس من العذاب إذا عاينوه فوردوا عليه. وكذلك لا يحزنون لفراق الدنيا ولما فاتهم فيها من شهوات ولذائذ تجنبوها رغبة في رضوان الله، ولا لما تركوه وراءهم في الدنيا من الأموال أو الصحب والخلان والأحباب.
قوله :﴿ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله ﴾ حتى، لابتداء خبر ؛ أي ابتداء الكلام بعدها وهي غاية لما قبلها. والمعنى : أن هؤلاء الذين افتروا على الله الكذب وكذبوا بآيات الله سينالهم حظهم من الدنيا مما كتب الله لهم وسبق لهم في علمه سبحانه، من رزق وعمل واجل على أن تأتيهم رسلنا وهم ملك الموت وجنده لقبض أرواحهم ﴿ يتوفونهم ﴾ في محل نصب حال.
قوله :﴿ قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله ﴾ قالت الملائكة لهؤلاء المعرضين الخاطئين لدى قبضهم أرواحهم موبخين معنفين : أين أولياؤكم الدين كنتم تعبدونهم من دون الله ؟ ! هلا يدفعون عنكم ما نزل بساحتكم الآن من عظيم البلاء ؟ ! هلا ينقذونكم مما حاق بكم من شقاء وتعس ؟ !
قوله :﴿ قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾ قال الكافرون الخاسرون لملائكة الموت : ذهب أولياؤنا الذين كنا نعبدهم وتخلوا عنا فلم ينفعلوا. وبذلك أقروا إقرارا أنهم كانوا في الدنيا كافرون مكذبين. يقولون ذلك في هذه الساعة العصيبة وهم تأخذهم غمرة الحسرة والإياس المطبق. وحينئذ لا يجدي ندم ولا توبة ولا عتبى١.
يقول الله يوم القيامة لهؤلاء المكذبين المفترين الذين جحدوا آيات الله واستكبروا عن اتباع دينه ومنهجه للحياة : ادخلوا النار مع أمم من قبلكم من الجن والإنس قد كذبوا وافتروا على الله بالباطل.
قوله :﴿ كلما دخلت أمة لعنت أختها ﴾ الأمة جمعها الأمم. والمراد بها هنا أهل الملل الكافرة المصطنعة المفتراة أو الذين لا يؤمنون بدين ممن يسمون في الزمن الراهن ( ملحدين ) وهم الماديون الذين يجحدون الإيمان بالغيب كله فينكرون الإلهية البتة ويكذبون الوحي والنبوة.
أولئك جميعا أمم كافرة ضالة عن سبيل الله، ماضية في سبيل متفرقة شتى، لا يتعبون في ذلك غير الباطل وخطوات الشيطان. لا جرم أن مصيرهم جميعا إلى النار. وهم كلما دخلت النار جماعة من أهل ملة من هاتيك الملل الكافرة شتمت أختها أهل الملة الكافرة الأخرى التي سبقتها في دخول النار. والمراد بالأخت هنا الأخوة في الدين والملة. فأهل الملل الضالة الكافرة جميعا إخوة في الضلال والكفر. وهذه بعض حال الكافرين الذين يكبكبون في النار وهم يتلاعبون ويتشاتمون ؛ إذ تعلن كل واحدة الأخرى، فما من أهل ملة من هذه الملل الكافرة إلا وتنزيل بها اللعائن والشتائم من الضالين الآخرين لا جرم أن ذلك يزيد في الهوان والتنكيل بهؤلاء الخاسرين التعساء.
قوله :﴿ حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ﴾ ذلك من جملة التخاصم الشديد بين أهل النار وهم يتلاومون ويتشاتمون في النار ويوبخ كل قبيل منهم الآخر. والمراد بأخراهم في الآية الأتباع والرعاع. أما أولاهم فهم القادة وأئمة الكفر الذين أضلوهم وزينوا لهم الكفر والباطل. ومعنى الآية : أنه إذا تداركت الأمم أو اجتمعت جميعا في النار فالتقى فيها الأولون والآخرون من الأمم الضالة المكذبة قالت آخر كل أمة وهم الأتباع عن أولادهم وهم السادة والقادة مخاطبين ربهم : يا ربنا هؤلاء أضلونا عن سبيلك في الدنيا ودعونا إلى عبادة غيرك من الآلهة المفتراة، وهم الذين سولوا لنا الكفران والطغيان وأن نعبد الشيطان، فآتهم اليوم في مقابلة ذلك الضعف من العذاب. والمراد بالضعف الزائد على مثله مرة أو مرات.
قوله :﴿ قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ﴾ ذلك إخبار من الله أن لكل من الفريقين وهما الأتباع والمتبوعون الضعف. فللأولى ضعف، وللأخرى ضعف أما ضعف الأتباع : فهو من أجل ضلالتهم واتخاذهم الرؤساء وقادة الضلال والكفر أئمة لهم، لا يصدون إلا عن أمرهم. وأما المتبوعون فضعفهم من العذاب من اجل إضلالهم غيرهم وإغوائهم إياهم فضلا عن ضلالهم أنفسهم وتكذيبهم رسل ربهم. ﴿ ولاكن لا تعلمون ﴾ أي ولكنكم يا معشر أهل النار لا تعلمون ما أعده الله لكم من العذاب.
قوله :﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ﴾ ذلك من كلام القادة لأتباعهم الضالين وهو أننا جميعا ساقطون في العذاب بسبب اشتراكنا وإياكم في الضلال والكفر وتكذيبنا لما انزل الله، فذوقوا العذاب لما كسبتموه من العصيان والتكذيب. يقولون ذلك على سبيل التشفي ومن باب اليأس وانقطاع الرجاء١.
قوله :﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ﴾ الجمل هو البعير، أي ذكر الناقة. وسم الخياط معناه ثقب المخيط أو الإبرة١ ذلك تيئيس من الله للكافرين المضلين الذين شاقوا الله ورسوله، والذين استكبروا عن دينه وشرعه وأبوا إلا الجحد والصد عن سبيل الله بكل الوسائل والحيل ؛ فقد أخبر الله في هذه الآية كغيرها من آيات أخريات ان هؤلاء المضلين المفسدين المعاندين لن يدخلوا الجنة البتة ولا رجاء لهم في دخلوها أبدا كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة أبدا. ذلك تصوير بالغ ومؤثر يرتسم للخيال والذهن في مثل هذه العبارة البليغة القصيرة ليتبدد كل احتمال أو ظن في دخول الكافرين الجنة. لا جرم أن دخلوهم الجنة كحال قطعا. وهذه حقيقة لا تقبل الخلاف أو الجدل استنادا إلى العبارة الربانية القطعية في معناه ومدلولها.
قوله :﴿ وكذلك نجزي المجرمين ﴾ أي مثل ذلك الجزاء الغليظ والعقاب الأليم نجزي المجرمين. وهم الكافرون الذين أجرموا وفرطوا في دين الله الحق. أولئك يتوعدهم الله بالعذاب الأليم يوم القيامة فضلا عن حرمانهم من دخول الجنة.
قوله :﴿ وكذلك نجزي الظالمين ﴾ أي مثل ذلك الجزاء الأليم نجازي هؤلاء الظالمين، فقد وصفهم الله آنفا بالمجرمين، والآن بالظالمين ؛ لأنهم جمعوا صفات الصنفين من الكافرين الخاطئين حيث الإجرام والظلم، فهؤلاء الذين استكبروا عن دين الله الحق وحادوا الله ورسوله وصدوا الناس عن منهج الله بمختلف الأساليب والبرامج والمخططات ؛ لا جرم أنهم مجرمون ظالمون. يستوي في ذلك الكافرين المعاندون في الزمن الغابر وما بعده من أزمنة وعصور، أو في هذا الزمان الراهن الذي يشتد فيه الكيد والحقد على الإسلام والمسلمين، كيد الصليبيين والملحدين والاستعماريين والوثنيين والصهيونيين. إن هؤلاء جميعا يتلاقون على اتفاق مشترك واحد وهو التآمر على الإسلام والمسلمين بكل الأساليب والحيل والمخططات. ذلك التآمر الشيطاني الخبيث المزلزل الذي كاد من خلاله هؤلاء المجرمون الطغاة للإسلام والمسلمين أشد الكيد٣.
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ١٠١..
٣ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٣٠- ١٣٣ وروح المعاني جـ ٨ ص ١١٨، ١١٩ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٠٥..
الذين آمنوا، مبتدأ. والمراد بهم المصدقون بآيات الله ورسله. وكذلك الذين يعملون الصالحات من الأعمال. والخبر، الجملة الإسمية ﴿ أولئك أصحاب الجنة ﴾ أي هؤلاء المؤمنون العاملون الصالحات قد وعدهم الله الحسنى وهي خير الجزاء حيث الجنة وما فيها من النعيم الدائم، أما قوله :﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ فهذه جملة اعتراضية بين المبتدأ وخبره، والمراد منها ترغيب العباد في عمل المستطاع من الصالحات للفوز بمرضاة الله وبالجنة حيث النعيم والخلود. وفي الجملة الاعتراضية هذه ما يوحي بيسر الطاعات وعمل الصالحات والتزام دين الله وشرعه ؛ فغن ذلك ليس عسيرا ولا حرج فيه. بل إن سائر التكليفات الشرعية إنما جئ بها لتكون في نطاق المستطاع للإنسان بما يحتمله مقدروه ولا يتجاوز طاقته الإنسانية المحدودة. وهذه سمة من سمات الصلوح لهذا الدين المتين الذي يراعي الطاقة البشرية خير مراعاة فلا يتجاوزها إلى ما هو عسير أو مرهق ؛ أي أن الإيمان الصحيح الكامل المقترن بعمل الصالحات مما ليس فيه ما يرهق الإنسان أو يشق عليه كثيرا، ومما هو في نطاق الوسع الإنساني، سوف يفضي بأهله من المؤمنين العاملين إلى دخول الجنة.
قوله :﴿ تجزي من تحتهم الأنهار ﴾ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الضمير هم في ﴿ صدورهم ﴾ وهذا وصف لحال أهل الجنة في الجنة ؛ إذ يطهر الله قلوبهم تماما من خصال الضغن والعداوة ورذائل الغش والحسد التي كانت لصيقة بقلوبهم في الدنيا. لكنهم الآن في الجنة يحبرون وينعمون بكل صنوف النعيم ومن بينها الأنهار الساربة تجري من تحتهم وهم ينظرون إليها في ابتهاج واستمتاع وحبور.
قوله :﴿ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ للام في لنهتدي، لام الجحود. والمصدر من ﴿ أن هدانا ﴾ في موضع رفع مبتدأ. والخبر محذوف تقديره موجود ؛ لأن لولا هداية الله موجودة لهلكنا٣. والمعنى : كأن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين جزاهم الله الجنة وما فيها من الأنعم والخيرات إذا رأوا ما آتاهم الله من نعيم الجنة وما بسطه لهم من خيراتها ومباهجها فضلا عن تنجيتهم من عذاب النار –إذا أدركوا ذلك كله حمدوا الله حمدا كثيرا وأثنوا عليه بالشكران البالغ أن وفقهم للاعتصام بدين الله ومجانبة ما يسخطه ويغضبه مما أوصلهم إلى الجنة بكل آلائها وبركاتها. وقالوا أيضا : ما كنا لنرشد لما نحن فيه من النعيم لولا أن الله أرشدنا إلى طريق الحق والصواب، وجعلنا على المحجة المستقيمة البيضاء فحظينا بالتوفيق والهداية والجنة.
قوله :﴿ لقد جاءت رسل ربنا بالحق ﴾ ذلك قول أهل الجنة الذين نجاهم الله من العذاب ووفقهم لدخول الجنة. فهم لدى معاينتها يقولون فرحين مجبورين : هذا الذي نجده اليوم من نعيم الجنة قد أخبرتنا به رسل الله من قبل. وهو وعد من الله لأهل طاعته بالخير والأهل معصيته بالعذاب الأليم. ذلك إخبار من الله عن وعده، ووعد حق وصدق.
قوله :﴿ ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون ﴾ نودي أهل الإيمان والطاعات من قبل الملائكة. وهم عباد الله المركون الأطهار الذين ينادون المؤمنين في الجنة ﴿ أن تلكم الجنة ﴾ أن مخففة من أن الثقيلة ؛ أي بأنه تلك هي الجنة التي كانت الرسل الله في الدنيا تخبركم عنها وتحدثكم عن وعد الله لبعاده المؤمنين بها ﴿ أورثتموها ﴾ الميراث هنا مجاز عن الإعطاء أي أعطيتموها برحمة الله وفضله.
وقوله :﴿ بما كنتم تعلمون ﴾ الباء سببية. أي بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة من الله فحظيتم بدخول الجنة. فالأعمال وهي السبب ليست موجبة لدخول الجنة. وإنما يدخل المؤمنون الطائعون الجنة بفضل من الله ورحمة. وفي صحيح مسلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم :( لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة ) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) ٤.
٢ مختار الصحاح ص ٤٧٩..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦١..
٤ روح المعاني جـ ٨ ص ١٢١ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٠٦..
بعد أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار. وصيغة الماضي ﴿ و نادى ﴾ لتحقق الوقوع ؛ وهو أن هذا الكلام واقع لا محالة يوم القيامة، إذ ينادونهم تبكيتا لهم وزيادة لهم في التحسير والالتياع ﴿ أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا الحق فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ﴾ أن مخففة من الثقيلة. وقيل : مفسرة. وحقا، منصوب على الحال. وقيل : مفعول ثان لوجدنا ؛ أي أننا نحن المؤمنين الطائعين لله قد ألفينا ما وعدنا الله إياه على ألسنة رسله من نعيم الجنة وسعادتها جزاء تصديقنا وطاعتنا له دون سواه. وجدنا حقا وصدقا. وتلكم هي الجنة التي وعدنا الله إياها ننعم فيها نعيم الآمنين المطمئنين إلى أبد الآبدين، فهل ألفيتم ما وعدكم الله على ألسنة رسله من العذاب والهوان في مقابل جحدوكم وتكذيبكم وعصيانكم ؟ هكذا يخاطب أهل الجنة أهل النار، على ما بينهما من المفاصلة الفارقة الكبرى ؛ إذ المخاطبون –بالكسر- في الجنة آمنون محبورون. والمخاطبون –بالفتح- في النار يسجرون تسجيرا ويواجهون كل ألوان الخزي والهوان والنار تلفح وجوههم الكالحة المسودة. فيا لهول الموقف، ويا لفداحة الويل والثبور ! !
قوله :﴿ قالوا نعم ﴾ أي وجدنا ذلك حقا. وذلك إقرار ذليل من الظالمين الخاسرين، وهم يحيط بهم الإحساس بالحسرة الغامرة والإياس الكامل ؛ لفرط ما يستحوذ عليهم في ذلك اليوم من شدة الهول والفزع.
قوله :﴿ فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ﴾ أي نادى مناد من الملائكة بين الفريقين وهما أهل الجنة وأهل النار ﴿ أن لعنة الله على الظالمين ﴾ أن مخففة من الثقيلة أو مفسرة ؛ أي أن غضب الله وسخطه على من كفر به أشرك معه في العبادة آلهة أخرى وعصى أمره وضل عن سبيله. وذلك مما يزيد في اغتمام أهل النار واستحسارهم وما يطوقهم من الذعر والهم والهوان.
هذا من جملة النداء الذي ينادي بين أهل الجنة وأهل النار. والمنادي في ندائه مخول من ربه أن يلعن الظالمين الذين كانوا في الدنيا يصدون الناس عن دين الله ؛ فهم أنفسهم معرضون عن دين الله ومنهجه القويم للناس، ثم يتعدون هذا الإعراض إلى صد البشرية بصرفها عن التوجه نحو الحق. لا جرم أن دين الإسلام بعقيدته ومثله وقيمه وتعاليمه وتشريعه لهو عين الحق والصدق والكمال. وهو ما تصلح عليه البشرية تمام الصلاح، وتستقيم على أساسه كامل الاستقامة في كل أحوالها النفسية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية. وهذه حقيقة واضحة وملموسة بفعل التجربة الواقعية التي عاينها المسلمون إبان الحكم بهذا الدين، وإبان سلطان الإسلام الوارف المهين على الأرض لكن الظالمين الذي تتفطر قلوبهم ضغنا وحسدا لفرط كراهيتهم للإسلام والمسلمين ما برحوا يصدون عن الإسلام منذ أن بزغ فجره إلى هذه الدنيا ما برح المشركون والمتربصون على اختلاف مللهم وأديانهم وعقائدهم يحادون الله ورسوله، ويشاقون الإسلام أفظع مشاقة، ويتآمرون على المسلمين أبشع تآمر. ولئن كان التآمر والكيد للإسلام والمسلمين في الأزمنة الماضية بالوسائل البدائية الهمجية كالقتل والإبادة والاستئصال، كالذي حل بالمسلمين في بغداد على أيدي المغول التتار، أو الذي حل بالمسلمين في الأندلس على أيدي الصليبيين الحاقدين.. لئن كان التآمر والكيد في الأزمنة الفائتة على هذه الصورة والكيفية من الاستصال وإزهاق الأرواح وتعذيب الأجساد، فإن الظالمين في الزمان الراهن أشد براعة ونكرا وأخبث وسيلة وأسلوبا في صد البشرية عن الإسلام وصرف المسلمين بالذات عن هذا الدين العظيم. وذلك بما برعوا من أساليب التشويه والتشكيك وافتراء الإشاعات الكاذبة والأخبار الملفقة المكذوبة عن منهج الإسلام ؛ وذلك لتشويه الأفكار وتسميم العقول لدى المسلمين حتى ينثنوا عن دنيهم.
ولقد انبرى لمثل هذه العملية الهائلة الظالمة متخصصون في مختلف المجالات التشريعية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وسائر ما يسمى في الاصطلاح الراهن بالعلوم الإنسانية. وقد زود هؤلاء بكل ما يحتاجون إليه من أسباب الدعاية والنشر كالطباعة ووسائل الإعلام وكتابة الصحائف والنشرات والمؤلفات المخلفة بالافتراءات والأكاذيب على الإسلام، والطعن في أغلب معانيه وتعاليمه بما يصد الناس عن هذا الدين صدا، وبما يثير في أذهان المسلمين تشويها كبيرا عن دينهم فينثنون عنه انثناء الجامحين الشاردين الذين استحوذت عليهم الشياطين من خصوم الإسلام فأغووهم وأضلوهم ضلالا مهينا.
ويضاف إلى هذه الأساليب النفسية والفكرية الخبيثة ما أنزله أعداء الإسلام بساحة المسلمين من العذاب والويلات الجسدية والإبادة الجماعية كحملات التقتيل والتنكيل والتشريد. ومن جملة ذلك ما حل بالمسلمين في كشمير نتيجة للتواطؤ القذر بين البريطانيين الاستعماريين، والوثنيين الهندوس عبدة البقر. ثم ما حل بالمسلمين في بلاد وطئتها أقدام الشيوعيين الملحدين، فعاثوا فيها خرابا وإذلالا مثل كمبوديا وسمرقند. وكذلك ما حل بالمسلمين في فلسطين حيث التدمير والتشريد والاستئصال نتيجة للتواطؤ الخسيس بين الاستعماريين البريطانيين والصهيونيين من اليهود وأعوانهم، لقد توطأ هؤلاء جميعا في أوكار العار والتأمر والخيانة على المسلمين في فلسطين ؛ إذ أخرجوهم منها إخراجا بعد أن فعلوا فيهم صنوف الأفاعيل الشيطانية كالتخويف والترهيب والتقتيل والتهجير بالقوة. وأخيرا مأساة المسلمين في بلاد البوسنة والهرسك، وما تحمله لنا الأخبار الفظيعة والمذهلة عن أهوال رعيبة ارتكبها المجرمون الطغاة من الصرب والروس في حق المسلمين، إن ما يقترفه هؤلاء الأشرار والأنجاس من صور الطغيان والظلم والاغتصاب وانتهاك الحرمات في بلاد المسلمين ما ينبغي أن تطأطئ له رؤوس العالمين وجباههم خجلا واستحياء. إن هؤلاء المجرمين الطغاة إنما يقارفون أفاعيلهم المنكرة الشنيعة بما تحملونه في نفوسهم وأذهانهم وقناعاتهم من الحوافز على قتل المسلمين وتعذيبهم وإبادتهم. حوافز خبيثة رعناء تجتمع فيها الصليبية الضالة الحمقاء مع الماركسية الماكرة الحاقدة.
قوله :﴿ ويبغونها عوجا ﴾ الضمير في : يبغونها، يعود على سبيل الله وهو دينه الاسلام. والعوج، معناه الميل، وهو خلاف الاعتدال٢ هؤلاء الظالمون الذين يصرفون الناس عن الحق ويمنعون المسلمين من التزام دنيهم وما فيه من منهج للحياة يريدون أن يكون الإسلام تبعا لما يبتغونه له من الميل والاعوجاج عن طريقه المستقيم. يريدون للإسلام أن يكون موافقا لأهوائهم ورغبتهم في تمييعه وحرفه عن طبيعته الحقيقية المتماسكة. طبيعته المنزلة من عند الله والتي أراد الله لها أن تكون وافية كاملة شاملة لا تقبل التجزئة أو التفريق. وذلك هو دأب المتربصين بالإسلام من خصومه الاستعماريين والصليبيين والملحدين والصهيونيين ؛ فهم جميعا يبذلون كل طاقاتهم وجهودهم من أجل التلبيس على المسلمين ليروا دينهم الإسلام على غير حقيقته من التوحيد والاستقامة والعدل والاستعلاء والجد. يريدون أن يلبسوا على المسلمين دينهم ليأخذوا به مشوها مائلا عن حقيقته السليمة المستقيمة ؛ ليأخذوه دينا مضطربا محرفا. أو ليأخذوه أشتاتا من الدين المشوه المختلط. أو يجعلوه نمطا من التدين المضلل كالصوفية الهائمة الشاطحة البلهاء التي تركن إلى السلبية بالتوقع واعتزال الجهاد ومواجهة الظالمين، أو يجعلوه دينا مفككا مضطربا يأخذ المسلمون ببعضه في الأحوال الشخصية والأخلاق الحميدة والعبادات المجردة، ويعرضون عن بعضه الآخر من مقتضيات الإسلام الأساسية كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحمل لواء الإسلام للعالمين في غاية الهمة والشجاعة، والاستعلاء على الظالمين المتربصين من أعداء الإسلام ؛ وذلك هو الإسلام الحقيقي الكامل الذي فرضه الله للعالمين كافة، وإن كرهه الظالمون وكادوا له كيدا بليغا.
قوله :﴿ وهم بالآخرة كافرون ﴾ هؤلاء المشركون الظالمون الذين يصدون عن دين الله ويبغون الإسلام أن ينقلب ضعيفا مفككا مضطربا، لا جرم أنهم كافرون بيوم القيامة وما تنطوي عليه من أهوال وقواصم تنتظر العتاة المجرمين من دعاة الفساد والإلحاد والتخريب في الأرض، إنهم لا يعبأون بالحق أو الفضائل، ولا تصيخ قلوبهم وآذانهم لنداء المنطق والحكمة، وإنما دأبهم الانزلاق سراعا خلف الشيطان بوسوسته وإغوائه وإطغائه تحصيلا لشهواتهم وأهوائهم الهابطة الرخيصة.
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ٨٧..
ذلك إخبار من الله عن هيئة الجنة والنار، وما فيها من ظالمين ومجرمين وفجار، فيقول سبحانه :﴿ وبينهما حجاب ﴾ أي بين الجنة والبار سور أو حاجز فلا تلتقيان أو تجتمعان.
قوله :﴿ وعلى الأعراف رجال ﴾ الأعراف جمع عرف وهو أعلى الشيء أو أعلى موضع فيه. والمراد بالأعراف هنا شرفات السور المضروب بين الجنة والنار ؛ قال بان عباس : الأعراف هو الشيء المشرف. ومنه عرف الفرس وعرف الديك ؛ وهو أعلاه١.
أما الرجال على الأعراف : فقد اختلف فيهم العلماء. فقد قيل : هم الشهداء. وقيل : هم صالحون فقهاء علماء. والقول الراجح في ذلك أنهم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة. وهو قول كثير من أهل العلم فيهم ابن عباس وابن مسعود وحذيفة ابن اليمان وغيرهم. ويحقق هذا القول حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة٢ دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار ) قيل : يا رسول الله، فمن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال :( أولئك أصحاب الأعراف ؛ لم يدخلوها وهم يطمعون ). قوله :﴿ يعرفون كلا بسيماهم ﴾ جملة فعلية في موضع رفع صفة لرجال٣ ؛ أي يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار ﴿ بسيماهم ﴾ أي بعلاماتهم الدالة على حقيقتهم والتي جعلها الله على وجوههم فيعرفون منها كبياض الوجوه لدى أهل الجنة وسوادها لدى أهل النار والعياذ بالله من النار وعذابها. أما السيما فهي العلامة. وكذا السمية والسيمياء بالكسر، والسومة بالضم بمعنى العلامة٤.
قوله :﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ أي نادى أصحاب العراف وهم الموقوفون على مشارف السور، نادوا أصحاب الجنة ؛ إذ عرفوهم من سيماهم ؛
وهي علامة الإشراق والوضاءة على وجوههم قائلين لهم : سلام عليكم. وذلك من باب التحية والدعاء لهم. أو أنكم نجوتم من العذاب وفزتم بالجنة فهنيئا لكم.
قوله :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ هم، مبتدأ. ويطمعون جملة فعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والمبتدأ وخبره في محل نصب على الحال من ضمير ﴿ يدخلوها ﴾ فيكون المعنى على هذا : أن أصحاب الأعراف كانوا يائسين من دخول الجنة ؛ إذ لم يكن لهم طمع في الدخول، لكنهم دخلوا وهم على يأس من ذلك.
وقيل : لم يدخلوها بعد ولكنهم يطمعون في الدخول. وعلى هذا الوجه لا يكون للجملة موضع من الإعراب٥.
٢ صؤابة: بيضة القمل والبرغوث. انظر القاموس المحيط جـ ١ ص ٩٤..
٣ البيان الابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٢..
٤ القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٣٥..
٥ البيان الابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٣..
أي نادى أصحاب الأعراف رجالا من أهل الأرض، من رؤساء الكفر كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأبي خلف وغيرهم من قادة الكافرين في الدنيا ؛ إذ رآهم أصحاب الأعراف فيما بين أهل النار، وهم يعرفونه بعلامتهم الدالة على ظلمهم وخسرانهم، وأنهم حصب جهنم وذلك مما يعلو وجوههم من العبوس والسواد ﴿ ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ ذلك استفهام توبيخ وتعنيف. وقيل : ما نافية. أي ما كفاكم ولا نفعكم جمعكم وهم أباعكم وأشياعكم. أو جمعكم من المال واستكباركم عن قبول الحق وعن التصديق بدعوة الله. ذلك كله لم ينفعكم ولم يجد لكم شيئا، الآن فقد خسرتم آخرتكم هذه وضعتموها بعوض بخس وهي الدنيا الفانية.
قوله :﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وذلك من كلام أصحاب الأعراف، كذلك فهم إذا رأوا أهل الجنة قالوا لهم : ادخلوا الجنة أو دوموا فيها دواما أبديا لا ينفي ولا ينقطع غير خائفين من شيء يضركم أو يخيفكم ولا محزونين على ما فاتكم في الدنيا.
وقيل : القائل لهم ذلك هو الله. وقيل : الملائكة٢.
٢ تفسير الرازي جـ ١٤ ص ٩٧ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٥٥ وروح المعاني جـ ٨ ص ١٢٦..
بعد أن يستقر المؤمنون في الجنة، والكافرون والظالمون في النار يخبر الله عن حال هؤلاء من التعس والويل والبلاء. وما يجدونه في النار من النكال والاغتنام والاستحسار ما يعجز القلم والكلمات عن وصفه إلا كلمات الله في كتابه الحكيم ؛ إذ تصف فظاعة التنكيل بالكافرين المجرمين العتاة، ومن جملته : ذلك العطاش الشديد الذي يحرق القلوب والأكباد حرقا، وكذا الجوع الأليم اللسع الذي يدفع الظالمين للمجرمين إلى الاستغاثة بأهل الجنة قائلين في كرب وهوان ﴿ أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ﴾ أفيضوا أي أسيلوا أو صبوا١ ؛ فهم يستغيثونهم أن يصبوا عليهم شيئا من الماء ليطفئوا به ظمأهم الحران، ويسكنوا عطاش قلوبهم الظامئة الحرى ﴿ أو مما رزقكم الله ﴾ أي من خيرات الجنة مما فيها من الطعام والثمرات ؛ فهم بذلك يستسقونهم ويستطعمونهم وهم يعانون من حر جهنم واستحرار لهيبها ما يجل عن البيان أو الصوف، إنهم ينادونهم بذلك رجاء منهم أن يستجيبوا لهم فيفيضوا عليهم مما سألوه لكنهم لم يستبقوا لهم في قلوب المؤمنين رأفة بهم ولا يستحقون من الله شيئا من رحمته وإحسانه. لا يستحقون في هذه الحال البئيسة الرهيبة غير الصدود والامتناع من غوثهم. وهو قوله سبحانه :﴿ قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ﴾ أجابوهم بمنعهم مما طلبوه وهو الطعام والشراب ؛ فقد حرموا من ذلك ومن كل وجوه الرزق والنعمة يوم القيامة فلا يستحقون من الجزاء حينئذ إلا النار بما أسلفوه من الكفران والعصيان والصد عن سبيل الله وتحريض الظالمين والمشركين والمتربصين على المسلمين، فضلا عن استسخارهم بدين الله والاستهزاء به، فقال سبحانه :﴿ الذين اتخذوا دينهم لهو ولعبا ﴾
قوله :﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ أي خدعتهم الدنيا بمتاعها وزخارفها وما حوته من عرض سريع زائل فاغتروا بها اغترارا ثناهم عن الاهتمام بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء. وذلك هو شأن الدنيا، تغر أكثر الناس فينشغلون بها انشغالا يطغي على قلوبهم وعقولهم ويلهيهم عن أوجب واجباتهم وهو الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة والتزام دينه الذي ارتضاه وشرعه لهم. وأيما انشغال عن ذلك أو اغترار أو انثناء فإن مآله التعس والخسران.
قوله :﴿ فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ﴾ الكاف في ﴿ كما ﴾ في محل نصب نعت لمصدر محذوف ؛ أي ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم. وذكر النسيان في حق الرحمن يأتي على سبيل التمثيل. فالله تعالى لا ينس، إذا قصد النسيان في أصل معناه وهو عدم الذكر. ﴿ وما كان ربك نسيا ﴾ وقال عز من قائل :﴿ لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ لكن المقصود بنسيان الله للكافرين هو تركهم في النار عطاشا جياعا معذبين على التأبيد لا يخرجون، مثلما تركوا دينهم الذي أنزله الله إليهم فأعرضوا عنه إعراضا ولم يستعدوا بالإيمان والطاعة للقاء الله في هذا اليوم المخوف.
قوله :﴿ وما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾ معطوف على ﴿ كما نسوا ﴾ أي ننساهم بتركهم في النار كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله في هذا اليوم٢. وكذلك نتركهم لما كانوا يكذبون بآيات الله وهي حججه وكتبه ودلائله التي يحتج بها النبيون على صدق دعوتهم.
٢ البيان لابن الأنباير جـ ١ ص ٣٦٤..
يقول الله مبينا حجته على الناس، أنه أنزل إليهم كتابه الحكيم وهو القرآن، مفصلا ومستبينا لا عوج فيه ولا نقص ولا إبهام، ميز الله فيه الحق من الباطل. وذلك ﴿ على علم ﴾ أي علم منا. أو أننا عالمون بما جاء فيه من خير وصلاح وتنجية للعالمين. وليس فيه شيء من وجوه النقص أو الضعف أو النسيان وإنما هو كامل البيان والتفصيل أنزله ﴿ هدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ هدى ورحمة، منصوبان على الحال في هاء ﴿ فصلناه ﴾.
أي أنزله الله يكون هداية للناس فتستقيم أحوالهم وطبائعهم وحياتهم. وهو كذلك بعقيدته وشرعه ومنهجه للحياة، يفيض على الدنيا وأهلها بالرحمة والإحسان والتحنان. وقد خص المؤمنين بالهداية والرحمة ؛ لأنهم المدكرون المتعظون الذين بادروا التصديق بآيات الله والتزام دينه وشرعه دون إبطاء أو شك. فقال :﴿ هدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾.
قوله :﴿ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت الرسل ربنا بالحق ﴾ أي يوم القيامة يظهر عاقبة ما أخبروا به من العذاب ومصيرهم إلى النار، فأدركوا أن ما جاءتهم به الرسل حق، واعترفوا حينئذ بذنبهم العظيم وخطيئتهم الكبرى، وأيقنوا أنهم كانوا سادرين في الضلال ؛ فهم الآن صائرون لا محالة إلى الشقوة والتعس.
قوله :﴿ فهل لنا من شفعاء فيشعوا لنا ﴾ فيشفعوا، منصوب بتقدير أن بعد فاء السببية١ الشفيع هو السائل لصاحبه إسقاط العقاب عن المشفع فيه والعفو عن خطيئته. وهو من تعريف الطبرسي٢ يسأل الخاسرون التعساء يوم القيامة عن شفعاء يشفعوا لهم بدر العذاب عنهم وبتجنبهم مما عاينوه من العذاب المحيط المحدق. وهو استفهام اليائسين الخاسرين الذين أيقنوا أنهم أحيط بهم وأنهم صائرون إلى النار لا محالة. وهذا هو شأن اليائس المكروب الذي تملكه الحيرة، وغشيه اليأس المطبق، لا جرم أن يتشبث بما يظن أو يتمنى أنه منجاة له من النار. لكنه تشبث الحالمين الحياري الذين تقطعت بهم الآمال والسبل وعملوا أنه ليس حينئذ من شفيع ولا مجير إلا التداعي في النار والحرور.
قوله :﴿ أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ﴾ فنعمل منصوب على جواب التمني بالفاء بتقدير٣ أن يتمنون كذلك أن يردوا إلى الدنيا لاستئناف العمل الصالح فيعملوا غير ما كانوا يعملونه إبان غفلتهم وعصيانهم ولا يعدو ذلك دائرة التمنيات الحائرة الشواطح يطلقها الخاسرون الهلكى لما طغى عليهم اليأس وعضتهم الندامة عضا لا يجديهم ولا يغنيهم من العذاب الواقع شيئا. ولذلك قال :﴿ قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ خسروا أنفسهم، بإهلاكها وإسقاطها في العذاب الأليم الدائم. وذلكم هم الخسران الكبير. وفوق خسرانهم هذا ﴿ صل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ أي بطل ما كانوا يلفقون من الأكاذيب والافتراءات على الله. أو غاب عنهم ما كانوا يتخذونهم شركاء مع الله فيعبونهم معه أو من دونه. وهذا شأن المشركين الضالين في كل زمان ؛ إذ يتخذون مع الله أربابا من دونه سواء كانت الأرباب من الجوامد الصم كالأصنام، أو البهائم التي لا تعي ولا تنطق كمن يقدس البقر ويتخذها مع الله شركاء، أو كان المعبود من البشر كالرؤساء الطواغيت أو الساسة والملوك الجبابرة المتسلطين الذين يستعبدون الناس استعبادا ويستخفونهم لطاعتهم استخفافا.
والرعاع وعامة الناس –وهم أكثر البشرية- يخفون في همة بالغة ونشاط ليس له نظير، لطاعة هؤلاء الجبابرة العتاة في كل ما يأمرونهم به. ولا يتردد المستخفون الرعاع يبادرون الطاعة لأسيادهم، ولو كلفهم ذلك الخروج عن منهج الله، وعصيان الله فيما أمرهم به. وذلك ضروب من ضروب الإشراك بالله يهوي فيه الضالون الخائرون٤.
٢ التبيان للطبرسي جـ ٤ ص ٤٠٢..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٤..
٤ تفسير البغوي جـ ٢ص ١٦٤ وتفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣٠٦..
قوله :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ ﴿ استوى ﴾ في اللغة بمعنى استقر. استوى على دابته إذا استقر على ظهرها. واستوى إلى السماء ؛ أي قصدها، واستوى بمعنى استولى وظهر. وهو من تأويل المعتزلة. واستوى الشيء ؛ أي اعتدل. والاسم السواء١.
على أن الاستواء على العرش صفة للرحمن بغير كيفية يقف على حقيقتها الإنسان، بل يجب عليه الإيمان باستواء الله على العرش، وأن يكل العلم في ذلك إلى الله عز وجل. وقد سأل رجل الإمام مالك بن أنس عن قوله :﴿ الرحمان على العرش استوى ﴾ : كيف استوى ؟ فاطرق رأسه مليا وعلته الرحضاء٢. ثم قال : الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالا، ثم أمر به فأخرج.
والعرش، في اللغة، بمعنى سرير الملك، ويطلق أيضا على الملك والعز والسلطان. وعرش البيت سقفه. وقيل : العرش معناه البناء العالي٣ والمراد بالعرش في هذه الآية وغيرها من الآيات، في ضوء ما تكشف عنه الأحاديث الصحيحة : أنه الخلق العظيم الهائل الذي يحيط بالسموات والأرض ؛ فهو أكبر منهما وأوسع، لاشتماله عليهما وإحاطته بهما٤.
قوله :﴿ يغشي الليل النهار ﴾ الجملة الفعلية في محل نصب حال. والتقدير : استوى على العرش مغشيا الليل النهار. ويغشي معناه يغطي، من الغشاء والغشاوة ؛ أي الغطاء ؛ أي يجعل الليل والنهار غشاء فيجلله بظلامه. أو يغطي ضياءه بسواده الشديد.
قوله :﴿ يطلبه حثيثا ﴾ الجملة الفعلية في محل نصب من الليل. صفة لمصدر محذوف تقديره طلبا حثيثا. والحثيث معناه المسرع٥ ؛ أي أن الليل يطلب النهار طلبا سريعا لا يعرف الفتور. وذكر الطلب هنا على سبيل المجار. وذلك أن أحدهما يعقب الآخر ويخلفه فكأنما يطلبه طلبا سريعا دائما لا انقطاع فيه ولا اضطراب ولا فتور. وهو من استمرار طلبه للنهار لا يدركه بل هو في أثره طوال الزمان حتى ينقطع الزمان إذ تنكدر النجوم انكدارا وتنثر الكواكب انتثارا. وهذا إيذان داو ومزلزل بقيام الساعة، بعد أن يتبدد نظام الكون في هذه الدنيا وينفرط عقد الكائنات وما حوته الطبيعة من قوانين مقدورة.
قوله :﴿ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ﴾ الأسماء الثلاثة الأولى معطوفة على السموات. ومسخرات، منصوب على الحال ؛ أي أن الله خلق السموات والأرض وخلق الشمس والنجوم مذللات بأمره أي بإرادته وقدرته وبمقتضى حكمته وتدبيره ؛ فهن مأمورات لله الذي فطرهن.
قوله :﴿ ألا له الخلق والأمر ﴾ الخلق : الإيجاد والاختراع مثلما قدر وأورد. والأمر : أي يأمر في خلقه بما يشاء، وليس له في ذلك شريك.
قوله :﴿ تبارك الله رب العالمين ﴾ تبارك من البركة، وهي في اللغة بمعنى النماء والزيادة. والتبريك : الدعاء والبركة. وتبرك به، أي تيمن به٦ و ﴿ تبارك الله ﴾ أي علا وعظم أو تعالى وتعظم. وقيل : تبارك وتقدس، والقدس بمعنى الطهارة. وقيل : كثرت بركته واتسعت لتصيب الحياة والأحياء جميعا٧ ورب العالمين، أي مالك كل شيء في الوجود. إذ ما من شيء في السموات والأرض أو بينهما أو خارج حدودهما مما هو أوسع منهما إلا هو مملوك له ؛ لأنه سبحانه له ملكوت كل شيء.
٢ الرحضاء: رحض يده وثوبه، أي غسله. انظر مختار الصحاح ص ٢٣٧..
٣ مختار الصحاح ص ٤٢٣ وقتح القدير جـ ٢ ص ٢١١..
٤ تفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣٠٨..
٥ مختار الصحاح ص ١٢٢..
٦ مختار الصحاح ص ٤٩..
٧ تفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣٠٩، ٣١٠ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٦٤، ١٦٥ والتبيان للطبرسي جـ ٤ ص ٤٢١- ٤٢٣..
يأمر الله في هذه الآية عباده المؤمنين بالدعاء إليه. والدعاء ضرب عظيم من ضروب العبادات. بل إنه عبادة رهيفة كريمة مميزة يتقرب بها المؤمن الداعي من ربه درجات. والحرص على الدعاء بغير كلل ولا ملل ولا قنوط دليل الإخلاص المستكين وهو يكشف أيضا عن استقرار الإيمان الوطيد في قلب المؤمن الداعي. فلا جرم أن يكون الدعاء علاقة يقين وتصديق كاملين لدى المؤمن. وهو كذلك ظاهرة أساسية ومفضلة من ظواهر العبادات على اختلاف أنواعها وضروبها. بل إن شعيرة الدعاء تأتي في طليعة العبادات جميعا إن لم تكن هي نتيجة أصيلة كبرى تؤول إليها العبادات برمتها. فما يزال المؤمن يصلي ويصوم ويتصدق ويتنسك ويتطهر ويكثر من الطاعات حتى تتعاظم صلته الروحية بخالقه العظيم ؛ لعبر عن حقيقة ذلك ومداه بالدعاء الصادق المخلص. وليس أدل على هذه الحقيقة من الحديث :( الدعاء مخ العبادة ) ١.
وكذلك ما رواه كثير من أصحاب السنن والمسانيد عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الدعاء هو العبادة ) وذلك تعظيم للدعاء بما يجعله في ذروة المراتب من الطاعات التي يتقرب بها المرء من الله. إلى غير ذلك من الأحاديث المبينة لقدر الدعاء العظيم. هذه الشعيرة القلبية الخفية التي تشير إلى إخلاص المسلم العابد وهو يتذلل خاشعا لله بالمناجاة والرجاء. على أن الدعاء الصحيح المطلوب ما كان مضبوطا بضوابطه مما في الكتاب أو السنة لكي يكون دعاء سليما متقبلا. وهو ما تبينه الآية هنا ﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾ تضرعا وخفية منصوبان على الحال ؛ أي متضرعين بالدعاء مخفين له. وقيل : صفة لمصدر محذوف تقديره : ادعوه دعاء تضرع ودعاء خفية.
والتضرع، من الضراعة وهي الخضوع والذلة والاستكانة والخشوع. تضرع إلى الله ؛ أي ابتهل٢. والخفية، خلاف العلانية وهي السر ؛ لن الإسرار في الدعاء أقطع للرياء وأبعد عن الإخلال بالإخلاص. باعد الله بيننا وبين الرياء كما باعد بين المشرق والمغرب.
وعلى هذا يحاذر المؤمن كل شائبة تشوب الإخلاص في الدعاء إذا ابتغى لدعائه الاستجابة والتقبل. ومن الشوائب التي ينخرم بها الإخلاص في الدعاء المجاهرة الصارخة في الدعاء أو الصياح الرفيع المستهجن الذي يذهب ببركة العبادة ويبدد منها النقاء وحلاوة التذلل إلى الله. وإنما يدعو المؤمن ربه إسرارا وهمسا بينه وبين ربه حتى لا يدري أحد أو يسمع ما يقول. قال الحسن البصري في ذلك : أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت، وإن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم٣.
واختلفوا في رفع اليدين في الدعاء ؛ فقد كرهه طائفة من العلماء منهم : جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومسروق وعطاء وطاووس ومجاهد. وأجز رفعه آخرون من الصحابة والتابعين. واستدلوا لجواز الرفع بما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه. ومثل ذلك عن أنس. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة مادا يديه، فجعل يهتف بربه.. وذكر الحديث. وفي رواية عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه.
أما مدى رفع اليدين في الدعاء فهو أن يرفعهما القانت حتى تصيرا بمحاذاة صدره. وهو قول الحنفية والحنبلية. وهو ما روي عن عمر وابن عباس وابن مسعود. وفي رواية عن أنس قال فيها :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ) ٤.
قوله :﴿ إنه لا يحب المعتدين ﴾ الاعتداء يراد به مجاوزة الحد. وفي الحديث ما أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( سيكون قوم يعتدون في الدعاء ) والاعتداء في الدعاء يكون على وجوه منها : الجهر الكثير والصياح، وهو ما بيناه في الفقرة السابقة. ومنها ان دعاءه أن يكون له منزلة نبي أو يدعو في محال مما لا يحصل إلا بمعجزة، كما لو دعا ربه أن يصعد إلى السماء أو ينقلب له الحجر ذهبا وذلك ضرب من الشطط والعبث غير المعقول ولا المقبول في الدعاء.
وللدعاء آداب كثيره منها ان يكون الداعي على طهارة وأن يكون مستقبلا القبلة وأن يكون قلبه خاليا من شواغل الدنيا وأن يفتتح الدعاء ويختتمه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يرفع يديه نحو السماء. وأن يتحرى ساعات يستجاب فيها الدعاء منها يوم الجمعة ووقت نزول المطر وعند الإفطار.
٢ مختار الصحاح ص ٣٨٠..
٣ تفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣١٠، ٣١١ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٦٥- ١٦٦..
٤ المغني لابن قدامة جـ ٢ ص ١٥٤ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٢٥..
على أن وجوه الإفساد كثيرة يأتي في أشدها وأنكرها الإشراك بالله. لا جرم أن الإشراك بالله غاية الإجرام والإفساد في الأرض. وكذلك وجوه العصيان وارتكاب المحظورات وإشاعة الأذى والمنكر في البلاد بما يؤذي الناس ويضر بالعباد.
قوله :﴿ وادعوا خوفا وطمعا ﴾ أي عبدوا الله، وأطيعوه بكل وجوه الطاعة، وتذللوا له خاشعين بالدعاء أن يدرأ عنكم العذاب، وأن يتفضل عليكم برحمته وجزيل ثوابه.
قوله :﴿ إن رحمت الله قريب من المحسنين ﴾ قريب مذكورة بالتذكير على النسب ؛ أي ذات قرب ؛ كقولهم : امرأة طالق وطامث وحائض ؛ أي ذات طلاق وطمث وحيض. وقيل غير ذلك١. وتأويل الآية : أن رحمة الله قد كتبها لمن أطاعوه فاتبعوا أوامره واجتنبوا زواجره. إن هؤلاء المؤمنين المطيعين ينالون من الله رحمته التي وسعت كل شيء. ورحمة اله بفيضها الغامر الواسع تشمل كل معاني الخير والفضل والإحسان والعطاء الكريم. وذلك ما أعده الله بعباده الصالحين يوم القيامة٢.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٢٢ وتفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣١٢..
الرياح التي تحمل السحاب وما فيه من مطر، يرسلها الله للبعاد لتحمل لهم البشريات بنزول الخير والرحمة. وقوله :﴿ بشرا بين يدي رحمته ﴾ أي مبشرات قدام رحمة الله وهو المطر المحمول. وقد سمي برحمة : لما يترتب عليه بحسب العادة من الخير والخصب والبركة والرزق. و ﴿ بشرا ﴾، بضم الباء وسكون الشين، جمع بشير منصوب على الحال. وقرئت الكلمة بقراءات غير ذلك ومنها ( نشرا ) بالنون١.
قوله :﴿ حتى إذا أقلت سحابا ثقالا ﴾ ﴿ حتى ﴾ غاية لقوله :﴿ يرسل ﴾ و ﴿ أقلت ﴾، أي حملت٢ من لإقلال وهو الحمل. والحساب ؛ معناه الغيم سواء كان فيه ماء أو لم يكن، وجمعه سحب وسحائب٣، والسحاب الثقال ؛ ومعناه الغيم الموقر بالماء يسوقه الله بإرادته إلى بلد ميت، ليس فيه ماء ولا نبات. بلد دارس مجدب غابت عنه كل ظواهر الحياة والحركة. حتى إذا ساق الله إليه السحائب الموقرات بماء المطر انبعثت فيه الحياة والبركة وشاعت فيه الخيرات والثمرات بما يفيض على الحياة والناس الأمن والرخاء والنعمة. وذلك هو مقتضى قوله تعالى :﴿ حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات ﴾.
قوله :﴿ كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ﴾ الكاف في اسم الإشارة في محل نصب صفة لمصدر محذوف. وتقدير الكلام : مثل ذلك الإخراج نخرج محل نصب صفة لمصدر محذوف. وتقدير الكلام : مثل ذلك الإخراج نخرج الموتى من القبور. وهذا برهان من الله لكل ذي عقل سليم وفطرة سوية. برهان منتزع من الواقع المنظور مما لا يعز على الأذهان أن تعيه أو تصوره، وجملته : أن الله القادر على إحياء الأرض بعد مواتها ويبسها وجدبها، ثم يثير فيها الحياة والحركة والنمو ؛ لهو قادر على إحياء الموتى من الأحياء في يوم البعث بعد أن أتى عليهم البلى والتعفية والدروس.
ألا يتشابه الحالان ؟ بلى إنهما متشابهان لا يختلفان لا في الأصل ولا في الكيفية ؛ فكلاهما في الأصل ميت وجامد وهامد. الأرض الميتة اليبس قبل أن يردها الماء مقفرة مجدبة ليس فيها حياة البتة. لكنها إذا ما سقيت ماء انبعث فيها الحياة والنماء والعطاء لتستحيل الأرض القفر بعد الماء إلى جنات حسان حيث الزروع والثمرات، فتعبق بها الروائح الزكية الفواحة، وتفيض على الناس زهوا وبهجة وجمالا.
إن الذي صنع من حبات الثرى الجوامد جنات خصيبة بهيجة مخضرة لهو قادر –بداهة- أن يحيي الخلائق بعد موتهم. وذلك هو تأويل قوله تعالى :﴿ كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ﴾ إن هذا الإحياء العجيب الباهر، وهذه العملية الربانية المذهلة في الخلق، وبعض الحياة بعد موات واقفرار وركود ؛ لا جرم أنها خر دليل على حقيقة البعث يوم القيامة. وفي ذلك من قوة البرهان الساطع ما يعيه ويتذكره أولو النباهة والفطانة من الناس.
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٧٥٦..
٣ المعجم الوسط جـ ١ ص ٤١٨..
هذا مثل يضربه الله للناس، يبين فيه اختلاف القلوب. فثمة قلب مؤمن كريم متفتح يعي حقيقة الإيمان والإخلاص ويقبل المواعظ والذكر ويلين للكلمة الصادقة الودود فيقبل على الله في طواعية ولين واستسلام. وقلب آخر مغاير كل مغايرة أو بعضها ؛ فهو منكود وموصد وعسر لا خير فيه. قلب جاحد فظ لا يروق له الصدق والعدل والصواب، ولا تعطفه المواعظ والذكرى، وهو لفرط قسوته وتبلده وضموره لا نؤثر فيه أسباب الهداية أو الترشيد ؛ فهو بذلك مستعص على كل هاتف من هواتف الدين المستقيم، أو نداء من نداءات الهداة والمرشدين. ذلكم هو الإنسان النكد الشرير. الإنسان الظالم العتل الذي خبت فيه بصائص اللين والرحمة والجمال وغارت فيه كل ظواهر التدين والخير، فأبي إلا التمرد والشرود والعصيان قوله :﴿ كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ﴾ أي مثلما صرفنا الآيات والبينات والدلائل لدحض الشرك وافتراءات الظالمين والمشركين ؛ فإنما نردد الآيات والحجج ونكرها لتدل على قدرة الله البالغة فيتدبرها الشاكرون وهم الذين يحسنون الانتفاع بهذه الدلائل والبينات.
٢ لسان العرب جـ ٣ ص ٤٢٧..
وفي حقيقة هذا الاسم ( نوح ) قيل : إنه سمي بذلك لكثرة ما ناح على نفسه. واختلفوا في سبب نياحه على نفسه فقيل : سببه دعونه على قومه بالهلاك. وقيل : مراجعته ربه في شأن ابنه كنعان. وقيل : إصرار قومه على الكفر. فكان كلما دعاهم وأعرضوا عنه بكي وناح عليهم. وقيل غير ذلك من الأخبار الظنية غير المستندة إلى أدلة معتبرة ومقبولة إلا الإغراق في الظن البعيد الذي لا يغني من الحق شيئا. والظاهر أن هذا الاسم قد وضع له عليه الصلاة والسلام لدى ولادته ؛ فهو غير مشتق من النياحة أو النياح أو المناحة أو النوح. بل هو اسم أعجمي منصرف لخفته١.
قوله :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾ غيره، مرفوع صفة لإله، أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء. وقيل : مجرور على أنه صفة لإله باعتبار لفظه٢.
وفي الآية هذه ينادي نوح قومه الضالين المشركين نداء الرفيق الشفيق أن اعبدوا الله وحده وأطيعوه وأذعنوا له بالانقياد وذروا هذه الأنداد المصطنعة المفتراة ؛ فإنها جميعا لا تضر ولا تنفع ؛ فهي صم بلهاء لا تعي ولا تسمع ولا تملك لكم شيئا ؛ فإنه ليس لكم في الحقيقة من إله خالق قادر رازق سوى الله.
قوله :﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾ وهذا تنذير من نوح لقومه يخوفهم به تخويفا، فإذا لم يفيئوا إلى الله بعبادته وحده ونرك الأصنام كليا والانخلاع من هذه الربقة المهلكة. ربقة الشرك والضلال والتعس، والتشبث بالأصنام المفتراة –لئن لم يفيقوا من هذا العمه الطاغي يستنقذوا أنفسهم من كابوس الوثنية الضالة العمياء ؛ فلسوف يحيق بهم العذاب من الله. وهو عذاب أليم شديد قي يوم مذهل رعيب يشتد فيه الهول ويتعاظم فيه البلاء. ونوح عليه السلام حريص على قومه كل الحرص لتنجيتهم من العذاب. بل إنه يخاف عليهم أن يحل عليهم العذاب يوم القيامة، وحينئذ لا يحول دونه حائل، ولا تجدي معه شفاعة الشافعين.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٧..
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٥٤٢..
قوله :﴿ وأعلموا من الله ما لا تعلمون ﴾ أي أعلم من قبل الله بوحيه الكريم من المعلومات والأخبار ما ليس لكم بها علم وذلك عن قدرته القاهرة وبطشه الشديد، وعما يلاقيكم يوم القيامة من الأهوال والشدائد وفظاعة التعذيب ؛ إن لم تؤمنوا برسالتي إليكم، وتكفوا عما أنتم عليه من الشرك والباطل٢.
٢ روح المعاني جـ ٨ ص ١٥٠- ١٥٢ وتفسير الطبري جـ ٨ ص ١٥٠، ١٥١..
لقد أرسل الله نبيه ورسوله هودا عليه السلام إلى قوم عاد وهو قوله :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾ أي صاحبهم. وقيل : أخوهم في القبيلة. وكان هود أوسط قومه نسبا وأفضلهم حسبا. أما عاد فهم من ولد سام بن نوح. كانوا ينزلون الرمال بنواحي حضر موت من اليمن. وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارة. وظاهر حقيقتهم ووصفهم أنهم كانوا عتاة غلاظا أشداء، عبدوا الأصنام وعتوا عن أمر ربهم عتوا شديدا لما دعاهم نبيهم هود ؛ إذ قال لهم :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون ﴾ أي اقبلوا على الله بالتصديق والطاعة، وأفردوا له العبادة، وأعتقوا أنفسكم من العبودية للأصنام ؛ فغنه ليس لكم من إله معبود يستوجب منكم الخضوع والامتثال سوى الله. فهو خالقكم وخالق أصنامكم، وهو الذي ذرأ لكم ما تتقلبون فيه من نعيم الدنيا ورخائها ﴿ أفلا تتقون ﴾ أي أفلا تخافون الله فتحذروه وتخشوا عقابه فتبادروا الإيمان به والطاعة له قبل ان يحل عليكم غضب الله وعذابه.
وقد نفي هود عن نفسه أيما سفاهة ؛ فإنه ما ضل ولا مال عن الحق والصواب. ولكنه مرسل من ربه جاء يبلغ الناس رسالة ربهم ففيها الهداية لهم والترشيد، وفيها ما يصلح عليه حالهم في الحياة وفي المعاد وهو قوله :﴿ أبلغكم رسالات رب وأنا لكم ناصح أمين ﴾
قوله :﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة ﴾ إذ، في محل نصب مفعول لا ذكروا ؛ أي اذكروا وقت استخلافكم.
فإن هودا عليه السلام يدعوا قومه أن يتذكروا منن اله عليهم، لا رجم أنها منن عظمة تستوجب منهم الشكران لله والثناء عليه ؛ فقد جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح يخلفونهم في مساكنهم وفي الأرض من بعدهم. أو أنه جعلهم من بعدهم ملوكا وسادة. وكذلك ( زادهم في الخلق بسطة ) أي قوة وزيادة في الجسم، أو طولا في الخلق وعظمته في الجسم. فقد قيل : كانت قامة الطويلة منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا. وقيل : كانت هامة الرجل منهم مثل القبة العظيمة. وقيل : كانوا كأنهم النخل الطوال، وقيل غير ذلك من الأوصاف لقوم عاد في عظمة طولهم وضخامة أجسادهم وقوتهم الهائلة بما يميزهم في ذلك عن غيرهم من الناس. وذلك من منن الله عليهم التي تستوجب منهم الذكرى والشكر لله بإفادة في الإلهية والعبادة.
قوله :﴿ فاذكروا الآلاء الله لعلكم تفلحون ﴾ الآلاء : النعم. وهي جمع ومفرده إلي، بالكسر فسكون على وزن حمل. أو ألي، بالضم فسكون على وزن قفل وأو إلى بالكسر ففتح، مقصور. وفي الآية بيان لدعوة هود عليه الصلاة والسلام قومه أن يتذكروا ما أسبغ الله عليهم من نعمه العظيمة المميزة، وذلك لما في تذكر هذه النعم ما يفضي إلى شكرهم الله واعترافهم بفضله وعطائه. ومن شكر الله واعتراف له بالفضل والمنة فقد أدرك الحقيقة، وأيقن أن الله وحده المعبود دون أحد سواه من خلقه العبيد١.
هكذا كان جواب قوم عاد. لقد أجاب هؤلاء السفهاء عما دعاهم إليه نبيهم هود من التصديق والتوحيد والطاعة لله دون سواه، وعما ذكرهم به من آلاء الله الكبيرة عليهم –أجابوه في استنكار وسفاهة بما يكشف عن قلوبهم الغلف وطبيعتهم الكزة التي تنفر من الحق وتستمرئ التقليد والضلال والباطل ﴿ أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ﴾ الآية. يعني أجئتنا تتوعدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين لنعبد الله وحده دون غيره من الأنداد فندين له بالعطاء ونهجر عبادة الآلهة الأخرى التي ألفينا آباءنا يعبدونها من قبل. فما نحن بمؤمنين لك ولا مصدقين ما جئت به فأتنا بما تعدنا من العقاب والعذاب على عدم إخلاص التوحيد لله وعبادة ما دونه من الأوثان إن كنت صادقا فيما تقول.
قوله :﴿ أتجدلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ﴾ قال لهم نبيهم هود مستنكرا مستقبحا مقالتهم الظالمة :﴿ أتجدلونني في أسماء سميتموها ﴾ الآية. أي أتخاصمونني في مسميات وضعتم أنتم لها أسماءها التي لا تستحقها ولا يليق بها فسميتموها آلهة افتراء وضلالا وسفها، وهي في الحقيقة تماثيل صماء لا تدرك ولا تنطق، وهي كذلك لا نضر ولا تنفع ﴿ ما نزل الله بها من سلطان ﴾ أي ليس لكم من الله فيها حجة ولا برهان تعتذرون أو تحتجون به.
قوله :﴿ فانتظروا إني معكم من المنتظرين ﴾ الفاء للترتيب على ما تقدم. وذلك تهديد ووعيد للقوم الظالمين الذين عتوا وأبوا إلا الكفر والوثنية قائلا لهم : انتظروا نزل العذاب الذي طلبتموه أنتم وإن معكم من المنتظرين حكم الله وقضاءه فينا وفيكم.
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٦٥٤..
قوله :﴿ وقطعنا دابر الدين كذبوا بآياتنا ﴾ الدابر معناه آخر كل شيء، أو الأصل١. والمراد هنا الكناية عن الاستئصال. وذلك أن الله أهلكهم بالكلية فلم يبق منهم أحدا.
قوله :﴿ وما كانوا بمؤمنين ﴾ معطوف على قوله :﴿ كذبوا بآياتنا ﴾ أي أنهم مكذبون بآيات الله، وجاحدون نبوة هود، ومنكرون ما جاءهم به من عند الله٢.
٢ تفسير الرازي جـ ١٤ ص ١٦٧ روح المعاني جـ ٨ ص ١٥٨- ١٦١ وتفسير الطبري جـ ٨ ص ١٥٧..
ثمود اسم عربي بمعنى الماء القليل. ثمد الماء : قل. وثمد الماء على النصب ؛ إي استنبطه من الأرض. وقد ورد فيه الصرف وعدمه. أما الصرف ؛ فلأنه اسم للقليل من الماء. وأما عدم الصرف : فهو باعتباره اسما للقبيلة ففيه العلمية والتأنيث١.
وثمود قبيلة العرب العاربة جاءوا بعد عاد وهم من سلالة سام بن نوح. ومساكنهم فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع للهجرة. وكانت ثمود في سعة من المعايش. ولكنهم كانوا ظالمين مشركين ؛ إذ عبدوا الأصنام وأفسدوا في الأرض إفسادا، فبعث الله إليهم صالح نبيا ورسولا منهم. وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا. فدعاهم إلى عبادة الله وحده وهجر الأصنام والشرك، فلم يطعه منهم إلا قليلون مستضعفون٢.
وهذا تأويل قوله سبحانه :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾.
قوله :﴿ قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية ﴾ البينة هنا يراد بها آية أو معجزة ظاهرة تشهد على صدق نبوة صالح عليه السلام. والمعجزة هي في قوله تعالى :﴿ هذه ناقة الله لكم آية ﴾ وآية منصوب على الحال. لما دعا صالح ثمودا إلى التوحيد ونبذ الأصنام والشرك سألوه أن يخرج لهم ناقة من جوف الصخر الصلد ليؤمنوا به ويصدقوه ويشهدوا أن ما جاءهم به حق. فاخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن تحقق ذلك ليصدقنه وليؤمنن به. قالوا : نعم. فأعطوه على ذلك عهودهم، فدعا صالح ربه أن يخرج لهم ناقة من تلك الهضبة كما وصفوا، فاستجاب الله لنبيه صالح وانصدعت الهضبة الصلدة الصماء عن ناقة عظيمة كما سألوا. فرأوها عيانا ويقينا. وكان لها يوم تشرب فيه الماء. ولهم الشرب في اليوم الثاني، ثم تعطيهم اللبن الكثير فيشربون ما يشاءون ويدخرون. فالماء بذلك نصفان، لها يوم ولهم يوم.
قوله :﴿ فذروها تأكل في أرض والله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ﴾ أمرهم نبيهم صالح أن يتركوا الناقة تأكل من النبات الأرض وهي ليست أرضهم وما فيها من الكلأ إن هو إلا من تخليق الله وهو ليس مملوكا لهم. ونهاهم أيضا عن إيذائها أيما إيذاء. وقد توعدهم بأشد العذاب من الله إذا مسوها بسوء، فمكث الناقة ترعى الكلأ مدة من الوقت حتى حانت ساعة الشر والمكر ؛ إذ تحركت في القوم بواعث الشر والأذى، ونزعت نفوسهم المهينة الكزة إلى العصيان اللئيم الفاجر، وزين لهم الشيطان فعل السوء والمنكر وهو أن يقتلوا الناقة ظلما وعدونا.. فقتلوها. وذلك بعد أن أبوا أن يؤمنوا لنبيهم صالح ؛ إذ نكثوا العهد الذي كانوا قطعوه على أنفسهم بالإيمان والتصديق. ولجوا في العتو والإجرام حتى عقروا الناقة وهي آية لهم من الله. لا جرم أن ذلك دأب اللئام من البشر الغيظ. هؤلاء الأشرار القساة الذين لا يعطف قلوبهم عن اللؤم إحسان يبذله لهم أهل البر والخير. وما كان ينبغي للمستفيد من الخير والمبذول إلا إبداء والرقة والإقرار بالمعروف والجميل للمحسنين الكرام. لكن الخسيس من الناس الذي جبل على اللؤم وكزازة الطبع يأبى إلا النسيان المصطنع، والجحود الممجوج.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٢٧ وروح المعاني جـ ٨ ص ١٦٢..
قوله :﴿ وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ﴾ بوأكم في الأرض، أي أنزلكم فيها. من الباءة وهي عبارة عن المنزل. بوأته دار : أي أسكنته إياها. وتبوأ بيتا : أي اتخذه مسكنا١.
والنحت معناه والقشر بفتح القاف فسكون٢ وذلك تذكير من نبي الله صالح لقومه ثمود ؛ إذ مكنهم الله في الأرض فاتخذوا منها المنازل العالية، والقصور، وهي البيوت العظيمة الشامخة. وكذلك مكنهم من نحت الجبال وهو نقبها وقطع الحجارة منها لاتخاذ المساكن المكنية الشامخات.
وذلك كله من فضل الله عليهم ؛ إذ من عليهم بالاستقرار وحسن المعايش.
قوله :﴿ فاذكروا الآلاء اله ولا تعتوا في الأرض مفسدين ﴾ دعا صالح عليه السلام قومه أن يذكروا آلاء الله وهي نعمه الكثيرة عليهم، وذلك مما ذكر ومما لم يذكر.
وليس الذكر بمجرد اللسان بل بفعل الصالحات وبالشكران المبعوث من القلب والانزجار عن المعاصي وفي طليعتها الإشراك بالله. ودعاهم كذلك ألا يعثوا في الأرض مفسدين. وهو من العثو، بضم العين والثاء، ومعناه الإفساد. ٣
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٠٦..
٣ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٦١ ومختار الصحاح ص ٤١٢..
قوله :﴿ وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ﴾ أي جئنا يا صالح بما تعدنا من عذاب الله ونقمته إن كنت رسولا من الله حقل إلينا. فقد استعجلوا العذاب استعجالا، وقالوا مقالتهم من التحدي اللئيم الأحمق ليكونوا جنودا طائعين للشيطان الذي زين لهم الكفر والجحود وفعل المعاصي والمنكرات ؛ فغاروا سحيقا في الهلاك الملازم والعذاب المستديم بدءا بالتدمير والزلزلة في هذه الدنيا ؛ ليتصل ذلك بمستقرهم في العذاب الواصب وهم يتقاحمون في جهنم يوم القيامة.
٢ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٦١..
٢ المعجم الوسيط جـ ١ص ١٠٧ والمصباح المنير جـ ١ ص ٩٩..
٣ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٦٠- ١٦٤ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ١٧٣ وروح المعاني جـ ٨ ص ١٦٠- ١٦٥..
خرج صالح من بين أظهر قومه ثمود بعد يأسه من إيمانهم وبعد أن أخبرهم عن وحي الله بإحلال العذاب بهم وعقيب أيام ثلاثة وكانوا قد استعجلوا العذاب.
لقد خرج صالح من بينهم مدبرا وهو متحزن متحسر على كفرهم وجحودهم وعلى مصيرهم البئيس في الدنيا والآخرة. وقال لهم :﴿ يا قوم أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولاكن لا تحبون الناصحين ﴾ أي لم آل جهدا في تبليغكم رسالة ربي ؛ فقد جهدت في البيان لكم وبذلت لكم في ذلك نصائحي وترشيدي بكل ما وسعني من أسلوب في الترغيب والترهيب. لكنكم معاندون مستكبرون لا تحبون من ينصحكم ويبتغي لكم الخير والنجاة. قال ذلك في شأنهم وهو تغشاه نوبة من الاغتمام والأسى كما يبدو من ظاهر الكلمات الربانية الموحية بحزنه وأسفله على قومه الضالين المعاندين. وقيل : قال لهم ذلك بعد هلاكهم بالرجفة.
لوط من الأسماء الأعجمية وليس من العربية ؛ فهو غير مشتق وقد صرف لخفته ؛ لأنه من على ثلاثة أحرف وهو ساكن الوسط. قال سيبويه : نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة فصرفت. وقيل : لاط يلوط أي عمل عمل قومه كلاوط وتلوط. استلاطه، أي ألزقه بنفسه١.
ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل وكان معه في أرض بابل من العراق. وقد هاجر إبراهيم إلى الشام ونزل فلسطين وأنزل لوطا الأردن فأرسله الله إلى أهل سدوم بحمص. أو هي مدائن قوم لوط كان قاضيها يقال له سدوم٢.
وقوم لوط أهل فاحشة وقذر تنفر منه الطبائع السليمة وتتقزز منه النفس الإنسانية المستقيمة. وهم قوم أسرفوا في المجاوزه المشينة الكريهة، وغالوا في الإفلات من ربقة الفطرة الكريمة والمنطق السليم ؛ فقارفوا من الفحش والرذيلة ما جاوز الأوهام والظنون. ولنا : أن نعي هذه الخصلة الشاذة النكراء ونحن نتصور نكاح الرجال للرجال. إن ذلكم غاية في البشاعة والنكر. وذلكم اللواط. لا جرم أن فاحشة اللواط من أخس الخسائس التي سقط فيها هؤلاء القوم الذين فسدت فيهم الفطرة الآدمية فغاصوا في الرجس غوصا ما سبقهم إليه شعب من الشعوب ولا أمة من الأمم إلا ما نسمعه من نداءات مهينة مسفة في زماننا الراهن حيث الحضارة المادية الكنود. حضارة المال والشهوات والجنس. الحضارة التي تتيح لأولي الطبائع المستقبحة أن يجاهروا بقذر اللواط في القانون الراعي لذلك والمجوز له تجويزا صريحا. فيا لعار الحضارة المريضة النتنة التي تروج للقاذروات وخسائس الطبع الآسن الشاذ لنجاهر به علانية من على منصات الإعلام كله وتحت قبب البرلمانات الدولية في أوربا وأمريكا ! !
لقد سبق القرآن كل هذه الحضارات الآسنة المزيفة ؛ إذ حرم اللواط تحريما غليظا وشدد في النهي عنه والتحذير منه ؛ حرصا على الإنسانية أن ينال منها الرجس والقذر والشذوذ ؛ وصونا للأفراد والمجتمعات من كل ألوان المفاسد والقاذورات والموبقات النفسية والشخصية والاجتماعية المدمرة كاللواط. وها هو القرآن يهتف بالتنديد بهذه الفعلة الوبيلة النكراء ؛ إذ يحكي قصة نبي الله لوط مع قومه الفاسدين الأشقياء الذين سقطوا في وهدة هذا المرض الوبيل. فقال سبحانه :﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين ﴾ لوطا منصوب بفعل محذوف تقديره أرسلنا والاستفهام في قوله :﴿ أتأتون ﴾ للتوبيخ والتقريع. وإيتان الفاحشة يراد به هنا إتيان الذكور على سبيل التلاوط. فقد خاطب لوط قومه مستنكرا موبخا : أتفعلون تلك الفعلة النكراء التي لم يسبق أن فعلها أناس أو أمة قبلكم ؟ !
٢ لسان العرب جـ ١٢ ص ٢٨٥..
وبعد هذا الإخبار المخوف عما حل بقوم لوط من الهلاك أمر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنظر والتأمل تعجبا من حال القوم الهالكين وتحذيرا للناس في كل زمان من فعل الفواحش٢.
عقوبة اللواط
عقوبة اللواط الحد. وهو يثبت بما يثبت به الحد في الزنا بين الذكر والأنثى. وهو أن تغيب الحشفة أو قدرها. وإنما يتحقق ذلك بالإقرار أو البينة بأربعة شهود عدول كما هو في الزنا.
وقد اختلف الفقهاء في عقوبة اللواط. وهم في ذلك فريقان :
الفريق الأول : هو الإمام أبو حنيفة ؛ فقد ذهب إلى أن اللواط ليس فيه حد بل فيه التعزير عن كل من الفاعل والمفعول به. وروي عنه أنه يودع السجن فوق التعزير الذي يجب في حقه. واحتج لذلك من المعقول ؛ إذ قال : ليس اللواط زنا، لاختلاف الصاحبة في عقوبته. فقد قيل : عقوبة الإحراق بالنار وهو ما روي عن أبي بكر وعلي –رضي الله عنهما-. وقيل : عقوبته التنكيس من مكان مرتفع ثم إتباعه الحجارة زيادة في التنكيل.
وقال في احتجاجه أيضا : ليس اللواط في معنى الزنا ؛ لأنه ليس سببا لإضاعة الولد واشتباه الأنساب كما يقع في الزنا الحقيقي. وكذلك فإن وقوعه نادر ؛ لانعدام الرغبة فيه فهو بذلك إنما يجب فيه التعزيز وليس الحد٣.
الفريق الثاني : وهم جمهور المالكية والشافعية وصاحبي أبي حنيفة ؛ فقد ذهب هؤلاء إلى وجوب الحد على جريمة اللواط إن كان المتوطلان عاقلين بالغين. أما إن كان أحدهما صغيرا أو مجنونا كان الحد على العاقل البالغ منهما. واحتجوا من العقول فقالوا : اللواط صورة من صور الزنا ففيه الحد.
واحتجوا من السنة بما أخرجه البيهقي عن أب موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذ أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ).
واختلفوا أيضا في ماهية الحد في اللواط تبعا للإحصان وعدمه ؛ فقد ذهبت الشافعية في المعتمد من مذهبهم. وكذا الحنبلية في إحدى الروايتين عنهم، وصاحبا أبي حنيفة إلى أن حد اللواط مثل حد الزنا في المرأة من غير فرق بينهما. وعلى هذا يجب فيه ( اللواط ) الجلد على البكر والرجم على المحصن. واحتجوا لذلك بالخبر ( إذ أتى الرجل الرجل فما زانيان ).
وذهبت المالكية، وكذا الحنبلية في الرواية الثانية عنهم وهو القول الثاني غير المشهور للشافعية –ذهبوا إلى وجوب قتل اللائط والملوط به سواء كان الواحد منهما بكرا أو محصنا ؛ وذلك لما أخرجه أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) وكذلك أخرج البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من وقع على الرجل فاقتلوه ).
أما لو كانا غير مكلفين، وهو أن يكونا صغيرين ؛ فإنهما يؤدبان تأديبا فلا عقاب عليهما بحد أو تعزير. أما لو كان أحدهما مكلفا دون الآخر، فإن كان المكلف هو الفاعل فقد وجب في حقه حد الرجم. أما لو كان المفعول بع مكلفا ؛ والفاعل ؛ غير مكلف فلا يرجم المفعول به بل يؤدب الصغير وهو غير المكلف، ويعزر البالغ وهو المكلف٤.
٢ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٦٤- ١٦٧ وروح المعاني جـ ٨ص ١٦٨- ١٧٣.
٣ الهداية للنرغيناني جـ ٢ ص ١٠٢ والأشباه والنظائر لابن نجيم ص ١٨٩، ٣٣٤..
٤ الأحكام السلطانية للماوردي ص ٢٢٤ وأسهل المدارك جـ٣ ص ١٦٥ والمهذب جـ ٢ ص ٢٦٩ والمدونة جـ ٤ ص ٣٨٥ والأنوار للأردبيلي ومعه حاشية الكمثري وحاشية الحاج إبراهيم جـ ٢ ص ٤٩٦..
يطلق اسم مدين على القبيلة أو على المدينة ؛ وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز، وهم أصحاب الأيكة. ومدين ممنوع من الصرف ؛ لأنه اسم علم مؤنث أضيف إلى مضاف قبله، وتقديره أهل مدين. أما شعيب فهو من أولاد إبراهيم ؛ فقد قيل : إنه ابن حرة بن يشجر بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ؛ فقد أرسل الله إلى أهل مدين رجلا منهم وهو شعيب ليبلغهم دعوة الله ويأمرهم بالتوحيد والاستقامة وينهاهم عن الشرك والمنكر، ويحذرهم من بخس الناس أشياءهم وهو قوله تعالى :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم ﴾ البينة، العلامة والحجة من الله بحقيقة ما يقول لهم نبيهم شعيب وبصدق ما يدعوهم إليه من التوحيد والاستقامة. وقيل : يراد بالبينة المعجزة الظاهرة من رب العالمين مالك كل شيء. ولم يذكر ماهية المعجزة التي جعلت لشعيب : وقوله :﴿ فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ أوفوا يعني أتموا.
فقد أمرهم بإتمام الحقوق لأصحابها وذلك بالكيل الذي يكيلون به، وبالوزن الذي يزنون به من غير خيانة في ذلك ولا غش. فأيما انتقاص من حقوق الناس عن طريق الكيل أو الميزان لهو كبيرة من الكبائر تصم المنتقمين بوصمة الخيانة وفساد القلب. وذلك شكل من أشكال الحرام أو السحت الذي يودي بصاحبه إلى النار.
وفي التحذير من الخيانة في الكيل والميزان روي الترمذي عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والوزن :( إنكم قد وليتم أمرا فيه هلكت الأمم السالفة قبلكم ).
قوله : ولا تبخسوا الناس أشياءهم } من البخس وهو النقص١ فقد نهي عن كل وجوه الانتقاص من أموال الناس ظلما كالغش في المبيعات بتعييب السلعة والتدليس فيها أو التزهيد فيها لتبوء بالخسارة أو الاحتيال في الكيل والميزان بما يجر للمحتال مالا مقتطعا من نصيب العاقد الآخر. إلى غير ذلك من وجوه الحرام وأكل الأموال بالباطل.
قوله :﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾ كانت الأرض قبل مبعث شعيب رسولا إلى أهل مدين، يعمل فيها بكل المعاصي من إشراك وجور وسفك للدماء واستحلال المحارم وفعل للموبقات، وذلك هو فسادها. أما إصلاحها : فهو ابتعاث النبي شعيب فيها يأمرهم بالخير والمعروف والطاعات، وينهاهم عن الشرك والجور وفعل المعاصي. وفي هذه الآية ينهي شعيب قومه عن فعل المحرمات والمحظورات مما كانوا يعملونه قبل بعثه إليهم كالشرك، وبخس الناس في الكيل والميزان، وغير ذلك من وجوه الظلم والحرام.
قوله :﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ أي هذا الذي بينته لكم وأمرتكم به من إخلاص العبادة لله وحده دون سواه وإيفاء الناس حقوقهم من الكيل والميزان واجتناب البخس والفساد في الأرض، كله خير لكم في دنياكم ؛ إذ تكسبون حب الناس لكم وتصديقهم إياكم وثقتهم بكم، فتتبايعون وتتعاملون وتستربحون ؛ فتعيشون في مودة وسعادة وتآلف. وهو كذلك خير لكم في آخرتكم يوم القيامة ؛ إذ تحظون بنعيم الله ورضوانه. وذلك كله ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي إن كنتم مصدقي فيما دعوتكم إليه وما أمرتكم به او نهيتكم عنه. وقيل : إنما يجاء بمثل هذا الشرط في أخر الكلام للتأكيد.
كذلك كان شأن المشركين المجرمين الذين يكرهون الحق ويحادون الله والنبيين جريا وراء أهوائهم وشهواتهم وكراسيهم ومكاناتهم. بل إن ذلك شأن المشركين المجرمين في كل زمان. وفي هذا الزمان الراهن خاصة، إذ يتصدى الظالمون والمتربصون من أعداء الإسلام بهذا الدين بوسائل شتى من التعويق والتعطيل والصد. ولئن كانت وسائل الظالمين الغابرين بسيطة وبدائية ؛ إذ كانت تتخذ من الطابع المحسوس أسلوبا كالضرب والقتل ونحو ذلك من تعذيب الأجساد لكنهم ما كانت لهم حيلة ينفذون منها إلى قلوب المعذبين المظلومين وعقولهم أو أفكارهم. وذلك بخلاف الظالمين المتربصين في زمننا هذا فهم أقدر على محاربة الإسلام والمسلمين بمختلف الأساليب والوسائل، فضلا عن أساليب القمع والقتل والإبادة التي كانت ديدن الظالمين السابقين، فقد برع المشركون المعاصرون في محاربة الإسلام بوسائل أخرى مضافة لا جرم أن تكون أعظم نضوجا وأشد خبثا وخداعا، وأفظع في التأثير والمراوغة. وفي طليعة أساليبهم هذه تشويه العقيدة والفكر بمختلف الافتراءات والأكاذيب وكل صور الخداع والتمويه والتضليل بما يزعزع قناعة المسلمين وتصورهم، ويثير في نفوس الكثيرين منهم الشك والارتياب. وقد أوتي الظالمون من أعداد الإسلام كل القدرات المادية والإعلامية والفنية والعسكرية لمحاربة الإسلام أو تشويه وتشكيك البشرية فيه في الوقت الذي يرزح فيه المسلمون –والمفكرون والدعاة خاصة- تحت كابوس الطغيان من الحكام الظلمة الذي يسوسون المسلمين بالجوار والفساد والذين ينفرون من تعاليم الإسلام، ويهرعون سراعا ليكونوا أتباعا لأسيادهم من الكافرين الأجانب من أوروبيين وأمريكيين.
نقول ذلك ونحن حافلون بالقناعة واليقين أنه لو حيل بين الإسلام والبشرية فأتيح للمفكرين من دعاة الإسلام لنشر هذا الدين والحديث عن عقيدته وعن تعاليمه في حرية بعيدا عن الخوف والفتنة والمكر، ليشاع الإسلام في كل بقاع الدنيا ولكان الناس قد أقبلوا على هذا الدين إقبالا يحفزهم إليه الود والرغبة، ولسقطت كل مزاعم الظالمين وأقاويلهم عن الإسلام، ولا ستبانت للناس أنها ترهات وأباطيل بل إنها أشبه بالفقاقيع المستخفة تطيش في الهواء ثم ما تلبث أن تذوب وتنقشع. لكن الإسلام يتلقى الضربات والتحديات والحمالات من الدس والتشكيك والتشويه الفكري من أساطين المستشرقين والاستعماريين والصليبيين والصهيونيين والماسونيين.
وذلك في غاية الحرية والتسهيلات المضمونة الكاملة، في الوقت الذي ليس فيه للإسلام دولة ولا سلطان يدرأ عنه العوداي، ويدفع عنه تطول الخبثاء والسفهاء والشياطين، من أولي الأقلاع الموغلة في الدس والكيد والافتراء على الإسلام.
قوله :﴿ وتبغونها عوجا ﴾ أي تبغون أن تكون سبيل الله معوجة غير مستقيمة. وذلك بإلقاء الشبهات حول الإسلام أو وصفه للناس بأنه معوج أو غير صالح، لينفر منه الناس أو يزهدوا فيه. وهذا هو ديدن الظالمين المجرمين على اختلاف أجناسهم وأوطانهم وأزمانهم ؛ فهم جميعا يبتغون للإسلام أن يكون على حقيقته وطبيعته من ثبات العقيدة وكمال التشريع وتمام الفضيلة والاستقامة. لا يردون للإسلام أن يكون مميزا بما يتجلي فيه من أوجه الاستقلال عن الملل والعقائد الأخرى، وما يباعد بينه وبين التبعية لغيره من النظم والفلسفات الضالة. بل يريدون للإسلام أن يكون مشوها مضطربا ضعيفا، وقد انتزعت منه كل ظواهر القوة والاستقامة والشمولية والاستعلاء.
قوله :﴿ واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ إذ، في موضع نصب على الطرف. وقيل : مفعول به. وتقدير : اذكروا –على سبيل الشكر- وقت كونكم قليلا عددكم فكثركم الله وتكثيرهم يحتمل وجهين : أحدهما : تكثير عددهم بعد أن كان قليلا. وثانيهما : تكثيرهم بالغنى بعد أن كانوا فقراء. والوجه الأول أظهر ؛ فهو يدعوهم أن يشكروا نعمة ربهم عليهم ؛ إذ جعلهم أقوياء بتكثيرهم بعد أن كانوا قلة. ثم يخوفهم بما حل بمن سبقهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود ولوط، أولئك الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ومجانية التوحيد فأخذهم الله بالعذاب المهين في هذه الدنيا. وما بين زلزلة وصيحة وتغريق وتدمير بالقلب والحجارة. يدعوهم أن يتفكروا فيما حل بهؤلاء الظالمين التعساء من فادح العواقب، فضلا عما أعده الله لهم يوم القيامة من التعس والهوان حيث الجحيم والنيران. وهذا مقتضى قوله :﴿ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
والمراد أن قوم شعيب كانوا قسمين، حدهما : المؤمنون الذين صدقوا شعيبا واتبعوه وهم قلة. وثانيهما : الكافرون. وهم الأكثرون. وفي الآية تهديد ظاهر للمشركين الظالمين الذين عتوا عن أمر ربهم، ووعيد لهم بالهلاك والعذاب، فوق ما تتضمنه الآية من تحضيض للطائفة المؤمنة على الصبر والاحتمال. وتقدير الكلام في قول شعيب لقومه هو : إن كنتم يا قوم قد اختلفتم علي فآمنت منكم طائفة وكفرت طائفة أخرى فاصبروا أيها الكفرة حتى يقضي الله بيننا وبينكم بأن ينصر الله جنده المؤمنين الصابرين وينتقم من المشركين الظالمين ؛ فيأخذهم بعذاب الخزي في الدنيا. ثم يردهم في الآخرة إلى مصيرهم البئيس في الجحيم.
قوله :﴿ قال أولو كنا كارهين ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري. أي إنكار ما طلبوه من الإخراج أو العود في ملة الكفر. وذلك إشعار ببشاعة ما طلبوه من الإخراج عن أوطانهم بغيا وعدوانا، إلا ما يعودوا في الكفر والضلال. والواو للحال. أي أتعيدوننا في ملتكم كارهين العود إليها أو تخرجوننا من قريتكم حال كراهيتنا الخروج منها ؟ ! أيقع منكم أحد هذين الأمرين حتى في حال كراهيتنا الخروج منها ؟ !
ذلك إقرار كامل من شعيب عليه الصلاة والسلام ببطلان ما سوى ملة الإسلام حيث التوحيد واليقين وتصديق النبين أجمعين، ومجانبة الشرك والمشركين. إقرار كامل بأن العود إلى ملة الكفر بعد التنجية منها سقوط في ظلام الكفر والضلال وانتكاس إلى ردة الجحد والباطل بعد أن من الله بالتنحية والإنقاذ من هذه الوهدة المظلمة السحيقة.
قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ﴾ أي ما يستقيم لنا وما ينبغي أن نعود في ملتكم –ملة الكفر والباطل- إلا حال مشيئة الله. فإن يشأ الله إضلال أحد أضله. على أن إيراد هذا الاستثناء قد جيء به على سبيل الإيمان المطلق بقدر الله فإن كان قد سبق في علم الله وتقديره العود في ملتهم ؛ فإن حكم الله في ذلك نافذ. ومع ذلك فإن المؤمن المدكر الحريص، له في كل الأحوال والأوقات بالغ الرجاء والضراعة إلى الله أن يكتبه في زمرة الناجين الآمنين مكره وعذابه.
قوله :﴿ وسع ربنا كل شيء علما ﴾ علما منصوب على التمييز ؛ أي أحاط علم الله بكل شيء فلا يند عن علمه شيء من المعلومات ؛ فهو عليم بما هو كائن وما سيكون سواء في ذلك هداية الناس وضلالهم، أو ما هم صائرون إليه في كل حال.
قوله :﴿ على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ﴾ أي اعتمدنا على الله دون أحد سواه في أن يثبتنا على الحق والإيمان، وأن يحول بيننا وبين الباطل وأهله، وأن يدرأ عنا شر الفتن ويعصمنا من البلايا والنقم، وأن يدفع عنا كذلك ما توعدتمونا به من ظلم الإخراج وفظاعة الإضلال والفتنة.
وبعد أن أيس شعيب من استجابة قومه وأيقن أنهم لا محالة سادرون في الغي والضلال دون انثناء أو رجوع، عندئذ دعا ربه أن ﴿ افتح بيننا وبين قومك بالحق وأنت خير الفاتحين ﴾ أي اقض بيننا وبين قومنا المشركين بالحق وهو نصر المحقين وإهلاك المبطلين.
٢ مختار الصحاح ص ٦٣٤..
وقيل : عجزة. وقيل : أرادوا بذلك خسرانهم بسبب إيفاء الكيل والميزان وترك التطفيف. والأظهر عموم ذلك.
اسم الموصول الأول في محل رفع مبتدأ، وخبره ﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ ١ ويغنوا : يقيموا. غني بالمكان ؛ أي أقام به. والغاني يعني النازل. والمغنى المنزل. وجمعه المعاني وهي المنازل أو المواضع التي يقام فيها٢، وهذا بيان مثير، ينشر في النفس مزيجا من الخوف والتحسر والأسى لحال الكافرين من قوم شعيب، هؤلاء الذين أقاموا في نعيم من العيش الرخي، لكنهم طغوا واستكبروا وأبوا إلا الكفر والفساد في الأرض ؛ فأخذهم الله نكال جحودهم وعصيانهم شر أخذة. أخذهم بالزلزلة الماحقة التي تقطع القلوب تقطيعا وتمزق الأجساد تمزيقا، فقطع دابر القوم واستؤصلت كأنهم لم يكونوا ولم يقيموا في موطنهم.
ثم كرر على سبيل التأكيد والمبالغة في التحسير والتخويف ﴿ الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾ ﴿ هم ﴾ ضمير فصل. ﴿ الخاسرين ﴾ خبر كانوا، أي أن الذين كذبوا نبيهم شعيبا هم الذين خسروا أنفسهم ؛ إذ أوردوها النار وبئس المورود، وليس كما زعموا من قبل أن الذين يتبعون شعيبا خاسرون.
٢ مختار الصحاح ص ٤٨٣..
٢ القاموس المحيط جـ ٢ ص ٧٧ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ٥٣٨..
٢ مختار الصحاح ص ٣٧٧ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٤..
وما ينبغي للفطين المتدبر أو الحريص المدكر أن يمر بهذه الآيات من غير أن يمسه بها التذكر والوجل من بلاء الله المحتمل. وبلاء الله وعذابه باختلاف ألوانه وأشكاله يظل يتهدد الظالمين الغافلين من الناس أو اللاهين الساهين عن أمر الله، المنشغلين بملاهي الحياة الدنيا وما حوته من لذائذ وزخرف. وما تظل المجتماعت تلهو وتعلب وتعيث وتيها وغفلة وهي تشتغل بطيبات الدنيا ولذائذها عن طاعة الله فتميل عن دينها، وتجمع وراء الشيطان جموح الناعقين السفهاء ؛ بل جموح المخبولين المغرورين الذين تملكهم النسيان والبطر، وطغت عليهم الشهوات على اختلافها حتى ينزل عذاب الله وبلاؤه بساحتهم. وما ينبغي كذلك أن ننسى فداحة البطر في الإنفاق والعيش وذلك على نحو من الإسراف الباذخ البغيض الذي لا تطيش فيه الأمة وهي تغرف من حظوظ الشهوة في المطعم والمشرب والملبس والمأوى ما يجاوز المعقول والمقبول. وذلكم الإسراف الفاضح والتبذير المحظور. وليس على الأمة المسلمة في كل آن إلا أن تمسك بزمام الحذر والاعتدال والوسط. وذلك كله يقتضي تكريم النعمة التي من الله بها عليهم ؛ فإنه لا يغفل عن تكريم النعمة إلا كل بطر وأشر مستغرق في الغفلة والإسراف. وذلكم الذي يوشك أن يحيق به البلاء من الله سواء كان البلاء بالأسقام، أو زوال النعم، أو غير ذلك من وجوه البلاء. وفي هذا الصدد أخرج ابن أبي حاتم من طريق معاذ بن رفاعة عن موسى الطائفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أكرموا الخبز ؛ فإن الله أنزه من بركات السماء، وأخرجه من بركات الأرض ).
وكذلك أخرج البراز والطبراني عن عبد الله بن أم حرام قال : صليت القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( أكرموا الخبز ؛ فإن الله أنزله من بركات السماء، وسخر له بركات الأرض، ومن تتبع ما يسقط من السفرة ؛ غفر له ) واخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال : كان أهل قرية أوسع الله عليهم حتى كانوا يستنجون بالخبر ؛ فبعث الله عليهم الجوع.
قوله :﴿ أن لو نشاء ﴾ في موضع رفع فاعل للفعل ﴿ نهد ﴾ وهو من الهدي وهو البيان الذي بعث لهم هاديا مبينا مرشدا. ولولا لم يرشدوا ؛ يعني ألم يتبين لهؤلاء المشركين الضالين الذين استخلفوا في الأرض بعد إهلاك من قلبهم فساروا سيرتهم في الضلال والفسق وصنعوا من المحرمات والمعاصي ما فعله أولئك الأسلاف ﴿ أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ﴾ أي لو نشاء لفعلنا بهؤلاء الفاسقين العاتين عن أمر ربهم كما فعلناه بالذين سبقوهم من الهلاك والتدمير والختم على قلوبهم فلا يستطيعون بعد ذلك سماع موعظة ولا ذكر.
وذلك تهديد من الله يخوف به عباده الغافلين الساردين في الغي والضلالة، والمنشغلين عن دينهم وعقيدتهم بالشهوات والاهتمامات الدنيوية المهنية. تهديد من الله بإحلال البلاء في الذين يخالفون عن أمره ويسيرون سيرة الظالمين الفاسقين. ولئن لم ينته الغافلون عن المخالفات والمعاصي فلسوف تجتاحهم البلايا والمحن على مر الأحوال والزمن.
قوله :﴿ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ﴾ أي فما كان أولئك الكافرون الخاسرون ليؤمنوا بعد إهلاكهم، بما كانوا كذبوا به لو أننا أحييناهم. وذلك كقوله :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ﴾.
قوله :﴿ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ﴾ الكاف في ﴿ كذلك ﴾ صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فلا تجدي معهم بعد ذلك موعظة، ولا يعطفهم بيان أو برهان.
قوله :﴿ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ إن مخففة من عن الثقيلة، وضمير الشأن محذوف، ووجدنا، بمعنى علمنا ؛ أي : إن الشأن والحديث علمنا أكثرهم خارجين عن طاعة الله، مارقين١.
الضمير في قوله :﴿ من بعدهم ﴾ يعود على نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. والمراد بالآيات هنا المعجزات التي أوتيها موسى عليه السلام ؛ أي أرسلنا موسى إلى هؤلاء المشركين بعد ما أرسلنا رسلنا إلى الذين سبقوهم من الأمم. أرسلناه ﴿ إلى فرعون وملإيه ﴾ واسم فرعون لقب كل ملك من ملوك مصر بعد العمالقة. وملأ فرعون يراد بهم أشراف القوم وسادتهم من أعوان الطاغوت الكبير الخاسر فرعون. لقد أرسل الله إليهم مع نبيه موسى الدلائل القاطعة على صدق نبوته ورسالته، وهي ما أوتيه معجزات ﴿ فظلموا بها ﴾ أي ظلموا بالآيات التي جاءتهم. والمراد أنهم كذبوها وكفروا بها. والظلم معناه وضع الشيء في غير موضعه. ولما كانت هذه الآيات ظاهرة بلجة، وهم قد كفروا بها وكذبوها، فبذلك وضعوا الإنكار في موضع الإقرار، والكفر في موضع الإيمان، وذلك ظلمهم على تلك الآيات١.
قوله :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ ذلك تحريض لكل أحد على أن يتدبر ويتذكر ما حل بفرعون وأعوانه الظالمين من تدمير شنيع مريع. وذلكم التغريق المفظع في البحر.
لقد كان مصير فرعون وأتباعه من الظالمين بالغ الشدة والنكال والترويع، لهول ما أصابهم من تعس العاقبة وهوان المصير. لا جرم أن ذلك حدث جلل يأتي في طليعة الذكريات المؤثرة الوجيعة من تاريخ البشرية الحافل بصنوف النوائب والبلايا لكي يظل هذا الحدث المخوف ماثلا لخيال الإنسان فيستديم في ذهنه التذكير والاتعاظ والهاجس مما حل بالقوم الظالمين وعلى رأسهم طاغوتهم الأكبر فرعون.
قوله :﴿ قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ البينة هي المعجزة الظاهرة التي بهرت الناظرين وذهل لهولها القوم المجرمون، فرعون وجنوده. والمراد ببني إسرائيل، سلالة النبي الكريم وهو إسرائيل ( يعقوب ) عليه السلام ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. فقد خاطب موسى فرعون قائلا : ها أنا قد جئتكم ببرهان من ربي وربكم على صدق رسالتي وصدق ما أبلغكم إياه ﴿ فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ أي خلهم وأطلق سبيلهم. وكان فرعون قد طغى على بني إسرائيل وغالي في تعذيبهم والعدوان عليهم بغير حق ؛ فقد قتل أنباءهم واستحي نساءهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة، وأذاقهم من فظاعة القهر والمهانة ما سماهم سوء القهر والذل والهوان ردحا طويلا من الزمن. ومن أجل ذلك خاطب موسى فرعون داعيا إياه أن يخلي سبيل بني إسرائيل، وأن يدعهم وعبادة ربهم.
وفيما يذكره كثيرون من علماء التفسير عن حال فرعون لما رأى العصا تنقلب ثعبانا ضخما، لهو مثير للعجب ؛ فقد ذكروا أن هذا الطاغوت الكبير لما رأى الثعبان الهائل، تملكه الذعر والهلع والارتباك وغشيته غاشية من الذعر والارتجاج، فما لبث أن أحدث في ثيابه. لا جرم أن قصة كهذه تكشف لذوي العقول والنباهة من الناس أن هؤلاء الطواغيت الذين يسوسون الناس بالقهر والطغيان والجبروت ليسوا غير آحاد من الشخوص المزيفة الكاذبة الخاوية، الشخوص المنتفخة انتفاخ المسلط المخادع المغرور، الذي استحوذ على الناس بزيفه وخداعه وأكاذيبه حتى يتخيل الناس ووهموا أنه عظيم. وهو في ميزان الحقيقة والواقع ليس إلا صنما من البشر المموه الفارغ. البشر المتلصص الدجال الذي يصطنع لنفسه الشجاعة والبراعة وحسن السمت والمظهر والناس عنه في غفلة. ولو أردك الناس حقيقته عيانا لأيقنوا أنه جبان وأرعن وخسيس ومذعور وهم عنه غافلون !.
٢ الجناح: بفتح الجيم معناه هنا الإبط. انظر القاموس الميحط جـ ١ ص ٢٢٦..
قوله :﴿ قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لسحر عليم ﴾ لما شاهد الملأ من قوم فرعون وهم الأشراف من قومه الكافرين، هاتين المعجزتين العظيمتين وهما انقلاب العصا حية، وصيرورة يده بيضاء تتلألأ من غير سقم عجبوا لذلك عجبا. لكنهم لفرط عتوهم واستكبارهم وفساد قلوبهم ما لبثوا أن انتكسوا خاسرين معاندين، إذ قالوا :﴿ عن هذا لسحر عليم ﴾ أي كثير العلم بالسحر وهو يسحر أعين الناس بخداعه إياهم. والسحر، هو كل ما لطف مأخذه ودق، أو هو كل أمر يخفي سببه ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخادع. وسحره ؛ أي خداعه١.
٢ المصباح المنير ج ٥ ص ٢١..
فالله جل وعلا ينصر رسله والمؤمنين المخلصين مهما طال بهم الزمان واشتدت من حولهم المحن. والعبد المؤمن الصابر الذي يدعو إلى دين الله ويجاهر بالحق في حماسة وإخلاص أو يضطرب أو ينتزع. بل إنه صابر مرابط ثابت على الحق في عقيدة الإسلام ومنهج الله القويم، مهما ازدادت جموع الظالمين والمجرمين والمتربصين الغاشمين من حوله. وهكذا كان موسى عليه السلام بعد أن تعزز بثقته بربه فثبت في ميدان الصراع المحتدم وحده ؛ إذ لم يكن له نصير ولا رديف مجبر من البشر، والدنيا من حوله يجللها الكفر البواح في ظل الطاغوت الشقي فرعون، حتى كتب الله له ( موسى ) الغلبة والنصر.
وقرئت أيضا على الإخبار وذلك على سبيل التوبيخ من فرعون للحسرة الذين آمنوا من غير إذن منه. وذلك هو منطق الطاغية الغاشم فرعون ؛ إذ يستنكر على أحد أن يؤمن أو يهتدي ويمضي على صراط الله دون إذنه. فأيما إيمان بالله والمرسلين والتزام منهج الله المستقيم من غير إذن الشقي الأثيم فرعون جريمة تستوجب القتل والصلب والتقطيع من خلاف. بل إن ذلك منطق الرؤساء الجبابرة العتاة في كل زمان ؛ إذ لا يرضون للفئة المؤمنة الواعية من عباد الله، التي تحمل رسالة الله وتدعوا لدينه ومنهجه على علم وبصيرة. غنهم لا يضرون لهم إلا أن ينطلقوا من خلالهم وبعد الاستئذان منهم، وإلا كانوا –في منطق الحاكم والساسة والظالمين المتجبرين- خارجين متمردين يستوجبون العقاب الشديد بالقتل أو السجن أو النفي أو التعذيب.
قوله :﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ﴾ يقول فرعون : هذا الإيمان منكم والتصديق بنبوة موسى ودينه عن هو إلا خداع منكم واحتيال قد تواطأتم عليه فيما بينكم وبين موسى ليستولوا على مصر وتخرجوا منها أهلها القبط ثم تقيموا فيها أنتم وبنو إسرائيل. وذلك محض كذب وافتراء من فرعون. فلم يكن ثمة مواطأة بين موسى واحد ؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قد جاء من مدين إلى فرعون مباشرة ولم ير قبل ذلك أحدا من السحرة.
فليس التقول بالمواطأة أو التمالؤ إلا افتراء وزورا اختلقه فرعون ؛ ليستبيح به فعلته الشنيعة في الذين آمنوا، وذلك بالقتل والتنكيل لذلك تودعهم قائلا :﴿ فسوف تعلمون ﴾ أي ستجدون ما تلقونه من عقابي لكم على صنيعكم هذا.
فيا لله لهؤلاء المؤمنين المخبتين الأوفياء الذين صدقوا مع الله حق الصدق وصبروا على فظاعة الطاغوت العتل واحتملوا من بالغ تنكيله ونكاية عذابه ما يجعل منهم النبراس١ المحتذي على مر الزمن في اشتداد العزيمة والتجلد والاستعلاء على هوان الدنيا وما تحفل بم من المآسي وألوان المرارة، ليكون ذلك درسا كبيرا للمؤمنين الذين يدعون للإسلام في كل زمان بما يثير فيهم علو الهمة ورباطة الجأش والقدرة على احتمال الشدائد التي يكيلها لهم الظالمون والمتجبرون والمجرمون من شياطين الأرض.
قوله :﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ﴾ أفرغ من الإفراغ، وهو الإنزال والصب٢. فبعد أن أدرك السحرة المؤمنين عزم فرعون على قتلهم والتنكيل بهم وأنه لا انفلات من إجرامه الواقع لجأوا إلى الله بالابتهال والضراعة أن ينزل عليهم صبرا ؛ ليقووا به على الثبات والاستمساك في وجه الفتنة المحدقة ؛ فلا يزيغوا أو يضطربوا عند اقتحام المحنة الشديدة، أن يكتب لهم خير الجزاء والإحسان، وأن يقبضهم إليه مسلمين مؤمنين غير مفتونين٣.
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ١٢٤..
٣ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٣٤ وتفسير البيضاوي ص ٢١٨..
كذلك قال الأشراف المنافقون من قوم فرعون. وهذا هو دين كل بطانة فاسدة مضلة من حول الحاكم المسلط المغرور. أولئك الذين يلهثون وراء الساسة والرؤساء الطغاة نفاقا وخيانة ثم يسولون لهم قتل الصالحين من الناس الذين يؤمنون بالله ورسوله ويدعون لإعلاء كلمته ودينه في الآفاق هذا هو ديدن المنافقين المبتذلين الأنذال في كل أمة وموضع. وأولئك الذين يطوفون من حول الحاكم الفاسد الغاشم تزلفا ونفاقا ليحرضوه على إبادة الإسلام وليسولوا له التنكيل بالمسلمين وفي طليعتهم العاملون الدعاة إلى الله.
قوله :﴿ قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم ﴾ ذلك جواب الطاغية المغرور فرعون. أجاب حاشية وزبانيته من المنتفعين ومنافقين والأنذال –وهو تنتفخ أوداجه حماقة وصلفا وغرورا- أنه سيبطش برسول الله موسى ومن معه من المؤمنين، وسيقتل- بالتشديد للمبالغة في التقتيل- أبناءهم الذكور ويستحي نساءهم، أي يستبقيهن في الحياة من أجل التسخير والاستمتاع.
قوله :﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ يعني : وإنا عالون عليهم بالقهر والإذلال. كذلك كان فرعون، يخاطب المستضعفين من قوم موسى، وهو تحفه من حوله فئة النفاق والتزلف والتحريض من المنتفعين والأنذال، علاوة على طبيعة هذا الحاكم الغاشم المغرور الذي طغى وتجبر على نحو ليس له في العالمين نظير. وليس أدل على ذلك من اصطناعه الإلهية لنفسه بقوله لأهل مصر من القبط ﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾ ولفرعون من الأشباه والنظراء من الساسة والقادة المتسلطين كثيرون أولئك الذين يتعالون على عباد الله المؤمنين، ويكلون لهم صنوف التنكيل والقهر والعذاب في كل زمان١.
وذلك أن ﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ أي أن عاقبة الخير والحسنى المصير المحمود في الدنيا والآخرة لسوف يكون للذين يتقون ربهم فيخافونه ويجتنبون معاصيه ويؤدون فرائضه ويلتزمون أحكامه. وفي ذلك ما يشير إلى دنو هلاك فرعون وجنوده الظالمين بما ينشر الأمل بني إسرائيل أن خلاصهم من طغيان فرعون قد اقترب.
قوله :﴿ قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ﴾ ذلك تصريح بما يشير إليه من البشرى لبني إسرائيل بهلاك فرعون ليخلفوه في ملكه من بعده. وقيل : عسى، من الله واجب ؛ فقد وعدهم الله بإهلاك فرعون واستخلافهم في مصر من بعده. وقد تحقق ذلك كله ؛ فقد استخلفوا في مصر في زمان داود وسليمان عليها السلام وفتحوا بيت المقدس بقيادة يوشع بن نون. وذلك كله ليرى الله ما هو كائن منهم من العمل الحسن منه والقبيح، والطاعة أو المعصية، والشكران أو الكفران، ليجازيهم ربهم على ما يفعلون من ذلك.
أما إن أصابهم البلاء من جدوب وقحوط وكروب وأسقام ؛ فغنهم عندئذ يتطيرون بموسى ومن معه من المؤمنين. أي يتشاءمون بهم ؛ إذ يقولون : ما أصابنا هذا البلاء والسوء إلا بسبب موسى والذين معه. والتطير بمعنى التشاؤم، من الطيرة وهي ما يتشاءم به من الفأل الرديء١.
قوله :﴿ ألا إنما طائرهم عند الله ﴾ طائرهم، أي أنصباؤهم وحظوظهم من الرخاء والخير والنعمة أو غير ذلك مما يخالفه ؛ فهو كله بتقدير الله. فما يصيبهم من خير أو شر إنما هو بقضاء الله وحكمه ومشيئته وليس شؤم أحد أو يمنه.
قوله :﴿ ولكن أكثركم لا تعلمون ﴾ أي يجهلون هذه الحقيقة ؛ وهي أنه ما من خير أو سوء إلا هو بتقدير الله وحكمه ومشيئته، فهم لجهلهم تطيروا بموسى والذين معه٢.
٢ الكشاف جـ ٢ ص ١٠٥- ١٠٧ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ٢٢١- ٢٢٥ وتفسير البيضاوي ص ٢١٩ والطبري جـ ٩ ص ٢٠..
مهما، أصلها ما ما. ما، الأولى للشرط، وزيدت الثانية للتأكيد وركبت إحدهما مع الأخرى، وقيل غير ذلك١، وهذه غاية قصوى في المعاندة والاستكبار من غير حجة ولا دليل إلا المكابرة ومجرد الاستمراء الأعوج المريض لخسيسة اللؤم والجحود. وذلك هو شأن فرعون والذين هم على شاكلته من المعاندين المجرمين الذين لا يصيخون لحجة ولا برهان ولا منطق ولا يثني طبائعهم عن الكيد والتمادي في الظلم والفساد آيات ولا معجزات ؛ فقد قالوا لموسى : مهما تأتنا به من المعجزات ﴿ لتسحرنا ﴾ أي لتصرفنا أو تلفتنا عما نحن عليه من دين فرعون فما نحن لك بمؤمنين ولا مستجيبين.
ثم ﴿ الجراد ﴾ وهو مأكول لما رواه أحمد وابن ماجه عن أبي عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد، والكبد والطحال ).
أما إذا حل الجراد بأرض فأفسدها فغنه يحل قتله ؛ للتخلص من ضرره ؛ ودرءا لفساده وأذاه. وهو قول الأكثرين من الفقهاء وأهل العلم. ويستدل على ذلك بالعقول وهو درء الفساد المتحصل بسبب الجراد ؛ ولئن جاز قتل المسلم إذا اعتدى على أحذ لأخذ ماله أو إفساده، فلا جرم أن يكون قتل الجراد أولى. وقيل : لا يحل قتل الجراد ؛ لأنه جند من جند الله. والصواب الأول.
ثم ( القمل ) بضم القاف وتشديد الميم. وقد قيل : معناه السوس الذي في الحنطة. وقيل : معناه الجعلان. وقيل : البراغيث. وقيل : هو ضرب من القراد أكلت دوابهم وزروعهم ولزمت جلودهم كالجدري. وقيل : القمل، بفتح القاف وسكون الميم. وهو معروف.
ثم ﴿ الضفادع ﴾ وهي جمع ومفردها الضفدع. وهي حيوان صغير يعيش في الماء، وهي منهي عن قتلها لما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال :( نهى رسول الله عن قتل الصرد١ والضفدع والنملة والهدهد ) وقيل : عن أكثر الدواب تسبيحا الضفدع حتى إن نقيقها لهو تسبيح ؛ فقد أرسل الله عليهم الضفادع لتملأ عليهم كل أوعيتهم وشرابهم، حتى إن أحدهم ليجلس فتغشاه الضفادع لتواريه إلى ذقنه. ولا يتكلم حتى يثب الضفدع في فمه.
ثم ﴿ الدم ﴾ امتلأت حياتهم بالدم حتى فاض الدم في أمكنتهم وآنيتهم ومياههم فما كان أحدهم يغترف من الماء إلا الدم الأحمر مما أوقع فيهم العنت البالغ والبلاء الشديد. فكانوا في كل مرة ينزل بهم البلاء من ربهم يضجون بالشكوى إلى موسى ليدعو ربه أن يزيل عنهم هذا البلاء من ربهم يضجون بالشكوى إلى موسى ليدعوا ربه أن يزيل عنهم هذا البلاء النازل بهم. فما يدعو موسى ربه ثم يستجيب الله الدعاء بإزالة البلاء عنهم حتى يجنح فرعون وقومه للكفر والتمادي في العدوان والباطل فتابع الله عليهم الآيات بأخذهم بالسنين وهي القحوط، ثم الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم ﴿ آيات مفصلات ﴾ أي بينات ظاهرات لمن يريد أن يتذكر أو يعتبر.
قوله :﴿ فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ﴾ فرعون اللعين كان فاسد الفطرة تماما. وهو ذو قلب غليظ بالغ الكزازة والقسوة فلا يلين ولا يرق ولا يستقيم، وهو بلؤمه وقسوته وجموحه الشرير قد طغى عليه طبعه الجاحد الكنود، فما كان ليصيخ لهتاف المنطق أو الحق أو الفطرة بل استشرت في دمه وعروقه نزوة الشر والأذى والعتو، فاستكبر هو وقومه والذين اتبعوه في الضلال والباطل وأبوا إلا الفسق والتمرد والكيد لموسى نبي الله والذين آمنوا معه. وذلك بالرغم مما حل بهم من ألوان البلاء وكانوا في كل نازلة من هذه النوازل يسألون موسى أن يضرع إلى ربه لئن كشفت عنا هذا الضر لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل. لكنهم نقضوا ما وعدوه وعادوا إلى مفارقة الشر والفساد والإجرام.
الرجز، معناه العذاب١ واختلفوا في المراد بالرجز الذي أرسله الله على فرعون وقومه ؛ فقد قيل : المراد به الطاعون. وقيل : مطلق العذاب. وقيل : هو العذاب الذي سلطه الله عليهم وهو الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
فقد قال الظالمون المجرمون لموسى : لئن رفعت عنا هذا البلاء الذي نزل بنا لنؤمن لك ولنصدقن بما جئتنا به، ولنرسلن معك بني إسرائيل بإطلاقهم وتخليتهم.
٢ القموس المحيط ص ٢٢٧..
قوله :﴿ وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ﴾ الآية ؛ أي مضت كلمة الله وهي وعده لنبي إسرائيل بالنصر والتمكن بعد كشف البلاء عنهم وإهلاك عدوهم فرعون وقومه الظالمين. والحسنى مؤنث الأحسن، وهي صفة للكلمة وذلك بسبب صبرهم على البلاء واحتمالهم الأذى وما حل بهم من طغيان فرعون وقهره وإجرامه.
قوله :﴿ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ﴾ أي اهلك الله ما أقامه فرعون وقومه من البينان والعمران ﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ أي ما كانوا يبينون من البيوت الفخمة والقصور العالية ؛ فقد دمر الله ذلك كله تدميرا ؛ فأتى عليه الإهلاك والتخريب حتى بات أثرا بعد عين.
المجاوزة، العبور، والمجتاز معناه السالك ومجتاب الطريق ١والمعنى : أن الله يسر لبني إسرائيل أن يعبروا البحر فينفذوا إلى الساحل والبر آمنين سالمين بعد أن أهلك فرعون وجنوده غرقا في البحر. وبعد مجاوزتهم مروا على قوم مشركين كانوا يسكنون ساحل البحر وكانوا ﴿ يعكفون على أصنام لهم ﴾ أي يواظبون على تقديسهم ويقيمون على عبادتها وهي تماثيل من الحجارة. وما أن رأى بنو إسرائيل ذلك حتى جنحت طباعهم التي لا تحتمل الثبات والجد، والتي جبلت على الاسترخاء والانمياع –جنحت للهزل والرغبة في الباطل والاعوجاج فسألوا نبيهم موسى أن يصنع لهم إلها من صنم كآلهة هؤلاء المشركون العاكفون على عبادة أصنامهم ؛ فأجابهم موسى موبخا إياهم أيا توبيخ ﴿ إنكم قوم تجهلون ﴾ أي إنكم جاهلون ما أوتيتم من الآيات والمعجزات التي تشهد بصدق ما جئتم به وبطلان ما سواه من ملة الوثنية والشرك.
ثانيهما : أنه خصهم بفضائل من النعم بالآيات والمعجزات الكثيرة مثل : انبجاس الماس من الصخر الصلد، وانفلاق البحر، وتمهيد السيل فيه لسيرهم ومضيهم فيه، وبعض النبيين الكثيرين فيهم أكثر مما بعض في الأمم السابقة. إلى غير ذلك من أنعم الله كالمن والسلوى وتظليل الغمام. وهو ما بيناه في تفسير سورة البقرة. فما ينبغي لأحد بعد هذا البيان الواضح للمراد من التفضيل على العالمين أن يصطنع من الكلام والتأويل ما يأباه المنطق السليم وتنفيه حقيقة المراد من الآية الكريمة ومما لم ينزل اله به من حجة ولا برهان.
ليس لمتحذلق١ فارغ جاهل بعد ذلك أن ينتزع من مفهوم هذه الآية ما لا تحمله ليهذي بان بني إسرائيل جنس من البشر المميز الذي فضله الله لذاته وجنسه على سائر البشر ! ! ليس هذا الكلام إلا ضربا من الزيف والهراء الذي تجتره حناجر فريق من البشر المتعصب الجهول.
والحقيقة الصحيحة المعتبرة هنا أن نبي إسرائيل قد امتن الله عليهم بمنن وعطايا دنيوية كثيرة فاقت ما أعطته أمة من الأمم في هذه الدنيا لتكون لله الحجة عليهم في ذلك. وهذا هو المراد بالتفضيل. أما بعد ذلك من تفضيل معتبر يتميز فيه الصالحون من غيرهم فهو منوط بالصلاح والتقوى والمضي في طريق الله والتزام شرعه القويم ومنهجه المستقيم من غير شطط ولا زيغ ولا تزييف ولا تغيير ولا تبديل لما أنزله الله من الآيات والبينات. والمفضلون عند الله هم الذين استقاموا على دينه ورسالته الحقة للناس فلم يبدلوها تبديلا، ولم يزيفوها تزييفا، ولم ينتقصوا من آياتها أو يتزيدوا عليها ما ليس منها ؛ فكانوا بذلك هداة صادقين أوفياء للبشرية يحملون لها رسالة المحبة والأمن والخير والنجاة في هذه الدنيا ويوم تقوم الساعة. لا جرم أن هذه المزايا والخصائص والمعاني إنما تتجلى في أمة الإسلام. أمة رسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم ﴾ مفسرة للجملة التي قبلها ﴿ يسمونكم سوء العذاب ﴾ أو بدل منها. والمعنى : أن فرعون الطاغية اللعين كان يقتل من تولد من بني إسرائيل ذكرا ويستبقي الإناث من أجل الاستخدام والتسخير. وفي ذلك من سوء المحنة وفظاعة الجور والعدوان والإسراف في القتل الظالم ما هو عظيم وجلل٢.
٢ التبيان للطوسي جـ ٤ ص ٥٢٧- ٥٣١ والبحر المحيط جـ ٤ ص ٣٧٦- ٣٧٩ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٩٤، ١٩٥..
لما جاء موسى –عليه السلام- في الوقت الموعود للقاء ربه وتكليمه فناجاه الله وكلمه، أحب أن يرى ربه فسأله أن يراه. فأجابه ربه ﴿ لن تراني ﴾ لأنك لن تطيق أن تراني ؛ ذلك أن موسى بشر قد جبل على طبع البشر من حيث محدودية العزم والقدرة والطاقة بالغرم من كونه نبيا ورسولا أوتي من ربه العصمة ؛ فهو بطبيعته البشرية وطاقته البدنية والإنسانية لا يملك أن يرى الله جهرة. ولئن رآه لسوف ينفي ويتبدد ! فهذا الجبال الشامخات، وتلك الأجرام الكونية الضخام لو ظهر لها الله بجلاله وعليائه وسطوع نوره ؛ فإنها سوف تنماع أو تسيخ أو تزول البته ! فكيف بالإنسان، ضعيف البنية والاقتدار والاحتمال، لا جرم أنه أعظم ضعفا وأشد أن لا يتماسك أمام جبروت الله إذا تجلى له ظاهرا.
وقوله :﴿ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ﴾، ﴿ استقر ﴾، أي ثبت وسكن. ويضرب الله لموسى مثالا من الجبل وهو أعظم وأثبت من نبيه الإنسان ؛ أي إنك يا موسى لن تطيق رؤيتي أو النظر إلي ؛ لبساطة احتمالك واقتدارك وضعف بنتك وبدنك، لكن انظر إلى هذا الجبل، فإن ثبت أو سكن مكانه من غير اضطراب أو زعزعة أو تزلزل فسوف تزاني. وذلك برهان من الله مشهود ؛ ليتحقق لموسى أنه لن يستطيع أن ينظر إلى الله، بدليل اندكاك الجبل لما تجلى له ربه وهو قوله سبحانه :
﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ﴾ تجلى، أي ظهر. أي لما ظهر الله للجبل، وقيل : ظهر له اقتداره وأمره ﴿ جعله دكا ﴾ دكا منصوب من وجهين، أحدهما : أن يكون منصوبا على المصدر، من : دككت الأرض دكا، إذا جعلتها مستوية.
وثانيهما : أن يكون منصوبا على المفعول وفيه حذف لمضاف، وتقديره : فجعله ذا دك ؛ أي ذا استواء١، ودكا، من الدك وهو الدق. وقد دكه، إذا ضربه وكشره حتى سواه بالأرض. والدكداك من الرمل : ما التبد منه بالأرض ولم يرتفع٢.
وقيل : ساخ الجبل في الأرض. وقيل : تفرقت أجزاؤه وتناثرت حتى صار مستويا بالأرض.
والمعنى المراد، أنه ما إن عاين موسى اندكاك الجبل حتى هاله المشهد ترويعا فلم يحتمل مثل هذه المعانية الهائلة التي لا يقوى على رؤيتها كائن ؛ لفرط هولها الذي يفوق الحس والتصور ويعلو على الكائنات في مبلغ قدراتها وطاقتاها. وبذلك ﴿ خر موسى صعقا ﴾ أي سقط مغشيا عليه. وقيل : مات ثم بعثه الله ؛ وذلك لهول ما أحس وفظاعة ما رأى.
قوله :﴿ فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ﴾ يعني لما ثاب إلى موسى وعيه مما غشيه من الرهب والصعق قال مخاطبا ربه :﴿ سبحانك ثبت إليك ﴾ يعني أنزهك يا رب تنزيها يليق بكمالك وجلالك وعظيم سلطانك أن يراك مخلوق في هذه الدنيا ويقوي بعد ذلك على الثبات أو التماسك. وقد ثبت إليك يا رب عما سألتك إياه من رؤيتك ﴿ وأنا أول المؤمنين ﴾ أي المؤمنين بك من قومي. وقيل : من بني إسرائيل في هذا الزمان. أو أول من آمن بك أنه لن يراك أحد قبل يوم القيامة٣.
٢ مختار الصحاح ص ٢٠٨..
٣ تفيسر الطبري جـ ٩ ص ٣٤- ٣٨ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٧٨ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٤٣..
قوله :﴿ فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ﴾ أي خذ ما أعطيتك من الرسالة وشرف النبوة، واشكر الله بالإقرار بالقلب وتمام الطاعة لما أمر والمسارعة إلى إرضائه سبحانه.
قوله :﴿ فخذها بقوة ﴾ أي قال له ربه : خذ التوراة بجد واجتهاد ونشاط، وكذلك كلفه ربه أن يأمر بني إسرائيل أن يأخذوا بأحسن التوراة وهو قوله :﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ المراد بأحسنها، المأمور بعلمه ؛ فقد أمرهم أن يعلموا بما كان مأمورا به وهو أحسن من العمل بالمنهي عنه. وقيل : بأحسن ما فيها بما أجره أعظم من اجر غيره. كقوله :﴿ فيتبعون أحسنه ﴾ ومن الأحسن الصبر على الغير والعفو عنه ؛ فهو أحسن من الانتصار للنفس والأخذ لها بالقصاص من الجاني. وكالعمل بالعزيمة أحسن من العمل بالرخصة، وبالفريضة دون النافلة.
قوله :﴿ سأوريكم دار الفاسقين ﴾ ذلك إخبار من الله لموسى والذين استضعفوا معه أنه سيريهم ﴿ دار الفاسقين ﴾ أي جهنم. وقيل : سأوريكم دار الظالمين في مصر وهم فرعون وقومه. وقيل : المراد ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والذين أهلكوا. وذلك وعيد تهديد لما خالف أمر الله فتنكب عن شرعه وصراطه المستقيم وآثر الأهواء والشهوات فانزلق في المعاصي والموبقات. فأولئك الخاسرون الهالكون الذين زاغوا عن دين الله ومنهجه الحكيم للناس.
ذلك نذير من الله للفاسقين المتكبرين عن طاعة الله، والذين يتكبرون على الناس صلفا وغرورا –بأنهم ممنوعات من إدراك الآيات والبينات الدالة على قدرته وعظمته، وأنه سبحانه حقيق بالعبادة دون غيره. فهم بذلك قد ختم الله على قلوبهم فلا يتذكرون أو يفقهون. وهذا النذير مطرد في حق كل أمة بل في حق كل أحد من العالمين. فما من مستكبر عن آيات الله فيمشي في الأرض مغترا متكبرا إلا حيل بينه وبين فهم الكتاب الحكيم ؛ إذ ران على قلبه الفسق والضلال فبات من المختوم عليهم فلا يعي ولا يزدجر.
قوله :﴿ وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها ﴾ الآية ؛ أي أن هؤلاء الذين صرفهم الله عن فهم الآيات والدلائل والحجج بسبب تكبرهم وعتوهم، ولا رجاء ولا أمل في إيمانهم ؛ فقد باتت قلوبهم غلفا وما كانوا ليفقهوا أو يتدبروا الآيات بعد أن طبع على عقولهم قلوبهم. وهم كذلك قد عموا عن الصواب والحق فلا يختارون غير طريق الباطل والشر ؛ لأن طبائعهم باتت تنفر من رؤية الحق أو سماعه بل تشمئز من التذكير بدعوة الخير والسداد، خلاف للشر والباطل ؛ فإنها تستبشر بهما وتركن إليهما وتجد فيهما الراحة المزيفة المجدودة، والاستمتاع العاجل الموهوم. أولئك فريق ضال من الناس ختم الله على قلوبهم فلا يرون إلا الشر والخطيئة، ولا يبصرون إلا في الضلال والديجور. وهو مقتضى قوله :﴿ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ﴾.
قوله :﴿ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ﴾ اسم الإشارة ﴿ ذلك ﴾ في محل رفع على الابتداء. والتقدير : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم. أو في محل نصب، والتقدير : صرفهم الله ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآيات الله بالرغم مما تضمنته لهم من الأدلة والحجج الظاهرة على عظمة الله وعلى صدق أنبيائه ورسله وبسبب غفلتهم وانشغالهم عما جاءهم من الحق ؛ فقد كانوا لاهين سادرين في الغي وفي الملاهي الدنيا وزخرفها، راضين بزينة الحياة وما حفلت به من زينة ومتاع ما يلبث أن يبيد ويفني بعد حين سريع من الزمن.
قوله :﴿ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ﴾ استفهام تقريري يتضمن التأكيد على أن هؤلاء الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة لا يجزون إلا جزاء ما عملوه من التكذيب والجحود والعصيان٢.
٢ الكشاف جـ ٢ ص ١١٧ وتفسير الإمامين الجلالين ص ١٣٨..
لقد ضل بنو إسرائيل وافتتنوا ؛ إذ أضلهم السامري باتخاذ العجل إلها بعد أن صنعه من حلي القبط. والحلي لما تزين به من الذهب والفضة ؛ فقد ذكر أن السامري قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر، فألقاها في الحلي المصنوع فصار عجلا له خوار. أما قصة الحلي : فهي أن السامري قال لبني إسرائيل وكان مطوعا فيهم : إن معكم حليا فاستعاروا لذلك اليوم. فلما أخرجهم الله من مصر وغرق القبط بقي ذلك الحلي في أيديهم. فقال لهم السامري : إنه حرام عليكم فهاتوا ما عندكم فنحرقه. وقيل : هذا الحلي ما أخذه بنو إسرائيل من قوم فرعون بعد الغرق، وإن هارون قال لهم : إن الحلي غنيمة وهي لا تحل لكم فجمعها في حفرة حفرها فأخذها السامري١. وقوله :﴿ جسدا ﴾ بدل من ﴿ عجلا ﴾ والجسد معناه البدن ذو اللحم والدم كسائر الأجساد. والخوار، صوت البقر. وقيل : إن العجل ظل على أصله من ذهب إلا أنه كان يدخل فيه الهواء فيصوت كخوار البقر فحسبوه عجلا، وقيل : لما سمعوا صوت العجل رقصوا من حوله وافتتنوا به وقالوا : هذا إلهكم وإله موسى.
قوله :﴿ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ﴾ استفهام توبيخ لهؤلاء الذين سألوا نبيهم أن يصنع لهم عجلا ليعبدوا مع أنهم يعلمون في يقين ومعاينة لا تحتمل الشك أن هذا المعبود لا يعي ولا يفهم. وليس أدل على ذلك من أنه لا ينطق البتة، وإن هو إلا جسد من الأجساد المركومة التي لا تفقه ولا تريم ولا تملك لهم هداية أو ترشيدا لسبيل.
قوله :﴿ اتخذوه وكانوا ظالمين ﴾ أي فعلوا فعلتهم المنكرة من الإشراك بالله ﴿ وكانوا ظالمين ﴾ أي مشركين، واضعين الشيء في غير موضعه. وهو وضع العجل في موضع الإله المعبود. لا جرم أن ذلك فعل شنيع وبالغ النكر.
قوله :﴿ أعجلتم أمر بكم ﴾ استفهام توبيخ وتقريع لهؤلاء القوم من أجل سلوكهم الغريب وتصرفهم المنغص المحير. والمعنى : أتعجلتم ميعاد ربكم الذي وعدنيه قبل استكماله وهو أربعون يوما ففعلتم الذي فعلتموه وهو عبادة العجل.
قوله :﴿ وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه ﴾ عندما قدم موسى من الطور حيث المناجاة ألفى قومه عاكفين على عبادة العجل فاعتراه غضب شديد وأسف بالغ، فالقى ما بين يديه من الألواح التي كتبت فيها التوراة، ثم أخذ برأس أخيه هارون أو بلحيته وشعر رأسه وهو يجره إليه ؛ لظنه أنه لم ينكر على السامري فتنته لبني إسرائيل، ولم ينكر على قومه بني إسرائيل عبادتهم للعجل، وكان هارون أكبر سنا من أخيه موسى عليهما الصلاة والسلام.
قوله :﴿ قال بان أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ قوله :﴿ أم ﴾ مقروءة بكسر الميم وفتحها. أما الكسر : فهو على الأصل وهو أمي، فاجتزأ بالكسرة عن الياء وهو كثير في كلام العرب. وابن، منادي منصوب ؛ لأنه مضاف. أما فتح الميم : فهو أن يبني ابن مع أم وجعلهما بمنزلة اسم واحد كخمسة عشر٢ ؛ فقد كان موسى شقيق هارون فهو أخوه ابن أمه وأبيه ولكن خاطبه بأخوة الأم استعطافا وليستثير فيه رقة الأمومة وعاطفة الرحم فيستجيش في قلبه الرحمة والتحنان ؛ فهو بذلك يخاطبه في تودد ورأفة ولين مبينا له أنه قومه بني إسرائيل قد استضعفوه ؛ أي عدوه ضعيفا، أو نظروا إليه نظرة استضعاف واستذلال، وقاربوا أن يقتلوه ثم قال :﴿ فلا تشمت بي الأعداء ﴾ أي لا تسرهم بما يصيبني من مكروه. وذلك من الشماتة وهي سرور المرء بما يصيب الأخر من المصائب في أمور الدين والدنيا٣ والشماتة فيما بني المسلمين حرام. والمعلوم أن المسلم أخو المسلم فليس معقولا ولا مقبولا، وما هو من الدين في شيء أن يشمت المسلم بأخيه المسلم فيفرح لما أصابه من سوء أو مكروه في نفسه أو ماله أو ولد وأهله ! ومن أبرز صفات المسلم : أن يجب أخاه المسلم، فيسر لسروره، ويستاء لما يصيبه من مساءة أو مصاب أو اغتمام. أما أن يفرح لابتئاسه ولما يحل به من الكروب والمصائب ؛ فهذه فادحة من الفوادح الثقال التي لا تليق بالمسلمين الذين يتقون الله، وإنما هي جديرة أن يتلطخ بها طبائع الآثمين والخاطئين من السفهاء في المسلمين. وفي هذا الصدد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك ) ٤ وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الشماتة قائلا :( اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء ) ٥.
قوله :﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ أي لا تجعلني –وأنت تعاقبني- في محل من عصاك مخالف أمرك وعبد العجل بعدك ولم يعبد الله فظلم نفسه بذلك، وأنا لست من هؤلاء.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٥..
٣ القاموس المحيط جـ ١ ص ١٥٧ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ٤٩٢..
٤ أخرجه الترمذي عن وائلة بن الأسقع..
٥ أخرجه البخاري وغيره..
ذلك وعيد من الله لأولئك الظالمين الذين عبدوا العجل باتخاذه إلها أنهم ﴿ سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ﴾ أي سيصيبهم العقاب في هذه الدنيا وهو ما سينزل بهم من تكليفهم بقتل أنفسهم ؛ فقد أمرهم موسى أن يقتل بعضهم بعضا. وكذلك الذلة ؛ وهي التي ضربها الله عليهم ليذوقوا وبال أمرهم من صور البلاء والمذلة، سواء في ذلك ما يصيبهم من مهانة وتعذيب وإخراج وهوان على أيدي مختلف الشعوب والممالك والحكام، ثم يفضون بعد ذلك إلى العذاب الأشد يوم القيامة.
قوله :﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾ الكاف في اسم الإشارة صفة لمصدر محذوف ؛ أي نفعل بالمفترين مثل ما فعلناه بهؤلاء من إحلال الغضب فيهم والذلة. والمراد بالمفترين الذين يكذبون على الله ويفترون عليه بالأباطيل والأقاويل زورا وظلما.
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٧١..
٣ تفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٩٣ وتفسير البيضاوي ص ٢٢٤..
﴿ قومه ﴾، و ﴿ سبعين ﴾ مفعولان لقوله :﴿ واختار ﴾ لكن أحدهما حذف منه حرف الجر ( من ) والتقدير : واحتار موسى من قومه سبعين رجلا١.
لقد اختار موسى سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل ليذهب بهم إلى طور سيناء فيعتذروا لربهم عما فعله بنو إسرائيل من عبادتهم للعجل وكان ذلك عن توقيت سبق وقته الله لموسى ؛ إذ كان لا يأتيه إلا بإذن منه. ولما وصلوا إلى حيث المكان الموعود والميقات الموعود لكي يعتذروا قالوا لنبيهم موسى في اجتراء ممجوج ﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ فأنت قد كلمته تكليما فأرنا إياه عيانا. لا جرم أن هذا القلب فيه من المجاوزة والإسراف والاجتراء والسفه ما فيه ! وهو اجتراء ظالم ليس خليقا بالمؤمنين الأتقياء، فكيف إن كانوا من الصفوة المختارة من القوم ! ! من أجل مسألتهم هذه أخذتهم الرجفة وهي الزلزلة فصعقوا ميتين، وقيل : أخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل. وقيل : لأنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمرهم بالمعروف. والقول الأول أظهر. وقد سبق بيان ذلك في سورة البقرة. وبعد صعقهم بالرجفة. قال موسى :﴿ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ﴾.
قال موسى ذلك على سبيل الأسى والتلهف والاستحسار ؛ أي لو أمتنا يا ربنا جميعا قبل خروجنا إلى المقيات كيلا يتهمني بنو إسرائيل. وقد دعا موسى ربه بهذا الدعاء اعترافا منه بالذنب قبل هذا الوقت وحزنا على تقصير قومه وانثنائهم عن القيام بما يكلفهم به الله ).
قوله :﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ والمراد بالاستفهام : الجحد ؛ أي أن الله جل وعلا لا يفعل ذلك. وهو كالنفي في معنى الإيجاب. وقيل : معناه : الدعاء والطلب ؛ أي لا تهلكنا يا ربنا. وقيل : المراد بالاستفهام استفهم استعظام ؛ أي كأنه يقول : لا تهلكنا، وهو يعلم أن الله لا يهلك أحدا بذنب غيره. وأراد بالسفهاء عبدة العجل. وعلى هذا فالمعنى : أتعاقبنا يا ربنا بما فعله عبدة العجل ؛ إذ اتخذوه إليها لهم، ونحن من ذلك براء ؟ ! أي أتؤاخذنا بخطيئة غيرنا ؟ !
قوله :﴿ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ﴾ الفتنة : الابتلاء والاختبار. والمعنى : أن ما فعله بنو إسرائيل من عبادة العجل ما هو إلا ابتلاء منك يا ربنا. فقد ابتلاهم بذلك ليتبين الذين يضلون عن دين الله فيعبدون غيره، والذين يهتدون بمجانبة الإشراك فلا يعبدون غير الله الواحد الخالق. وقد أضاف موسى إضلال القوم وهدايتهم إلى الله، كقوله تعالى :﴿ وليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾.
قوله :﴿ أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ﴾ ذلك استرحام واستعطاف من موسى إذا يدعو ربه. والوالي معناه الناصر أي يا ربنا أنت ناصرنا فاستر علينا ذنوبنا بعفوك عن سيئاتك وتجاوزك عن عقابنا ومن علينا برحمتك بنا ﴿ وأنت خير الغافرين ﴾ أي وأنت خير من يعفو ومن يصفح. وخير من يتجاوز عن الخطايا والآثام. وخير من يستر على الذنوب والمعاصي.
قوله :﴿ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ المراد بالعذاب هنا : الرجفة التي أصابت السبعين رجلا من بني إسرائيل. ومثل هذا العذاب إنما ينزل بمن استحقه من المقصرين والمفرطين فيما فرض عليهم من الواجبات. وهو مصيبتهم كغيرهم من المقصرين والمفرطين. أما قوله في الحرمة : فهو عموم خصصه ما بعده وهو أن رحمة الله بالغة السعة والشمول لتسع الذين يتقون الله ويعلمون الصالحات. وهو قوله :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾.
وبذلك فإن رحمة الله يشترط في الذين يستحقونها ثلاثة شروط :
الأول : تقوى الله ؛ وذلك أن يكون المرء من المتقين الذين يبادرون فعل الطاعات، ويجتنبون فعل المعاصي. وما نظن مثل هذه الحقيقة مركوزة في غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم. هذه الأمة المباركة المكرمة المعتدلة لا ريب أن فيها المتقين الذين يخشون الله فيفرون مما يسخطه أو يغضبه، ويبادرون لفعل الطاعات دون إبطاء أو تخاذل. لكن غيرهم من الأمم يفرون من طاعات ربهم ليبادروا فعل كل ألوان الموبقات والمعاصي كأكل الربا وأكل الحرام بكل صوره وأشكاله، وظلم الناس والاعتداء عليهم في أموالهم وأشخاصهم وأوطانهم وكراماتهم. إلى غير ذلك من وجوه الفحش والزنا والكفر الضلال.
الثاني : إيتاء الزكاة. وهذه عبادة أساسية من عبادات الإسلام ؛ بل هي ركن من أركانه ومقوماته الكبرى. وما نظن انتظام مثل هذه الفريضة على نحوها الدقيق الكامل المميز في غير شريعة الإسلام.
الثالث : الإيمان الصحيح الكامل دون أي انتقاص. وهو الإيمان بسائر النبيين والمرسلين دون تفريق بين أحد منهم. وهذه خصيصة كبرى لا تتجلى في غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم. هذه الأمة التي يلتزم أفرداها الإيمان الكامل بجميع النبيين والمرسلين بدءا بأولهم وانتهاء بعيسى ابن مريم ؛ فالنبي الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام أجمعين. وأيما تفريق في ذلك أو تكذيب بأحد النبيين إنما يعني الكفر صراحة ووقاحة. فلا اعتبار ولا قيمة لمن آمن ببعض النبيين و أكثرهم ثم كفر ببعضهم أو بواحد منهم. إنه لا يكذب بواحد من النبيين أو المرسلين إلا كافر كنود أو شقي وضال وفاسق لا يستحق غير اللعن والمهانة والاستعار في عذاب النار وبئس القرار.
إن أمة الإسلام، أمة محمد صلى الله عليه وسلم تتجلى فيها كل هذه الحقائق والشروط لتستحق من الله الرحمة ؛ فلا جرم أن شيع فيها الخير والأمن والود والبركة في هذه الحياة. ويوم القيامة يفضون إلى تكريم من الله ورضوان وهم في روضات الجنان في مقعد صدق عند مليك مقتدر٢.
٢ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٥١- ٥٤ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٩٤- ٢٩٦ الكشاف جـ ٢ ص ١٢١ وتفسير البيضاوي ص ٢٢٤..
قوله :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ هذا الكلام من الله لموسى من قبل أن ينزل الإنجيل فهو من باب الإخبار بما سيكون في المستقبل. والرسول النبي الأمي هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها من السذاجة والبدائية. فلم تتعلم الكتابة ولا القراءة. وفي ذلك جاء في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) وهذه علامة ظاهرة بلجة تكشف عن صدق نبوة هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وهي كونه أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة. لا جرم أن ذلك أبلغ في الدليل وأعظم في ظهور الحجة على صدق نبوته وأنه مرسل من عند الله، وأن ما أنزل إليه من ربه الحق، وهو القرآن الحكيم. هذا الكتاب المبارك الممجد الذي يعبق به الخير وتفوح منه الرحمة والبركة على الإنسانية والكائنات جميعا. وهو الذي تتندى منه ظواهر شتى من الإعجاز مما ليس له نظير في كلام الأولين والآخرين، إن هذا الكتاب في روعة كلمه، وجمال أسلوبه، وعلو مستواه، وكمال مبناه، وجليل مضمونه ومحتواه ؛ إنما يدل على أنه من لدن رب العالمين. وأنى لبشر من البشر أن يصطنع شيئا مثل هذا الكلام العجيب الفذ ؟ ! مع التذكير والتنبيه أن محمدا صلى الله عليه وسلم رجل أمي ما عرف الكتابة ولا القراءة. وما درس من العلوم أو المعارف شيئا. وما تلقى من أخبار التاريخ أو الفلك أو الطبيعة أو غير ذلك من علوم الحياة.
قوله :﴿ الذين يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ ذلك هو ذكر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وصفته في الكتب السماوية السابقة ؛ إذ بشر بها النبييون السابقون أممهم أن الله مرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوثا للعالمين فأمرهم بتصديقه واتباعه ولم يزل صفته موجودة في التوراة والإنجيل لولا الضالون منهم الذين بدلوا كلام الله تبديلا، وأسرفوا في تحريف كتبهم، وأنكروا صفته صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك روي الإمام أحمد عن رجل من الأعراب قال : جلبت حلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت من بيعي قلت : لألفين هذا الرجل فلأسمعن منه. قال : فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي ؟ ) فقال برأسه : هكذا. أي لا. فقال ابنه : والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فقال :( أقيموا اليهودي عن أخيكم ) ثم تولى كفنه والصلاة عليه.
قوله :﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ ذلك إخبار عن رسالة الإسلام للبشرية. الرسالة الكاملة الشاملة المعتدلة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم لهداية العالمين وتخليصهم من الشرور والمفاسد والآفات النفسية والاجتماعية والفكرية وغيرها، ولتنجيهم من أهوال القيامة.
وأول هذه الواجبات من التبليغ التي نيطت برسول الله ﴿ يأمرهم بالمعروف ﴾ وهو الإيمان بالله ولزوم طاعته في أوامره ونواهيه، والدعوة إلى مكارم الأخلاق كالبر والإحسان والحياء والرحمة وصلة الأرحام ونحو ذلك.
وثاني هذه الواجبات ﴿ وينهاهم عن المنكر ﴾ وهو الشرك بالله، واجتناب ما نهى اله عنه وزجر، كقطع الأرحام، وعقوق الوالدين، وأكل أموال الناس بالباطل، وظلم الناس بكل صور الظلم وأشكاله.
وثالث هذه الواجبات ﴿ ويحل لهم الطبيات ﴾ أي يحل لهم ما كان أهل الجاهلية يحرمونه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي وغير ذلك من عادات الجاهلية مما كان فيه تضييق على أنفسهم.
ورابع هذه الواجبات :﴿ ويحرم عليهم الخبائث ﴾ أي المحرمات كلحم الخنزير والربا والقمار والميتة وغير ذلك من المستقذرات كالأفاعي والعقارب والضفادع والخنافس نحو ذلك من الخبائث.
وخامس هذه الواجبات ﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾ الإصر معناه الثقل والعهد١ ؛ أي أن هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم جاء ليضع بشريعة القرآن العهد الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل من إقامة التوراة والعمل بما فيها من الواجبات الشديدة والأعمال الثقال مما تضيق به النفوس وتفتر العزائم وتنثني دونه الهمم بمرور الزمن. لقد وضع الله عنهم بشريعة الإسلام هذه التكاليف الشاقة كقرض الثوب بالمقراض إذا أصابه بول. وقيل : قرض الجلد من البول. وكذلك تحريم الغنائم، وتحريم مجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها ؛ فقد كانوا إذا حاضت المرأة لا يقربونها. وغير ذلك مما كان مفروضا عليهم ثم نسخ بالقرآن، أما الأغلال، فهي جمع غل، بالضم. وهو طوق من حديد يجعل ف العنق٢ والمراد به في الآية هنا، تلك التكاليف الشاقة والواجبات الثقال التي لزمت بني إسرائيل ثم نسخت بشريعة الإسلام. هذا الدين الذي بني على التيسير والسماحة وهو ما يعبر عنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :( بعثت بالحنيفية السمحة ).
قوله :﴿ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾ عزروه، من التعزيز، وهو التوقير والتعظيم٣. أي أن الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغروره، أي وقروه وعظموه ونصوره وذادوا عنه كيلا يخلص إليه أذى أو مكروه ﴿ واتبعوا النور الذي أنزل معه ﴾ يعني القرآن ﴿ أولك من المفلحون ﴾ أي أن هؤلاء الذين يتصفون بتلك الصفات من الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتأييده بالمناصرة، وبذل العون له والتعظيم، واتباع ما جاء به هذا النبي من الكتاب المنزل الحكيم ؛ فإنهم الفائزون الناجون في الدنيا والآخرة٤.
٢ المصباح المنير جـ ١ ص ١٠٥..
٣ مختار الصحاح ص ٢٤٩..
٤ تفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٩٧- ٣٠١ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٥١- ٢٥٤ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٥٢، ٢٥٣..
يأمر الله في هذه الآية نبيه الكريم محمدا صلى الله عليه وسلم أن يشهر دعوته ورسالته في صراحة ووضوح على أنه رسول مبعوث من عند الله للبشرية كافة بل للعالمين أجمعين سواء فيهم الإنس والجن. فما من نبي في السابقين إلا كان مبعوثا في قومه وعلى فترة من الزمن. لكن رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم قد نيط به وجوب التبليغ للثقلين طوال الزمن حتى لا يكون من بعده نبي البتة.
قوله :﴿ الذي له ملك السموات والأرض ﴾ الذي، في موضع نصب على المدح، أو في موضع جر صفة لاسم الجلالة، أو خير لمبتدأ محذوف. وهذا تعظيم لله جل جلاله بأنه المالك لكل شيء. ومن بين السموات والأرض بما فيهن وما بينهم من كائنات ومخلوقات.
قوله :﴿ لا إله إلا هو يحي ويميت ﴾ ذلك بيان للقول السابق. فإن الذي يملك العالمين كان هو الإله وحده دون غيره من الأنداد. وكذلك كونه موصوفا بالإحياء والإماتة دون غيره، تحقيق لتفرده بالإلهية ؛ فهو وحده حقيق أن تعبده الخليقة، وأن يذعن له العباد بالطاعة والامتثال.
قوله :﴿ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته ﴾ ذلك تأكيد على وجوب الإيمان بالله وبرسله هذا النبي الذي قدر له أن يكون أميا. فما كان ليقرأ كتابا ولا يخطه بيده. وهو عليه الصلاة والسلام موصوف بأنه أول المؤمنين بالله وبكلماته وهي القرآن. وقيل : كلماته يراد بها الكتب الإلهية التي أنزلت عليه وعلى النبيين من قبله.
قوله :﴿ واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾ ذلك تعليل للأمر بالإيمان بالله ورسوله النبي الأمي واتباع ما جاء به من عند الله ؛ فإنهم إن آمنوا واتبعوا فسوف يحظون من الله بالهداية والتوفيق١.
ذلك إخبار من الله عن قوم موسى وهم بنو إسرائيل بأنهم ليسوا جميعا ضالين بل كان فيهم جماعة على الحق والإيمان مثل عبد الله بن سلام وابن صوريا وغيرهما. فهؤلاء ذكرهم الله بأنهم ﴿ يهدون بالحق ﴾ أي يرشدون إلى الحق، ويدعون الناس إلى دين الله الحق ﴿ وبه يعدلون ﴾ أي يحكمون بالحق والعدل ولا يجورون.
قوله :﴿ وأوحينا إلى موسى إذ استقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ﴾ لما أصاب بني إسرائيل العطاش في التيه سألوا موسى أن يستسقي لهم ربه، فأوحي الله إليه أن يضرب الحجر فضربه ﴿ فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ﴾ انبجست، انفجرت، وذلك من الانبجاس وهو الانفجار، أو النبوع في عين الماء٣.
فإنه عقب ضرب الحجر بالعصا انفجرت منه اثنتا عشرة عينا. وذلك بعدد الأسباط وهم الاثنا عشر ؛ ليكون سبط عين مختصة بهم بشربهم منها، وكل سبط منهم هم بنو أب واحد. ولذلك قال :﴿ قد علم كل أناس مشربهم ﴾.
قوله :﴿ وظللنا عليهم الغمم وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ لما كان بنو إسرائيل في التيه وغشيهم من سموم الصحراء ولظى الشمس الحرور ما غشيهم ؛ أظلهم الله بالغمام تضليلا. والغمام معناه السحاب٤ ؛ فقد استظلوا بالسحاب الرخي الرطيب، يسكن بسكونهم، ويسر بسيرهم وكذلك أنزل عليهم المن ؛ وهو كل طل٥ ينزل من السماء على شجر أو حجر ويحلو وينعقد عسلا ويجف جفاف الصمغ٦.
كذلك انزل عليهم ( السلوى ) وهو طائر، واحدته سلوة. وقيل : هو السماني٧. وقد سبق بيان ذلك في تفسير سورة البقرة. وذلك كله من فضل الله على بني إسرائيل ؛ إذ تفضل عليهم بعطايا وخيرات ما سبقهم بها أمة من الأمم. فكانوا بذلك قد تميزوا بجزيل النعم من الله كنعمة الغمام والمن والسلوى وانبجاس الماء من الصخر. وغير ذلك من المنن الأخريات الكثيرة التي فضل الله بها بني إسرائيل على العالمين. إما في زمانهم دون غيره من الأزمنة، أو في الزمان كله. وذلك لتكون له الحجة عليهم إذا لم يؤمنوا ويهتدوا، فيعصوا وعتوا وأضلوا وأفسدوا في الأرض ؛ فإنه إذا من الله على أناسي من عباده بجزيل من فضله ونعمه، فما شكروا ولا أذعنوا لله بالطاعة والامتثال بل طغوا وبغوا وتجبروا في الأرض وأفسدوا في البلاد وبين العباد، لا جرم أن ينالهم عذاب الله في الدنيا بالخزي والإذلال وغير ذلك من أنواع البلاء، وفي الآخرة لهم سواء الدار وبئس القرار.
قوله :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ بعد أن رزق الله بن إسرائيل بالمن والسلوى وهما من خير الطعام المستلذ المفيد، مضافا إليه الماء البارد الفارت في جوف الصحراء الحارقة الحرور، وقد أظلهم السحاب الرخي العليل –بعد ذلك قال الله لهم : كلوا من هذه الأطايب المستلذة ؛ لكنهم لم يقدروا الله حق قدره ؛ إذ لم يشكروه على هذه النعم ؛ بل خالفوا عن أمره سبحانه وجحدوا نعمه الجليلة : فهم بعصيانهم وكفرانهم لم يظلموا الله شيئا، فإن الله لا ينال منه ظلم الظالمين، ولكن الظالمين إنما يظلمون أنفسهم بإيقاعها في الهلكة والتخسير٨.
٢ القاموس المحيط ص ٨٦٤..
٣ القاموس المحيط ص ٦٨٤..
٤ القاموس المحيط ص ١٤٧٦..
٥ الطل: المطر الخفيف. أو أخف المطر وأضعفه. أو الندى. انظر القاموس المحيط ص ١٣٢٦..
٦ انظر القاموس المحيط ص ١٦٧٢ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٥٦..
٧ انظر القاموس المحيط ص ١٦٧٢ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٥٦..
٨ البحر المحيط جـ ٤ص ٤٠٧ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٥٦ وتفسير البغوي جـ ٢ص ٢٠٧..
قوله :﴿ وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾ أي اسأل جيرانك اليهود عن أهل القرية. وذلك على تقدير محذوف وهو ( أهل ) كقوله :﴿ وسئل القرية التي كنا فيها ) والمراد أهلها. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ) يعني اهتز أهل العرش من الملائكة فرحا واستبشارا بقدومه رضي الله عنه إليهم. أما القرية التي كانت حاضرة البحر : فهي أيلة، كانت بين مدين والطور. وقيل : هي مدين وبيت أيلة والطور. وقيل يغر ذلك. و { حاضرة البحر ﴾ أي بقربه.
وقوله :﴿ إذ يعدون في السبت ﴾ ؛ إذ، للظرفية الزمانية ؛ أي وقت عدوهم في السبت١ و ﴿ يعدون ﴾ بمعنى يعتدون أمر الله في السبت و يتجاوزونه إلى ما حرمه الله عليهم، والاعتداء معناه التجاوز، والتعدي معناه مجاوزة الشيء إلى غيره٢. أما ﴿ السبت ﴾ فهو مفرد وجمعه سبوت وأسبت. وسبت اليهود ؛ أي انقطاعهم عن المعيشة والاكتساب. وهو مصدر. يقال : سبتوا سبتا. وسبت سبتا أي نام واستراح وسكن. واستبت الحية : أطرقت لا تتحرك. وسبت الشيء –بالتشديد- أي قطعه٣.
قوله :﴿ إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ﴾ إذ بدل من ( إذ ) الأولى. وشرعا منصوب على الحال من حيتانهم٤. وتأتيهم حيتانهم شرعا ؛ أي شارعة ظاهرة على الماء من كل مكان وناحية في يوم السبت وذلك لإحساس الحيتان أنها لا تصاد في هذا اليوم ؛ فكانت بذلك تظهر بكثرة رافعة رؤوسها لكنهم يوم لا يدخلون في السبت ولا ينقطعون عن العمل في سائر الأيام الأخرى لا يأتيهم حيتانهم.
قوله :﴿ كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك البلاء العظيم نبلوهم بسبب فسقهم، وهو خروجهم عن طاعة الله.
والابتلاء معناه الامتحان والاختبار ؛ فقد امتحن الله بني إسرائيل امتحانا لم يفلحوا فيه بل هووا وسقطوا في الامتحان تحت وطأة شهواتهم التي غلبت على طبائعهم وقلوبهم، وطغت عليهم طغيانا، كشأنهم في كل الأحوال والظروف والأزمان. امتحنهم الله بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في يوم السبت وإخفائه عنهم في الأيام الأخرى التي أحل الله لهم فيها صيدها.
وقيل في قصص هذه الآية : إن إبليس أوحي إليهم إنما نهيتم عن أخذ الحيتان يوم السبت فاتخذوا لها الحياض. فكانوا يسوقون الحيتان إلى الحياض يوم الجمعة فتبقي فيها فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد. وذلك ضرب من التمويه والخداع الذي يحتال به المريبون في خيانة مكشوفة وتلصص مفضوح على تعاليم الله الواضحة ؛ هربا من التلبس بالحق والاستقامة. وطمعا في مكسب خسيس رخيص٥.
٢ مختار الصحاح ص ٤١٩..
٣ المعجم الوسط جـ ١ ص ٤١٢ والمصباح المنير جـ ١ ص ٢٨١..
٤ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٢٧٦..
٥ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٦٢ وتفسر القرطبي جـ ٧ ص ٣٠٤- ٣٠٦..
٢ مختار الصحاح ص ٦٨..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ص ٣٧٦..
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٣٣..
٣ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٦٦- ٦٩ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٥٧- ٢٥٩ والكشاف جـ ٢ ص ١٢٦..
قوله :﴿ إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ أي إن ربك يا محمد سريع عقابه إلى من يستحق العقوبة من الكافرين والظالمين والعصاة، الذين يتجبرون في الأرض ويعيثون في الدنيا الفساد ويشيعون الظلم والمصائب والنوائب بين العباد. إن الله منتقم من هؤلاء لا محالة، فمجازيهم الجزاء الألم المواجع في هذه الدنيا. والله لكل العتاة والمجرمين والخائنين والمتربصين بالمرصاد ؛ فهو آخذهم بالعذاب البئيس على غرة من حيث لا يحتسبون. وفي المقابل فإن الله ساتر لدنوب التائبين والنادمين وزلاتهم، عظيم الصفح عن خطايا المنيبين إليه وعن معاصيهم٣.
٢ مولولا: من الولوال، وهو الدعاء بالويل. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ١٠٥٧..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٥٩ والكشاف جأ ٢ ص ١٢٧ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ٧٠ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٦٠..
والمراد بنو إسرائيل ؛ فقد قطع الله شملهم، وأذهب وحدتهم، وبدد شوكتهم، وجعلهم في الأرض جماعات متفرقين شتى حتى ما يكون من بقعة في الأرض إلا دخله قوم من اليهود في الغالب. وتلك ظاهرة خاصة ببني إسرائيل لم تشاركهم فيها أمة من الأمم. وفي ذلك من الدلالة الظاهرة ما يقطع بصدق كلمات الله في تفريق بني إسرائيل في الأرض أشتاتا نكالا من الله. بما عصوا وعتوا عن أمر بهم وعاثوا في البلاد فسادا وفتنة.
قوله :﴿ منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ﴾ أي أن من بني إسرائيل الصاحين ؛ وهم الذين يؤمنون بالله ورسوله، وهم الذين يؤمنون بالله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله ؛ فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم قلة. وهؤلاء هم مسلمة أهل الكتاب. ﴿ ومنهم دون ذلك ﴾ دون منصوب على الظرف١ ؛ أي الكافرون منهم الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآذوا كثيرا من النبيين من قبله. وهؤلاء هم الأكثرون. قوله :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ أي اختبرنا بني إسرائيل بالحسنات، كالرخاء والسعة وبسط الرزق والتمتع الراغد، واختبرناهم بالمصائب والرزايا في الأنفس والأموال والثمرات لعلهم ينزجرون ويثوبون إلى ربهم وينيبون إليه بالطاعة والامتثال والكف عن الجحود والعصيان والإفساد في الأرض.
قوله :﴿ وإن يأتيهم عرض مثله يأخذه ﴾ العرض، بسكون الراء، معناه المتاع، وكل شيء سوى الدراهم والدنانير. يقال : أخذت في هذه السلعة عرضا : أعطيت في مقابلها سلعة أخرى. والعرض بفتحتين : متاع الدنيا قل أو كثر٢، وتأويل الآية : أن هؤلاء القوم إذا أمكنهم أن يأخذوا من عرض الدنيا مما فيها من السحت وخبيث المكاسب أخذوه من غير تروع ولا تردد ولا رهبة من الله. فهم لاغترارهم وسفاهتهم يظنون أنهم مغفور لهم مما علموا. ويقول بعض المفسرين إن حال اليهود هذه من حيث تلبسهم بالشهوات وفرط إقبالهم على المال ومتاع الحياة الدنيا تنسحب على بعض المسلمين الذين يتقاحمون بإلحاح غليظ ومسف من أجل اكتساب المال بكل الطرق والأسباب. وأجد أن في هذا التشبيه نظرا. لأن الطامعين الجشعين من المسلمين الذين يغالون في حب المال، ويبالغون في كسبه وتحصيه بكل الأساليب يعلمون أنهم آثمون ولا يحملون في أذهانهم مسبقا أنهم مغفور لهم مهما فعلوا، كبني إسرائيل والفرق بين الصنفين عظيم.
قوله :﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ﴾ يقول الله موبخا هؤلاء الناهمين البطرين الذي يزعمون أنهم مغفور لهم مهما عملوا من السيئات واكتساب الحرام –يقول لهم : ألم يأخذ الله عليهم العهود بأن يقيموا التوراة وأن يعملوا بما فيها، وأن لا يقولوا على الله إلا الحق ولا يغيروا ما أنزل على نبيهم موسى في التوراة أو يحرفوا فيها أيما تحريف ؛ فقد ورثوا الكتاب ﴿ ودرسوا ما فيه ﴾ أي أقروا التوراة وعرفوا ما فيها من الأحكام والتعاليم لكنهم ضيعوا كتاب الله وتركوا العمل بمقتضاه وخالفوا ما أخذ الله عليهم من العهود بالتصديق والاستقامة والتزام ما شرعه الله التزاما صحيحا لا محرفا ولا منقوصا.
قوله :﴿ والدار الآخرة خير للذين يتقوت أفلا تعقلون ﴾ ذلك تذكير صادع بما هو خير وأبقى. وتلكم هي الدار الآخرة ؛ لا جرم أن النجاة فيها رأس كل كسب وفلاح. وهي خير مما يجمعه الناس في حياتهم من وجوه الكسب والثراء، ورفيع المكانة والدرجات. إن ذلك كله حطام داثر ؛ لأنه إلى الفناء والخراب صائر ؛ فهو ليس إلا السراب واليباب الذي يؤول لا محالة إلى الزوال المحقق والغياب الذي لا يرجى من بعده مرد ولا إياب ﴿ أفلا تعقلون ﴾ الاستفهام للتوبيخ ومفاده : أفلا يعلم هؤلاء الذين يأخذون عرض الدنيا الفنية بغير حق ولا عدل ويزعمون أنهم مغفور لهم –أن ما عند الله في الدار الآخرة خير لهم مما جمعوه من السحت والحرام ؟ !
٢ المعحم الوسيط جـ ٢ ص ٥٩٤..
ومن أجل هذا التهديد الماثل، وبهذا التخويف الذي أطار قلوب بني إسرائيل، وخارت منه عزائمهم، استجابوا طائعين مبادرين لا ينثنون ولا يتوانون. وفي ذلك درس نافع لمن يبتغي الوقوف على طبيعة يهود. فهم القوم الذين لا تلين طبائعهم لصوت الحجة والمنطق ولا يذعنون لنداءات الشرائع السماوية من توراة وغيرها. لا يصيحون لشيء من ذلك كله. إنما ينزجرون أو يرجون القهقري إذا أحاطت بهم ظواهر التهديد المرعب المنظور.
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٠٠..
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ).
أما كيف أخذ الله ذرية بني آدم من ظهورهم ؛ فهو موضع تفصيل كبير نقتضب منه ما قاله كثير من أهل العلم ومنهم الرازي والزمخشري، وهو أن الله أخرجهم من أصلاب آبائهم ذرية. وكيفية ذلك : أنهم كانوا نطفة فأخرجهم الله تعالى في أرحام الأمهات، ثم جعلها علقة، ثم مضغة، ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه. وبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن ثمة قول منطوق باللسان. وذلك مقتضى قوله سبحانه وتعالى :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾.
وسئل ابن عباس عن تأويل هذه الآية فقال : لما خلق الله آدم عليه السلام أخذ ميثاقه فمسح ظهره فاخذ ذريته كهيئة الذر فكتب أجالهم وأرزقهم ومصائبهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى٤.
قوله :﴿ أن تقولوا القيامة غنا كنا عن هذا غافلين ﴾ ﴿ أن تقولوا ﴾، في موضع نصب مفعول له ؛ أي فعلنا ذلك، من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول، كراهة أن تقولوا، أو لئلا يقولوا٥. أي خلقكم الله على الفطرة والتوحيد وجعل فيكم كامل الاستعداد للإيمان بالله ثم أشهدكم على أنه خالقكم ومالككم ومعبودكم دون غيره فشهدتم ؛ إذ كنتم على الفطرة صادقين. غير مضللين ولا منحرفين. وذلك لئلا تقولوا يوم القيامة :﴿ إنا كنا عن هذا غافلين ﴾ أي كنا غافلين عن وحدانية ربنا فضللنا
٢ الجمعاء: الناقة الهرمة. وهي من البهائم: التي لم يذهب من بدنها شيء. انظر القاموس المحيط جـ ٣ ص ١٥..
٣ الجدعاء: مقطوعة الأنف. انظر المعجم الوسيط جـ ١ص ١١٠..
٤ تفسير الرازي جـ ٥ ص ٥٣ والكشاف جـ ٢ ص ١٢٩ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ٧٦..
٥ تقسير النسفي جـ ٢ص ٨٥ والبيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٩..
ورد عن ابن عباس وغيره من المفسرين في سبب نزول هذه الآية وهو بلعم بن باعورا، رجل من بني إسرائيل، وكان يعلم اسم الله الأعظم. فلما نزل بهم موسى عليه السلام أتاه بنوعمه وقومه وقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه.
قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله بما كان عليه. فذلك قوله :﴿ فانسلخ منها ﴾ ١ الانسلاخ معناه الخروج. يقال : انسلخت الحية من جلدها ؛ أي خرجت منه. والمعنى : أنه انسلخ من معرفة الله ومما أوتيه من العلم كما تنسلخ الشاة عن جلدها ﴿ فأتبعه الشيطان ﴾ أي لحقه الشيطان فأدركه عقب الانسلاخ من آيات الله فصار قرينا له فأتبعه خطواته ﴿ فكان من الغاوين ﴾ أي الضلعين في الغواية والضلالة والفسق.
وذلك هو مصير كل من يؤتي حظا من حظوظ العلم والهداية والمعرفة بجلال الله فصدق واستقام ثم انسلخ مما أوتيه من فضيلة العلم والهداية فانقلب على وجهه وقد خسر الدنيا والآخرة وذلك بتأثير الشيطان الذي سول له التحول عن الحق، والانسلاخ عن طريق الله ومنهجه فسلك سبيل الشياطين والضالين المضلين فكان من الهالكين الخاسرين والعياذ بالله.
وقوله :﴿ واتبع هواه ﴾ وهو الضلال والفسق عن أمر الله نزوعا للدنيا وما فيها من خسائس ومغريات موبقات، أو كان هواه مع القوم الظالمين الذين حرضوه على الإخلاد للأرض والزيغ عن عقيدة التوحيد ركونا للهوى والأموال والشهوات.
قوله :﴿ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ﴾ يلهث من اللهاث بالضم ؛ وهو حر العطش في الجوف. يقال : هو يقاسي لهاث الموت ؛ أي شدته. لهث الكلب لهثا ولهاثا : أخرج لسانه من حر أو عطش٢. ذلك مثل ضربه الله للذي ضل وغوى وخرج عن ملة الإسلام بعد أن آتاه الله آياته فانسلخ منها. فهو أشبه ما يكون بالكلب الذي دأبه اللهاث ؛ فهو يلهث إذا طردته، ويلهث إذا تركته.
قال القتبي في هذا الصدد : كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب ؛ فغنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال المرض، وحال الصحة، وحال الري، وحال العطش. فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال : إن وعظته ضل، وإن تركته ضل ؛ فهو كالكلب إن تركته لهث، وإن طردته لهث، وقيل في تأويل الآية : إنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإذا تركته شد عليك ونبح فيتعب نفسه مقبلا عليك ؛ ودبرا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان.
وتلك هي حال الذي انسلخ من آيات الله وفسق عن دينه بعد علم به وهداية ؛ فإنه صار بذلك من غير فؤاد. أو أن فؤاده بات غليظا أجوف لا مكان فيه للإيمان أو اليقين ؛ فهو سواء وعظ أو لم يوعظ، لم يأت بخير ؛ لأن قلبه خال من الخير ولا يستسيغه ؛ فهو بذلك ضال مجانب لدين الله. لا تجدي معه النصائح والمواعظ، ولا تعطف قلبه النواهي والزاجر، ولا يؤثر فيه الترغيب والترهيب ليثنيه عن فعل المعاصي والموبقات. فمثله في ذلك مثل الكلب اللاهث تماما ؛ إذ يلهث في كل الأحوال. فما أروع هذا التعبير، وما أكمل هذا التصوير الذي لا يصدر بهذا الجمال والرصانة وقوة التأثير إلا عن حكيم خبير !
وقوله :﴿ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ﴾ أي أقصص على المشركين واليهود هذه الأخبار عن نقم الله وما أنزله بالمجرمين المضلين من العقوبات والمثلاث. وكذا قص عليهم خبر أي انسلخ من آيات الله ثم ركن إلى الدنيا والشهوات فانتقم الله منه وهو من جنسهم –أي اليهود- أقصص عليهم هذه الأخبار لعلهم يرجعون إلى عقولهم فيفهمون وينزجرون عن الباطل والضلال.
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٤١..
وقيل : ارتفع ؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف كقولهم : بئس رجلا زيد١، وساء بمعنى قبح. وساءه يسوءه مساءة، متعد. وهو من أفعال الذم كبئس. والمعنى : قبح مثل هؤلاء المجرمين ؛ إذ شبهوا بالكلاب اللاهثة، وذلك لموت قلوبهم وفساد فطرتهم وتيه عقولهم ؛ فما يعبأون في حياتهم بشيء سوى الشهوات والملذات والخنوع للغرائز ؛ فهم بذلك سادرون في الفسق والضلالة، مكذبون بآياته، ظالمون لأنفسهم أيما ظلم٢.
٢ الكشاف جـ ٢ ص ١٣٠ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٦٤- ٢٦٧..
وأساس المسألة هنا أن الإنسان كائن مميز باستعداده المزدوج لكلا الهدى والضلال ؛ فقد أودع الله فيه القدرة والاستعداد لفعل كل من الخير والشر. يضاف إلى ذلك كله علقه الذي يميز الحق من الباطل. وكذلك فطرته التي بنيت على التوحيد أو الإيمان بالله وحده ؛ فغنه في ضوء ذلك كله يجد الإنسان نفسه في إحدى السبيلين وهما سبيل المؤمنين وسيبل المجرمين الخاسرين وكل منها يحيط به قدر الله ومشيئته بالهداية والإضلال. فلا يهتدي أو يضل ضال من غير أن يكون في فلك المشيئة الإلهية١.
٢ الكشاف جـ ٢ ص ١٣١ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ٦٢- ٦٨..
وأسماء الله الحسنى تسعة وتسعون اسما ؛ فقد أخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن لله تعسا وتسعين اسما، مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر ) وأخرجه الترمذي بسنده وزاد بعد قوله ( يحب الوتر ) :( هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور ).
على أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تعسة وتسعين. بدليل ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي ؛ إلا أذهب الله حزنه وهمه، و أبدل مكانه فرحا ).
وذكر الفقيه المالكي أبو بكر بن العربي في كتابه الأحوذي في شرح الترمذي أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم.
وجاء في صحيح مسلم ( الطيب ) وخرج الترمذي ( النظيف ) وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه :( رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي ) وعلى هذا جائز أن يقال : يا خير الماكرين امكر لي ولا تمكر علي، والله تعالى أعلم.
قوله :﴿ فادعوا بها ﴾ أي سموه بتلك الأسماء. أو أطلبوا منه بأسمائه فيطلب بكل اسم ما يليق به فتقول : يا رحيم ارحمنا. ويا حكيم احكم لنا : ويا رازق ارزقنا. ويا هادي اهدنا. ويا فتاح افتح لنا. ويا تواب تب علينا وهكذا.
قوله :﴿ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ﴾ يلحدون من الإيحاد. والأصل فيه العدول عن القصد والميل فيه والجور والانحرف. لحد في دين الله ؛ أي عدل عنه وحاد١ والمعنى المقصود هنا : اتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب في أسماء الله فيسمونه بغير الأسماء الحسنى كأن يشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. أو كما يسميه بعض الجهلة ؛ إذ يقولون : يا أبا المكارم. يا أبيض الوجه. يا سخي٢.
٢ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٩١ والكشاف جـ ٢ ص ١٣٢ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٦٩ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٣٢٨..
وقيل : المراد بذلك العلماء الذين يدعون إلى دين الله والأخذ بشريعته ومنهجه في كل زمان أو مكان. فيستدل من ذلك على هذا المعنى، أن الذين لا تخلو في زمن من الأزمان من دعاة يدعون إلى الحق١.
٢ مختار الصحاح ص ٦٥٣ والمعج الوسيط جـ ٢ ص ٩١٢..
قوله :﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾ أي بأي حديث أحق وأصدق من هذا القرآن يريدون أن يؤمنوا ؟ ! هل من حديث أكرم وأطيب وأعظم وأطهر من كتاب الله الحكيم فيؤمنوا به ويصدقوه ؟ ! إنه ليس في الكلام أيما كلام البتة خير وأصدق وأروع من القرآن. هذا الكلام الكريم المعجز الذي لا يضاهيه كلام ولا يدانيه خطاب، لا في روعة الجرس، ولا في جمال الأسلوب والصورة، ولا في حلاوة الإيقاع والنغم، ولا في رصانة الكلمات والعبارات، ولا في كمال المضامين والمعاني. فإذا لم يؤمن هؤلاء الجاحدون العصاة بهذا الكلام الرباني الفذ، فبأي كلام بعد ذلك يؤمنون ؟ !.
جاء في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس قال : قال : حمل بن أبي قشير وشموال بن زيد من اليهود : يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا فإنا نعلم متى هي، فأنزل الله هذه الآية. قال قتادة : فقالت قريش لمحمد : إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ يسألونك عن الساعة ﴾ ١.
الكاف، في ﴿ يسألونك ﴾ في موضع مفعول به أول. و ﴿ عن الساعة ﴾، في موضع نصب مفعول به ثان. و ﴿ أيان مرساها ﴾، مبتدأ وخبر. ﴿ مرساها ﴾، مبتدأ و ﴿ أيان ﴾، خبره٢. لقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين عن الساعة وذلك من باب الإحراج والتحدي والمكابرة إذ قالوا له ﴿ أيان مرساها ﴾ أي متى مثبتها ووقوعها. و ﴿ مرساها ﴾ بمعنى قيامها. من قول القائل : أرساها الله فهي مرساة. وأرساها القوم إذا حبسوها. ورست ترسو رسوا. فأجابهم أنها علمها مما استأثر الله به في علم الغيب عنده ولم يوقف عليه أحدا ﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو ﴾ أي لا يظهرها في وقتها إلا هو سبحانه.
قوله :﴿ ثقلت في السموات والأرض ﴾ أي ثقل علم الساعة على أهل السموات والأرض ؛ فقد عز عليهم أن يعرفوا وقتها ومجيئها لخفائها عنهم واستئثار الله بعلمها، وبذلك لا يعرف متى تقوم الساعة لا نبي مرسل ولا ملك مقرب. وقيل : ثقلت بمعنى كبرت، فلا تطيقها السموات والأرض. ذلك أن الساعة إذا جاءت انشقت السماء، وانكدرت النجوم، وانتثرت الكواكب، وكورت الشمس، وسيرت الجبال. لا جرم أن ذلك هائل ومخوف ومزلزل، وفيه من الثقل على أهل السموات والأرض ما يخلع القلوب خلعا. وكذلك فإن الساعة إنما تأتي فجأة من حيث لا يشعر بها أحد فهي تبغت بقيامها الناس إذ تأتيهم على غفلة وفي الخبر :( إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه. وذلك تأويل قوله :{ لا تأتيكم إلا بغتة ) وبغتة، منصوب على المصدر في موضع الحال٣.
قوله :﴿ يسألونك كأنك حفي عنها ﴾ الحفي، معناه العالم المستقصي، الملح في السؤال٤ ؛ أي يسألك المشركون عن الساعة يا محمد، كأنك عالم بها كثير السؤال عنها. وقيل : يسألونك عنها كأنك صديق بهم أو قريب منهم وتخفي عليهم، أو كأنك حفي بهم ؛ أي كأنك فرح ومسرور بسؤالهم. نقول : احتفى به : بالغ في إكرامه وأكثر السؤال عن حاله ؛ فهو حاف وحفي. وحفا الله به حفوا، أكرمه. والحفاوة، الإلحاح٥.
قوله :﴿ قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أي أبلغهم يا محمد مبينا لهم بجلاء ووضوح أن علم الساعة خفي عن العالمين وقد استأثر الله به ولا علم لأحد في المخاليق بالساعة أو متى تقوم ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أي أكثر الناس لا يعلمون أن الله وحده مستأثر بعلم الساعة، وأن الخلق جميعا لا يدرون متى تفجأهم.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٠..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨١..
٤ المعجم الوسيط جـ ١ص ١٨٦ والقاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٢٠..
٥ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٢٠..
قوله :﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ﴾ إنني لا علم لي بالغيب، ولو كنت أعلمه، فأعلم ما هو كائن وما ليس بكائن لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير والمنافع واجتناب المضار والمكاره كيلا يمسني منها شيء، فلا أكون –مثلا- غالبا في الحرب مرة، ومغلوبا مرة أخرى، ورابحا في التجارات مرة، وخاسرا مرة أخرى، ومصيبا في التدبير مرة، ومخطئا مرة أخرى. بل لكنت دائما غالبا ورابحا ومصيبا.
بمثل هذه الصراحة الكاملة وهذا الوضوح التام يأمر الله رسوله الكريم بمخاطبة قومه. خطاب لهم ظاهر ومستبين لا لبس فيه ولا إشكال. خطاب فيه من طهر الغاية والمقصود واستقامة المنهج والأسلوب ووضوح المعنى وكماله ما يزجي بأبلغ برهان على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. لا جرم أن هذه واحدة من الدلائل البلجة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مبعوث من عند الله أرسله للعالمين هاديا ومنيرا.
قوله :﴿ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾ أي ليس من شأني أن أعلم الغيب بل، إني لست إلا رسولا من عند الله أرسلني إليكم لأنذر عقابه من عصاه منكم وخالف أمره، وأبشر بثوابه وجزائه من آمن به وأطاعه واتقاه، على أن المنتفعين ببشارة الرسول صلى الله عليه وسلم ونذارته هم المؤمنون الذين يستقينون بحقية ما جاءهم به من عند الله. ومن أجل ذلك خص المؤمنين هنا بالذكر١.
قوله :﴿ فلما أثقلت دعوا الله لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ﴾ صالحا، منصوب ؛ لأنه صفة للمفعول به الثاني المحذوف. والتقدير : ابنا صالحا. والمفعول به الأول الضمير ( نا ) في قوله ﴿ آتيتنا ﴾ ٢ أي لما صارت حواء ذات ثقل، إذ كبر الجنين في بطنها واقتربت ولادته نادى آدم وحواء ربهما قائلين : يا ربنا ﴿ لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ﴾ والمراد بالصلاح هنا : أن يكون المولود بشرا سويا وليس غيره كبهيمة أو شيئا غير الإنسان. وقيل : الصلاح في استواء الخلق. وقيل : الصلاح في الدين. وقيل : في العقل والتدبير. أو الصلاح في عموم ذلك كله ؛ فقد أقسما ﴿ لئن آتيتنا صالحا ﴾ بكل معاني الصلاح ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ أي ممن يشكرك على خير ما مننت به علينا من الولد السوي الصالح.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨١..
الاستفهام للتوبيخ والتعنيف من الله للمشركين السفهاء الذين يعبدون من دون الله ما لا يخلق شيئا. فهم بسفههم وضلالهم يعبدون الحجر والمدر والبقر. وكذلك يعبدون الطواغيت من البشر. الطواغيت من العتاة الظالمين المفسدين في الأرض، الذين استخفوا العوام م الرعاع و الأنذال و الدهماء من الناس فعبدوهم من دون الله أو أشركوهم في العبادة والخضوع والاستكانة مع الله. لا جرم أن ذلك سفه عظيم وظلم فادح. فهؤلاء المعبودون من دون الله ليسوا غير مخلوقين قاصرين من بين خلائق الله الكثيرين وهم
قوله :﴿ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾ أي دعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سيان ؛ فهم لا يعون ولا يبصرون ولا يستجيبون بل إنهم عمي وصم. وقيل : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وضمير النصب للكفار ؛ أي إن تدعوا هؤلاء المشركين الضالين على الهدى لا يقبلوا منكم دعاءكم، فدعاؤكم وصمتكم سيان، أي مثلان١.
إن لكم السفه بالغ، والحماقة المسفة المغالية التي تنحدر بالتعساء السخفاء إلى سحيق العمه والخبل ! ! كيف بكم وأنتم السامعون المبصرون الناطقون الواعون أن تذعنوا بالخضوع والعبادة لهؤلاء المخاليق وهم ليسوا إلا تماثيل مصفوفة لا تعي ولا تتحرك ؛ إذ ليس لهم أرجل يمشون بها، ولا أيد يبطشون بها، ولا أعين يبصرون، بها ولا آذان يسمعون بها، فكيف يليق بكم وأنتم الواعون المبصرون العقلاء أن تدنوا لهم بالاستكانة والتذلل. وذلك تأويل قوله :﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أن لهم آذان يسمعون بها ﴾.
قوله :﴿ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ﴾ كيدون، من الكيد، وهو المكر والخبث١. أمر الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتحدى المشركين بدعوة شركائهم الأصنام ليكيدوا له جميعا بما شاءوا من وجوه الكيد وهو الخبث والخداع ﴿ فلا تنظرون ﴾ أي لا تمهلون في الكيد لي، ولا تؤخروا عني إنزال الضرر بي بسبب أصنامكم وشركائكم. وذلك أقصى درجات التحدي لهم والتعجيز لأصنامهم بما يكشف في وضوح عن فساد تصورهم وبطلان ما يعتقدون. وإن يعتقدون إلا الضلال والباطل والسفه٢.
٢ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٧٨ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٢٢..
إن لكم السفه بالغ، والحماقة المسفة المغالية التي تنحدر بالتعساء السخفاء إلى سحيق العمه والخبل ! ! كيف بكم وأنتم السامعون المبصرون الناطقون الواعون أن تذعنوا بالخضوع والعبادة لهؤلاء المخاليق وهم ليسوا إلا تماثيل مصفوفة لا تعي ولا تتحرك ؛ إذ ليس لهم أرجل يمشون بها، ولا أيد يبطشون بها، ولا أعين يبصرون، بها ولا آذان يسمعون بها، فكيف يليق بكم وأنتم الواعون المبصرون العقلاء أن تدنوا لهم بالاستكانة والتذلل. وذلك تأويل قوله :﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أن لهم آذان يسمعون بها ﴾.
قوله :﴿ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ﴾ كيدون، من الكيد، وهو المكر والخبث١. أمر الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتحدى المشركين بدعوة شركائهم الأصنام ليكيدوا له جميعا بما شاءوا من وجوه الكيد وهو الخبث والخداع ﴿ فلا تنظرون ﴾ أي لا تمهلون في الكيد لي، ولا تؤخروا عني إنزال الضرر بي بسبب أصنامكم وشركائكم. وذلك أقصى درجات التحدي لهم والتعجيز لأصنامهم بما يكشف في وضوح عن فساد تصورهم وبطلان ما يعتقدون. وإن يعتقدون إلا الضلال والباطل والسفه٢.
٢ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٧٨ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٢٢..
قوله :﴿ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾ الجملة في محل نصب حال ؛ أي والحال أنك نراهم ينظرون إليك حال كونهم لا يبصرون. والمراد هنا الأصنام ؛ فإنها تشبه الناضرين بما جعلوه لها من الأعين المصنوعة التي لا تبصر فكانت بذلك في هيئة الناظرين، وهي في الحقيقة لا ترى شيئا١.
العفو : المساهلة أو التساهل فيما بينه وبينهم وقبول اليسير منهم وهو الذي يسهل عليهم وأن يترك الاستقصاء عليهم في ذلك. والمعنى : خذ الميسور من أخلاق الرجال ولا تستقص عليهم. وعفو المال ما يفضل عن النفقة١. والمراد هنا العفو في مطالبة الحقوق الواجبة لله تعالى وللناس، وفي معنى ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد :( رحم الله سهل القضاء، سهل الاقتضاء ) ولا ينافي ذلك أن يكون لصاحب الحق والديون وغيرها من الحقوق استيفاء ما له حق وملازمة الغرماء حتى الاستيفاء ؛ لأن ذلك مندوب إليه دون أن يكون وجبا. وقد يكون العفو هنا في قبول العذر من المعتذر وترك المؤاخذة والإساءة. قال عبد الله بن الزبير وجمهور المفسرين في تأويل الآية : اقبل من الناس في أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم بما أتى عفوا دون تكلف ولا تحرج. والعفو ضد الجهد ؛ أي لا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله :( يسروا ولا تعسروا ) وقيل : سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عم قوله :﴿ خذ العفو ﴾ فاخبره عن الله أنه يأمرك ( أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك ). قال ابن عباس وغيره : إن هذه الآية في الأموال قبل فرض الزكاة ؛ إذ أمر أن يأخذ ما سهل من أموال الناس ؛ أي ما فضل وزاد، ثم فرضت الزكاة فنسخت هذه.
وقيل : الآية في مداراة الكفار وعدم مؤاخذتهم ثم نسخ ذلك بالقتال. والراجح القول الأول، وهو أن الله أمر بمكارم الأخلاق، وأن ذلك حكم مستمر في الناس وليس بمنسوخ.
أما العرف فهو المعروف ؛ أي الجميل من الأفعال والأقوال. قال عنه الطوسي : هو كل ما حسن في العقل فعله أو في الشرع ولم يكن منكرا ولا قبيحا عند العقلاء.
قوله :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ أي إذا أقمت الحجة على المشركين وقد أمرتهم بالمعروف فلم يقبلوا، أعرض عنهم ولا تمارهم بعد ذلك أيما مراء، ولا تسافههم في مقابلة ما يصدر عنهم من المرء والسفاهة. وقيل : إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه، كقوله في الآية :﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ﴾ وهو سلام المتاركة ؛ أي الترك ومجانبة السفه والسفهاء.
قال جعفر الصادق : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. وفي هذا الصدد أخرج الترمذي عن عائشة ( رضي الله عنها ) قال :( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفشحا، ولا سخابا٢ في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ؛ لكن يعفو ويصفح ).
وفي الخبر عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وإتمام محاسن الأفعال ).
٢ السخاب، من السخب، بلتحريك بمعنى الصخب. وهو شدة الصوت. ومنه الصخاب. وتصاخبوا؛ أي تصايحوا وتضاربوا. انظر القاموس المحيط ص ١٣٤..
قوله :﴿ هذا بصائر من ربكم ﴾ البصائر جمع بصيرة وهي الحجة والدليل والبرهان الواضح النير. والمراد بالإشارة ﴿ هذا ﴾ القرآن ؛ فإنه الدلائل المشرقة الظاهرة والحجج الساطعة البلجة لمن أراد أن ينتفع أو يهتدي أو يتدبر.
قوله :﴿ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ أي هذا القرآن جاء هداية يهتدي بها من هو جدير بالانتفاع به، والفوز والنجاة بسببه وهم المؤمنون. وهو كذلك رحمة لهم ؛ فهو كله رحمة، سواء فيه الكلمات الباهرة العذاب، أو أسلوبه الشفيف النفاذ، وتصويره الرائع الأخاذ، وكذا مضامينه وما حواه من المعاني والمواعظ والمشاهد والأحكام، كل أولئك يفيض على البشرية بسحائب من الرحمة الغامرة الندية٢.
٢ البحر المحيط جـ ٤ ص ٤٥٠ والتبيان للطوسي جـ ٥ ص ٦٤- ٦٦..
وقيل : كانوا يتكلمون في صلاتهم ويسلم بعضهم على بعض، وإذا دخل داخل وهم في الصلاة قال لهم : كم صليتم ؟ فيخبرونه، وكان ذلك مباحا في أول الأمر ثم نسخ.
وقيل : هذا أمر من الله بالإنصات للإمام إذا قرأ القرآن في خطبته. والقول الأول أقوى ؛ فهو الراجح ؛ لأنه ليس من حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلا حال قراءة الإمام في الصلاة ؛ فإن على المأمور الإنصات لذلك والاستماع له.
أما خارج الصلاة فلا خلاف أنه لا يجب الإنصات والاستماع إلا على وجه الاستحباب.
وقيل : المراد بذكر الله، الدعاء في تخشع وضراعة واستكانة، ويكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء.
قوله :﴿ بالغدو والأصال ﴾ أي اذكر ربك داعيا إياه في الغدوات والأصائل. والغدو، جمع غدوة وهي أول النهار. والآصال جمع أصيل. ويجمع أيضا على أصرن. وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس. والمقصود هو دوام ذكر الله بالدعاء المتذلل المخلص في هذا الوقت. فإن الدعاء فيه سمة الإخلاص والتقوى، وهو أقرب للاستجابة والقبول.
قوله :﴿ ولا تكن من الغافلين ﴾ فإنه لا يفرط في الدعاء، أو يزهد في الإكثار منه، أو الاهتمام به في هذه الأوقات إلا كل غافل قد انشغل قلبه وذهنه في أمور الدنيا وزينتها ؛ فإنه خليق بالمؤمن أن يذكر ربه بالدعاء الخاشع المستديم من غير كلل ولا ملل ؛ لما في الدعاء من عظيم الأجر والمثوبة ؛ فهو مخ العبادة وعلامة كبرى من علامات الإخلاص للعبد المؤمن.
وهذا موضع سجود للقارئ عند الجمهور. والسجود للتلاوة واجب عند الحنفية، ومندوب عند الملائكة والشافعية. أما صفة السجود : فإن القارئ يكبر إذا خفض وإذا رفع. وهو قول الشافعية والحنبلة. والمشهور من مذهب مالك أنه يكبر للسجدة في الخفض والرفع في الصلاة. أما على من يتوجه حكم السجدة ؛ فقد أجمعوا على أنه يتوجه على القارئ في الصلاة أو غير الصلاة. أما السامع ؛ فهو عليه أن يسجد عند أبي حنيفة ؛ ومالك في رواية عنه.
على أن السجود للتلاوة يحتاج إلى الصلاة من طهارة حدث وتجس ونية استقبال قبلة. وأما من حيث الوقت : فإنه يسجد في سائر الأوقات مطلقا ؛ لأنها صلاة لسبب. وهو قول الشافعي وآخرين. وقيل : لا يسجد في الأوقات المنتهي عن الصلاة فيها. وهو قول أبي حنيفة ومالك. وليس لسجدة التلاوة من سلام. وهو قول جمهور أهل العلم. وذهب آخرون إلى أنه يسلم منها٢.
٢ تفسير القرطبي جـ ٧ ص ٣٥٧- ٣٥٩ وبداية المجتهد جـ ١ ص ١٨٨- ١٩٠..