تفسير سورة الأعراف

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

[تفسير] (١) سورة الأعراف
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
١ - ﴿المص﴾ قال أبو إسحاق: (الذي اخترنا (٢) في تفسيرها قول ابن عباس (٣) -رضي الله عنه- (٤): (إن معناها أنا الله أعلم، وأفضل)، وعلى هذا التفسير: هذه الحروف واقعة في موضع جُمل، والجمل (٥) إذا كانت ابتداء وخبرًا فقط لا موضع لها. مثل قولك: أنا الله أعلم. لا موضع لها من الإعراب، إنما يرتفع بعض ذا ببعض؛ فالله يرتفع [بأنا] (٦)، و (أعلم) خبر مستأنف يراد به: وأنا أعلم (٧)، وإذا كان معنى ﴿المص﴾: أنا الله أعلم كان إعرابها كإعراب الشيء الذي هو تأويل لها) (٨).
(١) لفظ: (تفسير) ساقط من (أ).
(٢) في (ب): (أخبرنا)، وهو تصحيف.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١١٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٣٧، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ١/ ٢٣٢ عن ابن عباس قال: (أنا الله أفصل) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٢٥. وفي سنده عطاء بن السائب الثقفي، صدوق اختلط فساء حفظه - انظر "تهذيب التهذيب" ٣/ ١٠٣. والراجح أن الحروف المقطعة في أوائل السور حروف هجائية. ذكرت للدلالة على إعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف التي يتخاطبون بها ليكون عجزهم أبلغ في "الحجة" عليهم وهذا اختيار جماعة من المحققين انظر: "الكشاف" ١/ ٧٦، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٢٢٤، والشوكاني ٢/ ٢٧٣، والشنقيطي ٣/ ٣ - ٧.
(٤) في (أ): (رحمه الله).
(٥) في (أ): و (الجملة).
(٦) في (ب): (يرتفع أنا).
(٧) لفظ: (الواو) ساقط من (ب)، ويريد أن قوله: "أعلم خبر بعد خبر". انظر "تفسير الرازي" ١٤/ ١٤، حيث نقل قول الواحدي.
(٨) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٣ - ٣١٤
٢ - قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾، أجمع النحويون: على أن الكتاب مرفوع بمضمر قبله، المعنى: هذا ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ (١).
وأجاز الفراء أن يكون موضع هذه الحروف المعجمة رفعًا بما بعدها، و ﴿كِتَابٌ﴾ مرتفع بها كالمبتدأ والخبر، والمعنى: ﴿المص﴾ حروف ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾، وأطال الكلام في بيان هذا (٢)، ثم أنكر الزجاج (٣) عليه هذا القول، وطال الخطب بينهما، وإذا رجعت إلى كتابيهما عرفت ما أقول.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ [الأعراف: ٢].
قال ابن عباس (٤) وأبو العالية: (ضيق) (٥).
قال أبو إسحاق:
(معناه: لا يضيق صدرك بالإبلاغ ولا تخافن؛ وذلك أنه يروى عن النبي - ﷺ - أنه قال: "أي رب إني أخاف أن يثلغوا (٦) رأسي" (٧)، فأعلم الله عز وجل
(١) هذا نص كلام الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣١٤، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٣ "إعراب النحاس" ١/ ٩٨، "المشكل" ١/ ٢٨١.
(٢) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٦٩ - ٣٧٠.
(٣) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢١٣ - ٢١٤ "إعراب النحاس" ١/ ٥٩٨.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٦، وأخرج ابن حسنون في "اللغات" ص ٢٣ - ٢٥، والوزان ٣ ب عن ابن عباس قال: (حرج: ضيق بلغة قيس عيلان، وشك بلغة قريش).
(٥) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٧ ب، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢١٣.
(٦) في (ب): (تبلغوا)، وهو تحريف - والثلغ: الشدخ وضرب الشيء الرطب بالشيء اليابس حتى ينشدخ. انظر "النهاية" ١/ ٢٢٠.
(٧) هذا طرف من حديث طويل أخرجه أحمد في "المسند" ٤/ ١٦٢، ومسلم في "صحيحه" رقم (٢٨٦٥) عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله (قال =
8
أنه في أمان منهم، فقال: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ أي: فلا يضيقن صدرك من تأدية ما أرسلت به) (١).
وقال الفراء: (لا يضيق صدرك بالقرآن بأن يكذبوك) (٢). وقال مجاهد (٣) ومقاتل (٤): (فلا يكن في قلبك شك (٥) في القرآن أنه من الله).
وقال أبو إسحاق: (وتأويل هذا، وقوله: ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [البقرة: ١٤٧]، وقوله: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ﴾ الآية [يونس: ٩٤] أن ما خوطب به النبي - ﷺ - فهو خطاب لأمته فكأنه بمنزلة: فلا تشكوا ولا ترتابوا) (٦).
قال ابن قتيبة: (وأصل الحرج الضيق، والشك في الشيء يضيق صدره؛ لأنه لا يعلم حقيقته فسمي الشك حرجا) (٧) وأما اشتقاق هذا الحرف فقد ذكرناه في سورة الأنعام [١٢٥].
= ذات يوم في خطبته: "إن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة.. ". الحديث. ومعنى يثلغوا رأسي، أي: يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز أي: يكسر. أفاده الإِمام النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" ١٧/ ٢٨٩.
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٥، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٧ - ٨
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٧٠.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٣١، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١١٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٣٨ بسند جيد.
(٤) "تفسير مقاتل" ٢/ ٢٩.
(٥) في (أ): (شيء)، وهو تحريف.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٥، ومثله في "معاني النحاس" ٢/ ٧ - ٨ والراجح أن المراد بالحرج في الآية الضيق لأن ذلك هو الغالب من معناه في كلام العرب وهو اختيار أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢١٠، والطبري في "تفسيره" ٨/ ١١٦، وابن عطية ٥/ ٤٢٣، وأبي حيان في "البحر" ٤/ ٢٦٦.
(٧) "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٦.
9
وقوله: ﴿لِتُنْذِرَ بِهِ﴾. قال الفراء: (اللام في ﴿لِتُنْذِرَ﴾ متعلق بقوله ﴿أُنْزِلَ﴾ على التقديم والتأخير، على تقدير ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ لتنذر به ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾) (١).
وقال ابن الأنباري: (ويجوز أن تكون اللام صلة للكون (٢) على معنى: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ﴾ شيء (٣) ﴿لِتُنْذِرَ بِهِ﴾، كما يقول الرجل من العرب للرجل: لا تكن ظالما ليقضي (٤) صاحبك دينه، فتحمل (٥) لام كي على الكون) (٦).
قال صاحب النظم (٧): (وفيه وجه آخر: وهو أن تكون (٨) اللام بمعنى أن، والمعنى (٩): لا يضيق صدرك ولا يضعف عن أن تنذر به، والعرب تضع هذه اللام في موضع (أن) كقوله تعالى ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا﴾ [التوبة:
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٧٠، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٥، و"تفسير الطبري" ٨/ ١١٧، و"معاني النحاس" ٣/ ٨.
(٢) في (ب): (ليكون).
(٣) في (ب): (شك).
(٤) في (أ): (لتقضى) بالتاء.
(٥) في (أ): (فيحمل) بالياء.
(٦) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ١٦، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٦٦، ونقله السمين في "الدر" ٥/ ٢٤٢ - ٢٤٣ عن الواحدي عن ابن الأنباري، وانظر: كلام ابن الأنباري على مادة حرج في "الزاهر" ١/ ٢٣٦، و"المذكر والمؤنث" ١/ ٢٥٨، و"شرح القصائد" ص ٣٢١، ص ٥٨٠، و"إيضاح الوقف والابتداء" ٢/ ٦٥٠.
(٧) صاحب "النظم"، أبو علي الحسن بن يحيى الجرجاني. تقدمت ترجمته، وكتابه "نظم القرآن" مفقود.
(٨) في (أ): (يكون) بالباء.
(٩) في (ب): (فالمعنى).
10
٣٢] وفي موضع آخر ﴿لِيُطْفِئُوا﴾ [الصف: ٨]، وهما جميعا بمعنى واحد) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: ومواعظ للمصدقين) (٢). قال الزجاج: (هو اسم في موضع المصدر وفيه ألف التأنيث بمنزلة دعوت دعوى، ورجعت رجعى، واتقيت تقوى) (٣).
وقال الليث: (الذكرى اسم للتذكرة) (٤) والتفعلة مصدر كالتفعيل نحو قوله تعالى ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى﴾ [ق: ٨].
وأما محل ﴿ذِكْرَى﴾ من الإعراب، فقال الفراء: (يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: ﴿لِتُنْذِرَ بِهِ﴾ وتذكر، قال: ويجوز أن يكون رفعًا بالرد على الكتاب كأنك قلت: كتاب حق وذكرى (٥).
(١) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ١٦، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٦٦، ونقله السمين في "الدر" ٥/ ٢٤٢ - ٢٤٤، وقال: (هذا قول ساقط جدًّا؛ كيف يكون حرف يختص بالأفعال يقع موقع آخر مختص بالأسماء. ونقل الشيخ أبو حيان في "البحر" عن ابن الأنباري وصاحب النظم: أن اللام متعلقة بما تعلق به خبر الكون إذ التقدير: فلا يكن حرج مستقرًا في صدرك لأجل الإنذار، والذي نقله الواحدي عن نص ابن الأنباري في ذلك أن اللام متعلقة بالكون وعن صاحب النظم أن اللام بمعنى أن، فيجوز أن يكون لهما كلامان) اهـ. ملخصًا. وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٩٩، و"البيان" ١/ ٣٥٣، و"التبيان" ص ٣٦٧، و"الفريد" ٢/ ٢٦٦.
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ١٧، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٦ بدون نسبة. وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٨٠ نحوه.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٦.
(٤) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٨٦، وانظر: "العين" ٥/ ٣٤٦، وأصل الذكر بالكسر حفظ الشيء وجرى الشيء على اللسان، والذكر والذكرى بالكسر ضد النسيان، انظر: "الجمهرة" ٢/ ٦٩٤، و"الصحاح" ٢/ ٦٦٤، و"المجمل" ٢/ ٣٦٠، و"المفردات" ص ٣٢٨، و"اللسان" ٣/ ١٥٠٧. (ذكر).
(٥) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٧٠.
11
وقال الزجاج: (ويجوز على أن يكون وهو ﴿ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، قآل: ويجوز أن يكون خفضًا؛ لأن معنى ﴿لِتُنْذِرَ﴾: لأن تنذر فهو في موضع خفض؛ لأن المعنى للإنذار والذكرى) (١).
٣ - وقوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾. قال الحسن: (يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد - ﷺ - (٢)؛ والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيما أنزلت وما معناها) (٣). ونحو هذا قال الزجاج: (أي: اتبعوا القرآن وما أتى به النبي - ﷺ - فإنه مما أنزل عليه؛ لقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٤) [الحشر: ٧].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: لا تتخذوا غيره أولياء، ﴿قَلِيلًا﴾ يا معشر المشركين ﴿مَا تَذَكَّرُونَ﴾ يريد: ما تتعظون) (٥). وهذا من قول ابن عباس يدل على أن الآية خطاب
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٥ - ٣١٦، وعلى هذا فيه ثلاثة أوجه: الرفع: عطفًا على كتاب أو على إضمار مبتدأ، والنصب: على المصدر أي وتذكر ذكرى أو على العطف على موضع التنذر). والجر على العطف على المصدر المنسبك في أن المقدرة بعد لام كي أي: للإنذار والتذكير أو على الضمير في (به) وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٩٩، و"المشكل" ١/ ٢٨١، و"البيان" ١/ ٣٥٣، و"التبيان" ص ٣٦٧، و"الفريد" ٢/ ٢٦٦، و"الدر المصون" ٥/ ٢٤٤.
(٢) في (أ): (صلى الله عليه).
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٦، والرازي في "تفسيره" ١٤/ ١٨، و"الخازن" ٢/ ٢٠٩.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٦، ونحوه ذكر الطبري في "تفسيره" ٨/ ١١٧، والنحاس في "معانيه" ٣/ ٨ - ٩ والسمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٣٠.
(٥) في "تنوير المقباس" ٢/ ٨١ نحوه دون لفظ (المشركين).
12
للمشركين (١)، و ﴿تذكرون﴾ أصله تتذكرون فأدغم تاء تتفعل في الذال لأن التاء مهموسة والذال مجهورة (٢)، والمجهور أزيد صوتًا من المهموس فحسن إدغام الأنقص في الأزيد، و ﴿مَا﴾ موصولة بالفعل وهي معه بمنزلة المصدر، والمعنى: قليلاً (٣) تذكركم، وقرأ حمزة (٤) والكسائي وحفص (٥) خفيفة الذال شديدة الكاف حذفوا التاء التي أدغمها الأولون وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة ويقوى ذلك قولهم: اسطاع (٦).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١١٧، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣١٦، والنحاس ٣/ ٩.
(٢) الهمس: الخفاء، وهو جريان النفس عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على مخرجه. وضده الجهر وهو الظهور والإعلان والمراد به انحباس النفس عند النطق بالحرف لقوة الاعتماد على مخرجه، انظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٦٠، و"غاية المريد" لعطية نصر ص ١٣٩.
(٣) في (ب): قليلاً ما تذكركم. والنص من "الحجة" ٤/ ٥ - ٧، وانظر: "الدر المصون" ٥/ ٢٤٦.
(٤) قرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم - ﴿قيلا ما تذكرون﴾ بالتاء خفيفة الذال مشددة الكاف، وقرأ الباقون ﴿تذكرون﴾ بالتاء مشددة الذال والكاف. وقرأ ابن عامر: ﴿قليلاً ما يتذكرون﴾ بياء وتاء، وتخفيف الذال وتشديد الكاف، وقد روي عنه بتاءين (تتذكرون). انظر: "السبعة" ص ٢٧٨، و"المبسوط" ص ٢٧٩، و"التذكرة" ٢/ ٤١٧، و"التيسير" ص ١٠٩، والنشر ٢/ ٢٦٧.
(٥) حفص عن عاصم، وحفص هو حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي، أبو عمر الكوفي، صاحب عاصم، إمام في القراءة ضابط لها بخلاف حاله في الحديث، فهو متروك الحديث مع إمامته في القراءة، توفي سنة ١٨٠هـ وله تسعون سنة. انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ١٧٣، و"معرفة القراء" ١/ ١٤٠، و"غاية النهاية" ١/ ١٥٤، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٤٥٠، و"تقريب التهذيب" ص ١٧٢ (١٤٠٥).
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٦ - ٣١٧، و"إعراب النحاس" ١/ ٥٩٩، و"المشكل" ١/ ٢٨١، وقد جاء في سورة الكهف [الآية: ٩٧] قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: ٩٧]. قرأ حمزة بتشديد الطاء، والباقون بالتخفيف. انظر: "السبعة" ص٤٠١، و"الحجة" لأبي علي ٥/ ١٧٩.
13
وقرأ ابن عامر ﴿يَتَذَكَّرُونَ﴾ بياء (١) وتاء ووجهه (٢) أن هذا خطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) (٣) أي: قليلاً ما يتذكر هؤلاء الذين (٤) ذكروا بهذا الخطاب (٥).
٤ - وقوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ الآية.
قال أبو إسحاق: (موضع ﴿كَمْ﴾ رفع با لابتداء، وخبره ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ قال: وهو أحسن من أن يكون في موضع نصب؛ لأن قولك: (زيد ضربته) أجود من (زيدًا ضربته) والنصب جيد عربي أيضًا كقوله (٦): ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩] (٧)).
وقال أهل العربية (٨) والمعاني: (الآية من حذف (٩) المضاف لأن
(١) هنا وقع اضطراب في نسخة (ب) فوقع الكلام على هذه الآيات في ١٤٠ ب.
(٢) في (ب): (ووجه)، وهو تحريف.
(٣) في (أ): (عليه السلام).
(٤) لفظ: (الذين) ساقط من (ب).
(٥) هذا كلام أبي علي في "الحجة" ٥/ ٤ - ٦. وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٠٠، و"الحجة" لابن زنجله ص ٢٧٩، و"الكشف" ١/ ٤٦٠.
(٦) والنصب في هذه الآية أجود، وهي القراءة المشهورة التي عليها الجماعة لأن الفائدة فيه أثر من فائدة الرفع لأن التقدير: خلقنا كل شيء بقدر فيدل على العموم واشتمال الخلق على جميع الأشياء. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٥٩٩، و"المشكل" ٢/ ٧٠١ - ٧٠٣، "البيان" ٢/ ٤٠٦.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٨. وانظر: "إعراب النحاس" ٢/ ١١٤، و"المشكل" ١/ ٢٨١ - ٢٨٢. والنصب على الاشتغال بإضمار فعل يفسره ما بعده ويقدر الفعل متأخرا عن كم لأن لها صدر الكلام والتقدير: وكم من قرية أهلكنا. انظر: "الدر المصون" ٥/ ٢٤٨.
(٨) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٧، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣١.
(٩) الظاهر عدم الحذف لعدم الحاجة إليه؛ لأن إهلاك القرية يمكن أن يقع عليها =
14
التقدير: وكم من أهل قرية، يدل على هذا قوله: ﴿أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ (١) فعاد بالكلام [إلى] (٢) أهل القرية).
وقوله تعالى: ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا﴾ قال الفراء: (يقال: إنما أتاها العباس (٣) من قبل الإهلاك، فكيف تقدم الهلاك؟ قيل: إن الهلاك والبأس يقعان معًا كما تقول: أعطيتني فأحسنت، فلم يكن الإحسان قبل الإعطاء ولا بعده، إنما وقعا معًا) (٤).
وقال غيره (٥): (هذا على مذهب الإرادة، والتقدير: وكم من قرية أردنا إهلاكها (٦) ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا﴾ كقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا﴾ [المائدة: ٦]. ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ (٧)) [النحل: ٩٨].
= نفسها ولأن القرية لا تسمى بذلك إلا وفيها مساكن لأهلها وسكان منهم ففي إهلاكها إهلاك من فيها من أهلها.
أفاده الطبري في "تفسيره" ٨/ ١١٨. وقال: (هذا أولى بالحق لموافقته ظاهر التنزيل المتلو) اهـ. وهو اختيار الزمخشري في الكشف ١/ ٦٧، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٦٨، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٤٨.
(١) في (ب): (هم قائلون).
(٢) لفظ: (إلى) ساقط من (ب).
(٣) في (ب): (الناس)، وهو تصحيف.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٧١.
(٥) هذا قول مكي في "المشكل" ١/ ٢٨٢ وقال السمين في "الدر" ٥/ ٢٤٨: (والجمهور أجابوا عن ذلك بوجهين أحدهما: أنه على حذف الإرادة. والثاني: أن المعنى: أهلكناها أي: خذلناهم ولم نوِّفقهم فنشأ عن ذلك هلاكهم فعبر بالمسبب عن سببه وهو باب واسع) اهـ وانظر: "تاريخ الطبري" ١٢/ ٣٠٠ - ٣٠١.
(٦) في (ب): (هلاكها).
(٧) في النسخ: (وإذا)، وهو تحريف.
15
ومعنى ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا﴾ يريد: جاءها عذابنا. قاله ابن عباس (١).
وقوله تعالى: ﴿بَيَاتًا﴾ أي: ليلاً (٢). قال الفراء: (يقال: بات الرجل وهو يبيت بيتًا، وربما قالوا: بياتا، قال: وسمي البيت بيتًا لأنه يبات فيه) (٣).
وقال الليث: (البيتوتة دخولك في الليل، قال: ومن قال: بات فلان إذا نام فقد أخطأ) (٤).
وقال ابن كيسان: (بات يجوز أن يجرى مجرى نام وأن يجرى
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٨١
(٢) هذا قول الجمهور منهم أبو عبيدة في "المجاز" ١/ ٢١٠ وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ١٧٦، والطبري في "تفسيره" ٨/ ١١٨، والزجاج في "معانيه" ٢/ ٣١٧، والسمرقندي ١/ ٥٣١، وقال الكرماني في غرائبه ١/ ٣٩٦: (المفسرون عن آخرهم فسروا ﴿بياتا﴾ ليلاً) اهـ. وقال السمين في الدر ٥/ ٢٥٠. (قال الواحدي ﴿بياتًا﴾ أي: ليلاً. وظاهر هذه العبارة أن يكون ظرفًا لولا أن يقال: أراد تفسير معنى) اهـ.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢١، وفي "تهذيب اللغة" ١/ ٢٥٠ عن الفراء قال: (باب الرجل إذا سهر الليل كله في طاعة أو معصية). قال الأزهري: (وقوله تعالى ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا﴾ أي: ليلاً، والتبييت سمي بيتا لأنه يبات فيه) اهـ. ولم أقف عليه في معاني الفراء.
(٤) "تهذيب اللغة" ١/ ٢٥٠، و"العين" ٨/ ١٣٨. وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل، ثم يقال للمسكن: بيت من غير اعتبار الليل فيه وجمعه بيوت وهي بالمساكن أخص وأبيات وهي لأبيات الشعر، والبات والتبييت: قصد العدو ليلاً، والبيوت: ما يفعل بالليل، ويقال لكل فعل دبر فيه بالليل: بيت. انظر: "الجمهرة" ١/ ٢٥٧، و"الصحاح" ١/ ٢٤٤، و"المجمل" ١/ ١٣٩، و"المفردات" ص ١٥١، و"اللسان" ١/ ٣٩٣، (بيت).
16
مجرى كان) (١).
وقال الزجاج: (يقال (٢): بات بياتًا حسنًا وبيتة حسنة والمصدر من الأصل بات بيتًا وأصل تسمية البيت من أنه يصلح للمبيت) (٣).
وقد ذكر هذا الحرف (٤) في قوله تعالى: ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾ [النساء: ١٠٨] و ﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨١].
وقوله تعالى: ﴿أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ (٥). قال الفراء: (وفيه واو مضمرة. المعنى: أهلكناها ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ فاستثقلوا (٦) نسقًا على أثر نسق، ولو قيل كان صوابًا).
قال ابن الأنباري: (أضمرت واو الحال لوضوح معناها؛ كما تقول العرب: لقيت عبد الله مسرعًا أو (٧) هو يركض، ولا يضرنك ظالمًا أو (٨) أنت مظلوم، يريدون (أو وأنت) فيحذفون الواو عند أمنهم اللبس؛ لأن الذكر قد عاد على صاحب الحال، ومن أجل أن (أو) حرف عطف والواو كذلك استثقلوا جمعًا بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني) (٩).
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ٢٥٠.
(٢) لفظ: (يقال) ساقط من (أ).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٧، وانظر "الزاهر" ١/ ٤٤٣.
(٤) انظر: "البسيط" نسخة جستربتي ٢/ ١٢ ب و ٢٢ ب.
(٥) في "معاني الفراء" ٤/ ٣٧٢: ﴿بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾.
(٦) لفظ: (فاستثقلوا) ساقط من (ب).
(٧) في (ب): (إذ هو)، وهو تحريف.
(٨) في (ب): (وأنت).
(٩) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٢٥٢.
17
قال: (و (أو) في هذا الموضع لا يوجب الشك، لكنها دخلت للتفصيل، والتفصيل يضارع الإباحة فيقول الرجل لصاحبه: لأكرمنك منصفًا لي أو ظالمًا، لم يحمل (أو) في هذا على شك بل يُعنى بها التفصيل) (١).
وقال الزجاج: (لا يحتاج (٢) إلى ضمير الواو كما تقول: جاءني (٣) زيد راجلًا أو هو فارس لم (٤) تحتج إلى واو؛ لأن الذكر قد عاد إلى الأول، قال: و (أو) (٥) هاهنا دخلت على جهة تصرف الشيء ووقوعه إما مرة كذا، وإما مرة كذا على تقدير: جاءهم بأسنا مرة ليلاً ومرة نهارًا فاعتبروا بهلاك من شئتم منهم) (٦).
قال الليث: (القيلولة نومة نصف النهار وهي القائلة) (٧). قال الفراء: (قال الرجل يقيلُ قيلولةَ وقيلًا وقائلة ومقيلًا) (٨).
(١) لم أقف عليه.
(٢) في (ب): (لا تحتاج) بالتاء.
(٣) جاء في النسخ: (كم جاءني)، ولعله تحريف.
(٤) في "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٧: (جاءني زيد راجلًا أو وهو فارس أو جاءني زيد وهو فارس) اهـ.
(٥) في (أ): (قال: الواو).
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٨، وقوله: على تقدير إلى آخره. لم يرد فيه.
(٧) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٦١، وانظر: "العين" ٥/ ٢١٥ (قيل).
(٨) ذكره أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٦٤، وفي "اللسان" ٦/ ٣٧٩٦ قيل: (قال الليث: القيلولة نوم نصف النهار وهي القائلة، قال: يقيل، وقد قال القوم: قيلًا وقائلة وقيلولة ومقالًا ومقيلًا الأخيرة عن سيبويه) اهـ.
انظر: "الكتاب" ٤/ ٨٩، و"الجمهرة" ٢/ ٩٧٧، و"الصحاح" ٥/ ١٨٠٨، و"المجمل" ٣/ ٧٣٩، و"المفردات" ص ٦٩٠ (قبل).
18
وقال الأزهري: (القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم، والدليل على ذلك أن الجنة لا نوم فيها، والله تعالى يقول: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤]) (١) ومعنى الآية: أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له؛ إما ليلاً وهم نائمون أو نهارًا وهم قائلون كأنهم غافلون (٢).
٥ - قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ﴾ قال أهل اللغة: (الدعوى اسم (٣) يقوم مقام الادعاء (٤) ومقام الدعاء)، حكى سيبويه: (اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين) (٥) وأنشدوا:
وَإِنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أَشْتَفِي بِدَعْوَاكِ منْ مَذْلٍ بِهَا فَيَهُونُ (٦)
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٦١ ولم يذكر الآية.
(٢) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٨، و"معاني النحاس" ٣/ ٩.
(٣) الدعوى -بفتح الدال وسكون العين-، والادعاء -بكسر الدال وفتح العين-، والدعاء -بضم الدال وفتح العين-، انظر: "العين" ٢/ ٢٢١، و"الجمهرة" ٢/ ٦٦٦ و ١٠٥٩، و"الصحاح" ٦/ ٢٣٣٦، و"المجمل" ٢/ ٣٢٦، و"المفردات" ص ٣١٦، و"اللسان" ٣/ ١٣٨٥ (دعا).
(٤) في (ب): (الإدغام)، وهو تحريف.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٨٨، وفي "الكتاب" ٤/ ٤٠، قال: (الدعوى ما ادعيت، وقال بعض العرب: اللهم أشركنا في دعوى المسلمين) اهـ.
(٦) الشاهد لكثير عزة في "ديوانه" ص ٢٢٧، وبلا نسبة في "تفسير الطبري" ٨/ ١٢٠، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٦٧، و"تفسير الثعلبي" ١٨٧ ب، و"المخصص" ٥/ ٨٤، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٢٨، وابن الجوزي ٣/ ١٦٩، و"اللسان" ٧/ ٤١٦٤ (مذل) "الدر المصون" ٥/ ٢٥٤، وفي "الديوان":
إذا خدِرَتْ رجلي ذكرتكِ أشتفي بذكركِ من مذل بها فيهونُ
ومذلت رجله - بفتح الميم وكسر الذال أي: خدرت، انظر: "اللسان" ٧/ ٤١٦٤ (مذل).
19
قال ابن عباس في معنى الآية: (فما كان تضرعهم ﴿إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ فأقروا على أنفسهم بالشرك) (١).
قال ابن الأنباري: (يريد: فما كان قولهم ﴿إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا﴾ إلا الاعتراف بالظلم والإقرار بالإساءة) (٢)
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾. الاختيار عند النحويين أن يكون موضع ﴿أَنْ﴾ رفعا بكان ويكون الدعوى نصبا (٣) كقوله: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ [النمل: ٥٦]، وقوله ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ﴾ [الحشر: ١٧].
وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ (٤) [الجاثية: ٢٥]. ويجوز أن يكون على الضد (٥) من هذا بأن يكون الدعوى رفعًا و ﴿أَنْ قَالُوا﴾ نصبًا كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا﴾ [البقرة: ١٧٧] على قراءة (٦) من رفع ﴿الْبِرَّ﴾
(١) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢١، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٦٩، وانظر "تنوير المقباس" ٢/ ٨١، وفيه: (دعواهم - قولهم).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٧، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٦٨، والرازي ١٤/ ٢١.
(٣) فدعواهم: خبر مقدم و ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ اسم كان مؤخر. وهو اختيار الفراء في "معانيه" ١/ ٣٧٢، والزجاج ٢/ ٣١٩، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٠٠، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٦٧، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٤٢٤، قال الهمداني في "الفريد" ٢/ ٢٧٠: (وهذا أحسن حملًا على ما ورد من نظائره في التنزيل) اهـ.
(٤) في النسخ: (ومكان) بالواو وهو تحريف.
(٥) هذا قول مكي في "المشكل" ١/ ٢٨٢، والعكبري في "التبيان" ص ٣٦٩، واختاره أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٦٩.
(٦) قرأ حمزة وعاصم في رواية: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ -بفتح الراء-، وقرآ الباقون ﴿البرُ﴾ =
20
والأصل في هذا الباب أنه إذا (١) اجتمع بعد كان معرفتان فأنت مخير في أن ترفع (٢) أحدهما وتنصب الآخر كقولك: كان زيدٌ أخاك، وإن شئت كان زيدًا أخوك.
قال الزجاج: (إلا أن الاختيار إذا كانت الدعوى في موضع رفع أن يقول: فما كانت في دعواهم، فلما قال: ﴿كَانَ﴾ دل أن الدعوى في موضع نصب غير أنه يجوز تذكير الدعوى، وإن كانت رفعًا فتقول: كان دعواه [باطلًا] (٣) وباطلة) (٤). وما حكينا من القولين في موضع الدعوى من الإعراب معنى قول الفراء (٥) والزجاج (٦).
قوله تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ٦] قال عطاء عنه: (يُسأل الناس جميعًا عما أجابوا المرسلين، ويُسأل المرسلون عما بلغوا) (٧).
= بالرفع فمن رفع جعل ﴿البر﴾ اسم ليس و ﴿أن تولوا﴾ الخبر، ومن نصب جعل ﴿البر﴾ خبر مقدم و ﴿أن تولوا﴾ اسم (ليس). انظر: "السبعة" ص ١٧٦، و"الحجة" لأبي علي ٢/ ٢٧٠، و"المشكل" ١/ ١١٧.
(١) انظر "الحجة" لأبي علي ٢/ ٢٧٠.
(٢) في (ب): (يرفع أحدهما وينصب) بالياء.
(٣) لفظ: (باطلاً) ساقط من (ب).
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٩، وعليه يكون تذكير الفعل قرينة مرجحة لإسناد الفعل إلى (أن قالوا) ولو كان مسندا للدعوى لكان الأرجح (كانت أفاده). السمين في "الدر" ٥/ ٢٥٤.
(٥) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٧٢.
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٩.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٢١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٣٩ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٢٦.
21
وقال ابن عباس: (يسأل الأمم عما جاءهم من الله، ويسأل (١) النبيين هل بلغتم رسالتي) (٢).
وقال الضحاك: (﴿الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ الأمم الذين أتاهم الرسل يُسألون هل بلغكم الرسل ما أرسلوا به إليكم، ﴿وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ يعني: الأنبياء هل بلغتم قومكم ما أرسلتم به وماذا أجابكم قومكم) (٣).
وقال السدي: (نسأل (٤) الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل، ونسأل الرسل هل بلغوا ما أرسلوا به) (٥).
٧ - قوله تعالى: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ﴾ [الأعراف: ٧] قال الضحاك: (لنخبرنهم بما عملوا بعلم منا ﴿وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ عن الرسل والأمم ما بلغت وما رد عليهم قومهم) (٦).
وقال ابن عباس: (﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ﴾ ينطق لهم كتاب أعمالهم؛ يقول الله: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾) (٧) [الجاثية: ٢٩].
(١) في (أ): (نسأل الأمم.. ونسأل النبيين) بالنون.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ٨١، و"تفسير البغوي" ٣/ ٢١٤، وابن الجوزي ٣/ ١٦٩.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٧.
(٤) في (ب): (يسال) بالياء.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٢١، بسند جيد.
(٦) ذكره بدون نسبة الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٨، والبغوي ٣/ ٢١٤، وابن الجوزي ٣/ ١٦٩.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٢٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٤٠، بسند ضعيف.
٨ - قوله تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ يعني: يوم السؤال ﴿وَالْوَزْنُ﴾ ابتداء، وخبره ﴿الْحَقُّ﴾ (١) وابن عباس (٢) وعامة المفسرين (٣) على أن المراد بهذا الوزن أعمال العباد.
قال ابن الأنباري: (أكد الله به الاحتجاج على العباد وقطع به عذرهم وبين به (٤) لهم عدله وأنه لا يظلم أحدًا) (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ ورد الخبر (أن الله تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفتان يوم القيامة فتوزن (٦) به أعمال العباد خيرها وشرها) (٧).
قال ابن عباس: (يوزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل (٨)
(١) انظر "معاني الفراء" ١/ ٣٧٣، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٠٠، و"المشكل" ١/ ٢٨٢.
(٢) يأتي تخريجه فيما بعد.
(٣) ذكره مثله الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢١٤، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨٠/ ١٢٢، عن عمرو بن دينار والسدي.
(٤) لفظ: (به) ساقطة من (ب).
(٥) لم أقف عليه: وقال ابن الجوزي في زاد المسير ٣/ ١٧١ (في الميزان خمسة حكم - أحدها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، والثانية: إظهار علامة السعادة والشقاوة في الآخرة، والثالثة: تعريف العباد ما لهم من خير وشر، والرابعة: إقامة "الحجة" عليهم، والخامسة: الإعلام بأن الله عادل لا يظلم) اهـ.
(٦) في (ب): (فيوزن) بالياء.
(٧) لم أقف عليه بهذا اللفظ وهو مشهور من قول ابن عباس، وسيأتي تخريجه. وقال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣١٩: (الأولى من هذا أن يتبع ما جاء بالأسانيد الصحاح فإن جاء في الخبر أنه ميزان له كفتان من حيث ينقل أهل الثقة فينبغي أن يقبل ذلك) اهـ.
(٨) في (ب): (فيثقل) بالياء.
23
حسناته على سيئاته، فذلك قوله: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الناجون، قال: وهذا كما قال في سورة الأنبياء: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾) (١) [الأنبياء: ٤٧].
وقال مقاتل: (﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ وزن الأعمال يومئذ العدل ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ من المؤمنين وزن ذرة على سيئاته ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾) (٢). فأما كيفية وزن الأعمال فله وجهان:
أحدهما: أن أعمال المؤمن تتصور في صورة حسنة، وأعمال الكافر تتصور في صورة قبيحة فتوزن تلك الصورة كما ذكره ابن عباس.
والثاني: أن الوزن يعود إلى الصحف التي فيها أعمال العباد مكتوبة، وسئل رسول الله - ﷺ - عما يوزن (٣) يوم القيامة، فقال: "الصحف" (٤).
هذا الذي ذكرنا مذهب عامة المفسرين (٥) وأهل العلم في هذه الآية، وكان مجاهد والضحاك والأعمش (٦) يفسرون الوزن والميزان: (العدل
(١) ذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٣١ والثعلبي ١٨٧ ب، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٨، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٣١٥، وابن الجوزي ٣/ ١٧١، والرازي ١٤/ ٢٤، والقرطبي ٧/ ١٦٦، وغيرهم، وذكره السيوطي في "الدر" ٨/ ١٢٩، ١٣٠، وقال: (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وأخرجه أبو الشيخ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس) اهـ.
(٢) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٠.
(٣) في (ب): (ما يوزن).
(٤) لم أقف عيه.
(٥) قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٢٦: (يمكن الجمع بين الآثار الواردة في ذلك بأن يكون ذلك كله صحيح فتارة توزن الأعمال وتارة توزن محالها وتارة يوزن فاعلها والله أعلم). وانظر: "فتح الباري" ١٣/ ٥٣٧ - ٥٤٠.
(٦) ذكره الرازي في "تفسيره" ٨/ ٢٥، والقرطبي ٧/ ١٦٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧٠ عن الأعمش.
24
والقضاء) ويذهبون إلى أن هذا تمثيل وتحقيق للقسط والعدل يومئذٍ، فقال مجاهد: (﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ والقضاء (١) يومئذٍ العدل) (٢).
وروى جويبر (٣) عن الضحاك (أن الميزان العدل) (٤). فعلى مذهب هؤلاء: الوزن والميزان عبارة عن العدل كما تقول: هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه أي: أنه يعادله ويساويه وليس هناك وزن في الحقيقة، وقد قال الشاعر:
قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لقائِكُمُ ذا مِرَّةٍ عِنْدى لكلِّ مُخَاصِمٍ ميزانُه (٥)
أراد: عندي لكل مخاصم كلام يُعادل كلامه؛ فجعل الوزن مثلًا للعدل، والميزان مثلا للكتاب الذي فيه أعمال العباد من حيث أنه لا يزيد (٦) فيه ولا يكذب ويخبر بما له وما عليه، فكنى عن الكتب بالموازين، وجعل ما يكثر في الكتاب من الحسنات بمنزلة ما يثقل في الميزان.
قال أبو إسحاق: (وهذا كله في باب اللغة والاحتجاج سائغ (٧)،
(١) لفظ: (الواو) ساقطة من (ب).
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٢٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٤٠ بسند جيد.
(٣) جويبر -تصغير جابر-: جويبر بن سعيد الأزدي. ضعيف، تقدمت ترجمته.
(٤) ذكره الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣١٩، والأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٨٦، والرازي في "تفسيره" ٨/ ٢٥، والقرطبي ٧/ ١٦٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧٠.
(٥) لم أهتد إلى قائله، وهو في تفسير ابن الجوزي ٣/ ١٧٠، والرازي ١٤/ ٢٥، و"اللسان" ٨/ ٤٨٢٩ (وزن).
(٦) في (أ): (لا تزيد فيه ولا تكذب).
(٧) في (ب): (شائع) وقال القرطبي في "التذكرة" ص ٣٦٤: (وهذا القول مجاز وليس بشيء وإن كان شائعًا في اللغة للسنة الثابتة في الميزان الحقيقي ووصفه بكفتين ولسان وإن كل كفة منهما طباق السموات والأرض) اهـ. وقال أيضًا في "تفسيره" ٧/ ١٦٥: (قد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير =
25
والأولى من هذا (١) أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان) (٢).
وقال ابن الأنباري: (والقول الأول هو اختيارنا لتتابع الأخبار به واتفاق أكثر أهل العلم عليه ولشهادة ظاهر القرآن له، قال: وإنما جمع الله تعالى فقال: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ ولم يقل: ميزانه من أجل أن العرب توقع الجمع على الواحد فيقولون: خرج إلى البصرة في السفن، وخرج إلى مكة على البغال. قال: ويجوز أن يكون جمع الميزان إذ (٣) كانت ﴿مَنْ﴾ في معنى (٤) جمع فصرف الكلام إلى معنى ﴿مَنْ﴾ يدل على صحة هذا قوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ بالجمع تغليبًا لمعنى ﴿مَنْ﴾ على لفظه) (٥).
وقال غيره: (الموازين هاهنا جمع موزون لا جمع ميزان وأراد بالموازين الأعمال الموزونة) (٦).
= تأويل، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر وصارت هذه الظواهر نصوصًا) اهـ. ونحوه ذكر ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٤٣٢، والشوكاني ٢/ ٢٧٧، وصديق خان ٤/ ٣٠٥، والقاسمي ٧/ ٢٦١٧.
(١) في (ب): (والأولى أن يتبع من هذا).
(٢) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣١٩.
(٣) في (ب): (إذا).
(٤) في (ب): (موضع).
(٥) ذكره بدون نسبة الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٨، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢٦ عن الزجاج، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٧٣، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٢٣.
(٦) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢١٦، و"الرازي" ١٤/ ٢٧، و"الدر المصون" ٥/ ٢٥٦.
26
٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾. قال مقاتل: (يعني: الكفار) (١).
قال ابن عباس: (يؤتى بعمل الكفار في أقبح سورة، فيوضع في كفة الميزان، فيخف وزنه حتى يقع في النار، ثم يقال للكافر: الحق بعملك، ثم قال: وحق لميزان لا يكون فيها رضوان الله أن يخف، وأما المؤمن فإذا خفت حسناته ثقلت بكتاب كالأنملة (٢) فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله فترجح حسناته على سيئاته) (٣).
وروي أيضًا: (أنه إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله - ﷺ - من حجزته (٤) بطاقة (٥) كالأنملة، فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي - ﷺ -: بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك محمد، وهذه صلواتك (٦) التي كنت تصلي علي، قد (٧) وفيتك أحوج ما تكون إليها) (٨).
(١) "تفسيرمقاتل" ٢/ ٣٠.
(٢) الأنملة -مثلثة الهمزة والميم- المفصل الأعلى الذي فيه الظفر من الإصبع والجمع أنامل وأنملات وهي رؤوس الأصابع. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٥٥٠ (نمل).
(٣) سبق تخريجه.
(٤) حُجْزته، بضم الحاء وسكون الجيم: أصلها موضع شد الإزار، ثم قيل للإزار: حُجْزة للمجاورة، وحجزة الإزار جنبته ومعقد الإزار.
انظر: "النهاية" ١/ ٣٤٤، و"اللسان" ٢/ ٧٨٦ (حجر).
(٥) البطاقة، بالكسر: الورقة ورقعة صغيرة يثبت فيها مقدار ما يجعل فيها إن كان عينًا فوزنه أو عدده وإن كان متاعًا فقيمته، والرقعة الصغيرة تكون في الثوب وفيها ثمنه. انظر: "النهاية" ١/ ١٣٥، و"اللسان" ١/ ٣٠٢ (بطق).
(٦) في (ب): (صلاتك).
(٧) في (ب): (وقد).
(٨) ذكره الرازي في "تفسيره" ٨/ ٢٥، وقال: (رواه الواحدي في "البسيط") اهـ. =
وقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد: صاروا إلى العذاب ﴿بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾، قال: يريد: يجحدون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم) (١).
١٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، قال الزجاج: (معنى التمكين في الأرض: التمليك والقدرة) (٢)، وهو قول ابن عباس قال: (يريد: ملكناكم (٣) في الأرض، يريد: ما بين مكة إلى اليمن، وما بين مكة إلى الشام) (٤).
= وذكره القرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٦٧. وفي "التذكرة" ص ٣٦١، وقال: (ذكره القشيري في "تفسيره") اهـ. وحديث البطاقة مشهور. أخرجه الإمام أحمد في "المسند" ٢/ ٢١٣ - و- ٢٢١ - ٢٢٣، وابن ماجه (٤٣٠٠) كتاب الزهد، باب: ما يرجى من رحمة الله تعالى، والترمذي حديث (٢٦٣٩) كتاب الإيمان، باب: ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، والحاكم في "المستدرك" ١/ ٦ - و- ٥٢٩ - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة فيوضع ما أحصى عليه فتمايل به الميزان، قال: فيبعث به إلى النار: قال: فإذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن يقول: لا تعجلوا لا تعجلوا فإنه قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان" اهـ. لفظ أحمد، قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب) اهـ. وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) اهـ. ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وقال السيوطي في "الدر" ٨/ ١٣١، والشوكاني في "تفسيره" ٢/ ٢٧٨، وصديق خان ٣/ ٣٠٧: (إسناده عند أحمد حسن) اهـ. وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ١/ ٤٣، رقم ١٣٥.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٥٩ ولم أقف عليه عند غيره.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٣٢٠، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٢٥، و"معاني النحاس" ٣/ ١١.
(٣) في (ب): (مكناكم).
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٨١ - ٨٢، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٠.
28
وقولى تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾، يقال: عاش يعيش عيشا ومعاشًا ومعيشة وعيشة ومعيشا بغير هاء (١) ومنه قول رؤبة:
إليك أشكو شِدَّةَ المَعِيشِ (٢)
قال الليث: (العيش: المطعم والمشرب (٣) وما يكون به الحياة، والمعيشة: ما يعاش به) (٤)، [وقال الزجاج: (ومعنى المعايش: يحتمل أن يكون ما يعيشون به] (٥) ويمكن أن يكون الوصلة إلى ما يعيشون به) (٦).
وقد أشار ابن عباس إلى المعنين اللذين ذكرهما الزجاج فقال في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ (يريد: بما أفضل عليكم في الرزق وما فضلكم به على العرب، وهو أنهم ينسبون إلى الله وإلى حرمه وأمنه والعرب لهم تبع) (٧) فقوله: (بما أفضل عليكم في الرزق) إشارة إلى [الوصلة] (٨) إلى ما يعيشون به؛ لأنهم بذلك التفضيل توصلوا إلى المكاسب والتجارات، وعلى ما ذكره ابن عباس من التفسير تكون الآية خطابًا لقريش.
(١) النص من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨١، وانظر: "اللسان" ٥/ ٣١٩٠ (عيش).
(٢) "ديوانه" ص ٧٨، و"الزاهر" ١/ ٢٥٠، والقرطبي ٣/ ٨١، و"الدر المصون" ٢/ ٤٢٠، ٥/ ٢٥٨، وتمامه:
ومر أعوام نتفن ريشي
أي أذهبن مالي، وفي "الديوان":
أَشْكُو إِلَيْك شِدَّةَ المعَيشِ دهرًا تنقَّى المُخَ بِالتَمشِيشِ
(٣) في (ب): (والمشروب).
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨١، وانظر: "العين" ٢/ ١٨٩، و"الجمهرة" ٢/ ٨٧٢، و"الصحاح" ٣/ ١٥١٢، و"المجمل" ٢/ ٦٣٩، و"مقاييس اللغة" ٤/ ١٩٤، و"المفردات" ص ٥٩٦ (عيش).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٠، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ١١.
(٧) في "تنوير المقباس" ٢/ ٨٢ نحوه.
(٨) لفظ: (الوصلة) ساقط من (أ).
29
فأما القراءة (١) في المعايش فقال الفراء: (لا تهمز لأنها في الواحدة مفعلة الياء في الفعل فلذلك لم يهمز وإنما يهمز من هذا ما كانت الياء فيه زائدة، مثل: مدينة ومدائن، وقبيلة وقبائل، لما كانت الياء لا يعرف لها أصل ثم قارنتها ألف مجهولة أيضًا همزت. قال: ومثل معايش من الواو [مما لا يهمز (معاون) في جمع معونة، و (مناور) في جمع منارة، وذلك أن الواو] (٢) ترجع (٣) إلى أصلها لسكون الألف قبلها) (٤) هذا مذهب جميع القراء في المعايش لا يهمزونها، وروى خارجة (٥) عن نافع ﴿معائش﴾ بالهمز (٦).
(١) قرأ الجمهور ﴿معايش﴾ بالياء، وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج - وزيد بن علي، والأعمش، وخارجة بن مصعب عن نافع، وابن عامر في رواية: ﴿معائش﴾ بالهمز، والقياس بدون همز؛ لأن الياء أصل وإذا كانت زائدة همزت مثل صحيفة وصحائف. لكن قال الفراء في "معانيه" ١/ ٣٧٣: (وربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهمون أنها فعيلة بشبهها بوزنها في اللفظ وعدة الحروف كما جمعوا مسيل الماء أمسله شبه بفعيل وهو مفعل وقد همزت العرب المصائب وواحدتها مصيبة، شبهت بفعيلة لكثرتها في الكلام) اهـ. وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧١: (رواها عرب فصحاء ثقات فوجب قبولها، وقد ردها نحاة البصرة ولسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة) اهـ. بتصرف. وانظر: "السبعة" ص ٢٧٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٠٠، و"معرفة القراءات" ١/ ٤٠٠، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧٦، و"مختصر الشواذ" ص ٤٨، و"المبسوط" ص ١٧٩، و"الدر المصون" ٥/ ٢٥٨.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) في (ب): (فترجع).
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٢٧٣.
(٥) خارجة بن مُصْعَب بن خارجة الضبعي أبو الحجاج الخراساني، فقيه، مقرئ، متروك الحديث. أخذ القراءة عن نافع وغيره، وله شذوذ كثير عنه لم يتابع عليه، توفي سنة ١٦٨ هـ وله ٩٨ سنة. انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ٣٧٥، و"ميزان الاعتدال" ١/ ٦٢٥، و"غاية النهاية" ١/ ٢٦٨، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٥١٢.
(٦) ذكرها أكثرهم كما في المراجع السابقة في فقرة رقم (٢).
30
قال الفراء: (ربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهمون أنها فعيلة لشبهها بوزنها في اللفظ وعدة الحروف كما جمعوا مسيل الماء أمسلة (١) شبه بفعيل وهو مفعل) (٢).
وقال أبو إسحاق: (جميع النحويين البصريين يزعمون أن همز ﴿مَعَايِشَ﴾ خطأ، وذكروا أن الهمز إنما يكون في هذه الياء إذا كانت زائدة نحو: صحيفة وصحائف، فأما ﴿مَعَايِشَ﴾ فمن العيش الياء أصلية، فأما ما (٣) رواه نافع من همز ﴿مَعَايِشَ﴾ فلا أعرف له وجهًا إلا أن لفظ هذه الياء التي من نفس الكلمة أسكن في معيشة فصار على لفظ صحيفة فحمل الجمع على ذلك، ولا أحب القراءة بالهمز) (٤).
قال أبو علي الفارسي: (قوله: ﴿مَعَايِشَ﴾ العين منه ياء ووزن المعيشة من الفعل عند الخليل (٥) وسيبويه مَفْعِلة، (وكان الأصل مَعْيِشة إلا أن الاسم وافق الفعل في وزنه؛ لأن (معيش) على وزن (يعيش) فأعل كما أعل الفعل وقد وجدنا الاسم إذا وافق الفعل في البناء أعل كما يعل (٦) فمن ذلك إعلالهم لباب ودار ونار ونحوه، لما كان على وزن فعل أعل كما أعل
(١) في (أ): (مسله) وهو تحريف.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٧٣ - ٣٧٤.
(٣) في (ب): (فأما رواه)، وهو تحريف.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٠ - ٣٢١، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٠٠، ٦٠١، و"المشكل" ١/ ٢٨٣ - ٢٨٤.
(٥) في "الكتاب" ٤/ ٣٤٩، وكذا في "الإغفال" ص٧٣٠ (فمعيشة يصلح أن تكون مَفْعلُة -بفتح الميم وسكون الفاء وضم العين-، أو -مفعلة- بكسر العين) اهـ. وانظر "الكتاب" ٤/ ٣٤٩، وص ٣٥٥.
(٦) في (ب): (كما يعل الفعل)، ثم تكرر قوله: (وقد وجدنا) إلى قوله: (كما يعل).
31
فأما القراءة (١) في المعايش فقال الفراء: (لا تهمز لأنها في الواحدة مفعلة الياء في الفعل فلذلك لم يهمز وإنما يهمز من هذا ما كانت الياء فيه زائدة، مثل: مدينة ومدائن، وقبيلة وقبائل، لما كانت الياء لا يعرف لها أصل ثم قارنتها ألف مجهولة أيضًا همزت. قال: ومثل معايش من الواو [مما لا يهمز (معاون) في جمع معونة، و (مناور) في جمع منارة، وذلك أن الواو] (٢) ترجع (٣) إلى أصلها لسكون الألف قبلها) (٤) هذا مذهب جميع القراء في المعايش لا يهمزونها، وروى خارجة (٥) عن نافع ﴿معائش﴾ بالهمز (٦).
(١) قرأ الجمهور ﴿معايش﴾ بالياء، وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج - وزيد بن علي، والأعمش، وخارجة بن مصعب عن نافع، وابن عامر في رواية: ﴿معائش﴾ بالهمز، والقياس بدون همزة لأن الياء أصل وإذا كانت زائدة همزت مثل صحيفة وصحائف. لكن قال الفراء في "معانيه" ١/ ٣٧٣: (وربما همزت العرب هذا وشبهه يتوهمون أنها فعيلة بشبهها بوزنها في اللفظ وعدة الحروف كما جمعوا مسيل الماء أمسله شبه بفعيل وهو مفعل وقد همزت العرب المصائب وواحدتها مصيبة، شبهت بفعيلة لكثرتها في الكلام) اهـ. وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧١: (رواها عرب فصحاء ثقات فوجب قبولها، وقد ردها نحاة البصرة ولسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة) اهـ. بتصرف. وانظر: "السبعة" ص ٢٧٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٠٠، و"معرفة القراءات" ١/ ٤٠٠، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧٦، و"مختصر الشواذ" ص ٤٨، و"المبسوط" ص ١٧٩، و"الدر المصون" ٥/ ٢٥٨.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) في (ب): (فترجع).
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٢٧٣.
(٥) خارجة بن مُصْعَب بن خارجة الضبعي أبو الحجاج الخراساني، فقيه، مقرئ، متروك الحديث. أخذ القراءة عن نافع وغيره، وله شذوذ كثير عنه لم يتابع عليه، توفي سنة ١٦٨ هـ وله ٩٨ سنة. انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ٣٧٥، و"ميزان الاعتدال" ١/ ٦٢٥، و"غاية النهاية" ١/ ٢٦٨، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٥١٢.
(٦) ذكرها أكثرهم كما في المراجع السابقة في فقرة رقم (٢).
32
وجميع (١) المتقدمين من النحويين البصريين.
فإذا جمع معيشة مكسرًا ردت ألف الجمع ثالثة قبل الياء والألف ساكنة والياء أيضًا ساكنة، ومن حكم الساكنين إذا اجتمعا أن يحرك أحدهما أو يحذف، فالحذف هنا لا يجوز لالتباس الجمع بالواحد، وإذا لم يجز الحذف لاجتماعهما لزم تحريك أحدهما، ولا يخلو من أن يكون الأول (٢) أو الثاني، فلا يجوز تحريك الأول لارتفاع دلالته بتحريكه له على الجمع وإذا لم يجز تحريك الأول لزم تحريك الثاني لاجتماع الساكنين، فإذا حركت رجعت (٣) ياء كما أن ما كان من الواو إذا (٤) حركت في الجمع رجعت واوًا صحيحة مثل: (مقاوم) و (مقاول) في جمع (مقام) و (مقال)، أنشد النحويون (٥):
وإنَّي لَقَوَّامُ مقاوم لَمْ يَكُنْ جَرِيرٌ وَلاَ مَوْلَى جَرِيرٍ يَقُومُهَا
= و"معجم الأدباء" ٧/ ١٠٧، و"سير أعلام النبلاء" ١٢/ ٢٧٠، و"لسان الميزان" ٢/ ٥٧.
(١) انظر: "المنصف" ٧/ ١٠٧، و"المقتضب" ١/ ٢٦١.
(٢) لفظ: (الأول) غير واضح في (أ)، وفي (ب): (الأول والثاني).
(٣) في (أ): (رجعت واوًا صحيحة ياء كما أن).
(٤) في (أ): (وإذا).
(٥) الشاهد للأخطل في "ديوانه" ص ٣٢٢، و"أمالي القالي" ٣/ ٧٧، و"الخصائص" ٣/ ١٤٥، وللفرزدق في "المقتضب" ١/ ٢٦٠، و"المخصص" ١٤/ ٢١، وبدون نسبة في "معاني الزجاج" ١/ ٢٠٦ - ٢/ ٣٢٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٠١، و"المنصف" ١/ ٣٠٦. والشاهد قوله: (مقاوم) في جمع مقامة وأصلها مجلس القوم.
33
فصحح الواو في الجمع لما لزم تحريكها لاجتماع الساكنين، فبان بهذا أن جمع (معيشة) على (معايش) يزيل مشابهته الفعل في البناء وعلمت بذلك زوال المعنى الموجب للإعلال في الواحد (١) فيلزم التصحيح في التكسير لزوال المشابهة في اللفظ.
فإن قيل: هل أعل العين إذا كانت ياء أو واوًا في نحو هذا الجمع كما أعلت في قائل وبائع بقلبها همزة لما اعتلا في الفعل؟ والجواب أن إعلال (معايش) لا يلزم؛ لأن زنة الفعل قد بطلت عنه ولزم (٢) تصحيحه كما بينا، فأما قائل وبائع فإنما لزم إعلالها؛ لمشابهتهما الفعل في الزنة وهو الأمر (٣) من المفاعلة، ولأنهما يعملان عمل الفعل، فصار لذلك أدخل في الإعلال وأقرب إليه، ولم يكن ذلك في (معايش) وبابه، ألا ترى أنه لا شيء فيه مما يوجب الإعلال من مشابهته الفعل في زنته وحركاته وسكونه) (٤).
وقال غير أبي علي [في] (٥) علة همز قايل وبايع: (إنما همز عين فاعل في باب ما اعتلت عينه من ذوات الواو والياء؛ لأن الواو والياء قد انقلبتا ألفين في قال وباع، فلما بني منهما فاعل اجتمعت ألف فاعل مع الألف
(١) في "الحجة" لأبي علي ٤/ ٧: (فمعيشة موافقة للفعل في البناء ألا ترى أنه مثل يعيش في الزنة وتكسيرها يزيل مشابهته في البناء فقد علمت بذلك زوال المعنى الموجب للإعلال في الواحد في المجمع فلزم التصحيح في التكسير لزوال المشابهة في اللفظ) اهـ.
(٢) في (أ): (ولزوم).
(٣) قوله: (وهو الأمر من المفاعلة) ليس في "الإغفال".
(٤) انظر: "الحجة" لأبي علي ٤/ ٧ - ٨، و"الإغفال" ص ٧٣٠ - ٧٤٠، و"معجم الإبدال والإعلال" للخراط ص ١٩٨.
(٥) لفظ: (في) ساقط من (ب).
34
المنقلبه عن الواو (١) أو الياء وهما ساكنتان فلم يمكن النطق بهما فهمزت الأخيرة منهما فقيل: قائل وبائع هذا هو الأصل، ثم يجور تحفيف الهمزة فيصير ياء؛ لأن الهمزة المكسورة إذا خففت صارت ياء (٢).
فأما (معايش) ففي تصحيح يائه ما يغني عن الهمزة) رجعنا إلى كلام أبي علي قال: (فأما قراءة هذا القارئ ﴿معائش﴾ بالهمز، فقال أبو عثمان: (أصل أخذ هذه القراءة عن نافع قال: ولم يكن يدري ما (٣) العربية، وكلام العرب التصحيح في نحو هذا) (٤). قال أبو علي: ومن أعل فهمز ياء ﴿مَعَايِشَ﴾ فمجازه على وجه الغلط كما حكى سيبويه (أن بعضهم قال في جمع مصيبة: مصائب فهمز وهو غلط لأن مصائب مفاعل (٥) فتوهمها فعايل نحو: صحائف وسفائن.
(١) في (ب): (عن الواو والياء).
(٢) ذكره نحو المبرد في "المقتضب" ١/ ٢٣٧، وابن جني في "المنصف" ١/ ٢٨٠، وانظر: "الكتاب" ٤/ ٣٤٥، و"التصريف" للجرجاني ص ٨٦، و"الممتع" لابن عصفور ١/ ٣٢٧، و"شرح مختصر تصريف العزي" للتفتازاني ص ١٣١، و"شذا العرف" للحملاوي ص ٧٤.
(٣) في (أ): (يدري العربية).
(٤) انظر: "المنصف" ١/ ٣٠٧، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧١ - ٢٧٢: (أما قول المازني (أصل أخذ هذه القراءة عن نافع) فليس بصحيح لأنها نقلت عن ابن عامر والأعرج وزيد بن علي والأعمش، وأما قوله (إن نافعًا لم يكن يدري ما العربية) فشهادة على النفي، ولو فرضنا أنه لا يدري ما العربية وهي هذه الصناعة التي يتوصل بها إلى التكلم بلسان العرب فهو لا يلزمه ذلك، إذ هو فصيح متكلم بالعربية ناقل للقراءة عن العرب الفصحاء، وكثير من هؤلاء النحاة يسيئون الظن بالقراء، ولا يجوز لهم ذلك) اهـ.
(٥) في "الكتاب" ٤/ ٣٥٦، و"الإغفال" ص ٧٤١ (وهو غلط، وإنما هو مُفْعِلة وتوهموها فَعْيِلة).
35
قال: ومنهم من يقول: مصاوب فيجيء به على الأصل والقياس) (١)، وقول (٢) سيبويه: (وهو غلط) يعني: أنه توهم الياء التي في مصيبة -وهي (٣) منقلبة عن العين التي هي واو- الياء التي (٤) للمد في نحو: [سفينة وصحيفة، وهمزوا الياء المنقلبة عن الواو التي هي عين الفعل كما همزوا الياء التي للمد (٥) في نحو] (٦) سفائن وصحائف، ولا يشبه هذه الياء تلك، ألا ترى أن هذه منقلبة عن واو هي عين أصلها الحركة، وتلك زائدة للمد لا حظ لها في الحركة). وقد ذكرنا الكلام مستقصى في المصائب عند قوله (٧): ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ [البقرة: ١٥٦]، (ومثل هذا مما حمل على الغلط قول بعضهم في جمع مَسِيل: مسلان، فمسيل مفعل والياء فيه عين الفعل، فتوهم من قال في جمعه: مسلان أنها زائدة للمد فجمعه على فعلان كما يجمع قضيب على قضبان، وعلى هذا (٨) التوهم أيضًا جمعوا مسيلًا أمسلة. وقد جاء ذلك في شعر هذيل، قال أبو ذؤيب (٩):
وَأَمْسِلَةٍ مَدَافِعُها خَلِيفُ (١٠)
(١) "الكتاب" ٤/ ٣٥٦.
(٢) في (أ): (وقال)، وهو تحريف.
(٣) (وهو)، وهو تحريف.
(٤) في "الإغفال" (التي تزاد للمد).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) في "الإغفال" ص ٧٤٢: صفائح.
(٧) انظر "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ٩٨ أ.
(٨) هذا من "الحجة" ٣/ ٨.
(٩) أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي. تقدمت ترجمته.
(١٠) "شرح ديوان الهذليين" للسكري ١/ ١٨٥، و"المخصص" ٥/ ١٢٣، ١٠/ ١٠٧، و"الدر المصون" ٥/ ٢٥٩، وصدره:
بَوادٍ لا أنِيسَ به يَبَابٍ
ويباب بالفتح؛ خراب فقر ليس فيه أحد.
36
فتوهموه فعيلاً، وإنما هو مفعل (١)، ومثل هذا من الشواذ والغلط لا يعترض به على الشائع المطرد ولا يحمل غيره عليه، وإنما حكمه أن يعرف أصله ويبين وجه الصواب فيه، ومن أين وقع الشبه الذي جاء من أجله الغلط، فمسلان من سأل خطأ وإن كان قد قيل، فكذلك (٢) همز (٣) معايش غلط) (٤)، فأما الكلام في (مدائن) فسنذكره إذا أتينا إلى قوله: ﴿وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ (٥) [الأعراف: ١١١] من هذه السورة (٦) إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: أنكم غير شاكرين لأنعمي (٧) [ولا] طائعين) (٨). وتقدير هذا تقدير قوله: ﴿قَلِيلًا مَا
= انظر: "اللسان" ٨/ ٤٩٤٧ (يبب)، وأمسلة، بسكون الميم وكسر السين: جمع مَسِيل وهو: مجرى الماء. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٢٠٥ (مسل) ومدافعها. المجاري التي تدفع إلى الأودية. انظر: "اللسان" ٣/ ١٣٩٤ (دفع)، وخليف بفتح الخاء وكسر اللام: الطريق بين الجبلين انظر: "اللسان" ٢/ ١٢٤٢ (خلف).
(١) إلى هنا انتهى النقل من "الحجة".
(٢) في (ب): (فلذلك).
(٣) في (أ): (همزة).
(٤) انظر: "الإغفال" ص ٧٣٠ - ٧٤٤، و"الحجة" ٤/ ٧ - ٨، وهو أخذ منهما مع بعض التصرف اليسير في العبارة وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٥، و"المشكل" ١/ ٢٨٣، والمراجع المذكورة في "القراءة" ص ٣٠ من هذا الجزء.
(٥) في (ب): (وأرسل فرعون في المدائن حاشرين) من هذه السورة إن شاء الله. وهذا وهم، وجاء في سورة الشعراء الآية: ٥٣ قوله تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾.
(٦) انظر تفسير هذه الآية في هذا الجزء ص ٢٦٧.
(٧) لفظ: (ولا) ساقط من (ب).
(٨) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٠، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٧٢، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٨٢ نحوه.
37
تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: ٣]. [وقد مر] (١).
١١ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾. قال ابن عباس: (أما ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ فآدم (٢)، وأما ﴿صَوَّرْنَاكُمْ﴾ (٣) فذريته) (٤).
وبيان هذا ما قاله مجاهد: (﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ يعني: آدم ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ (٥) في ظهر آدم) (٦)، وإنما ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ بلفظ الجمع وهو يريد آدم؛ [لأنه أبو البشر وفي خلقه خلق يخرج من صلبه، وعلى هذا أيضًا يجوز أن يكون ﴿صَوَّرْنَاكُمْ﴾ لآدم وحده، وهو قول يونس (٧)، قال: (يجوز أن يكون معنى ﴿صَوَّرْنَاكُمْ﴾ لآدم] (٨) كما تقول: قد ضربناكم وإنما ضربت سيدهم) (٩)، واختار أبو عبيد (١٠) في هذه الآية قول مجاهد لقوله بعده (١١): ﴿ثُمَّ قُلْنَا
(١) لفظ: (وقد مر) ساقط من (أ).
(٢) في (أ): (آدم).
(٣) في (أ): (ثم صورناكم).
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٢٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٤٢ بسند جيد.
(٥) لفظ: (ثم) ساقط من (ب).
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٣٢، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٢٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٤٢ من طرق جيدة، وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ١٣: (هذا أحسن الأقوال، يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم، ثم صورهم حين أخذ عليهم الميثاق، ثم كان السجود لآدم بعد، ويقوي هذا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢]، والحديث أنه أخرجهم أمثال الذر فَأخّذ عليهم الميثاق) اهـ. وسيأتي تخريج الحديث.
(٧) يونس بن حبيب الضبي، لُغوي. تقدمت ترجمته.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٩) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٨ أ.
(١٠) لم أقف عليه بعد طول بحث عنه.
(١١) في (ب): (بعد).
38
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا}، وكان قوله: ﴿لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا﴾ قبل خلق ذرية آدم وتصويرهم في الأرحام، و (ثم) يوجب التراخي (١) والترتيب، فمن جعل الخلق والتصوير في هذه الآية لأولاد آدم في الأرحام لم يكن قد راعى حكم (ثم) في الترتيب، إلا أن يأخذ. بقول الأخفش فإنه يقول: ((ثم) هاهنا في معنى الواو) (٢).
قال الزجاج: (وهذا خطأ لا يجيزه الخليل (٣) وسيبويه (٤) وجميع من يوثق بعلمه) (٥).
قال أبو عبيد (٦): (وقد بينه مجاهد (٧) حين قال: إن الله خلق آدم [و] صورهم (٨) في ظهره ثم أمر بعد ذلك بالسجود) قال: وهذا بين في حديث [آخر] (٩) وهو أنه أخرجهم من ظهر آدم في سورة الذر) (١٠).
(١) انظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص ١٦، و"معاني الحروف" للرماني ص ١٠٥، وذكر عدة أوجه في هذه الآية، و"رصف المباني" ص ٢٤٩، و"المغني" لابن هشام ١/ ١١٧.
(٢) "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٤.
(٣) انظر: "العين" ٨/ ٢١٨.
(٤) انظر: "الكتاب" ١/ ٢٩١، ١/ ٤٢٩، ٣/ ٨٩، ٣/ ٥٠١.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢١، ونحوه ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ١٢. وقال: (هذا القول خطأ على مذهب أهل النظر من النحويين، ولا يجوز أن تكون، (ثم) بمعنى الواو لاختلاف معنييهما) اهـ.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) سبق تخريجه.
(٨) لفظ: (الواو) ساقطة من (ب).
(٩) لفظ: (آخر) ساقطة من (ب).
(١٠) أخرج أحمد في "المسند" ١/ ٢٧٢، وابن أبي عاصم في "السنة" ١/ ٨٩ رقم =
39
[و] قوله (١) تعالى: ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾. قال الزجاج: (وهو استثناء ليس من الأول ولكنه ممن أمر بالسجود مع الملائكة بدليل قوله: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢] فدل أن إبليس ممن أُمِر بالسجود) (٢)
= (٢٠٢)، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٥٠٦ رقم (٢١١)، والطبري ٩/ ١١١، والحاكم في "المستدرك" ١/ ٢٧ - ٢/ ٥٤٤، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - ﷺ - قال: "أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان -يعني عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا"، قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ -إلى- ﴿الْمُبْطِلُونَ﴾) [الأعراف: ١٧٢، ١٧٣].
وصححه الحاكم في "المستدرك" ووافقه الذهبي في "التلخيص". وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٥: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح) اهـ. وقال الشوكاني في "تفسيره" ٢/ ٣٨٤، وصديق خان ٥/ ٧٣ (إسناده لا مطعن فيه) اهـ. وحسن إسناده الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة" لابن أبي عاصم ١/ ٨٩، وصححه في "السلسلة الصحيحة" رقم (١٦٢٣). وفي الباب أحاديث كثيرة بمعناه، انظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٦١.
(١) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ١٤، وعلى هذا القول يكون الاستثناء منقطع، وإبليس ليس من الملائكة لكنه أمر بالسجود معهم، وذهب الجمهور إلى أن الاستثناء متصل وإن إبليس من الملائكة أو من طائفة منهم، واختاره الطبري في "تفسيره" ١/ ٢٢٤، ٢٢٥، والبغوي ١/ ٨١، وابن عطية ١/ ٢٤٥، ٢٤٦، وغيرهم، والظاهر والله أعلم أنه ليس من الملائكة؛ لأن الملائكة خلقت من نور وإبليس خلق من نار ولأن الملائكة مسخرة لا تعصي الله تعالى وإبليس عصى وكفر ولقوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠] وتوجه الخطاب إليه وأمر بالسجود مع الملائكة لأنه كان في عامتهم ومعهم يعمل بعملهم ويتعبد كما يتعبدون ولكن غلب عليه الطبع الخبيث. أفاده شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- في كتاب "أحكام من القرآن الكريم" ١/ ١٦٢ - ١٦٤، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ١٤، و"النكت والعيون" للماوردي ١/ ١٠٢، و"زاد المسير" ١/ ٦٥.
40
١٢ - قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ موضع (ما (١)) رفع، المعنى: أي شيء منعك من السجود. قال أبو بكر (٢): (ومعنى سؤاله الله عز وجل إبليس عن علة ترك السجود وهو عالم بذلك التوبيخ له [و] التعنيف (٣) وليظهر أنه معاند وأنه ركب المعصية خلافاً لله عز وجل، كما يقول الرجل لعبده: ما منعك من طاعتي وقد أحسنت إليك، وما منعك من خدمتي وقد أفضلت عليك، يريد بذلك التوبيخ له) (٤). وهذا معنى قول أبي إسحاق (٥).
وأما (لا) في قوله ﴿أَلَّا تَسْجُدَ﴾ فقال الفراء: (المعنى: ما منعك أن تسجد وأن في هذا الموضع تصحبها (٦) لا، وتكون صلة، وكذلك قوله: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] تزاد (٧) للاستيثاق من الجحد والتوكيد له، ومثله: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ (٨) [الحديد: ٢٩] المعنى: ليعلم أهل الكتاب) (٩).
(١) ﴿مَاَ﴾ اسم استفهام مبتدأ وما بعدها خبرها. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٠١، و"المشكل" ١/ ٢٨٤.
(٢) أبو بكر بن الأنباري، إمام لغوي. تقدمت ترجمته.
(٣) لفظ: (الواو): ساقطة من (ب).
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٢، وما نقله هو نص كلامه.
(٦) في (ب): (تصحتها)، وهو تصحيف.
(٧) في (ب): (يراد)، وهو تصحيف.
(٨) في النسخ: (لان لا).
(٩) في "معاني الفراء" ١/ ٤٧٣ (إلا أن معنى الجحد الساقط في لئلا من أولها لا من آخرها المعنى: ليعلم أهل "الكتاب" ألا يقدرون) اهـ. وانظر: "أضداد ابن الأنباري" ص ٢١١.
41
وهذا أيضًا قول الكسائي (١)، ونحو هذا قال الزجاج: فقال: (معنى ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ إلغاء لا وهي مؤكدة؛ المعنى: ما منعك أن تسجد، قال (٢) ومثل إلغاء (لا) قول الشاعر (٣):
أَبَى جُوُده لا البُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنع الجودَ قَاتِلُهْ
قالوا: معناه: أبى جوده البخل (٤).
[قال: وقال أبو عمرو بن العلاء: الرواية أبى جوده لا البخلِ] (٥) والذي قاله أبو عمرو حسن، المعنى: أبى جوده (لا) التي تبخِّل الإنسان كأنه إذا قيل له: (لا) تسرف و (لا) تبذر مالك أبي جوده (٦) هذه واستعجلت به (نعم) فقال: نعم، أفعل ولا أترك الجود، وهذان القولان في البيت هما قول العلماء) (٧).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦١، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٧٣، والرازي في "تفسيره" ١٤/ ٣١، وقال: (هو قول الأكثرين) اهـ. ومهم أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢١١، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ١/ ١٧٦، و"تأويل المشكل" ص ٢٤٤، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٠١، ٦٠٢، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٨٤.
(٢) في (ب): وقال مثل إلغاء.
(٣) الشاهد مشهور لا يعرف قائله، وقد تقدم تخريجه.
(٤) في (ب): (أبي جوده لا البخل) وهو تحريف.
(٥) في (أ): (لا البخل) وهو تحريف.
ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) في "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٣، (أبي جوده (لا) هذه).
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٣.
42
قال أبو علي: (وهذا البيت أنشده أبو الحسن (١) وقال: فسرته العرب أبي جوده البخل، وزعم يونس (٢) أن أبا عمرو (٣) كان يجر البخل ويجعل لا مضافة إليه، أراد أبى جوده [لا] (٤) التي هي للبخل لأن لا قد تكون (٥) للبخل وللجود فالتي للبخل (٦) معروفة والتي للجود أنه لو قال له: امنع الحق أو لا تعط المساكين فقال: لا كان هذا جودًا فيه (٧)) (٨).
وقد أجاز (٩) أبو إسحاق في البيت قولًا آخر قال: (وهو عندي حسن أرى أن تكون لا غير لغو، وأن يكون البخل منصوبًا بدلاً من (لا) المعنى: أبي جوده (لا) التي هي البخل فكأنك قلت: أبي جوده البخل) (١٠).
(١) أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش إمام مشهور.
(٢) يونس بن حبيب الضبي، إمام تقدمت ترجمته.
(٣) أبو عمرو بن العلاء النحوي القارئ، إمام، تقدمت ترجمته.
(٤) لفظ: (لا) ساقطة من (أ).
(٥) في (ب): (يكون) بالياء.
(٦) في (ب): (فالتي للبخل وللجود فالتي للبخل معروفة) وهو تحريف. ولم ترد عند الأخفش ولا عند أبي علي لفظه: (فالتي للبخل معروفة).
(٧) في "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٥، و"الإغفال" ص ٦٩٢، (كان هذا جودا منه).
(٨) النص في "معاني الأخفش " ٢/ ٢٩٤، "الإغفال " ص ٦٩٢، و"الحجة" لأبي علي ١/ ١٦٩. وانظر: إعرابه وتوجيهه في "الحجة" لأبي علي ٣/ ٣٨١، و"كتاب الشعر" ١/ ١١٧، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٥٤٢.
(٩) هذا من قول أبي علي أيضًا في "الإغفال" ص ٦٩٢ - ٦٩٣ والنص منه.
(١٠) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٣. وفيه: (المعنى أبي جوده البخل واستعجلت به نعم) اهـ. وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧٣. (وقد خرجته أنا تخريجًا آخر وهو أن ينتصب البخل على أنه مفعول من أجله ولا مفعول له). وقال السمين في "الدر" ٥/ ٢٦٢: (ولا حجة في هذا البيت على زيادة لا في رواية النصب، ويتخرج على وجهين: =
43
وحكى عن أحمد بن يحيى: (أن (لا) في هذه الآية ليست زائدة، ولا توكيدًا؛ لأن معنى قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾ من قال لك لا تسجد، فحمل نظم الكلام على (١) معناه) (٢).
وهذا القول حكاه أبو بكر (٣) عن الفراء.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ (٤)، ولم يقل: منعني من السجود أني خير منه فأتى بشيء في معنى الجواب ولفظه غير جواب؛ لأن قوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ [إنما هو] (٥) جواب (أيكما خير)، ولكن الكلام في معنى الجواب لأن قوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ في معنى: منعني من السجود فضلي عليه، وهذا قول الفراء (٦) والزجاج (٧).
وزاد أبو بكر لهذا بيانًا فقال: (أما قولة إبليس لعنه الله في جواب ربه
= أحدهما: أن تكون لا مفعولًا بها، والبخل بدل منها لأن (لا) تقال في المنع فهي مؤدية للبخل.
والثاني: أنها مفعول بها أيضًا والبخل مفعول من أجله، والمعنى: أبي جوده لفظ لا لأجل البخل أي: كراهة البخل، ويؤيد عدم الزيادة رواية الجر) اهـ. وانظر: الشاهد وتوجيهه في "الأضداد" لابن الأنباري ص ٢١١ - ٢١٦.
(١) في (أ): (لأن لا)، وهو تحريف.
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٨ أ.
(٣) انظر "الأضداد" لابن الأنباري ص ٢١٥ - ٢١٦. وقال الرازي في "تفسيره" ٤/ ٣١: (لا هاهنا مفيدة وليست لغوًا، وهذا هو الصحيح لأن الحكم بأن كلمة من كتاب الله لغو لا فائدة فيها مشكل صعب) اهـ.
(٤) لفظ: (قال) ساقط من (ب).
(٥) لفظ: (إنما هو) ساقط من (ب).
(٦) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٧٤.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٣.
44
عز وتعالى: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ ففيه [معنى] (١) منعني من السجود له عند نفسي أنني (٢) خير منه؛ إذ كنت ناريًا وكان طينيًا، فلما أتى بكلام فيه معنى الجواب اكتفى به، واقتصر عليه كما يقول الرجل للرجل: لمن الدار؟ فيقول: مالكها زيد، يريد هي لزيد، فيأتي بكلام يرجع إلى معنى الجواب، فخاطب الله عز وجل العرب بلسانها واختصارها، واكتفائها) (٣).
وقوله تعالى: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾، قال ابن عباس: (كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى (٤) ربه وقاس، وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس) (٥).
فإن قيل: أليس العلماء يقيسون في مسائل، قيل: القياس قياسان: قياس في مخالفة النص فهو مردود كقياس إبليس، وقياس يوافق الأصول عند عدم النص فهو مقبول كقياس العلماء يقيسون (٦) ما لا نص فيه بما فيه
(١) لفظ: (معنى) ساقط من (ب).
(٢) في (ب): (أنه)، وهو تحريف.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦١، والقرطبي ٧/ ١٧٠ - ١٧١ بدون نسبة ونحوه في "معاني النحاس" ٣/ ١٥، و"تفسير البغوي" ٣/ ٢١٧.
(٤) قوله: (فعصى) غير واضحة في (أ)، وموضحة في الهامش.
(٥) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٨ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦١، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢١٧، والقرطبي ٧/ ١٧١ وغيرهم، ونقله الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٣٤، عن الواحدي عن ابن عباس.
(٦) القياس لغة: التقدير، ورد الشيء إلى نظيره، واختلف في تعريفه في الشرع، فقيل: هو حمل مجهول الحكم على معلومه لمساواة بينهما في علة الحكم، والقياس الشرعي عند الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء أصل من أصول الشريعة يستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع.
انظر: "الرسالة" للشافعي ص ٤٧٦ وما بعدها، و"شرح مختصر الروضة" ٣/ ٢١٨، و"التعريفات" للجرجاني ص ١٨١، و"إرشاد الفحول" ٢/ ٨٣٩ وما بعدها.
45
نص ودليل، وابن عباس يقول: (من قاس الدين بشيء من رأيه) ولا يجوز أن يقاس الدين بما يراه الإنسان من رأيه (١).
١٣ - قوله تعالى: ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾، قال: ابن عباس: (يريد: من الجنة، وكانوا في جنة عدن، وفيها خلق آدم) (٢)، ونحو هذا قال مقاتل: (﴿{فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ يعني: الجنة) (٣).
وقال مجاهد (٤): (﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ [في السماء) وهذا يدل على أنه يقول: ﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾، يعني: السماء.
وقوله: ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾] (٥)، قال ابن عباس: (يريد: أن أهلها ملائكة متواضعون خاشعون، ﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾، قال: يريد:
(١) انظر: "زاد المسير" ٣/ ١٧٤، و"تفسير الرازي" ١٤/ ٣٤، والقرطبي ٧/ ١٧١، و"فتاوى شيخ الإسلام" ٥/ ١٥ - ٦.
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٣٥، وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٣، وابن الجوزي ٣/ ١٧٥.
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٠.
(٤) ذكر بدون نسبة في "تفسير البغوي" ٣/ ٢١٧، وابن الجوزي ٣/ ١٧٥، والقرطبي ٧/ ١٧٣، وقال: (هو الأظهر) وهذا هو قول الجمهور وهو الظاهر لأنه هو المعلوم عند الإطلاق والأصل في النصوص حملها على ما هو معلوم ومفهوم حتى يقوم دليلُ على خلاف ذلك، فآدم اهبط من السماء من جنة الخلد التي هي مأوى المتقين.
أفاده شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- في كتاب "أحكام القرآن" ١/ ١٦٨ وهو اختيار الواحدي في "البسيط" كما تقدم في قصة آدم من سورة البقرة، والقرطبي في "تفسيره" ١/ ٣٠٢ وذهب بعضهم -وهو قول المعتزلة والخوارج- إلى أن آدم كان في جنة الدنيا بأرض عدن. انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٤٢، وابن كثير ٢/ ٢٢٨.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
من المُذلين) (١)، وقد ذكرنا معنى (الصاغر) و (الصغار) عند قوله: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ﴾ [الأنعام: ١٢٤].
قال أبو إسحاق: (إن إبليس قد استكبر بإبائه السجود (٢)، فأعلمه الله عز وجل أنه صاغر بذلك) (٣).
١٤ - قوله تعالى: ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي: أخرني إلى يوم البعث (٤)، قال ابن عباس: (يريد: النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين) (٥).
﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾، قال أهل المعاني: (معناه: إنك مُنظر، ولكن ربما يذكر الجماعة في هذا الموضع، ولا يكون المراد به إلا تحقيق الخطاب في واحد) (٦).
قال ابن عباس: (فأبى الله ذلك عليه) (٧).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٣، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٢. وذكره القرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٧٣ بدون نسبة.
(٢) في (أ): (للسجود).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٤.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٤، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٣٣.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٤، وذكره القرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٧٣ - ١٧٤. وقال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٢٤، والنحاس ٣/ ١٥: (أي: أخرني فلم يجب إلى هذا بعينه فأجيب إلى النظرة إلى يوم الوقت المعلوم) اهـ.
(٦) الذي عليه أهل التفسير أن قوله: ﴿مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ أي: داخل في عداد المنظرين بآجالهم إلى ذلك الوقت المعلوم، فقد عم تلك الفرقة إنظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر، أفاده الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٢، وابن عطية ٥/ ٤٤٣، ٤٤٤، وابن الجوزي ٣/ ١٧٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧٤.
(٧) ذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٣٣، والقرطبي ٧/ ١٧٣ - ١٧٤.
قال المفسرون: (إن إبليس -لعنه الله- استنظر إلى يوم البعث، وأراد أن يذوق الموت في النفخة الأولى، فلم يُعطه ذلك، وأنظره إلى يوم النفخة الأولى [لا إلى] (١) الثانية؛ لأنه بين مدة المهلة في موضع آخر فقال: ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [الحجر: ٣٨] وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم) (٢).
١٦ - قوله تعالى: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾، قال ابن عباس: (يريد: فبما أضللتني، مثل قول نوح: ﴿إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾) (٣) [هود: ٣٤].
قال أبو بكر الأنباري حاكيًا عن أهل اللغة: (الإغواء (٤) إيقاع الغَيِّ في القلب، والغَيُّ: المذموم من الفعل، وقوله: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ أي: فبما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب خروجي من الجنة، وكذلك قوله: ﴿إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود: ٣٤] أي: يوقع الشر في قلوبكم
(١) لفظ: (لا إلى) ساقط من (ب).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٣٢، ١٣٣، والسمرقندي ١/ ٥٣٣، والماوردي ٢/ ٢٠٤، ٢٠٥، والبغوي ٣/ ٢١٧ - ٢١٨، وابن عطية ٥/ ٤٤٣ وقال: (هذا أصح وأشهر في الشرع) اهـ. وقال الشنقيطي في "تفسيره" ٢/ ٢٩٥: (طلب الشيطان الإنظار إلى يوم البعث، وقد أعطاه الله الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم، وأكثر العلماء يقولون: المراد به وقت النفخة الأولى، والعلم عند الله تعالى) اهـ.
(٣) أخرجه الطبري ٨/ ١٣٣ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٣٥.
(٤) أصل الإغواء: تزيين الرجل للرجل الشيء حتى يحسنه عنده يقال: غَوَى، بالفتح: الرجل يَغْوَى غَيًّا من الغي، خلاف الرشد، والغواية: الانهماك في الغيَّ، ويأتي الغَيَّ بمعنى الفساد والضلال والجهل والخيبة.
انظر: "الطبري" ٨/ ١٣٣، و"الجمهرة" ١/ ٢٤٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٠٦، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٥٠، و"المفردات" ص ٦٢٠، و"اللسان" ٦/ ٣٣٢٠ (غوى).
48
ويحسن القبيح لكم لما سبق لكم عنده من الشقاء.
قال: وقال بعضهم: الإغواء الإهلاك، ومنه قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: ٥٩] أي: هلاكاً وبلاء، ومنه أيضًا قولهم: غَوِيَ الفصيل يَغْوَى غوى (١)، إذا أكثر من اللبن حتى يفسد جوفه ويشارف (٢) الهلاك والعطب، وفسروا قوله: ﴿إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود: ٣٤] إن كان الله يريد أن يهلككم بعنادكم الحق، وهذا قول تحتمله اللغة، وأهل التفسير على القول الأول) (٣)
قال أبو إسحاق: (في ﴿أَغْوَيْتَنِي﴾ قولان: قال بعضهم: أضللتني، وقال بعضهم: فبما دعوتني إلى شيء غَويت به، أي: غويت من أجل آدم) (٤).
قال أبو بكر: (وأما قوله عز وجل: ﴿فَبِمَا﴾؛ فإن الباء تحتمل أمرين: أحدهما: القسم؛ أي: بإغوائك إياي ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ بقدرتك عليَّ ونفاذ سلطانك في لأقعدن لهم على الطريق المستقيم [الذي] (٥)
(١) جاء في "الزاهر" لابن الأنباري ٢/ ٢٥٢ (يقال: غَوى الرجل يَغْوى غَيًّا وغَواية: إذا جهل وأساء. ويقال: قد غَوِي الفصيل يَغْوَى إذا بشم من لبن أمه عند الإكثار والازدياد منه) اهـ. ونحوه في "شرح القصائد" ص ٥٢، وفي مصادر اللغة يطلق ذلك عليه، إذا فقد اللبن حتى كاد يهلك، ويقال أيضًا: إذا أكثر من اللبن فأتخم. انظر: "العين" ٤/ ٤٥٦، و"البارع" ص ٤٤٣ - ٤٤٥، والمراجع السابقة.
(٢) في (ب): (ويشارك)، وهو تحريف.
(٣) ذكر بعضه الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٢، والبغوي ٣/ ٢١٨، وابن الجوزي ٣/ ١٧٥، وقال: (الجمهور على أنه بمعنى: الإضلال) اهـ. وهو بدون نسبة في "تفسير الثعلبي" ١٨٨ أ، والرازي ١٤/ ٣٧
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٤، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ١٦، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٣، والماوردي ٢/ ٢٠٦.
(٥) لفظ: (الذي) ساقط من (ب).
49
يسلكونه إلى الجنة بأن أزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم، فإذا كان الباء قسمًا كان اللام جواب القسم، و (ما) بتأويل المصدر و ﴿أَغْوَيْتَنِي﴾ صلتها ولا عائد لها. قال: ويجوز أن يكون (ما) بتأويل الشرط والباء من صلة الإغواء، والفاء المضمرة جواب الشرط، والتقدير قال: فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطك، فتضمر (١) الفاء جوابًا للشرط كما تضمرها (٢) في قولك: إلى ما أومأت إني قابله وبما أمرت إني سامع له مطيع) (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، قال الزجاج: (أي: على طريقك المستقيم، ولا اختلاف بين النحويين (٤) في أن (على) محذوفة، ومثل ذلك قولك: ضربه زيد الظهر والبطن، والمعنى: على الظهر والبطن) (٥).
(١) في (ب): (فيضمر) بالياء.
(٢) في (ب): (يضمرها) بالياء.
(٣) ذكر بعضه الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٢، والوجوه في (الباء) و (ما) في عامة المصادر. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٣٥، والماوردي ٢/ ٢٠٦، و"غرائب الكرماني" ١/ ٣٩٩، و"تفسير البغوي" ٣/ ٢١٨، وابن عطية ٥/ ٤٤٤، و"الفريد" ٢/ ٢٧٧، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧٤، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٦٤ - ٢٦٥: (الظاهر أن الباء للقسم، وما مصدرية) اهـ. وذكر السمين قول ابن الأنباري في أن ما شرطية وقال: (هذا الذي قاله ضعيف جدًّا، فإنه على تقدير صحة معناه يمتنع من حيث الصناعة، فإن فاء الجزاء لا تحذف إلا في ضرورة شعر، فعلى رأي أبي بكر يكون قوله ﴿لَأَقْعُدَنَّ﴾ جواب قسم محذوف، وذلك القسم المقدر، وجوابه جواب الشرط فيقدر دخول الفاء على نفس جملة القسم مع جوابها تقديره: فبما أغويتني، فوالله لأقعدن، هذا يتمم مذهبه) اهـ.
(٤) انظر: "الكتاب" ١/ ٣٤ - ٣٧، و"معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٥.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٤، ونحوه ذكر النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٠٢، والمعاني ٣/ ١٦، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٨٤.
50
وزاد الفراء بيانًا، فقال (١): (المعنى -والله أعلم-: لأقعدن لهم على طريقهم وفي (٢)، وإلقاء الصفة (٣) من هذا جائز، كما تقول: قعدت لك وجه الطريق، وعلى وجه الطريق؛ لأن الطريق ظرف (٤) في المعنى، فاحتمل (٥) ما يحتمله اليوم والليلة، والعام إذا قيل: آتيك غدًا وفي غد) (٦).
ومعنى ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ كما ذكره أبو بكر فيما حكينا (٧) عنه، قال ابن عباس في تفسير ﴿صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (يريد: دينك الواضح) (٨). وقال ابن مسعود: (هو كتاب الله) (٩).
(١) في (أ): (وقال).
(٢) في "معاني الفراء" (أو في).
(٣) المراد بالصفة هاهنا -عند الكوفيين-: حرف الجر، وكذلك يطلقونه أيضًا على الظرف انظر: "معجم المصطلحات النحوية" للدكتور محمَّد اللبدي ص ٢٤١، و"حاشية تفسير الطبري" ١٢/ ٣٣٧.
(٤) في (ب): (طرقٌ) -وهو تصحيف-، وفي "معاني الفراء" ١/ ٣٧٥؛ لأن الطريق صفة في المعنى، وما ذكره الواحدي هو تفسير لذلك؛ لأن الفراء يطلق على الظرف لفظ الصفة كما سبق بيانه.
(٥) في (ب): (فاحتمله ما يحتمله) وهو تحريف.
(٦) في "معاني الفراء" ١/ ٣٧٥: (آتيك غدًا أو آتيك في غد). وضعف أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧٥، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٦٦ - ٢٦٨، النصب على إسقاط الخافض لأن حذف حرف الجر لا ينقاس في مثل هذا، ولا يطرد حذفه، بل هو مخصوص بالضرورة. وقالا: (والأولى أن يضمن (لأقعدن) معنى ما يتعدى بنفسه فينتصب الصراط على أنه مفعول به، والتقدير: لألزمن بقعودي صراطك المستقيم) اهـ.
(٧) سبق تخريجه عن ابن الأنباري
(٨) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٤، وذكره ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٩٥ عن ابن عباس.
(٩) ذكره ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٩٥، وفي أكثر كتب التفسير عن ابن =
51
وقال جابر بن عبد الله: (هو الإسلام) (١).
١٧ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾، قال ابن عباس في رواية الوالبي: (﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ يعني آخرتهم، يقول: أشككهم فيها، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ أرغبهم في دنياهم) (٢).
وهو قول قتادة، قال: (آتيهم ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن ﴿خَلْفِهِمْ﴾ من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها) (٣)، ونحو هذا قال الكلبي (٤)، وهؤلاء جعلوا الآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها فهي بين أيديهم، وإذا كانت الآخرة بين أيديهم كانت الدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها (٥).
= مسعود قال: (طريق مكة).
انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٢٠٦، وابن الجوزي ٣/ ١٧٦، و"الدر المنثور" ٣/ ١٣٥.
(١) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٧٦، وابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٩٥، وما ذكر تنبيه على بعض أنواع الصراط، والظاهر هو العموم، فالصراط: الطريق وسبيل النجاة، وذلك دين الله الحق، والإسلام وشرائعه، وهو اختيار عامة المفسرين.
انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٣٤، ١٣٥، و"معاني النحاس " ٣/ ١٦، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٣، و"البغوي" ٣/ ٢١٨، و"ابن عطية" ٥/ ٤٤٦.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٤٤ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٣٦.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٦ بسند جيد. ، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٤٤ بسند جيد عن قتادة عن الحسن وقال: (وروى عن عكرمة نحو ذلك) اهـ.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٤، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٥ بسند جيد عن الكلبي، وذكره السمرقندي ١/ ٥٣٣، والثعلبي ١٨٨ ب.
(٥) ذكر نحوه النحاس في "معانيه" ٣/ ١٨.
52
وقال الحكم (١) والسدي (٢): ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ (يعني الدنيا ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾، من قبل الآخرة). وهو قول ابن عباس في رواية العوفي، قال: (أما ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ فمن قبل دنياهم، وأما ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ (٣) فأمر آخرتهم) (٤). فهؤلاء جعلوا (بين أيديهم) الدنيا؛ لأنها بين يدي الإنسان يسعى فيها ويعمل لها والآخرة تأتي (٥) من بعد.
وقوله تعالى: ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾، قال الوالبي عن ابن عباس ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾: (أُشَبِّه عليهم أمر دينهم، ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ أُشَهِّي (٦) لهم المعاصي). وقال في رواية عطاء: (﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ يريد: من قبل الحق، ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ يريد: من قبل الباطل) (٧).
(١) الحكم بن عتيبة الكندي أبو محمد الكوفي، إمام ثقة فقيه، تقدمت ترجمته، والأثر عنه، أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٦، ١٣٧ بسند جيد، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٤٥ وقال: (روي عن مجاهد والنخعي والحكم وأبي صالح والسدي) اهـ. وذكره النحاس في "معانيه" ٣/ ١٦ - ١٧، والثعلبي في "الكشف" ص ١٨٨/ ب.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٧ بسند جيد وذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٣٣، والثعلبي ١٨٨ ب.
(٣) لفظ: (من) ساقط من (أ).
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٦، ١٣٧ بسند جيد عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وأخرجه الطبري أيضًا، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٤٤ بسند ضعيف من طريق عطية العوفي، وذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ١٧ - ١٨ كلا الروايتين من طريق علي بن أبي طلحة وقال: (وذلك القول لا يمتنع؛ لأن الآخرة لم تأت بعد فهي بين أيدينا وهي تكون بعد موتنا فمن هذه الجهة يقال: هي خلفنا) اهـ.
(٥) في (ب): (يأتي).
(٦) في (ب): (اشتهى)، والمشهور: (اشَهَّي) وقد سبق تخريجه.
(٧) لي أقف عليه بهذا اللفظ عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٧٦ عن مجاهد والسدي.
53
وهو قول الحكم (١) والسدي، قالا: (﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ من قبل الحق؛ أصدهم (٢) عنه وأشككهم فيه، ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ من قبل الباطل أخففه (٣) عليهم، وأزينه لهم، وأرغبهم فيه).
وقال (٤) في رواية العوفي: (أما ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ فمن قبل حسناتهم، وأمما ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ فمن قبل سيئاتهم).
وهو قول قتادة، قال: (﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ من قبل حسناتهم بَطَّأَهم عنها ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها، أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله) (٥).
قال أبو بكر: (وقولُ من قال: (الأيمان كناية عن الحسنات، والشمائل كناية عن السيئات) حسنٌ؛ لأن العرب تقول: اجعلني في يمينك، ولا تجعلني في شمالك، يريد اجعلني من المقدمين عندك،
(١) سبق تخريجه عن الحكم والسدي.
(٢) في (ب): (اصدقهم)، وهو تحريف.
(٣) في (ب): (أحققه)، وهو خلاف ما في المصادر.
(٤) أي ابن عباس من طريق عطية العوفي. وقد سبق تخريجه. وأيضًا أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٦ بسند جيد عن علي بن أبي طلحة.
(٥) سبق تخريجه، وذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ١٦ - ١٨ نحوه عن الحكم بن عتيبة. وقال: (هذا قول حسن وشرطه أن معنى ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ من دنياهم حتى يكذبوا بما فيها من الآيات وأخبار والأمم السالفة ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ من آخرتهم حتى يكذبوا بها، ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ من حسناتهم وأمور دينهم، ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ [الصافات: ٢٨] ﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ يعني: سيئاتهم أي: يتبعون الشهوات لأنه يزينها لهم) اهـ.
54
ولا تجعلني من المؤخرين، أنشدنا أبو العباس (١) لابن الدمينة (٢):
أَبِيِنى (٣) أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعلْتِنى فَأَفْرَحَ أَمْ صَيَّرْتِني في شِمالِكِ) (٤)
وروى أبو عبيد عن الأصمعي (٥): (هو عندنا باليمين أي: بمنزلة حسنة، وإذا خست منزلته قال: أنت عندي (٦) بالشمال وقال:
رَأَيْتُ بَنِي العَلَّاتِ لَمّا تَضَافَرُوا يَحُوزون سَهْمِي دُونَهْم فيِ الشَّمَائِل (٧)
(١) أبو العباس: أحمد بن يحيى الإِمام ثعلب. تقدمت ترجمته.
(٢) ابن الدُّمَيْنْةَ: هو عبد الله بن عبيد الله بن أحمد الخَثْعَمي، أبو السَّريّ، شاعر إسلامي، له شعر كثير، والدمينة أمه، توفي سنة ١٣٠ هـ.
انظر: "الشعر والشعراء" ص ٤٨٩، و"الأغاني" ١٧/ ٩٨، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي ١/ ٤٢٥، و"الأعلام" ٤/ ١٠٢.
(٣) "ديوانه" ص ١٧، و"أمالي الزجاجي" ص ١٠٨، و"الأغاني" ١٧/ ٩٦، و"دلائل الإعجاز" للجرجاني ص ٩٠، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٩٧، وبلا نسبة في الماوردي ٤/ ٢٩٧، و"وضح البرهان" للغزنوي ٢/ ٤٣١، وهو في "الصناعتين" ص ٣٥٥ لطرفة ابن العبد وليس في "ديوانه"، وفي (ب): (أتيني) وهو خلاف ما في المراجع.
(٤) "شرح القصائد" لابن الأنباري ص ٤١١.
(٥) في "الغريب المصنف" ١/ ٣١٨ قال أبو عبيد: (الشمائل واحدها شمال، وقد تكون من الأخلاف ومن خلفه الجسد)، وفي "اللسان" ٨/ ٤٩٦٩ (يمن)، (اليَمين المنزلة، قال الأصمعي: هو عندنا باليمين أي: بمنزلة حسنة) اهـ. وذكره عن أبي عبيد عن الأصمعي، ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ١٩٧.
(٦) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٢٩، وصاحب "اللسان" ٤/ ٢٣٢٩ (شمل) عن العرب.
(٧) لم أهتد إلى قائله. وهو في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٣١، و"اللسان" ٤/ ٢٣٢٩ (شمل)، و"الدر المصون" ٢/ ٢٧٠، و"بدائع التفسير" ٢/ ١٩٧، وبنو العلات =
55
أي: ينزلونني بالمنزلة الخسيسة) (١)، وروى الأزهري في هذه الآية عن بعضهم: (﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: لأغوينهم حتى يكذبوا بما تقدم من أمور الأمم السالفة، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ بأمر البعث، ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ أي: لأضلنهم فيما يعملون؛ لأن الكسب يقال فيه: (ذلك بما كسبت يداك) وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئًا؛ لأن اليدين هما الأصل في التصرف، فجعلت مثلًا لجميع ما عمل بغيرهما) (٢).
وقال ابن الأنباري: (على هذا القول: ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ أي: أزهدهم فيما ينبغي أن يعملوا له مما يكسبهم ثواب ربهم، قال: والعرب تذكر (الأيمان) و (الأيدي) عند العمل والفعل فيقول: جنت عليه يده، وكسبت يده، فلما كان ذكر الأيدي مستعملًا في الأفعال والأعمال اكتفى الله تعالى بها من الأفعال) (٣)، وقال آخرون: (ذكر الله تعالى هذه الوجوه للمبالغة في التوكيد، أي: ثم لآتينهم من جميع الجهات)، وهو اختيار أبي إسحاق؛ قال: (الحقيقة -والله أعلم- أي: أنصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم) (٤).
= -بالفتح- بنو أمهات شتى من رجل واحد لأن الذي تزوجها على أولى قد كانت قبلها ناهل ثم عل من هذه، انظر: "اللسان" ٥/ ٣٠٨٠ (علل).
(١) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٤١، عن الأنباري.
(٢) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٨٥. وذكره عن البعض الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٢٥، وصاحب "اللسان" ٨/ ٤٩٦٩ (يمن).
(٣) لم أقف عليه. وانظر: "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٣٥٦، ص ٣٧٩.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٤، وهذا هو اختيار جمهور المفسرين منهم الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٧، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٠٣، وابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٤٤٧، وقال القرطبي ٧/ ١٧٦: (ومن أحسن ما قيل في تأويل الآية؛ =
56
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: [أن] (١) أكثرهم لإبليس طائعين، ولله عاصين) (٢).
١٨ - قوله تعالى: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا﴾، قال الكلبي: (من الجنة) (٣) ﴿مَذْءُومًا﴾؛ قال الليث: (ذَأَمت الرجل فهو مذؤوم أي: محقور، والذَّأم: الاحتقار) (٤).
ونحو ذلك قال الأصمعي (٥) وأبو زيد: (ذَأَمْته أذَأَمه إذا حقرته وذَمَمْته) (٦)، وقال أحمد بن يحيى: (ذَأَمته عِبْتُه) (٧).
وقال الفراء: (ذَأَمته ذأمًا فأنا أذأمه إذا عبته) (٨).
= أي: لأصدنهم عن الحق وأرغبنهم في الدنيا وأشككهم في الآخرة وهذا غاية في الضلالة) فالراجح في الآية أنه يأتيهم حقيقة من جميع الوجوه الممكنة من حيث لا يبصرون، ومن جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه والشر يحسنه لهم، وانظر: "تأويل المشكل" ص ٢٤٨، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٢٢٩.
(١) لفظ: (أن) ساقط من (ب).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٤، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٤٦ بسند جيد عن ابن عباس قال: (موحدين)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٣٦.
(٣) ذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٣٣، والثعلبي ١٨٨ ب، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٤، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢١٩.
(٤) "العين" ٨/ ٢٠٣، وذكره عن الليث. الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٤٣، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٦٥، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٧١.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٦٤، وفيه: (ذأمته، ودأمته: إذا حقرته وخزيته) اهـ. وفي ١٤/ ٤١٦، قال: (والذَّام: العيب) اهـ.
(٦) "النوادر" ص ٩٧، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٦٤.
(٧) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٦٤، وفيه زاد: (وذأمته أكثر من ذممته) اهـ.
(٨) "الزاهر" لابن الأنباري ٢/ ٣، و"زاد المسير" ٣/ ١٧٨، ولم أقف عليه في "معانيه".
57
وقال ابن الأنباري: (المذؤوم المذموم، يقال: ذَأَمْت الرجل أَذْأَمُه وذِمْتُه أَذِيمُة ذَيْمًا وذَمَمْتُه أَذُمُّه ذَمًّا بمعنى) (١) وأنشد (٢):
وأقاموا حتى أبيرَوا جميعًا في مَقامٍ وكلُّهم مَذْؤُومُ
وقال أمية في اللغة الثانية:
وقالَ لإبليسَ ربُّ العبادِ [أن] (٣) اخُرجْ دحيرًا لعينًا مذُوما (٤)
(١) "الزاهر" لابن الأنباري ٢/ ٣، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٥، و"غريب اليزيدي" ص ١٤٤، والخلاصة: أن مذءوم اسم مفعول من ذَأمه مهموز إذا عابه واحتقره ودحره وذمَّه ذأمًا، وقد تسهل همزة ذأم فتصير ألفًا فيقال: ذام. يقال: ذأمه يذأمه -كرأم- وذامه يذيمه كباعه من غير همز، فمصدر المهموز ذأم -كَرأْس-، وأما مصدر غير المهموز فسمع فيه ذام بألف، وحكى فيه ذَيْمًا كيَنْع، أفاده السمين في "الدر" ٥/ ٢٧١.
وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٤، و"الجمهرة" ٢/ ١٠٩٧، و"الصحاح" ٥/ ١٩٢٥، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٣٦٨، و"المجمل" ٢/ ٣٦٤، و"الأفعال" للمعافري ٣/ ٦٠٣ - ٦٠٤، و"المفردات" ص ٣٣١، و"اللسان" ٣/ ١٤٨٢ (ذأم).
(٢) الشاهد لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- في "ديوانه" ص ٢٢٦ برواية:
لم يُوَلُّوا حَتَّى أُبِيدُوا جَميعًا في مَقَامِ وكلُّهمِ مَذْمُومُ
وهو في "الزاهر" ٢/ ٣، و"زاد المسير" ٣/ ١٧٨، و"الدر المصون" ٥/ ٢٧١، وأبيروا -أي: أهلكوا- انظر: "اللسان" ١/ ٣٨٥ (بور). وذكره ابن هشام في "السيرة" ٢/ ١٢٤ ضمن قصيدة طويلة يذكر فيها عدة أصحاب اللواء يوم أحد.
(٣) لفظ: (أن) ساقط من النسخ.
(٤) الشاهد في "ديوان أمية بن أبي الصلت الثقفي" ص ٢٣٥، و"تفسير الثعلبي" ١٨٨ ب، والرازي ١٤/ ٤٤، و"الدر المصون" ٥/ ٢٧٢، وقال السمين: (أنشده الواحدي على لغة ذامه بالألف، يذيمه بالياء، وليته جعله محتملًا للتخفيف من لغة الهمز) اهـ.
58
وقال ابن قتيبة: (﴿مَذْءُومًا﴾ [مذمومًا] (١) بأبلغ الذم) (٢). وقوله: ﴿مَدْحُورًا﴾؛ الدحر في اللغة (٣): الطرد والإقصاء والتبعيد يقال: دَحَره دَحْرًا ودُحورًا إذا طرده وبعده، ومنه قوله تعالى: ﴿وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُورًا﴾ [الصافات: ٨ - ٩]، وقال أمية:
وبإذنه سجدوا لآدمَ كلهمْ إلا لعينًا خاطئًا مَدْحورًا (٤)
وأما لفظ المفسرين في تفسير هذين الحرفين، فقال ابن عباس: (﴿مَذْءُومًا﴾ ممقوتًا) (٥)، وروى عطية عنه: (﴿مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾ يعني: صغيرًا مقيتًا) (٦).
وقال في رواية عطاء: (يريد: صاغرًا ملعونًا) (٧)، وكل واحد منهم أتى بلفظ قريب المعنى مما ذكره أهل اللغة.
وقوله تعالى: ﴿لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾، اللام فيه لام القسم، وجوابه قوله (٨): ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾.
(١) لفظ: (مذمومًا) ساقط من (ب).
(٢) "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٦، ونحوه ذكر أبو عبيدة في "المجاز" ١/ ٢١١، والطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٨، ومكي في "تفسير المشكل" ص ٨٣.
(٣) انظر: "العين" ٣/ ١٧٧، و"الجمهرة" ١/ ٥٠١، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١١٥٣، و"الصحاح" ٢/ ٦٥٥، و"المجمل" ٢/ ٣٤٧، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٣٣١، و"المفردات" ص ٣٠٨، و"اللسان" ٣/ ١٣٣٣ (دحر).
(٤) "ديوان أمية بن أبي الصلت الثقفي" ص ٢٣٥، و"تفسير الرازي" ١٤/ ٤٤، و"الدر المصون" ٥/ ٢٧٢.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٤٦ بسند جيد.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٣٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٤٧ بسند ضعيف.
(٧) لم أقف عليه، وانظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٢٠٨، والبغوي ٣/ ٢١٩.
(٨) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٥، والزجاج ٢/ ٣٢٥، و"تفسير الطبري" =
59
وقوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ﴾ (١). قال أبو بكر: (الكناية تعود على ولد آدم لأنه حين قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: ١١] كان مخاطبًا لولد آدم فرجع إليهم) (٢).
قال ابن عباس: (يريد: من أطاعك منهم ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ قال: يريد: المشركين والمنافقين والكافرين وقرنائهم من الشياطين) (٣).
١٩ - قوله تعالى: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ (٤)، الآية مفسرة في سورة البقرة (٥).
٢٠ - وقوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾، قال الليث: (الوسوسة: حديث النفس والصوت الخفي من ريح تهز قصبًا أو شيئًا، كالهمس، وبه سمي صوت الحلي وسواسًا) (٦).
= ٨/ ١٣٩، و"إعراب النحاس" ١/ ١٠٣، وفي هذه اللام وجهان: أظهرهما قول الجمهور أن اللام توطئه لقسم محذوف، و (من) شرطية في محل رفع بالابتداء ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده والثاني: أن اللام للابتداء، و (من) موصولة و ﴿تَبِعَكَ﴾ صلتها، وهي أيضًا في محل رفع بالابتداء، و ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ جواب قسم محذوف، وهو وجوابه في محل رفع خبرًا لهذا المبتدأ والتقدير: للذي تبعك منهم، والله لأملأن جهنم منكم.
انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٥٠، و"التبيان" ١/ ٣٧٠، و"الفريد" ٢/ ٢٧٩، و"الدر المصون" ٥/ ٢٧٣.
(١) في النسخ: ﴿مِنْهُمْ﴾. ويحتمل أنه يريد: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ﴾.
(٢) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٧٨، والرازي في "تفسيره" ١٤/ ٤٤.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٥، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٨٤ نحوه.
(٤) لفظ: ﴿الجَنَّةَ﴾ ساقط من (ب).
(٥) انظر: "البسيط" البقرة: ٣٥.
(٦) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٩٤.
60
ثعلب عن ابن الأعرابي: (رجل موسْوِس، ولا يقال: موَسوَس) (١)
[الأزهري (وإنما قيل: موسوس] (٢)؛ لأن نفسه توسوس له (٣). قال الله تعالى: ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ (٤) [ق: ١٦]، وقال رؤبة يصف الصياد:
وَسْوَسَ يَدْعُو (٥) مُخْلِصًا ربَّ الفَلَقْ (٦)
يقول: لما أحس بالصيد وأراد رميه وسوس في نفسه يخطئ أو يصيب)، قال الأخفش (٧): ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا﴾ (يعني: إليهما) (٨).
(١) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٩٤، ومُوَسوِس -بكسر الواو- ولا يقال مُوَسْوَس -بفتح الواو-. انظر: "الجمهرة" ١/ ٢٠٥، و"المجمل" ٣/ ٩١٢، و"مقاييس اللغة" ٦/ ٧٦، و"المفردات" ص ٨٦٩ (وسوس).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٣) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٩٤: (لأنه يحدث نفسه بما في ضميره) اهـ.
(٤) في (أ): (ويعلم) بالياء، وهو تصحيف.
(٥) في النسخ: (يدعوا).
(٦) "ديوان" رؤبة بن العجاج ص ١٠٨، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٤٠، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٩٤، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٥٦، و"اللسان" ٨/ ٤٨٣١ (وسس)، و"الدر المصون" ٥/ ٢٧٦، وعجزه:
سِرُّا وَقَدْ أوَّنَّ تَاَوِينَ العُقُقْ
قال في "اللسان" ٥/ ٣٠٤٤ (علق) في شرحه للشاهد: (أون شربن حتى انتفخت بطونهن فصار كل حمار كالأتان العقوق وهي التي تم حملها وقرب ولادها) اهـ.
(٧) "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٦، وفيه: (والعرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل) اهـ. ومثله ذكر الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٠، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٠٣، والجوهري في "الصحاح" ٣/ ٩٨٨ (وسوس)، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧٨، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٧٥: (الفرق بين وسوس له ووسوس إليه أن وسوس له بمعنى لأجله، ووسوس إليه ألقى إليه الوسوسة) اهـ.
(٨) في (أ) جاء تكرار، قوله: (وسوس في نفسه) إلى آخره.
61
وقوله تعالى: ﴿لِيُبْدِيَ لَهُمَا﴾، هذه اللام تسمى لام العاقبة (١)؛ وذلك أن الشيطان لم يقصد بالوسوسة بدو عورتهما، ولم يعلم أنهما إن أكلا من الشجرة بدت عوراتهما، وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط، فلما بدت عوراتهما وكان ذلك بسبب معصيتهما جاز أن يقال: فعل ذلك لذلك (٢) كما قال تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: ٨].
٢٠ - قوله تعالى: ﴿مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا﴾ أي: ما ستر؛ من المُواراة يقال: وَاريته فأنا أوَاريه أي: سترته، ويقال: وَارَيْت الميت في التراب أي: دفنته (٣)، ومنه قول النبي - ﷺ - لعلي -رضي الله عنه- لما أخبره بوفاة أبيه (٤) قال: (اذهب فوارِه) (٥) قال الشاعر:
(١) وهي التي يسميها الكوفيون (لام الصيرورة). انظر كتاب "اللامات" للزجاجي ص ١١٩، ولمحمد الهروي ص ١٨٢.
(٢) هذا قول الجمهور أنها للعاقبة والصيرورة، ورجح أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧٨، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٧٦، وهو الظاهر أنها لام العلة الباعثة على أصلها؛ لأن قصد الشيطان ذلك وهو يعلم ذلك بالإلهام أو بالنظر فهو وسوس لهما لغرض إيقاعهما في المعصية ابتداء ولغرض الإضرار بهما؛ لأن طبعه عداوة البشر، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٥٧، وابن عاشور ٨/ ٥٧.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٨٠، و"الصحاح" ٦/ ٢٥٢٣، و"المفردات" ص ٨٦٦، و"اللسان" ٨/ ٤٨٢٣ (ورى).
(٤) في (ب): (ابنه)، وهو تصحيف.
(٥) الحديث أخرجه أحمد في "المسند" ٢/ ١١٢، ١٣٦، وأبو داود (٣٢١٤) كتاب الجنائز، باب: الرجل يموت له قرابة مشرك، والنسائي في الطهارة، باب: الغسل من مواراة المشرك ١/ ١١١، وفي الجنائز ٤/ ٧٩، باب مواراة المشرك عن علي رضي الله عنه أنه أتى النبي - ﷺ - فقال: (إن أبا طالب مات قال: "اذهب فواره" قال: إنه مات مشركًا. فقال: "اذهب فواره" فلما واريته رجعت إليه فقال لي: "اغتسل" =
62
علَى صدى أسود المُواري في التُّرْب أمسى وفي الصفيح (١)
والسَّوأة فرج الرَّجُل والمرأة، وذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان (٢).
وقال ابن عباس: (كانا قد ألبسا ثوبًا يستر العورة منهما، فلما عصيا تهافت عنهما ذلك الثوب، وذلك قوله: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾) (٣) [الأعراف: ٢٢].
٢٠ - وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ﴾، قال ابن الأنباري: (يمكن أن يكون هذا مخاطبة من إبليس لهما، ويمكن أن يكون بوسوسة أوقعه في قلوبهما، والأمران مرويان إلا أن الأغلب والأكثر مخاطبته إياهما بدليل قوله: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾) (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ تقديره: (إلا أن لا تكونا) عند الكوفيين، وعند البصريين (إلا كراهية أن تكونا) فحذف المضاف (٥).
فإن قيل: كيف أطمع إبليس لعنه الله آدم في أن يكون ملكًا عند أكله من الشجرة، فانقاد له مؤملًا ذلك، وقد شاهد الملائكة متواضعة ساجدة
= ودعا لي) اهـ. وصحح الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى إسناده في الحاشية.
(١) لم أهتد إلى قائله، وهو في "الدر المصون" ٥/ ٢٧٧. والصَفِيح: الحجارة العريضة. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٤٥٥ (صفح).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٨٣ (ساء)، و"المفردات" ص ٤٤١ - ٤٤٢ (سوأ).
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٦، والبغوي ٣/ ٢٢٠، والرازي ١٤/ ٤٦.
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٤٧ بدون نسبة.
(٥) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٦، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٤٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٠٤، و"المشكل" ١/ ٢٨٤، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٧٩، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٨٧: (قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَا﴾ استثناء مفرغ وهو مفعول من أجله فقدره البصريون: إلا كراهة أن تكونا، وقدره الكوفيون: إلا أن لا تكونا، وإضمار الاسم أحسن من إضمار الحرف) اهـ. ملخصًا.
63
له، معترفة بفضله؟ فيقال: إن آدم علم أن الملائكة لا يموتون إلا يوم القيامة، ولم يعلم ذلك لنفسه، فعرض عليه إبليس أن يصير ملكًا في البقاء ولا يموت كما لا يموتون (١)، وكان (٢) ابن عباس يقرأ: ﴿مَلَكَيْنِ﴾ (٣)، ويقول: (ما طمعا في أن يكونا ملَكين، لكنهما استشرفا (٤) إلى أن يكونا مَلِكين، وإنما أتاهما الملعون من جهة المُلك، يدل على هذا قوله: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾) (٥) [طه: ١٢٠].
وقوله تعالى: ﴿أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: لا يموتان) (٦).
٢١ - قوله تعالى: ﴿وَقَاسَمَهُمَا﴾. قال ابن عباس: (حلف لهما) (٧). يقال: أَقْسم (٨) يقسم إقسامًا إذ حلف، والقَسَم اليمين، وكذلك قاسم وهو من المفاعلة التي تكون من واحد (٩).
(١) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢١٩، والرازي ١٤/ ٤٧، والقرطبي ٧/ ١٧٨.
(٢) في (ب): (فكان).
(٣) قراءة الجمهور ﴿مَلَكَيْنِ﴾ -بفتح اللام بمعنى ملكين من الملائكة- وقرأ ابن عباس وغيره ﴿مَلَكَيْنِ﴾ -بكسر اللام-، بمعنى ملكين من الملوك، وهي قراءة شاذة. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٤٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٠٤، و"مختصر الشواذ" ص ٤٨.
(٤) في (ب): (استسرفا).
(٥) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٤٧، والقرطبي ٧/ ١٧٨ - ١٧٩.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٥.
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٥، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٦.
(٨) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٦١، و"الصحاح" ٥/ ٢٠١٠، و"مجمل اللغة" ٣/ ٧٥٢، و"المفردات" ص ٦٧٠، و"اللسان" ٦/ ٣٦٣٠ (قسم).
(٩) قال البغوي في "تفسيره" ٣/ ٢١٩: (أي: وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد) اهـ.
وقال القرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٧٩: (وجاء فاعلت من واحد، وهو يرد على من =
64
قال خالد بن زهير (١):
وَقَاسَمهُمَا بالله جَهْدًا لأَنْتُمُ أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذاَ مَا نَشُورُهَا (٢)
قال قتادة: (حلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله) (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾، قال قتادة: (قال لهما إبليس: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما) (٤).
قال أبو علي: (الجار في قوله ﴿لَكُمَا﴾ يتعلق بما بعدها، لأن التقدير إني لمن الناصحين لكما) (٥) وشرح هذا وبيانه مذكور في سورة
= قال: إن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين) اهـ. وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٧٢، وابن عطية ٥/ ٤٥٩، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٧٩، و"الدر المصون" ٥/ ٢٧٩.
(١) خالد بن زهير الهذلي، شاعر أموي، مشهور، جرت بينه وبين خاله أبي ذؤيب الهذلي أشعار وخصومة.
انظر: "الشعر والشعراء" ص ٤٣٥، و"شرح أشعار الهذلين" للسكري ١/ ٢٠٧، و"الخزانة" للبغدادي ٥/ ٧٦.
(٢) "شرح ديوان الهذليين" ١/ ٢١٥، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٤١، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٢٦ (سلا)، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٥٩، و"اللسان" ٤/ ٢٠٨٦ (سلا)، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٧٩، و"الدر المصون" ٥/ ٢٧٩، والسَّلْوى هنا العسل، والشور أخذ العسل من الخلية، أفاده السكري والأزهري.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٥١ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٣٩.
(٤) هذا تابع للأثر السابق الذي سبق تخريجه.
(٥) "الحجة" لأبي علي الفارسي ٤/ ٣٤٣ - ٣٤٤، وزاد فيه: (يتعلق بما يدل عليه النصح المظهر، وإن لم يسلط عليه والتقدير: إني ناصح لكما من الناصحين) اهـ. وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٠٤، و"المشكل" ١/ ٢٨٥، و"الدر المصون" ٥/ ٢٧٩.
65
هود (١) عند قوله ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (٢) [هود: ٤٦].
٢٢ - قوله تعالى: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾ الآية، معنى التدلية (٣) في اللغة: التعليق، يقال: دلى فلان الشيء في مهواة، وتدلى ذلك الشيء بنفسه.
قال أبو عبيدة: (دلاهما: خذلاهما وخلاهما من تدلية الدلو، وهو إرسالها في البئر) (٤).
وقال أبو إسحاق: (دلاهما في المعصية (٥) بأن غرهما) (٦).
وذكر أبو منصور الأزهري -رحمه الله- لهذه الكلمة أصلين:
أحدهما: قال: (أصله الرجل العطشان يدلي في البئر ليروى من الماء فلا يجد فيها ماء، فيكون مدلس فيها بالغرور، فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعًا، فيقال: دلاه إذا أطمعه (٧) ومنه قول أبي جندب (٨) الهذلي:
(١) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ٣/ ٣٢ أ.
(٢) لفظ: ﴿بِهِ عِلْمٌ﴾ ساقط من (ب).
(٣) انظر: "العين" ٨/ ٦٩، و"الجمهرة" ٢/ ٦٨٢، و"الصحاح" ٦/ ٢٣٣٩، و"المفردات" ص ٣١٧ (دلو).
(٤) ذكر الثعلبي في "الكشف" ١٨٨ب، ولم أقف عليه في "مجاز القرآن".
(٥) في (ب): (دلاهما في المعصية غرهما بأن غرهما)، وهو تحريف.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٧. انظر: "معاني النحاس" ٣/ ٢١.
(٧) في (ب): (إذا أطعمه)، وفي (أ): (إذا طعمه)، وهو تحريف.
(٨) أبو جُنْدَب بن مُرَّة بن قرد الهذلي، شاعر جاهلي، وهو أحد عشر إخوة كانوا جميعًا شعراء دهاة.
انظر: "الشعر والشعراء" ص ٤٤٠، و"شرح ديوان الهذليين" ١/ ٣٤٥، و"الأغاني" ٢٢/ ٢٢١، ٢٢٨، ٢٣٠.
66
أَحُصُّ فلا أجِيرُ وَمنْ أجِرْةُ فَلَيْسَ كَمَنْ يُدَلَّى بالغُرُورِ (١)
أحص: أقطع.
والثاني: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ﴾، أي جرأهما (٢) إبليس على أكل الشجرة بغروره (٣) [و] (٤) الأصل فيه (٥) دَلَّلهمَا من الدَّالّ (٦) والدَّالَّة: وهي الجرأة) (٧).
قال شمر: (يقال: ما دَلَّك علي، أي: ما جَرَّأك علي) (٨)، وأنشد لقيس بن زهير (٩):
أظُنُّ الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قْومِي وقد يسْتَجْهَلُ الرجلُ الحَليمُ (١٠)
(١) "شرح ديوان الهذليين" ١/ ٣٥٥، و"اللسان" ٣/ ١٤١٨ (دلا)، و"الدر المصون" ٥/ ٢٨١، وقال الأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢١٤ في شرح البيت: (أحص: أمنع، وقيل: أقطع ذلك، وقوله: كمن يدلي أي: يُطمع) اهـ.
(٢) في (أ): (أي أخبرهما)، وهو تحريف.
(٣) في (ب): (بغرور).
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٥) في (ب): (فيهما).
(٦) في (ب): (من الدلال)، وهو تحريف.
(٧) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢١٤.
(٨) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٢١.
(٩) قَيْس بن زُهَيْر بن جَذيِمة العَبْسي، شاعر جاهلي، وفارس عبس وسيدها، ومعدود في الأمراء والدهاة والشجعان والخطباء والشعراء، وهو صاحب الفرسين داحس والغبراء، وكان شريفًا، حازمًا ذا رأي، يضرب بدهائه المثل.
انظر: "معجم المرزباني" ص ١٧٨، و"الإصابة" ٣/ ٢٨٢، و"الأعلام" ٥/ ٢٠٦.
(١٠) الشاهد في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٢١، و"اللسان" ٣/ ١٤١٣ (دليل)، و"الدر المصون" ٥/ ٢٨١، وقال المرزباني في "معجمه" ص ١٧٨ في شرح البيت: (ليس قوله: وقد يستجهل الرجل الحليم بمعنى ينسب إلى الجهل، وإنما هو بمعنى =
67
قال محمد بن حبيب (١): (معناه: جَرَّأهم) (٢).
قال ابن عباس: (يريد: غرهما باليمين، وكان آدم يظن أنه لا أحد يحلف بالله كاذبًا) (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾، قال ابن عباس: (يريد: ظهرت عورتهما وتقلص ذلك النور عنهما، فصار أظفارًا (٤) في الأيدي والأرجل) (٥).
قال وهب (٦): (كان على فرج آدم نور يحول بينه وبين النظر إليه
= يستخرج الجهل من الحليم، يريد أن حلمه جرأ عليه قومه فتوعدهم بقوله: وقد يستدعى الجهل من الحليم) اهـ.
(١) محمد بن حبيب بن أمية بن عمرو الهاشمي -مولاهم- أبو جعفر البغدادي، علامة بالإنساب والأخبار واللغة والشعر، له عدة مصنفات منها المحبر، والمؤتلف والمخلف في النسب، والمنمق، وغيرها، توفي سنة ٢٤٥ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ٢/ ٢٧٧، و"إنباه الرواة" ٣/ ١١٩، و"معجم الأدباء" ١٨/ ١١٢، و"البغية" ١/ ٧٣، و"الأعلام" ٦/ ٧٨.
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٢١، وفيه: (دل على قومي أي: جرأهم) اهـ.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٧، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٨٠، والرازي ١٤/ ٤٩، وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٤، والبغوي ٣/ ٢١٩، و"بدائع التفسير" ٢/ ٢٠١.
(٤) في (ب): (أظفرًا).
(٥) أخرجه الطبري ٨/ ١٤٣ بسند ضعيف عنه نحوه، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٣٩، وأخرج الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣١٩، عن ابن عباس قال: (كان لباس آدم وحواء مثل الظفر، فلما ذاقا الشجرة، جعلا يخصفان عليهما من روق الجنة، قال: وهو ورق التين) اهـ. قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) اهـ. ووافقه الذهبي في "التلخيص".
(٦) وهب بن مُنبه بن كامل اليماني، تقدمت ترجمته.
68
فلا (١) يبصره، فلما عصى بدت عورته) (٢).
وقال قتادة: (كان لباس آدم وحواء في الجنة ظفرًا (٣) كله، فلما واقعا الذنب كُشِط (٤) عنهما، وبدت سوءاتهما فاستحيا وطفقا يخصفان الورق عليهما) (٥).
وقال الكلبي: (فلما أكلا منها تهافت لباسهما عنهما، فأبصر كل واحد منهما عورة صاحبه فاستحيا) (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾، قال الليث: (طَفِق بمعنى علق يفعل كذا، وهو يجمع ظل وبات) (٧). وقال الزجاج: (معنى طلق: أخذ في الفعل) (٨).
(١) في (ب): (ولا يبصره).
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٣، وذكره ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٣١، وقال: (رواه ابن جرير بسند صحيح إليه).
(٣) قال ابن الأثير في "النهاية" ٣/ ١٥٨: (وفي الحديث: "كان لباس آدم عليه السلام الظُّفُر" بتشديد الظاء والضم، أي شيء يشبه الظُّفُر في بياضه وصفائه وكثافته) اهـ. انظر "اللسان" ٥/ ٢٧٥٠ (ظفر).
(٤) الكشط: القلع والنزع والكشف. انظر: "اللسان" ٧/ ٣٨٨٣ (كشط).
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٣ بسند ضعيف. وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٨ ب، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٢٠.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٢٠.
(٧) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٠٠، وفيه: (وهو يجمع معنى ظل وبات) اهـ.
وانظر: "العين" ٥/ ١٠٦، و"الجمهرة" ٢/ ٩١٥، و"الصحاح" ٤/ ١٥١٧، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤١٣، و"المفردات" ص ٥٢١، و"اللسان" ٥/ ٢٦٨١ (طفق).
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٣٢٧، ونحوه ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٢٢.
69
وقال ابن قتيبة ﴿وَطَفِقَا﴾ أي: علقا وأقبلا، يقال: طفِقْت أفعل كذا) (١).
وقوله تعالى: ﴿يَخْصِفَانِ﴾ أي: يطبقان (٢) على أبدانهما الورق. وقال الزجاج: (معنى ﴿يَخْصِفَانِ﴾: يجعلان ورقة على ورقة، ومنه قيل للذي يرقع النعل: خَصَّاف وهو يخصِفُ) (٣) والمِخْصَفُ مِثقَبُ ذلك، ومنه قول الهذلي (٤):
..... رَوْثَةُ أنْفِها كالمِخْصَفِ (٥)
(١) "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٦، وفيه (أي: جعلا وأقبلا...). ونحوه ذكر الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٢، ومكي في "تفسير المشكل" ص ٨٤.
(٢) الخصف، بفتح فسكون: الجمع والضم، وكل ما طورق بعضه على بعض، فقد خُصِف.
انظر: "الجمهرة" ١/ ٦٠٤، و"الصحاح" ٤/ ١٣٥٠، و"المجمل" ٢/ ٢٩٠، و"المفردات" ص ٢٨٤ (خصف).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٢٧، ونحوه في "مجاز القرآن" ١/ ٢١٢، و"غريب اليزيدي" ص ١٤٤، و"تفسير الغريب" لابن قتيبة ص ١٦٦، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٤٢، و"نزهة القلوب" ص ٣١١، و"معاني النحاس" ٣/ ٢٢، و"تفسير المشكل" لمكي ص ٨٤.
(٤) هو عامر بن الحليس الهُذلي أبو كَبير، تقدمت ترجمته.
(٥) "شرح ديوان الهذليين" ٣/ ١٠٨٩، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٠٣٩، و"مقاييس اللغة" ٢/ ١٨٦، و"اللسان" ٢/ ١١٧٤ (خصف)، و"الدر المصون" ٥/ ٢٨٣، وهو يصف العقاب وتمامه:
حَتَّى انْتَهَيْتُ إلى فِرَاشِ عَزِيزِةٍ... سَوْدَاءَ.................
وفراش العزيزة يعني: عش العقاب، والروثة: طرف الأنف، المنقار.
والمخصف هو: الذي تخصف به أخفاف الإبل يريد أن منقارها حديد دقيق كأنه مِخْصَفُ.
70
وقال الليث: (خصف العريان على نفسه إذا أخذ ورقًا عريضًا يخصف بعضه على بعض يستتر به) (١).
وقال الأزهري: (﴿يَخْصِفَانِ﴾ أي: يطابقان بعض الورق على بعض.
كما يخصف طرائق النعل بعضها على بعض) (٢).
ومنه قول العباس يمدح رسول الله - ﷺ -:
...... طِبْتَ في الظّلال وفي... مُسْتَودَع حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ (٣)
يعني: في الجنة حيث خصف آدم وحواء الورق. قال مجاهد: (﴿يَخْصِفَانِ﴾ يرقعان كهيئة الثوب) (٤).
وقال الكلبي: (يخرزان بعضه إلى بعض) (٥).
وقال قتادة: (أقبلا وجعلا يرقعان ويصلان عليهما من ورق الجنة، وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب) (٦).
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٤٠، وانظر: "العين" ٤/ ١٨٩، وفيهما: (الاختِصَاف أن يأخذ العريان ورقًا عراضًا فَيَخْصِفُ بعضها على بعض ويستتر بها) اهـ.
(٢) "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٣٩، وقوله: (كما يخصف النعل..) لا يوجد فيه، وانظر: " الزاهر" ١/ ٣٧٦.
(٣) تمامه: (مَنْ قَبْلها طبت..) وهو في "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة ص ٨٨، و"أمالي الزجاجي" ص ٤٤، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ٢٣١، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٠٣٩، و"أمالي ابن الشجري" ٣/ ١١٤، و"اللسان" ٢/ ١١٧٤ (خصف)، و"الدر المصون" ٥/ ٢٨٣.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٣٣، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٥٢ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٤٠.
(٥) في "تنوير المقباس" ٢/ ٨٥ نحوه.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٧، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٢٠، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٥٣ بسند جيد عن قتادة قال: (يوصلان عليهما من ورق الجنة) اهـ.
71
قال أبو إسحاق: (وفي هذا دليل على أن أمر التكشف وإظهار السوءة قبيح من لدن آدم، ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى التستر لقبح التكشف) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ [الأعراف: ٢٢]. قال عطاء: (بلغني أن الله ناداهما أفرارًا مني يا آدم؟ قال: بل حياء منك يا رب، ما ظننت أن أحدًا يقسم باسمك كاذبًا، ثم ناداه ربه: أما خلقتك بيدي، أما نفخت فيك من روحي، أما أسجدت لك ملائكتي، أما أسكنتك جنتي في جواري، اخرج من جواري، فإنه لا يجاورني من عصاني) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، قال ابن عباس: (بين العداوة حيث أبى السجود وقال: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾) (٣) [الأعراف: ١٦].
٢٥ - وقوله تعالى: ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ﴾ قال ابن عباس: (يريد: الأرض أرض الدنيا) (٤)، والكناية عائدة إلى قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾ [الأعراف: ٢٤]، قال الكلبي: (في الأرض تعيشون، وفي الأرض قبوركم، ومن الأرض تخرجون من قبوركم للبعث) (٥).
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٧ - ٣٢٨، ومثله ذكر السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٣٤، وابن الجوزي ٣/ ١٨٠، والقرطبي ٧/ ١٨١.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٧، والرازي في "تفسيره" ١٤/ ٤٩.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٧، والرازي في "تفسيره" ١٤/ ٥٠.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٦.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٦، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٨.
٢٦ - قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾ الآية. قال سعيد بن جبير: (﴿أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ﴾ يعني: خلقنا لكم) (١).
قال أبو علي: (﴿أَنْزَلْنَا﴾ هنا كقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ [الحديد: ٢٥]. وكقوله: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦] أي: خلق) (٢).
وقال صاحب النظم: (هذا من باب التدريج (٣) والترقي، وذلك أن الله تعالى أنزل المطر، فأنبت به النبات، فاتخذ الناس من النبات اللباس، فأوقع الإنزال على اللباس، لما كان بسبب (٤) ما يُنزل وهو المطر) (٥).
قال ابن عباس: ([و] (٦) ذلك أن أهل مكة كانوا يطوفون حول البيت
(١) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٨٤. وانظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٥١، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٨٢.
(٢) "الحجة" لأبي علي ٤/ ١٢.
(٣) ذكر نحوه مكي في "المشكل" ١/ ٢٨٦، والماوردي ٢/ ٢١٣، وابن عطية ٥/ ٤٧٠، وقال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في "الفتاوى" ١٢/ ٢٥٤ - ٢٥٧: (قد تبين أنه ليس في القرآن ولا في السنة لفظ نزول إلا وفيه معنى النزول المعروف، وهذا هو اللائق بالقرآن، فإنه نزل بلغة العرب ولا تعرف العرب نزولًا إلا بهذا المعنى ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطابًا بغير لغتها، ومما يبين هذا أنه لم يستعمل فيما خلق من السفليات، وإنما استعمل فيما يخلق في محل عال، وأنزله الله من ذلك المحل كالحديد والأنعام، وقد قيل فيه: خلقناه، وقيل: أنزلنا أسبابه، وقيل: ألهمناهم كيفية صنعته، وهذا الأقوال ضعيفة، واللباس والرياش ينزل من ظهور الأنعام، وكسوة الأنعام منزلة من الأصلاب والبطون، فهو منزل من الجهتين، فإنه على ظهور الأنعام لا ينتفع به حتى ينزل) اهـ. ملخصًا.
(٤) في (ب): (لما كان لسبب مما ينزل).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٨ - ١٦٩.
(٦) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
73
عراة، فقال الله تعالى: ﴿قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾ (١) يريد: يستر عوراتكم)، ونحو هذا قال مجاهد (٢).
وقال الكلبي: (يعني: الثياب التي تستر العورة من العُري، وذلك لما ذكر من عُري آدم وحواء منّ علينا باللباس) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَرِيشًا﴾، وقرئ: ﴿وَرِياشًا﴾ (٤). قال ابن السكيت. (قالت بنو كلاب (٥): الرياش هو الأثاث من المتاع ما كان من لباس أو حشو من فراش أو وثار (٦)، والريش من الأموال، وقد يكون في
(١) ذكره أكثر أهل التفسير بدون نسبة. انظر: "تفسير الثعلبي" ١٨٩ أ، والماوردي ٢/ ٢١٣، والبغوي ٣/ ٢٢١، وابن عطية ٥/ ٤٧٠، وسيأتي مزيد بيان له في سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١].
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٢٣، وأخرجه الطبري ٨/ ١٤٦، ١٤٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٥٦ من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٤٠.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٨، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٨١ بدون نسبة.
(٤) قرأ الجمهور (السبعة): ﴿وَرِيشًا﴾ بإسكان الياء من غير ألف، وقرأ جماعة منهم: عثمان وعلي وابن عباس والحسن، وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما: ﴿ورياشا﴾ بفتح الياء وألف بعدها، وهو إما جمع ريش، أو مصدر راش ريشًا ورياشًا.
انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٤٧، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٠٦، و"معاني القراءات" ١/ ٤٠٢، و"إعراب القراءات" ١/ ١٧٨، و"مختصر الشواذ" ص ٤٨، و"التذكرة" ٢/ ٤١٧، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٧١، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٨٢، و"الدر المصون" ٥/ ٢٨٧.
(٥) بنو كلاب: بطن من عامر بن صعصعة، كانت ديارهم في جهات المدينة ثم انتقلوا إلى الشام. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص ٣٦٥.
(٦) الوِثَار، بالفتح والكسر: الفراش الوطيء. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٧٦٣ (وثر)، وجاء في (أ): (أو دثار)؛ والدثار، بفتح الدال المشددة: ما يتدثر به والثوب الذي =
74
الثياب (١) دون المال، وإنه لحسن الريش أي: الثياب).
وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: (كل شيء يعيش [به] (٢) الإنسان من متاع أو مال ومأكول فهو ريش ورياش) (٣)
قال ابن الأنباري: (يقال: هما المال، ويقال: هما المعاش) (٤).
وقال أبو عبيدة: (الريش (٥) ما ظهر من اللباس والشارة (٦)، قال: ويقال: أعطاه رجلاً بريشه يراد: بكسوته [و] (٧) جهازه).
وقال رؤبة:
= يستدفأ به فوق الشَّعار. انظر: "اللسان" ٣/ ١٣٢٦ (دثر)، والنص في "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٤٧. وانظر: "إصلاح المنطق" ص٣٠، وذكر مثله ابن جني في "المحتسب" ١/ ٢٤٦ عن أبي الحسن الأخفش.
(١) في (ب): (النبات)، وهو تصحيف.
(٢) لفظ: (به) ساقط من (ب).
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٥١، وفي "مجالس ثعلب" ١/ ٣٥، قال: (الريش والرياش: اللباس الحسن) اهـ. وفي "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣١٨، عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال: (راش فلان صديقه يريشه ريشًا: إذا جمع الرَّيش وهو المال والأثاث) اهـ.
(٤) انظر: "الزاهر" ١/ ٢٥٠ - ٢٥١، وفيه قال: (الرياش في قول جماعة من المفسرين: المال، وكذلك الريش، والرياش: المعاش، ويقال: الرياش ما ستر الإنسان وواراه، وقد تريش الرجل معناه: قد صار إلى معاش ومال) اهـ. ملخصًا.
(٥) في "مجاز القرآن" ١/ ٢١٣: (الرياش والريش واحد وهو..). وأيضًا قال: (والرياش أيضًا الخصب والمعاش) اهـ.
ومثله ذكر السجستاني في "نزهة القلوب" ص ٢٥١.
(٦) الشارة: الحُسن والهيئة واللباس، وما يلبس من عمامة ونحوهما. انظر: "اللسان" ٤/ ٢٣٥٧ (شور).
(٧) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
75
إِلَيكَ أشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ وَجَهد أَعْوَامٍ نَتَفْنَ ريِشي (١)
أي: ذهبن بخصبي وجدتي.
وقال الفراء: (يجوز أن يكون الرياش جمع الريش، ويجوز أن (٢) يكون بمعنى الريش كما قرأ: لِبْس ولباس) (٣).
وقال الزجاج: (الرياش: اللباس، والريش: كل ما ستر الرجل في معيشته، يقال: تريش فلان أي: صار له ما يعيش به) (٤).
وأنشد (٥):
فَرِيشي (٦) مِنْكُمُ وَهَواىَ مَعْكُمْ وإنْ كَانَتْ زِيَارَتُكُمْ لِمَامَا
(١) "ديوانه" ص ٧٨، وقد تقدم تخريجه.
(٢) في "معاني الفراء" ١/ ٣٧٥، قال: (وإن شئت جعلت الرياش مصدرًا في معنى الريش) اهـ.
(٣) ذكر نحوه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٧، وابن خالويه في "إعراب القراءات" ١/ ١٧٨، وابن جني في "المحتسب" ١/ ٢٤٦، والريش اسم لهذا الشيء المعروف، أو مصدر راشه يريشه ريشًا إذا جعل فيه الرَّيش. قال السمين في "الدر" ٥/ ٢٨٧: (ينبغي أن يكون الريش مشتركًا بين المصدر والعين، وهذا هو التحقيق) اهـ.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٨.
(٥) الشاهد لجرير في "ديوانه" ص ٤١٠، وللراعي النميري، أيضًا في "ديوانه" ص ٢٤٣، و"الكتاب" ٣/ ١٨٧، وبلا نسبة في: "الزاهر" ١/ ٢٥٠، و"معاني النحاس" ٣/ ٢٣، و"الماوردي" ٢/ ٢١٤، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ٣٧٥، و"ابن الجوزي" ٣/ ١٨٢، و"القرطبي" ٧/ ١٨٤، و"رصف المباني" ص ٣٩٤، و"اللسان" ٧/ ٤٢٣٤ (معع)، و"الدر المصون" ٥/ ٢٨٧، واللمَّام: الشيء اليسير، انظر: "لسان العرب" ٧/ ٤٠٧٩ (لمم).
(٦) في (ب): (وريشي) بالواو وهي كذلك في "ديوان جرير"، والراعي وبعض المراجع، وفي هامش نسخة (أ): (وهواي فيكم بدل معكم)، وهو كذلك في "ديوان جرير".
76
وقال عبد الله بن مسلم: (الريش والرياش: ما ظهر من اللباس، وريش الطائر ما ستره الله به) (١) هذا قول أهل اللغة (٢).
فأما المفسرون فقال ابن عباس (٣) ومجاهد (٤) والضحاك (٥) والسدي (٦): (﴿وَرِيشًا﴾ يعني: مالًا).
(١) "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٦، ونحوه ذكر اليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٤٥، ومكي في "تفسير المشكل" ص ٨٤.
(٢) انظر: "العين" ٢/ ٢٨٣، و"الجمهرة" ٢/ ٧٣٦، و"الصحاح" ٣/ ١٠٠٨، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٤٦٦، و"المجمل" ٢/ ٤٠٩، و"المفردات" ص ٣٧٢، و"اللسان" ٣/ ١٧٩٢ (ريش). وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ٢٣: (الريش عند أكثر أهل اللغة ما ستر من لباس أو معيشة) اهـ. وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٨٢: (على قول الأكثرين الريش والرياش بمعنى) اهـ. وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" ١٢/ ٢٥٥: (الصحيح أن الريش هو الأثاث والمتاع) اهـ.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٨ بسند جيد، وهو في "تنوير المقباس" ٢/ ٨٦، و"مسائل نافع بن الأزرق" ص ٨٧، وذكر البخاري في "صحيحه" ٥/ ١٩٥، عن ابن عباس قال: (﴿ورياشا﴾: المال) وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٥٧ بسند جيد. وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٥٧ بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (الرياش: اللباس والعيش والنعيم) اهـ.
انظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٤١، ولعله يقصد باللباس هنا لباس الزينة والجمال؛ لأن اللباس الضروري لستر العورة ذكر في الآية قبل ذلك، وهذا لا يختلف مع تفسير الريش بالمال، لأنه هو وسيلة الحصول على لباس الزينة والعيش النعيم.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٨ بسند جيد، وذكره النحاس في "معانيه" ٣/ ٢٣، وفي تفسير مجاهد ١/ ٢٣٣ (الرياش المال) اهـ.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٨ بسند ضعيف، بلفظ: (رياشا)، وذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٥٧ عن مجاهد والضحاك.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٨ بسند جيد بلفظ: (رياشًا) وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٨٩ أ، والبغوي ٣/ ٢٢٢، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي =
77
وقال الكلبي: (المعيشة والمال) (١).
وقال ابن زيد: (الريش: الجمال) (٢)، وهو قول زيد (٣) بن علي قال: (اللباس هذا الذي يلبسون ﴿يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾، والريش والرياش: الذي يتجملون به من الثياب) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ قُرئ (٥) بالنصب والرفع، فمن نصب فعلى أنه حمل على أنزل من قوله: ﴿قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ﴾. وقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ على هذا مبتدأ وخبره ﴿خَيْرٌ﴾، ومن رفع قطع اللباس من الأول واستأنف به
= والسدي، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٨ بسند ضعيف عن عروة بن الزبير، وقال سفيان الثوري في "تفسيره" ص ١١٢: (الريش: المال، والرياش: الثياب) اهـ، وذكر هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ١٢ عن الحسن أنه قال: (الريش: المال والمتاع) اهـ.
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٦.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٥٧ بسند جيد، ولفظ ابن أبي حاتم: (الرياش).
(٣) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو الحسين المدني، إمام زاهد فقيه، فصيح، ثقة، وهو الذي ينسب إليه الزيدية، خرج في خلافة هشام بن عبد الملك فقتل بالكوفة سنة ١٢٢ هـ، وكان مولده سنة ثمانين من الهجرة.
انظر: "وفيات الأعيان" ٥/ ١٢٢، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٣٨٩، و "تهذيب التهذيب" ١/ ٦٦٨، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٦/ ١٧، و"الأعلام" ٣/ ٥٩.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٥٦ بسند ضعيف. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٤١، وفي "تفسير غريب القرآن" لزيد بن علي ص ١٣٩، قال: (الريش والرياش: ما ظهر من اللباس، والرياش أيضًا: المعاش والخِصْب) اهـ.
(٥) قرأ نافع وابن عامر والكسائي ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ بنصب ﴿وَلِبَاسُ﴾ وقرأ الباقون بالرفع. انظر: "السبعة" ص ٢٨٠، و"المبسوط" ص ١٨٠، و"التذكرة" ٢/ ٤١٧، و"التيسير" ص ١٠٩، و"النشر" ٢/ ٢٦٨.
78
فجعله مبتدأ، وقوله ﴿ذَلِكَ﴾ على هذا صفة (١)، أو بدل أو عطف بيان، ومن، قال إن (ذلك (٢)) لغو لم يكن على قوله دلالة؛ لأنه يجوز أن يكون علي أحد ما ذكرنا، و ﴿خَيْرٌ﴾ خبر اللباس (٣)، ومعنى قولنا: صفة أن ﴿ذَلِكَ﴾ أشير به إلى اللباس كأنه قيل: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ المشار إليه ﴿خَيْرٌ﴾ [وقولنا: يجوز أن يكون بدلاً أو عطف بيان؛ لأن المعنى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ خير] (٤) وكذلك (٥) هو في قراءة عبد الله (٦)، ثم جعل ﴿ذَلِكَ﴾ مترجمًا عنه
(١) وأكثرهم على أنه صفة، وهو قول الفراء في "معانيه" ١/ ٣٧٥، والطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٠، والأزهري في "معاني القراءات" ١/ ٤٠٣، وابن خالويه في "إعراب القراءات" ١/ ١٧٨، و"الحجة" ص ١٥٤. وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٠٦: (أولى ما قيل في النصب أنه معطوف، و ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، وأولى ما قيل في الرفع أن ترفعه بالابتداء و ﴿ذَلِكَ﴾ نعته) اهـ.
(٢) نقل قول الواحدي السمين في "الدر" ٥/ ٢٨٨، وقال: (قوله: (لغو) هو قريب من القول بالفصل؛ لأن الفصل لا محل له من الإعراب على قول الجمهور) اهـ، والذي قال هو فصل الحوفي كما ذكره أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٨٣، والرماني كما ذكره الهمداني في "الفريد" ٢/ ٢٨٦.
وقال ابن هشام في "الإعراب عن قواعد الإعراب" ص ١٠٨ - ١٠٩: (وكثير من المتقدمين يسمون الزائد صلة وبعضهم يسميه مؤكدًا وبعضهم يسميه لَغْوا ولكن اجتناب هذه العبارة في التنزيل واجب) اهـ.
(٣) هذا نص كلام أبي علي في "الحجة" ٤/ ١٢ - ١٣، واختيار أبي حيان في "البحر" ٤/ ٢٨٣، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٨٨، أن يكون ﴿وَلِبَاسُ﴾ مبتدأ، و ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ ثان، و ﴿خَيْرٌ﴾ خبر الثاني، والجملة خبر الأول، والرابط هنا اسم الإشارة. قال السمين: (وهذا الوجه هو أوجه الأعاريب في هذه الآية الكريمة) اهـ، وانظر: "وضح البرهان" للغزنوي ١/ ٣٥٧.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب). وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٧٢.
(٥) في (أ): (ولذلك).
(٦) قرأ عبد الله بن مسعود وأبى -رضي الله عنهما-: (ولباس التقوى خير). ذكره =
79
وبيانًا له، وهذا كله معنى قول الزجاج (١) وأبي علي (٢) وابن الأنباري (٣).
وأما معنى ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾، فقال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد. إن ستر عوراتكم بعضكم من بعض من التقوى فلا تطوفوا عراة) (٤) وهو قول ابن زيد (٥) واختيار الزجاج.
[قال ابن زيد: (هو ستر العورة؛ يتقي الله فيواري عورته)، وقال الزجاج: (أي] (٦) وستر العورة (لباس المتقين) على أن يكون (لباس التقوى) مرفوعاً بإضمار (هو)، المعنى: وهو ﴿لِبَاسُ التَّقْوَى﴾ أي: اللباس الذي أنزل الله تعالى ليواري سوءاتكم هو ﴿لِبَاسُ التَّقْوَى﴾) (٧) وهذا وجه آخر (٨) في رفع اللباس سوى ما ذكرنا، قال أبو بكر: (وعلى هذا، ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ هو اللباس الأول، وإنما أعاده الله لما أخبر عنه بأنه خير من التعري
= الفراء في "معانيه" ١/ ٣٧٥، وابن خالويه في "إعراب القراءات" ١/ ١٧٨، و"مختصر الشواذ" ص ٤٨، وذكرها النحاس في "معانيه" ٣/ ٢٤ عن الأعمش.
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٨، وفيه ﴿ذَلِكَ﴾ صفة.
(٢) "الحجة" ٤/ ١٢ - ١٣، وانظر "الحجة" لابن زنجلة ص٢٨٠.
(٣) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٢٨٨ - ٢٨٩، ونحوه ذكر مكي في "الكشف" ١/ ٤٦١، وانظر: "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٦٥٢.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٥٨ بسند جيد.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٣٢٩.
(٨) وعليه يكون ﴿وَلِبَاسُ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي: هو، وقوله ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ جملة أخرى من مبتدأ وخبر، وقدره النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٠٦، ومكي في "المشكل" ١/ ٢٨٦، وستر العورة لباس المتقين، وانظر: "البيان" ١/ ٣٥٨، و"التبيان" ١/ ٣٧١، و"الفريد" ٢/ ٢٨٦، و"الدر المصون" ٥/ ٢٨٨.
80
إذ كان جماعة من أهل الجاهلية يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت، فجرى هذا في التنكير مجرى قول القائل: (قد عرَّفتُك الصدقَ وأبوابَ (١) البر، والصدقُ خير لك من غيره) فيعيد الصدق لإخباره عنه بالخبر المحدد) (٢).
وقال قتادة (٣) والسدي (٤) وابن جريج (٥) [(﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾: الإيمان).
وقال ابن عباس في رواية عطية، (٦) (﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾: العمل الصالح) (٧)، وهو قول سعيد بن جبير (٨)، وروى الذيال (٩) بن عمرو
(١) في (ب): (واثواب).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٦٩، والبغوي ٣/ ٢٢٢، وابن الجوزي ٣/ ١٨٣، وقال القرطبي ٧/ ١٨٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٨٣: (قال ابن زيد: هو ستر العورة، وهذا فيه تكرار؛ لأنه قد قال: ﴿لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾) اهـ.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٩ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٤١.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٩ بسند جيد.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٩ بسند جيد، وذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٩ أ، والماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢١٤، والبغوي ٣/ ٢٢٢، عن قتادة والسدي، وذكره ابن الجوزي ٣/ ١٨٣ عن قتادة والسدي وابن جريج.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٥٧ بسند ضعيف.
(٨) لم أقف عليه، وفي "الوسيط" للمؤلف ١/ ١٧٠ عن سعيد بن جبير قال: (السمت الحسن)، وجاء في أصل نسخة: (أ) سعيد بن جريج، ثم ضرب عليه وصحح إلى ابن جبير.
(٩) الذيال بن عمرو، تابعي روى عنه محمد بن موسى، وعبد الله بن داود الواسطي، وذكر ابن الأثير في "الكامل" ٤/ ٣٣٩ في حوادث سنة ٧١ هـ الذيال الكلبي، ولم أجد له سوى ما ذكرت. انظر: "تهذيب الكمال" ٤/ ٤٦٨، وتعليق الشيخ أحمد شاكر الملحق في "تفسير الطبري" ١٢/ ٥٨٩ (٧).
81
عنه (١) قال: (هو السمت الحسن).
وقال الكلبي: (﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾: العفاف والتوحيد؛ لأن المؤمن لا تبدو له عورة، وإن كان عاريًا من الثياب، والفاجر لا يزال تبدو (٢) له عورة وإن كان كاسيًا) (٣).
وقال معبد (٤): (هو الحياء) (٥)، وينشد على هذا (٦):
إني كأنّي أرَى مَنْ لاَ حَيَاءَ لَهُ وَلاَ أَمَانَةَ بين النَّاسِ (٧) عُرْيانا
قال أبو علي: (معنى الآية وتأويله: لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب له إلى الله مما خلق له من اللباس والرياش الذي يتجمل
(١) أي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- كما هو ظاهر رواية الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٩، وذكره الثعلبي في "الكشف" ص ١٨٩، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٨٣، وابن كثير ٢/ ٣٢٣.
(٢) في (أ): (يبدوا).
(٣) في "تنوير المقباس" ٢/ ٨٦، قال: (التوحيد والعفة)، وذكر الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٢٢، وابن الجوزي ٣/ ١٨٣ عنه قال: (العفاف).
(٤) معبد الجهني، يقال: هو معبد بن خالد، أو معبد بن عبد الله، نزيل البصرة، تابعي، صدوق مبتدع، وهو أول من أظهر القدر بالبصرة، وقد نهى جماعة من التابعين عن مجالسته وقالوا عنه: هو ضال مضل، قتل سنة ٨٠ هـ، انظر: "سير أعلام النبلاء" ٤/ ١٨٥، و"البداية والنهاية" ٩/ ٣٤، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ١١٥.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٤٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٥٨ من عدة طرق جيدة، وذكره ابن الأنباري في "الزاهر" ١/ ٢٥٠، والسيوطي في "الدر" ٣/ ١٤٢.
(٦) الشاهد لسَوَّار بن مُضَرَّب في "النوادر" لأبي زيد ص ٤٥، و"الحماسة" لأبي تمام ٢/ ١٣٨، وبلا نسبة في "غريب القرآن" ص١٧٧، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٦، والثعلبي ص ١٨٩/ أ، وابن الجوزي ٣/ ١٨٣.
(٧) في المصادر السابقة (وسط الناس) بدل (بين الناس).
82
به، قال: وأضيف اللباس إلى ﴿التَّقْوَى﴾، كما أضيف إلى الجوع في قوله: ﴿فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ﴾ [النحل: ١١٢] (١) والمعنى: ما ظهر عليهم من السكينة والإخبات (٢) والعمل الصالح، فاستعير لذلك اسم اللباس، وهذا معنى قول ابن عباس: (﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ أي: أزكى عند الله) (٣).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾، قال الكلبي: (يعني: اللباس والرياش ﴿مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾) (٤). قال ابن عباس: (يريد: من فرائض الله) (٥)، يعني: إن ستر العورة مما أوجبه الله بآياته (٦).
وقال غيره: (أي: إنزاله اللباس وخلقه إياه مما يدل على توحيده) (٧).
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: كي (٨) يتعظوا) (٩).
(١) "الحجة" لأبي علي ٤/ ١٣.
(٢) هذا نص كلام ابن قتيبة في "تأويل المشكل" ص ١٦٥، والأحسن في معنى الآية العموم، فكل ما يحصل به الاتقاء المشروع فهو من لباس التقوى، وهو يصدق على كل ما فيه تقوى الله فيندرج تحته جميع ما ذكر من الأقوال، فهي كلها مثل ومن لباس التقوى، وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥١، وابن عطية ٧/ ٣٩ - ٤٠، والقرطبي ٧/ ١٨٥، وأبو حيان ٤/ ٢٨٣.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٨٧: (﴿مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ من عجائب الله) اهـ.
(٦) انظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ١٨٢.
(٧) ذكر نحوه مقاتل في "تفسيره" ٢/ ٣٣، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٥١، والسمرقندي ١/ ٥٣٦.
(٨) في (ب): (كي يتعطفوا) وهو تحريف.
(٩) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٧.
83
٢٧ - قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ﴾، قال ابن عباس: (يريد: لا يخدعنكم)، وعنه أيضًا: (لا يضلنكم) (١).
وقوله تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ﴾، المعنى: كما فتن أبويكم، لكنه ذكر معنى فتنة الأبوين وهو إخراجهما من الجنة دون لفظ الفتنة.
وقوله تعالى: ﴿يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا﴾، أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يتول ذلك لأنه كان بسبب منه فأسند إليه، كما تقول: أنت فعلت هذا لمن حصل منه ذلك الفعل بسبب وإن لم يباشره، كذلك لما كان نزع لباسهما بوسوسة الشيطان وغروره أُسند إليه (٢).
وقوله تعالى: ﴿لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾، قال ابن عباس: (يرى آدم سوءة حواء، وترى حواء سوءة آدم) (٣) واللام في ﴿لِيُرِيَهُمَا﴾ لام المصير (٤) كما ذكرنا في قوله: ﴿لِيُبْدِىَ لَهُمَا﴾ [الأعراف: ٢٠].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ﴾ يعني: إبليس ﴿هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾ أعاد الكناية ليحسن العطف (٥) كقوله ﴿اُسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥] وقد مضت هذه المسألة (٦) في مواضع. وأما القبيل فقال أبو عبيد عن أبي زيد: (القَبِيل (٧)
(١) ذكرهما الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٠.
(٢) انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٧٦، وابن الجوزي ٣/ ١٨٤.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٥٣، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٨٧ نحوه.
(٤) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٠٧.
(٥) ذكر قول الواحدي السمين في "الدر" ٥/ ٢٩٢، وقال: (لا حاجة إلى التأكيد في مثل هذه الصورة لصحة العطف إذ الفاصل هنا موجود، وهو كاف في صحة العطف، فليس نظير ﴿اُسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ﴾) اهـ.
(٦) انظر: "البسيط" البقرة: ٣٥.
(٧) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٧٦، وانظر: "الجمهرة" ١/ ٣٧٢، و"المنجد" لكراع ص ٣٠٣، و"الصحاح" ٥/ ١٧٩٧، و"المجمل" ٢/ ٧٤١ (قبل).
84
الجماعة يكونون من الثلاثة فصاعدًا من قوم شتى، وجمعه: قُبُل، والقبيلة: بنو أب واحد) (١).
وقال ابن قتيبة: (﴿وَقَبِيلُهُ﴾: أصحابه وجنده) (٢)، وقال الليث: (﴿هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾ أي: هو ومن كان من نسله) (٣)، [وكذا قال المفسرون، قال ابن عباس: (هو وولده) (٤)، وقال ابن زيد (٥): (نسله)] (٦)
وقال قطرب: (جموعه) (٧) وقال المبرد: (أشياعه) (٨).
(١) قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" ٥/ ٥٣، وابن منظور في "اللسان" ٦/ ٣٥١٩ (قبل): (وربما كان القبيل من أب واحد كالقبيلة) اهـ. وقال الراغب في "المفردات" ص ٦٥٤: (القبيل جمع قبيلة، وهي الجماعة المجتمعة التي يقبل بعضها على بعض) اهـ.
(٢) "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٧، ونحوه قال مقاتل في "تفسيره" ٢/ ٣٣، والنحاس في "معانيه" ٣/ ٢٤، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢١٣، والبخاري في "صحيحه" ٥/ ١٩٥: (﴿وَقَبِيلُهُ﴾ جيله الذي هو منه) اهـ، ونحوه ذكر السجستاني في "نزهة القلوب" ص ٣٦٦.
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨٧٦، وانظر: "العين" ٥/ ١٦٧.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٠، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٢٣، و"الخازن" ٢/ ٢٢١.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٠ بسند جيد.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) لم أقف عليه.
(٨) لم أقف عليه، وقال اليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٤٥: (﴿وَقَبِيلُهُ﴾ شيعته وأمته) اهـ. وقال الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢١٥: (﴿وَقَبِيلُهُ﴾ قومه وهو قول الجمهور) اهـ. والمعاني متقاربة، والأظهر ولده ونسله وجنده.
انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٥٣، والسمرقندي ١/ ٥٣٦، والبغوي ٣/ ٢٢٣، وابن عطية ٥/ ٤٤١.
85
وقوله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾، قال أبو إسحاق: (ما بعد ﴿حَيْثُ﴾ صلة لها، وليست بمضاف إليه) (١).
قال أبو علي: (هذا غير مستقيم، ولا يجوز أن يكون ما بعد ﴿حَيْثُ﴾ صلة لها، لأنه إذا كان صلة له وجب أن يكون للموصول فيه ذكر كما أن في سائر صلات الموصولة (٢) ذكرًا من الموصول، فخلو هذه الجملة المتصلة بـ (حيث) من ذكر يعود منها إلى (حيث) دلالة على أنها ليست بصلة، وإذا لم تكن صلة كانت إضافة.
فإن قيل: نقدر العائد في هذا كما نقدر في غيره من الصلات، كما تقول: الذي ضربت زيد تريد ضربته، كذلك تقدر العائد في قولك: رأيتك حيث قام زيد. كأنك قلت: حيث زيد قائمه، أي قائم فيه، وحيث قام عمرو (٣) أي قامه عمرو أي قام فيه، ثم اتسع فحذف الحرف فوصل الفعل، ثم حذف الراجع على هذا الحد، قيل: لو كان هكذا [لكان] (٤) مستعملًا في كلامهم؛ ألا ترى أن جميع الموصولات إذا وقع في صلاتها حذف واتساع فإن ذلك الأصل الذي عنه وقع الحذف والاتساع مطرد في كلامهم [مستعمل] (٥)، فلو كان الأصل في هذا أيضًا ما ذكرته لوجب أن يستعمل الأصل، فتركهم لذلك يدلك على أنه ليس بموصول، على أنا لم نعلم أحدًا قال في (حيث) الذي قاله) (٦).
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٢٩، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٠٧، ٦٠٨.
(٢) في "الإغفال" ص ٧٦٥ (الموصولات).
(٣) في "الإغفال" ص ٧٦٧: (حيث زيد قائم، وحيث قام عمرو كأنه قال: حيث زيد قائمه أي: قام فيه، وحيث قامه عمرو أي: قام فيه...) اهـ.
(٤) لفظ: (لكان) ساقط من (أ).
(٥) لفظ. (مستعمل) ساقط من (أ).
(٦) هذا بعض ما ذكره أبو علي في "الإغفال" ص ٧٦٤ - ٧٦٨، وانظر: "غرائب =
86
فأما التفسير، فقال ابن عباس في قوله: ﴿مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾: (وذلك أن الله تعالى جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصم الله، كما قال: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ [الناس: ٥] فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم) (١).
وقال مجاهد: (قال إبليس: جُعل لنا أربع: نرى، ولا نُرى، ونخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا فتى) (٢).
= الكرماني" ١/ ٤٠١، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٢٩٤: (أبو إسحاق لم يعتقد كونها موصولة بمعنى (الذي) لا يقول بذلك أحد، وإنما يزعم أنها ليست مضافة للجملة بعدها فصارت كالصلة لها أي الزيادة، وهو كلام متهافت، فالرد عليه من هذه الحيثية لا من حيثية اعتقاده لكونها موصولة، ويحتمل أن يكون مراده أن الجملة لما كانت من تمام معناها بمعنى أنها مفتقرة إليها كافتقار الموصول لصلته أطلق عليها هذه العبارة، ويدل على ما قلته أن مكيًا ذكر في علة بنائها فقال: (ولأن ما بعدها من تمامها كالصلة والموصول) إلا أنه يرى أنها مضافة لما بعدها) اهـ. وانظر: "المشكل" ١/ ٢٨٧، و"البيان" ١/ ٣٥٨ - ٣٨٩.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧١، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٨٤، وقال الخازن ٢/ ٢٢١، وصديق خان ٤/ ٣٢٦: (حكى الواحدي وابن الجوزي عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - قال ذلك) وقد أخرج مسلم في "صحيحه" كتاب السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئى خاليا بامرأة... إلخ، حديث رقم (٢١٧٥)، عن صفية بنت حُيَيَّ أن النبي - ﷺ -: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم" اهـ. وقال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في "الفتاوى" ١٥/ ٧: (الذي في القرآن أنهم يرون الإنس من حيث لا يراهم الإنس وهذا حق يقتضي أنهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها، وليس فيه أنهم لا يراهم أحد من الإنس بحال؛ بل قد يراهم الصالحون وغير الصالحين أيضًا لكن لا يرونهم في كل حال) اهـ، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٧٧، والقرطبي ٧/ ١٧٦، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٨٤.
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٩ أ، والرازي في "تفسيره" ١٤/ ٥٤، و"الخازن" ٢/ ٢٢١، والسيوطي في "الدر" ٣/ ١٤٢، وصديق خان في "تفسيره" ٤/ ٣٢٦.
87
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، قال أبو إسحاق: (معنى هذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الكفار عوقبوا بأن سلطت عليهم الشياطين تزيدهم في غيهم (١)؛ كما قال: ﴿أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ الآية [مريم: ٨٣].
والثاني: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: سوينا بين الشياطين وبين الكافرين في الذهاب عن الله عز وجل) (٢).
قوله: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾، قال ابن عباس: (يريد: الشرك) (٣).
وقال مجاهد: (يعني: طوافهم بالبيت عُريا الرجال والنساء) (٤).
وقال الزجاج: (الفاحشة: ما يشتد قبحه من الذنوب) (٥).
(١) في "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٩ (تزيدهم في غيهم عقوبة على كفرهم...).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٢٩ - ٣٣٠. وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٥٣، والسمرقندي ١/ ٥٣٦، والبغوي ٣/ ٢٢٣، وابن عطية ٥/ ٤٧٧.
قال الطبري: (يقول: جعلنا الشياطين نُصراء الكفار الذين لا يوحدون الله ولا يصدقون رسله) اهـ.
(٣) لم أقف عليه عن ابن عباس، وأكثر المفسرين ذكروه عن عطاء والحسن. ومنهم الماوردي ٥/ ٢١٦، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧١، والبغوي ٣/ ٢٢٣، وابن الجوزي ٣/ ١٨٥.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٤ من عدة طرق جيدة عن مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والسدي، وأخرجه عن ابن زيد ومحمد بن كعب القرظي، وهذا هو قول أكثر المفسرين. انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٧، والماوردي ٢/ ٢١٦، والقرطبي ٧/ ١٨٧.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٠، وهذا هو الظاهر فيدخل في العموم الشرك، وكشف العورة في الطواف، ويحمل ما ذكر على التمثيل. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٥٤، والبغوي ٣/ ٢٢٣، وابن عطية ٥/ ٤٧٧.
88
٢٩ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾، قال ابن عباس: (بلا إله إلا الله) (١)، ونحوه قال الضحاك (بالتوحيد) (٢).
وقال عطاء (٣) والسدي (٤): (بالعدل).
قال الزجاج: (هذا رد لقولهم: ﴿وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ في الآية الأولى) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾، قال أبو علي الجرجاني: (نسق الأمر على الخبر (٦)، وجاز ذلك لأن قوله ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي﴾ قول؛ لأن الأمر لا يكون إلا كلامًا، والكلام قول فكأنه قال: قل يقول ربي أقسطوا ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ﴾) (٧) ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾، أي: وجهوا
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٨٨، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٨٩ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٢، والبغوي ٣/ ٢٢٣، والرازي ١٤/ ٥٧، والقرطبي ٧/ ١٨٨، و"الخازن" ٢/ ٢٢٢.
(٢) ذكره الثعلبي ١٨٩ أ، والواحدي ١/ ١٧٢، والبغوي ٣/ ٢٢٣.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٥٧، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٨٧.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٥ بسند جيد عن مجاهد والسدي، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٢ بسند ضعيف عن ابن عباس، وقال: (روي عن مجاهد والسدي وقتادة مثل ذلك) وهو قول الطبري والزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٣٠، والنحاس ٣/ ٢٥، والمعاني متقاربة، فالقسط العدل والحق والاستقامة فيحمل ما ذى على التمثيل. انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٧٨، وابن كثير ٢/ ١٣٣.
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٠، و"الفتاوى" ١٥/ ٨ - ٩، و"بدائع التفسير" ٢/ ٢٠٣ - ٢٠٤.
(٦) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٢٩٦ - ٢٩٧ عن الجرجاني صاحب النظم، وفيه: (نسق الأمر على الجر) بدل لفظ (الخبر)، والأمر ﴿وَأَقِيمُوا﴾ والجر ﴿بِالْقِسْطِ﴾.
(٧) في "الدر المصون": (أقسطوا وأقيموا) يعني أنه عطف على المعنى) اهـ. واختار أبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٨٧، والسمين في "الدر" ٥/ ٢٩٥ - ٢٩٧، أنه معطوف على الأمر المقدر الذي ينحل إليه المصدر وهو ﴿بِالْقِسْطِ﴾ وذلك أن القسط =
89
وجوهكم (١) حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة، قال (٢) مجاهد (٣) والسدي وابن زيد (٤).
وقال عطاء عن ابن عباس: (صلوا لله وحده في كل مسجد) (٥)، وبيان هذا القول ما قاله الضحاك، وهو أنه قال: (إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه، ولا يقولن أحدكم: أصلي في مسجدي) (٦). ونحو هذا قال الفراء؛ يقول (٧): (إذا أدركتك الصلاة وأنت عند مسجد فصل فيه، ولا تقولن: آتي مسجد قومي) (٨).
= مصدر فهو ينحل لحرف مصدري وفعل والتقدير: قل أمر ربي بأن أقسطوا وأقيموا. وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٧٥، وابن عطية ٥/ ٤٧٨، والرازي ١٤/ ٥٧، و"التبيان" ص ٣٧٢، و"الفريد" ٢/ ٢٨٨.
(١) في (ب): (وجهوا لوجوهكم)، وهو تحريف.
(٢) في (ب): (قال)، وهو تحريف.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٣٤. وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٢ من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٤٣.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٥ من عدة طرق جيدة عن السدي، وابن زيد، وذكره الثعلبي ١٨٩ أ، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٨٥ عن مجاهد والسدي وابن زيد، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ٢/ ٣٣، والقرطبي ٧/ ١٨٨.
(٥) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٨٥، والرازي ١٤/ ٥٨، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٨٧.
(٦) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٨٩ أ، والبغوي ٣/ ٢٢٣، وابن الجوزي ٣/ ١٨٥، و"الخازن" ٢/ ٢٢٢، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٨٧.
(٧) هنا وقع اضطراب في ترتيب نسخة: (ب)، فتقدم تفسير بعض الآيات.
(٨) "معاني الفراء" ٢/ ٣٧٦، وهو قول الكلبي كما ذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٣٧، واختاره ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٧.
90
وقال أبو إسحاق: (أي (١): وقت كل صلاة اقصدوه بصلاتكم) (٢) ﴿وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ يريد: وحدوه ولا تشركوا به شيئًا (٣).
وقوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾، قال ابن عباس: (إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا و (٤) كافرًا، كما قال جل ثناؤه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: ٢]، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنًا وكافرًا، فيبعث المؤمن مؤمنًا والكافر كافرًا) (٥)، وهذا قول أكثر المفسرين (٦)، واختيار الفراء (٧).
(١) في (أ): (أي في وقت).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٠، والظاهر أن المعنى: اقصدوا عبادته وحده وتوجهوا إليه في صلاتكم إلى القبلة في أي وقت ومسجد، وهو ظاهر كلام الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٥، وأخرجه بسند جيد عن الربيع بن أنس، وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٧٩، وابن كثير ٢/ ٢٣٣، و"بدائع التفسير" ٢/ ٢٠٣ - ٢٠٤، و"فتح البيان" لصديق خان ٤/ ٣٢٩.
(٣) قال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٣١: (أي: مخلصين له الطاعة) اهـ. والمعنى: اعبدوه وحده حال كونكم مخلصين العبادة والدعاء له لا لغيره، وهو ظاهر كلام الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٥، والسمرقندي ١/ ٥٣٧، وصديق خان ٤/ ٣٢٩.
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٢ بسند جيد.
(٦) ومنهم مجاهد في "تفسيره" ١/ ٢٣٥، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٥ - ٢٢٦ بسند جيد عن مجاهد والكلبي، وأخرجه الطبري ٨/ ١٥٦، ١٥٧ من عدة طرق جيدة عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والسدي وأخرجه بسند ضعيف عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٣ من عدة طرق جيدة عن مجاهد وأبي العالية، وذكره عن أبي رزين وإبراهيم النخعي وسعيد ابن جبير، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ٢/ ٣٤، وأخرجه الثوري في "تفسيره" ص ١١٢ بسند جيد عن مجاهد.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٣٧٦.
91
قال عطاء: (يريد: من خلقه للجنة يعود في البعث إلى الجنة، ومن خلقه للنار يعود في البعث إلى النار) (١).
وقال القرظي (٢): (من ابتدأ الله خلقه على (٣) الشقوة، صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه، [وإن عمل بأعمال أهل السعادة، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه] (٤)، وإن عمل بأعمال [أهل] (٥) الشقاء؛ كإبليس والسحرة) (٦).
وقال الفراء: (يقول بدأكم (٧) في الخلق شقيًا وسعيدًا، فكذلك تعودون على الشقاء والسعادة) (٨)، وهذه أقوال معناها واحد.
وقال الحسن ومجاهد: (كما بدأكم فخلقكم في الدنيا، ولم تكونوا شيئًا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء) (٩)، وهذا المعنى اختيار الزجاج؛ لأنه قال: (ثم احتج عليهم بإنكارهم البعث فقال: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ أي: فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم) (١٠).
(١) لم أقف عليه.
(٢) القرظي: هو محمد بن كعب، إمام. تقدمت ترجمته.
(٣) في (أ): (إلي).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) لفظ: (أهل) ساقط من (أ).
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٣ بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٤٤.
(٧) في (ب): (كما بداكم).
(٨) "معاني الفراء" ١/ ٣٧٦.
(٩) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٧ بسند جيد عن مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد، وأخرجه عن ابن عباس بسند ضعيف، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٣ بسند جيد عن السدي، وأخرجه عن ابن عباس بسند ضعيف.
(١٠) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣١، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٨، ١٥٩، =
92
قال ابن الأنباري: (موضع الكاف في ﴿كَمَا﴾ نصب بـ ﴿تَعُودُونَ﴾ وهو على مذهب العرب في تقديم مفعول الفعل (١) عليه أي: تعودون كما ابتدأ خلقكم) (٢).
= والزمخشرى في "الكشاف" ٢/ ٧٥ - ٧٦، والقرطبي ٧/ ١٨٨ والظاهر الجمع بين القولين، وأن الآية إعلام بالبعث، أي: كما خلقكم يعيدكم بعد الموت على ما سبق لكم في علم الله تعالى من سعادة أو شقاوة، فمن سبق له العلم بأنه سعيد صار إلى السعادة، ومن سبق له العلم بأنه شقي صار إلى الشقاوة، والآيات الدالة على ذلك كثيرّةً جدَّا، ومنها قوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ [الأعراف: ٣٠]. وقوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] وغيرها من الآيات التي يحتج الله سبحانه فيها على النشأة الثانية بالأولى، وعلى المعاد بالمبدأ، فجاء باحتجاج في غاية الاختصار والبيان ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾. وأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (٤٦٢٥) في كتاب التفسير آخر تفسير سورة المائدة، ومسلم رقم (٢٨٦٠) كتاب الجنة ونعيمها، باب: متاع الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (خطب رسول الله - ﷺ - فقال: "يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غُرلاً" ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]) اهـ.
وأخرج مسلم رقم (٢٨٧٨) كتاب الجنة ونعيمها، باب: الأمر بحسن الظن. عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" اهـ قال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٢/ ٢٩٧ - ٢٩٨: (في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير كل واحد منهما حق ويشهد له القرآن) اهـ. ثم حكى نحو ما ذكره الواحدي. وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٢٦، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٧، والماوردي ٢/ ٢١٧، والبغوي ٣/ ٢٢٣ - ٢٢٤، وابن عطية ٥/ ٤٧٩، وابن الجوزي ٣/ ١٨٥ - ١٨٦، والرازي ١٤/ ٥٨، و"بدائع التفسير" ٢/ ٢٠٤ - ٢٠٦، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٨٨.
(١) لفظ: (الفعل) ساقط من (أ) وملحق بالهامش.
(٢) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٢٩٧.
93
وقال أبو علي الفارسي: (قوله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾، ليس معنى الكلام على الظاهر؛ لأن الظاهر (تعودون كالبدء) (١)، وليس المعنى على تشبيههم بالبدء، إنما المعنى على إعادة الخلق كما ابتدئ فتقدير ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ (كما بدأ خلقكم) أي: يعود خلقكم عودًا كبدئه (٢)، فكما أنه لم يُعْنَ بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه، [كذلك لم يعن بالعود من غير حذف المضاف الذي هو الخلق، فلما حذف قام المضاف إليه] (٣) مقام الفاعل [فصار الفاعلون] (٤) مخاطبين، كما أنه لما حذف المضاف من قوله: كما بدأ خلقكم صار المخاطبون مفعولين في اللفظ)، ومثل هذه الآية في المعنى قوله: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] (٥).
(١) في (أ): (على البدء). وفي "الحجة" لأبي علي ٥/ ٢٦٣: (تعودون كالبدء).
(٢) في (ب): (عودًا لبدئه). وفي "الحجة" ٥/ ٢٦٣: (فتقدير ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ كما بدأ خلقكم يعود خلقكم أي: يعود خلقكم عودًا كبدئه) اهـ.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ).
(٥) "الحجة" لأبي علي ٥/ ٢٦٣ وفيه: (فكما أنه لم يُعْنَ بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه منه، كذلك لا يعني بالعود من غير حذف المضاف إليه منه فَحُذِف المضافُ الذي هو الخلق فلما حذف قام المضاف إليه مقام الفاعل وصار الفاعلون مخاطبين كما أنه لما حُذف المضاف من قوله: (كما بدأ خلقكم) صار المخاطبون مفعولين في اللفظ ومثل ذلك في المعنى ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ والخلق هنا اسم الحدث لا الذي يراد به المخلوق) اهـ.
وذكره السمين في "الدر" ٥/ ٢٩٧، وقال: (يعني: أن الأصل كما بدأ خلقكم يعود خلقكم فحذف الخلق في الموضعين فصار المخاطبون في الأول مفعولين بعد أن كانوا مجرورين بالإضافة، وفيِ الثاني صاروا فاعلين بعد أن كانوا مجرورين بالإضافة أيضًا، وقوله ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ﴾ الكاف في محل نصب نعتًا لمصدر محذوف تقديره: تعودون عودًا مثل ما بدأكم، وهذا أليق بلفظ الآية الكريمة) اهـ. وانظر: =
94
٣٠ - قوله تعالى: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾، قال أبو بكر: (نصب (١) ﴿فَرِيقًا﴾، ﴿وَفَرِيقًا﴾ على الحال من الضمير الذي في ﴿تَعُودُونَ﴾، يريد: تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين؛ بعضكم سعداء، وبعضكم أشقياء، فاتصل (فريق) وهو نكرة بالضمير الذي في ﴿تَعُودُونَ﴾، وهو معرفة فانقطع من لفظه، وعطف الثاني عليه، قال: ويجوز أن يكون الأول منصوبًا على الحال من الضمير، والثاني: منصوبًا بـ (حق عليهم الضلالة)؛ لأنه بمعنى: أضلهم كما يقول القائل: عبدًا لله أكرمته وزيدًا أحسنت إليه، فتنصب زيدًا بأحسنت إليه، بمعنى (٢): نفعته.
وأنشد (٣):
أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أمْ (٤) رِياحًا عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشَابَا
= "إعراب النحاس" ١/ ٦٠٨، و"المشكل" ١/ ٢٨٧، و"البيان" ١/ ٣٥٩، و"التبيان" ص ٣٧٢، و"الفريد" ٢/ ٢٨٨.
(١) لفظ: (نصب) غير واضح في (أ).
(٢) في (ب): (إذا كان بمعنى نفعته).
(٣) الشاهد لجرير في "ديوانه" ص ٥٩، و"الكتاب" ١/ ١٠١ - ١٠٢، و"مجاز القرآن" ٢/ ١٧٥، و"الجمهرة" ١/ ٢٩٠، و"الصحاح" ١/ ١٢٠ (خشب)، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٧٩ وبلا نسبة في "تأويل المشكل" ص ٥٤٤، و"الدر المصون" ٥/ ٣٠٠، (وثعلبة ورياح) بنو يربوع بن حنظلة من تميم قوم جرير، (وعدلت): سويت، (وطهية، والخشاب)، بنو مالك بن حنظلة من تميم وطهية امرأة مالك، والخشاب أولاد مالك من غير طهية.
انظر: "نهاية الأرب" ص ١٨٥ - ٢٤٧، ٢٩٦، والشاهد: ثعلبة الفوارس حيث نصب الاسم الواقع بعد همزة الاستفهام بفعل محذوف دل عليه (عدلت بهم) تقديره أهنت أو أظلمت.
(٤) في "الديوان" وأكثر المراجع: (أو) بدل: (أم). وانظر: "الخزانة" ١١/ ٦٩.
95
فنصب (ثعلبة) بعدلت بهم طهية، لأنه بمعنى: أهنتهم إذ (١) عدلت بهم من دونهم.
وقال آخر:
يا ليت ضيفَكُم الزبيرَ وجارَكم إيايَ لبَّس حبَله بحبالي (٢)
فنصب (إياي) بقوله: لبَّس حبله بحبالي؛ إذ كان معناه خالطني وقصدني.
قال: وفي قراءة أبي (٣) (تعودون فريقين فريقًا [هدى وفريقًا حق] (٤) عليهم الضلالة) (٥).
قال الفراء: (وقد يكون الفريق الأول منصوبًا بوقوع (هدى) عليه، ويكون الثاني منصوبًا بما وقع على عائد ذكره من الفعل كقوله: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾) [الإنسان: ٣١] (٦).
(١) في (أ): (إذا عدلت بهم).
(٢) لم أهتد إلى قائله، وهو في "الدر المصون" ٥/ ٣٠٠.
(٣) ذكرها أكثرهم. انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٧٦، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٠٨، و"القطع والائتناف" للنحاس ١/ ٢٥٠، و"المشكل" ١/ ٢٨٨، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٨٠، و"البيان" ١/ ٣٥٩، و"التبيان" ص ٣٧٣، و"الفريد" ٢/ ٢٨٩، والقرطبي ٧/ ١٨٨، و"البحر" ٤/ ٢٨٨، ونسب هذه القراءة الكرماني في "غرائبه" ١/ ٤٠١ إلى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٣٠٠، وهو في "الإيضاح" ٢/ ٦٥٣ - ٦٥٤، و"زاد المسير" ٣/ ١٨٦ مختصرًا.
(٦) "معاني الفراء" ١/ ٣٧٦، وقد ذكر هذه الأوجه كل المراجع السابقة وخلاصتها أن (فريقًا) الأول منصوب على أنه مفعول به مقدم لـ (هدى) أو حال من فاعل تعودون، و (فريقًا) الثاني منصوب بتقدير فعل دل عليه ما بعده أي: وأضل فريقا =
96
فأما التفسير، فقال ابن عباس: (﴿فَرِيقًا﴾ أرشد إلى دينه وهم أولياؤه ﴿وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ يريد: أضلهم وهم أولياء الشيطان يخذلهم الله فصاروا أولياء لإبليس) (١).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، يدل كلام ابن عباس (على أنهم إنما فعلوا ذلك بخذلان الله إياهم).
وقوله تعالى: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: ما سن (٢) لهم عمرو بن لحي) (٣).
قال أصحابنا: قوله: ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ (يعني: بالكلمة الأزلية والإرادة (٤) السابقة).
= أو حال من فاعل تعودون، وأكثرهم على أن الأول منصوب بهدى، والثاني بفعل مقدر.
انظر: "الكتاب" ١/ ٨٩، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٥٩، و"الدر المصون" ٥/ ٢٩٩ - ٣٠٠.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٣ - ١٧٤.
(٢) في النسخ: (ما بين)، ثم صحح في (أ) إلى (ما سن).
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٥٩، وقال: (هذا بعيد؛ بل هو محمول على عمومه). وهذا وأمثاله عن السلف -رضي الله عنهم- محمول على التمثيل وأنه داخل في المعنى.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٥٩، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٣١، و"زاد المسير" ٣/ ١٨٦، وقال القرطبي في "تفسيره" ٧/ ١٨٨: (في هذه الآية رد واضح على القدرية ومن تابعهم) اهـ.
وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ٢٠٥ - ٢٠٦: (أخبر الله سبحانه وتعالى عن القدر الذي هو نظام التوحيد فقال: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ فتضمنت الآية الإيمان بالقدر، والشرع، والمبدأ، والمعاد، والأمر بالعدل، والإخلاص، ثم ختم الآية بذكر حال من لم يصدق هذا الخبر، ولم يطع هذا الأمر بأنه قد والى الشيطان دون ربه، وأنه على ضلال، وهو يحسب أنه على هدى. والله أعلم) اهـ.
97
٣١ - قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ الآية، قال ابن عباس: (كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا) (١).
قال الكلبي (٢): (والزينة ما وارى العورة، ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ لصلاة أو طواف).
وقال مجاهد (٣) وعطاء (٤): (ما يستر به عورته ولو عباءة).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٥٩، ١٦٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٤ بسند جيد، وأخرج مسلم في "صحيحه" رقم (٣٠٢٨) كتاب التفسير، باب: في قوله: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾، والنسائي في "سننه" ٥/ ٢٣٣ - ٣٣٤ كتاب مناسك الحج، وفي "التفسير" ١/ ٤٩٦، والطبري ٨/ ١٥٩، ١٦٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٤، والحاكم وصححه ٢/ ٣١٩ - ٣٢٠، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٤، وفي "أسباب النزول" ص ٢٢٨، ٢٢٩ من عدة طرق عن ابن عباس قال: (كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أُحِلُّهُ
فنزلت هذه الآية ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١]، وعند الحاكم، فنزلت هذه الآية: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٣٢]، فلعل الآيتين نزلتا معًا لهذا السبب، والله أعلم. وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٦٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٤ من عدة طرق جيدة عن ابن عباس مثله.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٤، والبغوي ٣/ ٢٢٥، و"الخازن" ٣/ ٢٢٣.
(٣) أخرجه الطبري ٨/ ١٦١، وابن أبي حاتم ٣/ ١٤٣ أبسند جيد.
(٤) أخرجه الطبري ٨/ ١٦٠، ١٦١ من عدة طرق جيدة عن عطاء وسعيد بن جبير وطاوس وإبراهيم النخعي والزهري وقتادة والضحاك وابن زيد قالوا: (كانوا يطوفون بالبيت عراة فأمروا أن يلبسوا الثياب). وقال الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٦١: (أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة هاهنا لبس الثوب الذي يستر العورة) اهـ. والظاهر حمل الآية على العموم، وهو ما يتجمل ويتزين به عند الصلاة، وستر العورة واجب مأمور به مطلقًا، وهذا ظاهر كلام الجمهور. قال ابن كثير في =
98
قال الفراء والزجاج (١): (كانت الجاهلية تطوف بالبيت عراة، ويقولون: لا نطوف في ثياب قد أذنبنا فيها، وكانت المرأة تطوف عريانة أيضًا إلا أنها كانت تلبس شيئًا من سيور مقطعة، تسمي ذلك العرب الرهط (٢)).
قال الفراء (وهو شبيه بالحوف (٣) يواريها بعض المواراة، قالت امرأة تطوف وعليها رهط (٤):
الْيَوَمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أُحِلُّهُ (٥)
تعني: الفرج؛ لأن تلك السيور لا تستر سترًا تامًّا).
= "تفسيره" ٢/ ٢٣٥: (لهذه الآية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة ولا سيما الجمعة ويوم العيد والطيب؛ لأنه من الزينة والسواك؛ لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض) ونحوه قال ابن عطية ٧/ ٤٥، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٦٠، ١٦١، والسمرقندي ١/ ٥٣٨، و"أحكام القرآن" للكيا الهراسي ٣/ ٣٥٩، ٣٦٠، ولابن العربي ٢/ ٧٧٩، والقرطبي ٧/ ١٨٩، و"البحر المحيط" ٤/ ٢٩٠.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٢٢٣، والنص منه.
(٢) الرَّهْط، بفتح الراء وسكون الهاء: جلد يشق من أسفله أو جلد يشق سيورًا ليمكن المشي فيه يلبسه الصغار والحائض. انظر: "اللسان" ٣/ ١٧٥٣ (رهط).
(٣) الحوف، بفتح الحاء وسكون الواو: هو الرهط السابق. انظر: "اللسان" ٢/ ١٠٥٣ (حوف)
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٧٧.
(٥) البيت نسبه الفراء إلى العامرية، وهي ضباعة بنت عامر بن قرط العامرية، كما ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" ٢/ ٧٧٧، والقرطبي ٧/ ٨٨٩، والذهبي في "تجريد أسماء الصحابة" ٢/ ٢٨٤، وابن حجر في "الإصابة" ٤/ ٣٥٣ - ٣٥٤، ونسبه ابن حجر في ٤/ ٢٣٢ إلى أسماء بنت مخربة بن جند التميمية.
99
قال أصحابنا (١). وهذه الآية دليل على وجوب ستر العورة للصلاة والطواف بالبيت، والطواف صلاة، قال رسول الله - ﷺ -: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام" (٢).
(١) قال الفقهاء: ستر العورة عن العيون واجب بالإجماع، حكاه النووي في "المجموع" ٣/ ٣٦٦ وهي شرط لصحة الصلاة عند الجمهور الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي. انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٧٧٨، و"المغني" ٢/ ٢٨٣، و"روضة الطالبين" ١/ ٣٨٨، و"الفتاوى" ٢٢/ ١٠٩، و"نيل الأوطار" ٢/ ٧٣.
(٢) الحديث أخرجه أحمد في "المسند" ٣/ ٤١٤، ٤/ ٦٤، ٥/ ٣٧٧، والنسائي في "سننه" في كتاب المناسك، باب: إباحة الكلام في الطواف ٥/ ٢٢٢ عن الحسن ابن مسلم المكي عن طاوس عن رجل أدرك النبي - ﷺ -، وأخرجه الدارمي ٢/ ١١٦٥ (١٨٨٩) في كتاب المناسك: باب: الكلام في الطواف، والترمذي رقم (٩٦٠) كتاب المناسك، باب: الكلام في الطواف، وابن خزيمة ٤/ ٢٢٢ (٢٧٣٩)، والبيهقي ٥/ ٨٥ من عدة طرق عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس عن النبي - ﷺ -، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٢٦٦ - ٢٦٧ من طرق عن عطاء بن السائب، والقاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - ﷺ -.
قال الحاكم: (حيث صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وقد روي الحديث مرفوعًا تارة وموقوفًا أخرى، ورجح جماعة وقفه كالترمذي وغيره، وقد صححه الألباني في الإرواء ١/ ١٥٤ - ١٥٨. واستقصى طرقه، ثم قال: (وبالجملة الحديث مرفوع صحيح، ووروده أحيانًا موقوفًا لا يعله) اهـ.
وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" ٢١/ ٢٧٣ - ٢٧٤، ٢٦/ ١٢٦ - ١٩٣، ٢١١: (لا يشترط للطواف شروط الصلاة، وهذا قول أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وهذا القول هو الصواب، فإن المشترطين ليس معهم حجة إلا قوله - ﷺ -: "الطواف بالبيت صلاة" وهذا حديث يروى موقوفًا ومرفوعًا، وأهل المعرفة بالحديث لا يصححونه إلا موقوفًا ويجعلونه من كلام ابن عباس لا يثبتون رفعه، وبكل حال فلا حجة فيه والأدلة الشرعية تدل على خلاف ذلك، والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة أصلاً فإنه لم ينقل أحد عن النبي - ﷺ - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف..) اهـ. ملخصًا.
100
وقوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾، قال أكثر المفسرون: (كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا قوتًا، ولا يأكلون دسمًا، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل، فأنزل الله تعالى (١): ﴿وَكُلُوا﴾ يعني: اللحم والدسم، ﴿وَاشْرَبُوا﴾) (٢)، وهذا القول اختيار الفراء (٣).
وقال عطاء عن ابن عباس: (﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ يريد: حلالًا) (٤)، وهذا القول اختيار الزجاج، وبينه فقال: (إنهم ادعوا (٥) أن الله حرم عليهم شيئاً مما في بطون الأنعام، وحرم عليهم البحيرة والسائبة، وأمرهم الله عز وجل أن يأكلوا ما (٦) زعموا أن الله حرمه مما لم يحرمه، وأن يشربوا مما زعموا أن الله حرمه؛ لأن ألبان البحيرة [والسائبة (٧) كانت عندهم حرامًا) (٨)].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾ (٩) معناه على القول الأول: لا تسرفوا حتى يبلغ بكم ذلك تحريم ما أحللت (١٠) لكم. أي: لا تسرفوا بحظركم
(١) لفظ: (تعالى) ساقط من (ب).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٦٢، والسمرقندي ١/ ٥٣٨، والماوردي ٢/ ٢١٨، وحكاه الواحدي في "أسباب النزول" ص ٢٣٠ عن الكلبي.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٢٧٧.
(٤) أخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٦٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٥ بسند جيد عن ابن عباس قال: (أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سَرَفًا أو مَخِيلة).
(٥) في (ب): (إنهم دعو)، وهو تحريف.
(٦) في (ب): (مما زعموا).
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من أصل (أ)، وملحق بالهامش.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٢ - ٣٣٣.
(٩) الآية ساقطة من أصل (أ) وملحقة بالهامش.
(١٠) في (أ): (ما أحلت)، وهو تحريف.
101
على أنفسكم ما قد أحللته لكم، أي: من اللحم والدسم، وهذا معنى قول الفراء (١).
وقال الزجاج: (الإسراف أن يأكل ما لا يحل أكله مما حرم الله عز وجل؛ أن يؤكل منه شيء، أو يأكل ما أحل الله فوق مقدار الحاجة، فأعلم الله أنه لا يحب من أسرف، ومن لم يحببه الله فهو في النار) (٢).
٣٢ - قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾. قال ابن عباس (٣) والمفسرون (٤): (يريد: اللباس يستر به العورة).
قال أبو إسحاق: (أي: من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ أي: الحلالات من الرزق، يعني ما حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب، قاله ابن عباس (٦)، وقتادة (٧).
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٣٧.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٣، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٦٢، والسمرقندي ١/ ٥٣٨، والماوردي ٢/ ٢١٨، والآية عامة في أكل وشرب ما أحله الله تعالى ورسوله - ﷺ - ونهى عن السرف مطلقًا ويدخل فيه من حلل حرامًا أو حرم حلال، وهذا قول عامة أهل العلم. انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٨٢، والرازي ١٤/ ٦٢، والقرطبي ٧/ ١٩١ - ١٩٥، وابن كثير ٢/ ٢٣٦.
(٣) سبق تخريجه.
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٦٣، وقال: (المراد بالزينة اللباس الذي تستر به العورة، وهو قول ابن عباس وكثير من المفسرين) اهـ.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٣.
(٦) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٨٩ ب، والبغوي ٣/ ٢٢٥، وابن الجوزي ٣/ ١٨٩ عن ابن عباس وقتادة، وذكره الماوردي ٢/ ٢٤ عن الحسن وقتادة.
(٧) أخرجه الطبري ٨/ ١٦٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٧ بسند جيد.
102
وقال الآخرون (١): (يعني: ما كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام حجهم من اللحم والدسم)، وهذا كالاختلاف في قوله: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ [الأعراف: ٣١] في الآية الأولى (٢).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
قال الفراء: (نصب ﴿خَالِصَةً﴾ على القطع (٣) وجعلت خبر (هي (٤)) في اللام التي في قوله ﴿لِلَّذِينَ﴾ والخالصة ليست بقطع من هذه اللام، ولكنها قطع من لام أخرى مضمرة، والمعنى والله أعلم: ﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ مشتركة وهي لهم في الآخرة ﴿خَالِصَةً﴾ على القطع) (٥).
قال أبو علي: (قوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [يحتمل أن يكون ظرفًا لـ (هي)، وخبرها قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ والتقدير: هي في الحياة الدنيا] (٦)
(١) أخرجه الطبري ٨/ ١٦٣ من عدة طرق جيدة عن السدي، وابن زيد، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٧ من عدة طرق جيدة عن السدي، وسعيد بن جبير. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٥٠.
(٢) والآية عامة في كل ما يتزين به من ملبوس أو غيره، وفي الطيبات من المآكل والمشارب التي أباحها الله تعالى ورسوله - ﷺ - وإنكار عام على كل من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله، ومنها ما فعله أهل الجاهلية. قال الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٦٣: (يقول الله تعالى ذكره لنبيه - ﷺ - قل لهؤلاء من حرم عليكم زينة الله التي خلقها لعباده؛ أن تتزينوا بها وتتجملوا بلباسها والحلال من رزق الله الذي رزقه خلقه لمطاعمهم ومشاربهم، وقد أجمعوا على أن الزينة ما قلنا) اهـ. ملخصًا.
وانظر: "تفسير بن عطية" ٥/ ٤٨٢، ٤٨٣، والقرطبي ٧/ ١٩٥.
(٣) يعني بالقطع الحال، أفاده السمين في "الدر" ٥/ ٣٠٢، وانظر: "معجم المصطلحات النحوية" ص ١٨٨.
(٤) في "معاني الفراء" ١/ ٣٧٧: (وجعلت الخبر في اللام التي في الذين..) اهـ.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٧٧.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
103
للمؤمنين مقدرًا خلوصها يوم القيامة، ويحتمل أن يكون قوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متصلًا بالصلة التي هي (١) (آمنوا)، والمعنى ﴿هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ في حياتهم -أي: الذين لم يكفروا فيها- ﴿خَالِصَةً﴾، فموضع (في) على هذا نصب بآمنوا، والعامل في الحال معنى اللام في: ﴿لِلَّذِينَ﴾، والمعنى: هي تثبت وتستقر ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً﴾.
قال: ويجوز أن يكون قوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ في موضع حال (٢)، وصاحب الحال هو (هي) والعامل في الحال معنى الفعل في ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾، كما بينا، والمعنى: قل: هي تثبت لهم (٣) مستقرة ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [أي: هي ثابتة للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة) (٤)] (٥).
وقرأ نافع (٦): ﴿خَالِصَةً﴾ رفعًا، قال الزجاج: (ورفعها على أنه خبر بعد خبر كما تقول: زيد عاقل لبيب، والمعنى: قل هي ثابتة للمؤمنين ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (٧).
قال أبو علي: (قوله: رفعها على أنه خبر بعد خبر جائز حسن، ويجوز
(١) في (أ): (التي هي للذين آمنوا في حياتهم، أي: للذين لم يكفروا..).
(٢) في (ب): قال: (وصاحب الحال).
(٣) في (ب): (قل هي يثبت ويستقر للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) هذا ملخص من "الإغفال" ص ٧٧١ - ٧٧٢، و"الحجة" ٤/ ١٥ - ١٧.
(٦) قرأ نافع: في ﴿خَالِصَةً﴾ بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب. انظر: "السبعة" ص ٢٨٠، و"المبسوط" ص ١٨٠، و"التذكرة" ٢/ ٤١٨، و"التيسير" ص ١٠٩، و"النشر" ٢/ ٢٦٩.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٣.
104
أيضاً عندي أن لا يكون خبرًا بعد خبر، ولكن تكون ﴿خَالِصَةً﴾ خبر الابتداء كأنه في التقدير: قل هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا، فيكون ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ متعلقاً بخالصة، وفي موضع نصب به، والمعنى: هي تخلص للذين آمنوا يوم القيامة وإن شركهم غيرهم من الكافرين [في الدنيا)] (١).
قال ابن عباس: (شارك المسلمين المشركون في الطيبات في الحياة الدنيا؛ فأكلوا من طيبات طعامها، ولبسوا من جياد ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء) (٢)، وهذا قول الحسن والضحاك وابن جريج وابن زيد (٣).
وقال عطاء في قوله تعالى: ﴿خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: (يريد: إن الله جعل لهم الجنة خالصة بطاعتهم الله في الدنيا) (٤) ففسر ﴿الطَّيِّبَاتِ﴾ بالجنة لأنها محل الطيبات في الآخرة.
قال أبو إسحاق: (أعلم الله عز وجل أن الطيبات تخلص للمؤمنين في
(١) لفظ: (في الدنيا) ساقط من (أ)، والنص من "الإغفال" ص ٧٧١، و"الحجة" ٤/ ١٤ - ١٦، وانظر: في "توجيه القراءات وإعرابها"، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٦٥، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٠٩، و"معاني القراءات" ١/ ٤٠٤، و"إعراب القراءات" ١/ ١٨٠، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٤، ولابن زنجلة ص ٢٨١، و"الكشف" ١/ ٤٦١ - ٤٦٢، و"المشكل" ١/ ٢٨٨ - ٢٩٠.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٦٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٨ بسند جيد.
(٣) أخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٦٤، ١٦٥ من عدة طرق جيدة عن الحسن والضحاك وابن جريج وابن زيد وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٦٨ عن الحسن والضحاك وقتادة وعكرمة، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٨ بسند جيد عن الحسن. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٥٠.
(٤) لم أقف على من ذكره.
105
الآخرة لا يشركهم فيها كافر) (١).
وقال بعض أصحاب المعاني: (الأولى أن يكون معنى ﴿الطَّيِّبَاتِ﴾ في هذه الآية المستلذ من الرزق) (٢).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾، يريد: تفسير ما أحللت من حلالي وما حرمت من حرامي، ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، يريد: علموا أني أنا الله وحدي لا شريك لي (٣).
٣٣ - قال الكلبي: (فلما نزلت هذه الآية لبسوا الثياب، وطافوا بالبيت فيها، فعيرهم المشركون بذلك، فأنزل الله تعالى (٤) قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾) (٥). قال ابن عباس: (يريد: سر الزنا وعلانيته) (٦).
وقال مجاهد: (ما ظهر: نكاح الأمهات... (٧) في الجاهلية. ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ الزنا).
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٣.
(٢) انظر: "معاني النحاس" ٣/ ٢٧، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٨، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢١٩، و"ابن الجوزي" ٣/ ١٨٩.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٦٦، والسمرقندي ١/ ٥٣٨، و"الخازن" ٢/ ٢٢٤.
(٤) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ).
(٥) ذكره القرطبي ٧/ ٢٠٠، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٩٢.
(٦) تقدم تخريجه.
(٧) جاء في النسخ كلمة غير واضحة بعد لفظ (الأمهات)، ولعلها (الذوات، أو الدواب). وذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٢٥، والقرطبي ٧/ ٢٠٠ عن مجاهد قال: (﴿مَا ظَهَرَ﴾ نكاح الأمهات في الجاهلية، ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ الزنا) اهـ، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٦٦ عن مجاهد قال: (﴿مَا ظَهَرَ﴾ الجمع بين الأختين وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده، ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ الزنا).
106
وقال القرظي: (﴿مَا ظَهَرَ﴾ طوافهم بالبيت عراة، ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ الزنا) (١).
وقال عكرمة: (﴿مَا ظَهَرَ﴾ الظلم على الناس، ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ الزنا والسرقة) (٢).
وقال مقاتل (٣) والكلبي (٤) نحو قول ابن عباس. وقد مضى الكلام في هذا في سورة الأنعام.
وقوله تعالى: ﴿وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾. قال بعض أهل المعاني: (إنما ذكر هذه القبائح مع الفواحش وهي داخلة في الفواحش للبيان عن التفصيل؛ كأنه قيل: الفواحش التي منها الإثم، ومنها البغي، ومنها الإشراك بالله) (٥).
وقال ابن الأنباري: (إنما فصل الإثم لأنه قصد [به] (٦) الأفاعيل المذمومة التي لا يجب على فاعلها الحد، والفواحش يجب على فاعلها إذا أتاها أو أكثرها الحد، فلهذه العلة فصل الإثم. قال: وهذا جواب مأثور عن ابن عباس) (٧).
(١) لم أقف عليه، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٦٦ بسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٠ بسند جيد عن الزهري.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٧١ بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٥١.
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٤
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٠.
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ٢٠١.
(٦) لفظ: (به) ساقط من (ب).
(٧) لم أقف عليه عن ابن الأنباري، وذكر ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٩١ عن ابن عباس قال: (الإثم الذنب الذي لا يوجب الحد) اهـ.
107
وقال عطاء عن ابن عباس: (﴿وَالْإِثْمَ﴾ يريد: الخمر) (١).
وقال الحسن (٢): (الإثم: الخمر، تصديق ذلك قوله: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾) [البقرة: ٢١٩].
قال أبو بكر: (الإثم لا يكون من أسماء الخمر؛ لأن العرب ما سمته إثمًا قط في الجاهلية ولا إسلام، ولكن قد تكون الخمر داخلة تحت الإثم لقوله: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾) [البقرة: ٢١٩] (٣).
وقال الضحاك: (الإثم: الذنب دون الحد) (٤).
وقال السدي: (الإثم المعصية) (٥)، ﴿وَالْبَغْيَ﴾ ظلم الناس والاستطالة بغير حق، وهو أن يطلب ما ليس له، كذا قال جميع أهل التفسير (٦).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٦، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٩١ عن عطاء فقط، وذكره السمين في "الدر" ٥/ ٣٠٦ عن ابن عباس والحسن.
(٢) ذكره البغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٢٦، وابن الجوزي ٣/ ١٩١، والقرطبي ٧/ ٢٠٠.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٦، والسمين في "الدر" ٥/ ٣٠٦، وفي "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٢، قال ابن الأنباري: (ليس الإثم في أسماء الخمر بمعروف، ولم يصح فيه بيت صحيح) اهـ. وقال السمين في "الدر" ٥/ ٣٠٦: (الذي قاله الحذاق إن الإثم ليس من أسماء الخمر) اهـ.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٦، والبغوي ٣/ ٢٢٦، وابن الجوزي ٣/ ١٩١، وهو قول الفراء في "معانيه" ١/ ٣٧٨.
(٥) أخرجه الطبري ٨/ ١٦٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧١ بسند جيد.
(٦) وهو قول الفراء في "معانيه" ١/ ٣٧٨، والطبري ٨/ ١٦٦، والظاهر أن الإثم الذنب والمعصية عام في الأقوال والأفعال التي يترتب عليها الإثم، والبغي: الظلم وتجاوز الحد فيه، وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما فنص على ذكرهما تأكيدًا لأمرهما وقصدًا للزجر عنهما، وذكر الخمر من باب التمثيل لأنه سبب الإثم، بل هي معظمه، فإنها مؤججة للفتن. وقال ابن كثير في =
108
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ﴾ (١)، قال الزجاج: (موضع (أن) نصب، المعنى: وحرم الشرك) (٢).
وقوله تعالى: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾، قال مقاتل: (ما لم ينزل [به] (٣) كتابًا فيه حجة لكم بأن معه شريكًا) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: قولهم الملائكة بنات الله) (٥).
وقال مقاتل: (وحرم أن تقولوا (٦) على الله أنه حرم الحرث والأنعام) (٧).
وقال أهل المعاني: (هذا عام في تحريم القول في الدين من غير يقين) (٨).
= "تفسيره" ٢/ ٢٣٦: (وحاصل ما فسر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس) اهـ.
وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٠٩، ٦١٠، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٨٨، ٤٨٩، والقرطبي ٧/ ٢٠١.
(١) في (ب): ﴿وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ﴾.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٤، وفيه: (المعنى: حرم الله الفواحش تحريم الشرك) اهـ. وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦١٠، و"المشكل" ١/ ٢٩٠.
(٣) لفظ: (به) ساقط من (ب).
(٤) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٤، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٤، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٦٦، ١٦٧.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) في (أ): (يقولوا) بالياء.
(٧) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٤، وزاد فيه: (والألبان والثياب).
(٨) هذا قول الطبري ٨/ ١٦٧، والبغوي ٣/ ٢٢٦، وابن الجوزي ٣/ ١٩٢.
109
٣٤ - قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ الآية، معنى الأجل: الوقت [المؤقت] (١) المضروب لانقضاء المهل (٢).
وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أن المراد بهذا أجل العذاب. وهو قول ابن عباس والحسن (٣) ومقاتل.
قال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ (يريد: وقتًا فإذا جاء ذلك الوقت لا يؤخر عنهم العذاب، ولا يقدم قبل ذلك) (٤).
وقال الحسن: (يريد: أجل الهلاك بعذاب الاستئصال).
وقال مقاتل: (﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ بالعذاب، ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ بالعذاب لا يتأخرون ولا يتقدمون حتى يعذبوا. قال: وذلك حين سألوا النبي - ﷺ - العذاب) (٥).
القول الثاني: أن المراد بهذا الأجل أجل العمر، فإذا انقطع ذلك الأجل ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ بعد الأجل ساعة، وكأن القول الأول أقوى لقوله: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾، ولم يقل: ولكل أحد أجل. وعلى القول الثاني إنما قال: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾، ولم يقل لكل أحد إخبارًا عن تقارب أعمار أهل كل عصر حتى كأن لها أجلًا واحداً لتقاربها (٦).
(١) لفظ: (المؤقت) ساقط من (ب).
(٢) انظر: "العين" ٦/ ١٧٨، و"الجمهرة" ٢/ ١٠٤٣، و"التهذيب" ١/ ١٢٤، و"الصحاح" ٤/ ١٦٢١، و"المجمل" ١/ ٨٨، و"المفردات" ص ٦٥، و"اللسان" ١/ ٣٢ (أجل).
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٧، والرازي ١٤/ ٦٧، عن ابن عباس والحسن ومقاتل، وذكره البغوي ٣/ ٢٢٦، عن ابن عباس وعطاء والحسن.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٩١، و"الفريد" للهمداني ٢/ ٢٩٣.
(٥) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٥.
(٦) انظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٦٨، و"الخازن" ٢/ ٢٢٥، وفيهما نص كلام الواحدي =
وقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً﴾. قال الزجاج: (ولا أقل من ساعة، ولكن ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الأوقات) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾، إن قيل: ما معنى هذا مع استحالة التقدم على الأجل وقت حضوره، وكيف يحسن قوله: ﴿وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ بعد فناء الأجل؟؛ قيل: هذا على المقاربة؛ لأن العرب تقول: جاء الشتاء إذا قارب وقته. وجاء الصيف، ومع مقاربة (٢) الأجل تصور الاستقدام، وإن كان لا يتصور مع الانقضاء، والمعنى: ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عن (٣) آجالهم إذا انقضت، ﴿وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ عليها إذا قاربت الانقضاء، ولفظ قوله: ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ محتمل للمعنيين (٤).
٣٥ - قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ إلى آخر الآية
= بدون نسبة. والقول الأول أظهر. وهو قول الجمهور، والثاني داخل فيه ومعلوم أن لكل إنسان أجلاً لا يتعداه.
انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٦٧، والسمرقندي ١/ ٥٣٨، والماوردي ٢/ ٢٢٠، وابن عطية ٥/ ٤٩٠، ٤٩١.
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٤، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٣٠.
(٢) لفظ: (مع مقاربة) عليه طمس في (أ).
(٣) في (ب): (مع).
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٦٨، ونقله عن الواحدي السمين في "الدر" ٥/ ٣٠٨، وقال: (هذا بناء منه على أنه معطوف على ﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ وهو ظاهر أقوال المفسرين، وهذا لا يجوز؛ لأن (إذا) إنما يترتب عليها وعلى ما بعدها الأمور المستقبلية لا الماضية، والاستقدام بالنسبة إلى مجيء الأجل متقدم عليه، فكيف يترتب عليه؟ ويصير هذا من باب الإخبار بالضروريات التي لا يجهل أحد معناها، وهو مستأنف معناه الإخبار بأنهم لا يسبقون أجلهم المضروب لهم، بل لا بد من استيفائهم إياه، كما أنهم لا يتأخرون عنه أقل زمان) اهـ. ملخصًا. وانظر: "البحر المحيط" ٤/ ٢٩٣.
111
مفسر ومشروح في سورة البقرة، وهو قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى﴾ الآية [البقرة: ٣٨]، قال عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾: (يريد: فرائضي وأحكامي، ﴿فَمَنِ اتَّقَى﴾ يريد: اتقاني وخافني، ﴿وَأَصْلَحَ﴾ يريد: ما بيني وبينه، ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يريد: يوم الفزع الأكبر (١)، واختلف أهل المعاني في أن المؤمنين هل يلحقهم خوف وحزن عند أهوال القيامة، فبعضهم ذهب إلى: أنه لا يلحقهم ذلك لعموم نفيه في هذه الآية، وذهب بعضهم إلى أنه يلحقهم لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ الآية [الحج: ٢].
وأما قوله: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾، معناه: أن أمرهم يؤول إلى الأمن والسرور كقول الطبيب للمريض: لا بأس عليه، أي: أن أمره يؤول إلى العافية والسلامة، وإن كان في الوقت في بأس (٢) من علته (٣)، وجواب قوله: ﴿إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ هو ما دل عليه الكلام؛ كأنه قيل: فأطيعوهم، هذا قول الأخفش (٤).
وقال الزجاج: (جوابه في الفاء في قوله: ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ﴾ (٥)،
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٧، والبغوي ٣/ ٢٢٧، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٩١ - ٩٢ نحوه، وجاء عند الواحدي والبغوي عنه في قوله: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ قال: (إذا خاف الناس، ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ إذا حزنوا) اهـ.
(٢) في (ب): (فلا بأس عليه)، وهو تحريف.
(٣) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٩، والرازي ١٤/ ٦٩، والقرطبي ٧/ ٢٠٢.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٢٧٩.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٤، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٦٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٠، و"الكشاف" ٢/ ٧٧، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٤٩٣، و"الدر المصون" ٥/ ٣٠٩.
112
وقد ذكرنا هذا (١) مستقصى في سورة البقرة.
٣٧ - قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾. [قال الكلبي] (٢): (فمن أكفر ممن اختلق على الله كذبًا باطلاً، فجعل له صاحبة وولداً) (٣).
وقال أبو إسحاق: (أيْ: أيُّ ظلم أشنع من الكذب على الله عز وجل) (٤). [و] (٥) قال ابن عباس في قوله: ﴿افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ (يريد: جعل لله شريكًا وجعل له ولداً) (٦).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ اختلفوا في معناه؛ فقال الحسن والسدي وأبو صالح: (ينالهم ما كتب لهم من العذاب) (٧)، ومثله روى حبان (٨) عن الكلبي: ﴿نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ (أي: من العذاب) (٩).
(١) انظر: "البسيط" سورة البقرة: ٣٨.
(٢) لفظ: (قال الكلبي) ساقط من (أ).
(٣) ذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٣٩، وقال بعده: (قال بعضهم هذا التفسير خطأ لأنه لا يصح أن يقال: هذا أكفر من هذا، ولكن معناه، ومن أشد في كفره) اهـ.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٤، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٣٠، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٦٨.
(٥) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٧ بلفظ: (جعل له صاحبة وولدا وشريكًا) اهـ.
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٦٩ من عدة طرق عن أبي صالح والحسن والسدي، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٤ عن أبي صالح.
(٨) حبان: هو حبان بن علي العنزي الكوفي، فقيه، فاضل، ضعيف. تقدمت ترجمته.
(٩) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٢، و"تفسير هود الهواري" ٢/ ١٦.
113
والسدي بيَّن ذلك العذاب ما هو فقال: (سواد الوجوه وزرقة العيون) (١)، فعلى هذا معنى قوله: ﴿يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ ما قضى الله عليهم في الكتاب من سواد الوجوه، وزرقة العيون (٢)، ويؤكد هذا التأويل قوله: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: ٦٠].
وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطية (٣) قال: (ينالهم ما كتب عليهم، [وقد كتب] (٤) لمن (٥) افترى على الله وجهه مسود) (٦) واحتج بالآية، واختار الفراء هذا فقال: (ينالهم ما قضى الله عليهم في الكتاب من سواد الوجوه وزرقة الأعين) (٧).
وقال الزجاج: (معنى: ﴿نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ ما أخبر الله -عز وجل- من جزائهم؛ نحو قوله: ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾ [الليل: ١٤]، وقوله: ﴿يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾ (٨) [الجن: ١٧]، وقوله: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ الآية [غافر: ٧١]، فهذا نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم) (٩).
(١) لم أقف عليه.
(٢) في (أ): (سواد الوجه وزرقة العين).
(٣) في (ب): (عطاء)، وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٧٠ بسند ضعيف عن عطية العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(٤) لفظ: (وقد كتب) ساقط من (ب).
(٥) في (ب): (بأن يفترى).
(٦) في (ب): (مسوده)، وعند الطبراني ١٢/ ٤١٣: (أنه وجهه مسود) وهو أولى.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٣٧٨، ونحوه ذكر مقاتل في "تفسيره" ٢/ ٣٥.
(٨) في (ب): ﴿نَسْلُكُهُ﴾ بالنون وهي قراءة ابن عامر وابن كثير وأبي عمرو، ونافع وقرأ الباقون ﴿يَسْلُكُهُ﴾ بالياء. انظر: "السبعة" ص ٦٥٦، و"المبسوط" ص ٣٨٤، و"التذكرة" ٢/ ٧٣٧، و"النشر" ٢/ ٣٩٢.
(٩) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٤ - ٣٣٥.
114
وقال عبد الله بن مسلم: (أي: حظهم مما كتب عليهم من العقوبة) (١) فهذا كله قول من جعل ﴿نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾، العذاب، و ﴿الْكِتَابِ﴾ على هذا القول الظاهر أنه القرآن؛ لأنه ذكر عذابهم في القرآن في مواضع كما ذكره (٢) أبو إسحاق، ويجوز أن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
وقال سعيد بن جبير، ومجاهد (٣) وعطية العوفي ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ (٤) (أي: ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة، ثم قرأ العوفي: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ [الأعراف: ٣٠]، يعني: أن هؤلاء ممن أدركهم ما كتب لهم من الشقاوة، وإن كان فيهم أحد كتبت له السعادة أدركته، وعلى هذا المعنى دل كلام ابن عباس في رواية عطاء؛ لأنه قال: (يريد: ما سبق عليهم في علمي في اللوح المحفوظ) (٥).
(١) "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٧، وهو قول مكي في "تفسير المشكل" ص ٨٤.
(٢) في (ب): كما ذكر.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٣٥ - ٢٣٦، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٦٩، ١٧٠ من عدة طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعطية العوفي، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٤ من عدة طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد وعطية العوفي، وقال بعده: (وروي عن سعيد بن جبير والحسن نحوه) اهـ.
(٤) هنا وقع اضطراب في نسخة (ب) فوقع باقي تفسير الآية في ص ١٤٧ب.
(٥) ذكره ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ٢٠٩، وقريب منه ما أخرجه الطبري ٨/ ١٧٠، ١٧١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٣ بسند جيد عن ابن عباس قال: (نصيبهم من الأعمال) وفي رواية عند الطبري قال: (ينالهم الذي كتب عليهم من الأعمال)، وفي رواية أخرى: (من الخير والشر)، وفي أخرى: (ما وعدوا مثله) والكل متقارب.
115
وقال الربيع والقرظي وابن زيد (١): (يعني: ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار، فإذا فنيت وفرغوا منها ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾) (٢)
قال بعض أهل المعاني (٣): (وهذا القول هو وجه التأويل لذكر (حتى) على معنى الانتهاء، يعني: أنهم يستوفون أعمارهم وأرزاقهم إلى الموت)، فعلى هذا القول معنى (حتى) الانتهاء والغاية (٤)، وعلى القولين الأولين ليست (حتى) في هذه الآية التي للغاية (٥)، بل هي التي تدخل على الجمل وينصرف بعدها الكلام إلى الابتداء كـ (أما) (٦) و (إذا) ولا تعلق لقوله ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا﴾ بما قبله، بل هذا ابتداء خبر أُخبر عنهم كقوله:
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٧١ من عدة طرق عن الربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي وابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٣، عن الربيع والقرظي. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٥٣، ١٥٤.
(٢) في (أ): (رسلهم).
(٣) ومنهم الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٧٢، وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٣٧: (وهذا القول قوي في المعنى والسياق يدل عليه) اهـ.
(٤) يعني أن مجيء الرسل للتوفي كالغاية لحصول ذلك النصيب فينبغي أن يكون حصول ذلك النصيب متقدمًا على حصول الوفاة والمتقدم على حصول الوفاة ليس إلا العمر والرزق، أفاد ذلك الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٧١.
(٥) نقل قول الواحدي السمين في "الدر" ٥/ ٣١٠ ثم قال: (هذا غير مرضي منه لمخالفته الجمهور؛ إذ الغاية معنى لا يفارقها، وقوله: لا تعلق لها بما قبلها ممنوع على جميع الأقوال التي ذكرها. والظاهر أنها إنما تتعلق بقوله ﴿يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ﴾) اهـ. ملخصًا.
(٦) قال سيبويه في "الكتاب" ٣/ ١٧ - ١٨: (حتى صارت هاهنا بمنزلة إذا، وما أشبهها من حروف الابتداء) اهـ، وانظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص ٦٤، و"معاني الحروف" للرمانى ص ١١٩، ص١٦٤، و"المغني" لابن هشام ١/ ١٢٨.
116
فَيَاعَجَبِي حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبنُّي (١)
ويؤكد القول الأول أن ذكر عظم الظلم يقتضي ذكر الوعيد (٢) بالعذاب.
(١) البيت للفرزدق في "ديوانه" ١/ ٤١٩، وعجزه:
كَأنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ أَوْ مُجَاشِعُ
وهو في "الكتاب" ٣/ ١٨، و"الأصول" ١/ ٤٢٥، و"نزهة الأعين" لابن الجوزي ص ٢٤٤، و"المغني" لابن هشام ١/ ١٢٩ وبلا نسبة في: "المقتضب" ٢/ ٣٩، و"معاني الحروف" للرماني ص ١٦٥، و"الموضح في التفسير" للحدادي ص ٥٦، و"رصف المباني" ص ٢٥٧، و"الدر المصون" ٥/ ٣١٠.
وكليب: هو ابن يربوع بن حنظلة بطن من ربيعة من عامر بن صعصعة، وهو رهط جرير. انظر: "نهاية الأرب" ص ٣٦٦، ونهشل: بطن من حنظلة من تميم. انظر: "نهاية الأرب" ص٣٧٠. ومجاشع: بطن من دارم من تميم، وهو رهط الفرزدق. انظر: "نهاية الأرب" ص ٣٨٦، والشاهد: حتى كليب، حيث جاءت (حتى) حرف ابتداء، ودخلت على الجملة الاسمية، وانظر: "شرح شواهد المغني" للسيوطي ١/ ١٤، و"الخزانة" ٩/ ٤٧٥.
(٢) والظاهر والله أعلم هو عموم ما كتب عليهم من أجل وعمل ورزق في أم "الكتاب"، وهو اختيار ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ٢٠٩ - ٢١٠، فقد ذكر عامة الأقوال التي ذكر الواحدي ثم قال: (والصحيح القول الأول وهو نصيبهم الذي كتب لهم أن ينالوه قبل أن يخلقوا، ونصيبهم يتناول الأمرين، نصيبهم من الشقاوة، ونصيبهم من الأعمال التي هي أسبابها، ونصيبهم من الأعمار التي هي مدة اكتسابها، ونصيبهم من الأرزاق التي استعانوا بها على ذلك، فعمت الآية هذا النصيب كله، وذكر هؤلاء بعضه، وهؤلاء بعضه هذا على القول الصحيح، وأن المراد ما سبق لهم في أم "الكتاب"، ولهذا القول وجه حسن وهو أن نصيب المؤمنين من الرحمة والسعادة، ونصيب هؤلاء من العذاب والشقاوة، فنصيب كل فريق منه ما اختاروه لأنفسهم وآثروه على غيره، كما أن حظ المؤمنين منه كان الهدى والرحمة فحظ هؤلاء منه الضلال والخيبة، فكان حظهم من هذه النعمة أن صارت نقمة وحسرة عليهم) اهـ. ملخصًا. =
117
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾. قال سيبويه (١) والخليل: (لا يجوز إمالة حتى، وإلَّا، وأما، وهذه ألفات ألزمت الفتح، لأنها أواخر حروف جاءت لمعنى ففصل بينها (٢) وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو حُبْلَى وهدى، إلا أن (حتى) كتبت بالياء لأنها على أربعة أحرف فأشبهت سَكْرى) (٣).
وقال بعض النحويين: (لم يجز إمالة (حتى) لأنها حرف لا ينصرف والإمالة ضرب من التصرف ((٤).
قال ابن عباس: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ (يريد: الملائكة يقبضون أرواحهم) (٥)، ﴿قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سؤال تبكيت وتقريع، ﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ أي بطلوا وذهبوا، ﴿وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾، اعترفوا عند معاينة الموت وأقروا على أنفسهم بالكفر، قال ابن عباس في هذه الآية: (يريد: أن الموت قيامة
= وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٣٠، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٩، والماوردي ٢/ ٢٢١، والبغوي ٣/ ٢٢٧، وابن عطية ٧/ ٥٤، وابن الجوزي ٣/ ١٩٣، والرازي ١٤/ ٧٠، ٧١، والقرطبي ٧/ ٢٠٣.
(١) "الكتاب" ٤/ ١٣٥، وفيه قال: (ومما لا يميلون ألفه (حتى) و (أمَّا) و (إلَّا) فرقوا بينها وبين ألفات الأسماء نحو حبلى وعطشى. وقال الخليل: لو سميت رجلاً بها وامرأة جازت فيها الإمالة) اهـ. وانظر: "المقتضب" ٣/ ٥٢
(٢) في (ب): (بينهما).
(٣) هذا نص الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٣٥، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦١١، و"التكملة" لأبي علي ص ٥٣٨، و"الكشف" لمكي ١/ ١٩٣.
(٤) ذكر الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٧١ مثله.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٢، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٨.
118
الكافر، والموت راحة المؤمن) (١) هذا قول أهل التفسير، وذهب بعض أهل المعاني: (إلى أن هذا يكون في الآخرة، ومعنى قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا﴾ أي: ملائكة العذاب ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ أي: يتوفون عدتهم وفاة الحشر إلى النار، على معنى: يستكملونهم جميعًا لا يغادرون منهم أحداً).
وذكر الزجاج هذه الوجه (٢) في أحد قوليه.
وهذا يحكى عن الحسن (٣) أيضًا.
٣٨ - قوله تعالى: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ﴾ الآية. الله تعالى يقول ذلك، أخبر عن نفسه، كذلك قال أهل التفسير.
وقال مقاتل: (هو من كلام خازن النار) (٤).
(١) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٧١.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٥ - ٣٣٦، وقال: (هو أضعف الوجهين) وكذلك ذكر القولين النحاس في "معانيه" ٣/ ٣١ - ٣٢.
(٣) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ١٦، والماوردي ٢/ ٢٢١، وابن الجوزي ٣/ ١٩٤، والرازي ١٤/ ٧١ والأول أظهر وهو ما رجحه جمهور المفسرين، والمعنى يتمتعون في الدنيا بقدر ما كتب لهم حتى إذا جاءهم ملك الموت وأعوانه يتوفونهم عند الموت أقروا على أنفسهم بالكفر، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٧٢، والسمرقندي ١/ ٥٣٩، والبغوي ٣/ ٢٢٧، وابن عطية ٥/ ٤٩٦.
(٤) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٦، وهو قول السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٣٩، وابن عطية ٥/ ٤٩٧، وقال ابن الجوزي ٣/ ١٩٤: (إن الله تعالى يقول لهم ذلك بواسطة الملائكة لأن الله تعالى لا يكلم الكفار يوم القيامة) والأول أظهر وهو اختيار جمهور المفسرين.
انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٧٣، والبغوي ٣/ ٢٢٨، والزمخشري ٢/ ٧٨، والقرطبي ٧/ ٢٠٤، و"البحر" ٤/ ٢٩٥.
119
وقوله تعالى: ﴿فِي أُمَمٍ﴾، قال عطاء: (يريد في النار مع أمم) (١) وعلى هذا في الآية تقديم وتأخير ومجاز (٢) لأن التقدير: ادخلوا في النار مع أمم قد خلت من قبلكم واستعمال (في) بمعنى (مع) (٣) مجاوز (٤)، ويمكن أن يقال: قوله: ﴿فِي أُمَمٍ﴾ من صلة ﴿ادْخُلُوا﴾، وقوله (٥) ﴿فِي النَّارِ﴾ من تمام (٦) صفة الأمم، يقول: ادخلوا في أمم في النار، فلا يكون في الآية تقديم ولا تأخير ولا مجاز (٧).
وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ﴾ يعني النار ﴿لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [قال الفراء: (يعني: التي سبقتها إلى النار، وهي أختها] (٨) في دينها لا في النسب) (٩).
(١) لم أقف عليه، وهو قول ابن قتيبة في "تفسير الغريب" ص ١٧٧، ومكي في "تفسير المشكل" ص ٨٦، وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ٣٢: (قيل معنى (في) معنى (مع) وهذا لا يمتنع؛ لأن قولك: زيد في القوم معناه مع القوم، ويجوز أن تكون (في) على بابها) اهـ.
(٢) لفظ: (ومجاز) ساقط من (أ).
(٣) لفظ: (مع) ساقط من (ب).
(٤) مجاوز أي -جائز- وانظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص ٨٣، و"رصف المباني" ص ٤٥٣، و"مغني اللبيب" ١/ ٤٦٨، وقال الرماني في "معاني الحروف" ص ٩٦: (زعم الكوفيون أنها تكون بمعنى (مع) والبصريون يقولون (في) على بابها) وقال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ١٣/ ٣٤٨: (والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين) اهـ.
(٥) في (ب): (فقوله).
(٦) في (ب): (مع تمام).
(٧) وهذا هو الظاهر، واختيار الجمهور. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٧٣، و"الكشاف" ٢/ ٧٨، وابن عطية ٥/ ٤٩٧، ٤٩٨، و"البحر" ٤/ ٢٩٥، و"الدر المصون" ٥/ ٣١٢.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٩) "معاني القرآن" ١/ ٣٧٨.
120
قال ابن عباس: (يريد: يلعنون من كان قبلهم) (١).
وقال الزجاج: ﴿لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾؛ (لأنهم ضل بعضهم باتباع بعض) (٢).
قال مقاتل: (كلما دخل أهل ملة النار لعنوا أهل ملتهم، يلعن المشركون المشركين، ويلعن اليهود اليهود، وكذلك النصارى، والمجوس، والصابئون، ويلعن الأتباع القادة، يقولون: لعنكم الله، أنتم غررتمونا حتى أطعناكم) (٣).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾؛ ﴿ادَّارَكُوا﴾ أي: تداركوا، والكلام فيه كالكلام في قوله: ﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ (٤) [البقرة: ٧٢]، وقد مر (٥)، ومعنى تداركوا: تتابعوا (٦)، وتلاحقوا، قال ابن عباس: (توافوا فيها جميعًا) (٧).
قال الزجاج: (وهو (٨) منصوب على الحال أي: مجتمعين).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٩، وابن الجوزي ٣/ ١٩٤.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٦.
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٦، وأخرجه الطبري ٨/ ١٧٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٥ بسند جيد عن السدي.
(٤) جاء في النسخ: (ادارأتم)، وهو تحريف.
(٥) انظر: "البسيط" البقرة: ٧٢.
(٦) (اداركوا) أصله (تداركوا) فأدغمت التاء في الدال واجتلبت الألف ليسلم السكون، وتدارك القوم أي: تلاحقوا وتتابعوا ولحق آخرهم أولهم. انظر: "العين" ٥٦/ ٣٢٧، و"الجمهرة" ٢/ ٦٣٦، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١١٧٨، و"الصحاح" ٤/ ١٥٨٢، و"المجمل" ٢/ ٣٢٢، و"المفردات" ص ٣١١، و"اللسان" ٣/ ١٣٦٣، (درك).
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٣، وفيه: (اجتمعوا في النار) اهـ.
(٨) يعني قوله: ﴿جَمِيعًا﴾ انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٦، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١١، و"المشكل" لمكي ١/ ٢٩٠.
121
وقوله تعالى: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ﴾، يعني بالأخرى: آخر الأمم، وبالأولى: أول الأمم، وبيانه ما قاله السدي: (﴿أُخْرَاهُمْ﴾ يعني: الذين كانوا في آخر الزمان، ﴿لِأُولَاهُمْ﴾ يعني: الذين شرعوا لهم ذلك الدين) (١). وقال مقاتل: (﴿أُخْرَاهُمْ﴾ يعني: آخرهم دخولًا النار وهم الأتباع ﴿لِأُولَاهُمْ﴾ دخولًا وهم القادة) (٢). وتأويل هذا راجع إلى معنى القول الأول؛ لأن (٣) آخرهم دخولًا النار هم الأتباع، والأولى هم القادة، فالمعنى على القولين جميعًا: قالت الأتباع للقادة: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا﴾ (٤).
قال ابن عباس: (لأنهم شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها، ﴿فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ﴾، قال: يريد أضعف عليهم العذاب بأشد مما تعذبنا به) (٥).
وأما معنى الضعف فقال أبو عبيدة: (هو مثل الشيء مرة واحدة) (٦).
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٧٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٥ بسند جيد.
(٢) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٦.
(٣) في (ب): (إلا أن)، وهو تحريف.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٧٣، و"معني الزجاج" ٢/ ٣٣٦، و"النحاس" ٣/ ٣٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤٠، والماوردي ٢/ ٢٢٢.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٧٩، وابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٩٥.
(٦) في "مجاز القرآن" ١/ ٢١٤: (أي: عذابين مضعف فصار شيئين)، وفي "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١١٨، عن أبي عبيدة قال: (معناه يجعل الواحد ثلاثة) اهـ. وضعف الشيء -بالكسر- مثله، ويقال مثلاه، وضعفاه مثلاه، وأضعافه أمثاله، وقال الخليل في "العين" ١/ ٢٨٢: (التضعيف أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثلين أو أكثر) اهـ.
وانظر: "الجمهرة" ٢/ ٩٠٣، و"الصحاح" ٤/ ١٣٩٠، و"المجمل" ٢/ ٥٦٢، و"المفردات" ص ٥٠٨، و"اللسان" ٥/ ٢٥٨٨ (ضعف).
122
قال الأزهري: (الذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاز كلامهم. وقد قال الشافعي -رحمه الله- ما يقارب هذا في رجل أوصى فقال: (أعطوا فلانًا ضعف ما يصيب ولدي، قال: يعطي مثله مرتين) (١).
قال الأزهري: والوصايا يستعمل فيها العرف وما يسبق إلى الأفهام، فأما كتاب الله فهو عربي مبين، ويرد تفسيره إلى موضوع كلام العرب الذي هو صيغة ألسنتها، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على مثلين، وجائز في كلام العرب أن تقول: هذا ضعفه (٢) أي: مثلاه وثلاثة أمثاله؛ لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى قول الله (٣) عز وجل: ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا﴾ [سبأ: ٣٧]، ولم يرد مثلًا ولا مثلين، وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله؛ لقوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠]، فأقل الضعف محصور وهو المثل، وأكثره غير محصور) (٤).
ونحو هذا قال الزجاج في هذه الآية: ﴿فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا﴾ (أي: عذاباً مضاعفًا؛ لأن الضعف في كلام العرب على ضربين أحدهما: المثل، والآخر: أن يكون في معنى تضعيف الشيء (٥)، أي: زيادته (٦) إلى ما لا يتناهى).
(١) انظر: "المجموع" ١٥/ ٤٨٠ - ٤٨٢، و"روضة الطالبين" ٥/ ١٩٥ وفيهما: (الضعف عند الشافعية هو الشيء ومثله، فإذا أوصى بضعف نصيب ابنه وله ابن واحد، فهي وصية بالثلثين) اهـ. وانظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٧٤.
(٢) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١١٨ (ضعفاه).
(٣) في (ب): (قول الله تعالى).
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١١٨.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٣٧٧، وقوله: (أي زيادته..) غير موجود فيه.
(٦) في (ب): (أي زيادة).
123
فأما اللام في قوله: ﴿لِأُولَاهُمْ﴾، فقال الزجاج: المعنى: (قالت أخراهم: يا ربنا هؤلاء أضلونا، لأولاهم أي تعني أولاهم) (١) فعلى هذا ليست اللام من صلة القول؛ لأنهم قالوا لله تعالى: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا﴾، ولم يقولوا لأولاهم شيئًا، ولكن اللام لإبانة (٢) أنهم عنوا بقولهم: ﴿هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا﴾ أولاهم وهم القادة، فاللام هاهنا لام (أجل) أي لأجلهم ولإضلالهم إياهم قالوا: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا﴾، فقال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾، قال ابن عباس: (يريد: لأولاكم ضعف ولأخراكم عذاب مضعف) (٣).
قال الزجاج: (أي: للتابع والمتبوع لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعًا أي: لكل عذاب مضاعف.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، أي: ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من العذاب، ويجوز: ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك) (٤).
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٦، وعليه اللام للتعليل أي لأجل ولا تكون للتبليغ؛ لأن خطابهم مع الله لا معهم. انظر: "الكشاف" ٢/ ٧٨، و"الدر المصون" ٥/ ٣١٥.
(٢) في (أ): (ولكن اللام بإنه أنهم عنوا).
(٣) في (أ): عذاب ضعف. والأئر لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ٩٤، قال: (لكل واحد منهم ضعف) أهـ.
وقال الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٢٢: (أي: فلكم أيها الأتباع ضعف العذاب وهذا قول الجمهور وإن ضعف الشيء زيادة مثله) اهـ. وانظر: "بدائع التفسير" ٢/ ٢١١.
(٤) هذا كله قول الزجاج "معانيه" ٢/ ٣٧٧، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٧٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٣٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤٠.
124
ومن قرأ (١) بالياء فمعناه: ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر (٢)، فيحمل الكلام على (كل)؛ لأنه وإن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة فحمل على اللفظ دون المعنى (٣).
قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾، قال الضحاك: (لأنكم كفرتم كما كفرنا، فنحن وأنتم في الكفر شرع سواء، وفي العذاب أيضًا) (٤).
وقال أبو مِجْلَز (٥): (فما لكم علينا من فضل في ترك الضلال) (٦).
٤٠ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾.
قال أبو إسحاق: (أي: كذبوا بحججنا (٧) وأعلامنا التي تدل على نبوة الأنبياء وتوحيد الله عز وجل) (٨).
(١) قرأ عاصم في رواية أبي بكر: ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ بالياء على الغيبة، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب انظر: "السبعة" ص٢٨٠، و"المبسوط" ص ١٨٠، و"التذكرة" ٢/ ٤١٨، و"التيسير" ص ١١٠، و"النشر" ٢/ ٢٦٩.
(٢) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٣٧، والنحاس في "معانيه" ٣/ ٣٣.
(٣) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١٧، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٠٥، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٨١، و"الكشف" ١/ ٤٦٢.
(٤) ذكره بدون نسبة السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٤٠، و"الثعلبي" ١٩٠ أ، والبغوي ٣/ ٢٢٨.
(٥) أبو مجلز: لاحق بن حميد بن سعيد السدوسي البصري، إمام، تابعي، ثقة.
(٦) أخرجه الطبري ٨/ ١٧٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٦ بسند جيد بلفظ: (يقول: فما فضلكم علينا، وقد بين لكم ما صنع بنا وحذرتم؟) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٥٤.
(٧) في (أ): (بحجتنا).
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٧، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٧٥، والسمرقندي ١/ ٥٤٠.
125
﴿وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا﴾، معنى الاستكبار (١): طلب الترفع بالباطل، وصفة مستكبر صفة ذم في جميع العباد، ومعنى ﴿وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا﴾ ترفعوا (٢) عن الإيمان بها والانقياد لأحكامها.
وقوله تعالى: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾ قرأ (٣) أكثر القراء ﴿تُفَتَّحُ﴾ بالتاء والتشديد، ووجهها قوله ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ [ص: ٥٠] فقياس ﴿مُفَتَّحَةً﴾ تُفَتَّح، وقرأ أبو عمرو ﴿تُفَتَّحُ﴾ خفيفة، وحجته قوله: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤] ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ﴾ [القمر: ١١]، [وقرأ حمزة والكسائي ﴿يُفَتَّحُ﴾ بالياء خفيفة، لتقدم الفعل.
ومعنى: ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾] (٤) لا تصعد أعمالهم إليها (٥).
(١) الكبر -بكسر الكاف وسكون الباء- والتكبر والاستكبار تتقارب: وهو العظمة والإعجاب بالنفس وأعظمه الامتناع عن قبول الحق معاندة وبطرًا.
انظر: "العين" ٥/ ٣٦١، و"الجمهرة" ١/ ٣٢٧، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٠٩١، و"الصحاح" ٢/ ٨٠١، و"المجمل" ٣/ ٧٧٦، و"المفردات" ص ٦٩٦، و"اللسان" ٦/ ٣٨٠٨ (كبر).
(٢) في (ب): (وقفوا).
(٣) قرأ أبو عمرو: ﴿تُفَتَّحُ﴾ بالتاء مع إسكان الفاء وتخفيف التاء الثانية، وقرأ حمزة والكسائي مثلها إلا أنه بالياء: ﴿يُفَتَّحُ﴾، وقرأ الباقون: ﴿تُفَتَّحُ﴾ بالتاء مع فتح الفاء وتشديد التاء الثانية. انظر: "السبعة" ص ٢٨٠، و"المبسوط" ص ١٨٠، و"التذكرة" ٢/ ٤١٨ - ٤١٩، و"التيسير" ص ١١٠، و"النشر" ٢/ ٢٦٩.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١٨ - ١٩، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٠٥، و"إعراب القراءات" ١/ ١٨٠، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٨٢، و"الكشف" ١/ ٤٦٢.
126
قال ابن عباس: (يريد: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به الله) (١)، وهذا قول أكثر المفسرين (٢).
وقال السدي (٣) وغيره (٤): (لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، وتفتح لأرواح المؤمنين).
يدل على صحة هذا التأويل ما روي في حديث طويل: "أن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب، فيقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة، ويستفتح لروح الكافر فيقال لها: ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء" (٥).
(١) أخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" ص ١١٢، والطبري ٨/ ١٧٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٧ من عدة طرق جيدة
(٢) ومنهم الفراء في "معانيه" ١/ ٣٧٩، وأخرجه الطبري ٨/ ١٧٦، من طرق عن مجاهد وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير.
(٣) أخرجه الطبري ٨/ ١٧٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٦ بسند جيد.
(٤) أخرجه الطبري ٨/ ١٧٥، ١٧٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٦ بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس.
(٥) أخرجه ابن ماجه في "سننه" رقم (٤٢٦٢) كتاب الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له، بسند جيد عن أبي هريرة، وأخرج أبو داود الطيالسي في "مسنده" ص ١٠٢ - ١٠٣، وعبد الرزاق في "المصنف" ٣/ ٥٨٠، وأحمد في "المسند" ٤/ ٢٨٧ - ٢٨٨، وأبو داود رقم (٤٧٥٣) كتاب السنة، باب: في المساءلة في القبر، والطبري ٨/ ١٧٧، والحاكم في "المستدرك" ١/ ٣٧ - ٤٠، من عدة طرق عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- مطولًا نحوه، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين) أهـ. وله شواهد وطرق أخرى ذكرها السيوطي في "الدر" ٣/ ١٥٥، وانظر: مرويات الإِمام أحمد في "التفسير" ٢/ ١٠٦ - ١٠٧ و١٧٥ - ١٧٨، وص ٤٣٤ - ٤٣٥.
127
وأجمل الزجاج كل هذا فقال: (أي: لا تصعد أرواحهم ولا أعمالهم إلى السماء؛ لأن أعمال المؤمنين وأرواحهم تصعد إلى السماء) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾؛ الولوج معناه: الدخول، والإيلاج: الإدخال (٢)، وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال: (الجمل: زوج الناقة) (٣).
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٧، وهذا القول هو الظاهر واختيار جمهور المفسرين ومنهم الطبري ٨/ ١٧٦، وابن عطية ٥/ ٥٠٢، وابن كثير ٢/ ٢٣٨، ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال ولا ينافيه ورود ما ورد من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه فإن ذلك لا يدل على فتحها لغيره مما يدخل تحت عموم الآية، أفاده الشوكاني في "فتح القدير" ٢/ ٢٩٩، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٣٤، و"تفسير القرطبي" ٧/ ٢٠٦، و"بدائع التفسير" ٢/ ٢١٢.
(٢) انظر: "الجمهرة" ١/ ٤٩٣، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٤٩، و"الصحاح" ١/ ٣٤٧، و"المجمل" ٤/ ٩٣٧، و"المفردات" ص ٨٨٢، و"اللسان" ٨/ ٤٩١٣ (ولج).
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٩، والطبري ٨/ ١٧٨، من عدة طرق جيدة إلا أنه مرسل؛ لأنه من طريق إبراهيم النخعي ومجاهد وهما لم يسمعا من ابن مسعود، انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم ص ٩ وص ٢٠٥، والأثر ذكره السيوطي في "الدر" ٥/ ١٥٧: (وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ والطبراني في "الكبير") وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٣ وقال: (رواه الطبراني من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح إلا أن إبراهيم النخعي لم يدرك ابن مسعود والأخرى ضعيفة) اهـ.
(والجمل) -بالفتح وتخفيف الميم-: معروف وهو زوج الناقة وهو الظاهر وقول جمهور المفسرين وذكر أثر ابن مسعود الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٣٨، والنحاس في "معانيه" ٣/ ٣٥ وقالا: (كأنه استجهل من سأله عما يعرفه الناس جميعًا).
وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٧٩، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤٠، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٢٣١.
128
قال الليث (١): (وإنما يستحق هذا الاسم إذا بزل) (٢).
والسم (٣): ثقب الإبرة، ويقال أيضًا: بالضم، وبه قرأ (٤) ابن سيرين، وكل ثقب في البدن لطيف فهو سم، وجمعه سموم.
وقال الفرزدق:
فَنَفَّسْتُ عَنْ سَمَّيْهِ حَتى تَنَفَّسَا وقُلتُ لَهُ لاَ تَخْشَ شَيْئًا وَرَائِيا (٥)
ومنه قيل: السم القاتل؛ لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، و ﴿الْخِيَاطِ﴾ (٦): ما يخاط به، قال الفراء: (ويقال: خِيَاط ومِخْيَط
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ٦٥٥، وانظر "العين" ٦/ ١٤١، و"الجمهرة" ١/ ٤٩١، و"الصحاح" ٤/ ١٦٦١، و"المجمل" ١/ ١٩٨، و"المفردات" ص ٢٠٣، و"اللسان" ٢/ ٦٨٣ (جمل).
(٢) بَزَل البعير يَبْزُل بُزُولًا فطر نابه أي: انشق وطلع. انظر: "اللسان" ١/ ٢٧٦ (بزل).
(٣) السَّمُّ -بفتح السين وضمها لغتان- قال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢١٤: (كل ثقب فهو سَمٌّ والجميع سموم) وانظر: "الجمهرة" ١/ ١٣٥، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٦١، و"الصحاح" ٥/ ١٩٥٣، و"المجمل" ٢/ ٤٥٥، و"المفردات" ص ٤٢٤، و"اللسان" ٤/ ٢١٠٢ (سمم).
(٤) ذكرها النحاس في "معانيه" ٣/ ٣٦، وابن عطية ٥/ ٥٠٣، والرازي ١٤/ ٧٦، والقرطبي ٧/ ٢٠٧، وهي قراءة جماعة منهم ابن مسعود وأبو رزين وأبو السمال وقتادة وابن محيصن وطلحة بن مصرف، انظر: "مختصر الشواذ" ص ٤٩، و"زاد المسير" ٣/ ١٩٨، و"البحر" ٤/ ٢٩٧.
(٥) ليس في "ديوانه"، وهو في "تفسير الطبري" ٨/ ١٧٨، و"الدر المصون" ٥/ ٣١٨، وصدره بلا نسبة في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٦٣، و"اللسان" ٨/ ٢١٠٣ (سمم) ويعني بسميه: ثقبي أنفه، أفاده الطبري.
(٦) الخَيْط، بفتح الخاء وسكون الياء: واحد الخيوط معروف وهو السلك والخياط والمِخْيَط: الإبرة وما يخيط به.
انظر: "العين" ٤/ ٢٩٣، و"الجمهرة" ١/ ٦١١، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٦٤، =
129
كما يقال إزار ومِئْزر ولحِاف ومِلْحف وقِناع ومِقْنع) (١)
قال الزجاج: (والمعنى: لا يدخلون الجنة أبدًا) (٢).
قال ابن الأنباري: (وإنما خص الجمل من بين الحيوان بالذكر إذ كان أكثر شأنًا عند العرب من سائر الدواب، والعرب تقدمه في القوة علي سائرها من أجل أنه يوقر بحمله وهو بارك فينهض به، ولم تر العرب أعظم منها (٣) جسمًا فيما رأت من الحيوان) (٤).
وقال أهل المعاني (٥): علق الله تعالى (٦) دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط. فكان ذلك نفيًا لدخولهم الجنة على التأبيد، وذلك أن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون (٧) ذلك الجائز الكون؛ كما يقال: لا يكون هذا حتى يَشِيبَ الغُرَاب، وحتى يَبْيَض القار (٨) وكما قال الشاعر:
= و"الصحاح" ٣/ ١١٢٥، و"مجمل اللغة" ٢/ ٣٠٨، و"المفردات" ص ٣٠٢، و"اللسان" ٣/ ١٣٠٢ (خيط).
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٧٩، ومثله ذكر الطبري ٨/ ١٧٨.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٨، وهو قول عامة المفسرين. انظر: "الطبري" ٨/ ١٧٨، و"معاني النحاس" ٣/ ٣٥، والسمرقندي ١/ ٥٤٠، والماوردي ٢/ ٢٢٢.
(٣) كذا في النسخ: "منها" أي الجمال، والأولى (منه) أي الجمل.
(٤) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ١٩٧.
(٥) ذكره الخازن ٢/ ٢٢٩ عن بعض أهل المعاني.
(٦) لفظ: (تعالى) ساقط من (ب).
(٧) في (ب): (استحال دون).
(٨) ذكره ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٧، وقولهم: (لا يكون هذا حتى يشيب الغراب ويبيض القار) يتمثل به في اليأس عن الشيء. انظر: "جمهرة الأمثال" ١/ ٣٦٣، و"المستقصى" للزمخشري ٢/ ٥٩.
130
إذا شَابَ الغُرابُ أَتَيْتُ أهْلي وصارَ القارُ كاللَّبنِ الحليبِ (١)
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾. قال الزجاج: (أي: ومثل الذي وصفنا ﴿نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ (٢)، قال: والمجرمون -والله أعلم- هاهنا الكافرون؛ لأن الذي ذكر من قصتهم التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها) (٣).
٤١ - قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾.
قال الليث: (المهاد: اسم جمع (٤) من المهد كالأرض جعلها (٥) الله مهادًا للعباد، وجمع المِهاد: مُهُد، وثلاثة أمْهَده) (٦) الأزهري: (أصل المهد في اللغة التوثير، ويقال للفراش: مهاد لوثارته) (٧).
والغواشي (٨): جمع غاشية، وهي كل ما يغشاك أي يُجللك (٩)،
(١) الشاهد في "تفسير الماوردي" ٢/ ٢٢٣، و"وضح البرهان" للغزنوي ٢/ ٧٣، و"تفسير الخازن" ٢/ ٢٢٩، و"الدر المصون" ٥/ ٣٢٠ من غير نسبة، وفي حاشية وضح البرهان أفاد أنه للقارظ العنزي ونسب لتميم الداري.
(٢) لفظ: (نجزي المجرمين). ساقط من (أ).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٨، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٣٦، والسمرقندي ١/ ٥٤١، وقال الطبري ٨/ ١٨١: (يقول: وكذلك نثيب الذين أجرموا في الدنيا ما استحقوا به من الله العذاب الأليم في الآخرة) أهـ.
(٤) في (ب): (أجمع).
(٥) في (أ): (جعله).
(٦) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٦١، وانظر: "العين" ٤/ ٣١ - ٣٢، و"الجمهرة" ٢/ ٦٨٥، و"الصحاح" ٢/ ٥٤١، و"المجمل" ٣/ ٨١٨، و"المفردات" ٧٨٠، و"اللسان" ٧/ ٤٢٨٦ (مهد).
(٧) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٦١ (مهد).
(٨) في (ب): (والغواش).
(٩) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٦٧، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٤٦، و"المجمل" ٣/ ٦٩٦، و"المفردات" ص ٦٠٧، و"اللسان" ٦/ ٣٢٥٩ (غشا).
131
و ﴿جَهَنَّمَ﴾ لا ينصرف لاجتماع التأنيث فيها والتعريف. قال بعض أهل اللغة: (واشتقاقها من الجهومة، وهي الغلظ، يقال: رجل جهم الوجه، غليظه، فسميت بهذا (١) لغلظ أمرها في العذاب، نعوذ بالله منها) (٢). قال المفسرون في هذه الآية: (هذا (٣) إخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب، فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولِحاف) (٤).
فأما التنوين في ﴿غَوَاشٍ﴾، فقال أبو الفتح الموصلي: (ومما يسأل عنه من أحوال التنوين قولهم: جوارٍ وغواشٍ ونحو ذلك، لأية علة لحقه التنوين، وهو غير منصرف لأنه على وزن فواعل (٥)؟ والجواب عن ذلك: ما ذهب إليه الخليل وسيبويه (٦)، وهو أن هذا الضرب جمع، والجمع أثقل من الواحد، وهو أيضًا الجمع الأكثر الذي يتناهى إليه الجموع، فزاده ذلك
(١) في (ب): (بها).
(٢) أكثر النحويين على أنها اسم لنار الله الموقدة وهي أعجمية معربة ممنوعة من الصرف للعلمية والعجمة، وذهب جماعة من المحققين إلى أنها عربية ومنعها للعلمية والتأنيث مأخوذة من قولهم: ركيَّة جِهنام بكسر الجيم والهاء أي: بعيدة القعر، واشتقاق جهنم من ذلك لبعد قعرها ولغلظتها، أفاده السمين في "عمدة الحفاظ" ص ١٠٤ وقال: (القول بأنها أعجمية غير مشهور في النقل، بل المشهور عندهم أنها عربية) اهـ. وانظر: "العين" ٣/ ٣٩٦، و"الزاهر" ٢/ ١٤٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٦٨١، و"الصحاح" ٥/ ١٨٩٢، و"المفردات" ص ٢٠٩، و"اللسان" ٢/ ٧١٥ (جهنم).
(٣) في (ب): (على هذا). وهو تحريف.
(٤) وهو قول الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٨٢، وأخرجه من طرق عن محمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي. وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٨، والنحاس ٣/ ٣٦ و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤١، والماوردي ٢/ ٢٢٣.
(٥) كذا في "النسخ"، وعند ابن جني في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥١١ (مَفاعِل).
(٦) انظر: "الكتاب" ٣/ ٣٠٨ - ٣٠٩.
132
ثقلاً، ووقعت مع ذلك الياء في آخره وهي مستثقلة، فلما اجتمعت فيه هذه الأشياء خففوه بحذف يائه، فلما حذفت الياء نقص عن مثال فواعل (١)، وصار (غواش) بوزن (جَناح) فدخله التنوين لنقصانه عن هذا المثال، فالتنوين عندهما في (غواش) وبابه إنما هو التنوين الذي هو علم الصرف، يدلك على هذا أنك إذا صرت إلى حال النصب فجرى مجرى الصحيح؛ كما من عادة المنقوص إذا نصب نحو: قاض وغاز فأتممته لم تصرفه، فقلت: رأيت (جواريَ) و (غواشيَ) ونحو ذلك) (٢).
وقال أبو إسحاق: (زعم الخليل وسيبويه أن النون هاهنا عوض من الياء؛ لأن (غواشي) لا ينصرف الأصل (غواشي) (٣) بالياء والضم إلا أن الضمة تحذف لثقلها في الياء، فيبقى (غواشيْ) بسكون الياء، فإذا ذهبت الضمة أدخلت النون عوضًا منها، كذلك فسر أصحاب سيبويه، فكأن سيبويه يذهب إلى أن النون عوض من ذهاب حركة الياء، والياء سقطت لسكونها، وسكون النون، فإذا وقفت فالاختيار أن تقف (٤) بغير ياء، فتقول (٥): (غواش) لتدل (٦) أن الياء كانت تحذف في الوصل، وبعض العرب إذا وقف قال: (غواشي)، بإثبات الياء، ولا أرى ذلك في القرآن؛
(١) في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥١١ (مفاعل).
(٢) هذا ملخص ما ذكره ابن جني في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥١١ - ٥١٤.
(٣) في "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٨: (الأصل غواشي بإسكان الياء، فإذا ذهبت الضمة أدخلت التنوين عوضًا منها..) اهـ. ونص الواحدي مثل نصر الفارسي في "الإغفال" ص ٧٧٨ عن الزجاج.
(٤) في (ب): (يقف) بالياء.
(٥) في (ب): (فيقول) بالياء.
(٦) في (ب): (ليدل).
133
لأن الياء محذوفة في المصحف) (١) انتهى كلامه.
والذي ذهب إليه أبو إسحاق هو أن التنوين في (غواشي) إنما هو بدل من الحركة الملقاة لثقلها عن الياء، فلما جاء التنوين حذفت الياء لالتقاء الساكنين هي والتنوين، كما حذف من المنصرف في نحو: قاضٍ وغازٍ ومتقٍ (٢) ومتعالٍ، وهذا غير مرضي ولا سائغ في القياس، وقد ترك قول سيبويه والخليل، وخالفهما إلى خلاف الصواب (٣).
قال أبو علي: (الدليل على أن الحذف لغير التقاء الساكنين أنه لو كان لذلك (٤) لم يجب الحذف؛ ألا ترى أن الساكن [الأول هو الياء ولو ثبتت لم يلحق الساكن] (٥) الثاني لتعاقبهما كما لم يلحق (مساجد) (٦) ونحوه مما يكون من هذا الجمع، فقراءة الناس ﴿غَوَاشٍ﴾ بالتنوين دلالة على أن الياء لم تحذف لالتقاء الساكنين؛ إذ الساكن الأول لو ثبت لم يجتمع معه الساكن الثاني.
وحكاية أبي إسحاق في قوله: (زعم سيبويه والخليل أن النون عوض من الياء) هذا لعمري صحيح عليه نص سيبويه، إلا أن ما ذكر بعد من قوله: فإذا ذهبت الضمة أدخلت النون عوضًا منها فالقول أن النون عوض من ذهاب الضمة خلاف قول سيبويه، ألا ترى أنه قد نص على أنه عوض من
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٨ - ٣٣٩، و"الإغفال" ص ٧٧٨ - ٧٧٩، وفيهما بعد قوله: (في المصحف "الكتاب" على الوقف) أهـ.
(٢) النص من "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥١٢، وفيه: (قاضٍ وغازٍ ومشترٍ ومتعالٍ).
(٣) هذا نص كلام ابن جني في "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥١٢ - ٥١٣.
(٤) في (ب): (كذلك).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) في (أ): (مساجده)، وهو تحريف.
134
الياء كما حكاه أبو إسحاق أولاً عنه، ولو كان النون عوضًا من الضمة لكان جديرًا أن يلحق الفعل أيضًا، ألا ترى أن الأفعال قد حذفت الضمة من لاماتها، وقوله: (كأن سيبويه ذهب إلى أن (١) النون عوض من ذهاب حركة الياء) تقدير لا وجه له مع ما حكيناه من نصه على أنه بدل من الياء، وقوله: (والياء سقطت لسكونها وسكون النون) قول لا يذهب إليه أحد، وإن (٢) أضافه إلى سيبويه فخطأ، وإن ذهب هو إليه (٣) ففاسد، لما ذكرنا أن الساكن الأول إذا ثبت عاقب الساكن الثاني، ولم يكن للتنوين مدخل في الكلمة، فأما ما نسبه من التفسير الذي ذكره إلى أصحاب سيبويه (٤)، فإني لم أعلم أحدًا فسر هذا التفسير، فإن فسره مفسر كان خلاف مذهبه) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: الذين أشركوا بالله واتخذوا من دونه إلهًا) (٦).
(١) لفظ: (أن) ساقط من (أ).
(٢) في (أ): (فإن).
(٣) في (ب): تكرار قوله: (أحد وإن أضافه إلى سيبويه فخطأ، وإن ذهب إليه).
(٤) وكذلك قال النحاس في "إعرابه" ١/ ٦١٢: (التنوين عند سيبويه عوض عن الياء وعن أصحابه عوض من الحركة) اهـ.
(٥) "الإغفال" ص ٧٨١ - ٧٨٨، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٨، و"المشكل" ١/ ٢٩١، و"غرائب الكرماني" ١/ ٤٠٣، و"البيان" ١/ ٣٦١، و"التبيان" ص ٣٧٥، و"الفريد" ٢/ ٣٠١، و"الدر المصون" ٥/ ٣٢٢.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٥، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٨٠، والرازي في "تفسيره" ١٤/ ٧٨.
وذكر ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ١٩٩ عن ابن عباس أنه قال: (الظالمون هاهنا الكافرون) اهـ.
135
قال الزجاج: (والظالمون -هاهنا أيضًا (١) -: الكافرون) (٢).
٤٢ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾. قال الزجاج: (معنى الوسع: ما يقدر عليه) (٣).
قال مجاهد: (إلا ما افترض عليها) (٤) يعني: أن ما افترض عليها هو وسعها الذي يسعها (٥) ويُقدر عليه ولا تعجز عنه. فقد بينه مقاتل فقال: (إلا طاقتها؛ ولا يكلف الله العباد إلا ما يطيقون) (٦)، فقوله: (إلا طاقتها) ليس معناه: أقصى ما يطيقه؛ لأنه لو كلف ذلك لشق وتعذر، ولكن معناه: إلا مما يطيقه ولا يعجز عنه. ألا ترى أن معاذ بن جبل -رحمه الله- قال في هذه الآية: (إلا يُسرها لا عسرها ولو كلفها طاقتها لبلغ مجهودها) (٧)، فقوله: (لو كلفها طاقتها) أراد أقصى ما تطيقه.
وقد بيَّن أبو زبيد (٨) الطائي في قوله:
(١) لفظ: (أيضًا) ساقط من (ب).
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٣٨، ومثله قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٣٧، والسمرقندي ١/ ٥٤١، وقال الطبري ٨/ ١٨٢: (كذلك نثيب ونكافئ من ظلم نفسه فأكسبها من غضب الله ما لا قبل لها به بكفره بربه وتكذيبه أنبيائه) اهـ.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٩، وزاد فيه: (أي: عملوا الصالحات بقدر طاقتهم) اهـ. ونحوه قال الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٨٢، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦١٢، والسمرقندي ١/ ٥٤١.
(٤) ذكره الخازن في "تفسيره" ٢/ ٢٢٩.
(٥) لفظ: (الذي وسعها) ساقط من (ب).
(٦) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٧، وفيه: (يقول: لا نكلفها من العمل إلا ما تطيق) اهـ.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٨١، والرازي ١٤/ ٧٩.
(٨) في (ب): (أبو زيد)، وهو تحريف. وهو: حَرْمَلَة بن المُنْذر بن مَعْدِ يَكرِب الطائي.
136
أُعْطِيهُم الجَهْدَ مِنّي بَلْهَ ما أَسَعُ (١)
أن ما يسعه (٢) دون أقصى طاقته، وأن أقصى الطاقة يسمى جهدًا لا وسعًا، وغلط من ظن أن الوسع (٣) بذل المجهود، وأكثر أصحاب المعاني (٤) على أن قوله: ﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ اعتراض بين الابتداء والخبر، والخبر الجملة التي هي قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾، و (٥) هذا فصل بين الابتداء والخبر بما هو من جنس هذا الكلام؛ لأنه لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل مما يسعهم ولا يعسر عليهم، وقد مضت نظائر هذا فيما تقدم (٦)، وعلى هذا لا موضع لقوله: ﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقال قوم من أهل المعاني: (موضعه رفع بأنه الخبر على حذف العائد كأنه
(١) الشاهد في "ديوانه" ص ١٠٩، و"الزاهر" ١/ ٩٤، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٧٥، و"اللسان" ١/ ١٧٨ (أون)، و"الخزانة" ٦/ ٢٣٥ - ٢٣٦ وبلا نسبة في "الجمهرة" ١/ ٣٨٠، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٩٠، و"كتاب الشعر" لأبي علي ١/ ٢٥، وأوله:
حَمَّال أَثْقَال أَهْلِ الوُدَّ آوِنَةً
وآونة، جمع أوان بمعنى الحين، والجهد بالفتح النهاية والغاية، وقيل: الوسع والطاقة، وَبَلْه أي دع، والوسع الطاقة والجدَة أيضًا. وقال البغدادي في "الخزانة" ٦/ ٢٣٧: (المعنى: أني أعطيهم فوق الوسع فتركًا للوسع، أو فدع الوسع، أي: ذكره أو فكيف الوسع لا أعطيه) اهـ. وفي "اللسان" ١/ ٣٥٤ (بله) قال: (المعنى: أعطيهم ما لا أجده إلا بجهد ودع ما أحيط به وأقدر عليه) اهـ.
(٢) كذا في النسخ: (إن ما يسعه) والأولى: (أي ما يسعه).
(٣) انظر: (وسع) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٩٠، و"الصحاح" ٣/ ١٢٩٨، و"اللسان" ٨/ ٤٨٣٤، وبمثل قول الواحدي، قال الرازي ١٤/ ٧٩، و"الخازن" ٢/ ٢٢٩.
(٤) ذكر مثله الرازي ١٤/ ٧٨، و"الخازن" ٢/ ٢٢٩.
(٥) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٦) لم أقف عليه بعد طول بحث عنه في مظانه.
137
قيل: لا نكلف نفسًا منهم إلا وسعها، وحذف العائد للعلم به) (١).
٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾، معنى نزع الشيء: قلعه عن مكانه (٢)، والغِلُّ: الحقد الكامن في الصدر (٣).
قال أهل اللغة (٤): (وهو الذي ينغل بلطفه (٥) إلى صميم القلب، أي: يدخل، ومنه الغُلول، وهو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة، يقال: انغل في الشيء وتغلغل فيه، إذا دخل فيه بلطافة (٦) كالحب يدخل في صميم الفؤاد).
(١) ذكره أكثرهم، والأول هو قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٣٩، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦١٢، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٧٩، وابن عطية ٥/ ٥٠٥، وانظر: "البيان" ١/ ٣٦١، و"التبيان" ص ٣٧٥، و"الفريد" ٢/ ٣٠١، و"الدر المصون" ٥/ ٣٢٣، وفي "بدائع التفسير" ٢/ ٢١٢ قال ابن القيم: (اعترض بين المبتدأ والخبر بقوله: ﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ لما تضمنه ذلك من الاحتراز الدافع لتوهم متوهم أن الوعد إنما يستحقه من أتى بجميع الصالحات، فرفع ذلك بقوله: ﴿لَا نُكَلِّفُ﴾، وهذا أحسن من قول من قال: إنه خبر عن الذين آمنوا، ثم أخبر عنهم بخبر آخر فهما خبران عن مخبر واحد، فإن عدم التكليف فوق الوسع لا يخص الذين آمنوا، بل هو حكم شامل لجميع الخلق معه ما في هذا التقدير من إخلاء الخبر عن الرابط، وتقدير صفة محذوفة أي نفسًا منها، وتعطيل هذه الفائدة الجليلة) اهـ.
(٢) انظر: "العين" ١/ ٣٥٧، و"الجمهرة" ٢/ ٨١٧، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٥٢، و"الصحاح" ٣/ ١٢٨٩، و"المجمل" ٣/ ٨٦٣، و"اللسان" ٧/ ٤٣٩٥ (نزع).
(٣) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٨، و"غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ٢٠٠، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٧.
(٤) انظر: "العين" ٤/ ٣٤٧، و"الجمهرة" ١/ ١٥٩، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٨٩، و"المجمل" ٣/ ٦٧٩، و"المفردات" ص ٦١٠، و"اللسان" ص ٣٢٨٥ (غلل).
(٥) في (ب): (بلفظه)، وهو تحريف.
(٦) في (ب): (بطاقة)، وهو تحريف.
138
قال ذو الرمة:
أَصَابَ خَصاَصَةً فَبَدَا كَليلًا كَللا وانْغَلَّ سَائِرُهُ انْغِلالًا (١)
ومعنى نزع الغل: إبطاله بإعدامه من الصدر.
وذكر أهل التأويل هاهنا قولين محتملين:
أحدهما: وهو الذي عليه المعظم (٢) أن معناه: أذهبنا الأحقاد التي كانت لبعض على بعض في دار الدنيا، وإلى هذا أشار علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: (إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله جل ذكره: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾) (٣).
وقال الحسن في هذه الآية: (يعني: الجاهلية) (٤).
والقول الثاني: أن نزع الغل إنما هو لئلا يحسد بعضهم بعضًا في تفاضل منازلهم وتفاوت مراتبهم في الجنة، واختار الزجاج هذا فقال:
(١) "ديوانه" ص ٥١٥ هـ. وقال الخطيب التبريزي في "شرحه": (خصاصة فرحة، والكليل الضَّعيف، وانغل غاب ودخل، وكلا كقولك: لا) اهـ.
(٢) انظر: "معاني النحاس" ٣/ ٣٧، والسمرقندي ١/ ٥٤١، والماوردي ٢/ ٢٢٤.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٩، والطبري ٨/ ١٨٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٧٨ بسند جيد عن قتادة عن علي -رضي الله عنه- وهو مرسل، قتادة لم يسمع من علي، انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم ص ١٦٨، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" ٣/ ١١٣ عن إبراهيم النخعي، ومن طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه، قال الحافظ ابن حجر في "الشاف الكاف" ص ٦٤: (أخرجه ابن سعد والطبري عن علي، وكلاهما منقطع، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ربعي بن حراش عن علي وهو متصل) اهـ.
انظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي ١/ ٤٦٢، و"الفتح السماوي" للمناوي ٢/ ٦٣٥ - ٦٣٦.
(٤) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٢٤؛ وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٢٩٨.
139
(وحقيقته -والله أعلم- أنه لا يحسد بعض أهل الجنة بعضًا؛ لأن الحسد غل) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾. قال ابن عباس: (حمدوا الله على (٢) ما أرشدهم إليه ووفقهم له) (٣). وقال مقاتل: (إذا استقروا في منازلهم في الجنة ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ (٤).
ومعنى ﴿هَدَانَا لِهَذَا﴾ (٥) أي: هدانا لهذا الثواب بالعمل الذي أدّى إليه، وهو معنى قول سفيان الثوري (٦)، ونحو هذا قال الزجاج (٧): (هدانا لما صيرنا إلى هذا (٨)).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٩، وقال ابن الأنباري في "الزاهر" ١/ ٣٦٤: (معناه نزعنا الحسد من قلوبهم؛ لأن أهل الجنة لا يحسد بعضهم بعضًا). والظاهر أنه لا يحسد بعضهم بعضًا في علو المرتبة في الجنة، وفيما كان بينهم في الدنيا، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٨٣، والنحاس في "معانيه" ٣/ ٣٧، وانظر "تفسير ابن عطية" ٥/ ٥٠٥، ٥٠٦.
(٢) في (ب): (إلي).
(٣) في "تنوير المقباس" ٢/ ٩٥ نحوه، ونقل ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٢٠١ عن ابن عباس في الآية أنه قال: (يعنون ما وصلوا إليه من رضوان الله وكرامته) اهـ.
(٤) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٨، وزاد فيه: (أي للإسلام ولهذا الخير) اهـ.
(٥) لفظ: (هدانا) ساقط من (ب).
(٦) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٠ أ، والبغوي ٣/ ٢٣٠ بلفظ: (معناه هدانا لعمل هذا ثوابه) اهـ. وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦١٢.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٣٩، ومثله قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٣٧، وقال الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٨٤: (يقول أهل الجنة الحمد لله الذي وفقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله، وصرف عذابه عنا) اهـ. وانظر "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤١ - ٥٤٢، والماوردي ٢/ ٢٢٥.
(٨) لفظ: (إلى هذا) ساقط من (أ).
140
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ دليل على أن المهتدي مَنْ هَدَى الله (١) وأن من لم يهده الله لم يهتد (٢).
وقرأ ابن عامر (٣) ﴿مَا كُنَّا﴾ بغير واو، وكذلك هو في مصاحف أهل الشام (٤)، ووجه الاستغناء (٥) عن حرف العطف [هنا أن الجملة ملتبسة بما قبلها، فأغنى التباسُها به عن حرف العطف] (٦)، وقد تقدم ذكر هذه المسألة (٧).
وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾)، [هذا من قول (٨) أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانًا قالوا: ﴿لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾] (٩).
(١) لفظ: (الله) ساقط من (ب).
(٢) في (ب): (لم يهتدوا) ومثله ذكر الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٨١، و"الخازن" ٢/ ٢٣٠، وانظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ٢٠٨.
(٣) قرأ ابن عامر: ﴿مَا كُنَّا﴾ بغير واوٍ قبل ما، وقرأ الباقون: ﴿وَمَا كُنَّا﴾ بالواو. انظر: "السبعة" ص٢٨٠، و"المبسوط" ص ١٨٠، و"التذكرة" ٢/ ٤١٩، و"التيسير" ص ١١٠، و"النشر" ٢/ ٢٦٩.
(٤) ذكره ابن مجاهد في "السبعة" ص ٢٨٠، وابن الجزري في "النشر" ٢/ ٢٦٩، وقال ابن أبي داود في "كتاب المصاحف" ص ٤٥: (في إمام أهل الشام وأهل الحجاز ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ﴾ وفي إمام أهل العراق: ﴿وَمَا كُنَّا﴾) اهـ.
(٥) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٢٥، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٠٧، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٦، و"الكشف" ١/ ٤٦٤.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ٨١ ب؛ ٨٢ أ
(٨) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٨٥، والسمرقندي ١/ ٥٤٢.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
141
وقوله: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾. قال أبو إسحاق: (أن) في موضع نصب، وهي مخففة من الثقيلة، والهاء مضمرة، المعنى: ونودوا بأنه تلكم الجنة أي: نودوا بهذا القول، قال: والأجود عندي أن تكون (أن) في معنى تفسير النداء، كأن المعنى: ونودوا أي تلكم الجنة (١)، المعنى: قيل لهم تلكم الجنة، كقوله: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا﴾ [ص: ٦] يعني (٢) امشوا.
قال: وإنما قال: ﴿تِلْكُمُ﴾ لأنهم وعدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل لهم: هذه تلكم التي وعدتم بها، وجائز أن يكون عاينوها، فقيل لهم من قبل دخولها إشارة إلى ما يرونه: ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾.
وقوله تعالى: ﴿أُورِثْتُمُوهَا﴾ فيه قولان؛ أحدهما، وهو قول أهل المعاني (٣): (أن معناه: صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله).
(١) عند الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٤٠: (ونودوا أن تلكم الجنة).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٠.
وقد ذكر الوجهين أكثرهم، انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٨٥، ١٨٦، و"إعراب النحاس" ١/ ٢١٦، و"الكشاف" ٢/ ٧٩، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٥٠٨، و"التبيان" ص ٣٧٦، و"الفريد" ٢/ ٣٠٢، و"البحر المحيط" ٤/ ٣٠٠.
وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ٣٨: (يجوز أن يكون المعنى (بأنه تلكم الجنة)، ويجوز أن تكون أن مفسرة للنداء، والبصريون يعتبرونها بأي، والكوفيون يعتبرونها بالقول، والمعنى واحد، كأنه ونودوا قيل لهم تلكم الجنة أي هذه تلكم الجنة التي وعدتموها في الدنيا، ويجوز أن يكون لما رأوها قيل لهم قبل أن يدخلوها تلكم الجنة) اهـ. وانظر: "الدر المصون" ٥/ ٣٢٤.
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٨١، ٨٢ فقد ذكر مثله.
142
والإرث قد يستعمل في اللغة (١) ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي، كما يقال: هذا الأمر يورثك الشرف، ويورثك العار (٢) أي: يصيرك إليه برحمة الله (٣) وليس له في ذلك متعلق؛ لأن العمل الصالح لم ينالوه ولم يبلغوه إلا بالرحمة، وإذا كان العمل الصالح لا يكون إلا برحمته، فإذا دخلوا الجنة بأعمالهم فقد دخلوها برحمته، إذ لم يكن ذلك العمل [الصالح] (٤) إلا برحمته) (٥).
٤٤ - قال ابن عباس: (وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا من الثواب حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم من العذاب حقًّا) (٦). وهو سؤال تعيير وتقرير.
قال الزجاج: (معنى: ﴿أَن﴾ في قوله: ﴿أَن قَدْ وَجَدْنَا﴾ إن شئت كان
(١) الإرث: إبقاء الشيء وانتقاله إلى الغير وأصل الميراث هو أن يكون الشيء لقوم، ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب.
انظر: "العين" ٨/ ٢٣٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٦٨، و"الصحاح" ١/ ٢٩٥، و"مقاييس اللغة" ٦/ ١٠٥، و"المفردات" ص ٨٦٣، و"اللسان" ٨/ ٤٨٠٨ (ورث).
(٢) في (ب): (القار)، وهو تصحيف.
(٣) أخرج البخاري في كتاب الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل رقم (٦٤٦٣)، ومسلم في كتاب صفة الجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة رقم (٢٨١٦ إلى ٢٨١٨) من طرق عن عائشة وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن رسول الله - ﷺ - قال: "لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة".
(٤) لفظ: (الصالح) ساقط من (ب).
(٥) لم أقف عليه عن الجرجاني صاحب "نظم القرآن"، وذكر مثل ذلك الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٨٢، والقرطبي ٧/ ٢٠٩.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٨٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٨٢ بسند ضعيف.
143
تفسيرًا لما نادى به أصحاب الجنة، والمعنى: أي: قد وجدنا، وإن شئت كانت المخففة من الثقيلة خففت (١) أنه قد وجدنا) (٢).
وقوله: ﴿قَالُوا نَعَمْ﴾. قال سيبويه: (نعم عِدَةٌ وتصديق، قال: وإذا استفهمت أجبت بنعم) (٣) قوله (٤): (عِدَة وتصديق) أراد أنه يستعمل عِدَة، ويستعمل تصديقًا، وليس يريد أن العِدَة تجتمع مع التصديق؛ ألا ترى أنه إذا قال: أتعطيني؟ فقال: نعم، كان عدة ولا تصديق في هذا، وإذا قال: قد كان كذا وكذا فقلت: نعم، فقد (٥) صدقته ولا عدة في هذا، وقوله: (إذا استفهمت أجبت نعم)، يريد إذا استفهمت عن مُوجَب كما يقال: أيقوم زيد؟، فتقول: نعم، ولو كان مكان الإيجاب نفيًا لقلت: (بلى) ولم تقل (نعم). كما لا تقول في جواب (٦) الإيجاب. بلى كقوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: ١٧٢] وقرأ الكسائي (٧) (نعِم) بكسر العين، قال أبو
(١) في (ب): (وخففت).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٠. وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٨ - ٢٩٩، و"معاني النحاس" ٣/ ٣٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٢، ٦١٣.
(٣) "الكتاب" ٤/ ٢٣٤.
(٤) في (ب): (أريد إذا قوله)، وهو تحريف.
(٥) في (أ): (قد صدقت).
(٦) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٢٠ - ٢١، وفيه: (كما تقول في جواب الإيجاب. قال تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ ولم يقل نعم) اهـ وانظر: "الزاهر" ٢/ ٥٠، و"حروف المعاني" للزجاجي ص ٦، و"معاني الحروف" للرماني ص ١٠٤، و"رصف المباني" ص ٤٢٦.
(٧) قرأ الكسائي: ﴿نعِم﴾ بكسر العين حيث وقع، وقرأ الباقون بفتحها في كل القرآن. انظر: "السبعة" ص ٢٨١، و"المبسوط" ص ١٨٠، و"التذكرة" ٢/ ٤١٩، و"التيسير" ص ١١٠، و"النشر" ٢/ ٢٦٩.
144
الحسن (١): (هما لغتان) (٢).
قال أبو حاتم (٣): (وليس الكسر بمعروف) (٤).
واحتج الكسائي بكلام يروى عن عمر -رضي الله عنه- أنه سأل قومًا عن شيء فقالوا: نَعَم، فقال: (أما النَعَم فالإبل، فقولوا (٥) نَعِم) (٦).
قال أبو عبيد: (ولم نر العرب يعرفون ما رووه عن عمر، ونراه مولدًا) (٧).
(١) أبو الحسن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المجاشعي، إمام. تقدمت ترجمته.
(٢) "معاني الأخفش" ١/ ٢٥٢، و"الحجة" لأبي علي ٤/ ١٩، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٠٦، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٤ - ١٥٥.
(٣) أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني البصري إمام لغوي. تقدمت ترجمته.
(٤) ذكره ابن عطية في "تفسيره" ٥/ ٥٠٩، والرازي ١٤/ ٨٥، والسمين في "الدر" ٥/ ٣٢٦، وهذا قول غريب مردود لأنها قراءة سبعية، ولغة فصيحة مشهورة.
انظر: "العين" ٢/ ١٦٢، و"الجمهرة" ٢/ ٩٥٣، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦١٥، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٤٢، و"المجمل" ٤/ ٨٧٤، و"المفردات" ص ٨١٦، و"اللسان" ٨/ ٤٤٨٥ (نعم).
(٥) في (ب): (فقوله: (نعم))، وهو تحريف، ونعم الأولى بالفتح، والثانية بالكسر.
(٦) هذا أثر مشهور لم أقف على إسناده، وهو في "الزاهر" ٢/ ٥١ - ٥٢، و"إعراب القراءات" ١/ ١٨١، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤٢، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٨٣، و"الكشف" لمكي ١/ ٤٦٣، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٥١٠، و"منثور الفوائد" لابن الأنباري ص ٨٤، و"تفسير الرازي" ١٤/ ٨٥، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير ٥/ ٨٤.
(٧) في (ب): (مؤكدًا)، وذكره السمين في "الدر" ٥/ ٣٢٦ عن أبي عبيد بلفظ (مولدًا). وقال بعده: (هذا طعن في المتواتر فلا يقبل) اهـ. والمولد: الكلام المستحدث الذي لم يكن من كلامهم فيما مضى. انظر: "اللسان" ٨/ ٤٩١٥ (ولد).
145
وقال أبو إسحاق: (وفي بعض اللغات (نَعِم) في معنى (نَعَم)، موقوفة الآخر لأنها حرف جاء لمعنى) (١).
[وقوله: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾؛ معنى التأذين في اللغة (٢): النداء، والتصويت] (٣) بالإعلام، والأذان للصلاة إعلام بها، وبوقتها (٤)، وقالوا في معنى: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ (٥) نادى منادٍ نداء أسمع الفريقين (٦). قال ابن عباس: (وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحب الصور) (٧).
وقوله تعالى: ﴿بَيْنَهُمْ﴾، قال أبو علي: (يحتمل أمرين (٨)؛ الأحسن فيه أن يكون ظرفًا لـ (مؤذن) كما تقول: أعْلَمَ وسْطَهُمْ معلم، ولا تُجعل صفة للنكرة؛ لأن اسم الفاعل إذا أُعمل عمل الفعل لم يوصف كما لا يُصغّر؛ لأن الصفة تخصيص، والفعل وما أُجري مجراه لا يلحقه تخصيص،
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٠.
(٢) انظر: "العين" ٨/ ١٩٩، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٤٠، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٦٨، و"المجمل" ١/ ٩١، و"مقاييس اللغة" ١/ ٧٥، و"المفردات" ص ٧٠، و"اللسان" ١/ ٥٢ (أذن).
وقال سيبويه في "الكتاب" ٤/ ٦٢: (آذنت: أعلمت، وأذَّنْتُ النداء والتصويت بإعلان) اهـ. انظر: "الحجة" لأبي علي ٤/ ٢٣، و"الزاهر" ١/ ٢٩.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" ١/ ١٤٠ (أذن).
(٥) جاء في الأصول: ﴿أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ بدون فاء، وفي سورة يوسف الآية ٧٠: ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ وانظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٨٥.
(٦) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٧، والطبري ٨/ ١٨٧، والسمرقندي ١/ ٥٤٢.
(٧) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٨٥، وقال الخازن ٢/ ٢٣١: (وهذا المنادي من الملائكة، وقيل: إنه إسرافيل صاحب الصور، ذكره الواحدي) اهـ.
(٨) في (أ): (يحتمل لأمرين أحسن فيه).
146
والتصغير كالوصف، ومن ثم لم (١) يستحسن (هذا ضويرب زيدًا)، كما لا يستحسن (هذا ضارب ظريف زيدًا)، ولأنك في [هذا] (٢) تفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي، وذلك أن ﴿مُؤَذِّنٌ﴾ عامل في ﴿أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ﴾، فإذا جعلت ﴿بَيْنَهُمْ﴾ صفة [فقد فصلت بين العامل والمعمول بالأجنبي، وإن شئت جعلت ﴿بَيْنَهُمْ﴾ صفة] (٣)؛ لأن التقدير فأذن مؤذن بينهم بأن لعنة الله، ومعنى الفعل قد يعمل في الجار ويصل إليه وإن فصل بينهما بالصفة، كما تقول: هذا مارّ [أمس] (٤) يزيد، والأول الوجه، والجار المقدر إن شئت جعلته متعلقًا بمؤذن، وإن (٥) جعلته متعلقًا بأذن) (٦).
وقوله: ﴿أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ قرئ (٧) (أنْ) مخففًا، (لعنةُ الله)
(١) في (ب): (ومن ثم لا يستحسن).
(٢) لفظ: (هذا): ساقط من (ب).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) لفظ: (أمس: ساقط) من (أ).
(٥) في (أ): (فإن جعلته)، وفي "الحجة" ٢/ ٤٠٥: (وإن شئت جعلته) وهو الأولى.
(٦) "الحجة" لأبي علي ٢/ ٤٠٤ - ٤٠٥، وزاد: (وإن شئت جعلت (بين) ظرفًا للمؤذن لا صفة وكل ذلك لا يمتنع)، وقال ابن الأنباري في "البيان" ١/ ٣٦٢: (بينهم: منصوب على الظرف والعامل أذن أو مؤذن على اختلاف بين النحويين؛ فالبصريون يختارون أن يكون متعلقًا بمؤذن لأنه أقرب إليه من أذن والكوفيون يختارون (أذن) لأنه الأول والعناية به أكثر فإن جعلت بينهم وصفًا لمؤذن جاز ولكن لا يجوز أن يعمل في أن لأن اسم الفاعل إذا وصفته بطل عمله ولأنه يخرج بذلك عن شبه الفعل) اهـ. وانظر: "المشكل" ١/ ٢٩٢، و"التبيان" ص ٣٧٧، و"الفريد" ٢/ ٣٠٤، و"الدر المصون" ٥/ ٣٢٧.
(٧) قرأ عاصم وأبو عمرو ونافع ﴿أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ﴾ بإسكان النون مخففة ورفع ﴿لَعْنَةُ﴾ وقرأ الباقون بتشديد ﴿أَنْ﴾ ونصب ﴿لَعْنَةُ﴾. انظر: "السبعة" ص ٢٨١، و"المبسوط" ص ١٨٠، و"التذكرة" ٢/ ٤١٩، و"التيسير" ص١١٠، و"النشر" ٢/ ٢٦٩.
147
رفعًا، وقرئ (أنَّ) مشددة (ولعنةَ الله) نصبًا، فمن شدّد فهو الأصل، ومن خفف ﴿أَن﴾ فهي مخففة من الشديدة على إرادة إضمار القصة والحديث، تقديره: أنه لعنة [الله] (١)، ومثل ذلك قوله: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: ١٠] التقدير: أنه، ولا تخفف (أن) هذه إلا وإضمار القصة والحديث يراد معها (٢).
قال أبو إسحاق (٣): (ويجوز أن يكون المخففة التي هي للتفسير كأنها تفسير لما أَذَّنُوا به كما ذكرنا في قوله: ﴿أَنْ قَدْ وَجَدْنَا﴾).
٤٥ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، هذه الآية من نعت (٤) قوله: ﴿على الظالمين﴾، ومعنى ﴿يَصُدُّونَ﴾ يجوز أن يكون من (الصدّ) (٥)
(١) لفظ: (الله) ساقط من (ب).
(٢) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٢٣. وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٠٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٨٢، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٨٣، و"الكشف" ١/ ٤٦٣. قال الأزهري: (من خفف أن منعها عملها ورفع ما بعدها، ومن شدد النون نصب بها الاسم والمعنى واحد) اهـ. ونقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٨٥.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤١، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢٩٨ - ٢٩٩، و"تفسير الطبري" ٨/ ١٨٧، و"معانى النحاس" ٣/ ٣٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٣، و"المشكل" ١/ ٢٩٢، وقال: (ويجوز أن تكون في حالة التخفيف بمعنى أي التي للتفسير، فلا موضع لها من الإعراب) اهـ.
(٤) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦١٣، و"التبيان" ص ٣٧٧، و"الفريد" ٢/ ٣٠٤.
(٥) الصد: الإعراض، يقال: صَد يَصُد وصددته عن الأمر إذا عدلته عنه، وصد يَصِد -بكسر الصاد- إذا ضج.
انظر: "العين" ٧/ ٨٠، و"الجمهرة" ١/ ١١١، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٨٥ و"المجمل" ٢/ ٥٣٢، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٢٨٢، و"المفردات" ص ٤٧٧، و"اللسان" ٤/ ٢٤٠٩ (صدد).
الذي هو المنع، ويجوز أن يكون من (الصدود) الذي (١) هو الإعراض.
وقوله تعالى: ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾. قال ابن عباس: (يريد: عن دين الله وطاعة الله) (٢). قال أهل المعاني: (سبيل الله الحق الذي دعا الله إليه) وقيل: (الطريق الذي دل الله (٣) أنه يؤدي إلى الجنة) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾، قال ابن عباس: (يريد: يصلون لغير الله، ويعظمون ما لم يعظم الله) (٥).
ومعنى هذا: أنهم طلبوا سبيل الله بالصلاة لغيره، وتعظيم ما لم يعظمه الله، فأخطأوا الطريق وطلبوه ضالين معوجّين عن الطريق (٦)، ﴿عِوَجًا﴾ على هذا المعنى مصدر (٧) في موضع الحال، وقد ذكرنا معنى ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ مستقصى في سورة آل عمران (٨).
٤٦ - وقوله تعالى: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾، والحجاب (٩) الحاجز بين
(١) في (أ): (والذي هو) بالواو.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٦، وأخرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٤٨٢ بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (عن دين الله) اهـ.
(٣) في (ب): (الذي دل إليه).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٨٧، والسمرقندي ١/ ٥٤٢.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٨٤، والبغوي ٣/ ٢٣١.
(٦) انظر: "تفسير الخازن" ٢/ ٢٣٢ فقد ذكر مثله.
(٧) انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٥١١.
(٨) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ٢٠٠/ ب
(٩) الحجاب، بكسر الحاء: الستر، واسم ما احتجب به، وكل ما حال بين شيئين حجاب، والجمع حجب بالضم. انظر: "العين" ٣/ ٨٦، و"جمهرة اللغة" ١/ ٢٦٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٤٧٣، و"الصحاح" ١/ ١٠٧، و"المجمل" ١/ ٢٦٦، و"المفردات" ص ٢١٩، و"لسان العرب" ٢/ ٧٧٧ (حجب).
149
الشيئين، قال الكلبي: (يعني: بين أهل الجنة وأهل النار، (حجاب) سور) (١) وهو الأعراف التي قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾ ولذلك عُرِّفت الأعراف لأنه عُني بها الحجاب المذكور (٢) في قوله: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾، ﴿الْأَعْرَافِ﴾ جمع: عُرْف (٣)، وهو كل عالٍ مرتفع، ومنه عُرف الفرس، عُرف الديك، وكل مرتفع من الأرض عُرف، وذلك لأنه بظهوره أعرف مما انخفض منه (٤)، قال عطاء عن ابن عباس: (﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ﴾ يريد: سور الجنة، وهو سور بين الجنة والنار) (٥). وروى أيضًا عنه أنه قال: (الأعراف شرف الصراط) (٦).
واختلفوا في الرجال الذين هم على الأعراف؛ فقال ابن عباس
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٦ وهو قول أهل التفسير. انظر: الطبري ٨/ ١٨٨، والسمرقندي ١/ ٥٤٢، والماوردي ٢/ ٢٢٥، وابن عطية ٥/ ٥١٢، والبغوي ٣/ ٢٣١، وابن الجوزي ٣/ ٢٠٤، والرازي ١٤/ ٨٦.
(٢) انظر: "الدر المصون" ٥/ ٣٢٨ حيث نقل قول الواحدي.
(٣) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٠٥، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢١٥، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٨، و"تفسير المشكل" ص ٨٤.
(٤) انظر: "العين" ٢/ ١٢١، و"الجمهرة" ٢/ ٧٦٦، و"الصحاح" ٤/ ١٤٠٠، و"المجمل" ٣/ ٦٦١، و"المفردات" ص ٥٦١، و"اللسان" ٥/ ٢٩٠١ (عرف).
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٩، والطبري ٨/ ١٨٨، ١٨٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٨٣، والأزهري في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٠٥ (عرف) من عدة طرق جيدة، وقال الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٨٧: (الذي عليه الأكثرون أن المراد من الأعراف أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار وهذا قول ابن عباس) اهـ.
(٦) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٨٧، والقرطبي ٧/ ٢١٣، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٩ - ٢٣٠، والطبري ٨/ ١٨٩، وابن أبي هاشم ٥/ ١٤٨٣ بسند جيد عن ابن عباس قال: (الأعراف الشيء المشرف)، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٦٠.
150
والأكثرون (١): (هم مؤمنون إلا أنهم استوت حسناتهم وسيئاتهم فمنعتهم (٢) حسناتهم من النار، ومنعتهم سيئاتهم من الجنة، فيقومون على سور الجنة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، وهم آخر من يدخل الجنة)، وهو قول حذيفة (٣) (٤) وابن مسعود (٥) والكلبي (٦) واختيار
(١) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٢٩، والطبري ٨/ ١٩٠، ١٩١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٨٣ من عدة طرق جيدة يقوي بعضها بعضًا عن ابن عباس، وأخرجه الطبري ٥/ ١٤٨٥ من عدة طرق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي، وسعيد ابن جبير والضحاك، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٨٥ عن عبد الله بن الحارث، وقال بعده: (وروي عن أبي هريرة) اهـ. وهو قول مجاهد كما في تفسير مسلم بن خالد الزنجي ص ٤٧ - ٤٨، وأخرجه عنه النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٠، وزاد ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٢٠٥ نسبة هذا القول إلى الشعبي وقتادة، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٢، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤٢، والماوردي ٢/ ٢٢٦، وابن عطية ٥/ ٥١٥.
(٢) في (ب): (فمنعهم).
(٣) حذيفة بن حُسَيْل بن جابر العبسي أبو عبد الله حليف الأنصار، واليمان لقب: حسيل، وهو صحابي جليل من السابقين إلى الإسلام عالم شجاع صاحب سر النبي - ﷺ - في المنافقين، وهو من أعيان المهاجرين شهد أحد، والمشاهد بعدها وله بها ذكر حسن وآثار شهيرة، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، توفي -رضي الله عنه- سنة ٣٦ هـ. انظر: "الحلية" ١/ ٢٧٠، و"الاستيعاب" ١/ ٣٩٣ (٥١٠)، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ٣٦١، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٣٦٧، و"الإصابة" ١/ ٣١٧، و"الأعلام" ٢/ ١٧١.
(٤) أخرجه الطبري ٨/ ١٩٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٨٥، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٢٠ وقال: (حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي في "التلخيص".
(٥) أخرجه الطبري ٨/ ١٩١، والبغوي ٣/ ٢٣٢ بسند ضعيف.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٦، و"المطالب العالية" ٣/ ٣٣٤.
151
الفراء (١).
وروي أن النبي - ﷺ - سئل عن أصحاب الأعراف فقال: "هم قوم (٢) قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم النار قتلهم في سبيل الله، ومنعتهم الجنة معصية آبائهم، فهم آخر من يدخل الجنة" (٣).
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٧٩ - ٣٨٠ وهو الظاهر، واختيار الطبري ٨/ ١٩٤، والنحاس في "معانيه" ٣/ ٤٠، وقال: (وهذا القول أشهر وأعرف) اهـ، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦١٣، وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٤٢: (واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد وهو: أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. نص عليه حذيفة، وابن مسعود، وابن عباس، وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله) اهـ. وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ٢١٤ - ٢١٦: (وهذا هو الثابت عن الصحابة، وقد رويت فيه آثار كثيرة مرفوعة لا تكاد تثبت أسانيدها وآثار الصحابة في ذلك المعتمدة) اهـ.
(٢) في (ب): (هم رجال).
(٣) أخرجه ابن الأنباري في "الأضداد" ص ٣٦٩، والطبري ٨/ ١٩٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٨٤ بسند ضعيف، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٣ - ٢٤، وقال: (رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه محمد بن مخلد الرعيني وهو ضعيف، وروى الطبراني نحوه وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي وهو ضعيف) اهـ. وذكره ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٤٢، وقال: (رواه ابن مردويه، وسعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن أبي معشر به، وكذا رواه ابن ماجه مرفوعًا من حديث أبي سعيد الخدري، وابن عباس -والله أعلم- بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصارها أن تكون موقوفة، وفيه دلالة على ما ذكر) اهـ. وقال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- في "حاشية الطبري" ١٢/ ٤٥٨ - ٤٥٩: (هذا خبر ضعيف لما فيه من المجاهيل ولضعف أبي معشر) اهـ. وذكره ابن حجر في "الإصابة" ٢/ ٤٢٦، ترجمة عبد الرحمن المزني، وفي "المطالب العالية" ١٤/ ٦٦٤ (٣٦٠٨)، والسيوطي في "الدر" ٣/ ١٦٣، ١٦٤ وفيه زيادة تخريج.
152
وقال سليمان التيمي (١) وأبو مجلز (٢): (هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: فقيل لأبي مجلز، يقول الله تعالى: (﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾ وتزعم أنت أنهم ملائكة؟، فقال: إنهم ذكور ليسوا بإناث) (٣).
وقوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾، قال المفسرون (٤): (إنهم يرون أهل الجنة فيعرفونهم ببياض وجوههم، ويرون أهل النار فيعرفونهم بسواد وجوههم وزرقة عيونهم).
قال أبو إسحاق: (يعرفون أصحاب الجنة لأن سيماهم إسفار الوجوه والضحِك والاستبشار كما قال عز وجل: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)﴾ [عبس: ٣٨، ٣٩]، ويعرفون أصحاب النار بسواد وجوههم وغبرة (٥) وزرقة
(١) لم أقف عليه، ولعله روى سليمان التيمي عن أبي مجلز بدلالة قوله: (قال: فقيل لأبي مجلز) والقائل هو سليمان التيمي كما أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ١٩٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٨٦ من عدة طرق جيدة عن سليمان التيمي عن أبي مجلز، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٦٤.
(٢) أبو مجلز: لاحق بن حميد السدوسي، إمام. تقدمت ترجمته.
(٣) هذا قوله رده أكثر أهل التفسير، قال الطبري ٨/ ١٩٣: (هو قول لا معنى له) اهـ، وقال ابن الجوزي ٣/ ٢٠٦: (فيه بُعد وخلاف للمفسرين) اهـ، وقال ابن كثير ٢/ ٢٤٣: (رواه ابن جرير وهو صحيح إلى أبي مجلز أحد التابعين وهو غريب من قوله، وخلات الظاهر من السياق، وقول الجمهور مقدم على قوله بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه) اهـ.
(٤) هذا قول مجاهد في "تفسيره" ١/ ٢٣٧، والفراء في "معانيه" ١/ ٣٧٩، والطبري ٨/ ١٩٤، ١٩٥، وأخرجه من عدة طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٣٨، والسمرقندي ١/ ٥٤٣، والماوردي ٢/ ٢٢٦، والبغوي ٣/ ٢٣٣، وابن عطية ٥/ ٥١٥، وابن الجوزي ٣/ ٢٠٦.
(٥) لفظ: (غبرة) ساقط من (ب).
153
عيونهم (١) كما قال جل ذكره: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠)﴾ [عبس: ٤٠]) (٢)
قال ابن الأنباري: (إنما خص الله تعالى هؤلاء بمعرفة الجماعة دون الخلق؛ لأن موضعهم مرتفع عالٍ يرون فيه أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار دون الخلق، وكأن الاختصاص من أجل (٣) هذا المعنى) (٤) وذكرنا معنى السيما (٥) في سورة [البقرة] (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾، قال الكلبي: (إذا نظروا إلى الجنة سلموا على أهلها فردوا عليهم السلام، وإذا نظروا إلى النار ﴿قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾) (٧).
وقال عطاء عن ابن عباس: ﴿وَنَادَوْا﴾ (يريد: أصحاب الأعراف ﴿أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ (٨)، فردوا عليهم السلام، فقال أصحاب الجنة لخزنة جهنم: ما لأصحابنا على أعراف الجنة لم يدخلوها؟ فقال الملائكة: ﴿وَهُم (٩) يَطْمَعُونَ﴾ (١٠)
(١) لفظ: (وزرقة عيونهم) ساقط من (أ) ولا يوجد في "معاني الزجاج".
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٣.
(٣) في (ب): (من أجله)، وهو تحريف.
(٤) لم أقف عليه عن ابن الأنباري. وانظر "الأضداد" لابن الأنباري ص ٣٦٨ - ٣٧٠.
(٥) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٦٣أ.
(٦) لفظ: (البقرة) ساقط من (ب).
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٧، وهو قول أكثر المفسرين، انظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص ٣٦٨، وتفسير الطبري ١٢/ ٤٦٤، والسمرقندي ١/ ٥٤٣، والبغوي ٣/ ٢٣٣، وابن عطية ٥/ ٥١٦، والرازي ١٤/ ٩٠.
(٨) لفظ: (أن) ساقط من (ب).
(٩) في (ب): (وهم).
(١٠) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٣٣٠، وقال: (وهذا يبعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن) اهـ.
154
وقولى تعالى: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ بعضه من قول أهل الجنة، وبعضه من كلام الملائكة جوابًا لأهل الجنة، على ما قال عطاء، وعلى قول الباقين هو من كلام الله تعالى، وإخباره أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون (١).
قال حذيفة: (ولم يكن الله ليخيب طمعهم) (٢)، وقال سعيد بن جبير: (طمعوا لأن الله تعالى سلب نور المنافقين وهم على الصراط وبقي نورهم) (٣).
وروي عن الحسن أنه قال: (هذا طمع اليقين، كقول إبراهيم عليه السلام: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي﴾ [الشعراء: ٨٢]) (٤).
(١) قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٣٩: (قال الله عز وجل: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾. قال أكثر أهل التفسير يعني أصحاب الأعراف) اهـ. فهذا إخبار من الله تعالى أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها قاله الجمهور. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ١٩٦، و"القطع والائتناف" للنحاس ١/ ٢٥٣، والسمرقندي ١/ ٥٤٣، والبغوي ٣/ ٢٣٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٠٦.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٨٥، وانظر: "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري ٢/ ٦٥٥.
(٣) أخرجه الطبري ٨/ ١٩٦، والبغوي ٣/ ٢٣٢ بسند ضعيف عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(٤) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٢١، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٠، والطبري ٨/ ١٩٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٨٨ بسند جيد عن الحسن قال: (والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم) اهـ. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٦٥، وذكره أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٠٣ عن ابن مسعود، ثم قال: (وهذا هو الاظهر والأليق بمساق الآية) اهـ. وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٥١٦.
155
٤٧ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ الآية، التلقاء (١): جهة اللقاء وهي جهة المقابلة، ولذلك (٢) كان ظرفًا من ظروف المكان، هو تلقاءك، كقولك: هو حذاءك، وهو في الأصل مصدر واستعمل ظرفًا مثل البين.
قرأت على أبي الحسين (٣) بن أبي عبد الله الفسوي (٤)، فقلت: أخبركم حمد بن محمد (٥) قال، أخبرني أبو عمر (٦) محمد بن عبد الواحد (٧) أبنا ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين قالا: (لم يأت من المصادر على تِفْعال إلا حرفان: تِبْيان، وتِلْقاء، فإذا تركت هذين استوى لك القياس في كلام الناس، فقلت في كل مصدر: تَفعال -بفتح التاء- مثل تَسْيار وتَهمام، وقلت في كل اسم: تِفعال -بكسر التاء- مثل تِقصار وتِمثال) (٨). وتفسير الآية ما ذكرنا من قول الكلبي في الآية الأولى.
(١) اللِّقاءُ: مقابلة الشيء ومصادفته، والاسم التلقاء وهو مصدر نادر لا نظير له إلا التَّبْيان. انظر: "العين" ٥/ ٢١٥، و"الجمهرة" ٢/ ٩٧٧، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٩٠، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٨٤، و"المجمل" ٣/ ٨١١، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢٦٠، و"المفردات" ص ٧٤٥، و"اللسان" ٧/ ٤٠٦٥ (لقى).
(٢) في (ب): (وكذلك قال ظرفًا)، وهو تحريف.
(٣) في (ب): (أبي الحسن)، وهو تحريف.
(٤) هو عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد الفسوي أبو الحسين بن أبي عبد الله الفارسي، أحد شيوخ الواحدي. تقدمت ترجمته.
(٥) حمد بن محمد الخطابي أبو سليمان البستي، إمام، سبقت ترجمته في ص١٩٠.
(٦) في (أ): (أبو عمرو)، وهو تحريف.
(٧) محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البَاورْدَي، تقدمت ترجمته.
(٨) ذكره الرازي ١٤/ ٧٥ عن الواحدي، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٣٣١: (التلقاء في =
٤٨ - قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾، قال الكلبي: (وينادي أصحاب الأعراف قومًا من أهل النار من رؤساء المشركين، فيقولون (١) لهم: ﴿مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ وما كنتم تستكثرون (٢) من الأموال والأولاد، وتستكبرون عن عبادة الله جل وعلا، ثم يرون في الجنة جماعة من مستضعفي المسلمين، مثل بلال، وسلمان (٣)، وعمار، وخباب؛ فيقبلون على المشركين فيقولون: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ﴾ [الأعراف: ٤٩] أي: حلفتم وأنتم في الدنيا ﴿لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ﴾ برحمته، فيقول الله تبارك وتعالى لأصحاب الأعراف: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ﴾ حين يخاف أهل النار ﴿وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ حين يحزنون) (٤).
= الأصل مصدر، ثم جعل دالًا على المكان، أي: على جهة اللقاء والمقابلة، قالوا: ولم يجيء من المصادر على تفعال -بكسر التاء- إلا لفظتان: التلقاء، والتبيان، وما عدا ذلك من المصادر فمفتوح نحو الترداد والتكرار، ومن الأسماء مكسور نحو تِمثال وتِمساح وتِقصار) اهـ.
انظر: "التبيان" ص ٣٧٧، و"الفريد" ٢/ ٣٠٦، والقرطبي ٧/ ٢١٤.
(١) في (ب): (فيقول).
(٢) في (ب): (تستكبرون)، وهو تحريف.
(٣) سلمان أبو عبد الله الفارسي، ويقال له سلمان الخير، وسلمان ابن الإِسلام، صحابي جليل، زاهد، عالم، حكيم، شهد الخندق وما بعدها، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير، توفي -رضي الله عنه- سنة ٣٤ هـ.
انظر: "الحلية" ١/ ١٨٥، و"الاستيعاب" ٢/ ١٩٤ (١٠١٩)، و"سير أعلام النبلاء" ١/ ٥٠٥، و"الإصابة" ١/ ٦٢، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٦٨، و"الأعلام" ٣/ ١١١.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٧ - ٩٨، وذكره ابن الأنباري في "الأضداد" ص ٣٦٩ - ٣٧٠، والبغوي ٣/ ٢٣٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٠٧ - ٢٠٨.
و (١) قال مقاتل بن سليمان: (﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ﴾ من كلام الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط، وذلك أن أهل النار يقسمون أن أصحاب الأعراف داخلون معهم النار، فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ﴾ يا أهل النار ﴿لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ﴾، ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ الآية) (٢).
قال أبو بكر بن الأنباري: (قوله: ﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ﴾ على تفسير الكلبي من كلام أصحاب الأعراف و ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ من كلام الله تعالى، ويحتاج هاهنا إلى إضمار (قول) بين قوله ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ وقوله: ﴿ادْخُلُوا﴾ أي: فقال (٣) لهم هذا كما قال: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ [الشعراء: ٣٥]، وانقطع كلام الملأ (٤) هنا، ثم قال لهم فرعون: ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الشعراء: ٣٥]، فاتصل كلامه بكلامهم، من غير إظهار قول؛ لبيان المعنى) (٥).
٥٠ - قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾ الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: (لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد الإياس؛ فقالوا (٦): يا رب إن لنا قرابات
(١) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٢) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٩.
(٣) فقال الله لهم.
(٤) في (ب): (الملائكة)، وهو تحريف.
(٥) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٣٣٢، وذكره الرازي ١٤/ ٩١، ٩٢ بلا نسبة، وانظر: "إيضاح الوقف والابتداء" الأبن الأنباري ٢/ ٦٥٧.
(٦) في (ب): (فقال)، وهو تحريف.
158
من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فأمر الله الجنة فتزخرفت حتى نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار (١) فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقًا آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم ﴿أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾ الآية) (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾، قال ابن زيد والسدي: (يعني: الطعام) (٣).
قال أبو إسحاق: (أعلم الله عز وجل أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب، وإن كان معذبًا، فأعلمهم أهل الجنة أن الله حرم طعامهم وشرابهم على أهل النار بقولهم (٤): ﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾) (٥)، [و] هذا (٦) تحريم منع لا تحريم تعبد.
(١) في (ب): (أهل جهنم).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٨٦، والبغوي ٣/ ٢٣٤، وابن الجوزي ٣/ ٢٠٨، والرازي ١٤/ ٩٢، و"الخازن" ٢/ ٢٣٥، وأخرج سفيان الثوري في "تفسيره" ص ١١٣، والطبري ٨/ ٢٠١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٩٠ بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: ينادي الرجل معرفته من أهل الجنة: أغثني يا فلان فقد احترقت، فيقول الله تعالى جل ذكره: ﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ اهـ. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٦٦.
(٣) أخرجه الطبري ٨/ ٢٠١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٩١ بسند جيد عن ابن زيد والسدي، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٦٦.
(٤) في (ب): (بقوله).
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٤.
(٦) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
159
٥١ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا﴾. قال ابن عباس (١): (يريد: المستهزئين المقتسمين) (٢).
قال أهل المعاني (٣) (معنى اللهو: صرف الهمّ بما لا يحسن، كالإنسان يريد أن يصرف الهمّ والحزن عن نفسه فيشتغل بما لا يجدي عليه، وهؤلاء طلبوا صرف الهمّ عنهم بالتهزّئ بالدين وعيب المؤمنين)، وعلى هذا معنى قوله ﴿دِينَهُمْ﴾ أي: الدين الذي شرع لهم، وهؤلاء تلاعبوا بذلك [الدين] (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾.
قال ابن عباس: (يريد: نتركهم في جهنم كما تركوا لقاء يومهم هذا) (٥) يريد: التكذيب بالبعث والجنة والنار، ومعنى ﴿نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ﴾
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٠٩، والرازي ١٤/ ٩٣، و"الخازن" ٢/ ٢٣٥.
(٢) المستهزئين المقتسمين: جماعة لهم قوة وشوكة من كفار قريش نصبوا العداء للرسول - ﷺ -، وتقاسموا عقاب مكة للصد عن ما جاء به، وقد اختلف العلماء في عددهم، وأسمائهم، وكيفية هلاكهم.
انظر: "تفسير الماوردي" ٣/ ١٧٢، و"زاد المسير" ٤/ ٤٢١، والرازي ١٩/ ٢١١، و"الدر المنثور" ٤/ ١٩٨.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٢/ ٤٠، والطبري ٨/ ٢٠٢، والسمرقندي ١/ ٥٤٤، وأخرج الطبري ٨/ ٢٠٢ بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (ذلك أنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم إليه وهزأوا به اغترارًا بالله) اهـ.
(٤) لفظ: (الدين) ساقط من (ب).
(٥) أخرجه الطبري ٨/ ٢٠٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٩٢، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص ٦٢٠ بسند جيد، وقال البيهقي: (يريد والله أعلم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا) اهـ. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٦٧.
160
تركوه بالتكذيب به (١)، كما قال ابن عباس.
وقال الزجاج: (أي: نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم) (٢)، وهذا قول الحسن (٣)، ومجاهد (٤)، والسدي (٥)، وجميع المفسرين (٦)؛ قالوا: (إن معنى النسيان هاهنا: الترك).
قال ابن الأنباري: (فاليوم نتركهم في النار على غير إغفال ونسيان، كما تركوا العمل لنا عامدين لا غافلين، فمعنى تركهم لقاء ذلك اليوم: تركهم العمل بطاعة الله لذلك اليوم) (٧)
وقال أصحاب المعاني: (معنى ﴿نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا﴾: نعاملهم معاملة من نسي بتركهم (٨) في النار كما فعلوا في الإعراض عن آياتنا وما ندبناهم إلى العمل به، فِعْل من نسي وغفل، فكذلك (٩) نجازيهم بمثل فعلهم،
(١) لفظ: (به) ساقط من (ب).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤١.
(٣) ذكره الرازي ١٤/ ٩٣، قال: (هو قول الحسن ومجاهد والسدي والأكثرين) اهـ، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٠٥، (وهو قول الحسن والسدي أيضًا والأكثرون).
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٣٨، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٠، والطبري ٨/ ٢٠٢ من عدة طرق جيدة.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٤٩٢ من طرق جيدة عن مجاهد والسدي، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ١٦٧.
(٦) انظر: الطبري ٨/ ٢٠٢، و"معاني النحاس" ٣/ ٤١، والسمرقندي ١/ ٥٤٤، والبغوي ٣/ ٢٣٤، وابن عطية ٥/ ٥٢١.
(٧) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٢٠٩، وفي "الأضداد" لابن الأنباري ص ٣٩٩ نحوه، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢١٥، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٨.
(٨) في (ب): (نتركهم).
(٩) في (ب): (وكذلك).
161
فنوقع بهم ما يشبه النسيان بأن لا نجيب لهم دعوة ولا نرحم لهم عبرة) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾. قال الزجاج: (أي: كجحدهم (٢)، ﴿وَمَا﴾ في موضع جر نسق على ﴿كَمَا﴾ (٣) و (ما) في قوله ﴿كَمَا نَسُوا﴾ وقوله: ﴿وَمَا كَانُوا﴾ بمعنى المصدر، والتقدير: ننساهم نسيانًا كنسيانهم يومهم هذا ولكونهم جاحدين بآياتنا، قاله أبو علي (٤).
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ﴾ [الأعراف: ٥٢]، قال ابن عباس: (يريد: الذي جاء به محمد - ﷺ -، ﴿فَصَّلْنَاهُ﴾ يريد: بيناه) (٥)، والتفصيل تبيين المعاني بإظهارها مما يلتبس بها، فالتفصيل كالتبيين (٦).
(١) ذكره الرازي ١٤/ ٩٣، و"الخازن" ٢/ ٢٣٥، وقال ابن كثير في تفسير الآية ٢/ ٢٤٥: (أي: يعاملهم معاملة من نسيهم لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه.. وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة) اهـ. ملخصًا.
(٢) في (ب): (أي ولجحدهم).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤١.
(٤) "الحجة" لأبي علي ٣/ ٦٠ و٦/ ٢١٦ - ٢١٧ و٢١٩، وهو قول الأكثر. انظر: "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٦٥٧، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٥، و"المشكل" ١/ ٢٩٣، و"البيان" ١/ ٣٦٤، و"الفريد" ٢/ ٣٠٩، و"الدر المصون" ٥/ ٣٣٦.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٩، وهو قول عامة المفسرين. انظر: الطبري ٨/ ٢٠٣، والسمرقندي ١/ ٥٤٤ - ٥٤٥، والبغوي ٣/ ٢٣٥، وابن عطية ٥/ ٥٢٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٠٩.
(٦) التفصيل - التبيين، وأصل الفَصْل القطع والقضاء وإبانة الشيء عن الآخر. انظر: "العين" ٧/ ١٢٦، و"الجمهرة" ٢/ ٨٩١، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٩٥، و"الصحاح" ٥/ ١٧٩٠، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٥٠٥، و"المفردات" ص ٦٣٩، و"اللسان" ٦/ ٣٤٢٢ (فصل).
162
وقوله تعالى: ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ أي: فصلناه بعلم لم يقع منا فيه سهو ولا غلط، وقيل: ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ في الكتاب وهو ما أودع من العلوم (١) وبيان الأحكام.
وقوله تعالى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾، قال الزجاج: (﴿هُدًى﴾ في موضع نصب أي: فصلناه هاديًا وذا رحمة) (٢).
وقوله تعالى: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يدل على أن القرآن جُعل هدى لقوم مخصوصين أريد به هدايتهم دون غيرهم ممن كذب به.
٥٣ - قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾، النظر هاهنا بمعنى: الانتظار (٣)، وقد مر في سورة البقرة (٤)، وإنما قيل لهم ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾، وإن كانوا جاحدين؛ لأنهم في منزلة المنتظر كأنهم ينتظرون ذلك لأنهم
(١) أكثرهم قال: (المعنى بيناه على علم منا بما فصلناه به) اهـ. انظر: "تفسير مقاتل" ٢/ ٤٠، والطبري ٨/ ٢٠٣، والسمرقندي ١/ ٥٤٥، والماوردي ٢/ ٢٢٨، والبغوي ٣/ ٢٣٥، وابن الجوزي ٣/ ٢١٠.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤١، والجمهور على نصبهما على الحال من مفعول ﴿فَصَّلْنَاهُ﴾ أو على أنه مفعول لأجله أي: فصلناه لأجل الهداية والرحمة. قالوا: ويجوز الجر على النعت لكتاب أو البدل منه، والرفع على تقدير مبتدأ أي: هو هدى ورحمة انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٨٠، و"تفسير الطبري" ٣/ ٢٠٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٥، و"المشكل" ١٢٩٣، و"البيان" ١/ ٣٦٤، و"التبيان" ص ٣٧٨، و"الفريد" ٢/ ٣٠٩، و"البحر" ٤/ ٣٠٦، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦٦.
(٣) النَّظَر: تقليب البَصَرِ والبَصيرة لإدراك الشيء وتأمله ورؤيته، والنَّظَر: الانتظار يقال: نَظَرْتُه أي انتظَرْتْه، وأَنْظَرْتُه - أخَّرْتُه. انظر: "الجمهرة" ٢/ ٧٦٣، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٠٤، و"الصحاح" ٥/ ٣٨٠، و"المجمل" ٣/ ٨٧٣، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤٤٤، و"المفردات" ص ٨١٣، و"اللسان" ٧/ ٤٤٦٦ (نظر).
(٤) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٢٦ب.
163
يأتيهم لا محالة، وفيه وجه آخر ذكرناه في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [الأنعام: ١٥٨] في آخر سورة الأنعام.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾. قال الفراء: (الهاء في ﴿تَأْوِيلَهُ﴾ للكتاب يريد: عاقبته وما وعد الله فيه) (١) [يعني: من البعث والنشور والعقاب والحساب.
وقال مقاتل (٢): ﴿إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ عاقبة ما وعدوا] (٣) على ألسنة الرسل. ومضى (٤) الكلام في التأويل في سورة آل عمران (٥) أولاً، ثم في النساء (٦) ثانيًا.
وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾. قال ابن عباس: (يريد: يوم القيامة) (٧).
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٠، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢١٦، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٨.
(٢) "تفسير مقاتل" ٢/ ٤٠، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦١٦ (في معناه قولان: أحدهما: هل ينظرون إلا ما وعدوا به في القرآن من العقاب والحساب، والقول الآخر: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ من النظر إلى يوم القيامة) اهـ. وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤١، والطبري ٨/ ٢٠٤، و"معاني النحاس" ٣/ ٤١ - ٤٢، والسمرقندي ١/ ٥٤٥، والماوردي ٢/ ٢٢٨.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) في النسخ: (ومعنى) والأولى (ومضى).
(٥) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٧٥ أ.
(٦) انظر: "البسيط" نسخة جستربتي ٢/ ٤ أ.
(٧) أخرجه الطبري ٨/ ٢٠٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٤٩٤ بسند ضعيف، وقال ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ٢١٧ - ٢١٨ (فمجيء تأويله مجيء نفس ما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر والمعاد وتفاصيله، والجنة والنار ويسمى تعبير الرؤيا تأويلًا بالاعتبارين، فإنه تفسير لها وهو عاقبتها وما تؤول إليه، فتأويل ما أخبرت به الرسل =
164
قال الزجاج: (﴿يَوْمَ﴾ نصب بقوله ﴿يَقُولُ﴾ (١). قال: [و] (٢) ﴿الَّذِينَ نَسُوهُ﴾ معناه (٣) أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسى، وجائز أن يكون ﴿نَسُوهُ﴾ تركوا (٤) العمل له والإيمان له) (٥)، وهذا كما ذكرنا في قوله: ﴿كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف: ٥١].
وقوله تعالى: ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ نسق على قوله: ﴿فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ﴾، كأنه قيل: هل يشفع لنا شافع، أو هل نرد ﴿فَنَعْمَلَ﴾، منصوب على جواب الاستفهام [بالفاء (٦)] (٧)، ومعنى: ﴿فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ نوحد الله قاله ابن عباس (٨).
= هو مجيء حقيقته ورؤيتها عيانًا ومنه تأويل الرؤيا وهو حقيقتها الخارجية التي ضربت للرائي في عالم المثال) اهـ.
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤١، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦١٦، و"المشكل" ١/ ٢٩٣، و"البيان" ١/ ٣٦٤، و"التبيان" ص ٣٧٨، و"الفريد" ٢/ ٣١٠، و"الدر المصون" ٥/ ٣٣٧ وكلهم على أنه منصوب على الظرف والعامل فيه ﴿يَقُولُ﴾.
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٣) في (ب): (معنا)، وهو تحريف.
(٤) في (ب): (تركوه العمل)، وهو تحريف.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤١ - ٣٤٢، وانظر: الطبري ٨/ ٢٠٤، و"معاني النحاس" ٣/ ٤٢، والسمرقندي ١/ ٥٤٥، والماوردي ٢/ ٢٢٩.
(٦) لفظ: (بالفاء) ساقط من (ب).
(٧) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٤٢ وهو المشهور، وقول الجمهور: (فتكون جملة ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ معطوفة على جملة ﴿فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ﴾ داخلة معها في حكم الاستفهام. انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٨٠، والأخفش ٢/ ٣٠٠، و"تفسير الطبري" ١٢/ ٢٠٥، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٦، و"المشكل" ١/ ٢٩٣، و"البيان" ١/ ٣٦٤، و"التبيان" ص ٣٧٨، و"الفريد" ٢/ ٣١٠، و"البحر" ٤/ ٣٠٦، و"الدر المصون" ٥/ ٣٣٧.
(٨) "تنوير المقباس" ٢/ ٩٩ وفيه: (فنؤمن ونعمل غير الذي كنا نعمل في الشرك) اهـ.
165
قال الله تعالى (١): ﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد: قد خسروا النعيم (٢) وصاروا إلى الخزي والعذاب) (٣) ومضى الكلام (٤) في: ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾، يريد: سقط عنهم ما كانوا (٥) يقولون من أن مع الله إلهًا آخر (٦).
٥٤ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ الآية. قال الليث: (السِّتُّ والسِّتة في التأسيس على غير لفظيهما، وهما في الأصل سِدْس وسِدْسَة، ولكنهم أرادوا إدغام الدال في السين فالتقتا عند مخرج التاء فغلبت (٧) عليهما، وبيان ذلك أنك [تصغر] (٨) ستة سُدَيْسة، وكذلك الأسداس، وجميع تصريفهما (٩) على ذلك) (١٠).
(١) في (ب) تكرار قال الله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾.
(٢) في (ب): (خسروا النعيم)، وهو تصحيف.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٩: وفيه (غبنوا أنفسهم بذهاب الجنة ولزوم النار) اهـ.
(٤) انظر: معنى الخسران في "البسيط" البقرة: ٢٧.
(٥) في (ب) تكرار: (يريد سقط عنهم ما كانوا يفترون يريد سقط عنهم ما كانوا يقولون...)
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٥، والسمرقندي ١/ ٥٤٥، والبغوي ٣/ ٢٣٥.
(٧) في (ب): (فقلبت)، وهو تصحيف.
(٨) لفظ: (تصغر) ساقط من (أ).
(٩) في (ب): (تصريفها) وعند الأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٢٣: (تصغيرها).
(١٠) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٢٣، وانظر: "العين" ٧/ ١٨٦ (ست).
166
ابن السكيت: (يقال: جاء فلان سادسًا، وساديًا، وساتًّا؛ فسادس على لفظ السُّدس، وساتّ على لفظ ستَّة أدغموا الدال في السين فصارت تاء مشددة، ومن قال ساديًا أبدل من السين ياء) (١).
قال أهل التفسير: (قوله ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، أراد: في مقدار ستة أيام؛ لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فكيف [يكون] (٢) يوم ولا شمس ولا سماء؟ وهذا كقوله: ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: ٦٢] على مقادير البكرة والعشي في الدنيا؛ إذ لا ليل ثم ولا نهار (٣)، فإن قيل: لأي علة ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾، ولو خلقهن في طرفة عين كان أدل على نفاذ قدرته، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: ٥٠]، والجواب: ما قال سعيد بن جبير: (قدر الله على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة، وإنما خلقهن في ستة أيام تعليمًا لخلقه الرفق والتثبت في الأمور) (٤).
وقال أهل المعاني: (إن تدبير الحوادث على إنشاء شيء بعد شيء
(١) "إصلاح المنطق" ص ٣٠١، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٢٣. وانظر: "الصحاح" ١/ ٢٥١ (ستت)، و"المفردات" ص ٤٠٣ (سدس)، و"اللسان" ٤/ ١٩٣٥ (ستت).
(٢) لفظ: (يكون) ساقط من (ب).
(٣) قال ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٢١١: (أي في مقدار ذلك ولم تكن الشمس حينئذ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وكعب: مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة. ولا نعلم خلافًا في ذلك) اهـ. بتصرف.
وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤٥، والبغوي ٣/ ٢٣٥، وابن عطية ٥/ ٥٢٥، والرازي ١٤/ ١١٨، والقرطبي ٧/ ٢١٩.
(٤) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩١ أ، والبغوي ٣/ ٢٣٥، و"الخازن" ٢/ ٢٣٧.
167
على ترتيب، أدل على عالم مدبر يصرفه على اختياره ويجريه على مشيئته) وقيل: (أراد بذلك زيادة البصيرة للملائكة في يقينهم (١) لما يشاهدونه من ظهور شيء وإنشاء خلق بعد خلق) (٢).
وقال أبو بكر بن الأنباري: (إن الله (٣) خلق السموات والأرض والليل والنهار تكرمة لآدم وذريته، وقد بيّن هذا في قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ الآية [البقرة: ٢٢]، وفي قوله: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [القصص: ٧٣]، فلما كان خلق هذه الأشياء تكرمة لآدم وولده، وكانت الأيام سبعة أوقع في كل يوم منها ضربًا من التكرمة نبه به الملائكة على عظم شأن آدم وولده عنده، وكان خلق السموات والأرض في ستة أيام عن غير عجز من الله عز وجل أن يكون في لمحة، ولكنه تعالى أراد أن يوقع في كل يوم منها أمرًا من خلقه تستعظمه الملائكة وجميع المشاهدين له) (٤)، وهذا معنى قول مجاهد: (إن ذلك رُتِّب على الأيام: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، فاجتمع الخلق فيه) (٥).
(١) في (ب): (في نفسهم).
(٢) ذكر هذه الأوجه الماوردي ٢/ ٢٣٠، وابن الجوزي ٣/ ٢١٢، والرازي ١٤/ ١١٨ و"الخازن" ٢/ ٢٣٧، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦١٧: (لأنه علم أن ذلك أصلح ليظهر قدرته للملائكة شيئاً بعد شيء) اهـ.
(٣) في (ب): (الله تعالى).
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩١، وابن الجوزي ٣/ ٢١٢ مختصرًا.
(٥) أخرجه الطبري ٨/ ٢٠٥، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ٢/ ٢٤٣ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٦٩.
168
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ أي: أقبل على خلقه، وقصد إلى ذلك بعد خلق السموات والأرض، وهذا قول الفراء (١) وأبي العباس (٢) والزجاج (٣).
وقال آخرون: ﴿اسْتَوَى﴾ معناه استولى (٤) واحتجوا بقول البعيث (٥):
ثم اسْتَوَى بِشْرُ على العِرَاقِ من غير سيفٍ ودمٍ مُهْرَاقِ (٦)
(١) "معاني الفراء" ١/ ٢٥ وفيه حكى أوجه منها: (أن يستوي الرجل وينتهي شبابه أو يستوي عن اعوجاج، وبمعنى أقبل، وبمعنى صعد، وكل في كلام العرب جائز).
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٩٤، وفي "مجالس ثعلب" ١/ ١٧٤ و٢٦٩ قال: (يقال فيه ضروب، الفراء وأصحابنا يقولون أقبل. ويقال: استوى عليه من الاستواء، والمعتزلة يقولون: استولى) اهـ.
(٣) "معاني الزجاج" ١/ ١٠٧ قال: (فيه قولان: عمد وقصد إلى السماء، كما تقول: قد فرغ الأمير من بلد كذا وكذا ثم استوى إلى بلد كذا، معناه قصد الاستواء إليه، وقد قيل أيضاً: استوى أي صعد أمره إلى السماء).
(٤) هذا قول أهل التأويل من المعتزلة والجهمية والحرورية وغيرهم، وقد اتفق أهل العلم على إبطاله وأجمعوا على أن المراد بالاستواء على العرش، إنما هو الاستعلاء والارتفاع عليه، فهو سبحانه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته ولا يلزم لهذا أي لازم باطل مما يلزم لاستواء المخلوقين. انظر: "الإبانة" ص ٣٦، و"الأسماء والصفات" ٢/ ٣٠٦ - ٣٠٨، و"الفتاوى" ٥/ ١٤٣ - ١٤٩، و"مختصر العلو" للألباني ص ٢٦.
(٥) البعيث: هو خداش بن بشير بن خالد المجاشعي، أبو مالك البصري المعروف بالبَعِيث، شاعر أموي مجيد وخطيب بني تميم، كانت بينه وبين جرير مهاجاة دامت نحو ٤٠ سنة، توفي سنة ١٣٤. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٣٨٦، و"الشعر والشعراء" ص ٣٢٩، و"معجم الأدباء" ٣/ ٢٨٩، و"الأعلام" ٢/ ٣٠٢.
(٦) الشاهد بدون نسبة فى "الصحاح" ٦/ ٢٣٨٥ (سوا)، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٢٩، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ٢/ ٣٠٩، و"زاد المسير" ٣/ ٢١٣، والقرطبي ٧/ ٢٢٠، و "رصف المباني" ص ٤٣٤، و"اللسان" ٤/ ٢١٦٣ (سوا)، و"الخازن" =
169
يعني: بشر بن مروان (١)، وعلى هذا خصّ العرش بالإخبار عن الاستيلاء عليه؛ لأنه أعظم المخلوقات.
وقال الأخفش: (﴿اسْتَوَى﴾ أي: علا، يقال: استويت على ظهر البيت أي: علوته) (٢) وهذا القول اختيار ابن جرير، قال: (معناه: ارتفع ارتفاع ملك وسلطان، لا ارتفاع انتقال وزوال) (٣)، وهذا يعود إلى معنى الاستيلاء (٤). وقد شرحنا الاستواء في صفة الله تعالى مستقصى في سورة البقرة (٥).
= ٢/ ٣٣٩، و"الدر المصون" ١/ ٢٤٣، ونسب في "تاج العروس" ١٩/ ٥٥١ (سوا)، إلى الأخطل، وفي هذه المراجع (قد استوى)، وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" ٥/ ١٤٦: (لم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة) اهـ. ونسبه ابن كثير في "البداية والنهاية" ٩/ ٧ إلى الأخطل، وقال: (الأخطل نصراني، والاستدلال به باطل من وجوه كثيرة) اهـ. وهو ليس في ديوان الأخطل والواحدي نسبه هنا وفي "الوسيط" ١/ ١٩٢ (إلى البعيث) وانظر: "مختصر الصواعق المرسلة" ٣/ ٨٩٠، ٨٩٨.
(١) بشر بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي: أمير كان سمحًا جوادًا، ولى إمرة العراق لأخيه عبد الملك، وتوفي سنة ٧٥ هـ، وله نيف وأربعون سنة. انظر: "سر أعلام النبلاء" ٤/ ١٤٥، و"البداية والنهاية" ٩/ ٧، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٣/ ٢٥١، و"الأعلام" ٢/ ٥٥.
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٩٤، وانظر: "معاني الأخفش" ١/ ٥٥ - ٥٦.
(٣) "تفسير الطبري" ١/ ١٩٢، واختار أن معنى قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩]: (علا عليهن وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سموات) اهـ.
(٤) الطبري -رحمه الله تعالى- رجح في معنى الاستواء ما قال به السلف، ثم أخذ يناقش المؤولين، ومن باب إلزام الحجة لهم، قال: (قل علا عليها علو ملك وسلطان) اهـ، وهذه العبارة ليست من نهج السلف في الإثبات، والله اعلم.
(٥) انظر: "البسيط" البقرة: ٢٩.
170
و ﴿الْعَرْشِ﴾ في كلام العرب (١) سرير الملك، يدل على ذلك سرير ملكة سبأ، سماه الله عرشًا فقال: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣)﴾ [النمل: ٢٣]، والعرش في اللغة: قد يكون عبارة عن الملك، يقال: (٢) ثُلَّ عَرْشُه، إذا ذهب عزه وملكه، ومنه قول زهير:
تَدَاركتُما الأَحلافَ قد ثُلَّ عَرْشُهَا (٣)
غير أنه لا يسوغ أن يكون المراد بالعرش في هذه الآية الملك؛ لأنه يوجب أن الله لم يكن مستويًا على ملكه قبل خلق السموات (٤) والأرض.
(١) العرش: سرير الملك وسقف البيت، انظر: "العين" ١/ ٢٤٩، و"الجمهرة" ٢/ ٧٢٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٩١، و"الصحاح" ٣/ ١٠٠٩، و"المجمل" ٣/ ٦٥٨، و "مقاييس اللغة" ٤/ ٢٦٤، و"المفردات" ص ٥٥٨، و"اللسان" ٥/ ٢٨٨٠ (عرش).
(٢) هذا مثل يضرب لمن ذهب عزه وزال قوام أمره وساءت حاله. انظر: "جمهرة الأمثال" ١/ ٢٩٠، و"المستقصى" للزمخشري ٢/ ٤٣، و"مجمع الأمثال" ١/ ٢٧١.
(٣) "ديوان زهير" ص ١٠٥، و"العين" ١/ ٢٤٩، و"المنجد" لكراع ص ١٠٥، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٩٢، و"الصحاح" ٣/ ١٠١٠، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٦٥، و"اللسان" ٥/ ٢٨٨١ (عرش)، وتمامه:
وَذُبْيَانَ قد زَلَّتْ بِأَقْدامِهَا النَّعْلُ
قال ثعلب في "شرحه": (الأحلاف عبس وفزارة وثل عرشها هذا مثل أي: أصابها ما كسرها وهدمها) اهـ.
(٤) هذا هو الصحيح والآيات والأحاديث والآثار تدفع أن يكون المراد بالعرش الملك، وأهل السنة والجماعة يثبتون العرش واستواء الله تعالى عليه كيف يشاء، قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ٦/ ٥٨٤ - ٥٨٥: (العرش موجود بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والآيات والأحاديث فيه صريحة متواترة وهو غير الكرسي والكرسي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع جمهور السلف) اهـ. ملخصًا.
وانظر: "الأسماء والصفات" ص ٢٧٢، و "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز ص ٢٥٦، ٢٥٧.
171
وقوله تعالى: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ وقرئ ﴿يُغْشِي﴾ (١) مخففا، والإغشاء (٢).
والتغشية: إلباس الشيء (٣) الشيء، وقد جاء التنزيل بالتشديد والتخفيف، فمما جاء (٤) بتضعيف (٥) العين قوله: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ [النجم: ٥٤]، ومما (٦) جاء بنقل الهمزة: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (٧) [يس: ٩]، والمفعول الثاني محذوف على معنى: فأغشيناهم العمى أو فقد الرؤية.
قال أبو إسحاق: (والمعنى: أن الليل يأتي على النهار ويغطيه ولم يقل: يغشي (٨) النهار الليل؛ لأن في الكلام دليلًا عليه، وقد قال في موضع آخر: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ (٩) [الزمر: ٥].
(١) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: ﴿يُغْشِي﴾ بفتح الغين، وتشديد الشين، وقرأ الباقون بإسكان الغين وتخفيف الشين. انظر: "السبعة" ص ٢٨٢، و"المبسوط" ص ١٨٠ - ١٨١، و"التذكرة" ٢/ ٤١٩، و"التيسير" ص ١١٠، و"النشر" ٢/ ٢٦٩.
(٢) الغِشَاء: الغطاء والإغشاء، والتغشية: تغطية شيء بشيء. انظر: "العين" ٤/ ٤٢٩، و"المنجد" لكراع ص ٢٧٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٦٨، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٤٦، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٤٢٥، و"المجمل" ٣/ ٦٩٦، و"المفردات" ص ٦٠٧، و"اللسان" ٦/ ٣٢٦١ (غشى).
(٣) في (ب): (إلباس الشيء بالشيء).
(٤) في (ب): (فما جاء).
(٥) في "الحجة" لأبي علي ٤/ ٢٧ - ٢٨: (غشى فعل متعدٍّ إلى مفعول واحد فإذا نقلت الفعل المتعدي إلى المفعول الواحد بالهمزة أو بتضعيف العين تعدى إلى مفعولين، وقد جاء التنزيل بالأمرين جميعًا) ثم ذكر نحو ما ذكره الواحدي.
(٦) في (ب): (وما جاء).
(٧) في (أ): (وهو لا ينصرون)، وهو تصحيف.
(٨) في (ب): (ويغشى).
(٩) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٢، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٢.
172
قال أبو علي: (وهذا (١) كما قال: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١]، ولم يذكر تقيكم البرد للعلم بذلك من الفحوى، ومثل هذا لا يضيق، وكل واحد من الليل والنهار منتصب بأنه مفعول به، والفعل قبل النقل غشي الليلُ النهارَ (٢)، فإذا نقلت قلت: أغشى الله الليل النهار، أو غَشَّى الله الليل النهار، فصار ما كان فاعلًا قبل النقل مفعولًا أول) (٣).
وقوله تعالى: ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾، قال الليث: (الحث: الإعجال والاتصال (٤)، تقول: حثثت فلانًا فاحْتث وهو حثيث محثوث: جاد سريع) (٥).
قال الأعشي:
تَدَلَّى حثيثًا كَأَنَّ الصِّوَارَ أَتْبَعَهُ أَزْرِقيٌّ لَحِمْ (٦)
(١) في (ب): (فهذا).
(٢) في (ب): (بالنهار).
(٣) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٢٨، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٠٨، و"إعراب القراءات" ١/ ١٨٥، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٦، ولابن زنجلة ص ٢٨٤، و"الكشف" لمكي ١/ ٤٦٤، ونقل قول الواحدي، والرازي في "تفسيره" ١٤/ ١١٧.
(٤) في (ب): (والإيصال)، وعند الأزهري في "تهذيب اللغة" ١/ ٧٣٩، عن الليث: (الإعجال في الاتصال).
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٧٣٩، وانظر: "الجمهرة" ١/ ٨١، و"الصحاح" ١/ ٢٧٨، و"المجمل" ١/ ٢٢١، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٩، و"المفردات" ص ٢١٨، و"اللسان" ٢/ ٧٧٣ (حثث).
(٦) "ديوانه" ص ١٩٩، وهو في "تهذيب اللغة" ١/ ٧٤٠، و"اللسان" ٢/ ٧٧٤ (حثث)، و"الدر المصون" ٥/ ٣٤٢، وجاء في حاشية "الديوان" (الصوار: القطيع من بقر الوحش، وحثيثًا: سريعًا والأزرقي اللحم: الصقر، والمعنى يشبه هذا الفرس بسرعة الصقر الشره إلى أكل اللحم) اهـ.
173
شبه الفرس في السرعة بالبازي (١).
قال ابن عباس: (يريد (٢) يطلب الليل النهار لا غفلة له) (٣).
و (٤) قال المبرد: (يعني: يطلب الليل النهار دائبًا) (٥).
وقال غيره: (معنى: ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ هو أن يستمر الليل في طلب النهار على منهاج من غير فتور يوجب الاضطراب، كما يكون في السوق الحثيث) (٦)، وهذا معنى قول ابن عباس: (لا غفلة [له)] (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾، معنى التسخير: التذليل (٨). قال الزجاج: (وخلق هذه الأشياء جاريات مجاريها بأمره) (٩). وقال المفسرون: (معنى تسخيرهن: تذليلهن لما يراد منها من طلوع وأفول وسير ورجوع؛ إذ لَسْنَ قادرات ولا مميزات، وإنما يتصرفن في متصرفاتهن على حسب إرادة المدبر فيهن) (١٠).
(١) في (ب): (شبه الفرس لسرعته بالبازي). والبازي واحد البُزاة التي تَصِيد، ضَرْب من الصُّقور. انظر: "اللسان" ١/ ٢٧٨ (بزا).
(٢) لفظ: (يريد) ساقط من (ب).
(٣) ينظر: "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٣، وأخرج الطبري ٨/ ٢٠٦ بسند جيد عن ابن عباس قال: (يطلبه سريعًا) اهـ.
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٦، والسمرقندي ١/ ٥٤٦، والماوردي ٢/ ٢٣٠، والرازي ١٤/ ١١٧.
(٧) لفظ: (له) ساقط من (ب).
(٨) انظر: "الصحاح" ٢/ ٦٧٩، و"المفردات" ص ٤٠٢، و"اللسان" ٤/ ١٩٦٣ (سخر).
(٩) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٢.
(١٠) انظر: الطبري ٨/ ٢٠٦، والسمرقندي ١/ ٥٤٦، والماوردي ٢/ ٢٣٠، والبغوي ٣/ ٢٣٦، وابن الجوزى ٣/ ٢١٤، و"الخازن" ٢/ ٢٤٠.
174
وقرأ (١) ابن عامر (٢): ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ﴾ رفعًا كلها، والنصب (٣) هو وجه الكلام لقوله تعالى: ﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ [فصلت: ٣٧] فكما أخبر في هذه الآية أنه خلق الشمس والقمر، كذلك يُحمل على ﴿خَلَقَ﴾ (٤) في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ﴾ [الأعراف: ٥٤]، وحجة ابن عامر قوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا في اَلسَّمَاوَاتِ وَمَا في اَلأَرْضِ﴾ [الجاثية: ١٣]، ومما في السماء الشمس والقمر، فإذا أخبر بتسخيرها حسن الإخبار عنها به، كما أنك إذا قلت: ضربت زيدًا استقام أن تقول: زيد مضروب (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، قال أصحاب المعاني: (﴿لَهُ الْخَلْقُ﴾ لأنه خلقهم، وله أن يأمر فيهم بما أحب (٦)، وله الحكم في الخلق يأمرهم بما يشاء)، وعلى هذا [المعنى] (٧) ﴿الْأَمْرُ﴾ هاهنا الذي هو نقيض
(١) في أصل (أ): (وقول) ثم صحح إلى (قرأ).
(٢) قرأ ابن عامر: (﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ﴾ بالرفع في الأربع، وقرأ الباقون بالنصب غير أن التاء مكسورة من ﴿مُسَخَّرَاتٍ﴾ لأنها تاء جمع المؤنث السالم. انظر: "السبعة" ص ٢٨٢ - ٢٨٣، و"المبسوط" ص ١٨١، و"التذكرة" ٢/ ٤١٩، و"التيسير" ص ١١٠، و"النشر" ٢/ ١٦٩.
(٣) وكذا قال مكي في "الكشف" ١/ ٤٦٥، ونقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٤/ ١١٨.
(٤) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣٠٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٧.
(٥) هذا نص كلام أبي علي في "الحجة" ٤/ ٢٩ غير أنه لم يختر قراءة النصب. وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٠٨، و"إعراب القراءات" ١/ ١٨٥ - ١٨٦، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٦ - ١٥٧، ولابن زنجلة ص ٢٨٤.
(٦) في (ب): (بما حب).
(٧) لفظ: (المعنى) ساقط من (ب).
175
النهي (١)، واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله لا يجوز أن يكون مخلوقًا فقال: فرّق الله بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر) (٢) يعني: من جعل الأمر الذي هو قوله من جملة ما خلقه فقد كفر. وقال ابن عباس في تفسير قوله: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ (يريد: لم يبق شيء، من وجد بعد ذلك شيئًا فليأخذه) (٣)، وهذا كلامه، ومعنى هذا: أن جميع (٤) ما في العالم لله تعالى، فالخلق له لأنه خلقهم، وجميع الأمور تجري بقضائه وقدره، وهو مجريها ومنشئها فلا يبقى بعد هذا لأحد شيء (٥).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٦، والسمرقندي ١/ ٥٤٦، والماوردي ٢/ ٢٣٠، والبغوي ٣/ ٢٣٦.
(٢) "تفسير سفيان بن عيينة" ص ٢٤٩، وأخرجه الثعلبي في "الكشف" ص ١٩١/ أ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ١/ ٥٥٦، وزاد السيوطي في "الدر" ٣/ ١٧١ نسبته إلى ابن أبي حاتم، وذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٤٦، والبغوي ٣/ ٢٣٦، والقرطبي ٧/ ٢٢١، و"الخازن" ٢/ ٢٤٠، وفي "أصول السنة" لأبي بكر الحميدي في مجلة الحكمة ١/ ٢٨٦ قال سفيان بن عيينة: (القرآن كلام الله، ومن قال مخلوق فهو مبتدع لم نسمع أحدًا يقول هذا) اهـ. وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٢ - ٤٣ في تفسير الآية: (فرق بين الشيء المخلوق وبين الأمر وهو كلام، فدل أن كلامه غير مخلوق، وهو قول "كن") اهـ. وقال القرطبي في "تفسيره" ٧/ ٢٢٢: (وفي تفريقه بين الخلق والأمر دليل بيّن على فساد قول من قال يخلق القرآن؛ إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقًا لكان قد قال: ألا له الخلق والخلق وذلك عِيٌّ من الكلام ومستهجن ومستغث والله يتعالى عن التكلم بما لا فائدة فيه) اهـ. وهذا هو الحق وأهل السنة والجماعة من السلف والخلف متفقون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق. انظر: "الإبانة" ص ٢١، و"الفتاوى" ١٢/ ٣٧، و"شرح الطحاوية" لابن أبي العز ص ١٣٧.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في (أ): (أن جميع الخلق ما في العالم). ثم ضرب على لفظ (الخلق) وهو الأولى.
(٥) ذكره الخازن ٢/ ٢٤٠.
176
وقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، قال الليث: (تفسير ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ﴾ تمجيد وتعظيم) (١).
وقال أبو العباس: (﴿تَبَارَكَ اللَّهُ﴾ ارتفع، والمتبارك المرتفع) (٢).
وقال ابن الأنباري: (﴿تَبَارَكَ اللَّهُ﴾ باسمه يتبرك في كل شيء) (٣).
وقال الزجاج: (﴿تَبَارَكَ﴾ تفاعل من البركة، كذلك يقول أهل اللغة) (٤).
وكذلك روي عن ابن عباس: (ومعنى: البركة الكثرة في كل خير، وقال في موضع آخر: (﴿تَبَارَكَ﴾ تعالى وتعاظم) (٥).
وقال أصحاب المعاني: (﴿تَبَارَكَ اللَّهُ﴾ أي: ثبت ما به استحق التعظيم فيما لم يزل ولا يزال) (٦)، وأصل الحرف من الثبوت والدوام، وقد ذكرنا هذا في سورة الأنعام عند قوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: ٩٢].
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩، وانظر: "العين" ٥/ ٣٦٨، و"الجمهرة" ١/ ٣٢٥، و"الصحاح" ٤/ ١٥٧٥، و"المجمل" ١/ ١٢١، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٣٠، و"المفردات" ص ١١٩، و"اللسان" ١/ ٢٢٦ (برك).
(٢) "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩.
(٣) "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩، وفي "الزاهر" ١/ ٥٣، قال ابن الأنباري: (فيه قولان: قال قوم: معنى تبارك: تقدس أي: تطهير، والقدس عند العرب: الطهر، وقال قوم: معنى تبارك اسمك: تفاعل من البركة أي: البركة تُكسب وتنال بذكر اسمك) اهـ.
(٤) "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩، ولم أقف عليه في "معانيه".
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤٦، والبغوي ٣/ ٢٣٦، وابن الجوزي ٣/ ٢١٤، و"الخازن" ٢/ ٢٤٠، و"تنوير المقباس" ٢/ ١٠٠.
(٦) ذكره البغوي ٣/ ٢٣٦، و"الخازن" ٢/ ٢٤٠ عن المحققين.
177
٥٥ - قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾، التضرع: التذلل والتخشع، وهو إظهار الذل الذي في النفس من قولهم: ضرع فلان لفلان، وتضرع له إذا ما تخشع له وسأله أن يعطيه، ومضى الكلام في هذا في سورة الأنعام عند قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: ٤٢]، والخُفية: خلاف العلانية، وهو من أخفيت الشيء إذا سترته (١)، ويقال: خِفية أيضًا بالكسر (٢) وقد قرئ بالوجهين (٣).
قال الزجاج: (﴿تَضَرُّعًا﴾ تملقًا، وحقيقته: أن يدعوه خاضعين متعبدين) (٤).
قال (٥) أهل العلم: والسنة (٦) والأدب في الدعاء أن يكون خفيًا لهذه الآية، ولما روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "خير الدعاء ما خفي" (٧).
(١) في (أ): (أي سترته).
(٢) انظر: "العين" ٤/ ٣١٣، و"الجمهرة" ١/ ٦١٧ - ٦١٨، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٠٧٠، و"الصحاح" ٦/ ٢٣٢٩، و"المجمل" ٢/ ٢٩٧، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٠٢، و"المفردات" ص ٢٨٩، و"اللسان" ٢/ ١٢١٧ (خفي).
(٣) قرأ عاصم في رواية أبي بكر هنا وفي الأنعام آية ٦٣: ﴿وَخُفْيَةً﴾ بكسر الخاء، وقرأ الباقون بضمها في السورتين، وهما لغتان مشهورتان. انظر: "السبعة" ص ٢٨٣، و"المبسوط" ص ١٧٠، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٠، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٩، وانظر: في "توجيه القراءات "الحجة" لأبي علي ٤/ ٢٩ - ٣٠، و"معاني القراءات" ١/ ٣٦٢، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٩، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤١، ولابن زنجلة ص ٢٥٥، و"الكشف" ١/ ٤٣٥.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٤، وفيه: (قال قوم: تضرعوا تملقًا - حقيقته..).
(٥) لفظ: (قال) ساقط من (ب).
(٦) انظر: "الفتاوى" ١٥/ ١٠ - ٢٨، و"بدائع التفسير" ٢/ ٢١٩ - ٢٣٨.
(٧) لم أقف عليه بهذا اللفظ بعد طول بحث، وروي وكيع في "الزهد" ١/ ٣٤١ =
178
وقال أيضًا لقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء: "إنكم لستم تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، إنه معكم" (١).
وقال الحسن: (إن الله يحب القلب النقي والدعاء الخفي، ولقد أثنى علي زكريا فقال: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [مريم: ٣]، وبين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء و (٢) ما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ (٣). وقال الزجاج في قوله ﴿وَخُفْيَةً﴾ (أي: واعتقدوا عبادته في أنفسكم؛ لأن الدعاء معناه: العبادة) (٤).
= رقم ١١٨، وابن أبي شيبة ٦/ ٨٦ (٢٩٦٥٤)، وأحمد في "المسند" ٣/ ٤٤، و"الزهد" ص ١٦، وابن حبان في "صحيحه" ٢/ ١٢٥ رقم ٧٩٧، وابن السني في "القناعة" ص ٢٦ - ٢٧ رقم ٢٨ - ٢٩ بسند ضعيف عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي - ﷺ - قال: "خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي" اهـ. وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة لين الحديث، كثير الإرسال. انظر: "تهذيب التهذيب" ٣/ ٦٢٧، وانظر: "المفاسد الحسنة" للسخاوي ص ٢٤٧.
(١) أخرجه البخاري رقم (٢٩٩٢) كتاب الجهاد والسير، باب: ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ومسلم كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر رقم (٢٧٠٤)، عن أبي موسى الأشعري قال: (كنا مع النبي - ﷺ - في سفر فجعل الناس يجهرون التكبير فقال النبي - ﷺ -: "أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعا قريبًا وهو معكم") اهـ.
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٣) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص ٤٥ - ٤٦، والطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٠٦، ٢٠٧ بسند جيد، وأخرجه وكيع في "الزهد" ٢/ ٦١٦، وابن أبي شيبة ٦/ ٨٧ (٢٩٦٦٢)، بلفظ: (كانوا يجتهدون في الدعاء ولا تسمع إلا همسًا) اهـ.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٤، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٣.
179
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ أي: المجاوزين ما أمروا به، قال الكلبي: (﴿لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ بالجهر في الدعاء) (١).
وقال ابن جريج: (من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء) (٢).
٥٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: ٥٦]. قال عطاء، عن ابن عباس: (يريد: بالشرك بالله، وقطع الأرحام، وتكذيب النبي - ﷺ - بعد توحيد الله والتصديق بما جاء به النبي - ﷺ -) (٣).
قال المفسرون (٤): (الإفساد في الأرض: العمل فيها بالمعاصي، وسفك الدماء، وقوله تعالى: ﴿بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ أي: بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسول، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله عز وجل)، وهذا معنى قول الحسن، والسدي، والضحاك (٥).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٥، وابن الجوزي ٣/ ٢١٥.
(٢) أخرجه الطبري ٨/ ٢٠٧ بسند جيد، ومحبة الله تعالى لا تنتفي عمن يجهر بالدعاء لمجرد الجهر، فالدعاء مأمور به مطلقًا ﴿الله لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ في كل شيء دعاء كان أو غيره، وأعظمهم الذين يدعون معه غيره أو يعتدون بترك التضرع والدعاء، وكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله، والدعاء خفية أحب إلى الله تعالى وأفضل، وفيه فوائد عظيمة وكثيرة، ذكرها ابن القيم كما في "بدائع التفسير" ٢/ ٢١٩ - ٢٣٣، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٧٨٤، والقرطبي ٧/ ٢٢٣.
(٣) في "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٠ نحوه.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٧، والسمرقندي ١/ ٥٤٧، والماوردي ٢/ ٢٣١.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٥، والبغوي ٣/ ٢٣٨، و"الخازن" ٢/ ٢٤١ عن الحسن والسدي والضحاك والكلبي، وذكره الماوردي ٢/ ٢٣١، عن الحسن والكلبى، وذكره ابن عطية ٥/ ٥٣٢، عن الضحاك.
180
وقال عطية: (معناه: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم) (١)، وطى هذا معنى قوله ﴿بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ أي: بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾، معنى الخوف (٣) الانزعاج لما لا يؤمن من المضار، ومعنى الطمع (٤) توقع المحبوب، قال ابن عباس: (﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا﴾ من عقابه، ﴿وَطَمَعًا﴾ في ثوابه) (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. قال الفراء: (رأيت العرب (٦) تؤنث القريبة في النسب لا يختلفون فيها، فإذا قالوا: دارك منا قريب، أو فلانة منك قريب، في القرب والبعد ذكروا وأنثوا، وذلك أن
(١) ذكره الثعلبي ١٩١ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٥، والبغوي ٣/ ٢٣٨.
(٢) والآية عامة في كل فساد قل أو كثر بعد أن أصلح الله خلق الأرض على الوجه الملائم لمنافع الخلق وما جاء من تعيين نوع الفساد والإصلاح ينبغي أن يحمل على التمثيل وهو قول جمهور المحققين.
انظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٥٣٢، والقرطبي ٧/ ٢٢٦، و"بدائع التفسير" ٢/ ٢٣٤، و"البحر" ٤/ ٣١١.
(٣) انظر: "العين" ٤/ ٣١٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٦٦، و"الصحاح" ٤/ ١٣٥٨، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٣٠، و"المفردات" ص ٣٠٣، و"اللسان" ٢/ ١٢٩١ (خوف).
(٤) انظر: "العين" ٢/ ٢٧، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢١٨، و"الصحاح" ٣/ ١٢٥٤، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤٢٥، و"المفردات" ص ٥٢٤، و"اللسان" ٥/ ٢٧٠٤ (طمع).
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٥، وهو بدون نسبة في عامة كتب التفسير.
انظر: الطبري ٨/ ٢٠٧، والسمرقندي ١/ ٥٤٧، والماوردي ٢/ ٢٣١، والبغوي ٣/ ٢٣٨، وابن الجوزي ٣/ ٢١٦.
(٦) في (ب): (القراء)، وهو تحريف.
181
القرب إذا لم يكن في النسب كان في معنى المكان، فكأنه في تأويل هي: في مكان قريب، فجعل القريب خلفًا من المكان، كما قال الله (١) تعالى: ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [هود: ٨٣] وقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب: ٦٣]، ولو أنث ذلك فبُني على بعدت فهي بعيدة، وقربت فهي قريبة، كان صوابًا حسنًا. وقال عروة بن حزام (٢):
عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ فَتدْنُو ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ (٣)
فمن أنَّث جمع وثنى، ومن ذكر لم يُثنِّ ولم يجمع؛ لأنه ذهب إلى تأويل المكان) (٤)، وهذا الذي ذكره الفراء هو مذهب أهل الكوفة، وبه قال ابن السكيت.
أخبرني العروضي (٥)، قال: أخبرني الأزهري عن المنذري (٦) عن الحراني (٧) عن ابن السكيت قال: (تقول العرب: هو قريب مني، وهما
(١) لفظ: (الله) ساقط من (ب).
(٢) عُروة بن حِزام بن مُهاجر العُذْرى، شاعر إسلامي أحد المتيمين الذين قتلهم الهوى، وعامة شعره في بنت عمه عفراء، توفي سنة ٣٠ هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص ٤١٣، و"الأغاني" ٢٤/ ١٢٢، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي ١/ ٤١٥، و"الأعلام" ٤/ ٢٢٦.
(٣) الشاهد في "ديوانه" ص ٥، و"معاني الفراء" ١/ ٣٨١، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٨، و"الأغاني" ٢٤/ ١٢٩، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٦، و"الخصائص" ٢/ ٤١٢، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٣٢، وابن عطية ٥/ ٥٣٤، وابن الجوزي ٣/ ٢١٦، و"اللسان" ٦/ ٣٥٦٦ (قرب)، و"البحر المحيط" ٤/ ٣١٣، و"الدر المصون" ٥/ ٣٤٦.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٨١.
(٥) العروضي: هو أحمد بن محمد الصفار. تقدمت ترجمته.
(٦) المنذري: هو محمد بن أبي جعفر الهروي. تقدمت ترجمته.
(٧) الحراني: هو عبد الله بن الحسن الأموي. تقدمت ترجمته.
182
قريب مني، وهم قريب (١) مني، وكذلك المؤنث، توحد قريبًا وتذكره؛ لأنه وإن كان فاعلًا فهو في تأويل (هو في مكان قريب مني)، وقد يجوز قريبة وجيدة بالهاء تبنيها على قربت وبعدت) (٢).
وأما مذهب البصريين فقال الزجاج: (إنما قيل: ﴿قَرِيبٌ﴾ لأن الرحمة والغفران والعفو في معنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي) (٣).
ونحو هذا قال الأخفش قال: الرحمة بمعنى الإنعام (٤)، فلذلك ذكر.
ومثل هذا قال سعيد بن جبير: (الرحمة هاهنا: الثواب) (٥).
وأما مذهب أهل الكوفة فقال الزجاج (٦): (وهو غلط؛ كل ما قرب في مكان أو نسب فهو جار على ما يصيبه من التأنيث والتذكير) (٧). والذي قاله الفراء هو مذهب أبي عمرو بن العلاء (٨)، وقول الكسائي (٩) وأبي عبيدة (١٠).
(١) في (أ): (قرايب)، وهو تحريف.
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٦ (قرب)، وانظر: "إصلاح المنطق" ص ١١٩.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٤.
(٤) في "معاني الأخفش" ٢/ ٣٠٠، وكذلك عند الزجاج عن الأخفش (بمعنى المطر).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٥، والبغوي ٣/ ٢٣٨، و"الخازن" ٢/ ٢٤٢، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٣١٣.
(٦) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٥.
(٨) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩١ ب، والبغوي ٣٣/ ٢٣٨، وانظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٥.
(٩) لم أقف عليه.
(١٠) في (ب): (أبو عبيد)، وفي مجاز القرآن ١/ ٢١٦ قال: (هذا موضع يكون في =
183
وقال النضر بن شميل (١): (الرحمة مصدر، ومن حق المصادر التذكير كقوله: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾) (٢) [البقرة: ٢٧٥]، وهذا راجع إلى قول الزجاج؛ لأنه الموعظة أريد بها الوعظ، فلذلك ذكر (٣) كما قال:
إنَّ السَّمَاحَةَ والمُرُؤءَةَ ضمِّنا (٤)
قيل: أراد بالسماحة السخاء، وبالمروءة الكرم (٥).
= المؤنثة والثنتين والجميع منها بلفظ واحد ولا يدخلون فيها الهاء لأنه ليس بصفة، ولكنه ظرف لهن، وموضع والعرب تفعل ذلك في قريب وبعيد، فإذا جعلوها صفة في معنى مقتربة قالوا: هي قريبة، وهما قريبتان، وهن قريبات) اهـ.
(١) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩١ ب، والواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٦، والرازي ١٤/ ١٣٧، والقرطبي ٧/ ٢٢٧، وأبو حيان في "البحر" ٣١٣، والسمين في "الدر" ٥/ ٣٤٤.
(٢) لفظ: (من ربه) ساقط من (أ).
(٣) في (ب): (ذكرا).
(٤) الشاهد لزياد الأعجم في "ديوانه" ص ٥٤، و"معاني الفراء" ١/ ١٢٨، و"الشعر والشعراء" ص ٢٨٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٧، و"ذيل أمالي القالي" ٣/ ٩، و"المدخل" للحدادي ص ١٦٨، و"تفسير الثعلبي" ١٩١ ب، والرازي ١٤/ ١٣٧، وعجزه:
قَبْرًا بِمَرْوَ عَلَى الطَرِيقِ الوَاضِحِ
والشاهد قوله (ضمنًا) والقياس ضمنتا؛ لأن خبر عن مؤنث وهو السماحة والمروءة.
(٥) ذكر هذه الوجوه في الآية عامة أهل اللغة والتفسير. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٦١٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٨٧، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤٧، و"الخصائص" ٢/ ٤١١ - ٤١٢، و"المشكل" ١/ ٢٩٤ وقد أطال ابن القيم -رحمه الله تعالى- كما في "بدائع التفسير" ٢/ ٢٣٢ - ٢٥٨، فذكر اثني عشر مسلكًا في الإخبار عن الرحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله: (قريب) وهو مذكر، وبين ما فيها من الصحيح والمقارب والسقيم، واختار (إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر تبعًا له، ومعنى من "معانيه"، فالأصل: إن =
184
٥٧ - قوله تعالى: ﴿وهُوَ الذي يرسل الرياح نشرًا (١) بين يدي رحمته﴾، مضى الكلام في الرياح في سورة البقرة (٢) بأبلغ الاستقصاء، فأما قوله: ﴿نُشْرًا﴾. يقال (٣) أنشر الله الريح مثل أحياها فنشرت هي أي: حييت والإنشار بمعنى: الإحياء يستعمل في الريح، وكذلك لفظ الإحياء (٤).
قال المرّار (٥):
وَهَبَّتْ لَهُ رِيحُ الجنُوبِ وأحْيَيَتْ لَهُ رَيْدَةُ يُحْي المِيَاةَ نَسِيمُهَا (٦)
= الله قريب من المحسنين، وإن رحمة الله قريبة من المحسنين، فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الوجود، وسوغ ذلك ظهور المعنى والرحمة صفة قائمة بالموصوف لا تفارقه، وقرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى، وقربه يستلزم قرب رحمته وهما متلازمان، ففي حذف التاء التأكيد على أن ذلك يستلزم القربين قربه وقربه رحمته، والأعم لا يستلزم الأخص بخلاف قربه، فإنه لما كان أخص، استلزم الأعم هو قرب رحمته، ففي العدول عن قريبة إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا بالله).
(١) في (ب): ﴿بُشْرًا﴾، وهي قراءة سبعية كما في "السبعة" ص ٢٨٣ وستأتي.
(٢) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٠١ أ.
(٣) في (ب): (فيقال).
(٤) انظر: "العين" ٦/ ٢٥١، و"المنجد" لكراع ص ٣٣٩، و"الجمهرة" ٢/ ٧٣٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٧١، و"الصحاح" ٢/ ٨٢٧، و"المجمل" ٣/ ٨٦٨، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤٣٠، و"المفردات" ص ٨٠٥، و"اللسان" ٧/ ٤٤٢٣ (نشر).
(٥) المَرَّارُ بن سعيد بن حبيب الفقْعسي، أبو حسان، شاعر أموي مكثر. انظر: "الشعر والشعراء" ص ٤٦٧، و"الأغاني" ١٠/ ٣٦٦، و"معجم المرزباني" ص ٣٠٤، و"الأعلام" ٧/ ١٩٩.
(٦) الشاهد في "الحجة" لأبي علي ٤/ ٣٥ - ٣٦، و"تفسير ابن الجوزي" ٣/ ٢١٧، و"اللسان" ٣/ ١٧٩٠ (ريد)، و"البحر المحيط" ٤/ ٣١٦. وَرْيدَة أي: ريح لينة. انظر: "اللسان" ٣/ ١٧٩٠ (ريد).
185
ومما يدل على ذلك أن الريح قد وصفت بالموت كما وصفت بالحياة. قال:
إني لأَرْجُو أَنْ تَمُوتَ الرِّيحُ فَأُقْعُدُ اليَوْمَ وأَسْتَرِيحُ (١)
فقوله: ﴿نُشُرًا﴾ جمع: نشُور مثل رَسُول ورُسُل، والنشور بمعنى: المنتشر؛ كالرَّكوب معنى: المركوب، فكأن المعنى: رياح منتشرة، فمن قرأ ﴿الرِّيَاحَ﴾ (٢) بالجمع حسن وصفها بقوله: ﴿نُشُرًا﴾ لأنه وصف الجمع بالجمع، ومن قرأ ﴿الرِّيح﴾ واحدة ﴿نُشُرًا﴾ جمعًا كقراءة ابن كثير، فإنه أراد بالريح الكثرة كقولهم: كثر الدرهم والدينار، والشاء (٣) والبعير، وكقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢] ثم قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فلما كان المراد بالريح الجمع وصفها بالجمع، كقول عنترة:
فِيهَا اثْنَتَانِ وأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً سُودًا كَخَافِيَةِ الغُرابِ الأَسْحَمِ (٤)
(١) لم أهتد إلى قائله، وهو في "الحجة" لأبي علي ٤/ ٣٦، و"تفسير ابن الجوزي" ٣/ ٢١٧، و"اللسان" ٧/ ٤٢٩٥ (موت) و٧/ ٤٤٢٣ (نشر)، و"البحر المحيط" ٤/ ٣١٧، و"الدر المصون" ٥/ ٣٤٨.
(٢) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: ﴿الرَّيَاحَ﴾ على التوحيد، وقرأ الباقون: ﴿الرِّيَاحَ﴾ بالجمع، وقرأ عاصم ﴿بُشْرًا﴾ بضم الباء وسكون الشين، وقرأ ابن عامر: ﴿نُشْرًا﴾ بضم النون وسكون الشين، وقرأ حمزة والكسائي: ﴿نَشْرًا﴾ بفتح النون، وسكون الشين، وقرأ الباقون: ﴿نُشُرًا﴾ بضم النون والشين. انظر: "السبعة" ص ٢٨٣، و"المبسوط" ص ١٨١، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٠، و"التيسير" ص ١١٠، و"النشر" ٢/ ٢٦٩ - ٢٧٠.
(٣) في (أ): (الشاة)، وأصل النص في "الحجة" لأبي علي ٤/ ٢٣ وفيه: الشاء.
(٤) "ديوانه" ص ١٧، و"الحجة" لأبي علي ٤/ ٣٣، و"الدر المصون" ٥/ ٣٥٠، والشاهد من معلقته المشهورة قال النحاس في "شرح المعلقات" ٢/ ١٣ - ١٤: (الحلوبة المحلوبة يستعمل في الواحد والجميع على لفظ واحد، والخوافي أواخر =
186
وقرأ ابن عامر: ﴿نُشْرًا﴾ خفف الشين كما يقال: كُتْبٌ ورُسْل، وقرأ حمزة والكسائي ﴿نَشْرًا﴾؛ والنشر مصدر نشرت الشيء ضد طويته، ويراد بالمصدر هاهنا المفعول، والرياح كأنها كانت بانقطاعها كالمطوية فأرسلها الله تعالى منشورة بعد إنطوائها، فقوله: ﴿نَشْرًا﴾ مصدر حال من الرياح، ويجوز أن يكون النشر هاهنا الذي هو الحياة من قولهم: أنشر الله الميت فنشر. قال الأعشى:
يَا عَجَبَا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ (١)
فإذا حملته على ذلك -وهو الوجه- كان المصدر يراد به الفاعل، كما تقول: أتاني ركضًا أي: راكضًا، ويجوز أن يكون انتصاب قوله: ﴿نَشْرًا﴾ انتصاب المصادر لا الحال من باب (صُنْعَ الله)؛ لأنه إذا قال: ﴿يُرْسِلُ اَلريَاحَ﴾ دل هذا الكلام على نشر الريح نشرًا، وقرأ عاصم ﴿بُشْرًا﴾ جمع بشيرًا على (بُشْر) من قوله: ﴿يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم: ٤٦] أي: تبشر بالمطر والرحمة. قال الفراء: (النُشر من الرياح الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب) (٢). قال ابن الأنباري: (واحدها نشور، وأصل هذا من النَّشْر
= ريش الجناح مما يلي الظهر، والأسحم: الأسود) اهـ. وانظر: شرحه في "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص ٣٠٥.
(١) "ديوانه" ص ٩٣، و"مجاز القرآن" ٢/ ٧٠، و"الجمهرة" ٢/ ٧٣٤، و"الاشتقاق" ص ٢٤٢، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٧٠، و"الصحاح" ٢/ ٨٢٨، و"الخصائص" ٣/ ٣٢٥، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤٣٠، و"اللسان" ٧/ ٤٤٢٣ (نشر)، و"الدر المصون" ٥/ ٣٤٧ وصدره: حتَى يقول النَّاسُ مِمَّا رَأَوا. وفي "حاشية الديوان": (الناشر الذي بعث من قبره، والمعنى: وعندئذٍ يتعجب الناس مما يرون فيقولون: يا عجبا للميت الذي بعث من جديد) اهـ.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٨١.
187
وهو الرائحة الطيبة) (١). ومنه قول امرئ القيس:
............ ونَشْرَ القُطُرْ (٢)
وقال أبو عبيدة: (﴿نُشُرًا﴾ أي: متفرقة من كل جانب) (٣).
قال أبو بكر: (هي المنتشرة الواسعة الهبوب، والنشر: التفريق، ومنه نشر الثوب، ونشر الخشبة بالمنشار، والنشر المنتشر) (٤).
وقرأ حمزة والكسائي: ﴿نَشْرًا﴾ يجوز أن يكون من باب حذف المضاف على معنى: ذوات نشر أي: ريح طيبة (٥).
وقوله تعالى: ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾، قال ابن عباس: (يريد: بين يدي المطر) (٦).
(١) لم أقف عليه.
(٢) "ديوانه" ص ٦٩، و"المنجد" لكراع ص ٣٣٩، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٧١، و"الصحاح" ٢/ ٨٢٧، و"اللسان" ٧/ ٤٤٢٣ (نشر)، والخزانة ٩/ ٢٣١ وتمامه:
كَأنَّ المُدَامَ وصَوْبَ الغَمَام... ورِدحَ الخُزَامىَ........
وفي "حاشية الديوان": (المدام: الخمر، وصوب الغمام: ماء السحاب، والخزامى: خيري البر وهو نبت حسن الريح، ونشر القطر: ريح العود الذي يتبخر به) اهـ.
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ٢١٧، ومثله قال اليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٤٦.
(٤) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٢١٨، وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣٠١، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٨، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٥، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢٠٩، و"نزهة القلوب" للسجستاني ص ٤٥٤، و"معاني النحاس" ٣/ ٤٤.
(٥) ما تقدم في توجيه القراءات هو قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٣٢ - ٣٩، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٠٩، و"إعراب القراءات" ١/ ١٨٦، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٧، ولابن زنجلة ص ٢٨٥، و"الكشف" ١/ ٤٦٥.
(٦) لم أقف عليه.
188
وقال الكلبي: (قدّام مطره) (١).
وقال أبو إسحاق: (أي: بين يدي المطر الذي هو رحمته) (٢)
قال أبو بكر: (اليدان تستعملهما العرب في المجاز على معنى التقدمة، يقال: تكون هذه الفتن بين يدي الساعة، يريدون قبيل (٣) أن تقوم، تشبيهًا وتمثيلاً، إذ كانت يد الإنسان تتقدمانه، والرياح تتقدم المطر وتؤذن به) (٤).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا﴾، يقال: أقلَّ فلان الشيءَ أي (٥) حَمَله، وكذلك استقَلَّه (٦)، والمعنى: حتى إذا حملت هذه الرياح سحابًا ثقالًا بما فيها من الماء، قاله المفسرون (٧).
وقوله تعالى: ﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ أي: سقنا السحاب، والسحاب لفظه مذكر وإن كان جمع سحابة، لذلك ذكَّر الكناية، وهو من باب تمر وتمرة وجَوْز وجَوْزة (٨).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٦، وهذا قول أكثر المفسرين. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢١٠، والسمرقندي ١/ ٥٤٧، والبغوي ٣/ ٢٣٨، وابن عطية ٥/ ٥٣٩.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٥، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٥.
(٣) في (ب): (قبيل أن يكون تقوم)، وهو تحريف.
(٤) ذكره الخازن في "تفسيره" ٢/ ٢٤٣، ونحوه قال الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢١٠.
(٥) في (ب): (إذا حمله).
(٦) انظر: "المفردات" ص ٦٨١، و"اللسان" ٦/ ٣٧٣٨ (قلل).
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢١٠، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٥، و"النحاس" ٣/ ٤٥، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٤٧.
(٨) أصل السَّحْب الجَرُّ، ومنه السحاب لجره الماء ولجر الريح له وانسحابه في الهواء =
189
﴿لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾. قال ابن عباس: (يريد: ليس فيه نبات) (١). وقال الكلبي: (إلى مكان لا ينبُت) (٢).
وقال أبو بكر: (أي: سقنا السحاب لبلدِ وإلى بلدٍ محتاج إلى المطر لانقطاعها عنه) (٣). فمنهم من يجعل اللام بمعنى إلى، كما يقال: هديته للدين وإلى الدين، ومنهم من يجعله لام أجل فيقول: سقناه لأجل بلدٍ ميتٍ (٤)، وأما البلد فكل موضع من الأرض عامرٍ أو غير عامر خالٍ أو مسكونٍ فهو بلد، والطائفة منه (بَلْدة)، والجميع البلاد، والفلاة تسمى: بلدة (٥)؛ قال الأعشى (٦):
= والجمع سحاب وسُحُب وسحائب. انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٣٧، و"الصحاح" ١/ ١٤٦، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١٤٢، و"المفردات" ص ٣٩٩، و"اللسان" ٤/ ١٩٤٨ (سحب).
(١) لم أقف عليه.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠١.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٧، وابن الجوزي ٣/ ٢١٩.
(٤) انظر: "كتاب اللامات" للزجاجي ص ١٤٤، وللهروي ص ٢٣، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣١٧: (اللام في ﴿لِبَلَدٍ﴾ عندي لام التبليغ كقولك قلت لك) اهـ.
(٥) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٨٣.
وانظر: "العين" ٨/ ٤٢، و"المنجد" ص ١٤٣، و"الجمهرة" ١/ ٣٠١، و"الصحاح" ٢/ ٤٤٩، و"المجمل" ١/ ١٣٤، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٩٨، و"المفردات" ص ١٤٢، و"اللسان" ١/ ٣٤٠ (بلد).
(٦) الشاهد في "ديوانه" ص ١٤٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٨٣، و"تفسير الرازي" ١٤/ ١٤٢، و"اللسان" ١/ ٣٤١ (بلد)، و"الدر المصون" ٥/ ٣٥٢، وهو من معلقة أعشى قيس المشهورة، وفي "حاشية الديوان": (مثل ظهر الترس: شبهها بظهر الدرع في انبساطها وإقفارها لأنها لا شيء فوق ظهرها، وحافاتها: نواحيها، والزجل: الأصوات المختلطة) اهـ.
190
وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ للجِنِّ بِاللَّيْلِ في حَافَاتِهَا (١) زَجَلُ
وقوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ﴾، قال الزجاج وابن الأنباري (٢): (جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء، وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء؛ لأن السحاب آلة لإنزال الماء) (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾. الظاهر أن الكناية تعود إلى الماء؛ لأن إخراج الثمرات كان بالماء، وقال الزجاج: (وجائز أن يكون فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات؛ لأن البلد ليس يخص به هاهنا بلد دون غيره) (٤).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى﴾ أي: مثل ذلك الإخراج الذي أشرنا إليه نخرج الموتى. وقال أبو بكر: (أي: نحيي الموتى مثل ذلك الإحياء الذي وصفناه في البلد الميت، فإحياء الأموات بعد أن صاروا رفاتا في التراب كإحياء الأرض بالنبات) (٥).
(١) في (أ): (في حافتها).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٧، وابن الجوزي ٣/ ٢١٩، والرازي ١٤/ ١٤٢، و"الخازن" ٢/ ٢٤٣.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٥، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٥، والسمرقندي ١/ ٥٤٨، والظاهر عودة الضمير إلى أقرب مذكور وهو بلد أي أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء، أفاده أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣١٧ - ٣١٨.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٥، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٥، والأول أظهر وهو اختيار الزجاج في "معانيه"، والسمرقندي ١/ ٥٤٨، وابن عطية ٥/ ٥٤٠، ٥٤١، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٣٥١: (الأحسن هو العود على الماء ولا ينبغي أن يعدل عنه) اهـ.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٧، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٦، و"بدائع التفسير" ٢/ ٢٥٨.
191
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: كي تتعظوا) (١).
وقال الزجاج: (أي: لعلكم بما بينا (٢) لكم تستدلون على توحيد الله عز وجل وأنه يبعث الموتى. و (لعل) ترجٍ، والله يعلم أيتذكرون أم لا، وإنما خوطب العباد على قدر علمهم وما يرجوه بعضهم من بعض) (٣)، وقد مضت هذه المسألة في سورة البقرة (٤).
٥٨ - وقوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ الآية. قال المفسرون: (هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض العذبة التربة وبالأرض السبخة الملحة)، وهو قول ابن عباس (٥) ومجاهد (٦) والحسن (٧) وقتادة (٨) والسدي.
قال أبو بكر: (فشبه المؤمن الذي إذا سمع القرآن فوعاه وعقله وانتفع به فبان أثره عليه بالبلد الطيب؛ إذ كان البلد الطيب يُمرع ويُخصب ويحسن
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠١.
(٢) في (ب): (لما بينا).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٦، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٦.
(٤) انظر: "البسيط" البقرة: ٢١.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢١٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٠٣ من عدة طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد والسدي.
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٣٩، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٧٣.
(٧) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٢٥، والقرطبي ٤/ ٢٣١، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٧، والماوردي ٢/ ٢٣٢، عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي.
(٨) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٣٢٠، والطبري ٨/ ٢١٢ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٧٣.
192
أثر المطر فيه، وشبه الكافر الذي يسمع القرآن ولا يؤثر فيه أثرًا محمودًا بالبلد الخبيث؛ إذ كان لا يمرع ولا يخصب ولا يتبين أثر المطر فيه) (١).
وقال الحسين بن الفضل: (شبه الله المؤمن والكافر بالأرض، وشبه نزول القرآن بالمطر، وعلى قدر طيبة (٢) التربة ورداءتها زكاء النبت وزيادته) (٣). وهذا الذي ذكره أبو بكر والحسين هو (٤) معنى قول قتادة (٥).
وقال الكلبي: (هذا مثل للمؤمن والكافر، المؤمن يعمل عمله طوعًا لله بإذن ربه من غير كد ولا عناء، والكافر لا يعمل عمله إلا في شدة وكدّ لغير الله) (٦)، وفي قوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ دليل على أن ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون ذلك إلا بتوفيق من (٧) الله تعالى.
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾. قال الكلبي: (﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾ السبخة من الأرض) (٨). قال الفراء: (يقال: خَبُث الشيء يَخْبثُ خُبْثًا وخَبَاثة) (٩).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٧، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٠ عن المفسرين.
(٢) في (ب): (طيب).
(٣) لم أقف عليه، وانظر: "الأمثال" للحسين بن الفضل البجلي ص ٤٤.
(٤) في (أ): (وهو).
(٥) سبق تخريجه.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠١، وذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٢٥.
(٧) لفظ: (من) ساقط من (ب).
(٨) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠١، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٨.
(٩) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ١٤٥، عن الفراء ولم أقف عليه في "معانيه"، والخَبيث والخُبْث، الرِديء خلاف الطيب، وفي "تهذيب اللغة" ١/ ٩٧٣، عن الليث قال: (خَبُث الشيء يخبث خبْثًا فهو خبيث، وبه خُبْث وخباثة، وأخبث فهو مُخْبِث إذا صار ذا خُبْث وشر) اهـ. وانظر: "العين" ٤/ ٢٤٨ - ٢٤٩، و"الجمهرة" =
193
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا نَكِدًا﴾ النكد العسر الممتنع (١) من إعطاء الخير على جهة البخل.
وقال الفراء: (النَّكَد المصدر يقال: نَكِد نَكَدًا فهو نَكِدٌ) (٢).
وقال الليث: (النكد الشؤم واللؤم وقلة العطاء وألا يهنأه من يعطاه، ورجل أنَكَد ونَكِد) (٣). وأنشد:
وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَهُ طَيِّبًا لاَ خَيرْ في المَنْكُودِ والنَّاكِدِ (٤)
الأزهري: (المنكود: العطاء النزر القليل) (٥).
وقال أبو بكر: (النكد معناه في اللغة: العسر المبطي البعيد الخير، وهو في صفة البلد) (٦). وأنشد غيره:
= ١/ ٢٥٨، و"الزاهر" ٢/ ١٣٩، و"الصحاح" ١/ ٢٨١، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٣٨، و"المفردات" ص ٢٧٢، و"اللسان" ٢/ ١٠٨٨ (خبث).
(١) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٦٨٠، و"الصحاح" ٢/ ٥٤٥، و"المجمل" ٣/ ٨٨٤، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤٧٥ - ٤٧٦، و"المفردات" ص ٨٣٣ (نكد).
(٢) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٨٢.
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٦٠، وانظر: "العين" ٥/ ٣٣١ (نكد) وقوله (من يعطاه) الأولى ما يعطاه.
(٤) لم أعرف قائله، وهو في "العين" ٥/ ٣٣١، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢١١، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٦٠، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٣٢، وابن عطية ٥/ ٥٤٢، والرازي ١٤/ ١٤٥، و"اللسان" ٨/ ٤٥٣٨ (نكد)، و"البحر المحيط" ٤/ ٣١٥، و"الدر المصون" ٥/ ٣٥٢.
(٥) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٦٠، وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٦: (النَكِد في اللغة: النزر القليل) اهـ. ونحوه في "مجاز القرآن" ١/ ٢١٧، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، و"نزهة القلوب" ص ٤٤٥، و"تفسير المشكل" ص ٨٥.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٨ مع إنشاد الشاهد.
194
لاَ تُنْجِزُ الوعْدَ إنْ وعَدْتَ وإن أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تَافِهًا نكدَا (١)
فقوله: نكدًا نُصب على الحال، وكذلك في الآية كما تقول: لا يخرج فلان إلا راكبًا (٢).
قال قتادة وأبو روق (٣): (﴿إِلَّا نَكِدًا﴾ إلا عسرًا).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ مضى معنى تصريف الآيات في مواضع.
وقوله تعالى: ﴿لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾. قال عطاء: (يريد لنعم الله، ويوحدونه، ويطيعون أمره) (٤).
وقال بعض أهل النظر: (ذكر الشكر في آخر الآية، إشارة إلى نعمتين مذكورتين في الآية للمؤمن، وهو أن الله تعالى لم يجعله كالبلد الخبيث، والثاني: أنه أذن له في الإيمان والطاعات كما أذن للبلد الطيب في إخراج النبات) (٥).
٥٩ - قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
(١) لم أعرف قائله. وهو في "مجاز القرآن" ١/ ٢١٧، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢١١، وابن عطية ٥/ ٥٤٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٠، و"اللسان" ١/ ٤٣٦ (تفه)، و"تفسير الخازن" ٢/ ٢٤٤، و"البحر المحيط" ٤/ ٣١٥، و"الدر المصون" ٥/ ٣٥٢.
(٢) النصب على الحال هو قول الأكثر، ويجوز نصبه على المصدر على معنى ذا نكد. انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٢٠، و"المشكل" ١/ ٢٩٥، و"البيان" ١/ ٣٦٦، و"التبيان" ص ٣٨٠، و"الفريد" ٢/ ٣١٩، و"الدر المصون" ٥/ ٣٥٢.
(٣) لم أقف عليه عنهما.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢١٢، والسمرقندي ١/ ٥٤٨، والرازي ١٤/ ١٤٥.
195
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [قرئ: ﴿غَيْرُهُ﴾ (١)، رفعًا وخفضًا (٢)، فأما من خفض فقال الفراء: (يجعل (غير) نعتًا للإله، وقد يرفع فيجعل تابعًا للتأويل في ﴿إِلَهٍ﴾، ألا ترى أن الإله لو نزعت منه (مِن) (٣) كان رفعًا) (٤)، وقال أبو إسحاق: (الرفع على معنى: ما لكم إله غيره ودخلت (مِنْ) مؤكدةَ، و (مِنْ) خفض جعله صفة لإله) (٥) فقد اتفقا كما ترى على أن (غير) في القراءتين صفة لإلهٍ، الرفع على الموضع، والخفض على (٦) اللفظ، ولا بد من إضمار محذوف في الكلام، وهو خبر ﴿ما﴾؛ لأنك إذا جعلت (غير) من صفة الإله، لم يكن للنفي خبر، والكلام لا يستقل بالصفة والموصوف كقولك: (زيد العاقل)، وتسكت حتى تذكر خبره، ويكون التقدير: ما لكم من إله غيره في الوجود، ونحو ذلك لا بد من هذا الإضمار (٧).
(١) في (ب): (قرئ غير).
(٢) قرأ الكسائي ﴿غيرِه﴾ بكسر الراء، وقرأ الباقون برفعها. انظر: "السبعة" ص ٢٨٤، و"المبسوط" ص ١٨١، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٠، و"التيسير" ص ١١٠، و"النشر" ٢/ ٢٧٠.
(٣) لفظ: (من) ساقط من (ب).
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٢.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٨.
(٦) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٢١، و"المشكل" ١/ ٢٩٥، و"البيان" ١/ ٣٦٧، و"التبيان" ص ٣٨٠، و"الفريد" ٢/ ٣٢٠.
(٧) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٤٠، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٣٥٤: (في الخبر وجهان: أظهرهما أنه ﴿لَكُمْ﴾، الثاني: أنه محذوف أي: ما لكم من إله في الوجود أو في العالم غير الله و ﴿لَكُمْ﴾ على هذا تخصيص وتبيين) اهـ.
196
وقال أبو علي: (وجه من قرأ بالرفع قوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٦٢]، فكما أن قوله: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ بدل من قوله: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ﴾، كذلك قوله: ﴿غَيْرُ اللهِ﴾ (١) يكون بدلاً من قوله ﴿مِنْ إِلَهٍ﴾ و (غير) يكون بمنزلة الاسم الذي بعد إلا). وعلى ما ذكره أبو علي (غير) يكون رفعًا بالاستثناء، ولا يحتاج إلى إضمار الخبر، قال: (وهذا الذي ذكرنا أولى أن يُحمل عليه من أن يجعل غير صفةً لإله على الموضع (٢).
٦٢ - قوله تعالى (٣): ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي﴾. وقرأ أبو عمرو (٤) ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾ مخففة من الإبلاغ، وكلا الأمرين قد جاء في التنزيل، فالتخفيف قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ﴾ [هود: ٥٧] والتشديد قوله: ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ (٥) [المائدة: ٦٧].
(١) كذا في "النسخ"، و"الحجة" لأبي علي (٤/ ٤٠) والأولى: كذلك قوله: ﴿غَيْرُهُ﴾ وجاء في سورهِ الأعراف الآية (٣) قوله تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾؛ قرأ حمزة والكسائي ﴿غَيْرِ﴾ خفضًا، وقرأ الباقون رفعًا. انظر: "السبعة" ص ٢٨٤.
(٢) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٤٠، وقال: (لأن كون (إلا) استثناء أعرف وأكثر من كونها صفة، وإنما جعلت صفة على التشبيه بغير) اهـ. وانظر: "الحجة" لأبي علي ٤/ ٢٨٥، و"معاني القراءات" ١/ ٤١٠، و"إعراب القراءات" ١/ ١٨٩، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٧، ولابن زنجلة ص ٢٨٦، و"الكشف" ١/ ٤٦٧.
(٣) تنبيه: (لم يتعرض المؤلف -رحمه الله تعالى- لتفسير باقي الآية: ٥٩ والآيتين: ٦٠ و٦١).
(٤) قرأ أبو عمرو: ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾ بسكون الباء، وتخفيف اللام، وقرأ الباقون بفتح الباء، وتشديد اللام، انظر: "السبعة" ص ٢٨٤، و"المبسوط" ص ١٨١، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٠، و"التيسير" ص ١١١، و"النشر" ٢/ ٢٧٠.
(٥) انظر: "الحجة" لأبي علي ٤/ ٤١ - ٤٢ و"معاني القراءات" ١/ ٤١٠، و"إعراب القراءات" ١/ ١٩٠، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٧، ولابن زنجله ص ٢٨٦، و"الكشف" ١/ ٤٦٧.
197
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾. قال الفراء: (والعرب لا تكاد تقول: نصحتك، إنما يقولون: نصحت لك، فأنا أنصح لك نصيحة ونصاحةً ونصحًا وقد يجوز نصحتك) (١).
قال النابغة:
نصحتُ بَنِي عَوْفٍ فلم يَتَقَبَّلُوا رسولي ولم تَنْجَحْ لديهم رسَائِلي (٢)
ومعنى النصح: إخلاص النية من شائب الفساد في المعاملة وهو خلاف الغش (٣).
قال ابن عباس: (يريد: أدعوكم إلى ما دعاني الله إليه، وأحب لكم ما أحب لنفسي. ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يريد: إني أعلم أن ربي غفور رحيم لمن رجع عن معاصيه، وأن عذابه أليم شديد لمن أصرّ على معاصيه) (٤).
وقال أهل النظر: (في قوله: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ حثٌّ لهم
(١) "معاني الفراء" ١/ ٩٢ فيه: (العرب لا تكاد تقول: شكرتك إنما تقول: شكرت لك ونصحت لك ولا يقولون: نصحتك وربما قيلتا قال النابغة...) اهـ. يقال: نَصَحْتُك نُصْحا ونَصَاحة وهو باللام أفصح، والاسم النصيحة. انظر: "الصحاح" ١/ ٤١٠، و"كتاب الأفعال" للسرقسطي ٣/ ١٩٢.
(٢) "ديوان النابغة الذبياني" ص ١٢٨، و"الصحاح" ١/ ٤١٠، و"تفسير الرازي" ١٤/ ١٥١، و"اللسان" ٧/ ٤٤٣٨ (نصح)، وفي "الديوان" (وصاتي) بدل (رسولي)، و (وسائلي) بدل (رسائلي)، وبنو عرف قومه وهم بنو عوف بن سعد ابن ذبيان. انظر: "نهاية الأرب" ص ٣٤٤.
(٣) انظر: "العين" ٣/ ١١٩، و"الجمهرة" ١/ ٥٤٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨٢، و"المجمل" ٣/ ٧٨٠، و"المقاييس" ٥/ ٤٣٥، و"المفردات" ص ٨٠٨ (نصح).
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٩، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٢ نحوه.
198
على طلب العلم من جهته، وتحذير من مخالفته) (١).
٦٣ - قوله تعالى: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، قال ابن عباس: (يريد: موعظة من الله) (٢).
وقوله تعالى: ﴿عَلَى رَجُلٍ﴾. قال الفراء: (﴿عَلَى﴾ هاهنا بمعنى: (مع) كما تقول: جاءنا الخير على وجهك ومع وجهك، ويجوزان جميعًا) (٣)، وقال ابن قتيبة: (أي: على لسان رجل منكم) (٤).
وقال غيره (٥): (معناه: ذكر من ربكم منزل على رجل)، فـ (على) من صلة الإنزال المحذوف، وعلى هذا دل كلام ابن عباس في هذه الآية؛ لأنه قال في قوله: ﴿عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ﴾: (يريد أوحى الله إليه، وبعثه إليكم لينذركم) (٦). وقوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ أي: يعرفون نسبه، فهو منكم نسبًا.
٦٤ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾، قال ابن عباس: (عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته وشدة بطشه) (٧).
(١) انظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ١٥١.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٩٩، والبغوي ٣/ ٢٤١.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٣، وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢١٤.
(٤) "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، وهو قول مكي في "تفسير المشكل" ص ٨٥.
(٥) الظاهر أنه قول الطبري ٨/ ٢١٤، قال: (أوعجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعظة يذكركم بما أنزل ربكم على رجل منكم) اهـ.
(٦) في "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٢ نحوه.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٠، والبغوي ٣/ ٢٤٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٢١، والرازي ١٤/ ١٥٣، و"الخازن" ٢/ ٢٤٦.
199
وقال الزجاج: (أي: قد عَمُوا عن الحق والإيمان) (١).
قال الليث: (يقال (٢) رجل عمٍ إذا كان أعمى القلب) (٣).
وقال أبو معاذ النحوي (٤): (رجل عم في أمره لا يبصره (٥)، ورجل أعمى في البصر)، قال زهير (٦):
وَلَكِنِّني عَنْ عِلْمِ مَا فيِ غَدٍ عَمِ
وعلى هذا الوجه فسر ابن عباس؛ حيث قال: (عميت قلوبهم) (٧). وهو اختيار الحسين (٨) بن الفضل فإنه قال: (عمين في البصائر وأعمى في البصر) (٩)، ألا ترى أن قوم نوح لم يكونوا أَضِرَّاءَ مكافيف، إنما وصفوا
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٧، وهو قول الطبري ٨/ ٢١٥، وأخرجه من طرق جيدة عن مجاهد وابن زيد.
(٢) لفظ: (يقال) ساقط من (ب).
(٣) "العين" ٢/ ٢٦٦، وهو في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥٧٦ من قول الفراء ونفطويه.
(٤) أبو معاذ النحوي: الفضل بن خالد المروزي الباهلي مولاهم إمام نحوي، لغوي، مقرئ، روى عنه الأزهري في "تهذيبه" ١/ ٢٥ وقال: (له كتاب في القرآن حسن) اهـ. توفي سنة ٢١١ هـ. انظر: "معجم الأدباء" ٥/ ٥٦٥، و"غاية النهاية" ٢/ ٩، و"بغية الوعاة" ٢/ ٢٤٥، و"طبقات المفسرين" للداودي ٢/ ٣٢.
(٥) جاء في (أ): (رجل عم لا يبصره)، ثم كتب عليه: لا بصيرة له، والنص في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥٧٧.
(٦) "ديوانه" ص ١١٠، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥٧٧، والرازي ١٤/ ١٥٣، و"اللسان" ٥/ ٣١١٥ (عمى)، و"الدر المصون" ٥/ ٣٥٧، وأوله: (وأعلم ما في اليوم والأمس قبله)، وهو من معلقته المشهورة. انظر: "شرح ديوان زهير" لثعلب ص ٤٩، و"شرح القصائد" لابن الأنباري ص ٢٨٩، وللنحاس ١/ ١٢٥.
(٧) سبق تخريجه.
(٨) لفظ: (الحسين) ساقط من (ب).
(٩) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩١ ب.
200
بعمى القلب، وقد يكون العمي والأعمى كالخَضِر والأخضر (١)، وفَعِل يأتي كثيرًا في النعوت من فَعِلَ يفعل نحو: حذِرٍ وطمِعٍ وهرِمٍ وعَجِلٍ. ومن المعتل: شجي وصدٍ للعطشان، ونسي، إذا اشتكى نساه فهو أنسى ونسي. ذكره ابن السكيت (٢).
٦٥ - وقوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ الآية. انتصب: ﴿أَخَاهُمْ﴾ بقوله: ﴿أَرْسَلْنَا﴾ في أول الكلام، وهو قوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: ٥٩] و (٣) المعنى: وأرسلنا إلى عاد ﴿أَخَاهُمْ هُودًا﴾، وهذا قول الفراء، والزجاج، والأخفش (٤)، ومعنى ﴿أَخَاهُمْ﴾ قال ابن عباس: (يريد: ابن أبيهم) (٥).
(١) قال السمين في "الدر" ٥/ ٣٥٧: (عَمين: جمع عَم، قيل: عم إذا كان أعمى البصيرة غير عارف بأموره، وأعمى أي: في البصر، وقيل: عم وأعمى بمعنى كخضر وأخضر، وقيل: عمٍ فيه دلالة على ثبوت الصفة واستقرارها كفرح وضيق ولو أريد الحدوث لقيل عام كما يقال: فارح وضائق) اهـ، وانظر: "الصحاح" ٦/ ٢٤٣٩، و"مقاييس اللغة" ٤/ ١٣٣، و"المجمل" ٣/ ٦٢٨، و"المفردات" ص ٥٨٨ (عمى).
(٢) قال ابن السكيت في "إصلاح المنطق" ص ١٥٥ وص١٨٠ وص٣٧٠: (رجل عَمِي القلب وعم عن الصواب ورجل شج: إذا غص باللقمة ورجل صَدٍ للعطشان وصَدْيان وصاد، وإذا اشتكى الرجل نساه قلت: نَسِي يَنْسَى نسى فهو نَسٍ وقد نسيت الشيء: إذا لم تذكره، وقد أنسيته ما كان يحفظه، وأنسأته البيع: إذا أخرت ثمنه عليه) اهـ. ملخصًا.
(٣) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٤) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٨٣، والأخفش ٢/ ٣٠٥، والزجاج ٢/ ٣٤٧، وهو قول الأكثر، انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢١٥، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٢٢، و"المشكل" ١/ ٢٩٦، و"التبيان" ص ٣٨١، و"الفريد" ٢/ ٣٢٣، و"الدر المصون" ٥/ ٣٥٨.
(٥) ذكره القرطبي ٧/ ٢٣٠.
201
وقال الكلبي: (ليس بأخيهم في الدين، ولكنه أخوهم في النسب؛ لأنه منهم، فلذلك جعله أخاهم) (١). قال الزجاج: (وقيل للأنبياء: (أخوهم) وإن كانوا كفرة، يعني: أنه قد أتاهم بشر مثلهم من بني أبيهم آدم وهو أحجّ عليهم، قال: وجائز أن يكون (أخاهم)؛ لأنه من قومهم ليكون أفهم لهم بأن يأخذوا عن رجل منهم) (٢).
وقال بعض أهل النظر: (قوله تعالى: ﴿أَخَاهُمْ﴾ يعني: صاحبهم ورسولهم، والعرب تسمي صاحب القوم أخ القوم، ومنه قوله - ﷺ -: "إن أخا صداء (٣) قد أذن [و] (٤) إنما يقيم من أذن" (٥) يريد (٦) صاحبهم، ومن هذا
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٠، والرازي ١٤/ ١٥٤، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٧٧، وقال: (أخرجه ابن المنذر من طريق الكلبي عن ابن عباس) اهـ.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٧.
(٣) صُداء: اسم قبيلة من كهلان من القحطانية من اليمن. انظر: "اللباب" لابن الأثير
٢/ ٢٣٦، و"نهاية الأرب " ص ٢٨٦، والمراد به هنا: زياد بن الحارث الصُدائي،
صحابي له وفادة، انظر: "الإصابة" ١/ ٥٥٧
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ١/ ٤٧٥ - ٤٧٦، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" ١/ ٣٢٦ - ٣٢٧، وابن أبي شيبة ١/ ١٩٦ (٢٢٤٦)، وأحمد ٤/ ١٦٩، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" ص ٢١٤، وابن ماجه كتاب الأذان والسنة فيه، باب: السنة في الأذان رقم (٧١٧)، وأبو داود كتاب الصلاة، باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر رقم (٥١٤)، والترمذي كتاب الصلاة، باب: ما جاء أن من أذن فهو يقيم رقم (١٩٩)، والبيهقي في "سننه" ١/ ٣٨١ وص ٣٩٩ وفيه عبد الرحمن زياد بن أنعم الأفريقي قاضيها ضعيف في حففه، قاله الحافظ في "التقريب" ص ٣٤٠ (٣٨٦٢) لكن الحديث له طرق. وقال الترمذي: (العمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم) اهـ.
(٦) لفظ: (يريد) ساقط من (أ).
202
قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: ٣٨] أي: صاحبتها وشبيهتها، وهذا كثير في كلامهم) (١).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: وحدوا الله ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ قال: يريد: أفلا تخافون نقمته) (٢).
٦٦ - وقوله تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾. قال مقاتل: (أي: في حمق) (٣).
وقال عبد الله بن مسلم: (أي: في جهل) (٤).
قال ابن عباس: [(يريد)] (٥) تدعونا إلى دين لا نعرفه) (٦)، ومضى معنى السفاهة في أول سورة البقرة (٧).
(١) انظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ١٥٥.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٣، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٠، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٠٨ بسند جيد، عن ابن عباس قال: (﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وحدوه) اهـ.
(٣) "تفسيرمقاتل" ٢/ ٤٥.
(٤) "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، وقال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٤٧: (السفاهة: خِفة الحلم والرأي، يقال: ثوب سفيه إذا كان خفيفًا) اهـ، ونحوه، قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٧، وقال الطبري ٨/ ٢١٥: (أي: في ضلال عن الحق والصواب) اهـ.
(٥) لفظ: (يريد) ساقط من (ب).
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٠، والبغوي ٣/ ٢٤٢، وجاء في كتاب "اللغات" لأبي عبيد ص ١٥٢، وابن حسنون ص ٢٥، و"الوزان" ص ٤ بسند جيد عن ابن عباس قال: (سفاهة: جنون بلغة حمير).
(٧) انظر: "البسيط" البقرة: ١٣.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، قال ابن عباس: (يريدون كاذبًا فيما جئت به) (١).
وقال مقاتل: (من الكاذبين فيما تقول من نزول العذاب بنا) (٢).
وقال الكلبي: (من الكاذبين في ادعائك بالنبوة) (٣). وقال أبو إسحاق في قوله: ﴿وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ﴾: (فكفروا به ظانين [لا] (٤) مستيقنين) (٥)، وهو قول الحسن، قال: (كان تكذيبهم إياه على الظن لا على اليقين) (٦). وقال بعض أهل النظر: (الظن هاهنا معناه: العلم، والظن بمعنى العلم كثير في الكلام)، ذكرنا ذلك (٧) في سورة البقرة.
٦٨ - وقوله تعالى: ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾. قال الضحاك: (أمين على الرسالة) (٨). وقال الكلبي: (قد كنت فيكم قبل اليوم أمينًا) (٩). والقولان ذكرهما الفراء (١٠)، ومعنى الأمين: الثقة في نفسه، وهو فعيل من أَمِنَ يَأمن
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٣، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٠.
(٢) "تفسير مقاتل" ٢/ ٤٥.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) لفظ (لا) عليها طمس في (ب).
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٧.
(٦) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ١٥٦، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٢٤، وقال ابن عطية ٥/ ٥٤٩: (هو ظن على بابه لأنهم لم يكن عندهم إلا ظنون وتخرص) اهـ.
(٧) انظر: "البسيط" [البقرة: ٧٨].
(٨) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩٢ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠١، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٢.
(٩) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩٢ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠١، والبغوي ٣/ ٢٤٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٢.
(١٠) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٤.
أَمنًا فهو آمِن وأمين بمعنى واحد، ويقال أيضاً: ما كان فلان أمِينًا، ولَقَد أمن يَأمن أمانة فهو أَمِين، والمأمون: الذي يأمنه غيره (١).
٦٩ - قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾.
مضى الكلام في الخلفاء والخليفة (٢) والخلائف في مواضع. قال ابن عباس: (يريد: أنكم من ولد نوح، وقد علمتم ما صنع الله بمن كذبه) (٣).
وقال غيره (٤): (هذا معناه: تذكيرهم النعمة عليهم بأن استخلفهم الله وقال في الأرض بعد هلاك قوم نوح، يقول: اذكروا أن الله أهلكهم واستخلفكم بعدهم.
﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾. قال الكلبي: (فضيلة (٥) في الطول) (٦) ومضى الكلام (٧) في هذا عند قوله: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة: ٢٤٧]. قال ابن عباس: (يريد: أنكم أجسم وأتم من آبائكم الذين ولدوكم) (٨).
(١) انظر: "العين" ٨/ ٣٨٨، و"تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٩، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٧١، و"مقاييس اللغة" ١/ ١٣٣، و"المفردات" ص ٩٠، و"اللسان" ١/ ١٤١ (أمن).
(٢) انظر: "البسيط" البقرة: ٣٠.
(٣) ذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٧٨.
(٤) هذا قول الأكثر. انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢١٦، وأخرجه من طرق جيدة عن السدي، ومحمد بن إسحاق. وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٠، والبغوي ٣/ ٢٤٣، وابن عطية ٥/ ٥٥٠، والرازي ١٤/ ١٥٧، والقرطبي ٧/ ٢٣٦.
(٥) في (ب): (فصله)، وهو تصحيف.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٤.
(٧) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٥٠ أ.
(٨) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠١، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٥١٠ بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (بصطة) (شدة)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٧٨.
205
قال الكلبي: (وكان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعًا) (١).
وقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ﴾، قال ابن عباس: (يريد: نِعَم الله عليكم) (٢)، وواحد الآلاء: إلْي وأَلْي وألْو وألَى (٣).
قال الأعشى (٤):
(١) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩٢ أ، و"عرائس المجالس" ص ٦١، والبغوي ٣/ ٢٤٣، وهو قول الفراء في "معانيه" ١/ ٣٨٤، والزجاج ٢/ ٣٤٨، ونسبه السمرقندي ١/ ٥٥٠، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠١، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٢ إلى ابن عباس. وجاء عند السمرقندي عن الكلبي قال: (أطولهم مائة وعشرون ذراعًا وأقصرهم ثمانون ذراعًا) اهـ.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥١٠ بسند جيد وقال: (وروي عن مجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد نحو ذلك) اهـ. وهذا هو قول أهل اللغة والتفسير، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢١٧، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٧، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٨، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢١٧، و"نزهة القلوب" ص ٧٣، و"معاني النحاس" ٣/ ٤٩، و"تفسير المشكل" ص ٨٥
(٣) في (ب): (واحد الآلاء: إلى وألا وإلو وإلي). وفي "تهذيب اللغة" ١/ ١٧٩، قال: (والآلاء النعم واحدتها إلْيُ، وألْيُ، وأبو، وألَى، وإلَى) اهـ. وهي جمع مفرده: (إلى) بكسر الهمزة وسكون اللام كحِمْل وأحمال، أو أُلي: بضم الهمزة وسكون اللام كقفل وأقفال، أو إلى: بكسر الهمزة وفتح اللام كضلع وأضلاع وعنب وأعناب، أو ألى: بفتحها كقَفَا وأقفاء، أفاده السمين في "الدر" ٥/ ٣٦٠، وانظر: المراجع السابقة. "العين" ٨/ ٣٥٦، و"الصحاح" ٦/ ٢٢٧٠، و"المجمل" ١/ ١٠١، و"المفردات" ص ٨٤، و"اللسان" ١/ ١١٩ (ألا)، ونقل الرازي ١٤/ ١٥٨، عن الواحدي قال: (واحدها إلى وألو وإلي) اهـ.
(٤) "ديوانه" ص ٢٦٧، و"مجاز القرآن" ١/ ٢١٨، و"معاني الزجاج" ٢/ ٢٤٨، و"المجمل" ١/ ١٠١، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٣٣، وابن عطية ٥/ ٥٥١، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٢، والرازي ١٤/ ١٥٨، و"اللسان" ١/ ١١٩ (ألا)، و"البحر المحيط" ٤/ ٣١٥، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦٠.
206
أَبْيَضُ لاَ يَرْهَبُ الْهزال وَلاَ يَقْطَعُ رِحْمًا وَلاَ يَخُونُ إلا
ونظير الآلاء الآناء، واحدها إِنْي وأُنْىً وإنًى (١)، وحكى الأخفش (٢) إنْو (٣)
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: [كي] (٤) تسعدوا وتبقوا في الجنة) (٥).
٧٠ - قوله تعالى: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾. قال ابن عباس والكلبي (٦): (يريدون من العذاب). ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ إنك تأتينا من العذاب، قاله الكلبي (٧)، وقال ابن عباس: (يريدون أن الله لم يرسلك، يعني: ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (٨) في نبوتك وإرسالك إلينا) (٩).
٧١ - قوله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ﴾ الآية. يقال: وَقَعَ القولُ والحكمُ إذا وَجَبَ، ومنه قوله: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ [النمل: ٨٢]. معناه: إذا وجب، ومثله: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾ [الأعراف: ١٣٤] أي: أصابهم ونزل به، وأصله من الوقوع بالأرض، يقال: وقع بالأرض مطر، ووقعت
(١) قال السمين في "الدر" ٥/ ٣٦٠: (ومثله الآناء: جمع إنْي، أو أُنْي، أو إنًى، وقال الأخفش: إنْو، والآناء: الأوقات) اهـ.
(٢) "معاني الأخفش" ١/ ٢١٣.
(٣) في (ب): (أنوه).
(٤) لفظ: (كي) ساقط من (ب).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠١، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٤ نحوه.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٤، وهو قول أهل التفسير. انظر: الطبري ٨/ ٢٢٢، والسمرقندي ١/ ٥٥١، والبغوي / ٢٤٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٢.
(٧) انظر: المراجع السابقة.
(٨) جاء في (ب) تكرار قول ابن عباس والكلبي، وعليه ضرب.
(٩) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠١، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٢ من قول عطاء.
الإبل إذا بركت (١).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ﴾، قال ابن عباس: (يريد: عذابًا وسخطًا) (٢). ﴿أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾. قال: (يريد: الأصنام التي كانوا يعبدونها) (٣).
قال المفسرون: (كانت لهم أصنام يعبدونها وسموها أسماء مختلفة، فلما دعاهم الرسول إلى التوحيد استنكروا عبادة الله وحده) (٤).
وقوله: ﴿مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ أي: من حجة وبرهان لكم في عبادتها، ﴿فَانْتَظِرُوا﴾. قال ابن عباس: (يريد العذاب) (٥)، ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ الذي يأتيكم من الله في تكذيبكم آياتي.
٧٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ الآية. الكلام في هذا كهو في قوله: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [الأعراف: ٦٥]، وقد مر، والكلام في (ثمود) وجواز إجرائه يذكر في سورة (٦) هود إن شاء الله (٧).
(١) هذا من "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٣٥، وانظر: "العين" ٢/ ١٧٦، و"الصحاح" ٣/ ١٣٠١، و"مقاييس اللغة" ٦/ ١٣٣، و"المفردات" ص ٨٨٠، و"اللسان" ٨/ ٤٨٩٥ (وقع).
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٤، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٣، وأخرج الطبري ٨/ ٢٢٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥١١ بسند جيد عن ابن عباس قال: (﴿رِجْسٌ﴾ سخط)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٧٩.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٥.
(٤) انظر: الطبري ٨/ ٢٢٣، والسمرقندي ١/ ٥٥١، والماوردي ٢/ ٢٣٤، وذكره البغوي ٣/ ٢٤٣ عن أهل التفسير.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٥.
(٦) لفظ: (سورة) ساقط من (ب).
(٧) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ٣/ ٣٥ ب وص ٤٤ أ.
208
وقوله تعالى: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً﴾. ﴿آيَةً﴾ (١) نَصْبٌ على الحال (٢) أي: أشير إليها في حال كونها آية، وهذه تتضمن معنى الإشارة، و (آية) في معنى دالة، فلهذا جاز أن يكون حالاً. قال ابن الأنباري: (وهي آية لهم ولغيرهم، ولكنهم اقترحوها، فخصوا بها، وإن كانت فيها عبرة (٣) لجميع الخلق، وكانت هذه الناقة آية من بين سائر النوق؛ لأنها خرجت من حجر صلدٍ بمخض واضطراب كاضطراب المرأة عند الولادة) (٤).
قال ابن عباس: (الآية فيها أنها كانت ترد يومًا وتغب يومًا، فإذا وردت شربت جميع الماء وتسقيهم مثله لبنًا لم يُشرب مثله قط ألذ وأحلى) (٥)، فتوسعهم من اللبن ما يصدرون منه بريهم ومقدار حاجتهم،
(١) لفظ: (آية) ساقط من (ب).
(٢) هذا قول الأكثر. انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٩، و"الإيضاح العضدي" لأبي علي ١/ ٢٣٤، والبغوي ٣/ ٢٤٧، و"الكشاف" ٢/ ٨٩، والرازي ١٤/ ١٦٣، و"التبيان" ١/ ٣٨٢، و"الفريد" ٢/ ٣٢٥ - ٣٢٦، و"البحر" ٤/ ٣٢٨، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦٢.
(٣) في (ب): (غيره)، وهو تصحيف.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٤، بلا نسبة وهذا هو قول الأكثر والظاهر. انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٩، والطبري ٨/ ٢٢٤، و"معاني النحاس" ٢/ ٥٥١، والسمرقندي ١/ ٥٥١، والماوردي ٢/ ٢٣٥، وقال ابن عطية ٥/ ٥٥٩ - ٥٦٠: (قال الجمهور: كانت الناقة مقترحة وهذا أليق بما ورد في الآثار من أمرهم) اهـ. وقال ابن كثير ٢/ ٢٥٤: (وكانوا سألوا صالحًا أن يأتيهم بآية واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم) اهـ.
(٥) لم أقف عليه.
209
وكانت آية لانفرادها من سائر بعضها بهذا الأمر الذي لم يشاهد مثله في غيرها.
وقوله تعالى: ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾، أي: سهل الله أمرها عليكم فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها.
٧٤ - قوله تعالى: ﴿وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، قال أبو علي: (هذا على (١) حذف أحد المفعولين كأنه قيل: بَوأكم في الأرض منازل أو بلادًا) (٢).
وقوله تعالى: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا﴾. قال ابن عباس: (يريد: تبنون القصور بكل موضع).
﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالَ بُيُوتًا﴾، قال: (يريد: بيوتًا من الجبال تشققونها (٣) منها، فكانوا يسكنونها شتاء ويسكنون القصور بالصيف) (٤).
قال الزجاج: (ويروى أنهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون إلى أن ينحتوا بيوتًا في الجبال؛ لأن السقوف والأبنية (٥) كانت تبلى قبل فناء أعمارهم) (٦).
(١) لفظ: (على) ساقط من (ب).
(٢) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٣١١. وبوأه: أنزله منزلًا وهو يتعدى لاثنين، والثاني: محذوف أي بوأكم منازل. انظر: "القرطبي" ٧/ ٢٣٩، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦٣.
(٣) في (ب): (يشقونها).
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٦. وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٥، وهو بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٢، والبغوي ٣/ ٢٤٧.
(٥) في (ب): (لأن السقوف في الأبنية).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٠ - ٣٥١، وذكره في "معانيه" ٣/ ٤٨، والبغوي ٣/ ٢٤٧.
٧٥ - قوله تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ﴾ الآية. قال ابن عباس: (يريد الأشراف) (١). قال أهل اللغة (٢): (هم الذين تملأ الصدورَ هيبتُهم)، كما رُوي في قتلى بدر (أولئك الملأ من قريش) (٣) أي: الأشراف الذين يملؤن النفس هيبة وتعظيمًا.
وقال الفراء: (الملأ القوم من الرجال ليس فيهم امرأة) (٤).
٧٥ - وقوله تعالى (٥): ﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾ الآية. قال ابن عباس: (يريد عن عبادة الله) (٦).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٦، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٣، وهو قول الأكثر. انظر: "تفسير مقاتل" ٢/ ٤٦، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٤٦، والنحاس ٣/ ٤٦، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٢، والبغوي ٣/ ٢٤٧.
(٢) المَلأُ، بالفتح مهموز غير ممدود: الجماعة يجتمعون على رأي، ووجوه القوم: ورؤساؤهم وأشرافهم الذي يرجع إلى قولهم، سموا بذلك لأنهم ملاء بما يحتاج إليه أو لأنهم يملئون الصدور هيبة. انظر: "العين" ٨/ ٣٤٦، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٧، و"الصحاح" ١/ ٧٣، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٣٤٦، و"المفردات" ص ٧٧٦، و"اللسان" ٧/ ٤٢٥٢ (ملأ).
(٣) لم أقف على سنده، وهو في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٧، و"إعراب القراءات" ١/ ١٩٣، و"النهاية" ٤/ ٣٥١، و"اللسان" ٧/ ٤٢٥٢ (ملأ) قالوا: (روي عن النبي - ﷺ - أنه سمع رجلاً من الأنصار مرجعه من غزوة بدر يقول: ما قتلنا إلا عجائز صلعًا، فقال النبي - ﷺ -: "أولئك الملأ من قريش لو حضرت فعالهم لاحتقرت فعلك". أي: أشراف قريش) اهـ.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٣، ومثله قال الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢١٣.
(٥) لفظ: (وقوله تعالى) ساقط من (أ).
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٣ بلا نسبة وهو قول أهل التفسير. انظر: الطبري ٨/ ٢٣٢، والسمرقندي ١/ ٥٥٢، والبغوي ٣/ ٢٤٧، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٥، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٦ قال: (استكبروا عن الإيمان) اهـ.
﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ (يريد المساكين) (١)، ﴿لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ بدل من قوله: ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ (٢)؛ لأنهم المؤمنون.
٧٧ - قوله تعالى: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ﴾ الآية. قال الأزهري: (العقر عند العرب: كشف عرقوب البعير، ثم تجعل النحر عقرًا؛ لأن العقر سبب النحر، وناحر البعير يعقره ثم ينحره، هذا هو الأصل ثم جعل النحر عقرًا وإن لم يكن هناك قطع للعرقوب) (٣)، قال امرؤ القيس:
وَيوْمَ عَقَرْتُ للِعَذارَى مَطيِّتي (٤)
وقوله تعالى: ﴿وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾، يقال: عتَا يَعْتُو عُتُوًا (٥) إذا
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٤ بلا نسبة، وهو قول الأكثر. انظر: "المراجع السابقة"، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٧، قال: (استضعفوا قهروا) اهـ.
(٢) انظر: "المسائل البصريات" لأبي علي ٢/ ٨٣١، و"غرائب الكرماني" ١/ ٤١٣، و"الكشاف" ٢/ ٩٠، و"البيان" ١/ ٣٦٧، و"زاد المسير" ٣/ ٢٢٥، و"التبيان" ١/ ٣٨٢، و"الفريد" ٢/ ٣٢٧، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦٥.
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥١٤. والعَقْر: النحر والجرح والقتل، وعَقَرته: أصبت عُقْرَه أي: أصله، وعَقَرت البعير: نحرته، وعقر الفرس بالسيف: إذا ضربت قوائمه. انظر: "العين" ١/ ١٤٩، و"الجمهرة" ٢/ ٧٦٨، و"الصحاح" ٢/ ٧٥٣، و"المجمل" ٣/ ٦٢١، و"المفردات" ص ٥٧٧، و"اللسان" ٥/ ٣٠٣٤ (عقر).
(٤) "ديوانه" ص ١١٢، و"تهذيب اللغة" ١٣/ ٢٥١٤، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٩، و"اللسان" ٥/ ٣٠٣٤، و"البحر" ٤/ ٣١٥، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦٦، والبيت من معلقته المشهورة وعجزه: (فَيَا عَجَبًا مِن رَحْلِها المَتحمِّل). قال النحاس في "شرح القصائد" ١/ ٩: (العذارى: جمع عذراء، والمطية: الراحلة) اهـ. وانظر: "شرح القصائد" لابن الأنباري ص ٣٣.
(٥) جاء أيضاً: عتيَّا بالكسر. انظر: "العين" ٢/ ٢٢٦، و"الجمهرة" ٢/ ١٠٣٢، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣١٣، و"الصحاح" ٦/ ٢٤١٨، و"المجمل" ٣/ ٦٤٦، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٢٥، و"المفردات" ص ٥٤٦، و"اللسان" ٥/ ٢٠٨٤ (عتا).
212
استكبر، ومنه يقال: جبار عَاتٍ.
قال مجاهد: (العتو (١): الغلو في الباطل).
قال ابن عباس: (عقروا الناقة عُتُوًا وتكذيبًا بما جاء به صالح) (٢).
وقال الكلبي (٣) ومقاتل (٤): (﴿وَ (٥) عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾: عصوا الله وتركوا أمره في الناقة).
وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾، أصل: ﴿ائْتِنَا﴾ (٦) اأتنا بهمزتين (٧) أحدهما للوصل، والثانية للأصل، إلا أنه لما لم يجز اجتماع همزتين في موضع واحدة من كلمة واحدة لينت الثانية، فإذا وصل بكلام قبله سقط ألف الوصل فظهرت همزة الأصل في قوله: ﴿يَا صَالِحُ
(١) في (ب): (العتو والعلوا)، وهو تحريف، والعلو والغلو كلاهما صحيح وله وجه، وهو في "تفسير مجاهد" ١/ ٢٣٩، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥١٥ ب بلفظ: (غلوا في الباطل)، وأخرجه الطبري ٩/ ٢٣٢ من عدة طرق جيدة بلفظ (علوا)، وفي رواية: (علوا عن الحق لا يبصرون) اهـ، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٨٤ بلفظ (غلوا).
(٢) في "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٧ نحوه، وقال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٥١: (أي: جاوزوا المقدار في الكفر) اهـ، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٤٩، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢١٨، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٧، و"نزهة القلوب" ص ٣٢٥.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٧.
(٤) في "تفسير مقاتل" ٢/ ٤٧، {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ يعني: التوحيد) اهـ.
(٥) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٦) لفظ: (ائتنا) ساقط من (ب).
(٧) انظر: مذهب القراء في الهمزتين في كلمة واحدة في "السبعة" ص ١٣٩، و"المبسوط" ص ١١٢، و"التذكرة" ١/ ١٥٢.
213
ائْتِنَا} (١) في قراءة من قرأ بالهمز (٢).
٧٨ - وقوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾. قال الفراء والزجاج (٣): (هي الزلزلة الشديدة) وهو قول الكلبي (٤).
قال الليث: (يقال: رَجَف الشيء يَرْجُف رَجْفًا وَرَجَفَاناَ كَرَجَفان البعير تحت الرَّحْل، وكما يرجُف الشجر إذا رجفته الريح، وَرَجفت الأرض إذا تزلزلت) (٥).
وقال عمر بن أبي ربيعة (٦):
(١) انظر: كلام أبي علي الفارسي في توجيه ذلك في "البغداديات" ص ٧٧، ٨٠.
(٢) قال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٣١: (قرأ ورش والأعمش ﴿يَا صَالِحُ ايتنا﴾، وأبو عمرو إذا أدرج أبدل همزة فاء ﴿ائْتِنَا﴾ واوًا لضمة حاء صالح، وقرأ باقي "السبعة" بإسكانها، وقرأ عيسى بن عمرو وعاصم الجحدري ﴿أوتنا﴾ بهمز وإشباع ضم) اهـ. بتصرف، وانظر: "الكتاب" ٤/ ٣٣٨، و"مختصر الشواذ" ص ٤٩، و"تفسير ابن عطية" ٥/ ٥٦٧، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦٧.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٤، والزجاج ٢/ ٣٥١، وهو قول أكثرهم، انظر: "الزاهر" ٢/ ٣٢٠، و"نزهة القلوب" ص ٢٤١، و"معاني النحاس" ٣/ ٤٩، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٢، والبغوي ٣/ ٢٤٨، وابن عطية ٥/ ٥٦٧.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٧، وذكره الثعلبي في "عرائس المجالس" ص ١٦٥، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٤، وقال الطبري ٨/ ٢٣٣: (الرجفة: الصيحة التي زعزعتهم وحركتهم للهلاك؛ لأن ثمود هلكت بالصيحة فيما ذكر أهل العلم) اهـ. وأخرجه من طرق جيدة عن مجاهد والسدي.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٧١، وانظر: "العين" ٦/ ١٠٩، و"الصحاح" ٤/ ١٣٦٢، و"المجمل" ٢/ ٤٢٢، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٤٩١، و"المفردات" ص ٣٤٤، وفي "العين": (الرجفة: كل عذاب أنزل فأخذ قومًا فهو رجفة وصيحة وصاعقة) اهـ.
(٦) ليس في "ديوانه"، وهو في "الدر المصون" ٥/ ٣٦٨، وبلا نسبة في تفسير الثعلبى ١٩٢ ب، والقرطبي ٧/ ٢٤٢، و"البحر" ٤/ ٣١٥.
214
ولَمَّا رَأَيتُ الحجَّ قد حان وقتهُ وَظلَّتْ جِمال القومِ بالقومِ تَرْجُفُ
وقال أبو عبيدة: (الرجف من قولهم: رجفت بهم الأرض إذا تحركت) (١)، يذهب إلى أنها الزلزلة، وأنشد (٢):
تحنَّى العِظامُ الرَّاجفاتُ مِنَ البلى وليس لداء الرُّكبْتَيْنَ طَبيبُ
وقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ﴾ يعني: بلدهم، لذلك وحد الدار، كما يقال: دار الحرب، ومررت بدار البزازين (٣)، وجمع في موضع آخر فقال: ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾ [هود: ٦٧] لأنه أراد منازلهم التي ينفرد كل واحد منهم (٤) بمنزله، وقوله تعالى: ﴿جَاثِمِينَ﴾، قال أبو عبيدة: (الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل) (٥)؛ قال جرير:
عَرَفْتُ المُنَتَأى وعَرَفْتُ مِنْهَا مَطَايَا القِدْرِ كَالحِدَإ الجُثُومِ (٦)
(١) لم أقف عليه.
(٢) لم أقف على قائله، وهو في "الزاهر" ١/ ١٨٩ - ٢/ ٣٢٠، و"اللسان" ٣/ ١٥٩٥ (رجف)، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦٨.
(٣) البَّزَّاز: بالفتح نسبة إلى من يبيع البَزَّ وهو الثياب. انظر: "اللباب" ١/ ١٤٦، و"اللسان" ١/ ٢٧٤ (بز).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٣٣، و"غرائب الكرماني" ١/ ٤١٣.
(٥) ذكره ابن الأنباري في "شرح القصائد" ص ٢٤٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٦، والسمين في "الدر" ٥/ ٣٦٩، وفي "مجاز القرآن" ١/ ٢١٨ و٢/ ١١٦ قال: (أي: بعضهم على بعض جثوم على الركب) اهـ. ملخصًا. وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٧، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، و"نزهة القلوب" ص ١٩٠، و"معاني النحاس" ٣/ ٤٩، و"تفسير المشكل" ص ٨٥.
(٦) "ديوانه" ص ٤١١، و"مجاز القرآن" ١/ ٢١٨، والطبري ٨/ ٢٣٣، وابن عطية ٥/ ٥٦٧، و"الدر المصون" ٥/ ٣٦٩: (والمنتأى: حفر النؤي، ومطايا القدر: الأثافي التي يركبها القدر، والحدأ: جمع حِدأة طائر خبيث معروف) أفاده أحمد شاكر في "حاشية الطبري".
215
وقال أبو العباس: (الجاثم المبارك على رجليه كما يجثم الطير) (١). قال الزجاج: (معنى ﴿جَاثِمِينَ﴾ قد خمدوا من شدة العذاب) (٢). وهو قول ابن عباس: (﴿جَاثِمِينَ﴾ يريد: خامدين ميتين) (٣). وقال الكلبي: (احترقوا بالصاعقة فأصبحوا ميتين قد همدوا رمادًا لا يتحركون) (٤)، وهو قول الفراء: (صاروا رمادًا جاثمًا) (٥).
وقال ابن الأنباري: (قال المفسرون: معنى ﴿جَاثِمِينَ﴾: بعضهم على بعض، أي: عند نزول العذاب بهم سقط بعضهم على بعض) (٦).
قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾ الآية [الأعراف: ٧٩]. قال المفسرون: (إن صالحًا أقبل عليهم بالدعاء إلى توحيد الله وطاعته، فلما خالفوا ونزل بهم العذاب تولى عنهم لليأس منهم) (٧).
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ٥٣٩. وانظر: "العين" ٦/ ١٠٠، و"مجالس ثعلب" ص ٤٨٥، و"الجمهرة" ١/ ٤١٥، و"الصحاح" ٥/ ١٨٨٢، و"المجمل" ١/ ٢٠٧، و"مقاييس اللغة" ١/ ٥٠٥، و"المفردات" ص ١٨٧، و"اللسان" ١/ ٥٤٥ (جثم).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥١.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٨، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٥.
(٤) ذكره الزجاج ٢/ ٣٥١، والماوردي ٢/ ٢٣٦١ دون نسبة، وقال الطبري ٨/ ٢٣٣: (يعني: سقوطًا صرعى لا يتحركون لأنهم لا أرواح فيهم، والعرب تقول للبارك: جاثم) اهـ.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٤.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٥، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٢٦ عن المفسرين، وانظر: "شرح القصائد" لابن الأنباري ص ٢٤٠.
(٧) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٨٥، والطبري ٨/ ٢٣٤، والسمرقندي ١/ ٥٥٣، والماوردي ٢/ ٢٣٦، وابن عطية ٥/ ٥٦٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٧.
216
وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾.
قال ابن عباس: (يريد قد خوفتكم من الله ومن عقابه) (١)، وخطابه إياهم (٢) بعد كونهم جاثمين كخطاب النبي - ﷺ - قتلى بدر، وقيل له: أتكلم هؤلاء الجيف؟ قال: "ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يقدرون على الجواب" (٣).
٨٠ - قوله تعالى: ﴿وَلُوطًا﴾، ذكر الفراء في كتاب المصادر (٤)
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٨، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٦.
(٢) ذهب الفراء والطبري والسمرقندي وغيرهم إلى أنه أعرض عنهم قبل نزول العذاب؛ لأنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهرهم. انظر: "المراجع السابقة"، و"الحلبيات" لأبي علي ص ٣٠٦، ورجح البغوي ٣/ ٢٤٨، وابن كثير ٢/ ٢٥٦١ أن هذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه بعد هلاكهم وهم يسمعون ذلك؛ لأن الفاء تدل على حصول التولي بعد موتهم، قال القاسمي في "تفسيره" ٧/ ٢٧٨٩: (وهو المتبادر لظهور الفاء في التعقيب والله أعلم)، وانظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ١٦٧.
(٣) أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (١٣٧٠)، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (اطلع النبي - ﷺ - على أهل القليب فقال: "وجدتم ما وعد ربكم حقاً" فقيل له: أتدعوا أمواتًا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون") اهـ، وأخرجه من وجه آخر برقم (٣٩٨٠، ٣٩٨١) كتاب المغازي، باب: قتل أبي جهل.
(٤) "كتاب المصادر" للفراء مفقود. انظر: "مقدمة المذكر والمؤنث" للفراء ص ٢٣، قال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٢٤: (زعم الفراء أن لوطأ مشتقًا من لُطْتُ الحوض) اهـ. وقال الراغب في "المفردات" ص ٧٥٠: (لوط اسم علم واشتقاقه من لاَط الشيء بقلبي يَلُوط لَوْطا وليطا أي: لصق) اهـ. وأكثرهم على أنه أعجمي معرب. انظر: "المعرب" للجواليقي ص ٥٦٣، وقال السمين في "عمدة الحفاظ" ص ٥٢٨: (لوط علم للنبي المشهور، والظاهر أنه لا اشتقاق له لعجمته إلا أنهم قالوا: يجوز أن يكون مشتقاً من لاط الشيء بقلبي يلوط لوطًا أي: لصق) اهـ.
اشتقاق هذا الاسم، وأنكر عليه ذلك أبو إسحاق وقال: (الاسم الأعجمي لا يقال إنه مشتق كإسحاق، لا يقال إنه مشتق من السُّحق، وكتاب الله لا ينبغي أن يُقدم على تأويله إلا برواية صحيحه أو حجة واضحة) (١).
وقال النحويون: (إنما صرف لوط لخفته بأنه على ثلاثة أحرف ساكن الأوسط) (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾، يعني: إتيان الذكران، في قول جميع المفسرين (٣)، ﴿مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾، قالوا: (ما نزا (٤) ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط)، قال الزجاج: (وفي هذه الآية دليل على أن فاحشة اللواط لم يفعلها أحد قبل قوم لوط) (٥).
٨١ - قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ﴾ الآية كلهم قرءوا: ﴿إِنَّكُمْ﴾ بالاستفهام، إلا نافعًا فإنه رأ: ﴿إِنَّكُمْ﴾ بغير
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥١ - ٣٥٢.
(٢) انظر: "العين" ٧/ ٤٥٢، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢١٩، و"اللسان" ٧/ ٤٠٩٩ (لوط). وفي "الكتاب" ٣/ ٢٣٥. قال سيبويه: (وأما لوط فينصرف على كل حال لخفته) اهـ، وقال الجوهري في "الصحاح" ٣/ ١١٥٨ لوط: (لوط: اسم ينصرف من المعجمة والتعريف، وإنما لزم الصرف، لأن الاسم على ثلاثة أحرف أوسطه ساكن وهو على غاية الخفة فقاومت خفته أحد السببين) اهـ.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٣٤، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٠، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٣، والبغوي ٣/ ٢٥٥، وابن عطية ٥/ ٥٦٩.
(٤) في (ب): (ما يرى).
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٢.
218
استفهام (١)، فمن استفهم كان (٢) هذا استفهامًا معناه الإنكار، كقوله: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ [الأعراف: ٨٠]، وكل واحد من الاستفهامين (٣) جملة مستقلة لا تحتاج في تمامها إلى شيء، فمن ألحق حرف الاستفهام جملة، نقلها به من الخبر إلى الاستخبار، ومن لم يُلحقها بقَّاها على الخبر (٤).
وقوله تعالى: ﴿شَهْوَةً﴾، مصدر. قال أبو زيد: (شَهِي يَشْهى شهوةً، وشَها يشهو إذا اشتَهَى) (٥). قال الشاعر:
وَأشْعَثَ يَشْهَى النَّوم قلتُ له ارْتَحِلْ إذا ما النُّجُومُ أَعْرَضَتْ وَاسْبَكَرَّتِ (٦)
(١) يقرأ هنا بالاستفهام والإخبار، فقرأ نافع وحفص عن عاصم ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ﴾ بكسر الهمزة على الخبر، وقرأ الباقون بهمزتين على لفظ الاستفهام، غير أن ابن كثير يسهل الثانية بين الهمزة والياء، وأبا عمرو يفعل كذلك ويدخل بين الهمزتين ألفاً فيمد. انظر: "السبعة" ص ٢٨٥ - ٢٨٦، و"المبسوط" ص ١٨١ - ١٨٢، و"التذكرة" ١/ ١٥٣ - ١٥٤، و"التيسير" ص ١١١، و"النشر" ١/ ٣٦٩ - ٣٧١.
(٢) في (أ): (فمن استفهم هذا كان استفهاما).
(٣) لفظ: (الاستفهامين) غير واضح في (ب).
(٤) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٤٨، وقال الأزهري في "معاني القراءات" ١/ ٤١٣: (هي لغات كلها جائزة وكل ما قرئ به فهو معروف معانيها متفقة ولا اختلاف في جوازها) اهـ، وانظر: "إعراب القراءات" ١/ ١٩٢ - ١٩٣، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٨، ولابن زنجلة ص ٢٨٧ - ٢٨٨، و"الكشف" ١/ ٤٦٨.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٤٨، وأصل الشَّهْوَة: نزوع النفس إلى ما تريده انظر: "العين" ٤/ ٦٨، و"الجمهرة" ٢/ ٨٨٣، و"البارع" ص ٩٧، و"الصحاح" ٦/ ٢٣٩٧، و"المجمل" ٢/ ٥١٣، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٢٢٠، و"الأفعال" للسرقسطي ٢/ ٣٦٣، و"المفردات" ص ٤٦٨، و"اللسان" ٤/ ٢٣٥٤ (شها).
(٦) لم أعرف قائله، وهو في "تفسير الطبري" ٨/ ٢٣٥، و"اللسان" ٤/ ٢٣٥٤ (شها)، و"الدر المصون" ٥/ ٣٧٢، واسبكرت أي: جرت وطالت، واسبكر الرجل اضطجع وامتد. انظر: "اللسان" ٤/ ١٩٢٩ (سبكر).
219
وانتصابها على المصدر؛ لأن قوله: ﴿لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾ معناه: أتشهونهم شهوة، وإن [شئت] (١) قلت: إنها مصدر (٢) وقع موقع الحال (٣).
قال الحسن: (كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم، وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء) (٤). وقال عطاء عن ابن عباس: (استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض) (٥).
وقوله تعالى: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾. معنى ﴿بَلْ﴾ هاهنا إضطراب عن الأول إلى جميع المعايب من عبادة الأوثان، وإتيان الذكران، وترك ما قام به البرهان (٦). وعلى هذا المعنى دل (٧) كلام ابن عباس حيث قال: (يريد جمعتم مع الشرك معصية لم يفعلها خلق قبلكم) (٨).
٨٢ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ (٩). يعني: لوطًا واتباعه؛ لأنه قال في غير هذه السورة: ﴿أَخْرِجُوا
(١) لفظ: (شئت) ساقط من (ب).
(٢) في (أ): (مصادر)، وهو تصحيف.
(٣) شهوة مفعول من أجله أي لأجل الاشتهاء أو مصدر في موضع الحال أي مشتهين أو باقٍ على مصدريته ناصبه: {لَتَأْتُونَ﴾ لأنه بمعنى أتشتهون. انظر: "التبيان" ص ٣٨٢، و"الفريد" ٢/ ٣٣٠، و"الدر المصون" ٥/ ٣٧٢.
(٤) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٢٩، والثعلبي ١٩٤ أ، والبغوي ٣/ ٢٥٥، وابن عطية ٥/ ٥٧٠، والقرطبي ٧/ ١٤٥.
(٥) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ١٦٨.
(٦) انظر: "التبيان" ص ٣٨٢، و"البحر" ٤/ ٣٣٤، و"الدر المصون" ٥/ ٣٧٢.
(٧) لفظ: (دل) ساقط من (ب).
(٨) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٨، وذكر السيوطي في "الدر" ٣/ ١٨٦ نحوه.
(٩) في "النسخ": ﴿فَمَا كَانَ﴾، وهو تحريف، وقد جاء بالفاء في الآية: ٥٦ من (النمل) والآية: ٢٤ و٢٩ من (العنكبوت).
220
آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (١) [النمل: ٥٦]، أي (٢): عن إتيان الرجال في أدبارهم، عن ابن عباس (٣) ومجاهد (٤)، وقتادة (٥). والعرب (٦)، تقول: تطهير الرجل إذا تنزه عن الإثم وعما يوقعه فيه، فمعنى قوله: ﴿يَتَطَهَّرُونَ﴾ أي: يتنزهون عما كانوا يأتونه (٧) من المناكير.
قال أهل المعاني: (هذه الآية بيان عن حال الجهال في ردهم على نبيهم أقبح جواب، واعتلالهم أفسد اعتلالٍ حين جعلوا تنزههم عن الفاحشة سببًا للمباعدة). وهذا معنى قول قتادة: (عابوهم والله بغير عيبٍ) (٨).
(١) لفظ: ﴿مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ ساقط من النسخ.
(٢) لفظ: (أي) ساقط من (ب).
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣٥ بسند ضعيف، وهو في "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٩، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٨٦.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٠، وأخرجه الطبري ٨/ ٢٣٥، وابن أبي حاتم ٣/ ١٦٤ ب من عدة طرق جيدة، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٨٦.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٧ عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وهو قول عامة أهل التفسير. انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٨٥، والزجاج ٢/ ٣٥٣، والنحاس ٣/ ٥١، والسمرقندي ١/ ٥٥٣، والماوردي ٢/ ٢٣٧، والبغوي ٣/ ٢٥٥.
(٦) طهر: أصل يدل على نقاء وزوال دَنَس، والطهْر خلاف الدَّنَس، والتطهير: التنزه والكف عن الإثم وكل قبيح، وفلان طاهر الثياب: إذا لم يكن دَنِس الأخلاق. انظر: "العين" ٤/ ١٩، و"الجمهرة" ٢/ ٧٦١، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٢٦، و"الصحاح" ٢/ ٧٢٧، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤٢٨، و"المجمل" ٢/ ٥٨٨، و"المفردات" ص ٥٢٥، و"اللسان" ٥/ ٢٧١٣ (طهر).
(٧) في (ب): (يأتوه).
(٨) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣٥ بسند جيد عن قتادة بلفظ: (عابوهم بغير عيب وذموهم بغير ذم) اهـ، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٨٦.
221
٨٣ - وقوله تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ﴾. قال المفسرون (١): (﴿أَهْلَهُ﴾ ابنتاه)، وهو قول ابن عباس (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾، يعني: زوجته، وجاز أن يقال: امرأة الرجل بمعنى زوجته، ولم يجز أن يقال: مرؤها: بمعنى زوجها؛ لأن الرجل بمنزلة المالك لها، ليست المرأة بمنزلة المالكة للرجل، فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام عرفت الزوجية وملك النكاح، والرجل إذا أُضيف إلى المرأة بالاسم العام لم يعرف الزوجية (٣).
وقوله تعالى: ﴿كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾. يقال: غَبَرَ الرجل يَغبُر غبُورًا إذا مكث وبقي (٤)، قال الهذلي (٥):
(١) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٨٥، والزجاج ٢/ ٣٥٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٣، والماوردي ٢/ ٢٣٧، وابن عطية ٥/ ٥٧١، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٨، وقال الطبري ٨/ ٢٣٦، والبغوي ٣/ ٢٥٦ (وأهله: المؤمنين به) اهـ. وقال ابن كثير ٢/ ٢٥٨:
(يقول: فأنجينا لوطًا وأهله، ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط إلا امرأته فإنها لم تؤمن به) اهـ.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٩، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ١٧١.
(٣) ذكره الرازي ١٤/ ١٧١، لكن فيه: (فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام عرفت الزوجية وملك النكاح، والرجل إذا أضيف إلى المرأة بالاسم العام تعرف الزوجية) اهـ.
(٤) وهو من الأضداد غير: بقي ومضى، والغابر الباقي، والغابر الماضي. انظر: "العين" ٤/ ٤١٣، و"الجمهرة" ١/ ٣٢٠، و"البارع" ص ٣١٢، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٢٧، و"الصحاح" ٢/ ٧٦٥، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٤٠٨، و"المجمل" ٣/ ٦٩٠، و"المفردات" ص ٦٠١، و"اللسان" ٦/ ٣٢٠٥ (غير).
(٥) الهذلي: هو أبو ذؤيب خويلد بن خالد، تقدمت ترجمته.
222
فَغَبَرْتُ بَعْدَهُم بِعيشٍ نَاصِبٍ وَإخَالُ أَنّي لاَحِقٌ مُسْتَتْبَعُ (١)
يعني: بقيت. قال المفسرون (٢): (إنها كانت من الباقين في عذاب الله)، وهو قول الحسن (٣) وقتادة (٤)، ويجوز أن يكون المعنى: من الغابرين عن النجاة، أي: من الذين بقوا عنها ولم يدركوا النجاة. يقال: بقي فلان عن هذا الأمر أي: لم يدركه، وإلى هذا أشار أبو إسحاق (٥) وابن الأنباري.
وقال أبو بكر: (أي: لم تسر مع لوط وأهله، ولم تدخل في جملة الناجين، وأقامت في الموضع الذي نزل بأهله العذاب) (٦). فعلى هذا يحتمل تأويلين: أحدهما: من الغابرين في موضع الهلاك، والثاني: من الغابرين عن النجاة كما ذكرنا (٧).
(١) "شرح أشعار الهذليين" ١/ ٨، و"المفضليات" ص ٤٢١، و"جمهرة أشعار العرب" ٢/ ٦٨٤، و"تفسير الثعلبي" ١٩٤ أ، والرازي ١٤/ ١٧١، و"البحر" ٤/ ٣١٥، و"الدر المصون" ٥/ ٣٧٣، قال السكري في "شرحه": (فغبرت، بقيت، ناصب، ذو نصب أي: جهد وتعب، إخال: أظن، وهي هاهنا يقين، لاحق: مُلحِق، مستتبع: مُستلْحَق أي: مذهوب بي إلى ما صاروا إليه) اهـ.
(٢) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٣٣، والماوردي ٢/ ٢٣٧، والبغوي ٣/ ٢٥٦، وابن عطية ٥/ ٥٧١.
(٣) لم أقف عليه
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٣، والطبري ٨/ ٢٣٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥١٩ بسند جيد.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٣.
(٦) "الزاهر" ٢/ ٣٢٤، وفيه: (الغابر: الباقي وهو الأشهر عندهم، وقد يقال أيضًا: للماضي وقوله: ﴿الْغَابِرِينَ﴾ أراد في الباقين) اهـ. وانظر: "الأضداد" ص ١٢٩، و"نزهة القلوب" ص ٣٤٣.
(٧) وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢١٨، والطبري ٨/ ٢٣٦: (أي: من المعُمرين قبل هلاكهم ثم هلكت لما جاءهم العذاب) اهـ. والأكثر في اللغة أن =
223
٨٤ - قوله تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ الآية. يقال: مطرتنا السماء وأمطرتنا، والأول أفصح (١) وأمطرهم الله مطرًا وعذابًا، وكذلك أمطر عليهم (٢). قال ابن عباس (٣) والمفسرون (٤): (أمطر الله عليهم حجارة من السماء). كما قال في آية أخرى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾ [الحجر: ٧٤].
٨٥ - قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾. قال المفسرون (٥):
= يكون الغابر: الباقي، أفاده النحاس في "معانيه" ٣/ ٥٢، وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٧، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، و"تفسير المشكل" ص ٨٥.
(١) انظر: "العين" ٧/ ٤٢٥، و"الجمهرة" ٢/ ٧٦٠ و ٣/ ١٢٥٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤١٢، و"الصحاح" ٢/ ٨١٨، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٣٣٢، و"المجمل" ٣/ ٨٣٤، و"المفردات" ص ٧٧٠، و"اللسان" ٧/ ٤٢٢٣ (مطر).
(٢) قال السمين في "الدر" ٥/ ٣٧٤ - ٣٧٥ قال بعضهم: (مطر في الرحمة، وأمطر في العذاب، وهذا مردود بقوله تعالى: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: ٢٤] فإنهم إنما عنوا بذلك الرحمة وهو من أمطر رباعيًا وَمَطَر وأمْطَر بمعنى واحد يتعديان لواحد يقال: مطرتهم السماء وأمطرتهم، و (أمطرنا) ضُمِّن معنى (أرسلنا) ولذلك عدي بعلى) اهـ. بتصرف.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٠٩، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٢٢٨.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٣٧، والسمرقندي ١/ ٥٥٣، والبغوي ٣/ ٢٥٦، وابن عطية ٥/ ٥٧٣.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٣٧، والسمرقندي ١/ ٥٥٤، والبغوي ٣/ ٢٥٦، وابن عطية ٥/ ٥٧٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٢٨، وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٥٨: (مدين تطلق على القبيلة وهم من سلالة مدين بن إبراهيم، وعلى المدينة وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة) اهـ. وانظر: "تاريخ الطبري" ١/ ٣٢٦ - ٣٢٧، و"عرائس المجالس" ص ١٦٤ - ١٦٥، و"معجم البلدان" ٥/ ٧٧، ٧٨، و"الكامل" لابن الأثير ١/ ١٥٧، و"البداية والنهاية" ١/ ١٨٤، وقال الخازن ٢/ ٢٦١: (أكثر المفسرين على أن مدين اسم رجل وهو الصحيح لقوله =
224
(مدين: اسم ولدٍ لإبراهيم، وهو مدين بن إبراهيم الخليل، وشعيب بعث إلى أولاد مدين، ومدين صار اسمًا للقبيلة، كما يقال: بكر وتميم). قال الزجاج: (ولم يصرف (مدين) لأنه اسم للقبيلة، وهو أعجمي) (١).
وقوله تعالى: ﴿أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾. قال عطاء عن ابن عباس: (هو شعيب ابن توبة بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن) (٢).
وقوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾. قال بعض أهل التفسير: (البينة شعيب) ومعناه: قد جئتكم بالرسالة، ومجيء البينة هاهنا مجيء شعيب. وبهذا قال الفراء؛ فإنه قال: (لم يكن له آية إلا (٣) النبوة) (٤)، وأنكر الزجاج ذلك وجعله (غلطًا فاحشًا؛ لأن شعيبًا دعا إلى أنه رسول، ولا سبيل إلى علم ذلك إلا بمعجزة (٥). ولو ادعى مدعٍ النبوة بغير آية
= ﴿أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ يعني في النسب لا في الدين) اهـ.
(١) قال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٥٣: (مدين لا ينصرف لأنه اسم للقبيلة أو البلدة، وجائز أن يكون أعجميًّا) اهـ.
وقال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٢٥: (لم تنصرف لأنها اسم مدينة وقيل: إنها اسم قبيلة وقيل: للعجمة وأصحها الأول) اهـ. وانظر: "الفريد" ٢/ ٣٣١، و"الدر المصون" ٥/ ٣٧٥.
(٢) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٤ أ، والبغوي ٣/ ٢٥٦ من قول عطاء فقط، والمشهور أنه شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. انظر: "تاريخ الطبري" ١/ ٣٢٥، و"تفسيره" ٨/ ٢٣٧، و"عرائس المجالس" ص ١٦٤، و"الكامل" لابن الأثير ١/ ١٥٧، و"البداية والنهاية" ١/ ١٨٥، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٦/ ٣١٩.
(٣) في (أ): (لم يكن له آية النبوة) ثم صحح في الهامش (إلى إلا النبوة).
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٥.
(٥) في (ب): (إلا المعجزة).
225
لم تقبل منه (١)، ومعجزة شعيب لم تذكر في القرآن) (٢).
وقال عطاء عن ابن عباس: (﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يريد موعظة) (٣) ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾. قال المفسرون: (إن قوم شعيب كانوا أهل كفر بالله وبخس للمكيال والميزان (٤). فأمرهم شعيب بتوحيد الله وإتمام الكيل والوزن) (٥).
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾. أي: بعد إصلاح الله تعالى إياها ببعثه شعيب. وهذا معنى قول ابن عباس (٦)، وإلى هذا أشار الزجاج، فقال: (أي: لا تعملوا فيها بالمعاصي وبخس الناس بعد أن أصلحها الله عز وجل بالأمر بالعدل، وإرسال الرسول) (٧). وتفسير هذا
(١) في (ب): (لم يقبل منه ومعجز شعيب لم يذكر في القرآن).
(٢) هذا كله كلام الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٥٣ - ٣٥٤، وقال ابن كثير في "البداية" ١/ ١٨٥: (﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (أي: دلالة، وحجة واضحة، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به، وأنه أرسلني، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلاً، وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالًا) اهـ. وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢٥٦، والزمخشري ٢/ ٩٣، وابن عطية ٥/ ٥٧٤، والرازي ١٤/ ١٧٣.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٨ من قول عطاء فقط. وانظر "الخازن" ٢/ ٢٦١.
(٤) في (ب): (وبخس المكيال والميزان).
(٥) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٥، والرازي ١٤/ ١٧٤، وفي "الدر المنثور" ٣/ ١٨٩، أن ابن عباس قال: (كانوا قومًا طغاة بغاة أهل بخس في مكايلهم وموازينهم مع كفرهم بربهم وتكذيبهم نبيهم) اهـ. ملخصًا.
(٦) ذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٨٩، وانظر: "تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٦/ ٣١٩ - ٣٢٠.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٤، ونحوه ذكره الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣٧، والنحاس =
226
سابق في قوله: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الأعراف: ٥٦].
٨٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾، قال الكلبي: (ولا تقعدوا على طريق الناس تخوفون أهل الإيمان بشعيب بالقتل) (١)، ونحو ذلك قال السدي (٢) ومقاتل (٣)، وقتادة؛ قالوا: (إن مفعول الإيعاد مضمر على معنى: توعدون من أتى شعيبًا وأراد (٤) الإيمان به)، والإيعاء إذا أطلق اقتضى الشر (٥).
= في "معانيه" ٣/ ٥٢، والسمرقندي ١/ ٥٥٥، وقال ابن عطية ٥/ ٥٧٤: (هو لفظ عام يشمل دقيق الفساد وجليله، وكذلك الإصلاح عام، والمفسرون نصوا على أن الإشارة إلى الكفر بالفساد وإلى النبوات والشرائع بالإصلاح) اهـ. بتصرف.
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٨ عن السدي وقتادة والكلبي.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣٨ بسند جيد عن السدي وقتادة ومجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢١، عن السدي ومجاهد.
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٤٨، وذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٣٨، عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة، وذكره القرطبي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي. وقال: (وهو ظاهر الآية) اهـ، وهو قول عامة أهل التفسير. انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٨٥، والزجاج ٢/ ٣٥٤، والنحاس ٣/ ٥٣، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢٣٨، والسمرقندي ١/ ٥٥٥.
(٤) في (ب): (وأراد به الإيمان به).
(٥) قال أهل اللغة: الوَعْد يستعمل في الخير والشر، ويقال في الخير: الوَعدُ والعِدَة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، فإذا أدخلوا الباء في الشر جاءوا بالألف أوعدته بالشر. انظر: "العين" ٢/ ٢٢٢، و"الجمهرة" ٢/ ٦٦٨، و"الزاهر" ٢/ ١٢٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩١٥، و"الصحاح" ٢/ ٥٥١، و"مقاييس اللغة" ٦/ ١٢٥، و"المجمل" ٣/ ٩٣١، و"المفردات" ص ٨٧٥، و"اللسان" ٨/ ٤٨٧١ (وعد).
227
وقوله تعالى: ﴿بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾. يقال: قعد له بمكان كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا، وهذه الحروف تتعاقب (١) في هذا الموضوع لاجتماع معانيها فيه، وذلك أنك إذا قلت: قعد بمكان كذا فـ (الباء) للالتصاق، وهو قد لاصق المكان، و (على) للاستعلاء، وهو قد علا المكان، و (في) للمحل، وهو قد حلّ المكان.
وقوله تعالى: ﴿وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ (٢) (٣). قال ابن عباس: (كانوا يجلسون على الطريق فيخبرون من أتى عليهم أن شعيبًا كذّاب فلا يفتنكم عن دينكم) (٤).
وقال مقاتل: (وتصدون عن دين الله من آمن به) (٥).
وقال الكلبي: (وتصرفون عن دين الله الإِسلام من آمن بشعيب) (٦). فالكناية في ﴿بِهِ﴾ يجوز أن تعود إلى ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ لأن المراد به دين الله على قول مقاتل، وعلى قول الكلبي الكناية تعود إلى شعيب، وقال عكرمة:
(١) انظر: "حروف المعاني" ص ٤٧، و"معاني الحروف" للرماني ص ٣٦، والصاحبي ص ١٣٢، و"مغني اللبيب" ١/ ١٠١.
وقال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ١٣/ ٣٤٢: (والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين) اهـ.
وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣٠٦، و"تفسير الطبري" ٨/ ٢٣٩، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٢٥، و"الدر المصون" ٥/ ٣٧٦.
(٢) في (ب): (ويصدون) بالياء، وهو تصحيف.
(٣) في (أ): (من آمن باللهِ)، وهو تحريف.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٢٣٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢١ بسند جيد.
(٥) "تفسيرمقاتل" ٢/ ٤٨.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٠.
228
(﴿مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ (١) يعني: بالله) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾. قال مجاهد: (يلتمسون لها الزيغ) (٣). وقال السدي: (وتبغون هلاك الإِسلام).
وقال قتادة (٤): (وتبغون عوج السبيل عن الحق)، [و] (٥) قال الحسن: (لا تستقيمون على طريق الهدى) (٦). قال ابن زيد: (وتبغون اعوجاج السبيل) (٧).
وقال أبو إسحاق: (أي: وتريدون الاعوجاج والعدول عن القصد) (٨). وقد ذكرنا مستقصى معنى ﴿وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ في سورة آل عمران [: ٩٩].
(١) في (ب): (من آمن بي).
(٢) لم أقف عليه. وانظر: "تفسير ابن عطية" ٥/ ٥٧٦.
وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٣٩: (والظاهر أن الضمير عائد على ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وذكره لأن السبيل تذكر وتؤنث وقيل: عائد إلى الله. وأجاز ابن عطية أن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للرد عن شعيب وهو بعيد لأن القائل ﴿وَلَا تَقْعُدُوا﴾ هو شعيب، ولا يسوغ أن يكون من باب الالتفات إذ لا يحسن أن يقال: يا هذا أنا أقول لك، لا تُهِن من أكرمه أي: من أكرمني) اهـ. بتصرف، وانظر: "الدر المصون" ٥/ ٣٧٧ - ٣٧٨.
(٣) أخرجه الطبري ٨/ ٢٣٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٢ من عدة طرق جيدة عن مجاهد وقتادة والسدي.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٣ بسند جيد.
(٥) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٨، وانظر: "الخازن" ٢/ ٢٦٢.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٤، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢١٩ - ٢٢٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٢٦.
229
وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾. قال الزجاج: (يحتمل ثلاثة أوجه: كثر عددكم، وكثركم بالغنى بعد الفقر، وكثركم بالمقدرة بعد الضعف) (١)، ووجه ذلك أنهم إذا كانوا فقراء أو ضعفاء فهم بمنزلة القليل في قلة الغناء، وإلى هذه المعاني أشار ابن عباس فقال: (فكثركم بعد القلة وأعزكم بعد الذلة) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾. قال الكلبي: (يعني: آخر أمر قوم لوط) (٣). وقال في قوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾، (فكثر عددكم، وذلك أنه كان مدين بن إبراهيم وزوجه ريثاء (٤) بنت لوط، فولدت حتى (٥) كثر عدد أولادها) (٦).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٥، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٥٤.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٠، وذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٣٩، -وهذا هو قول الأكثر- قال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٤٠: (والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص، أو إلى الفقر والغنى، أو إلى قصر الأعمار وطولها، أقوال ثلاثة أظهرها الأول، وقيل: المراد مجموع الأقوال فإنه تعالى كثر عددهم وأرزاقهم وطول أعمارهم وأعزهم..) اهـ. وانظر: "تفسير الطبري" ٨/ ٢٣٩، والسمرقندي ١/ ٥٥٥، والبغوي ٣/ ٢٥٧، والزمخشري ٢/ ٩٤، وابن عطية ٥/ ٥٧٦.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٠، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ١٠٩.
(٤) في (ب): (ربتاء) بالباء والتاء، وقد اختلف العلماء في ذلك فقال (بعضهم: كان زوج بنت لوط، وذهب البعض إلى أنه ابن بنت لوط). انظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ٢٤٧.
(٥) في (ب): (حين)، وهو تحريف.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٠٩، وهو قول السمرقندي ١/ ٥٥٤ - ٥٥٥، والرازي ١٤/ ١٧٦، وذكره الماوردي ٢/ ٢٣٩، وعنده (زينا بنت لوط) وعند الرازي (رئيا).
230
٨٨ - قوله تعالى: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾. قال الزجاج (١) وابن الأنباري (٢) وجماعة أصحاب المعاني (٣): (هذا يحتمل وجهين (٤): أحدهما أن المعنى: (أو لتصيرن إلى ملتنا)، فوقع (العود) على معنى الابتداء كما تقول العرب: قد عاد عليَّ من فلان مكروه، يريدون قد صار إليَّ منه المكروه ابتداءً وأنشدوا على هذا:
فإنْ تكُنِ الأيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً إليَّ فقَدْ عادَتْ لهنَّ ذُنوبُ (٥)
أراد: لقد صارت لهن ذنوب ولم يخبر أن ذنوبًا كانت [لهن] (٦) قبل الإحسان، والثاني: أن أتباع شعيب كانوا قبل دخولهم في دينه على الكفر موافقين لقومهم، فخاطبوا شعيبًا بخطاب أتباعه وغلَّبوا خطابهم على خطابه لكثرتهم وانفراده.
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٥.
(٢) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٢٣٠ - ٢٣١ عن ابن الأنباري.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٤ - ٥٥، والسمرقندي ١/ ٥٥٥، والماوردي ٢/ ٢٤٠.
(٤) في (ب): (في هذا وجهين).
(٥) الشاهد لكعب بن سعد الغنوي في: "الاختيارين" ص ٧٥٣، و"جمهرة أشعار العرب" ص ٢٥١، و"أمالي القالي" ٢/ ١٤٩، و"ديوان المعاني" ٢/ ١٧٩، وبلا نسبة في "تفسير الماوردي" ٢/ ٢٤٠، وابن عطية ٦/ ٢، و"البيان" لابن الأنباري ١/ ٣٦٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٣١، والرازي ١٤/ ١٧٧، و"الخازن" ٢/ ٣٦٢، وفي "الأصمعيات" ص ٩٩، نسب إلى عزيقة بن مسافع العبسي، وقال الشيخ أحمد شاكر وعبد السلام هارون -رحمهما الله تعالى- في "حاشية الأصمعيات" ص ٩٤: (القصيدة مرثية مشهورة لكعب بن سعد الغنوي يرثي فيها أخاه، لم يخالف في ذلك أحد فيما علمنا) اهـ.
(٦) لفظ: (لهن) ساقط من (ب).
ومعنى الآية: ليكونن أحد الأمرين: إما الإخراج من القرية، أو عودكم في ملتنا، ولا نُقارّكم (١) في مخالفتنا (٢)، وذكرنا الكلام في هذا مشروحًا عند قوله: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾ [إبراهيم: ١٣] في سورة إبراهيم. فقال شعيب: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾. [وهذا مختصر معناه: أو لو كنا كارهين] (٣) تجبروننا عليه؟ كقوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠]. ومعناه: يتبعونهم وإن كانوا بهذه الصفة؟ وقد ذكرنا (٤) ذلك.
٨٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾، معنى العود هاهنا: الابتداء كما ذكرنا، والذي عليه أهل العلم (٥) والسنة
(١) في (أ): (ولا نقاركم على مخالفتنا).
(٢) قال أكثرهم: (عاد تكون بمعنى صار ولا إشكال في ذلك، والمعنى: لتصيرن في ملتنا بعد إن لم تكونوا، وتكون بمعنى رجع إلى ما كان عليه، وشعيب عليه السلام لم يكن قط على دينهم وأجيب على ذلك بأوجه منها:
- إن رؤساءهم قالوا ذلك على سبيل الإبهام والتلبيس على العامة.
- إن المراد رجوعه إلى حال سكوته عنهم قبل بعثته.
- تغليب الجماعة على الواحد لأنهم لما صحبوه سحبوا عليه حكمهم في العود.
قال صديق خان في "فتح البيان" ٤/ ٤١٠: (الأولى ما قاله الزجاج أن العود بمعنى الابتداء). ورجح شيخ الإِسلام في "الفتاوى" ١٥/ ٢٩ - ٣١ أن شعيبًا والذين آمنوا معه كانوا على ملة قومهم لظاهر الآية ولأنه هو المحاور لهم، وذكر عدة أدلة على ذلك. وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢٥٧، والزمخشري ٢/ ٩٦، وابن عطية ٦/ ٣، والرازي ١٤/ ١٧٧، و"البحر" ٤/ ٣٤٢، و"الدر المصون" ٥/ ٣٧٩ - ٣٨٠.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٠٤ أ.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٥، والسمرقندي ١/ ٥٥٥، والماوردي ٢/ ٢٤٠، والبغوي ٣/ ٢٥٧، وابن عطية ٦/ ٢.
232
في هذه الآية: إن شعيبًا وأصحابه قالوا: ما كنا لنرجع في ملتكم (١) بعد إذ وقفنا على أنها ضلالة تُكسبُ دخول النار إلا أن يريد الله إهلاكنا، فأمورنا راجعة إلى الله (٢)، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية، وهذا من شعيب وقومه استسلام للمشيئة، ولم يزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥]، وكثيرًا ما كان يقول (٣) نبينا محمد - ﷺ -: "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك" (٤).
وقال أبو إسحاق: (المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن
(١) في (ب): (ملتهم).
(٢) في (ب): (راجعة إليه).
(٣) في (ب): (وكثير ما كان نبينا محمد - ﷺ - يقول).
(٤) أخرج مسلم في "صحيحه" رقم (٢٦٥٤) كتاب القدر، باب: تعريف الله القلوب كيف يشاء، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله - ﷺ - قال: "اللَّهُمَّ مُصَرَفَ القُلُوب صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ" اهـ، وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" ٦/ ١٦٨ (٣٠٣٩٦)، وأحمد في "المسند" ٢/ ١٦٨ و١٧٣، وابن ماجه كتاب المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية رقم (١٩٩)، رقم ٣٨٣٤، والترمذي كتاب القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن رقم (٢١٤٠)، (٣٥٢٢)، وابن أبي عاصم في "السنة" ١/ ١٠١ - ١٠٤، والآجري في "الشريعة" ٢/ ٧٣٠، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٢٨٨ - ٢٨٩، من عدة طرق جيدة أن النبي - ﷺ - كان يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، قال الترمذي: (حديث حسن)، وصححه الألباني في "ظلال الجنة في تخريج السنة"، وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" ٤/ ٢٦١ رقم (١٦٨٩).
233
[يكون] (١) قد سبق في علم الله جل وعز و (٢) في مشيئته أن نعود فيها. وتصديق ذلك قوله: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، قال: وهذا مذهب أهل السنة)، ثم ذكر وجهين آخرين، هما من قول من لا يؤمن بإرادة الله تعالى الخير والشر:
أحدهما: إن هذا على طريق التبعيد، كما يقال: لا نفعل ذلك إلا أن يبيض القار ويشيب الغراب (٣)، وهذا لا يصح مع قوله: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [المدثر: ٣١]، وقوله: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ﴾ [الأنعام: ٣٩]، وآيات كثيرة تصرح بأن الله تعالى يشاء [كل] (٤) ما يحدث في العالم.
والثاني: أن في ملتهم ما يجوز التعبد به من وجوه البر الذي كانوا يتقربون به إلى الله تعالى (٥)، ويكون معنى الآية: وما يكون لنا أن نعود في بعض ملتكم، وفي معنى من معاني شرائعكم إلا أن يردنا الله إليه بأن يتعبدنا به).
قال ابن الأنباري: (و (٦) هذا قول مُتَنَاولُهُ بعيد؛ لأن فيه تبعيض الملة) (٧).
وقال الزجاج: (والقول هو القول (٨) الأول؛ لأن قوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا
(١) لفظ: (يكون) ساقط من (ب).
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٣) انظر: شرح ذلك فيما تقدم (سورة الأعراف: آية ٤٠ من هذا المجلد).
(٤) لفظ: (كل) ساقط من (أ).
(٥) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ).
(٦) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٧) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٣٨٣.
(٨) لفظ (القول) ساقط من (أ).
234
اللَّهُ مِنْهَا} أنه النجاة من الكفر ومن أعمال المعاصي، لا من أعمال البر) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ منصوب على التمييز (٢). قال ابن عباس: (يريد يعلم ما يكون قبل أن يكون) (٣).
وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: ٨٩]. قال ابن عباس (٤)، والحسن، وقتادة (٥)، والسدي: (احكم واقض).
قال الفراء: (وأهل عُمَان يسمون القاضي الفاتح والفتاح) (٦).
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٥ - ٣٥٧، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٢٦، والسمرقندي ١/ ٥٥٥ - ٥٥٦، والماوردي ٢/ ٢٣٩ - ٢٤٠، والبغوي ٣/ ٢٥٧، وابن عطية ٦/ ٤، و"البحر" ٤/ ٣٤٣ - ٣٤٤، وقال ابن كثير في معنى الآية ٢/ ٢٥٩: (هذا رد إلى الله مستقيم فإنه يعلم كل شيء وقد أحاط بكل شيء علمًا) اهـ. وانظر: "بدائع التفسير" ٢/ ٢٦١، ونقل قول الواحدي الخازن في "تفسيره" ٢/ ٢٦٣.
(٢) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٧، و"الفريد" ٢/ ٣٣٣، و"الدر المصون" ٥/ ٣٨٣.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٠، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٢٣١.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٢ - ٣ من عدة طرق جيدة عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي.
وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٣ بسند جيد عن ابن عباس وفي "صحيح البخاري" ٨/ ٢٩٧ كتاب التفسير، في تفسير سورة الأعراف قال ابن عباس: (الفتاح: القاضي، ﴿افْتَحْ بَيْنَنَا﴾: اقض بيننا).
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/٢٣٣ بسند جيد وهو قول الأكثر. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٠، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٨، و"تفسير غريب القرآن" ١/ ١٧٩، و"تفسير الطبري" ١٢/ ٥٦٣، و"الزاهر" ١/ ٩٣، و"نزهة القلوب" ص ١٢٦، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٥، و"تفسير المشكل" ص ٨٥.
(٦) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٥، وجاء في "مجاز القرآن" ١/ ٢٢١، والطبري ٩/ ٢ - ٣، =
235
وروي أبو العباس عن ابن الأعرابي: (الفتاح: الحكومة، ويقال للقاضي: الفَتَّاح لأنه يفتح مواضع الحق) (١).
وروي عن ابن عباس أنه قال: (ما كنت أدري قوله: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا﴾ حتى سمعت ابنة ذي يزن (٢) تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي: أحاكمك) (٣).
قال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا﴾ أي: أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف، فجائز أن يكون يسألون بهذا أن ينزل بقومهم من العذاب والهلكة ما يظهر أن الحق معهم) (٤).
= (أن هذا لغة مراد بطن من كهلان من القحطانية) وفي "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٣٢، (أنها لغة أهل اليمن).
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٣٢، والفَتْح أصله من فتح الباب بعد إغلاقه ثم كثر واتسع فيه حتى سمي الحاكم فاتحًا لأنه يفتح المستغلق بين الخصمين ويفتح الباب إلى الحق ويبينه. انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص ٣٩، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١٨٩.
(٢) ذو يَزَن -ملك من ملوك اليمن- اسمه النعمان بن قيس الحِمْيَري، وقيل: عامر بن أسلم بن غَوْث، ويزن وادٍ باليمن أضيف إليه، انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٤٣٦، و"نزهة الألباء" لابن حجر ١/ ٣١٣.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ٢ - ٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٣ بسند جيد عن قتادة عن ابن عباس، لكن قتادة لم يسمع من ابن عباس. انظر: "المراسيل" ص ١٦٨، وذكر الأثر عن ابن عباس. وابن دريد في "الجمهرة" ١/ ٣٨٦، والسمرقندي ١/ ٥٥٦، والثعلبي في "الكشف" ١٩٤ ب، والماوردي ٢/ ٢٤١، والرازي ١٤/ ١٨٠، والسيوطي في "الدر" ٣/ ١٩١.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٨.
236
وعلى هذا فالفتح يراد به الكشف والتبيين، ويؤكد هذا ما روى سعيد (١) عن قتادة في هذه الآية قال: (اقض بيننا وبين قومنا) (٢).
٩٢ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا﴾. هذا ترجمة وتفسير للأسماء المكنية التي في قوله: ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ﴾ (٣) [الأعراف: ٩١] علي تأويل: فأصبح ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا﴾ ﴿فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ [هود: ٦٧ - ٦٨]، مثل قوله: ﴿عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٧١]، قاله أبو علي الجرجاني (٤).
وقوله تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾. يقال: غني (٥) القوم في دارهم: إذا طال مقامهم فيها، والمغاني: المنازل التي كان بها أهلوها، واحدها
(١) سعيد بن أبي عروبة العدوي مولاهم أبو النضر بن مهران البصري، إمام حافظ ثقة من أثبت الناس في قتادة، وله تصانيف، واختلط في آخر عمره، توفي سنة ١٥٧ هـ أو قبلها. انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ٦٥، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ٤١٣، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ١٧٧، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٣٣.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) في (ب): ﴿فىِ دِيَارِهِمْ﴾ والجمع جاء في سورة هود: ٦٧ و٩٤ ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) الغِنَى مقصور مكسور الأول من اليسار وكثرة المال والغناء ممدود ومفتوح الأول النفع والكفاية، والغناء ممدود مكسور الأول من الصوت، وغَني القوم في دارهم: أقاموا كأنهم استغنوا بها، ومَغَانيهم: منازلهم. انظر: "العين" ٤/ ٤٥٠، و"الجمهرة" ٢/ ٩٦٤، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١١٩، و"البارع" ص ٤١٩، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٠٣، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٤٩، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٣٩٧، و"المجمل" ٣/ ٦٨٧، و"المفردات" ص ٦١٥، و"اللسان" ٦/ ٣٣٠٨ (غنى).
237
مَغْنى، قال الأسود (١) بن يعفر:
وَلَقَد غَنُوا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ فيِ ظِلِّ مُلْكٍ ثَابتِ الأَوتادِ (٢)
أراد: أقاموا فيها.
قال المفسرون (٣): (كأن لم يقيموا فيها ولم ينزلوا فيها). قال الزجاج: (ويكون ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾: كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، كما قال الشاعر:
غَنينا زمانًا بالتصَعْلُكِ والغِنى وكُلاًّ سَقَاناهُ بكَأسَيهِما الدّهْرُ (٤)
قال: فمعنى (غنينا زمانًا) أي: عشنا زمانًا، بالتصعلك وهو الفقر) (٥).
(١) الأسْوَد بن يَعْفُر بن عبد الأسود النَّهْشَلي، أبو الجراح، أعشى نَهْشل، شاعر جاهلي مقدم فصيح فحل جواد، كان ينادم النعمان بن المنذر، ولما أسن كف بصره. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ١٤٣ و١٤٧، و"الشعر والشعراء" ص ١٥٢، و"الأغاني" ١٣/ ١٧، و"الأعلام" ١/ ٣٣٠.
(٢) الشاهد في "المفضليات" ص ٢١٧، و"الحماسة البصرية" ٢/ ٤١٢، و"وضح البرهان" للغزنوي ١/ ٣٦٢، و"تفسير الرازي" ١٤/ ١٨٢، و"الخازن" ٢/ ٢٦٤، و"الدر المصون" ٥/ ٣٨٧، وهو من قصيدته الدالية المشهورة التي كانت مثار إعجاب الخلفاء والولاة، انظر: "الأغاني" ١٣/ ٢٢.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٥، وأخرجه من عدة طرق جيدة عن ابن عباس وقتادة وابن زيد، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٥٥، والسمرقندي ١/ ٥٥٦، والماوردي ٢/ ٢٤٠، والبغوي ٣/ ٢٥٩.
(٤) الشاهد لحاتم الطائي في "ديوانه" ص٥١، و "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٨، و"تفسير الثعلبي" ١/ ٦، وابن عطية ٦/ ١١، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٢، والقرطبي ٧/ ٢٥٢، و"البحر" ٤/ ٣٤٦، وفي "الديوان":
غنينا زمانًا بالتصعلك والغنى كما الدّهرُ في أيّامِه العُسْرُ واليُسرُ
كَسَينا صُرُوفَ الدَّهرِ لِينًا وغِلظَة وكُلا سَقَاناه بكأسيهما الدهرُ
(٥) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٨.
238
ووافقه ابن الأنباري على هذا المعنى، فقال في قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾: (كأن لم يستغنوا فيها، يقال: غني الرجل يغنى (١): إذا استغنى) (٢) وعلى هذا هو من الغنى الذي هو ضد الفقر، وليس من الإقامة (٣) في شيء، يؤكد هذا المعنى ما روي عن قتادة أنه قال في هذه الآية: (كأن لم ينعموا فيها) (٤). ووجه التشبيه في: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ أن حال المكذبين يشبه حال من لم يكن قط في تلك الديار، كما قال الشاعر:
كأنْ لم يكُن بينَ الحَجُونِ إلى الصَّفا أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكَّةَ سَامِرُ
بَلَى نحنُ كنَّا أهلَهَا فأبادَنا صُروُفُ الليالي والجُدُودُ العَواثرُ (٥)
(١) لفظ: (يغنى) ساقط من (ب).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) قال ابن عطية في "تفسيره" ٦/ ١٠: (الذي استقريت عن العرب أن غنيت في المكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرضي) اهـ. والمشهور عن أهل اللغة والتفسير أنها لمطلق الإقامة، قال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٢١: (أي: لم ينزلوا فيها ولم يعيشوا فيها) وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٨، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، و"نزهة القلوب" ص ٤٨٧، و"تفسير المشكل" ص ٨٦.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/٢٣٣، والطبري ٩/ ٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٤ بسند جيد بلفظ: (كأن لم يعيشوا فيها كأن لم ينعموا فيها) اهـ.
(٥) البيتان في "السيرة" لابن هشام ١/ ١٢٦، و"العقد الفريد" ٥/ ٥٩، و"شرح القصائد" لابن الأنباري ص ٢٥٦، و"الأغاني" ١٥/ ١٠ - ١٦ - ٢٣، و"وضح البرهان" للغزنوي ١/ ٣٦٢، و"الروض الأنف" ١/ ١٢٧، والرازي ١٤/ ١٨٢، و"معجم البدان" ٢/ ٢٢٥، و"الحماسة البصرية" ٢/ ٤١١، و"اللسان" ٢/ ٧٩٢ =
239
وقوله تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ إبانة عن سوء حال المكذب نبيًا من أنبياء الله في أنه بمنزلة من لم يستمتع بالدنيا؛ إذ حصل في العذاب وصار إلى الخسران.
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ﴾، هذا ابتداء منقطع من الفصل الأول، جملة من المبتدأ والخبر (١). قال ابن الأنباري: (ووقع التكرير لتعظيم الذم لهم و (٢) تفظيع ما يستحقون من الجزاء على جهلهم، والعرب تكرر مثل هذا في التفخيم والتعظيم، فيقول الرجل [للرجل] (٣): أخوك الذي ظلمنا، أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي شتم أعراضنا) (٤).
٩٣ - قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾، قال الكلبي: (خرج من بين أظهرهم ولم يعذب قومُ نبي حتى يخرج من بينهم) (٥).
= (حجن) والبيت الأول في "الصحاح" ٥/ ١٠٩٧ (حجن)، و"الأفعال" للسرقسطي ٣/ ٥٥٤، وابن عطية ٦/ ٩، و"البحر" ٤/ ٣٤٦، وعند الأكثر هما لعمرو بن الحارث الجُرْهُمي، وقيل هما لمُضَاض بن عمرو الجرهمي، وقيل هما للحارث الجرهمي. (والحَجُون) جبل بأعلى مكة. انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٢٢٥ (والصَّفَا) مكان مرتفع من جبل أبي قبيس بينه وبين المسجد الحرام عرض الوادي الذي هو طريق وسوق، انظر: "معجم البلدان" ٣/ ٤١١، والعواثر: جمع عاثرة، وهي الحادثة التي تعثر بصاحبها. انظر: "اللسان" ٥/ ٢٨٠٧ (عثر).
(١) انظر: "البيان" ١/ ٣٦٨، و"التبيان" ١/ ٣٨٤، و"الفريد" ٢/ ٣٣٣ - ٣٣٤، و"الدر المصون" ٥/ ٣٨٥ - ٣٨٧.
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٣) لفظ: (للرجل) ساقط من (ب).
(٤) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٢٣٣، وهو عند الرازي ١٤/ ١٨٢ بدون نسبة.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٢، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ١٨٢.
240
وقال أهل المعاني: (أعرض عنهم إعراضَ آيِسٍ منهم لما نزل العذاب بهم، وذلك أنه كان مقبلًا عليهم بالوعظ والدعاء إلى الحق، فلما تمادوا في غيهم، فأخذهم الله عز وجل ببأسه، تولى عنهم) (١).
وقوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾. أي: كيف يشتد حزني (٢). يقال: أسِيت (٣) على الشيء آسَى (٤) أسًى إذا اشتد حزنه عليه.
قال امرؤ القيس:
يَقُولونَ لاَ تَهْلِكْ أَسًى وتَجَمَّلِ (٥)
وقوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ آسَى﴾ استفهام معناه الإنكار، أي: لا آسى عليهم. ومعنى الآية: أن شعيبًا -عليه السلام- يتسلى عنهم بما يتذكر من حاله
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٦، والسمرقندي ١/ ٥٥٦، وقد سبق لمثل هذا زيادة بيان.
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٢، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٩، و"نزهة القلوب" ص ٧٣، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٦.
(٣) الأسى مفتوح مقصور: الحزن. انظر: "العين" ٧/ ٣٣٢، و"الجمهرة" ١/ ٢٣٨، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٦٣، و"الصحاح" ٦/ ٢٢٦٨، و"مقاييس اللغة" ١/ ١٠٦، و"المفردات" ص ٧٧، و"اللسان" ١/ ٨٢ (أسَى).
(٤) في (ب): (أسًا).
(٥) "ديوانه" ص ١١١، و"طبقات فحول الشعراء" ١/ ٥٩، و"الشعر والشعراء" ص ٦٤، و"جمهرة أشعار العرب" ص ٩٥، و"الصناعتين" ص ٢٢٩، وهو من معلقته المشهورة وأوله:
وُقوفًا بِها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ
قال النحاس في "شرح المعلقات" ١/ ٥: (الصحب الجماعة ومطيهم، واحده مطية وهي: الراحلة، والأسى: الحزن، وتجمل أي: أظهر جميلًا) اهـ. وانظر: "شرح القصائد" لابن الأنبارى ص ٢٤.
241
معهم في مناصحته لهم، وبتأديته رسالة ربه إليهم، وأنه لا ينبغي له أن يأسى عليهم مع تمردهم في كفرهم (١).
٩٤ - قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ﴾، قال ابن عباس: [(يريد] (٢) في مدينة) (٣)، والقرى (٤) في كتاب الله كلها المدائن، وقوله: ﴿مِنْ نَبِيٍّ﴾ محذوف الصفة، والتقدير: من نبي (٥) فكُذب، أو فكذبه أهلها، إلا أخذناهم. كذلك قال أهل التفسير (٦)، وعلى هذا يصح المعنى.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾. قال ابن عباس: (يريد: الفقر والأسقام) (٧). وقال السدي: (يعني: الفقر والجوع) (٨).
قال (٩) أبو إسحاق: (قيل: ﴿بِالْبَأْسَاءِ﴾ كل ما نالهم من شدة في أموالهم، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾: ما نالهم من الأمراض، قال: وقيل: على العكس من ذلك) (١٠).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٦، والسمرقندي ١/ ٥٥٦.
(٢) لفظ: (يريد) ساقط من (أ).
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١١.
(٤) قال الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٥٩: (يقال لكل مَدينة: قَرية، سميت قرية لاجتماع الناس فيها) اهـ. وانظر: "الزاهر" ٢/ ١٠٠ - ١٠١.
(٥) لفظ: (نبي) ساقط من (أ).
(٦) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٦ - ٥٥٧، والبغوي ٣/ ٢٥٩، وابن عطية ٦/ ١٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٣، والرازي ١٤/ ١٨٣.
(٧) ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٥/ ١٥٢٥، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٧، والماوردي ٢/ ٢٤٢، وقد سبق له زيادة تخريج.
(٨) ذكره الثعلبي في "الكشف" ٦/ ٢.
(٩) في (ب): (وقال).
(١٠) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٩، وقال ابن عطية ٦/ ١٣: (البأساء المصائب في =
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: كي يستكينوا ويرجعوا) (١).
٩٥ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾، مضى الكلام في حقيقة التبديل عند قوله: ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ [النساء: ٥٦]، ومعنى: ﴿السَّيِّئَةِ﴾ و ﴿الْحَسَنَةَ﴾ هاهنا: الشدة والرخاء. عن ابن عباس (٢) والحسن (٣) وقتادة (٤) ومجاهد (٥).
قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: بدل البؤس والمرض الغنى والصحة) (٦).
وقال أهل اللغة: (السيئة (٧) كل ما يسوء صاحبه، والحسنة (٨) ما يحسن عليه أثره).
= الأموال والهموم وعوارض الزمن، والضراء المصائب في البدن كالأمراض ونحوها، هذا قول ابن مسعود وكثير من أهل اللغة..) اهـ.
(١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٢، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١١ بلا نسبة.
(٢) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٦ بسند جيد.
(٣) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٤٢، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٣، والطبري ٩/ ٧ بسند جيد.
(٥) ذكره الماوردي ٢/ ٢٤٢، وفي "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٠ - ٢٤١: (مكان الشر الرخاء والعدل والعافية والولد) اهـ، وأخرجه الطبري ٩/ ٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٦ بسند جيد، وفي رواية عند الطبري قال: (السيئة الشر، والحسنة الخير) اهـ.
(٦) في "تنوير المقباس" ٢/ ١١٣ نحوه، وذكره المؤلف في "الوسيط" ١/ ٢١١ بلا نسبة.
(٧) انظر: "العين" ٧/ ٣٢٧، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٨٣، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١١٣، و"المفردات" ص ٤٤١ (سوء).
(٨) انظر: "العين" ٣/ ١٤٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٨٢١، و"المفردات" ص ٢٣٥ (حسن).
243
وقال أبو علي: (السيئة والحسنة قد جاءتا في التنزيل على ضربين: أحدهما: سيئة مأخوذ بها، وحسنة مُثَاب عليها، لقوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ (١) [الأنعام: ١٦٠]، والثاني: لما يستثقل (٢) في الطباع أو يُسْتَحفُّ (٣) كما في هذه الآية، وكقوله: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ﴾ الآية [الأعراف: ١٣١]، وكذلك الفساد، قد يكون (٤) فسادًا معاقبًا عليه كقوله: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية [القصص: ٧٧]، ويكون على غير ذلك، كقوله: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ﴾ [الروم: ٤١] يعني: الجدب) (٥)
والمعنى: أنه تعالى أخبر أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة وبالرخاء تارة (٦).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ (٧). قال أبو عبيد: (قال الكسائي: يقال: قد عفا الشعر وغيره إذا كثر، يَعْفُو فهو عافٍ، ومنه قوله تعالى: ﴿حَتَّى
(١) نص الآية (١٦٠) من سورة الأنعام: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
(٢) في (ب): (ما يستثقل).
(٣) في (ب): (ويستخف).
(٤) (وقد يكون).
(٥) "الحجة" لأبي علي ٥/ ١٠٣.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٧، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٦، والسمرقندي ١/ ٥٥٧.
(٧) العفُوّ على فَعُول: الكثير العفو وهو: ترك العقوبة، وعفا الشيء: إذا درس ونقص، وعفا إذا زاد وكثر، وأعفيت الشعر وعفوته: إذا كثرته وزدت فيه. انظر: "العين" ٢/ ٢٥٨، و"الأضداد" لقطرب ص ١١٤، و"الجمهرة" ٢/ ٩٣٨، و"أشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١٣٤، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٣١، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٥٦، و"المجمل" ٣/ ٦١٥، و"المفردات" ص ٥٧٤ (عفا).
244
عَفَوْا} يعني: كثروا، وفي بعض الحديث: (إذا عفا الوَبَر وبرأ الدبر حلت العمرة لمن اعتمر) (١).
ويقال للشعر إذا طال ووَفَى: عما (٢) ومنه قول زهير:
أَذَلكَ أم أَقَبُّ البَطْنِ جأبٌ عليه من عَقِيقَتِهِ عِفَاءُ (٣)
وقد عَفَّيت الشيء وأعْفَيتهُ لغتان إذا كثرته (٤) ومنه قوله عليه السلام أنه:
(١) هذا طرف من كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرج البخاري رقم (١٥٦٤) كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد، وفي رقم (٣٨٣٢) كتاب مناقب الأنصار، باب: أيام الجاهلية، ومسلم في "صحيحه" كتاب الحج، باب: تقليد الهدى وإشعاره عند الإحرام رقم (١٢٤٠)، عن ابن عباس قال: (كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من الفجور ويجعلون المحرم صفر، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر حلت العمرة لمن اعتمر..) قال الإمام النووي في "شرح مسلم" ٣/ ٣٠٨ - ٣٠٩: (يعني: أهل الجاهلية، والدبر: يعنون دبر ظهور الإبل بعد انصرافها من الحج فإنها كانت تدبر بالسير عليها للحج، وعفا الأثر أي: درس وامحى والمراد أثر الإبل وغيرها في سيرها عفا أثرها لطول مرور الأيام) اهـ، وانظر: "النهاية" ٣/ ٢٦٦.
(٢) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٩٠، عن أبي عبيد عن الكسائي، وانظر: "الكامل المبرد" ١/ ٤٣٠.
(٣) الشاهد في "شرح ديوان زهير" لثعلب ص ٧٥، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٩٠، و"اللسان" ٥/ ٣٠٢٠ (عفا)، و"الدر المصون" ٥/ ٣٨٩، (والأقب الضامر، والجأب، الغليظ، وعقيقته وبره، والعفاء: صغار الوبر والريش، وهو هنا شعر الحمار الذي ولد وهو عليه، يقول: أذلك الظليم أم هذا الحمار يشبه ناقتي أفاده ثعلب وقال ويروي: أذلك أم شَتِيم الوجهِ جأْب، وشتيم كريه الوجه صاحب شر) اهـ. وهو كذلك في "ديوانه" ص ١٥.
(٤) في (ب): (إذا كثر به).
245
"أمر أن تحفى الشوارب وتُعفي اللِّحى" (١)، يعني: توفر وتكثر) (٢).
وقال ابن الأنباري (٣): (يقال: عما الشيء: إذا زاد وكثر، وأنشد للبيد:
ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنهَا بأسْوُقِ عَافيَاتِ اللَّحْمِ كُوم (٤)
أراد: كثيرات اللحم)، فمعنى قوله: ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ أي: كثروا (٥)، في قول ابن عباس (٦)، ومجاهد (٧) والسدي وابن زيد (٨).
(١) أخرج البخاري في "صحيحه" رقم (٥٨٩٣) كتاب اللباس، باب: إعفاء اللحى، ومسلم كتاب الطهارة، باب: خصال الفطرة رقم (٢٥٩)، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - ﷺ -، أنه قال: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى". وفي رواية لمسلم عن النبي - ﷺ -: أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى.
(٢) أبي عبيد في "غريب الحديث" ١/ ٩٣، ونحوه قال ابن الأنباري في "الزاهر" ١/ ٤٢٨ - ٤٢٩، و"شرح القصائد" ص ٢١ - ٢٢، وانظر: "النهاية" ٣/ ٢٢٦، ١/ ٤١٠.
(٣) "الأضداد" لابن الأنباري ص ٨٧، و"الزاهر" ١/ ٤٢٩، و"شرح القصائد" ص ٢١.
(٤) "ديوانه" ص ١٨٦، و"مجاز القرآن" ١/ ٢٢٢، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٩٣، و"اللسان" ٥/ ٣٠٢١ (عفا)، و"الدر المصون" ٥/ ٣٨٩ وبلا نسبة في "الكامل" للمبرد ١/ ٤٣٠، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ١٥.
(٥) وهو قول عامة أهل اللغة والتفسير، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٢، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٨، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، و"الكامل" للمبرد ١/ ٤٣٠، و"تفسير الطبري" ٩/ ٨، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٥٩، و"نزهة القلوب" ص ٣٢٥، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٦، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٧، و"تفسير المشكل" ص ٨٦.
(٦) ذكره البخاري في "صحيحه" ٥/ ١٩٥، في تفسير سورة الأعراف، وأخرجه الطبري في "تفسيره" ٨/ ٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٦ من عدة طرق جيدة.
(٧) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤١، وأخرجه الطبري ٩/ ٨ من عدة طرف جيدة.
(٨) أخرجه الطبري ٩/ ٨، من عدة طرف جيدة عن السدي وابن زيد، وأخرجه عن إبراهيم النخعي والضحاك، وذكره الماوردي ٢/ ٢٤٢، عن ابن عباس ومجاهد والسدي.
246
قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: حتى كثروا فسمنوا، وكثرت أموالهم) (١). وروى عنه أيضاً: (حتى جموا) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ﴾، يعني: لما صاروا إلى الرخاء ﴿وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا﴾ من الدهر الشدة والرخاء، وتلك عادة الدهر، ولم يكن ما مسنا من البأساء والضراء عقوبة من الله، فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم ولم يقلعوا (٣) عن الكفر بما مسهم من الضراء، والله تعالى أخذهم بالضراء ليعتبروا ويقلعوا عن الكفر، وتكذيب الأنبياء فلم يعتبروا، وقالوا من غرّتهم وجهلهم: قد أصاب آباءنا في الدهر مثل ما أصابنا. وهذا معنى قول المفسرين (٤) في هذه الآية؛ قال ابن عباس: وهذا كما قال في سورة الأنعام: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الآية (٥) [الأنعام: ٤٤].
(١) قوله: كثروا، وكثرت أموالهم، سبق تخريجها، أما قوله: (سمنوا)، فلم أقف عليها عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٧، بسند جيد عن الحسن قال: (حتى سمنوا). وذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٣٢، والماوردي ٢/ ٢٤٢، عن الحسن.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ٨ بسند ضعيف، وذكره الثعلبي ٦/ ٢، وجَمّ الشيء واستجم: كثر، ومال جَمٌّ: كثير. انظر: "اللسان" ٢/ ٦٨٦ (جمم).
(٣) في (ب): (ولم يفعلوا)، وهو تحريف.
(٤) هذا كلام الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٥٩ - ٣٦٠، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٥٧، والماوردي ٢/ ٢٤٣، والبغوي ٣/ ٢٦٠، وابن عطية ٦/ ١٤، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٤، والرازي ١٤/ ١٨٣ - ١٨٤، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٨، والسمرقندي ١/ ٥٥٧، وابن كثير ٢/ ٢٦٠.
(٥) لم أقف عليه.
247
وقوله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾.
قال المفسرون (١): (لما فسدوا على الأمرين جميعًا أخذهم الله بغتة آمن ما كانوا؛ ليكون أعظم في الحسرة.
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد بنزول العذاب) (٢).
وقال أبو إسحاق: (بيّن الله عز وجل تأولهم بخطئهم في قولهم: ﴿وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ﴾، وقد علموا أن الأمم قد أهلكت قبلهم بكفرهم، وإنما أخبر الله تعالى بهذا عن الأمم السالفة لتعتبر أمة محمد - ﷺ -؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾ (٣) [الأعراف: ٩٦]، قال ابن عباس: (وحدوا الله واتقوا الشرك) (٤). وقال عطاء عنه: (يريد آمنوا بالله وحده، وصدقوا أنبياءه، وخافوا الوعيد) (٥).
وقوله تعالى: ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾. قال المفسرون: (بركات السماء بالقطر، وبركات الأرض بالنبات والثمار) (٦).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٩، والسمرقندي ١/ ٥٥٧، والبغوي ٣/ ٢٦٠.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٤، وهو قول الأكثر، انظر: السمرقندي ١/ ٥٥٧، والثعلبي ٢/ ١ ب، و"الوسيط" للواحدي ١/ ٢١٢، والبغوي ٣/ ٢٦٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٤، والرازي ١٤/ ١٨٤.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٠.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٤، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٢.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٠، والنحاس ٣/ ٥٧، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٧، والماوردي ٢/ ٢٤٣، والبغوي ٣/ ٢٦٠، وابن عطية ٦/ ١٦ - ١٧، وقال أبو حيان =
248
وقال ابن عباس: (يريد: الأمطار والخصب وكثرة المواشي والأنعام) (١) ومضى الكلام في معنى (٢) البركة والمبارك.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كَذَّبُوا﴾ يعني: الرسل، ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ﴾ بالجدوبة والقحط، ﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من الكفر والمعصية. قال ابن عباس: (يعني: مدائن معروفة أهلكت بالجدب) (٣).
قال أصحاب المعاني: (والآية بيان أن الإيمان بالله والاتقاء يوجب إسباغ الإنعام، والتكذيب يوجب الإهلاك والعذاب).
٩٧ - قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى﴾ الآية. هذه ألف الاستفهام ومعناها: الإنكار [عليهم أن يأمنوا، وقد ذكرنا قديمًا لم (٤) دخل الاستفهام معنى الإنكار، (٥)، والفاء في ﴿أَفَأَمِنَ﴾ للعطف، وهو عطف جملة على جملة (٦).
قال ابن عباس: (يعني: مكة وما حولها) (٧).
= في "البحر" ٤/ ٣٤٨: (الظاهر أن قوله: ﴿بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ لا يراد بها معين، ولذلك جاءت نكرة، والمعنى: لأتيناهم بالخير من كل وجه) اهـ. بتصرف.
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٤، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٢.
(٢) انظر: لفظ: (مبارك) في "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٩٩ ب.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "البسيط" البقرة: ٧٥ قوله تعالى: ﴿أفتطمعون﴾.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣٠٧، والزجاج ٢/ ٣٦٠، و"المسائل المنثورة" لأبي علي الفارسي ص ١٩٧، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٩٨، وابن عطية ٦/ ١٨، و"البحر" ٤/ ٣٤٨ - ٣٤٩.
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٤، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٢.
قال الزجاج: (أفأمنت الأمة التي كذبت النبي - ﷺ - ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا﴾) (١)، فعلى هذا المراد بأهل القرى الذين كذبوا محمدًا - ﷺ - وكفروا به، وقال آخرون: (هذا عام و (٢) معناه البيان عما ينبغي أن يكون عليه العباد من الحذر لبأس الله عز وجل وسطواته (٣) بالمبادرة إلى طاعته واتباع مرضاته) (٤)
٩٨ - قوله تعالى: ﴿أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى﴾ الآية. قرأ أكثر القراء (٥) ﴿أَوَأَمِنَ﴾ بفتح الواو، وهو حرف العطف دخلت على همزة الاستفهام، كما دخل في قوله: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ [يونس: ٥١]، وقوله: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا﴾ [البقرة: ١٠٠]. وهذه القراءة أشبه بما قبله وما بعده؛ لأن ما قبله: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى﴾ [الأعراف: ٩٧]، وما بعده: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٩٩]، ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ﴾ (٦) [الأعراف: ١٠٠].
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٠، ومثله قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٥٨.
(٢) لفظ (الواو) ساقط من (ب).
(٣) في (ب): (وسلطانه).
(٤) وأكثرهم على الأول وأنه وعيد للكافرين المعاصرين للرسول أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم السابقة. انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢٦٠، وابن عطية ٦/ ١٧، والقرطبي ٧/ ٢٥٣، و"البحر" ٤/ ٢٤٩.
(٥) يقرأ: ﴿أَوْ أَمِنَ﴾ بإسكان الواو وتحريكها، فقرأ ابن عامر ونافع وابن كثير: ﴿أَوْ أَمِنَ﴾ بإسكان الواو غير أن ورشًا يلقى حركة الهمزة من ﴿أَمِنَ﴾ على الواو من ﴿أَوْ﴾ على أصله، وقرأ الباقون بفتح الواو. انظر: "السبعة" ص ٢٨٦، و"المبسوط" ص ١٨٢، و"التذكرة" ٢/ ٤٢١، و"التيسير" ص ١١١، و"النشر" ٢/ ٢٧٠.
(٦) قال أبو علي في "الحجة" ٤/ ٥٥: (فكما أن هذه الأشياء في هذه الآيات حروف عطف دخل عليها حرف الاستفهام كذلك يكون قوله: ﴿أَوَأَمِنَ﴾) اهـ.
250
وقرأ نافع وابن عامر: ﴿أَوَأَمِنَ﴾ ساكنة الواو، و (أو) يستعمل على ضربين: أحدهما: أن يكون بمعنى أحد الشيئين كقولك: زيدٌ أو عمرو جاء، كما تقول: أحدهما جاء، وهي إذا كانت للإباحة والتمييز كذلك أيضاً؛ لأنها لأحد الشيئين كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، ويدلك على أنها ليست بمعنى الواو أنه إذا جالس أحدهما فقد ائتمر (١) الأمر ولم يخالف، وإنما جاز له الجمع بين مجالستهما من حيث كان كل واحد منهما مجالسته بمعنى مُجالسة الآخر، ليس من حيث كانت (أو) بمعنى (الواو).
والضرب الثاني: أن يكون للإضراب (٢) عما قبلها. كقولك: (أنا أخرج) ثم تقول: (أو أقيم)، أضربت عن الخروج وأثبتَّ الإقامة. كأنك قلت: (لا بل أقيم)، كما أنك في قولك: (إنها لإبل أو (٣) شاء) مُضرِب عن الأول، فوجه هذه القراءة: أنه جعل (أو) للإضراب، لا على أنه أبطل الأول، ولكن كقوله: ﴿الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ﴾ [السجدة: ١ - ٣]، فكأن المعنى في هذه الآية: أأمنوا هذه الضروب من معاقبتهم والأخذ لهم، وإن شئت جعلت (أو) هاهنا التي لأحد الشيئين، ويكون المعنى: أفأمنوا إحدى هذه العقوبات (٤).
(١) في (ب): (فقد أتم الأمر) وائْتَمر الأمر أي امتثله، انظر: "اللسان" ١/ ١٢٧ (أمر).
(٢) في (ب): (الإضراب)، وهو تحريف.
(٣) النص كله من "الحجة" لأبي علي ٤/ ٥٤، وفيه في قولك: (إنها الإبل أم شاء).
(٤) ما تقدم هو نص كلام أبي علي في "الحجة" ٤/ ٥٣ - ٥٥، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤١٤، و"إعراب القراءات" ١/ ١٩٦، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٨، ولابن زنجلة ص ٢٨٩، و"الكشف" ١/ ٤٦٨.
251
وقوله تعالى: ﴿ضُحًى﴾، الضحى (١) صدر النهار في وقت انبساط الشمس، وأصله الظهور من قولهم: ضَحَا للشمس (٢): إذا برز لها. قال أبو الهيثم (٣): (والضُّحَى على فُعَل حين تطلع الشمس فيصفو ضوؤها) (٤). قال الحسن: (والمعنى: إنهم لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلاً ولا نهارًا) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾. قال الزجاج: (يقال لمن كان في عمل لا يُجدي عليه أو في ضلال: (إنما أنت لاعب)، وإنما قيل لهم ﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ أي: وهم في غير ما يجدي عليهم) (٦).
٩٩ - قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ﴾ الآية. قد ذكرنا معنى المكر في اللغة، ومعنى مكر الله في سورة آل عمران عند قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٥٤].
(١) الضحى: أصل يدل على بروز الشيء وظهوره، وهو انبساط الشمس وامتداد النهار وسمى الوقت به، والضحى بالضم والقصر لأول ارتفاع الشمس، والضحاء بالفتح والمد لقوة ارتفاعها قبل الزوال. انظر: "العين" ٣/ ٢٦٥، و"الجمهرة" ٢/ ١٠٥٠، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٠٦، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٣٩١، و"المجمل" ٢/ ٥٧٤، و"المفردات" ص ٥٠٢، و"اللسان" ٥/ ٢٥٥٩ (ضحى).
(٢) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٠٩٤: (يقال: ضَحِيَ بفتح ثم كسر يَضْحَى إذا برز الشمس).
(٣) أبو الهيثم خالد بن يزيد الرازي لغوي، تقدمت ترجمته.
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٠٩٤ (ضحى).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٢.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٠، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٥٨، وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٧، والبغوي ٣/ ٢٦٠، وابن عطية ٦/ ١٨، والرازي ١٤/ ١٨٥، والقرطبي ٧/ ٢٥٤، و"البحر" ٤/ ٣٤٩، وأكثرهم قال: (ساهون لاهون في غاية الغفلة والإعراض والاشتغال بما لا يجدي).
قال المفسرون: (معنى مكر الله: استدراجه إياهم بالنعمة والصحة، وذلك مما يبطرهم ويحملهم على المعصية والتمادي في الغي فيكون في الحقيقة إضرارًا بهم من حيث لا يشعرون) (١).
وقال الزجاج في هذه الآية (٢): (أي: فأمنوا (٣) عذاب الله أن يأتيهم بغتة). وهذا القول غير الأول.
١٠٠ - قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا﴾، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد (٤): (أولم يتبين)، والمراد بقوله: ﴿لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ﴾ كفار مكة ومن حولهم، قاله ابن
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٩، والبغوي ٣/ ٢٦٠، وابن عطية ٦/ ١٨.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٠، وهو قول النحاس في "معانيه" ٣/ ٥٨، و"السمرقندي" ١/ ٥٥٧، والمكر: إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي لمن يستحقه عقوبة له. وهو صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، والمكر يحمل حقيقة على بابه. انظر: "الفتاوى" ٣/ ١١١ - ١١٢، وقال ابن القيم (كما في "بدائع التفسير" ٢/ ٢٦١): (قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ﴾ إنما هو في حق الفجار والكفار، ومعنى الآية: فلا يعصي ويأمن مقابلة الله على مكر السيئات بمكره به ﴿إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال فيحصل منهم نوع إغترار، فيأنسوا بالذنوب فيجيئهم العذاب على غرة وفترة). اهـ.
(٣) في (ب): (أي أفأمنوا) وهو الأنسب بالسياق، وعند الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٦٠: (أي وأمنوا).
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ١٠ من عدة طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٢٩ بسند جيد عن مجاهد، وهو في "تفسيره" ١/ ٢٤١ قال ابن أبي حاتم: (وروي عن السدي وعطاء الخراساني مثل ذلك)، وهذا القول هو قول عامة أهل التفسير واللغة. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٣، و"معاني الأخفش" ٢/ ٣٠٧، والزجاج ٢/ ٣٦١، و"تفسير الطبري" ٩/ ٩، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٨، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٨.
253
عباس (١) ومجاهد (٢)، و (٣) أما فاعل الهداية في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ﴾ فقال (٤) الزجاج: (كأن المعنى: أولم يبين الله أنه لو يشاء) (٥).
وقال غيره: [المعنى (٦) أولم يهد لهم مشيئتنا) فـ (أن) (٧) في قوله: ﴿أَنْ لَوْ نَشَاءُ﴾ في موضع رفع لأنه فاعل (يهد)، والمعنى: أولم يهد لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم؛ كما قال في آية أخرى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ [السجدة: ٢٦]، وهذا هو قول أبي عبيد (٨).
وقوله تعالى: ﴿أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾. قال ابن عباس: (يريد أخذناهم) (٩). وقال الكلبي (١٠) ومجاهد (١١): (عذبناهم).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٥، وذكره أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٥٠.
(٢) لم أقف عليه، وهو قول السمرقندي ١/ ٥٥٨، والقرطبي ٧/ ٢٥٤.
(٣) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٤) في (ب): (قال الزجاج فقال المعنى أو لم يبين)، وهو تحريف.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦١، وهو قول السمرقندي ١/ ٥٥٨.
(٦) لفظ: (المعنى) ساقط من (ب).
(٧) في (ب): (وأن) بالواو.
(٨) في (ب): (أبو عبيدة) ولم أقف عليه عنهما، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٣٩٣: (الأظهر في فاعل يهدي أنه المصدر المؤول من أن وما في حيزها والمفعول محذوف والتقدير: أو لم يهد أي يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم وإصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك، فقد سبكنا المصدر من أن ومن جواب لو) اهـ. وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٢٧، و"المشكل" ١/ ٢٩٦ - ١٩٧، و"غرائب الكرماني" ١/ ٤١٥، و"البيان" ١/ ٣٦٩، و"التبيان" ص ٣٨٤، و"الفريد" ٢/ ٣٣٦، وفي الجميع الفاعل قوله: ﴿أَنْ لَوْ نَشَاءُ﴾.
(٩) لم أقف عليه.
(١٠) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٥.
(١١) لم أقف عليه.
254
وقوله تعالى: ﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾. قال ابن الأنباري: (هذا فعل مستأنف و (١) منقطع من الذي قبله؛ لأن قوله أصبنا ماضٍ، ﴿وَنَطبَعُ﴾ مستقبل) (٢).
وقال أبو إسحاق: (المعنى: ونحن نطبع على قلوبهم) (٣).
قال أبو بكر: (ويجور أن يكون معطوفاً على أصبنا إذ كان بمعنى: نصيب، والتأويل: أن لو نشاء نصيبهم ونطبع، فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال؛ كقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾ [الفرقان: ١٠] والمعنى: يجعل؛ يدل علي ذلك قوله: ﴿وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾) (٤) [الفرقان: ١٠].
قال الفراء: (وجاز أن تُرد (يَفْعَلُ) على (فَعَلَ) في جواب (لو) كما قال: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ﴾ [يونس: ١١]، قوله: ﴿فَنَذَرُ﴾ مردودة على ﴿لَقُضِيَ﴾ وإذا جاءك جواب (لو) آثرت فيه (فَعَلَ) على (يَفْعَلُ)، وعطف (فَعَلَ) على (يَفْعَلُ)، و (يفعل) على (فَعَلَ)، جائزة لأن التأويل كتأويل الجزاء) (٥). وفي قوله:
(١) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٣، والسمين في "الدر" ٥/ ٣٩٤.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦١ وفيه: (لأنه لو حمل على ﴿أَصَبْنَاهُمْ﴾ لكان و (لطبعنا) لأنه على اللفظ الماضي وفي معناه. ويجوز أن يكون محمولًا على الماضي ولفظه لفظ المستقبل، كما ﴿أَنْ لَوْ نَشَاءُ﴾ معناه: لو شئنا) اهـ.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٥١، والسمين في "الدر" ٥/ ٣٩٤.
(٥) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٨٦، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٥٠ - ٣٥١: (الظاهر أنها جملة مستأنفة أي: نحن نطبع على قلوبهم والمعنى: إن من أوضح الله =
255
﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ تكذيب للقدرية، ودليل على أن الله تعالى إذا شاء وطبع على قلبٍ فلا يعي خيراً ولا يسمع هدى (١).
١٠١ - قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا﴾، قال ابن عباس: (﴿تِلْكَ الْقُرَى﴾ التي أهلكتْ أهلها، يعني: قرى قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وشعيب، ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ نتلو عليك من أخبارها كيف أهلكت. قال: يعزي نبيه بما صنعوا بأنبيائهم، وما صنع الله بهم) (٢).
وقال أهل المعاني: (إنما قصّ الله أنباء القرى لما في ذلك من الاعتبار بما كانوا عليه من الاغترار بطول الإمهال مع اتساع النِعَم حتى توهموا أنهم على صواب) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾. قال ابن عباس: (يريد: الأنبياء الذين أُرسلوا إليهم) (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ﴾. قال ابن
= له سبل الهدى وذكر له أمثالًا ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق) اهـ، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٢٧، و"الكشاف" ٢/ ٩٩، وابن عطية ٦/ ٢٠، والرازي ١٤/ ١٨٧، و"الفريد" ٢/ ٣٣٦، و"الدر المصون" ٥/ ٣٩٥.
(١) انظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ١٨٧.
(٢) في "تنوير المقباس" ٢/ ١١٥ نحوه، وذكره الثعلبي ٦/ ٣/ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٤، والبغوي ٣/ ٢٦١، والقرطبي ٧/ ٢٥٥، و"الخازن" ٢/ ٢٦٦ بلا نسبة، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٥٢: (الخطاب للرسول - ﷺ - والقرى هي بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين) اهـ.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٠، والرازي ١٤/ ١٨٨.
(٤) لم أقف عليه.
256
عباس (١) والسدي (٢): (فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرهأ وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب).
وقال مجاهد: (فما كانوا -لو أحييناهم بعد هلاكهم- ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم) (٣).
وقال آخرون: (﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالمعجزات والآيات التي سألوها، فما كانوا ليؤمنوا -بعد ما رأوا العجائب- بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك العجائب) (٤). وهذا الوجه كأنه اختيار أبي إسحاق؛ لأنه
(١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٣، والبغوي ٣/ ٢٦١، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٦، والرازي ١٤/ ١٨٨، والقرطبي ٧/ ٢٥٥، و"الخازن" ٢/ ٢٦٧، عن ابن عباس والسدي.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٠ بسند جيد.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤١، وأخرجه الطبري ٩/ ١١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٠، ١٧٠ أبسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٩٤، ورد هذا القول الطبري في "تفسيره" ٩/ ١٢، وقال: (وهو تأويل لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ولا من خبر عن الرسول صحيح) اهـ. وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٢/ ٣٢٩: (هو قول بعيد من ظاهر الآية) اهـ.
(٤) ذكر هذا القول الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٣ ب، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٦، وهو اختيار الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٣، والبغوي ٣/ ٢٦١، واختار الطبري ٩/ ١١، أن المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بما سبقَ في علم الله يوم أخذ الميثاق أنهم يكذبون به ولم يؤمنوا به؛ لاستحالة التغيير فيما سبق به العلم الأزلي، وأخرجه بسند جيد عن أبي بن كعب والربيع بن أنس، وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" ٢/ ٣٢٩: (ومعنى الآية: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم وهذا القول حكاه ابن عطية واستحسنه ابن كثير وهو من أقرب الأقوال لظاهر الآية ووجهه ظاهر لأن شؤم المبادرة إلى تكذيب الرسل سبب للطبع على القلوب والإبعاد عن الهدى والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة) اهـ. وانظر: =
257
قال: (هذا إخبار عن قوم لا يؤمنون، كما قال عز وجل لنُوح: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦]، واحتج على هذا بقوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾، قال: وهذا يدل على أنه قد طبع على قلوبهم، قال: والكاف في ﴿كَذَلِكَ﴾ نصب؛ المعنى: مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب عليهم أن لا يؤمنوا أبداً) (١).
١٠٢ - قوله تعالى: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾. قال ابن عباس: (يريد الوفاء. بالعهد الذي عاهدهم وهم في صلب آدم حيث يقول: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾) (٢) [الأعراف: ١٧٢]، ونحو هذا قال مجاهد (٣) ومقاتل (٤).
قال أصحاب المعاني: (إذا أُخذ على الإنسان العهد فنقضه قيل: ليس له عهد، أي: كأنه لم يعهد إليه، فلما أخذ الله تعالى (٥) على هؤلاء العهد بالتوحيد والمعرفة، وأقروا بذلك، فلما خالفوا ذلك لم يكن لهم عهد، فقال الله تعالى: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾ (٦).
= "تفسير ابن عطية" ٦/ ٢١، و"بدائع التفسير" ٢/ ٢٦٢، وابن كثير ٢/ ٢٦٢.
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦١ - ٣٦٢، والأخفش ٢/ ٣١٧، والنحاس ٣/ ٥٩، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٢٧.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٤، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٦، والرازي ١٤/ ١٨٨، والقرطبي ٧/ ٢٥٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٥٤.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ١٢، عن أبي بن كعب ومجاهد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٩٥.
(٤) "تفسيرمقاتل" ٢/ ٥٢.
(٥) لفظ: (تعالى) ساقط من (ب).
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" / ٦٠٦ (عهد)، و"إعراب النحاس" / ٦٧، و"تفسير الرازي" ١٤/ ٨٨.
وروي عن ابن مسعود: (أن العهد هاهنا معناه: الإيمان، كقوله: ﴿إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ (١) [مريم: ٨٧]. يعني: آمن، وقال: لا إله إلا الله) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾. (٣) قال الزجاج: (دخلت ﴿إِنْ﴾ واللام على معنى التوكيد واليمين) (٤).
قال ابن عباس: (يريد: لعاصين) (٥). وقال الضحاك: (لناقضين) (٦).
١٠٣ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، الكناية يجوز أن تعود إلى الأنبياء الذين (٧) جرى ذكرهم، ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدم إهلاكهم (٨).
(١) لفظ: (الرحمن) ساقط من (ب).
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٨٨، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٥٤، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٣، (أي: وفاء ولا حفيظة).
(٣) لفظ: (أكثرهم) مكرر في (أ).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٢، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٢٧، و"المشكل" ١/ ٢٩٧، و"التبيان" ص ٣٨٥، و"الفريد" ٢/ ٣٣٧، و"الدر المصون" ٥/ ٣٩٩.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٤ بدون نسبة
(٦) لم أقف عليه، وهذا القول هو قول السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٥٨، والثعلبي ٦/ ٤ أ، والبغوي ٣/ ٢٦١، وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٣، (أي: الكافرين) وقال الطبري ٩/ ١٢: (أي: ما وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة ربهم تاركين عهده ووصيته) وانظر: الماوردي ٢/ ٢٤٤.
(٧) وهو قول الأكثر. انظر: الطبري ٩/ ١٣، والسمرقندي ١/ ٥٥٨، والبغوي ٣/ ٢٦٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٧، والقرطبي ٧/ ٢٥٦.
(٨) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٥٨ - ٥٥٩، و"الكشاف" ٢/ ١٠٠، والرازي ١٤/ ١٨٩، و"البحر" ٤/ ٢٥٤، وقال ابن عطية ٦/ ٢٤: (الضمير عائد على الأنبياء المتقدم ذكرهم وعلى أممهم) اهـ، والجمع أولى.
وقوله تعالى: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾ (١)، (قال ابن عباس (٢): (فكذبوا بها) يعني: بالعصا والتسع الآيات) (٣). وقال أبو إسحاق: (قوله: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾ أي: فظلموا بالآيات التي جاءتهم؛ لأنهم إذا جاءتهم الآيات فكفروا فقد ظلموا أبين الظلم؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فجعلوا بدل الإيمان بها الكفر، فذلك معنى: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾ (٤)، وقوله: ﴿فَانْظُرْ﴾ أي: بعين قلبك كيف كان عاقبتهم وكيف فعلنا بهم.
١٠٥ - قوله: ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾، وقرأ نافع (٥) ﴿حَقِيقٌ عَلَى﴾ مشددة الياء، و ﴿حَقِيقٌ﴾ على هذه القراءة يجوز أن يكون بمعنى: فاعل. قال شمر: (تقول العرب: حَق عليَّ أن أفعل ذلك) (٦).
وقال الليث: (حَق الشيء معناه: وجب، ويحِق عليك أن تفعل كذا، وحقيق عليَّ أن أفعله، فهذا بمعنى: فاعل) (٧).
(١) سقط من (ب) تفسير قوله تعالى: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ الآيات ١٠٣، ١٠٥ الأعراف، وهو سقط من الناسخ حيث جاء في نصف ص ١٥٩ أتفسير باقي الآية ١٠٥ بعد الآية ١٠٣.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٤، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٧.
(٣) انظر: تفصيل ذلك في "عرائس المجالس" ص ١٩٠، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٢٦٣.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٢، ومثله قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٦٠.
(٥) قرأ نافع: ﴿حَقِيقٌ عَلَى﴾ بتشديد الياء مع فتحها على أنها ياء إضافة وقرأ الباقون ﴿عَلَى﴾ بتخفيف الياء وإسكانها على أنها حرف جر. انظر: "السبعة" ص ٢٨٧، و"المبسوط" ص ١٨٣، و"التذكرة" ٢/ ٤٢١، و"التيسير" ص ١١١، و"النشر" ٢/ ٢٧٠.
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٨٧٥ (حق).
(٧) "تهذيب اللغة" ١/ ٨٧٦، وانظر: "العين" ٣/ ٦ (حق).
260
قال الزجاج: (والمعنى: واجب علي ترك القول على الله جل وعز إلا بالحق) (١). ونحو هذا قال ابن عباس في تفسيره هذه الآية فقال: (يقول: الواجب علي ﴿أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ (٢)، ويجوز أن يكون بمعنى: مفعول. قال الليث: (وحقيق فعيل في موضع مفعول) (٣).
قال شمر: (وتقول العرب: حق عليّ أن أفعل كذا، وإني لمحقوق عليَّ أن أفعل خيراً، أي: حقّ عليّ ذاك، بمعنى: استحق) (٤)، هذا معنى كلامه، وعلى هذا تقول: فلان مَحْقُوق عليه أن يفعل كذا، ومَحْقُوق بأن يفعل كذا، ومَحْقُوق أن يفعل كذا (٥) قال الأعشى:
لَمَحْقوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لصْوتِهِ وَأَنْ تَعْلَمِي أَنَّ الْمُعَانَ مُوفَّقُ (٦)
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٢.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "تهذيب اللغة" ١/ ٨٧٦ (حق).
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٧٤.
(٥) انظر: "الجمهرة" ١/ ١٠٠، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١٧٨، والصحاح ٤/ ١٤٦٠، و"مقاييس اللغة" ٢/ ١٥، و"المجمل" ١/ ٢١٥، و"المفردات" ص ٢٤٦، و"اللسان" ٢/ ٩٤١ (حق).
(٦) "ديوانه" ص ١٢٠، و"العين" ٣/ ٦، و"مجاز القرآن" ١/ ٤٤، والصاحبي ص ٣٥٩، و"الصناعتين" ص ١٤٣، و"أمال ابن الشجري" ٢/ ٥٦، و"اللسان" ٢/ ٩٤١ (حق)، و"الدر المصون" ٥/ ٤٠٥، وقبله:
وَإنَّ امْرءًا أَسْرى إلَيْكِ وَدُونَهُ فَيَافٍ تَنُوفَاتٌ وَبَيْداءُ خَيْفَقُ
يقول: إن الذي قطع في سبيلك الليالي الطوال وتفصله عنك الصحارى والقفار التي يخفق فوقها السراب لمن البديهي أن تستجيبي له لأنه أقرب للرشد والصواب، أفاده في "حاشية الديوان".
261
وقال جرير (١):
قصِرْ فإِنَّكَ بالتَقصِيرِ مَحْقُوقُ
وحجة نافع في تشديد الياء أن حق يُعَدى بعلى. قال الله تعالى: ﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا﴾ [الصافات: ٣١]، وقال: ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ [الإسراء: ١٦]. فحقيق يُوصل بعلى من هذا الوجه أيضاً، فإن ﴿حَقِيقٌ﴾ بمعنى: واجب، فكما أن (وجب) يتعدى بعلى كذلك تعدّى ﴿حَقِيقٌ﴾ به إذا أريد به ما أريد بواجب، وقراءة العامة ﴿حَقِيقٌ عَلَى﴾ مرسلة الياء، و ﴿حَقِيقٌ﴾ على هذه القراءة بمعنى: محقوق، و ﴿عَلَى﴾ بمعنى الباء (٢).
قال الفراء: (والعرب تجعل الباء (٣) في موضع على فتقول: رميت على القوس وبالقوس، وجئت على حال حسنة وبحال حسنة) (٤).
قال الأخفش: (هذا كما قال: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾
(١) "ديوانه" ص ٣١٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٨٧٦، و"اللسان" ٢/ ٩٤١ (حق)، و"الدر المصون" ٥/ ٤٠٥، وصدره:
قُلْ للأُخَيْطلِ إِذْ جَدّ الجِراءُ بنا
وفي "الديوان" (أقصر) بدل (قصر) وهو هنا يهجو الأخطل والجراء: الإقدام والشجاعة. انظر: "اللسان" ١/ ٥٨١ (جرأ).
(٢) ما تقدم في توجيه القراءة قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٥٦ - ٥٧، وانظر: "معاني المفردات" ١/ ٤١٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٩، ولابن زنجلة ص ٢٨٩، و"الكشف" ١/ ٤٦٩ - ٤٧٠.
(٣) انظر: "مغني اللبيب" ١/ ١٠٤ وسبق: أن (الظاهر عدم التناوب والأولى التضمين). قال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٤: (مجازه حق علي أن لا أقول إلا الحق، ومن قرأها ﴿حَقِيقٌ﴾ على أن لا أقول ولم يضف ﴿عَلَى﴾ إليه فإنه يجعل مجازه حريص على أن لا أقول أو فحق أن لا أقول) اهـ.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٦، وذكر مثله الطبري في "تفسيره" ٩/ ١٣.
262
[الأعراف: ٨٦] (١)، وكما وقعت الباء في قوله: ﴿بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ موقع على، كذلك ﴿عَلَى﴾ وقعت موضع الباء في قوله: ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ﴾ ويؤكد هذا الوجه قراءة عبد الله: ﴿حقيق بأن لا أقول﴾ (٢) و ﴿حَقِيقٌ﴾ على هذه القراءة يرتفع بتقدير: أنا حقيق بأن لا أقول، وعلى قراءة نافع يرتفع بالابتداء، وخبره ﴿أَنْ لَا أَقُولَ﴾ (٣).
ومعنى قوله: ﴿إِلَّا الْحَقَّ﴾) (٤)]؛ قال ابن عباس: (يريد: أنه لا إله غيره) (٥).
ومعنى هذا: أن موسى يقول: واجب عليّ أن لا أقول في وصف الله إلا ما هو الحق، وهو توحيده وتنزيهه عن الشرك.
وقوله تعالى: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾. قال ابن عباس: (يريد بالعصا) (٦).
(١) "معاني الأخفش" ٢/ ٣٠٧.
(٢) قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في "معاني الفراء" ١/ ٣٨٦، والنحاس ٣/ ٦١، و"مختصر الشواذ" ص ٥٠، و"إعراب القراءات" ١/ ١٩٧، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ٢٥، والرازي ١٤/ ١٩١، وذكرها البغوي ٣/ ٢٦٢، والقرطبي ٧/ ٢٥٦ عن أبي ابن كعب والأعمش. وانظر: "الكشاف" ٢/ ١٠٠، و"البحر" ٤/ ٣٥٥.
(٣) انظر: "إعراب النحاس" ص ٦٢٨، و"المشكل" ١/ ٢٩٧، و"البيان" ١/ ٣٦٩، و"التبيان" ص ٣٨٥، و"الفريد" ٢/ ٣٣٨، و"البحر" ٤/ ٣٥٥، و"الدر المصون" ٥/ ٤٠١، وعلى قراءة العامة ﴿حَقِيقٌ﴾ عند الواحدي خبر لمبتدأ محذوف تقديره أنا، وعلى قراءة نافع أكثرهم على أنه صفة لرسول أو خبر، وقوله: ﴿أَنْ لَا أَقُولَ﴾ فاعل بحقيق كأنه قال: يحق، ويجب أن لا أقول). قال السمين: (وهذا أعرب الوجوه لوضوحه لفظًا ومعنى) اهـ.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب)، كما سبق الإشارة إليه.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٥ دون نسبة.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٥، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٧.
263
وقوله تعالى: ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾. أي: أطلق عنهم وخلهم، وكان (١) فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة من نحو ضرب اللبن، ونقل التراب (٢).
١٠٧ - قوله تعالى: ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾ أي: العصا، وهي مؤنثة، والثعبان: الحية الضخم الذكر في قول جميع أهل اللغة (٣)، وهو أعظم الحيات في قول الفراء (٤). وقوله: ﴿مُبِينٌ﴾. قال الزجاج: (أي: بين أنه حية لا لبس فيه) (٥).
١٠٨ - قوله تعالى: ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾، معنى النزع في اللغة: قلع الشيء وإخراجه عن مكانها المتمكن فيه (٦)، قال ابن عباس: (يريد: إخراج يده) (٧).
(١) في (ب): (وقال وكان).
(٢) أخرج الطبري في "تاريخه" ١/ ٣٨٦ عن محمَّد بن إسحاق قال: (كان فرعون يعذب بني إسرائيل ويجعلهم خدمًا وخولًا وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يزرعون له، ومن لم يكن في صنعة فعليه الجزية) اهـ، وانظر: "عرائس المجالس" ص ١٦٧، و"البداية والنهاية" ١/ ٢٣٧.
(٣) انظر: "العين" ٢/ ١١١، و"الجمهرة" ١/ ٢٦٠، و"تهذيب اللغة" ١/ ٤٨٠، والصحاح ١/ ٩٢، و"مقاييس اللغة" ١/ ٣٧٨، و"المجمل" ١/ ١٥٩، و"المفردات" ص ١٧٣، و"اللسان" ١/ ٤٨١ - ٤٨٢ (ثعب).
(٤) "معاني الفراء" ص ٣٨٧، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٥، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٨، و"معاني النحاس" ٣/ ٦١.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٣، وفيه: (أي مبين أنها حية).
(٦) انظر: "العين" ١/ ٣٥٧، و"الجمهرة" ٢/ ٨١٧، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٥٢ والصحاح ٣/ ١٢٨٩، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤١٥، و"المجمل" ٣/ ٨٦٣، و"المفردات" ص ٧٩٨، و"اللسان" ٧/ ٤٣٩٥ (نزع).
(٧) أخرجه الطبري ٩/ ١٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٣ بسند جيد.
قال الزجاج: (والمعنى: إخراجها من جيبه ومن جناحه، يدل على ذلك قوله: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ الآية (١) [النمل: ١٢]، وقوله: ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ الآية [طه: ٢٢] (٢).
١٠٨ - وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾، قال ابن عباس: (وكان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض) (٣).
١١٠ - قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾. قال ابن عباس: (يريد: من ملككم) (٤).
قال المفسرون: (لما قال موسى لفرعون: ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف: ١٠٥] وآراه الآية، قال الأشراف من قومه: إن هذا ساحر يريد أن يخرجكم معشر القبط من أرضكم ويزيل ملككم بتقوية أعدائكم بني إسرائيل عليكم) (٥).
قوله تعالى: ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾. ذكر أبو إسحاق فيه ثلاثة أوجه: (إحداها (٦) أن يكون هذا جواباً من فرعون لما قال الملأ: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ قال فرعون مجيباً لهم: ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾، قال ابن عباس:
(١) لفظ: (الآية) ساقط من (ب).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٣ وفيه: (يدل على أن معنى نزع يده إخراجها من جيبه وإخراجها من جناحه، وجناح الرجل عضده وقيل: جناح الرجل عِطفُه) اهـ.
(٣) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٤ ب، ٥ أ، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٨، والرازي ١٤/ ١٩٦، والقرطبي ٧/ ٢٥٧، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٦ عن الكلبي.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٦، والسمرقندي ١/ ٥٥٩، والثعلبي ٦/ ٥ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٣.
(٦) في (أ): (أحد لها)، وهو تحريف.
265
(يريد: تشيرون به عليّ) (١)، فعلى هذا أضمر القول، وتم كلام الملأ عند قوله: ﴿مِنْ أَرْضِكُمْ﴾. والتقدير: قال ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾، وهذا (٢) الوجه ذكره الفراء (٣) أيضاً.
قال أبو إسحاق: (وجائز أن يكون ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ من قول الملأ (٤)؛ كأنهم خاطبوا فرعون ومن يخصه)، قال: (وجائز أن يكون الخطاب لفرعون وحده؛ لأنه يقال للرئيس المطاع: ما ترون (٥) في هذا، أي: ما ترى أنت وحدك) (٦).
قال ابن الأنباري على هذا الوجه: (والملوك الغالب عليها (٧) أن يكون لها أتباع يأتمرون بأمرها (٨) ويقفون عند قولها (٩)، فلما كان هذا معروفاً للملوك خاطبوه وهو واحد بخطابه ومعه أتباعه وأهل مملكته) (١٠).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٧، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٦، وابن الجوزي ٣/ ٢٣٨، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٣ بسند جيد عن ابن عباس قال: (استشار الملأ فيما يرى) اهـ.
(٢) في (أ): (وعلى هذا).
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٧ ولم يذكر غيره، وهو قول أكثرهم. انظر: الطبري ٩/ ١٦، والسمرقندي ١/ ٥٥٩، والثعلبي ٦/ ٥ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٣.
(٤) وهو اختيار ابن عطية ٦/ ٣٠ قال: (الظاهر أنه من كلام الملأ بعضهم إلى بعض) اهـ.
(٥) في (أ): (ما ترى)، وهو تحريف.
(٦) في "معاني الزجاج" ٢/ ٢٦٤ - ٢٦٥: (أي ما ترى أنت وجندك). وانظر: "إعراب النحاس" ٢/ ١٤٢.
(٧) في (ب): (عليهم).
(٨) في (ب): (بأمرهم).
(٩) في (ب): (قولهم).
(١٠) لم أقف عليه، وانظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص ٤١٦ - ٤١٩.
266
١١١ - وقوله تعالى: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾، وقرئ ﴿أرجِئه﴾ مهموزاً (١)، وهما لغتان قرئ بهما، يقال: أرجأت الأمر وأرجيته: إذا أخرته، ومنه قوله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾ [التوبة: ١٠٦]، ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [الأحزاب: ٥١]، قرئ في الآيتين (٢) باللغتين (٣)، وكان حمزة وعاصم يقرآن بغير همزة، وجزم الهاء من ﴿أَرْجِهْ﴾؛ قال الفراء: وهي لغة العرب يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها، أنشدني بعضهم:
فَيُصْلِحُ اليَوْمَ وَيُفْسدُهْ غَدَا (٤)
(١) فيها ست قراءات ثلاث مع الهمز وهي:
أ- قراءة ابن كثير وهشام عن ابن عامر: (أرجئهو) بهمزة ساكنة متصلة بواو في الوصل.
ب- قراءة أبو عمرو: (أرجئه) بضم الهاء من غير إشباع.
ج- قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر بهمزة ساكنة وكسر الهاء من غير إشباع.
وثلاث من غير همز وهي:
أ- قراءة عاصم وحمزة بكسر الجيم وسكون الهاء وصلًا ووقفًا: ﴿أَرْجِهْ﴾.
ب- قراءة الكسائي بكسر الهاء متصلة بياء في الوصل: (أرجهي) وهي رواية عن عاصم ونافع.
ج- قراءة نافع بكسر الهاء من غير إشباع: ﴿أَرْجِهْ﴾.
انظر: "السبعة": ص ٢٨٧، و"المبسوط" ص ١٨٣، و"التذكرة" ٢/ ٤٢١، و"التيسير" ص ١١١.
(٢) في (ب): (بالآيتين).
(٣) قرأ نافع وحمزة والكسائي في آية التوبة ١٠٦: ﴿مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ وفي آية الأحزاب ٥١: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ﴾ بغير همز فيها، وقرأ الباقون بالهمز: (مرجئون) و: (ترجئ)، وروي عن عاصم الوجهان فيهما، وانظر: "السبعة" ص ٢٨٧ و٥٢٣، و"المبسوط" ص ١٩٦، ٣٠١، و"التذكرة" ٢/ ٤٤٣، و"التيسير" ص ١١٩، و"النشر" ١/ ٤٠٦.
(٤) هذا رجز لدويد بن زيد بن نهد القضاعي في "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٣١ - ٣٢، و"الشعر والشعراء" ص ٤٨، و"جمهرة الأمثال" ١/ ٨٤، وبلا نسبة في "معاني الفراء" =
267
قال: وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون: هذه طلحهْ قد أقبلت وأنشد:
لَمَّا رَأى (١) أَنْ لَا دَعَةْ وَلَا شِبَعْ (٢)
ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس ولا الاستعمال.
قال الزجاج: (وهذا شعر لا يعرف قائله، ولا هو بشيء، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له: أخطأت؛ لأن الشاعر قد يجوز أن يخطئ) قال: (وهذا مذهب لا يعرج عليه) (٣).
= ١/ ٣٨٨، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٦، وابن عطية ٦/ ٣١، والرازي ١٤/ ١٩٨، وقبله:
أَنْحَى عَليَّ الدَّهْرُ رِجْلًا وَيدَا يُقْسِمُ لاَ يُصْلِحُ إِلا أَفْسَدَا
فَيُصْلِحُ اليَوْمَ ويُفْسِدُهْ غَدُا
(١) هذا رجز لمنظور بن حبَّة الأسدي في "تهذيب إصلاح المنطق" ١/ ٢٨٢ - ٢٨٣، و"شذا العرف" ص ١٣٦، وبلا نسبة في "معاني الفراء" ١/ ٢٨٨، و"إصلاح المنطق" ص ٩٥، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٧، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢ (ضجع)، و"المحتسب" ١/ ١٠٧، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٢١، و"الخصائص" ٣/ ١٦٣، و"المنصف" ٢/ ٣٢٩، و"الصحاح" ٦/ ٢٣٥٨ (رطا)، و"المخصص" ٨/ ٢٤، و"كنز الحفاظ" ١/ ٣٠٢، و"اللسان" ٥/ ٢٥٥٤ (ضجع) وعجزه:
مَالَ إِلى أرْطَأةِ حِقْفٍ فاضْطَجَعْ
وهو يصف الذئب، والحقف: ما اعوج من الرمل.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٨، ومثله قال الطبري ٩/ ١٧.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٥ - ٣٦٦. وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣٠٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٣٦٠، و"معاني القراءات" ١/ ٤١٥، و"إعراب القراءات" ١/ ١٩٨، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٥٩، ولأبي علي الفارسي ٤/ ٦٠، ولابن زنجلة ص ٢٨٩، و"الكشف" ١/ ٤٧٠، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٦٠: (وما ذهب إليه من غلط هذه القراءة وأنها لا تجوز قول فاسد؛ لأنها قراءة ثابتة متواترة روتها =
268
فأما التفسير فقال ابن عباس في قوله: ﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾: (يريد: أرجئ أمره وأمر أخيه ولا تعجل) (١)، ففسره بالتأخير، وهو قول الحسن (٢).
قال الزجاج: (تفسير ﴿أَرْجِهْ﴾ آخره)، وقال: (ومعنى آخره: أخر أمره، ولا تعجل في أمره بحكم فتكون عجلتك حجة عليك) (٣).
وقال أهل المعاني (٤): (إنهم طلبوا معارضة المعجزة بالحيلة توهماً من أنهم يقابلون السحر بالسحر على طريق المكيدة).
وقال الكلبي وقتادة (٥) في تفسير ﴿أَرْجِهْ﴾: (احبسه)، قال الكلبي: (احبسه وأخاه هارون حتى تنظر في أمره ولا تقتلهما (٦) ولا تؤمن بهما) (٧). قال أصحاب النظر: (القول في تفسير ﴿أَرْجِهْ﴾ هو الأول؛ لأن فرعون قد علم أنه لا يقدر على حبسه بعد ما رأى أمر العصا، مع أن الإرجاء في اللغة
= الأكابر عن الأئمة وتلقتها الأمة بالقبول ولها توجيه في العربية فلا وجه لإنكارها) اهـ. وقال السمين في "الدر" ٥/ ٤١٢: (تسكين هاء الكناية لغة ثابتة له شواهد كثيرة) اهـ. بتصرف.
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٣ بسند ضعيف بلفظ: (أخِره وأخاه)، وذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٤٥، والقرطبي ٧/ ٢٥٧.
(٢) ذكره الماوردي ٢/ ٢٤٥، وهو قول أكثرهم، قال الطبري ٩/ ١٦: (الإرجاء في كلام العرب التأخير) اهـ، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٥، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٤٨، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، و"نزهة القلوب" ص ٧٣، و"معاني النحاس" ٣/ ٦٢، و"تفسير المشكل" ص ٨٦.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٥.
(٤) انظر: الرازي ١٤/ ١٩٨.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ١٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٣ بسند جيد عن قتادة.
(٦) في (ب): (ولا تقبلهما).
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٧، وهو قول السمرقندي ١/ ٥٥٩.
269
التأخير لا الحبس) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾. قال الليث: (المدينة فَعِيلة تهمز في الفعائل؛ لأن الياء زائدة، ولا تهمز ياء (المعايش) لأنها مفاعل والياء أصلية، ونحو ذلك قال الفراء (٢) وغيره، قال: وكل أرض يبنى بها حصن فهي مدينة) (٣).
وقال أبو القاسم الزجاجي (٤): (اختلف أصحابنا في المدينة فمنهم من يجعلها (فَعِيلة)، ومنهم من يجعلها (مَفْعِلة)، ومنهم من يجعلها مَفْعُولة، أما من قال: إنها فعيلة ذهب إلى قولهم: مَدَن بالمكان يمدن مدُوناً: إذا أقام به، ويستدل بإطباق القراء على همز ﴿الْمَدَائِنِ﴾ وهي فعائل كصحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، والياء إذا كانت زائدة في الواحدة همزت في الجمع كقبيلة وقبائل، وإذا كانت (٥) من نفس الكلمة لم تهمز في الجمع نحو معيشة ومعايش.
قال ابن الأنباري: (مدن الرجل إذا أتى المدينة) (٦). وهذا يقوي قول من يقول: إنها فعيلة والميم فيها أصل، وكذلك قولهم في الجمع: مُدن هو
(١) هذا قول الثعلبي في "الكشف" ٥/ ٦.
(٢) لم أقف عليه في "معانيه".
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٦٣، وانظر: "العين" ٨/ ٥٣، و"الجمهرة" ٢/ ٦٨٣، والصحاح ٦/ ٢٢٠١، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٣٠٦، و"المجمل" ٣/ ٨٢٦، و"المفردات" ص ٧٦٣، و"اللسان" ٧/ ٤١٦١ (مدن).
(٤) أبو القاسم الزَّجَّاجي هو عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي النحوي، تقدمت ترجمته.
(٥) في (ب): (كان).
(٦) لم أقف عليه.
270
على فُعل، والميم أصل، والمدن (١) في الحقيقة: جمع المدين؛ لأن المدينة لا تجمع على مُدن، ولكن تجمع على المداين ومثل هذا سُفن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوها على سفن، كذلك المدن، وأما من قال إنها مفعلة فإنه يقول: معنى المدينة: المملوكة من دانه يدينه أي: ساسه وأذاله (٢)، فقولنا: مدينة من (دان) مثل معيشة، وجمعها مداين على مفاعل كمعايش غير مهموز يكون اسماً للمكان والأرض التي دانهم (٣) السلطان أي: ساسهم وقهرهم، وقال المبرد (٤): (مدينة أصلها (مَدْيونة) من دانه يدينه: إذا قهره وأذله فاستثقلوا حركة الضمة على الياء فسكنوها ونقلوا حركتها إلى ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الواو المزيدة (٥) التي هي واو المفعول، والياء التي هي من نفس الكلمة، فحذفت الواو لأنها زائدة، وحذف الزائد أولى من حذف الأصلي، ثم كسروا الدال لتسلم الياء فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها فيختلط (٦) ذوات الواو بذوات الياء، وكذلك المبيع والمخيط والمكيل) (٧).
وكان الأخفش (٨) يذهب إلى أن المحذوف الياء لأنها من نفس الكلمة فهي أولى بالحذف من الواو التي جلبت للمعنى وهي واو المفعول، فقال له
(١) في (ب): (مدن).
(٢) كذا في (أ)، وفي (ب): (وأذاله)، ولعله وأذله.
(٣) في (ب): (ذانهم).
(٤) لم أقف عليه في كتبه، وذكره الرازي ١٤/ ١٩٩، والسمين في "الدر" ٥/ ٤١٣.
(٥) في (ب): (والمزيدة).
(٦) في (أ): (فتختلط).
(٧) لم أقف عليه في كتبه، وذكره عند الرازي ١٤/ ١٩٩، والسمين في "الدر" ٥/ ٤١٣.
(٨) قال الأخفش في "معانيه" ٢/ ٢٩٣: (إنما يهمز ما كان على مفاعل إذا جاءت الياء زائدة في الواحد والألف والواو التي تكون الهمزة مكانها نحو مدائن لأنها فعائل، ومن جعل المداين من دان يدين لم يهمز لأن الياء حينئذ من الأصل) اهـ.
271
أبو عثمان المازني (١): (فإذا كان المحذوف الياء عندكم، فلم قلبت الواو ياء وقبلها حرف مضموم؟) فقال: (كسرت ما قبل الواو لتنقلب الواو ياء فيفرق بين ذوات الواو (٢) وذوات الياء)، فالياء في قولنا: مبيع ومخيط هي ياء يبيع ويخيط عند سيبويه (٣).
وعند الأخفش (٤) هي واو (مبيوع) قلبت ياء لانكسار ما قبلها، والمدينة (٥) على رأي المبرّد (مفعوله) وتأنيثها من جهة المعنى، والمراد: الأرض المدينة أو البقعة أو البلدة التي اساسها السلطان.
وقال الفراء: (تقول العرب: دنته أدينه إذا ملكته، والمدينة الأرض التي ملكها سايسها (٦) ومن هذا يقال للأمة مدينة أي: مملوكة وهي في الأصل مديونة (٧).
ومنه قول الأخطل (٨):
ربَتْ وزكى في كومها ابنُ مَدِينَةٍ يَظَلُّ على مِسحاتِهِ يَتركَّلُ (٩)
(١) انظر: "المصنف" ١/ ٢٩٦ - ٣٠١ و٣١١ - ٣١٤.
(٢) لفظ: (فيفرق بين ذوات الواو) مكرر في (ب).
(٣) انظر: "الكتاب" ٤/ ٣٤٨ - ٣٤٩.
(٤) انظر: "المصنف" ١/ ٢٩٧.
(٥) في (ب): (فالمدينة).
(٦) في (ب): (أسايسها).
(٧) لم أقف عليه. وانظر: "الصحاح" ٦/ ٢٢٠١ (مدن).
(٨) ما الأخطل: غِيَاث بن غَوْث بن الصَّلت التغلبي، شاعر نصراني، تقدمت ترجمته.
(٩) "ديوانه" ص ٢٢٤، و"العين" ٨/ ٥٣، و"المعاني الكبير" ١/ ٤٧٢، و"الجمهرة" ٢/ ٦٨٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٦٣، و"المصنف" ١/ ٣١٢، و"الصحاح" ٤/ ١٧١٣ (ركل)، و"مقاييس اللغة" ١/ ٣٣٤، و"اللسان" ٧/ ٤١١٦ (مدن) ورواية "الديوان":
ربتَ وربَا في حَجرِها ابن مدينة
وهو يصف الخمر، وابن مدينة أي: العالم بأمرها، ويتركل أي: يفتت الرمل، أفاده في "حاشية الديوان".
272
يعني: ابن أمةٍ.
فهذا ذكر اختلافهم في هذا الحرف) (١)، والصحيح أنها (فعيلة) لاجتماع القراء على همز ﴿الْمَدَائِنِ﴾، والذين قالوا: إنها مفعلة أو مفعولة. قالوا: إنما همزت المدائن تشبيهاً بالقبائل والصحائف كما همز نافع ﴿المعائش﴾، وقد ذكرنا ذلك مستقصًى عند قوله: ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ [الأعراف: ١٠].
وأما التفسير فقال ابن عباس في قوله: ﴿وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾: (يريد: في مدائن صعيد مصر (٢) رجالاً يحشروا إليك ما في الصعيد من السحرة) (٣).
قال الكلبي: (وكانت له مدائن فيها السحرة عُدَّة للأشياء؛ إذا حزبه أمر أرسل إليهم) (٤). قال ابن عباس: (وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد) (٥).
(١) ذكره الرازي ١٤/ ١٩٩، والسمين في "الدر" ٥/ ٤١٣ عن الزجاجي ولم أقف عليه فيما لدي من كتبه، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٤٢: (المدينة معروفة مشتقة من مدن فهي فعيلة، ومن ذهب إلى أنها مفعلة من دان فقوله ضعيف لإجماع العرب على الهمز في جمعها قالوا (مدائن) بالهمز ولا يحفظ فيه مداين بالياء، ولا ضرورة تدعو إلى أنها مفعلة، ويقطع بأنها فعيلة جمعهم لها على فُعُل قالوا: مدن كما قالوا: صحف في صحيفة) اهـ، ونحوه قال السمين في "الدر" ٥/ ٤١٢.
(٢) الصعيد بمصر بلاد واسعة كبيرة فيها عدة مدن عظام. انظر: "معجم البلدان" ٣/ ٤٠٨.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٧، وأخرج الطبري ٩/ ١٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٤، عن ابن عباس في قوله: ﴿وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ قال: (الشرط).
(٤) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٥ ب، والبغوي ٣/ ٢٦٣ بلا نسبة.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٧، والرازي ١٤/ ١٩٩، وذكره الثعلبي في "عرائس المجالس" ص ١٨٥، عن عطاء.
273
١١٢ - قوله تعالى: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾، وقرئ (١) ﴿سَحَّار﴾؛ فمن قرأ ﴿سَاحِرٍ﴾ فحجته قوله: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾ [طه: ٧٠] ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ﴾ [الشعراء: ٤٠]، والسحرة جمع ساحر مثل كاتب وكتبه، وفاجر وفجرة، ومن حجته أيضًا (٢) قوله تعالى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ [الأعراف: ١١٦]، واسم الفاعل من سحروا ساحر، ومن قرأ ﴿سَحَّار﴾ فحجته أنه قد وصف بـ (عليم) ووصفه به يدل على تناهيه فيه وحذقه به؛ فحسن لذلك أن يذكر بالاسم (٣) الدال على المبالغة في السحر (٤).
١١٣ - قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ﴾ الآية. في الكلام محذوف يدل عليه باقي الكلام وهو: فأرسل وجاء السحرة، ولا يجوز أن يتأول على أنهم تسامعوا، وجاءوا من غير أن يرسل؛ لأنه خلاف ظاهر الكلام والقصة (٥).
وقوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا﴾ قال ابن عباس: (يريد: المال
(١) قرأ حمزة والكسائي: (سَحَّار) على وزن فعال بتشديد الحاء وألف بعدها، وقرأ الباقون: ﴿سَاحِرٍ﴾ على وزن فاعل بتخفيف الحاء وكسرها وألف قبلها. انظر: "السبعة" ص ٢٨٩، و"المبسوط" ص ١٨٣، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٢، و"التيسير" ص ١١٢، و"النشر" ٢/ ٢٧٠.
(٢) لفظ: (أيضاً) ساقط من (ب).
(٣) في (ب): (أن يذكر الاسم).
(٤) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٦٤، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤١٦، و"إعراب القراءات" ١/ ١٩٩، و"الحجة" لابن خالويه ص١٦٠، ولابن زنجلة ص ٢٩١، و"الكشف" ١/ ٤٧١.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٨.
274
والجوائز) (١)، ولم يقل: فقالوا (٢) لأن المعنى: لما جاءوا قالوا، فلم يصح دخول الفاء على هذا الوجه.
وقرأ ابن كثير ونافع (٣): ﴿إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا﴾ مكسورة الألف على الخبر، والاستفهام أحسن في هذا الموضع؛ لأنهم يستعملون (٤) عن الأجر وليس يقطعون على أن لهم الأجر. ويقوي ذلك إجماعهم في الشعراء (٥) على الهمز للاستفهام، وحجة ابن كثير ونافع أنهما أرادا همزة الاستفهام ولكنهما حذفا ذلك من اللفظ، وكثيراً ما تحذف همزة الاستفهام من اللفظ، وهي ثابتة في المعنى كقوله: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ [الشعراء: ٢٢]، فذهب (٦) كثير من الناس إلى أن معناه: (أو تلك) الاستفهام (٧) وقد جاء
(١) في "تنوير المقباس" ٢/ ١١٧: (أي: هدية تعطينا) اهـ.
(٢) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٤١٣ - ٤١٤، عن الزمخشري ثم قال: (وهذا قد سبقه إليه الواحدي والأظهر أن الجملة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها استئناف جواب لسؤال مقدر ولذلك لم تعطف بالفاء) اهـ، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٣١، و"الكشاف" ٢/ ١٠٢.
(٣) قرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم ﴿إِنَّ لَنَا﴾ بهمزة واحدة مكسورة على لفظ الخبر، وقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة والباقون بهمزتين على الاستفهام. انظر: "السبعة" ص ٢٨٩، و"المبسوط" ص ١٨٣، و"التذكرة" ١/ ١٥٢ - ١٥٤، و"التيسير" ص ١١٢، و"النشر" ١/ ٣٧٢.
(٤) كذا في النسخ: (يستعملون)، ولعلها: (يستعلمون أو يسألون).
(٥) آية الشعراء هي قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾ [الشعراء: ٤١].
(٦) في (ب): (يذهب).
(٧) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٤٢٦، و"معاني الزجاج" ٤/ ٨٦ - ٨٧، و"تفسير الطبري" ١٩/ ٦٨ - ٦٩، و"إعراب النحاس" ٢/ ٤٨٤، ٤٨٥، قال الأخفش: =
275
ذلك في الشعر (١):
أَفْرَحُ أَنْ أُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنْ أُوْرَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلاً (٢)
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾، ﴿نَحْنُ﴾ يجوز أن يكون تأكيداً للضمير المتصل في ﴿كُنَّا﴾، ويجوز أن يكون فصلاً بين الخبر والاسم فلا موضع له حينئذٍ (٣).
١١٤ - قوله تعالى: ﴿قَالَ نَعَمْ﴾، هذه إجابة من فرعون للسحرة في سؤالهم المال والأجر على الغلبة، ووعد منه إياهم بذلك (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾، معطوف على معنى الجملة؛
= (قوله: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ فيقال: هذا استفهام كأنه قال: أو تلك نعمة تمنها. ثم فسر فقال: ﴿أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، وجعله بدلًا من النعمة) اهـ.
(١) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٦٥ - ٦٦، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤١٧، و"إعراب القراءات" ١/ ٢٠٠، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦١، و"الكشف" ١/ ٤٧٢.
(٢) الشاهد: لحضرمي بن عامر الأسدي في "أمالي القالي" ١/ ٦٧، و"اللسان" ١/ ٦١٣ (جزأ) و٧/ ٤٧ (شص)، وبلا نسبة في "العين" ٨/ ٣٢٩، و"أدب الكاتب" ص ١٧٩، و"الكامل" للمبرد ١/ ٦٢، و"الجمهرة" ١/ ٣٧٩، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٩٣، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٧٤، و"الصحاح" ٣/ ١٠٤٣ (شص)، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٣٨٣، و"الدر المصون" ١/ ٢٥٨، قال ابن منظور في "اللسان" ١/ ٦١٣ (جزأ) في شرحه للبيت: شصائص جمع شصوص وهي الناقة قليلة اللبن، نبلًا أي: صغارًا، يريد: أأفرح فحذف الهمزة على طريق الإنكار أي: لا وجه للفرح بموت الكرام من إخواني لإرث شصائص لا ألبان لها) اهـ.
(٣) انظر: "البحر" ٤/ ٣٦١، و"الدر المصون" ٤١٤ - ٤١٥.
(٤) انظر: الطبري ٩/ ١٩، والسمرقندي ١/ ٥٦٠.
كأنه قيل: نعم (١) لكم ذلك، ﴿وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ (٢). قال ابن عباس: (يريد: أشرككم في ملكي وأوليكم على أرضي) (٣).
وقال الكلبي: (﴿وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ عندي في المنزلة، يعني: أول من يدخل علي وآخر من يخرج) (٤).
وقال الزجاج: (أي: ولكم من الأجر المنزلة الرفيعة عندي) (٥).
١١٥ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾.
روى أبو العباس (٦) عن سلمة (٧) عن الفراء قال: (قال الكسائي في باب إِمَّا وأَمَّا: إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة، وإذا كنت (٨) مشترطاً أو شاكاً أو مخيراً فهي مكسورة، تقول من ذلك في المفتوحة: أَمَّا الله فاعبد (٩)، وأما الخمر فلا تشربها، وأما زيد فقد خرج، وتقول (١٠) في
(١) لفظ: (نعم) ساقط من (ب).
(٢) انظر: "الفريد" ٢/ ٣٤١، و"البحر" ٤/ ٣٦١، و"الدر المصون" ٥/ ٤١٥.
(٣) في "تنوير المقباس" ٢/ ١١٧، نحوه وأخرج الطبري ٩/ ١٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٥ بسند جيد عن ابن عباس قال: (قالوا: فما أجرنا إن غلبنا؟ فقال لهم: أنتم قرابتي وخاصتي وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم) اهـ.
(٤) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٦ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٥، و"الخازن" ٢/ ٢٧١.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٦، وفيه: (أي: لكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي) اهـ.
(٦) أبو العباس: هو ثعلب أحمد بن يحيى، إمام، تقدمت ترجمته.
(٧) سلمة بن عاصم البغدادي، صاحب الفراء، إمام، تقدمت ترجمته.
(٨) في (ب): (وإذا كان)، وهو تحريف.
(٩) في (أ): (فاعبدوا).
(١٠) في (ب): (فتقول).
277
النوع الثاني إذا كنت مشترطاً: إِمَّا تعطينّ زيداً فإنه يشكرك، قال الله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ﴾ [الأنفال: ٥٧].
وتقول في الشك: لا أدري من قام إمَّا زيد وامَّا عمرو.
وتقول في التخيير (١): لي بالكوفة دار فإما أن أسكنها وإما أن أبيعها) (٢)، والفرق بين (إما) إذا كانت للشك وبين (أو) إنك إذا قلت: جاءني زيد أو عمرو فقد يجوز أن يكون بنيت كلامك على اليقين، ثم أدركك الشك فقلت: أو عمرو. فصار الشك فيهما جميعاً.
فأول الاسمين (٣) في (أو) يجوز أن يكون خبراً يحسن السكوت عليه، ثم يعترض الشك فيستدرك بالاسم الآخر، ألا ترى أنك تقول: قام أخوك، وتسكت، ثم تشك فتقول: أو أبوك، وإذا ذكرت (إمّا) فإنما تبني كلامك على الشك من أوله فليس يجوز أن تقول: ضربت إما (٤) عبد الله وتسكت (٥)، وأما (٦) دخول (أن) في قوله: ﴿إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾ [الأعراف: ١١٥] وسقوطها من قوله: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٠٦]،
(١) في "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٧: ذكر (إذا كنت مخيرًا أو مختارًا فهي المكسورة تقول في التخيير: تعلم إما الفقه وإما النحو، وتقول في المختار: لي بالكوفة دار وأنا خارج إليها فإما أن أسكنها وإما أن أبيعها).
(٢) "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٧، (إما، وأما)، وذكره الرازي ١٤/ ٢٠٢، عن الفراء والكسائي.
(٣) في (أ): (فالأول أسمين)، وهو تحريف.
(٤) في (ب): (أبا)، وهو تحريف.
(٥) ما تقدم هو قول الفراء في "معانيه" ١/ ٣٨٩، وانظر: "الكتاب" ١/ ٩٥ و١٤٢، و٣/ ٣٣٢، و٤/ ٢٣٥، و"حروف المعاني" ص ٦٣ - ٦٤، و"معاني الحروف" ١٢٩ - ١٣١، و"الصاحبي" ص٢٠٦، و"المغني" لابن هشام ١/ ٥٥، ٦١.
(٦) في (ب): (في أما).
278
قال الفراء: (أدخل ﴿أَنْ﴾ في ﴿إِمَّا﴾ في هذه الآية لأنه في موضع أمر بالاختيار وهي في موضع نصب كقول القائل: اختر ذا أو ذا. كأنهم قالوا: اختر أن تُلقي أو نلقي، وقوله تعالى: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ ليس (١) فيه أمر بالتخيير؛ ألا ترى أن الأمر لا يصلح هاهنا فلذلك لم يكن فيه أن) (٢).
وأما التفسير فقوله: ﴿إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾، فقال ابن عباس: (يريد: عصاه، ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾ أي: ما معنا من الحبال والعصي) (٣)، فمفعول الإلقاء محذوف من الموضعين جميعاً (٤).
١١٦ - قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلْقُوا﴾، يقال على هذا: لم جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء، وهو كفر منهم؟
والجواب: إن معناه: ألقوا إن كنتم محقين، وألقوا على ما يصح،
(١) لفظ: (ليس) ساقط من (ب)، قال الهمداني في "الفريد" ٢/ ٣٤١: (دخلت أن في آية الأعراف لأنه أمر كأنه قيل: اختر إما أن تلقي أنت وإما نحن، والأمر مستقبل و (أن) عَلَم للاستقبال فدخلت لتحقيق هذا المعنى، ولم تدخل في آية التوبة لأنه خبر والخبر لم يحتج إلى أن) اهـ. ملخصًا.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٨٩، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٤١٥ - ٤١٦: (إنما أتى هنا بأن المصدرية بخلاف آية التوبة؛ لأن أن وما بعدها هنا إما مفعول وإما مبتدًا والمفعول به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحًا بل لا بد أن ينضم إليه حرف مصدري يجعله في تأويل اسم وأما آية التوبة فالفعل بعد إما، إما خبر ثان لآخرون وإما صفة له، والخبر والصفة يقعان جملة فعلية من غير حرف مصدري) اهـ.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٥ بسند جيد.
(٤) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٣١، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٤١٦: (حذف مفعول الإلقاء للعلم به والتقدير: إما أن تلقي حبالك وعصيك لأنهم كانوا يعتقدون أن يفعل كفعلهم، أو نلقي حبالنا وعصينا) اهـ.
279
ويجوز دون ما يفسد (١) ولا يجوز (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا﴾، يعني: تلك العصي والحبال، وهي مذكررة في قوله: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾ [طه: ٦٦] في سورة طه.
وقوله تعالى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾. قال ابن عباس: (يريد: حيث رأوها حيات) (٣)، قال العلماء من أصحاب المعاني (٤): (﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ أي: قلبوها عن صحة إدراكها بما تخيل من الأمور المموهة بلطف الحيلة التي تجري مجرى الخفّة والشعبذة مما لا يرجع إلى حقيقة، والمُحدث في العين ذلك التخيل هو الله عز وجل عندما أظهروا من تلك المخاريق، إلا أنه منسوب إليهم لأنهم عرضوها بما لو لم يعملوه لم يقع، كمن جعل طفلاً تحت الثلج فهو القاتل له في الحكم، والله خلق الموت فيه وأماته) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾. قال المبرد: (أرهبوهم، والسين زائدة) (٦). وكذلك قال المؤرج: (أفزعوهم) (٧).
(١) في (أ): (ما يفسده)، وهو تحريف.
(٢) وقيل: إن هذا تهديد أي: ابتدئوا بالإلقاء فسترون ما يحل بكم من الافتضاح، وقيل: أمرهم بذلك ليبين كذبهم وتمويههم، انظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٢٠٣، والقرطبي ٧/ ٢٥٩.
(٣) لم أقف عليه
(٤) لفظ: (المعاني) ساقط من (ب).
(٥) انظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٢٠٣، وفيه قال: (قال الواحدي: بل المراد ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ أي: قلبوها عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات) اهـ.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٨، والرازي ١٤/ ٢٠٣، والسمين في "الدر" ٥/ ٤١٦.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٨.
280
وقال الزجاج: (أي استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾. قال أهل التفسير: (وذلك أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً، فإذا هي حيات قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً) (٢).
قال أهل المعاني: (قوله: ﴿بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾، أي: عظيم الشأن عند من يراه من الناس بما يملأ الصدر بهوله ويوفي على غيره من السحر ببعد مرام الحيلة فيه وشدة التمويه به فهو لذلك عظيم).
١١٧ - قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: وألهمنا موسى ﴿أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ (٣)، ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ﴾ أي: فألقاها ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ﴾، وقرأ حفص (٤): ﴿تَلْقَفُ﴾ مخففاً.
قال ابن السكيت: (اللقف (٥) مصدر لقفْت الشيء ألقفه لقفًا إذا أخذته
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٦، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٦٣، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٥، و"تفسير غريب القرآن" ١/ ١٧٩.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢٠، وأخرج عن السدي وابن إسحاق والقاسم بن أبي بزة بسند جيد نحوه.
وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٠.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢٠٤، عن الواحدي عن ابن عباس.
(٤) قرأ حفص عن عاصم: ﴿تَلْقَفُ﴾ بإسكان اللام وتخفيف القاف، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد القاف. انظر: "السبعة" ص ٢٩٠، و"المبسوط" ص ١٤٨، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٣، و"التيسير" ص ١١٢، و"النشر" ٢/ ٢٧١، وانظر في توجيه القراءات: "معاني القراءات" ١/ ٤١٨، و"إعراب القراءات" ١/ ٢٠٠، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٩٢، و"الكشف" ١/ ٤٧٣.
(٥) انظر: "جمهرة اللغة" ٢/ ٩٦٦، و"الصحاح" ٤/ ١٤٢٨، و"المجمل" ٣/ ٨١٢، و"المفردات" ص ٧٤٤، و"اللسان" ٧/ ٤٠٦٢ (لقف).
281
فأكلته أو ابتلعته، ورجل ثقف لقف سريع الأخذ) (١).
وقال اللحياني: (ومثله ثقْف لَقْفُ، وثَقِف (٢) لقف، وثقيف لقيف بين الثقافة واللقافة) (٣). قال الفراء: (لقِفت الشيء ألقفه لقفاً ولقفاناً). قال: (وهو في التفسير يبتلع) (٤).
وقال الليث: (لقفني تلقيفاً فلقفته والتقفته وتلقفته) (٥).
وقال أبو عبيدة: (تلقف وتلقم واحد) (٦) وأنشد:
أنت عَصَا موسى التي لم تَزَلْ تلقف ما يأْفِكُه السَّاحرُ (٧)
قال ابن عباس في قوله: ﴿تَلْقَفُ﴾ (يريد: تبتلع) (٨).
(١) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٨٨، وفيه: (ويقال: رجل ثقف لقف إذا كان ضابطًا لما يحويه قائمًا به) اهـ. وانظر: "إصلاح المنطق" ص ٦٤.
(٢) في (أ): (وثقف ولقف)، وهو تحريف.
(٣) في "تهذيب اللغة" ١/ ٤٨٩: (روى أبو عبيد عن الأحمر، إنه لثَقْف لقْف، وثَقِف لَقِف، وثقيف لقيف بين الثقافة واللقافة) اهـ. وذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢٠٤، عن اللحياني.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٠، و"تهذيب اللغة" ٧/ ٤٠٦٢.
(٥) "تهذيب اللغة" ٧/ ٤٠٦٢ وفيه: (لقَّفَني تلقِيفًا فلقفْتُه والتَقفْتُه) اهـ، وفي "العين" ٥/ ١٦٤: (لقفني تلقيفًا فلقفته وتلَقَّفْتُه والتَقَفْتُه أعم) اهـ.
(٦) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٦٦، وفي "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٥: (أي: تلهم ما يسحرون ويكذبون. أي: تلقمه) اهـ.
(٧) لم أقف على قائله وهو في "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٦، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٤٦، والقرطبي ٧/ ٢٦٠، و"الدر المصون" ٥/ ٤١٧.
(٨) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٦ بسند جيد.
282
قال المفسرون: (لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم) (١).
وقوله تعالى: ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾. معنى الإفك في اللغة: قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذب: إفك؛ لأنه مقلوب عن وجهه (٢). قال ابن عباس: ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾ (٣) (يريد: يكذبون) (٤).
وقال الزجاج: (معنى ﴿يَأْفِكُونَ﴾: يأتون بالإفك (٥): وهو الكذب، وذلك أنهم زعموا أن عصيهم وحبالهم حيات، وكذبوا في ذلك، إنما جعلوا فيها الزئبق وصوروها يصور الحيات، فاضطرب الزئبق لأنه لا يستقر. قال الله تعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾) (٦) [طه: ٦٦].
١١٨ - قوله تعالى: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ﴾. قال مجاهد: (ظهر) (٧)، وهو قول الحسن (٨) وغيره (٩)، وقال الفراء: (فتبين الحق من السحر) (١٠).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢١. وقد أخرج عن قتادة والسدي وابن إسحاق، والقاسم بن أبي بزة، وابن عباس نحوه.
(٢) انظر: "العين" ٥/ ٤١٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٧٤، و"الصحاح" ٤/ ١٥٧٢، و"المجمل" ١/ ٩٩، و"مقاييس اللغة" ١/ ١١٨، و"المفردات" ص ٧٩، و"اللسان" ١/ ٩٧ (إفك).
(٣) لفظ: (ما) ساقط من (ب).
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢٠٤.
(٥) في (ب): (يأتون في الأفك).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٦.
(٧) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٢، وأخرجه الطبري ٩/ ٢٢ من عدة طرق جيدة.
(٨) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٤٦، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٩، والبغوي ٣/ ٢٦٥، والرازي ١٤/ ٢٠٥، عن مجاهد والحسن.
(٩) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٦ بسند جيد عن ابن عباس.
(١٠) "معاني الفراء" ١/ ٣٩١.
قال أهل المعاني: (الوقوع: ظهور الشيء بوجوده نارلاً إلى مستقره) (١).
قال المفسرون: (وذلك أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا وعادت إلى حالها الأولى ولم تُفقد، فلما فُقدت علموا أن ذلك أمر من أمر الله تعالى، فذلك قوله: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (٢). ﴿مَا﴾ يجوز أن يكون بمعنى (الذي)، فيكون المعنى: بطل الحبال والعصي الذي عملوا به السحر، أي: زال وذهب بفقدانها، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر كأنه قيل: بطل عملهم (٣).
١١٩ - قوله تعالى: ﴿فَغُلِبُوا هُنَالِكَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: فرعون وملأه وجيشه) (٤)، ومعنى ﴿هُنَالِكَ﴾ أي: عند ذلك المجمع، وهو ظرف مبهم، و (هنا) و (هناك) و (هنالك) كقولك: (ذا) و (ذاك) و (ذلك) (٥)، ودخلت اللام في (هنالك) للدلالة على بعد المكان المشار إليه، كما دخلت في (ذلك) لبعد المشار إليه، فـ (هناك) لما بعد قليلاً، و (هنالك) لما كان أشد بعداً، والكاف للمخاطبة.
(١) انظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٢٠٥.
(٢) هذا قول الفراء في "معانيه" ١/ ٣٩١.
(٣) انظر: "الفريد" ٢/ ٣٤٢، و"الدر" للسمين ٥/ ٤١٧، ونقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢٠٥.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٦ بسند جيد.
(٥) انظر: "الكتاب" ٢/ ٧٨، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٤١٨: (هنالك يجوز أن يكون مكانًا أي: غلبوا في المكان الذي وقع فيه سحرهم، وهذا هو الظاهر. قيل: ويجوز أن يكون زمانًا، وهذا ليس أصله، وقد أثبت له بعضهم هذا المعنى..) اهـ. ملخصًا.
وقوله تعالى: ﴿وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾، أي: انصرفوا ذليلين، والصاغر: الذليل من الصغر والصَغار، وقد ذكرنا ذلك (١).
١٢٠ - قوله تعالى: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: خروا لله عابدين سامعين مطيعين) (٢).
وقال مقاتل: (ألقاهم الله ساجدين) (٣).
وقال الأخفش: (من سرعة ما سجدوا كأنهم أُلقوا؛ لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين، وكأن ملقياً ألقاهم) (٤).
وقال غيره (٥): (ألقاهم ما رأوا من عظيم آيات الله عز وجل؛ بأن دعاهم إلى السجود له).
١٢١ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قيل في التفسير: (إن موسى قال للسحرة: أتؤمنون بي إن غلبتكم؟ فقالوا: لنأتين اليوم بسحر لا يغلبه سحر، ولئن غلبتنا لنؤمنن بك، فلما غلبهم ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾) (٦).
(١) سورة الأنعام، الآية: ١٢٤.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٩.
(٣) ذكره الثعلبي في "الكشف" ٦/ ٦ ب، والبغوي ٣/ ٢٦٦، وفي "تفسير مقاتل" ٢/ ٥٤: قال: (﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ لله) اهـ.
(٤) ذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٦١، والثعلبي ٦/ ٦ ب، والبغوي ٣/ ٢٦٦، ولم أقف عليه في "معانيه".
(٥) هذا قول الطبري في "تفسيره" ٩/ ٢٢، وانظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٢٤٦.
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٢٢، عن ابن عباس، وابن مسعود وناس من أصحاب رسول الله - ﷺ -.
١٢٢ - قوله تعالى: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾. إنما خصهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين؛ لأن فيه معنى الذي دعى إلى الإيمان به موسى وهارون، وقيل: خصهما بالذكر تفضيلاً وتشريفاً كقوله: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨].
وقيل في التفسير: (إنهم لما ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال لهم فرعون: إياي يعنون. قالوا: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ (١).
١٢٣ - قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾. قال الكلبي: (يقول: صدقتم بموسى من قبل أمري إياكم) (٢). ونحو ذلك قال الفراء (٣).
وفي: ﴿آمَنْتُمْ﴾ ثلاثة أوجه من القراءة (٤): إحداها: تحقيق الهمزتين وهو مذهب أهل الكوفة، وأصل ﴿آمَنْتُمْ﴾ أآمنتم على (أفعلتم) إحدى الهمزتين للإفعال، والثانية ألفان فخففت الثانية فدخلت هاهنا همزة الاستفهام واجتمعت مع همزة أفعل فحققهما الكوفيون، وقرأ أبو عمرو ونافع بهمزة بعدها ألف ممدودة تكون في التقدير ألفين، فالهمزة همزة الاستفهام، والألفان الأولى منهما الهمزة التي هي في (٥) أفعلتم خففت،
(١) ذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٦١، والثعلبي ٦/ ٦ ب، والبغوي ٣/ ٢٦٦.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٨، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ٢/ ٤٥، وذكره عن مقاتل الثعلبي ٦/ ٧ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٦.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٩١.
(٤) قرأ حفص عن عاصم: ﴿آمَنْتُمْ﴾ بهمزة واحدة غير ممدودة على لفظ الخبر، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: ﴿أءامنتم﴾ بهمزتين، وقرأ الباقون: ﴿ءَآمَنْتُمْ﴾ بهمزة واحدة ممدودة. انظر: "السبعة" ص٢٩٠، و"المبسوط" ص ١٨٤، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٣، و"التيسير" ص ١١٢، و"النشر" ١/ ٣٦٨.
(٥) لفظ: (في) ساقط من (ب).
286
والثانية (١) المنقلبة عن فاء الفعل.
وقرأ حفص ﴿أامنتم﴾ بلفظ الخبر من غير مد، ووجه (٢) الخبر أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم (٣)، والإنكار عليهم، وكذلك أيضاً وجه الاستفهام يوبخهم به وينكره عليهم (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ﴾. قال الكلبي: (لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع) (٥)، أي: أنكم تواطأتم على هذا الأمر لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها وتتغلبوا عليها بسحركم.
وقوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد تهدداً (٦) منه للذين آمنوا بالله) (٧).
قال أهل المعاني: (معنى التهديد في هذا اللفظ: أن فيه معنى أقدمتم بالجهل على سبب الشر، ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ما (٨) يظهر لكم مما (٩) يؤدي إليه إقدامكم على ما فعلتم، وهذا أبلغ من الإفصاح به) (١٠).
(١) في: (أ): (والثالثة)، وهو تحريف.
(٢) في (ب): (ولفظ الخبر).
(٣) لفظ: (لهم) ساقط من (ب).
(٤) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٦٨ - ٧١. وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤١٩، و"إعراب القراءات" ١/ ٢٠١، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦١، ولابن زنجلة ص ٢٩٣، و"الكشف" ١/ ٤٧٣.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢١٩، وابن الجوزي ٣/ ٢٤٣.
(٦) في (ب): (يريد تهديدًا).
(٧) لم أقف عليه.
(٨) في (ب): (من).
(٩) في (ب): (ما).
(١٠) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢٣.
287
١٢٤ - قوله تعالى: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ﴾ الآية. استعمل لفظ التقطيع هاهنا لمكان الأيدي وهي جمع.
وقوله تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾. قال عبد العزيز بن يحيى: (على مخالفة، وهو أن يقطع من كل شق طرف كاليد اليمنى مع الرجل اليسرى) (١). قال سعيد بن جبير: (وفرعون أول من فعل ذلك) (٢).
١٢٥ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾. هذا جواب السحرة لفرعون لما توعدهم بالقطع والصلب. قال ابن عباس في هذه الآية: (يريد: راجعون إلى ربنا بالتوحيد والإخلاص) (٣).
وقال غيره (٤): (راجعون إلى ثواب ربنا وجنته، ولكنه فخم بالإضافة إلى لله، وهذا يدل على أنهم صبروا على وعيده بما توقعوا من الله تعالى من عظيم الثواب).
١٢٦ - قوله (٥) تعالى: ﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا﴾. يقال: نقمتُ أنقِم إذا بالغت في كراهية الشيء، وقد مرّ عند قوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا﴾ [المائدة: ٥٩].
قال (٦) عطاء عن ابن عباس: (يريد: ما لنا عندك من ذنب ولا ركبنا
(١) لم أقف عليه.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٧ بسند جيد، وذكره الثعلبي ٧/ ٦ أ، وأخرجه الطبري ٩/ ٢٣ بسند لا بأس به عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢٠.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢٤، والسمرقندي ١/ ٥٦١.
(٥) في: (ب) (وقوله).
(٦) في: (ب) (وقال).
288
منك مكروهاً تعذبنا عليه ﴿إِلَّا أَنْ آمَنَّا﴾ (١).
وقال الضحاك: وما تطعن علينا (٢) ﴿إِلَّا أَنْ آمَنَّا﴾، أي. إلا إيماننا ﴿بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾. يعنون: ما أتى به موسى من الآيات في العصا واليد، آمنوا بها أنها من عند الله لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى (٣).
قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾، معنى الإفراغ في اللغة: الصّب، يقال: درهم مُفْرَغ إذا كان مصبوباً في قالب ليس بمضروب، وأصله من إفراغ الإناء؛ وهو صب ما فيه أجمع حتى يخلو الإناء، وهو من الفراغ، فاستعمل في الصب على التشبيه بحال إفراغ الإناء (٤).
قال مجاهد: (اصبب علينا الصبر عند الصلب والقطع حتى لا نرجع كفاراً) (٥).
وقال الزجاج: (أي: أنزل علينا صبراً يشتمل علينا) (٦)، وإنما ذكر لفظ الاشتمال لمعنى (٧) الإفراغ وهو أنك إذا صببت شيئاً على شيء شمله وعمّه.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢٠، والرازي ١٤/ ٢٠٩، وذكره الثعلبي في "الكشف" ٦/ ٧ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٦ من قول عطاء فقط.
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ٦/ ٧ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٦.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢٤، والسمرقندي ١/ ٥٦١.
(٤) انظر: "العين" ٤/ ٤٠٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٧٧، و"الصحاح" ٤/ ١٣٢٤، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٤٩٣، و"المفردات" ص ٦٣٢، و"اللسان" ٦/ ٣٣٩٦ (فرغ).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٤٣، والرازي ٤/ ٢٠٩.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٧، ومثله ذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٦٤.
(٧) في (ب): (بمعنى).
289
وقوله تعالى: ﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾. قال مجاهد: (مخلصين بالعبادة) (١)
وقال ابن كيسان: (أي: على دين موسى) (٢).
١٢٧ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ الآية. هذا إغراء من الملأ وتحريض لفرعون على موسى، وإنكار أن يتركه مقيماً على مخالفته.
قال سعيد بن جبير: (كان فرعون قد ملئ رعباً من موسى، وكان إذا رآه بال كما يبول الحمار، ولم يعلم قوم فرعون ذلك الرعب من فرعون، فأنكروا عليه خلاف عادة الملوك في السطوة لمن خالف عليهم، وشقِّ العصّا ولم يعلموا أنه غير قادر على قهره) (٣).
وقوله تعالى: ﴿لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾. قال ابن عباس: (يريد: يعبدوا الله ويوحدوه) (٤).
وقال غيره: (أراد بالإفساد في الأرض دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته وتجهيلهم إياه) (٥)، وهذا راجع إلى ما قاله ابن عباس؛ لأن عبادة الله وتوحيده تتضمن مخالفة فرعون وتجهيله.
وقوله تعالى: ﴿وَيَذَرَكَ﴾. قال ابن الأنباري: (إنه ينتصب على الصرف (٦) عن الأول، يراد به ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وقد
(١) لم أقف عليه.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٩.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢٤، ٢٥، والسمرقندي ١/ ٥٦٢، والماوردي ٢/ ٢٤٨.
(٦) واو الصرف: هي واو المعية عند الكوفين. انظر: "معجم المصطلحات النحوية والصرفية" ص ١٢٥.
290
ترك أن يطيعك وأن يعبد ألهتك). وهذا قول الفراء (١)، واحتج على هذا بقراءة أبيّ: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوا أن يعبدوك) (٢).
قال أبو بكر: (وقال بعض النحويين: الواو نائبة عن الفاء، والتقدير: فيذرك وآلهتك) (٣)، وهذا قول أبي إسحاق، قال: (نصب ﴿وَيَذَرَكَ﴾ على جواب الاستفهام بالواو، والمعنى: أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك موسى) (٤). قال أبو بكر: (وحمله بعض الناس على إعراب (يُفسدوا)، وفي هذا بُعدٌ؛ لأن توحيده مع جمع (يفسدوا) يدل على انقطاعه منه) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَآلِهَتَكَ﴾. قال أبو بكر: (كان ابن عباس ينكر قراءة العامة ويقرأ: (وإلاهتك) أي: عبادتك، ويقول: (٦) إن فرعون كان يُعبد
(١) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٩١، وهو قول الطبري في "تفسيره" ٩/ ٢٥.
(٢) ذكر القراءة أيضًا عن أبي: أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص ١٢٧، والطبري في "تفسيره" ٩/ ٢٥، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٣٢، وابن عطية ٦/ ٤٢، والقرطبي ٧/ ٢٦٢، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٦٧، وجاء عند الجميع إلا النحاس: (وقد تركوك أن يعبدوك).
(٣) انظر: "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٦٦٣، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢١، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤١٩ - ٤٢٠.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٧، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٣٢.
(٥) قال ابن الأنباري في "الإيضاح" ٢/ ٦٦٣: (قال اليزيدي: ﴿وَيَذَرَكَ﴾ منصوب على معنى: ﴿لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وليذرك وآلهتك) اهـ. وقال السمين في "الدر" ٥/ ٤٢٣: (في النصب وجهان: أظهرهما أنه على العطف على ﴿لِيُفْسِدُوا﴾، والثاني: النصب على جواب الاستفهام) اهـ.
(٦) أخرج الطبري ٩/ ٢٥، ٢٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٨ من طرق جيدة عن ابن عباس أنه قرأ: ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ بكسر الألف، وقال: (إنما كان فرعون يُعْبدَ ولا يَعْبُد) =
291
ولا يَعبد) (١)، وبه قرأ الضحاك وابن مسعود والشعبي وابن أبي إسحاق (٢).
قال الزجاج: (والمعنى: ويذرك وربوبيتك فـ (إلاهتك) بمنزلة ربوبيتك) (٣). وقرأ العامة ﴿وَآلِهَتَكَ﴾ على جمع إله مثل إزار وآزرة، وقد مرّ مستقصًى شرحه في أول الكتاب (٤)، وعلى هذه القراءة فقد روي عن ابن عباس أنه قال: (كان فرعون صنع لقومه أصناماً صغاراً، وأمرهم بعبادتها، وقال: أنا ربكم ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (٥) [النازعات: ٢٤]، ونحو ذلك قال الزجاج، فقال: (إن فرعون كان له أصنام يعبدها قومه تقرباً إليه) (٦).
= اهـ وأخرج أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص ١٧٢، القراءة بسند جيد، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٠٠.
(١) ذكره عن ابن الأنباري السمين في "الدر" ٥/ ٤٢٤، وانظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٢١١.
(٢) ذكرها الثعلبي في "الكشف" ٦/ ٧ ب، ٦/ ٨ أعن ابن مسعود وابن عباس وابن أبي إسحاق والضحاك والشعبي، وذكرها البغوي ٣/ ٢٦٧، و"الخازن" ٢/ ٢٧٣، عن ابن مسعود وابن عباس والشعبي والضحاك وذكرها عن ابن مسعود وابن عباس أكثرهم. انظر: "مختصر الشواذ" ص ٥٥، و"المحتسب" ١/ ٢٥٦، وابن عطية ٦/ ٤٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٤٤، و"البحر" ٤/ ٣٦٧ وهي قراءة مجاهد كما أخرجه الطبري ٩/ ٢٦ بسند جيد.
(٣) لم أقف عليه في "معانيه"، وذكره عن الزجاج ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٢٤٤.
(٤) انظر: "البسيط" تفسير البسملة من الفاتحة.
(٥) ذكره الثعلبي في "الكشف" ٦/ ٧ ب، وابن الجوزي ٣/ ٢٤٤، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢١ من رواية الكلبي عن ابن عباس.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٧.
292
وقال الحسن: (كان فرعون يعبد الأصنام) (١)، فعلى هذا كان يَعبد ويُعبد. وقال السدي: (كان يعبد ما يستحسن من البقر، وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء، أمر قومه أن يعبدوها، وعلى ذلك أخرج السامري عجلاً) (٢)، ونحو هذا روي عن سليمان التيمي (٣).
وقوله تعالى: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾. قال ابن عباس: (كان فرعون قد ترك قتل أبناء بني إسرائيل، فلما أتاه موسى بالرسالة -وكان من أمره ما كان- أمر بإعادة القتل عليهم، فذلك قوله: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ (٤).
قال أهل المعاني: (إنما دعي فرعون إلى قتل موسى، لكنه لم يطمع في ذلك لما رأى من قوة أمره وعلوّ شأنه، فعدل عن ذلك إلى إضعاف بني إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نساءهم للمهنة والخدمة) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: وإنا على ذلك قادرون) (٦).
١٢٨ - قوله تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾، وهم الذين اتبعوه وآمنوا به. قال ابن عباس: (لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل)، ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا﴾ (وذلك أنهم شكوا إلى موسى إعادة
(١) أخرجه الطبري ٩/ ٢٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٨ من عدة طرق جيدة، وذكره الثعلبي ٦/ ٧ ب، والماوردي ٢/ ٢٤٨، والبغوي ٣/ ٢٦٧.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ٢٥ بسند جيد.
(٣) أخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٣٨ بسند جيد، وذكره النحاس في "معانيه" ٣/ ٦٥.
(٤) ذكره الثعلبي في "الكشف" ٦/ ٨ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢١، والبغوي ٣/ ٢٦٧.
(٥) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٢٤٨، والرازي ١٤/ ٢١١، ٢١٢.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢١.
قتل أبنائهم، فقال موسى: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا﴾ على ما يفعل بكم). قاله ابن عباس (١).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾. هذا إطماع من موسى قومه في أن يورثهم الله أرض فرعون وقومه، أي: يعطيهم بعد إهلاكهم، وذلك معنى الإرث، وهو جعل الشيء للخلف بعد السلف.
وقوله تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. قال ابن عباس: (أي: الجنة لمن اتقى الله في الآخرة) (٢).
وقال غيره: (العاقبة (٣) هاهنا النصر والظفر) (٤)، ومعنى العاقبة: ما تؤدي إليه البادئة (٥) من خير أو شر، إلا أنه إذا قيل: العاقبة له فهو في الخير (٦).
١٢٩ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا أُوذِينَا﴾. قال ابن عباس: (أي: بالقتل الأول، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا﴾ بالرسالة، ﴿وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ بإعادة القتل
(١) ذكره الثعلبي في "الكشف" ٦/ ٨ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٧ - ٢٦٨، وأخرج الطبري ٩/ ٢٧ بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل) اهـ.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١١٩، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢١.
(٣) في: (ب) (وقال غيره معنى العاقبة)، وهو تحريف.
(٤) هذا قول الثعلبي في "الكشف" ٦/ ٨ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٧، وانظر: "الماوردي" ٢/ ٢٤٩، والظاهر من الآية مجموع الأمرين النصر والظفر والجنة.
(٥) في: (ب) (التادية).
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥٠٤، و"اللسان" ٥/ ٣٠٢٢ (عقب)، وقال الراغب في "المفردات" ص ٥٧٥: (العاقبة إطلاقها يختص بالثواب وبالإضافة قد تستعمل في العُقوبة) اهـ.
294
عليهم والإتعاب في العمل). ﴿قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ﴾، قال (١): (وعسى من الله واجب) (٢)، قال سيبويه: (عسى (٣) طمع وإشفاق) (٤). قال الزجاج: (وما طمع الله عز وجل فيه فهو واجب، وهو معنى قول المفسرين: عسى من الله واجب) (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾، يعني: فرعون وقومه. ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، قال ابن عباس: (يملككم ما كان يملك فرعون) (٦).
وقوله تعالى: ﴿فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾. قال أبو إسحاق: (أي: يرى ذلك بوقوع ذلك منكم؛ لأن الله لا (٧) يجازيهم على ما يعلمه منهم، إنما يجازيهم على ما يقع منهم) (٨)، وهذه الآية تسلية من موسى لقومه بما وعدهم عن ربه من إهلاك فرعون وقومه وجعلهم بدلاً منهم ليعملوا بطاعته، ثم حقق الله ذلك، فغرق فرعون وقومه واستخلفهم في ديارهم وأموالهم.
(١) لفظ: (قال) ساقط من (ب).
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٠، وأخرج البيهقي في "سننه" ٩/ ١٣ بسند جيد عنه قال: (كل عسى في القرآن فهي واجبة) اهـ. وذكره السيوطي في "الإتقان" ٢/ ٢٤١.
(٣) في (ب): (وعسى).
(٤) "الكتاب" ٤/ ٢٣٣.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٧، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٥.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢٢ بلا نسبة، ونقل ابن الجوزي ٣/ ٢٤٦ عن ابن عباس أنه قال: (أرض مصر) اهـ.
(٧) لفظ: (لا) ساقط من (ب).
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٧.
295
١٣٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ الآية. السنين: جمع السنة (١)، وقد ذكرنا (٢) كيف كانت السنة في الأصل والاختلاف فيها عند قوله: ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩].
قال أبو علي الفارسي: (السنة على معنيين؛ أحدهما: يراد بها الحول والعام، والآخر: يراد بها الجدب، وهو (٣) خلاف الخصب، فمما أريد به الجدب هذه (٤) الآية، وقوله - ﷺ -: "اللهم سنين كسني يوسف" (٥)، وقول عمر -رضي الله عنه-: (إنا لا نقطع في عام السنة) (٦). أي: في عام الجدب.
(١) انظر: "العين" ٤/ ٨، و"الجمهرة" ١/ ١٣٥، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٨٢، و"الصحاح" ٦/ ٢٢٣٥، و"المجمل" ٢/ ٤٧٤، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١٠٣، و"المفردات" ص ٤٢٩، و"اللسان" ٤/ ٢١٢٧ (سنة).
(٢) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ١٥٦ أ.
(٣) لفظ: (هو) ساقط من (ب).
(٤) في (ب): (في هذه الآية).
(٥) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب الاستسقاء، باب دعاء النبي - ﷺ - رقم (١٠٠٦)، ومسلم رقم (٦٧٥) عن أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب المساجد، باب: استحباب القنوت، وأخرجه البخاري برقم (٤٨٢١) كتاب التفسير، باب: يغشى الناس في تفسير سورة الدخان، ومسلم رقم (٢٧٩٨) كتاب صفة الجنة والنار، باب: الدخان، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(٦) الأثر أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ١٠/ ٢٤٢، وابن أبي شيبة ٥/ ٥١٦ (٢٨٥٧٧) بسند ضعيف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا يقطع في عذق، ولا في عام السنة) اهـ، وأورده الحافظ في "تلخيص الحبير" ٤/ ٧٠ وقال: (أخرجه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في "جامعه" عن أحمد بن حنبل وقال: سألت أحمد عنه فقال: العذق النخلة وعام سنة عام المجاعة، فقلت لأحمد تقول به؟ قال: إي لعمري) اهـ، وذكره الألباني في "إرواء الغليل" ٨/ ٨٠ وقال: (ضعيف أخرجه ابن أبي شيبة) اهـ.
296
وقول حاتم (١):
فإنَّا نُهِينُ المالُ منْ غَيْرِ ظنَّهٍ ولا يَشْتَكِينا في السنينَ ضَرِيرُها
أي: لا يشتكينا الفقر في المحل لأنا نسعفه ونكفيه، ولما كانت السنة يعني بها الجدب اشتقوا منها كما يشتق من الجدب فقيل: أسنتوا كما يقال: أجدبوا) (٢). قال الشاعر (٣):
وَرِجالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
وقالوا في جمع السنة: سنون وسنين، وإنما جمعت هذا الجمع للنقصان الذي لحقها، وقد مرّ بيان هذا في هذا الكتاب (٤).
قال أبو زيد: (وبعض العرب يقول: هذه سنين ورأيت سنيناً فيعرب النون) (٥).
(١) "ديوانه" ص٦٢، و"البحر المحيط" ٤/ ٣٦٩، و"الدر المصون" ٥/ ٤٢٧، وفي الديوان (وما) بدل (ولا).
(٢) "الحجة" لأبي علي ٢/ ٣٦٩ - ٣٧٢.
(٣) الشاهد لعبد الله بن الزِّبَعْرَى في "ديوانه" ص ٥٣، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٥٨ (هشم)، والقرطبي ٧/ ٢٦٤، و"اللسان" ٤/ ٢١١١ (سنن)، ولمطرود بن كعب الخزاعي في "الاشتقاق" ص ١٣، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٧٦٤ (هشم) ولبنت هاشم بن عبد مناف في "العين" ٣/ ٤٠٥، و"المبهج" لابن جني ص ٦٠، و"اللسان" ٨/ ٤٦٦٨ (هشم) وبلا نسبة في "النوادر" لأبي زيد ص ١٦٧، و"الكامل" للمبرد ١/ ٢٠٩، و"المقتضب" ٢/ ٣١١، ٣١٥، و"سر صناعة الإعراب" ٥٣٥، والرازي ١٤/ ٢١٤، و"البحر" ٤/ ٣٦٩، و"الدر المصون" ٥/ ٤٢٧، وصدره:
عَمْرُو العُلاَ هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ
وعمرو هو ابن هاشم جد النبي - ﷺ - سمي هاشمًا؛ لأنه هشم الخبز فجعله ثريدًا، ومسنتون: أي أصابتهم سنة وقحط وعجاف: هزل وضعف. انظر: "حاشية ديوان عبد الله بن الزبعرى" ص ٥٢ - ٥٤.
(٤) انظر: "البسيط" النسخة الآزهرية ١/ ٧٣ أو ١٥٦ أ
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٨٢ وزاد: (وبعضهم يجعلها نون الجمع فيقول: هذه سنون،=
297
ونحو ذلك قال الفراء (١)؛ فمن ذلك قول الشاعر (٢):
دَعَاني مِنْ نَجْدٍ فَإنَّ سِنِينَهُ لَعِبْنَ بِنَا شِيبًا وَشَيَّبْننَا مُرْدًا
وقال أبو إسحاق: (السنين في كلام العرب: الجدوب، يقال: مستهم السنة، [ومعناه: جدب السنة] (٣) وشدة السنة) (٤).
قال عطاء عن ابن عباس في قوله: ﴿أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ﴾، (يريد: بالجوع) (٥).
وقال الفراء: (﴿بِالسِّنِينَ﴾ بالقحط والجدوبة عاماً بعد عام) (٦).
قال ابن عباس (٧) وقتادة (٨) والمفسرون (٩): (السنون لأهل البوادي، ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ لأهل القرى).
= ورأيت سنين، وهذا هو الأصل لأن النون نون الجمع والسنة سنة القحط) اهـ.
(١) "معاني الفراء" ٢/ ٩٢ وفيه: (وهي لغة كثيرة في أسد وتميم وعامر وأنشدني بعض بني عامر) ثم ذكر الشاهد.
(٢) الشاهد للصمة بن عبد الله القشيري في "ديوانه" ص ٦٠ وبلا نسبة في "مجالس ثعلب" ص ١٤٧، ٢٦٦، و"الحجة" لأبي علي ٢/ ٣٧٤، و"التكملة" لأبي علي ص ٥٠٣، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٢٦١، والرازي ١٤/ ٢١٤، و"اللسان" ٧/ ٤٣٤٦ (نجد)، و"الدر المصون" ٥/ ٤٢٦، والشاهد: (فإن سنينه) حيث نصب سنين بالفتحة ولم يعاملها معاملة المذكر السالم في نصبها بالياء انظر: "الخزانة" ٨/ ٥٨.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٨ وفيه: (وشدة السنة ونقص الثمرات) اهـ.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٠ وفيه: (بالقحط والجوع عامًا بعد عام) اهـ.
(٦) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٢.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) أخرجه الطبري ٩/ ٢٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٤٢ بسند جيد.
(٩) انظر: "الكشف" للثعلبي ٦/ ٩ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٨ والرازي ١٤/ ٢١٤.
298
وقال الزجاج: (إنما (١) أخذوا بالضر لأن أحوال الشدة ترق القلب وترغب فيما عند الله وفي الرجوع، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧]، وقوله: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾) (٢) [فصلت: ٥١].
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: كي تتعظوا) (٣).
وقال أهل المعاني: (في العل) من الله تعالى أن معناه: أنه عاملهم معاملة الشاك إظهاراً للعدل بعد معرفته وعلمه أنَّهم يذّكرون أم لا. كما جاء الابتلاء والاختبار من الله تعالى للعبد على هذا التقدير) (٤).
١٣١ - قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ﴾، قال ابن عباس (٥) والمفسرون (٦): (معنى ﴿الْحَسَنَةُ﴾ يريد بها: الغيث والخصب والثمار والمواشي والألبان والسعة في الرزق، والعافية والسلامة).
وقوله تعالى: ﴿قَالُوا لَنَا هَذِهِ﴾. أي: أنَّا مستحقوه (٧) على العادة التي
(١) في (ب): (وإنما).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٨.
(٣) سبق تخريجه.
(٤) نقل هذا القول الرازي ١٤/ ٢١٥، عن الواحدي، وقال الطبري ٩/ ٢٨ في تفسير الآية: (يقول: عظة لهم وتذكيرًا لهم لينزجروا عن ضلالتهم ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة) اهـ، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٦٧.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٠، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢١٥.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢٩، وأخرج عن مجاهد وابن زيد من طرق جيدة نحوه، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٨، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٣، والثعلبي ٦/ ٩ أ، والماوردي ٢/ ٢٥١.
(٧) انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٩، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٣٩١.
299
جرت لنا من نعمنا وسعة أرزاقنا في بلادنا، ولم يعلموا أنه من الله فيشكروا عليه، ويقوموا بحق النعمة فيه.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ يريد: القحط والجدب والمرض والبلاء والضرّ، ﴿يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾، أي: يتشاءموا، وقالوا: إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه، والتطير: التشاؤم في قول جميع المفسرين (١).
وقوله تعالى: ﴿يَطَّيَّرُوا﴾ هو في الأصل يتطيروا، فأدغمت التاء في الطاءة لأنهما من مكان واحد من طرف اللسان وأصول الثنايا (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾. قال ابن عباس: (يريد شؤمهم عند الله) (٣)، يريد من قبل الله، أي: إنما جاءهم الشؤم بكفرهم بالله وجرأتهم (٤) عليه.
وقال الكلبي: (يقول إن الذي أصابهم هو من الله) (٥)، وهذا قول
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢٩، وأخرجه من طرق جيدة عن مجاهد وابن زيد. وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٥٦٨، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٣، والثعلبي ٦/ ٩ أ، والماوردي ٢/ ٢٥١.
(٢) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٦٨.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢٣، والبغوي ٣/ ٢٦٩ بلفظ: (شؤمهم عند الله ومن قبل الله). وأخرج الطبري ٩/ ٣٠ بسند جيد عن ابن عباس قال: (يقول مصائبهم عند الله) اهـ. وفي رواية قال: (الأمر من قبل الله) اهـ، وذكره الثعلبي ٦/ ٩ أ، والبغوي ٣/ ٢٦٩ عنه أنه قال: (طائرهم ما قضى الله عليهم وقدر لهم) اهـ.
(٤) في (ب): (وجرأتهم على الله عليه)، وهو تحريف.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٠.
300
أكثر المفسرين (١) في الطائر أن معناه هاهنا: الشؤم، ومثل هذا قوله تعالى في قصة ثمود وتشاؤمهم بنبيهم: ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [النمل: ٤٧].
قال الفراء: (كما تشاءمت اليهود بالنبي - ﷺ - بالمدينة، فقالوا (٢): غلت أسعارنا، وقلت أمطارنا مُذْ أتانا) (٣).
قال الأزهري: (وقيل للشؤم: طائر وطَيْر وطِيَرة؛ لأن العرب كان من شأنها عِيَافَةُ الطير وزجرها، والتَّطيُّر ببارحها، وبِنَعيق غربانها، وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فَسَمَّوا الشؤم طَيْراً وطائِراً وطِيَرَة لتشاؤمهم بها.
ثم أعلم الله تعالى على لسان رسوله أن طِيَرَتهم باطلة فقال: "لا طِيَرة ولا هام" (٤)، وكان النبي - ﷺ - (٥) يتفاءل ولا يَتَطَير (٦)، وأصل الفأل الكلمة
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٢٩، ٣٠، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٨ - ٣٦٩، والنحاس ٣/ ٦٨، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٣، والماوردي ٢/ ٢٥١.
(٢) لفظ: (فقالوا) ساقط من (أ).
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٢.
(٤) حديث متفق عليه. أخرجه البخاري رقم (٥٧٧٠) كتاب الطب، باب: لا هامة، ومسلم رقم (٢٢٢٠) كتاب السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" اهـ. والهامة: طائر معروف. وقيل إن عظام الميت وروحه تنقلب هامة تطير، والصفر: داء يأخذ البطن. انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي" ١٤/ ٣١٠.
(٥) في (أ): (عليه السلام).
(٦) أخرج البخاري رقم (٥٧٥٧) كتاب الطب، باب: الفأل. ومسلم رقم (٢٢٢٣ - ٢٢٢٤) كتاب السلام، باب: الطيرة والفال، عن أبي هريرة، عن النبي - ﷺ - قال: =
301
الحسنة يَسمعُها عليل فيتأول فيها ما يدل على برئه، والطيرة مضادة للفأل، وكانت العرب مذهبها في الفأل والطِّيَرة واحد (١)، فأثبت النبي - ﷺ - الفأل واستحسنه، وأبطل الطِّيَرة ونهى عنها) (٢).
وقال أبو عبيدة في قوله: ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾: (أي: حظهم) (٣)، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال: (طائرهم ما قُضِي عليهم وقُدر لهم) (٤).
والعرب تقول: أطرت المال وَطيَّرته بين القوم فَطَار لكل (٥) منهم سَهْمُه، أي: صار له (٦). ومنه الحديث: "أطره خُمراً بين نسائك" (٧) أي:
= "لا طيرة وخيرها الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم". وفي رواية لمسلم قال: "أحب الفأل الصالح" وأخرجا عن أنس عن النبي - ﷺ - قال: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة" اهـ.
(١) في (أ): (واحدًا).
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٠ (طير).
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٦ وفيه: (مجازه إنما طائرهم وتزاد (ألا) للتنبيه والتوكيد، ومجاز طائرهم حظهم ونصيبهم) اهـ.
(٤) سبق تخريجه.
(٥) في (ب): (فطار لكل واحد منهم سهمه).
(٦) النص من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٠.
(٧) أخرج مسلم في "صحيحه" رقم (٢٠٧١) كتاب اللباس والزينة، باب: استعمال إناء الذهب والفضة، وأبو داود ٤/ ٣٢٢ رقم (٤٠٤٣)، والنسائي ٨/ ١٩٧ - ١٩٨ كتاب الزينة، باب: ذكر الرخصة للنساء في لبس السيراء، وباب النهي عن لبس الإستبرق، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله - ﷺ - حلة سيراء فبعث بها إلى فلبستها، فعرفت الغضب في وجهه فقال: "إني لم أبعثها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرًا بين النساء". وفي رواية: (فأمرني =
302
فرقة، وطائر كل واحد ما يطير له أي: يخصه، ومنه قول لبيد:
تَطِيرُ عَدَائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلَامِ (١)
الأشراك: الأنصباء واحدها شرك أي: قسم المال للذكر مثل حظ الأنثيين فطارت الأنصاب شفعاً ووتراً لمستحقيها، وخلصت الرئاسة للذكور من الأولاد (٢)، وليس هذا من باب الشؤم والتطير في شي، وكلا القولين قد حكاه الزجاج؛ فقال في قوله: ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾: (ألا إنما الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا (٣) ما ينالهم في الدنيا).
[قال: (وقال بعضهم (٤): ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ حظهم، والمعنى واحد) (٥)، فجعل تفسير قوله: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ما وعدوا في الآخرة مما ينالهم في الدنيا] (٦)، يريد: أن جميع ما يصيبهم في الدنيا والآخرة هو من الله تعالى، وجعل معنى القولين في الطائر واحداً وإن اختلف الأصلان؛ لأن المعنى فيهما: ما يصيبهم من شرّ وضرّ.
= فأطرتها بين نسائي) اهـ. وحلة سيراء: أي: مضلعة بالحرير، وأطرتها: أي قسمتها بأن شققتها بينهن، أفاده الخطابي في "حاشية سنن أبي داود".
(١) "ديوانه" ص ٢٠٠، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٠، و"الدر المصون" ٥/ ٤٢٩، وتطير: أي تخرج، والعدائد: المال والميراث وقيل: الأنصباء. والأشراك: الشركاء، والزعامة: الرياسة والحظ من المغنم.
(٢) هذا من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٠.
(٣) في النسخ: (إلى ما ينالهم في الدنيا)، وهو تحريف.
(٤) هذا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٦.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٩.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
303
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾. قال الكلبي (١): (يعني: أهل مصر لا يعلمون أن الذي أصابهم من الله تعالى (٢).
١٣٢ - قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: آل فرعون لموسى ﴿مَهْمَا تَأْتِنَا﴾؛ اختلف النحويون (٣) في أصل ﴿مَهْمَا﴾ على قولين:
أحدهما: أن أصلها (ما ما) الأولى هي (ما) الجزاء، والثانية: هي التي (٤) تزاد توكيداً للجزاء، كما تزاد في سائر حروف الجزاء كقولهم: أمَّا ومتى وكيفما (٥)، قال الله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] وهو كقولك: إن تثقفنهم، ثم أبدلوا من ألف (ما) الأولى هاء (٦) كراهة لتكرار اللفظ فصار (مهما)، هذا قول الخليل (٧) ومذهب البصريين.
وقال الكسائي: (الأصل مه (٨) التي بمعنى: الكف، أي: اكفف دخلت على (ما) التي للجزاء كأنهم قالوا: اكفف ما تأتنا به من آية) (٩).
(١) لم أقف عليه.
(٢) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ).
(٣) انظر: "تأويل مشكل القرآن" ص ٥٣٢، و"الأصول" لابن السراج ٢/ ١٥٩ و٢٢٠، و"حروف المعاني" للزجاجي ص ٢٠، و"الصاحبي" ص ٢٧٥، و"مغني اللبيب" ١/ ٣٣٠.
(٤) لفظ: (التي) ساقط من (ب).
(٥) في النسخ: (كقولهم: أما، ومتى ما وكيفما). وأصل النص في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٦٠ وفيه: (مثل إنما ومتى وكيفما).
(٦) في (ب): (ما)، وهو تحريف.
(٧) انظر: "الكتاب" ٣/ ٥٩ - ٦٠، و"العين" ٣/ ٣٥٨.
(٨) في (ب): (الأصل فيه التي بمعنى الكف)، وهو تحريف.
(٩) ذكره الثعلبي في "الكشف" ٦/ ٩ ب عن الكسائي، وقال سيبويه في "الكتاب" ٣/ ٦٠ بعد ذكر قول الخليل السابق: (وقد يجوز أن يكون مَهْ كإذ ضم إليها ما) اهـ.
قال الزجاج: (والتفسير الأول هو الكلام، وعليه استعمال الناس) (١). وقال بعضهم: (هي كلمة على حيالها يجازى بها فيجزم ما بعدها على تقدير إن) (٢).
١٣٣ - قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾. اختلفت الرواية عن ابن عباس في تفسير ﴿الطُّوفَانَ﴾؛ فقال في رواية عطاء: (الموت (٣)) (٤) قال: (وكل طوفان في القرآن هو الغرق سوى هذا) (٥). وهو قول مجاهد (٦).
وروي ذلك مرفوعاً، أخبرناه العروضي رحمه الله قراءة وسعيد بن العباس القرشي (٧) كتابة قالا: أبنا (٨) الأزهري، أبنا المنذري عن أبي بكر الخطابي (٩) عن محمد بن يزيد (١٠)، عن يحيى بن يمان (١١) عن المنهال بن
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦٩، ونحوه قال الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٦٠ قال: (والقول الأول أقيس) اهـ. وانظر: "البيان" ١/ ٣٧١، و"التبيان" ص ٣٨٧.
(٢) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٣٣، و"المشكل" ١/ ٢٩٩، و"غرائب الكرماني" ١/ ٤١٩، و"الدر المصون" ٥/ ٤٣١.
(٣) في (ب): (هو الموت).
(٤) لم أقف عليه عن ابن عباس، وإنما ذكره أكثرهم من قول عطاء بن أبي رباح، وقد أخرجه الطبري ١٣/ ٥١ من عدة طرق جيدة عن عطاء، وذكره النحاس في "معانيه" ٣/ ٦٩، والثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٩ ب، والماوردي ٢/ ٢٥١ عن عطاء.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٤، وأخرجه الطبري ٩/ ٣١ من عدة طرق جيدة.
(٧) لفظ: (القرشي) ساقط من (ب).
(٨) في (ب): (أخبرنا الأزهري أخبرنا المنذري).
(٩) لم أستطع معرفته بعد طول بحث.
(١٠) محمد بن يزيد بن كثير العجلي أبو هشام الرفاعي الكوفي، قاضي المدائن، إمام، فقيه، مقرئ، محدث، صدوق، فيه لين. توفي سنة ٢٤٨ هـ. انظر: "الجرح والتعديل" ٨/ ١٢٩، و"تاريخ بغداد" ٣/ ٣٧٥، و"سير أعلام النبلاء" ١٢/ ١٥٣، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ٦٨، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٧٣٥.
(١١) يحيى بن يمان العجلي أبو زكريا الكوفي، إمام، عابد، مقرئ، محدث، =
305
خليفة (١) عن الحجاج (٢) عن الحكم بن ميناء (٣) عن عائشة قالت: قال رسول الله - ﷺ -: "الطوفان الموت" (٤).
وقال في رواية الضحاك (٥): (الطوفان الغرق).
= صدوق، يخطئ، وتغير بآخر عمره. توفي سنة ١٨٩ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ١٤/ ١٢٠، و"سير أعلام النبلاء" ٨/ ٣٥٦، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ٤١٦، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٤٠١.
(١) المنهال بن خليفة العجلي، أبو قدامة الكوفي، ضعيف، روى عن عطاء بن أبي رباح، وحجاج بن أرطأة وغيرهما، وروى عنه وكيع وعبد الله بن المبارك وغيرهما.
انظر: "الجرح والتعديل" ٨/ ٣٥٧، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ١٩١، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ١٦٢، و"تقريب التهذيب" ص ٥٤٧ (٦٩١٧).
(٢) حجاج بن أرطأة بن ثور النخعي أبو أرطأة الكوفي، القاضي، إمام، فقيه، صدوق، كثير الخطأ والتدليس، توفي سنة ١٤٥ هـ.
انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ١٥٣، و"تاريخ بغداد" ٨/ ٢٣٠، و"سير أعلام النبلاء" ٧/ ٦٨، و"ميزان الاعتدال" ١/ ٤٥٨، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٣٥٦.
(٣) الحكم بن ميناء الأنصاري المدني من أولاد الصحابة، روى عن بلال وعائشة وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم، وهو إمام ثقة. انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ١٢٧، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٤٧٠، و"تقريب التهذيب" ص ١٧٦ (١٤٦٣).
(٤) هذا حديث ضعيف، أخرجه الطبري ٩/ ٣١، ٣٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٤٤، والأزهري في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٤، وذكره ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٦٨، وقال: (هو حديث غريب)، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥١٩ وزاد نسبته (إلى أبي الشيخ وابن مردويه). وضعفه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في "حاشية الطبري" لضعف المنهال بن خليفة العجلي.
(٥) قوله: وقال، أي: ابن عباس رضي الله عنهما وقد أخرجه الطبري ٩/ ٣١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٤٥ بسند ضعيف.
306
وقال في رواية أبي ظبيان (١): (الطوفان أمر من أمر الله [طاف] (٢) بهم) ثم قرأ: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ (٣) [القلم: ١٩].
وروي عنه أيضاً أنه قال: (الطوفان هو الماء؛ أرسل الله عليهم السماء) (٤)، وهذا القول اختيار الفراء فقد قال: (أرسل الله عليهم [السماء] (٥) سبتاً (٦) فلم تقلع ليلاً ولا نهاراً، فضاقت بهم الأرض من تهدم بيوتهم وشغلهم عن ضياعهم فسألوه أن يرفع عنهم فرفع فلم يتوبوا) (٧)، وهذه الأقوال غير خارجة عن مذهب أهل اللغة (٨)؛ فقال الليث (٩): (الطوفان الماء الذي يغشى كل مكان، وشبه العجاج ظلام الليل بذلك فسماه طوفاناً حيث يقول:
وَعمَّ طُوفَانُ الظلامِ الأثأبَا (١٠)
(١) أبو ظبيان هو حصين بن جندب بن عمرو بن الحارث الجنبي الكوفي، إمام، تابعي، ثقه، فقيه، روى عن جرير بن عبد الله، وأسامة بن زيد، وابن عباس وغيرهم، توفي سنة ٩٠ هـ. انظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ٢٢٤، و"الجرح والتعديل" ٣/ ١٩٠، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٣٦٢، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٤٤١.
(٢) لفظ: (طاف) ساقط من (أ).
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ٣١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٤٤ بسند لا بأس به.
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ٣٢، ص ٦١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٤٥ من عدة طرق جيدة.
(٥) لفظ: (السماء) ساقط من (ب).
(٦) أي أسبوعًا من السبت إلى السبت.
(٧) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٢.
(٨) انظر: "المنجد" لكراع ص ٢٥٥، و"البارع" ص ٦٨٢، و"الصحاح" ٤/ ١٣٩٧، و"المجمل" ٢/ ٥٨٩، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤٣٢، و"المفردات" ص ٥٣٢، و"اللسان" ٥/ ٢٧٢٣ (طوف).
(٩) النصر في "العين" ٧/ ٤٥٨.
(١٠) "ملحق ديوان العجاج" ٢/ ٢٦٨، و"المنجد" ص ٢٥٥، و"البارع" ص ٦٨٢، =
307
وقال أبو إسحاق: (الطوفان من كل شيء ما كان كثيراً محيطاً مطيفاً بالجماعة كلها كالغرق الذي يشمل المدن الكثيرة، يقال له: طوفان، وكذلك القتل الذريع طوفان، والموت الجارف طوفان) (١) انتهى كلامه.
وهو فعلان (٢) من الطواف (٣)؛ لأنه يطوف حتى يعم، قاله الأخفش، قال: (وواحدته في القياس طوفانة) (٤). وأنشد:
غيَّرَ الْجِدَّةَ من آياتها خُرُقُ الرِيحِ وطُوفَانُ المَطَرْ (٥)
وقال أبو العباس: (الطوفان مصدر مثل الرجحان والنقصان، ولا حاجة به إلى أن نطلب له واحداً) (٦).
وأكثر المفسرين على أن معناه هاهنا: المطر الكثير (٧)، فقد قال ابن
= و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٤، و"الصحاح" ٤/ ١٣٩٧، و"المجمل" ٢/ ٥٨٩، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤٣٢، و"اللسان" ٥/ ٢٧٢٤ (طوف)، و"الدر المصون" ٥/ ٤٣٣، وأوله:
حتَّى إذا مَا يَوْمُهَا تَصَّبْصَبَا
وفي "العين" قال: (الأثأب: شجر شبه الطرفاء إلا أنه أكبر منه) اهـ.
(١) "معاني الزجاج" ٤/ ١٦٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٤.
(٢) وعليه يكون اسم جنس كقمح وقمحة وشعير وشعيرة، أفاده السمين في "الدر" ٥/ ٤٣٢.
(٣) في (ب): (من الطوف)، وهو تحريف.
(٤) "معاني الأخفش" ٢/ ٣٠٨ وزاد فيه: (وهي من طاف يطوف) اهـ.
(٥) البيت لحسيل بن عرفطة الأسدي، شاعر جاهلي، في "النوادر" لأبي زيد ص ٧٧، و"تفسير الطبري" ٩/ ٣٢، والماوردي ٢/ ٢٥٢، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٤، و"الصحاح" ٤/ ١٣٩٧، و"المنصف" ٢/ ٢٢٨، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ٤٩، و"اللسان" ٥/ ٢٧٢٤، و"البحر" ٤/ ٣٧٣، و"الدر المصون" ٥/ ٤٣٣.
(٦) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٤، وجعله السمين في "الدر" ٥/ ٤٣٢، من قول المبرد في آخرين.
(٧) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٦، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٠، و"معاني النحاس" ٣/ ٦٩، و"تفسير المشكل" ص ٨٦.
308
عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق (١): (لما أبى (٢) فرعون وقومه الإيمان دعا عليهم موسى، فقال: يا رب إن عبدك فرعون بغى وعتا، وإن قومه قد نقضوا عهدك، رب فخذهم بعقوبة، فأرسل الله عليهم السماء بالماء فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم من جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، ودام ذلك عليهم سبعة أيام، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا فنؤمن لك، فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان، فلم يؤمنوا، فأنبت الله لهم في تلك السنة ما لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع، فقالوا: هذا ما كنا (٣) نتمنى وما كان ذلك الماء إلا نعمة علينا، فبعث الله عليهم الجراد) وهو معروف، والواحدة: جرادة (٤) ونبت مجرود قد أكل الجراد زورقه (٥).
[وقال اللحياني: (أرض جَرِدَة ومَجرُودَة قد لحسها الجراد) (٦) وإذا
(١) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٣٤، من عدة طرق جيدة عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٥٠ من عدة طرق جيدة عن ابن عباس، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٤، بسند جيد عن قتادة.
(٢) في (ب): (لما أتى)، وهو تصحيف.
(٣) لفظ: (كنا) ساقط من أصل (أ)، وملحق بالهامش.
(٤) الذكر والأنثى فيه سواء يقال: جرادة ذكر وجرادة أنثى، كنملة وحمامة، مشتق من الجَرْد، أفاده السمين في "الدر" ٥/ ٤٣٤.
(٥) زورقه: أي: خضرته، انظر: "اللسان" ٣/ ١٨٢٧ (زرق).
وفي أصل (أ): (زورقها ثم صحح إلى زورقه)، ولعله ورقه، وفي (ب): (ونبت مجرود قد أكل الجراد والزرع) اهـ. وعند الرازي ١٤/ ٢١٨: (ونبت مجرود قد أكل الجراد ورقه) اهـ.
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٥٧٣ (جرد).
309
أصاب الجراد الزرع] (١) قيل: جُرِد الزرع، وأصل هذا كله من الجَرْد وهو: أخذك الشيء من الشيء جرفاً وسحقاً، ومن هذا يقال للثوب الذي قد ذهب زِئْبِرُه (٢): جَرْد، وأرض جَرْداء: لا نبات فيها، ومكان أجْرَد (٣).
قالوا: (فأكلت الجراد عامة زروعهم (٤) وثمارهم حتى إن كانت لتأكل الأبواب والسقوف حتى تقع دورهم ولا تدخل بيوت بني إسرائيل فعجّوا وأعطوا موسى عهد الله لئن كشف الله ذلك أن يؤمنوا، فدعا موسى فكشف الله الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام، وكان قد بقيت من غلاتهم بقية. فقالوا: قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا، فبعث الله عليهم القُمّل).
واختلفوا فيه. فقال ابن عباس في رواية عطاء: (هو الدبى) (٥) [ومثل ذلك روى الوالبي عنه (٦).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) الزئبر، بالكسر مهموز: ما يعلو الثوب الجديد ويظهر من درز الثوب. انظر: "اللسان" ٣/ ١٧٩٩ (زأبر).
(٣) انظر: "العين" ٦/ ٧٥ - ٧٧، و"المنجد" ص ١٦٥، و"الجمهرة" ١/ ٤٤٦، و"الصحاح" ٢/ ٤٥٥، و"المجمل" ١/ ١٨٦، و"مقاييس اللغة" ١/ ٤٥٢، و"المفردات" ص ١٩١، و"اللسان" ١/ ٥٨٧ (جرد).
(٤) في (ب): (زرعهم).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢٨ من رواية عطاء عن ابن عباس.
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ٣٢، ٣٣ من عدة طرق جيدة عن علي بن أبي طلحة، وعطية العوفي، والضحاك عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٤٦ من طرق عن عكرمة والضحاك عن ابن عباس.
310
وهو قول مجاهد (١) والسدي وقتادة (٢) والكلبي (٣) قالوا: (القمل الدبى (٤): الصغار التي لا أجنحة لها] (٥)).
وقال عكرمة: (هي بنات الجراد) (٦). وهذا القول هو اختيار الفراء قال: (القُمّل الدبا التي لا أجنحة لها) (٧).
وقال (٨) في رواية سعيد بن جبير: (القُمّل: هو السوس الذي يخرج من الحنطة). وهو قول الحسن وسعيد بن جبير قالا (٩): (القُمّل: دواب سود صغار) (١٠). وهو قول الليث في القُمَّل. قال: (هو الذّر الصغار) (١١).
(١) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٤.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ٣٣ من طرق جيدة عن مجاهد وقتادة والسدي، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٤ بسند جيد عن قتادة.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢١. وذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٣٨ - ٣٩، والثعلبي ٦/ ١٠ أ، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢٨، والبغوي ٣/ ٢٧٠.
(٤) الدبى: قال في "اللسان" ٣/ ١٣٢٥ (دبى): (الدبى الجراد قبل أن يطير، وقيل: هو أصغر ما يكون من الجراد والنمل، وقيل: هو نوع يشبه الجراد) اهـ.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ٣٣ بسند ضعيف.
(٧) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٢، وانظر: "الزاهر" ١/ ٢٢٢.
(٨) قوله: (وقال) أي ابن عباس، وقد أخرجه الطبري ٩/ ٣٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٤٧ بسند جيد عنه.
(٩) في (ب): (قال)، وهو تحريف.
(١٠) أخرجه الطبري ٩/ ٣٣ بسند ضعيف عن سعيد بن جبير والحسن، وأخرجه الطبري ٩/ ٣٣، عن سعيد بن جبير بسند جيد من وجه آخر.
(١١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٤٧، وانظر: "العين" ٥/ ١٧٦.
311
وقال ابن السكيت: (القُمَّل شيء يقع في الزرع ليس بجراد فيأكل السنبلة وهي غضة قبل أن تخرج، فيطول الزرع ولا سنبل له) (١)، [قال] (٢) الأزهري: (وهذا هو الصحيح) (٣). وذكره عطاء (٤).
قالوا: (فتتبع القُمّل ما بقي من حروثهم وأشجارهم فأكله ولحس الأرض كلها) هذا على قول من قال: إنه الدبى، ومن قال: إنه السوس، فقال سعيد بن جبير: (كان الرجل يخرج عشرة أقفزة (٥) إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة).
وقال أبو عبيدة (٦) والأخفش (٧): (القُمل عند العرب: الحمنان وهي ضرب من القردان). وروى أبو عبيد عن أبي الحسن العدوي (٨): (القمل
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٤٧.
(٢) لفظ: (قال) ساقط من (ب).
(٣) "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٤٧، وانظر: "الجمهرة" ٢/ ٩٧٤، و"الصحاح" ٥/ ١٨٠٥، و"المجمل" ٣/ ٧٣٤، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢٩، و"المفردات" ص ٦٨٤، و"اللسان" ٦/ ٣٧٤٣ (قمل).
(٤) ذكره ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٤٧، والثعلبي ٦/ ١٠ أ، والبغوي ٣/ ٢٧٠ عن عطاء الخرساني قال: (هو القَمْل) اهـ.
(٥) القفيز: من المكاييل معروف، وهو مكيال تتواضع الناس عليه. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٧٠١ (قفز)، والأثر أخرجه الطبري ٩/ ٣٤ بسند جيد فيه: (فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة) اهـ.
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٦.
(٧) ذكره الثعلبي ٦/ ١٠ أعن الأخفش ولم أقف عليه في "معانيه".
(٨) أبو الحسن الأعرابي العدوي، لعله علي بن الحسن بن عبيد بن محمد الشيباني أبو الحسن المعروف بابن الأعرابي البغدادي، صاحب أدب ورواية للأخبار، روى عن أبي خالد يزيد بن يحيى الخزاعي وأبي العتاهية الشاعر وغيرهم، انظر: "تاريخ بغداد" ١١/ ٣٧٣، و"اللباب" لابن الأثير ١/ ٧٤.
312
دواب صغار من جنس القردان إلا أنها أصغر منها، واحدتها قُمَّلة) (١) ويؤكد هذا القول ما روي عن أبي العالية (٢) في تفسير هذا الحرف قال: (أرسل الله الحمنان على دوابهم فأكلها حتى لم يقدروا على الميرة) (٣).
قالوا: (وكان القمل يدخل (٤) بين ثوب أحدهم وبين جلده (٥) فيعضه، وأخذت أشعارهم وأبشارهم ولزم جلودهم كأنه الجُدري عليهم، ومنعهم النوم والقرار، وكل هذا من فعل القُراد، فصرخوا وصاحوا إلى موسى: إنا نتوب ولا نعود فادعُ لنا ربَّك، فدعا (٦) موسى، فرفعَ الله القملَ عنهم، فنكثوا وعادوا لأخبثِ أعمالِهم، فدعا موسى عليهم فأرسل الله عليهم الضفادع يدخل في طعامهم وشرابهم وأوانيهم وفرشهم، فكان أحدهم يُصبح وهو (٧) على فراشه متراكب، ويجلس الرجل إلى ذَقَنه في الضفادع ويهمّ أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، فبكوا وشكوا إلى موسى وقالوا: هذه المرة نتوب ولا نعود، فأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع فعادوا لكفرهم وتكذيبهم، فدعا عليهم موسى فأرسل الله (٨) عليهم
(١) "معاني النحاس" ٣/ ٧٠، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٤٧، وقال بعده النحاس: (وليس هذا بناقض لما قاله أهل التفسير لأنه يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم وهي كلها تجتمع في أنها تؤذيهم) اهـ.
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ٦/ ١٠ ب.
(٣) الميرة: الطعام يمتاره الناس ونحوه مما يجلب للبيع. انظر: "اللسان" ٧/ ٤٣٠٦ (مير).
(٤) في (ب): (دخل)، وهو تحريف.
(٥) في (ب): (جلدهم).
(٦) في (ب): (لدعا)، وهو تحريف.
(٧) في (أصل) (أ): (وهي) ثم صحح في الأعلى إلى (وهو) وهو الأولى.
(٨) لفظ: (الله) ساقط من (ب).
313
الدم، فسأل النيل عليهم دمًا، وصارت مياههم كلها دمًا، فكان الإسرائيلي إذا اغترف صار ماء، والقبطي يغترف دمًا) (١).
وقوله تعالى: ﴿آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾. قال المفسرون: (كان العذاب يمكث (٢) عليهم من السبت إلى السبت، وبين العذاب إلى العذاب شهر، فذلك معنى قوله: ﴿آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾ (٣).
وقال مجاهد: ﴿مُفَصَّلَاتٍ﴾: مبينات ظاهرات) (٤).
قال الزجاج: (و ﴿آيَاتٍ﴾ منصوبة على الحال (٥)، [وقوله: ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾. قال ابن عباس (٦): (يريد: عن عبادة الله)] (٧).
١٣٤ - قوله (٨) تعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾، ذكرنا معنى ﴿وَقَعَ﴾
(١) سبق تخريجه.
(٢) في (ب): (نكث)، وهو تحريف.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٣٩، ٤٠، أخرجه عن ابن عباس وابن جريج وابن إسحاق من طرق جيدة، انظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٩٣ والزجاج ٢/ ٣٧٠، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٥، الماوردي ٢/ ٢٥٣.
(٤) ذكره الهمداني في "الفريد" ٢/ ٣٤٩، القرطبي ٧/ ٢٧١، أخرج الطبري ٩/ ٤٠ بسند ضعيف عن مجاهد قال: (معلومات) اهـ. وقال ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٠: (أي: بين الآية والآية فصل ومدة) اهـ. وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٧١.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٠ انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٣٤، و"المشكل" ١/ ٢٩٩، و"البيان" ١/ ٣٧١، و"التبيان" ص ٣٨٨، و"الفريد" ٢/ ٣٤٩، و"الدر المصون" ٥/ ٤٣٤.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٢٩، "الرازي" ١٤/ ٢١٨ بلا نسبة، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٢ (أي: عن الإيمان ولم يؤمنوا) اهـ.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٨) في (ب): (وقوله تعالى).
314
عند قوله: ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ﴾ [الأعراف: ٧١]. وذكر (١) الكلام في ﴿الرِّجْزُ﴾ عند قوله: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا﴾ [البقرة: ٥٩] في البقرة، وهو اسم للعذاب الذي كانوا فيه من الجراد وما ذكر بعده، في قول ابن عباس (٢) والحسن (٣) ومجاهد وقتادة (٤).
وقال سعيد بن جبير: ﴿الرِّجْزُ﴾ معناه هاهنا: الطاعون، وهو العذاب السادس؛ أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد) (٥).
(١) لفظ: (وذكر) ساقط من (ب).
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ٣٤، ٣٥ بسند ضعيف، أخرج الطبري ٩/ ٤١، ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٥٠، عن ابن عباس بسند جيد قال: (الطاعون).
(٣) ذكره الماوردي ٢/ ٢٥٣، عن الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد.
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ٤١ من عدة طرق جيدة عن مجاهد وقتادة وابن زيد، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٥٠ بسند جيد عن مجاهد، أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٣٤ بسند جيد عن قتادة.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ٤٠ بسند لا بأس به.
والظاهر أن المراد به العذاب المتقدم الذكر من الطوفان وغيره وهو قول الجمهور. قال ابن عطية ٦/ ٥٣ بعد ذكر قول سعيد بن جبير المتقدم: (هذا ضعيف، هذه الأخبار وما شاكلها إنما تؤخذ من كتب بني إسرائيل فلذلك ضعفت) اهـ.
وقال الرازي ١٤/ ٢١٩: (القول الأول أقوى؛ لأن لفظ الرجز مفرد محلى بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق، وأما غيرها فمشكوك فيه، فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه) اهـ.
وانظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٢٧، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٠، و"تفسير الطبري" ٩/ ٤١، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٠، والنحاس ٣/ ٧١، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٥.
315
وقوله تعالى: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ﴾. معنى العهد (١) في اللغة: المتقدم في الأمر، ومن هذا يقال للوصية: عهد؛ لأنه يتقدم فيه بالوثيقة، فمعنى قوله: ﴿بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ﴾، (أي: بما أوصاك وتقدم إليك أن تدعوه به)، وهو قول أبي العالية (٢).
وقال عطاء عن ابن عباس (٣): (بما نبأك واستخصك).
وقال المؤرج: (بما أعلمك) (٤). وكل هذا يعود معناه إلى [معنى] (٥) الوصية والتقدم (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، كانوا قد اخذوا بني إسرائيل بالكد الشديد (٧)، فوعدوا موسى -على دعائه بكشف العذاب عنهم- الإيمان به، والتخلية عن بني إسرائيل وإرسالهم معه يذهب بهم أين يشاء. وذكرنا هذا عند قوله: ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف: ١٠٥]
(١) أصل العهد حفظ الشيء ومراعاته، والعهد: الوصية والتقدم إلى صاحبك بشيء. واليمين والأمان والموثق والذمة انظر: "العين" ١/ ١٠٢، الجمهرة ٢/ ٦٦٨، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٠٦، و"الصحاح" ٢/ ٥١٥، و"المجمل" ٣/ ٦٣٤، و"مقاييس اللغة" ٤/ ١٦٧، و"المفردات" ص ٥٩١، و"اللسان" ٥/ ٣١٤٨ (عهد).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٠ دون نسبة.
(٣) ذكره البغوي ٣/ ٢٧٢ عن عطاء فقط.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) لفظ: "معنى" ساقط من (ب).
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٧، و"تفسير الطبري" ٩/ ٤١، والماوردي ٢/ ٢٥٣، ابن الجوزي ٣/ ٢٥٢.
(٧) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٧٠، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٤١ و"معاني النحاس" ٣/ ٧١.
316
١٣٥ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ﴾. قال ابن عباس (١): (يريد: إلى الأجل الذي غرقهم (٢) الله فيه).
وقوله تعالى: ﴿إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾، أي: ينقضون العهد ولا يوفون بما عاهدوا، وأصل النكث أن تنكث أخلاق (٣) الأخبية والأكسية فتغزل ثانية، وهي تسمى: أنكاثًا وواحدها نِكْثُ، والذي ينكثها نكاث، ثم يقال: نكَث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث مخيط الصوف بعد إبرامه (٤).
١٣٦ - قوله تعالى: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾، معنى الانتقام في [اللغة] (٥)
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٥٠ بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٠٧.
(٢) في (ب): (عرفهم) وكذلك جاء عند الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٠ وقال البغوي ٣/ ٢٧٢: (يعني إلى الغرق في اليم) اهـ.
وقال ابن عطية ٦/ ٥٤: (الأجل يراد به غاية كل واحد منهم بما يخصه من الهلاك، والموت هذا اللازم من اللفظ كما تقول: أخذت كذا إلى وقت وأنت لا تريد وقتا بعينه، وقيل: الأجل هنا: الغرق؛ لأن أكثر هذه الطائفة مات منه فالإشارة هنا بالأجل إنما هي إلى الغرق، وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم وبقي بمصر خلق لم يغرق فأين الغرق من هؤلاء؟ وذكر بعض الناس أن معنى الكلام: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ﴾ المؤجل ﴿إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ ومحصول هذا التأويل أن العذاب كان مؤجلاً، والمعنى الأول أفصح لأنه تضمن توعدا ما) اهـ. بتصرف.
(٣) الأخلق: اللين الأملس المصمت، وثوب خلق بال. انظر: "اللسان" ٢/ ١٢٤٧.
(٤) انظر: "العين" ٥/ ٣٥١، و"الجمهرة" ١/ ٤٣١، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٥٨، و"الصحاح" ١/ ٢٩٥، و"المجمل" ٣/ ٨٨٤، و"مقايس اللغة" ٥/ ٤٧٥، و"المفردات" ص ٨٢٢، و"اللسان" ٨/ ٤٥٣٦ (نكث)
(٥) لفظ: "اللغة" ساقط من (ب).
317
سلب النعمة بالعذاب (١)، قال الليث: (انتقم إذا كافأه عقوبة بما صنع) (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾، أي: في البحر (٣) وأظنه (٤) قد مرَّ.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾؛ اختلفوا في الكناية في ﴿عَنْهَا﴾؛ فقيل: إنها تعود إلى النقمة التي دلت عليها (انتقمنا)، والمعنى: وكانوا عن النقمة قبل حلولها ﴿غَافِلِينَ﴾ (٥)، وعلى هذا دل كلام ابن عباس؛ لأنه قال في قوله: ﴿عَنْهَا﴾: (عما يراد بهم من الغرق) (٦).
وقيل: الكناية تعود إلى الآيات، وهو اختيار الزجاج لأنه قال: (أي: كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم) (٧).
(١) انظر: "الجمهرة" ٢/ ٩٧٧، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٤٥، و"المجمل" ٣/ ٨٨٠، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤٦٤، و"المفردات" ص ٨٢٢، و"اللسان" ٨/ ٤٥٣١ (نقم).
(٢) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٥٤، وانظر: "العين" ٥/ ١٨١.
(٣) هذا هو قول أهل اللغة والتفسير، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٧، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٠، و"تفسير الطبري" ٩/ ٤٢، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٧١، والنحاس ٣/ ٧٢، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٥، وانظر: "العين" ٨/ ٤٣١، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٨٤، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٦٥، و"مقاييس اللغة" ٦/ ١٥٣، و"المفردات" ص ٨٩٣، و"اللسان" ٨/ ٤٩٦٦ (يمم).
(٤) الظاهر أن لم يمر لأن أول موضع ورد فيه لفظ ﴿الْيَمِّ﴾ في هذه الآية، وانظر تعريف البحر عند الواحدي في "البسيط" البقرة: ٥٠.
(٥) هذا هو قول الطبري في "تفسيره" ٩/ ٤٢، والبغوي ٣/ ٢٧٣.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧١، والنقمة من الآيات، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٣/ ٢٥٢، والرازي ١٤/ ٢٢٠.
318
فإن قيل على هذا: إن الغفلة حال تعتري الإنسان تنافي (١) الفطنة، وليست من فعل الإنسان، فلم جاء الوعيد على الغفلة؟
والجواب: أنهم تعرضوا (٢) لها حتى صاروا لا يفطنون بها، وقيل: إن الغفلة هاهنا المراد بها الإعراض (٣) عن الآيات، وهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها (٤).
١٣٧ - قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ﴾ الآية. معنى أورثناهم الأرض أي: مكناهم فيها بعد إهلاك من كان بها مع الحكم بأن لهم أن (٥) يتصرفوا فيها (٦).
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ﴾. معنى الاستضعاف في اللغة: طلب الضعف (٧) بالاستطالة والقهر، ثم كثر حتى صار استضعفته
(١) في (ب): (تعتري الإنسان ما في الفطنة)، وهو تحريف.
(٢) في (ب): (يعرضوا).
(٣) في (أ): (الإعراب).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٤٢، وابن عطية ٦/ ٥٥، والرازي ١٤/ ٢٢١، وقال السمين في الدر ٥/ ٤٣٨: (قال الجمهور: إنهم تعاطوا أسباب الغفلة فذموا عليها كما يذم الناسي علي نسيانه لتعاطيه أسبابه) اهـ.
(٥) لفظ: (أن) ساقط من (ب).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧٦.
(٧) الضَّعْف والضُّعْف بالفتح والضم لغتان خلاف القوة، وقيل: الضعف بالفتح في العقل والرأي، والضُعف بالضم في البدن، واستضعفته: وجدته ضعيفًا، وأضعفته أي: صيرته ضعيفًا.
انظر: "العين" ١/ ٢٨١، و"الجمهرة" ٢/ ٩٠٣، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢١١٩، و"الصحاح" ٤/ ١٣٩٠، و"المجمل" ٢/ ٥٦٢، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٣٦٢، و"المفردات" ص ٥٠٦، و"اللسان" ٥/ ٢٥٨٧ (ضعف).
319
بمعنى: وجدته ضعيفًا بامتحاني إياه، كأنه طلب حال ضعفه بمحنته فوجده. قال مقاتل (١)، والمفسرون (٢): ﴿يُسْتَضْعَفُونَ﴾ أي: بقتل الأبناء واستحياء النساء.
وقوله تعالى: ﴿مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾. [قال ابن عباس (٣) وغيره (٤): (يريد: مشارق أرض الشام ومصر، ومغاربها] (٥)، أي: جهات الشرق بها (٦) والغرب)، وهو قول الحسن وقتادة (٧).
وقال مقاتل: (مشارق الأرض المقدسة ومغاربها) (٨)، فالأرض على هذا مخصوصة.
وقال الزجاج: (فكان منهم داود وسليمان ملكا الأرض) (٩)، ذهب إلى أن الأرض هاهنا اسم الجنس ولم يخص (١٠).
(١) "تفسير مقاتل" ٢/ ٥٩.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٤٣، والماوردي ٢/ ٢٥٤، والبغوي ٣/ ٢٧٣.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٣.
(٤) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٥، والماوردي ٢/ ٢٥٤، والبغوي ٣/ ٢٧٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٣.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) لفظ: (بها) ساقط من (ب).
(٧) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٤ - ٢٣٥، والطبري ٩/ ٤٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٥١ من عدة طرق جيدة عن الحسن وقتادة، وهو قول سفيان الثوري في "تفسيره" ص ١١٣. وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٥٢٦.
(٨) "تفسير مقاتل" ٢/ ٥٩، وزاد فيه: (وهي الأردن وفلسطين) اهـ.
(٩) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧١، وهو قول النحاس في "معانيه" ٣/ ٧٢.
(١٠) أكثرهم على أن المراد: الشام؛ لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون والمتصفة بأنها التي بارك فيها، وهو اختيار الطبري ٩/ ٤٣، وابن عطية ٦/ ٥٦، والرازي ١٤/ ٢٢١.
320
وقوله: ﴿الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ أي: بإخراج الزروع والثمار والنبات والأشجار والعيون والأنهار.
وقوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾.
قال ابن عباس: (يريد: مواعيد ربك التي لا خلف فيها ولا ناقض لها (١). ونحو ذلك قال الزجاج (٢) وغيره: (يعني: ما وعدهم الله من إهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض).
قال مقاتل: (وهي الكلمة التي في القصص: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿يَحْذَرُونَ﴾ (٣) [القصص: ٥، ٦] وقال أهل المعاني: (معنى تمام الكلمة الحسنى: إنجاز الوعد الذي (٤) تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض، وإنما كان الإنجاز تمامًا (٥) للكلام لتمام (٦) النعمة به، وإنما قيل: ﴿الْحُسْنَى﴾ لأنه وعد بما يحبون) (٧).
وقوله تعالى: ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾. قال ابن عباس: (يريد: على عذاب فرعون وصنيعه بهم) (٨)، وهذا إخبار عن حسن عاقبة الصبر على الحق.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣١.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧١ وهو قول الطبري ٩/ ٤٤، وأخرجه بسند جيد عن مجاهد.
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٥٩، وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ٧٢ - ٧٣: (قيل: يعني بالكلمة: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأعراف: ١٢٩]) اهـ.
(٤) في أصل (أ): (التي ثم صحح إلى الذي).
(٥) في (أ): (تمام).
(٦) لفظ: (لتمام) ساقط من (ب).
(٧) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٢٥٤، والرازي ١٤/ ٢٢٢
(٨) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٣، وذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٣١ بلا نسبة.
321
وقوله تعالى: ﴿وَدَمَّرْنَا﴾. قال الليث (١): (الدمار استئصال الهلاك، يقال: دَمَرَ القومُ يَدْمُرُون دَمَارا، أي: هلكوا ودَمَرَهم مَقَتَهم ودمَّر عليهم تدميرًا) (٢).
وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾. قال ابن عباس: (يريد: المصانع (٣)، ﴿وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾، أي: يسقفون من القصور) (٤) ونحو ذلك.
قال مجاهد: (أي: يبنون البيوت والقصور والمساكن) (٥).
قال الزجاج (٦): (يقال: عَرَشَ يعرُش [ويعرِش] (٧) إذا بني).
وقال مقاتل: (أهلكنا ما عمل فرعون وقومه بأرض مصر وما بنوا من المنازل والبيوت) (٨).
(١) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٢٥، وانظر: "العين" ٨/ ٣٩، و"الجمهرة" ٢/ ٦٣٨، و"الصحاح" ٢/ ٦٥٩، و"المجمل" ٢/ ٣٣٥، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٣٠٠، و"المفردات" ص ٣١٨، و"اللسان" ٣/ ١٤٢٠ (دمر).
(٢) في "تهذيب اللغة" (ودمرهم الله تدميرًا).
(٣) ذكره الرازي ١٤/ ٢٢٢.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣١، وأخرج الطبري ٩/ ٤٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٥٢، عن ابن عباس بسند جيد قال: (يبنون).
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٥، وأخرجه "الطبري" ٩/ ٤٤، و"ابن أبي حاتم" ٥/ ١٥٥٢ من طرق جيدة، وفيه: (يبنون البيوت والمساكن ما بلغت وكان عنبهم غير معروش) اهـ.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧١.
(٧) لفظ: (ويعرش) ساقط من (ب)، وهو بكسر الراء، والثاني بضمها عَرش يَعْرش ويَعْرُش. وانظر: "اللسان" ٥/ ٢٨٨١ (عرش).
(٨) "تفسر مقاتل" ٢/ ٦٠.
322
١٣٨ - قوله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ﴾، يقال: جاوز الوادي إذا قطعه وخلفه وراءه، وجاوز بغيره عبر به (١).
﴿فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ﴾، قال ابن عباس: (يعبدونها مقيمين عليها) (٢).
قال الزجاج: (يواظبون عليها و (٣) يلازمونها، يقال لكل من لزم شيئًا وواظب عليه (٤): عكَف يعكُف ويعكِف، ومن هذا قيل لملازم المسجد: معتكف) (٥)، وكل واحد من الكسر والضم في عينى الكلمتين لغة مثل: يعرُش ويعرِش ويبطُش (٦) ويبطِش.
(١) الجوز: قطع الشيء يقال: جُزْت الموضع سلكته وسرت فيه وأَجَزتْه خلفته وقطعته وأجزْته نَفذتُه، وجَاوَزْت الشيء إلى غيره وَتَجاوَزته بمعنى جزته.
انظر: "العين" ٦/ ١٦٥، و"تهذيب اللغة" ١/ ٥١٩، و"الصحاح" ٣/ ٨٧٠، و"المجمل" ١/ ٢٠٣، و"مقاييس اللغة" ١/ ٤٩٤، و"المفردات" ص ٢١١، و"اللسان" ٢/ ٧٢٤ (جوز).
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٣، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣١.
(٣) (الواو) ساقطة من (ب).
(٤) في (ب): (عليها)، وهو تحريف
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧١، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٧٣، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٧، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٠.
(٦) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٧٤ - ٧٥ والضم والكسر في ﴿يَعْرِشُونَ﴾ و ﴿يَعْكُفُونَ﴾ لغة وقراءة سبعية، قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: ﴿يَعْرِشُونَ﴾ بضم الراء، وقرأ الباقون بكسرها، وقرأ حمزة والكسائي: ﴿يَعْكُفُونَ﴾ بكسر الكاف، والباقون بضمها. انظر: "السبعة" ص ٢٩٢، و"المبسوط" ص ١٨٤، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٤، و"التيسير" ص ١١٣، و"النشر" ٢/ ٢٧١، وانظر توجيه القراءة في "معاني القراءات" ١/ ٤٢١، و"إعراب القراءات" ١/ ٢٠٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٢، ولابن زنجلة ص ٢٩٤، و"الكشف" ١/ ٤٧٥.
323
قال قتادة؛ (١): (كان أولئك القوم من لخم (٢) وكانوا نزولا بالرقة) (٣)
وقال ابن جريج: (كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل) (٤).
وقوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾، قال عطاء: (يريد: من دون الله. ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ يريد: جهلتم نعمة ربكم وما صنع بكم) (٥).
قال أهل المعاني: (هذه الآية تخبر عن جهل عظيم من بني إسرائيل؛ حيث توهموا أنه يجوز عبادة غير الله بعد ما رأوا الآيات التي توالت على قوم فرعون حتى غرّقهم الله في البحر بكفرهم وعبادتهم غيره، فلم يردعهم ذلك عن أن قالوا لنبيهم: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ (٦).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٣٢، والبغوي ٣/ ٢٧٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٤، وأخرج الطبري ٩/ ٤٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٥٣ بسند ضعيف عن قتادة قال: (على أصنام لهم على لخم).
(٢) لَخْم: قبيلة من كهلان، ولخم أخو جُذام عم كندة وهم حي من اليمن ومنهم كانت ملوك العرب في الجاهلية، ونزلوا الحيرة وهم آل عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، وقيل هم آل المنذر.
انظر: "اللسان" ٧/ ٤٠١٨ (لخم)، و"نهاية الأرب" ص ٣٦٧.
(٣) الرَّقَّة، بالفتح: مدينة مشهورة على الفرات من بلاد الجزيرة بينها وبين حَران ثلاثة أيام، ويقال لها: الرقة البيضاء. انظر: "معجم البلدان" ٣/ ٥٩.
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ٤٥ بسند جيد.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٢، عن ابن عباس قال: (جهلتم نعمة ربكم فيما صنع بكم).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٤٥، والسمرقندي ١/ ٥٦٦، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٤.
324
١٣٩ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ﴾. قال الليث: (التَّبار (١) الهلاك، تَبِرَ الشيءُ يَتْبَرُ تبارًا، والتتبير الإهلاك) (٢). ومنه قوله: ﴿تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾ (٣) [الفرقان: ٣٩]. قال المفسرون: ﴿مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ﴾ مهلك ومدمر (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: أن عملهم للشيطان، وليس لله فيه نصيب) (٥).
قال أهل المعاني (٦): (ومعنى البطلان انتفاء الشيء بعدمه أو بعدم معناه، والمعنى في بطلان عملهم: إنه لا يعود عليهم بنفع ولا بدفع ضر، فكأنه بمنزلة ما لم يكن من هذا الوجه، وهذا بيان عن حال من عمل لغير الله كيف يصير أمره إلى الهلاك وعمله إلى الشيطان (٧)).
(١) التبر: الكسر والإهلاك وتبرة تتبيرًا أي: كسره وأهلكه وكل شيء كَسَرته فقد تبرته. انظر: "الجمهرة" ١/ ٢٥٣، و"الصحاح" ٢/ ٦٠٠، و"المجمل" ١/ ١٥٣، و"مقاييس اللغة" ١/ ٣٦٢، و"المفردات" ص ١٦٢، و"اللسان" ١/ ٤١٦ (تبر).
(٢) "العين" ٨/ ١١٧، وفي "تهذيب اللغة" ١/ ٤٢٥، عن الليث قال: (تَبِر الشيء يَتْبِرُ تَبارًا).
(٣) جاء في النسخ: (تبرناهم تتبيرًا)، وهو تحريف.
(٤) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٧، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٠، و"تفسير غريب القرآن" ص١٨٠، و"تفسير الطبري" ٩/ ٤٦، وأخرجه بسند جيد عن السدي، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧١، والنحاس ٣/ ٧٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٦، والماوردي ٢/ ٢٥٥.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٣.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٤٦، والرازي ١٤/ ٢٢٤
(٧) في: (ب): (إلى البطلان).
١٤٠ - قوله تعالى: ﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا﴾، يقال: بغيت (١) فلانا شيئا وبغيته له، قال الله تعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة: ٤٧] أي: يبغون لكم، وقال كعب بن زهير:
إذا ما نَتَجْنَا أَرْبَعًا عام كُفْأَةٍ بَغَاها خَنَاسِيرًا فأهْلَكَ أَرْبَعا (٢)
أي: بغى لها خناسير وهي الدواهي، وفي انتصاب قوله: ﴿إِلَهًا﴾ وجهان:
أحدهما: الحال كأنه قيل: أطلب لكم غير الله معبودًا، ونصب (غير) في هذا (٣) على المفعول به.
[الثاني: أن ينصب: ﴿إِلَهًا﴾ على المفعول به] (٤)، و (غير) على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة، كما تقول: أبغيكم إلهًا غير الله (٥).
(١) البغي: بالفتح طلب الشيء. يقال: بَغَيْت الشيء أبغيه: إذا طلبته، وَبَغَيتك الشيء: إذا طلبته لك، وأَبغْيتُك الشيء: إذا أَعْنتُك على طلبه، وأبغيتك الشيء أيضًا جعلتك طالبًا له. انظر: "العين" ٤/ ٤٥٣، و"الجمهرة" ١/ ٣٧١، و"البارع" ٤٣٤، و"الصحاح" ٦/ ٢٢٨٢، و"المجمل" ٢/ ١٢٩، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٧١، و"المفردات" ص ١٣٦، و"اللسان" ١/ ٣٢٢ (بغي).
(٢) "ديوانه" ص ٤٣، و"إصلاح المنطق" ص ١١٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٦٧، و"اللسان" ١/ ٣٢٢ (بغى)، والكفأة: نتاج عام واحد، والخناسير: الدواهي والمصائب. يقول: إنه لا حظ له إذ أنتج أربع نوق عدت عليه عوادي الزمن فأهلكتها، ولم تبق منها شيئًا. انظر: "حاشية الديوان"، و"تهذيب إصلاح المنطق" ١/ ٣١٥.
(٣) في (ب): (ونصب غير في هذا الوجه على المفعول به).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) قال السمين في "الدر" ٥/ ٤٤٥: (في نصب (غير) وجهان أحدهما: أنه مفعول به لأبغيكم تقديره: أبغي لكم غير الله أي: أطلب لكم، وفي (إلهًا) على هذا وجهان: =
326
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: أكرمكم من بين الخلائق أجمعين) (١).
وفي هذا قولان: أحدهما تخصيص ﴿الْعَالَمِينَ﴾ بأن يقال: عالمي زمانهم، وهو قول الحسن (٢) والمفسرين (٣)، والثاني: التفضيل (٤)، وهو أن يقال: أراد بقوله: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ما خصهم (٥) به من الآيات وإرسال موسى وهارون نبيين منهم، وإهلاك عدوهم في البحر وإنجائهم منهم، إلى غير ذلك مما فضلوا فيه خاصًا على جميع العالمين، ثم غيرهم يفضلهم في غير هذه الآيات، مثال هذا: رجل يعلم علماً واحداً ففاخره إنسان يعلم كثيرا من العلوم ولا يعلم ذلك العلم الواحد، فصاحب العلم الواحد يفضل عليه (٦) بذلك العلم الواحد، ثم يفضل صاحب العلوم
= أحدهما: وهو الظاهر أنه تمييز لغير. والثاني أنه حال. وفيه نظر. والثاني من وجهي غير: أنه منصوب على الحال من (إلها) و (إلهًا) هو المفعول به لأبغيكم، والأصل: أبغي لكم إلهًا غير الله، فغير الله صفة لإله، فلما قدمت صفة النكرة عليها نصت حالاً) اهـ. ملخصًا.
وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٣٥، و"المشكل" ١/ ٣٠١، و"البيان" ١/ ٣٧٣، و"التبيان" ص ٣٨٩، و"الفريد" ٢/ ٣٥٤.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٣.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٤٦، والسمرقندي ١/ ٥٦٦، وقال ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٢٥٤: (قال المفسرون منهم ابن عباس ومجاهد: العالمون هاهنا عالمو زمانهم) اهـ.
(٤) في (ب): (والثاني تخصيص الفضل وهو أن يقال..).
(٥) في (ب): (ما خصصهم).
(٦) قوله: (يفضل عليه بذلك العلم الواحد) مكرر في (ب).
327
ويصير حقيقة الفضل له، ولكن لا ينكر تفضيل الأول عليه بما خُص به، وهذا قول أهل النظر (١)، وهذه الأية تضمنت توبيخا لهم حين (٢) طلبوا إلها غير الله، وهو الذي ينال كل الخير وكل النعم منه.
١٤١ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾. مفسر إلى آخر الآية في سورة البقرة (٣).
١٤٢ - قوله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً﴾، قال أبو على الفارسي (٤) وغيره من النحويين (٥): (تقدير الآية: وواعدنا موسى انقضاء ثلاثين ليلة يترقب بعدها المفاجأة). وقد بينا هذا بيانًا شافيا في سورة البقرة (٦).
(١) انظر: "تفسير الرازي" ١٤/ ٢٢٥، وقال ابن عطية في "تفسيره" ٦/ ٦٢: (العالمين لفظ عام يراد به تخصيص عالم زمانهم لأن أمة محمد - ﷺ - أفضل منهم بإجماع، اللهم إلا أن يراد بالفضل كثرة الأنبياء منهم فإنهم فضلوا في ذلك على العالمين بالإطلاق) اهـ.
(٢) في (ب): (حتى).
(٣) انظر: "البسيط" البقرة: ٤٩.
(٤) انظر: "الحجة" لأبي علي ٢/ ٦٤ - ٦٥، و"الإغفال" ص ١١٠٢.
(٥) انظر: "معاني الأخفش" ١/ ٩٣، و"معاني الزجاج" ١/ ١٣٣، و"تفسير الطبري" ١/ ٢٨٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٣٥، و"المشكل" ١/ ٩٤، قال الطبري ١/ ٢٨٠ في معنى آية البقرة ٥٢: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾. المعنى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة بتمامها، فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد، وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة أي: رأس الأربعين - وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويل وخلاف ظاهر التلاوة) اهـ. وقال ابن عطية ٦/ ٦٥: (وكل المفسرين على أن الأربعين كلها ميعاد) اهـ.
(٦) انظر: "البسيط" البقرة: ٥٢.
328
قال ابن عباس (١) والمفسرون (٢): (كانت (٣) تلك الثلاثين ذو القعدة، أمره الله تعالى أن يصوم فيها ويتفرد للعبادة، ويعمل فيها بما يقربه إلى الله عز وجل ليكلمه، فلما انسلخ الشهر استاك موسى لمناجاة ربه يريد إزالة (٤) الخلوف) (٥).
وقال أبو العالية: (أكل من لحاء شجرٍ فأوحى الله إليه: يا موسى لا كلمتك حتى يعود فوك على (٦) ما كان عليه، أما علمت أن رائحة الصائم أحب إلي من ريح المسك، وأمره بصيام عشرة أيام من ذي الحجة ليكلمه بخلوف فيه، فذلك قوله: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾) (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾. الميقات (٨) ما قدر
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٥٦ بسند جيد، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٤، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٥، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٢١٤.
(٢) أخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٦، والطبري ٩/ ٤٧ - ٤٨ من طرق جيدة عن مجاهد نحوه، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٢، والنحاس ٣/ ٧٤، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٧، وابن كثير ٢/ ٢٧١.
(٣) في النسخ: (كان) والأولى (كانت).
(٤) في (ب): (يريد لإزالة الخلوف).
(٥) الخلوف، بالضم: تغير رائحة الفم لتأخر الطعام. انظر: "اللسان" ٢/ ١٢٤١ (خلف).
(٦) في (ب): (يعود فوك كما كان عليه).
(٧) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩٦ أ، والبغوي ٣/ ٢٧٥.
(٨) الميقات: مصدر الوقت، وهو الوقت المضروب للفعل والموضع. قال السمين في "الدر" ٥/ ٤٤٦ - ٤٤٧: (الفرق بين الميقات والوقت، أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال، والوقت وقت للشيء من غير تقدير عمل أو تقديره) اهـ. وانظر: "العين" ٥/ ١٩٩، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٢٨، و"الصحاح" ١/ ٢٦٩، و"مقاييس اللغة" ٦/ ١٣١، و"المفردات" ص ٨٧٩، و"اللسان" ٨/ ٤٨٨٧ (وقت).
329
ليعمل فيه عمل من الأعمال، ولهذا قيل: مواقيت الحج، وهي المواضع التي (١) قدرت للإحرام به، فمعنى قوله: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾. أي: تم الوقت الذي قدره الله لصوم موسى وعبادته أربعين ليلة (٢).
قال أبو علي الفارسي: (هذا كقولك: تم القوم عشرين (٣) رجلاً، والمعنى: تم القوم معدودين هذا العدد، كذلك تم الميقات معدودًا هذا العدد (٤)، وقد جاء (الميقات) في موضع (الميعاد)، كما جاء (الوقت) في موضع الوعد في قوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [الحجر: ٣٨]، ومما يبين تقاربهما قوله: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ﴾ (٥) [الأعراف: ١٤٢]، وفي الأخرى ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [البقرة: ٥١]، وقال: ﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ [البروج: ٢]، وقال: ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [الحجر: ٣٨]، وقال: ﴿إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ (٦) [الواقعة: ٥٠]، فإن قيل فلم قال: ﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾، وقد دل ما تقدم على هذا؟، قيل: للبيان الذي لا يجوز معه توهم (٧) أتممنا الثلاثين بعشر منها. كأنه كان عشرين ليلة ثم أتم بعشر فصار ثلاثين (٨).
(١) في أصل: (أ): (الذي) ثم صحح إلى (التي).
(٢) لفظ: (ليلة) ساقط من (أ).
(٣) في النسخ: (عشرون)، وهو تحريف.
(٤) وعليه يكون نصب: أربعين على الحال أي: تم ميقات ربه معدودًا أربعين ليلة. انظر: "المشكل" ١/ ٣٠١، و"البيان" ١/ ٣٧٤، و"التبيان" ص ٣٩٠، و"الفريد" ٢/ ٣٥٦، و"الدر المصون" ٥/ ٤٤٧.
(٥) لفظ: (فتم) ساقط من (ب).
(٦) "الحجة" لأبي علي ٢/ ٦٥.
(٧) جاء في هامش (أ) زيادة: (توهم مضاف للجملة..) وزيادة كلام لم أستطع معرفته.
(٨) أكثرهم على أن الجملة تأكيد وإيضاح، وقيل: إنها لإزالة توهم أن تكون عشر =
330
وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾. يقال: (١) خَلَفَ فلان مكان فلان يَخْلُفُ (٢) إذا كان في مكانه. قال المفسرون: (فلما أراد موسى الانطلاق إلى الجبل استخلف أخاه هارون على قومي) (٣). وقال الفراء: (يقال: خلفتك، أي: كنت خليفتك، فأنا أخلفك خلافة) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَأَصْلِحْ﴾. قال ابن عباس: (يريد: الرفق بهم والإحسان إليهم) (٥)، فعلى هذا معناه: وأصلح أمرهم، ﴿وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾، (أي: طريق العاصين). قاله ابن عباس والكلبي (٦)؛ كأنه يقول: لا تطع من عصى الله ولا توافقه على أمره.
١٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا﴾، قال الزجاج: (أي: في الوقت الذي وقتنا له) (٧)، ﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾. قال المفسرون: (خص الله
= ساعات، وقيل: فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٤٤٨: (الجملة الظاهر أنها للتأكيد، وقيل: هي للتأسيس لاحتمال أن يتوهم متوهم بعشر ساعات أو غير ذلك وهو بعيد جدًّا) اهـ. ملخصًا. وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٧٤، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٣٥، و"المشكل" ١/ ٣٠١، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٥٦، وابن عطية ٦/ ٦٦، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٥، الرازي ١٤/ ٢٢٦، و"الفريد" ٢/ ٣٥٥، و"البحر" ٤/ ٣٨١.
(١) في (ب): (فقال)، وهو تحريف.
(٢) الخلافة: النيابة عن الغير، وخلف فلان فلانا قام بالأمر عنه. انظر: "العين" ٤/ ٢٦٥، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٠٨٩، و"الصحاح" ٤/ ١٣٥٤، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢١٠، و"المفردات" ص ٢٩٤، و"اللسان" ٢/ ١٢٣٥ (خلف).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٤٨، والسمرقندي ١/ ٥٦٧، والبغوي ٣/ ٢٧٥.
(٤) لم أقف عليه بعد طول بحث عنه.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٤، والبغوي ٣/ ٢٧٥، والخازن ٢/ ٢٨١.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٥.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٢، ونحوه قال الطبري ٩/ ٤٩، والنحاس في "معانيه" ٣/ ٧٤.
331
تعالى (١) موسى عليه السلام بأن أسمعه كلامه من غير أن يكون بينهما أحد، فلما سمع كلام الله تعالى ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾) (٢).
قال الزجاج: (المعنى: أرني نفسك انظر إليك) (٣)، وهذا يقطع بأن موسى سأل رؤية الباري، ولو كانت الرؤيا لا تصح في وصفه ما سأل موسى ذلك؛ لأنه كان أعلم بالله من أن يسأله ما يستحيل في وصفه، وليس يحتمل قوله: ﴿أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ إلا أنه سأله أن يريه نفسه لينظر إليه، وليس يصح أن يقال: إنه سأل أمرًا عظيما على تقدير: أرني أمرًا، أنظر إلى أمرك، ثم حذف المفعول والمضاف؛ لأن سياق الآية يدل على بطلان هذا، وهو قوله: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ ﴿فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ﴾. ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف، ولأنه لو سأل آية وأمرًا لأعطاه الله تعالى ما سأل كما أعطاه سائر الآيات، وأي معنى لإحالته على استقرار الجبل ووقوعه مغشيًا عليه، وتوبته بعد ذلك، هذا كله لا يكون في سؤاله أمرًا وعلامة (٤).
قال أبو إسحاق: (ليس في الكلام دليل على أن موسى أراد أن يرى أمرًا عظيما من أمر الله عز وجل؛ لأن الله تعالى أراه من الآيات ما لا غاية بعده: العصا، واليد، وفرق البحر، فكان يستغنى بما أراه عن أن يطلب أمرًا من أمر الله عز وجل عظيما، ولكنه لما سمع كلام الله تعالى (٥) {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ
(١) لفظ: (تعالى) ساقط من (ب).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٤٩ - ٥٠، وقد أخرجه من طرف جيدة عن السدي وابن إسحاق والربيع بن أنس وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٣، والسمرقندي ١/ ٥٦٧.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٣.
(٤) انظر: "بدائع التفسير" ٢/ ٢٦٤ - ٢٦٦.
(٥) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ).
332
إِلَيْكَ}، أي: قد سمعت كلامك فأنا أحب أن أراك) (١)
وقوله تعالى: ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي﴾. هذا (٢) أيضًا دليل على جواز الرؤية، لأنه لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أرى، ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر فقال له إنسان: ناولني هذا لآكل، فإنه يقول: (هذا لا يؤكل)، ولا يقول: لا تأكل، ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة لقال: لا تأكل، أي: هذا مما يؤكل ولكنك لا تأكل.
وفي قوله: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ إبطال قول من يقول: إن موسى سأل الرؤية لقومه؛ لأنهم (٣) قالوا ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣]، فسأل موسى الرؤية ليتبين لهم أن ذلك لا يجوز، وذلك أنه لو كان سؤال الرؤية لقومه لقال (٤): لن يروني، ولقال موسى: أرهم (٥)، فلما قال ﴿أَرِنِي﴾ وقيل له: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ بطل أن يكون السؤال لقومه، وقول من قال: إن (لن) (٦) للتأبيد دعوى على أهل اللغة، وليس يشهد لذلك كتاب ولا نقل ولا إسناد ولا أصل (٧)، ولكن معنى قول: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ أي: في الدنيا كما قال عبد العزيز
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٤ وزاد فيه: (وهذا خطأ لا يعرفه أهل اللغة) اهـ.
(٢) في (ب): (في هذا أيضًا دليل).
(٣) انظر: "الكشاف" ٢/ ١١٣.
(٤) في (أ): (قال)، وهو تحريف.
(٥) في (ب): (أراهم)، وهو تحريف.
(٦) لفظ: (لن) ساقط من (ب).
(٧) لن: حرف يدل على النفي في المستقبل، قال ابن هشام في "المغني" ١/ ٢٨٤: (لن حرف نفي واستقبال ولا تفيد توكيد النفي ولا تأبيده خلافا للزمخشري وكلاهما دعوى بلا دليل) اهـ. انظر: "العين" ٨/ ٣٥٠، و"الكتاب" ٤/ ٢٢٠، و"حروف المعاني" ص ٨، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٠٣، و"معاني الحروف" ص ١٠٠، و"رصف المباني" ص ٣٥٥، و"اللسان" ٧/ ٤٠٨٢ (لن).
333
بن يحيى الكناني: قال: (قوله: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ جواب قول موسى ﴿أَرِنِي﴾ فلا يقع على الآخرة؛ لأن موسى لم يقل: أرني في الآخرة، إنما سأل الرؤية في الدنيا فأجيب عما سأل) (١)، والجواب يكون على وفق السؤال؛ كيف وقد نص ابن عباس في رواية عطاء في قوله: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾. قال: (لن تراني في الدنيا) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾. قال مقاتل: (لما قال موسى: ﴿أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ قال له ربه: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾، ولكن اجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك، وهو الجبل ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ﴾ أي: سكن وثبت ﴿فَسَوْفَ تَرَانِي﴾، وإن لم يستقر مكانه فإنك لا تطيق رؤيتي، كما أن الجبل لا يطيق رؤيتي) (٣).
قال الكلبي (٤) وغيره (٥): (والجبل في قوله: ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾
(١) (ولا أصل) ساقط من (ب)، ونقل قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢٣٣.
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩٦ أ.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٥. وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٦، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٦، وهذا هو الحق ومذهب أهل السنة والجماعة.
قال ابن كثير ٢/ ٢٧٢: (استدل المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة بهذه الآية وهذا أضعف الأقوال؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله - ﷺ - بأن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة) اهـ.
وانظر: "الإبانة" للأشعري ص ١٣ - ٢١، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٥٧، وابن عطية ٦/ ٦٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٦، والقرطبي ٧/ ٢٧٨.
(٤) "تفسير مقاتل" ٢/ ٦١.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٥، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٧.
334
أعظم جبل بمدين (١) يقال (٢) له: زبير (٣)) (٤).
قال أصحابنا: (علَّقَ الله تعالى جواز الرؤية على استقرار الجبل، واستقراره كان جائزًا، ولكن لم يفعل الله، كذلك الرؤية كانت جائزة، ولكن الله لم يخلقها لموسى، وضدّ هذه الآية قوله: ﴿وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ [الأعراف: ٤٠]. علق دخولهم الجنة بما يستحيل وجوده فلا يدخلونها قط).
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾. قال الزجاج (٥) وجميع أهل اللغة (٦): (أي: ظهر وبان، ومنه يقال: جلوت العروس إذا أبرزتها، وجلوت المرآة والسيف إذا أخرجته من الصدى) (٧).
(١) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٥٧، عن ابن عباس، ذكره الثعلبي في "عرائس المجالس" ص ٢٠١، عن السدي، وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٧، والماوردي ٢/ ٢٥٨.
(٢) مدين: مدينة على بحر القلزم محاذية لتبوك. انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٧٧.
(٣) في (ب): (فقال زبير)، وهو تحريف.
(٤) الزبير، بفتح الزاء وكسر الباء: اسم للجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام. انظر: "معجم البلدان" ٣/ ١٣٢، و"اللسان" ٣/ ١٨٠٦ (زبر).
وقد أجمع أهل التفسير على أن جبل المناجاة هو الطور، فكأن الزبير اسم آخر له أو لموضع معين من الطور والله أعلم. انظر: "تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي ٢/ ٧٢٧ - ٧٢٨.
(٥) ذكره الثعلبي في "الكشف" ص ١٩٦ عن المتكلمين من أهل السنة، وانظر: "زاد المسير" ٣/ ٢٥٦.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٣، وفي "تهذيب اللغة" ١/ ٦٢٤، قال الزجاج: (أي: ظهر وبان وهو قول أهل السنة والجماعة) اهـ.
(٧) انظر: "العين" ٦/ ١٨٠، و"الجمهرة" ١/ ٤٩٢، و"الصحاح" ٦/ ٢٣٠٣، و"المجمل" ١/ ١٩٣، و"مقاييس اللغة" ١/ ٤٦٨، و"المفردات" ص ٢٠٠، و"اللسان" ٢/ ٦٧٠ (جلا).
335
وقوله تعالى: ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾. قال أبو إسحاق: (يجوز ﴿دَكًّا﴾ بالتنوين و ﴿دَكًّاءَ﴾ بغير تنوين، أي: جعله مدقوقًا مع الأرض، يقال: دككت الشيء إذا دققته، أدكه دكا، والدكاء والدكاوات الروابي التي مع الأرض ناشزة عنها لا تبلغ أن تكون جبلًا) (١)، فعلى هذا الدك مصدر والدكاء (٢) اسم.
أخبرني العروض رحمه الله عن الأزهري قال: أخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: (قال الأخفش في قوله: ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ (٣) بالتنوين، كأنه قال: دكه دكًا مصدر مؤكد (٤)، قال: ويجوز جعله ذا (٥) دك كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢].
قال: ومن قرأ (٦) ﴿دَكًّاءَ﴾ ممدودة أراد جعله مثل دكاء فحذف (مثل)، قال: والدكاء الناقة التي لاسنام لها) (٧)، فمعنى (٨) قوله: ﴿جَعَلَهُ دَكًّاءَ﴾ أي: مثل دكاء في أنه بقي أكثره.
(١) هذا قول ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص١٨٠، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٥٢، و"نزهة القلوب" ص ١٥٨، و"تفسير المشكل" ص ٨٧.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٣.
(٣) الدّك - الدق وكسر الشيء وتفتيته، ومنه الناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها. انظر: "العين" ٥/ ٢٧٤، و"الجمهرة" ١/ ١١٤، و"الصحاح" ٤/ ١٥٨٣، و"المجمل" ٢/ ٣١٨، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٥٨، و"المفردات" ص ٣١٦، و"اللسان" ٣/ ١٤٠٤ (دك).
(٤) في (ب): (مؤكدة).
(٥) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢١٢: (ويجوز جعله أرضًا ذات دك) اهـ.
(٦) قرأ حمزة والكسائي ﴿دَكًّاءَ﴾ بالمد والهمز من غير تنوين، وقرأ الباقون: ﴿دَكًّا﴾ بالقصر والتنوين من غير مد ولا همز. انظرة "السبعة" ص ٢٩٣، و"المبسوط" ص ١٨٥، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٥، و"التيسير" ص ١١٣، و"النشر" ٢/ ٢٧١ - ٢٧٢.
(٧) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣٠٩.
(٨) في (ب): (ومعنى).
336
قال أبو العباس: (ولا حاجة به إلى إضمار (مثل)، والمعنى: جعل الجبل أرضًا دكاء) (١).
فحصل من هذه الأقوال أن من قرأ ﴿دَكًّا﴾ بالتنوين كان الدك مصدرًا بمعنى المفعول على قول (٢) أبي إسحاق، وعلى قول الأخفش ويكون مصدرًا مؤكدًا؛ لأنه يقول معنى قوله: ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾. أي: دكه دكًا، ويجوز على قوله أيضًا أن يكون بمعنى: ذا دكٍ، أي: ذا كسر فحذف المضاف، ومن قرأ بالمدّ فعلى قول الأخفش (الدكاء) الناقة الذاهبة السنام، والمضاف محذوف، وعلى قول أبي العباس (الدكاء) الأرض غير الغليظة المرتفعة، ولا حاجة إلى تقدير المضاف (٣).
فأما التفسير فقال المفسرون (٤): (ساح في الأرض فهو يذهب حتى الآن). وهو قول الحسن (٥) وسفيان (٦)، وأبي بكر (٧) الهذلي (٨)، وهذا
(١) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢١٢ (دك).
(٢) لفظ: (قول) ساقط من (ب).
(٣) أكثرهم على أن من قرأ بالمد جعله صفة أي: جعل الجبل أرضًا ملساء دكاء ومن قرأ بالقصر والتنوين جعله مصدرًا.
انظر: "الحجة" لأبي علي ٤/ ٧٥، و"معاني القراءات" ١/ ٤٢٢، و"إعراب القراءات" ١/ ٢٠٥، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٣، و"الكشف" ١/ ٤٧٥.
(٤) أكثرهم على أن معنى جعله: ﴿دَكًّا﴾ أي: مستويًا ألصقه بالأرض. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٨، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٠، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٠، و"نزهة القلوب" ص ٢٢٧، و"تفسير المشكل" ص ٨٧
(٥) ذكره الماوردي ٢/ ٢٥٨، عن الحسن وسفيان الثوري.
(٦) "تفسير سفيان الثوري" ص ١١٣، وأخرجه الطبري ٩/ ٥٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦١ من طرق جيدة عن سفيان الثوري.
(٧) أبو بكر الهذلي البصري مشهور بكنيته وهو سلمى بن عبد الله بن سلمى، وقيل اسمه: روح، روى عن الحسن البصري والشعبي وعكرمة وغيرهم، وهو علامة إخباري متروك الحديث، توفي سنة ١٦٧ هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" ٤/ ٤٩٧، و"المغني" في الضعفاء ٢/ ٧٧٣، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٤٩٨.
(٨) أخرجه الطبري ٩/ ٥٣ بسند جيد.
337
على قراءة من قرأ بالمد، وقال الكلبي (١): ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ أي: كسرا جبالا صغارًا) (٢).
وروي هذا المعنى مرفوعًا عن أنس بن مالك أن النبي - ﷺ - قال في قوله ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾: (صار لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة، أحد وورقان، ورضوى (٣)، ووقع ثلاثة بمكة ثور (٤) وثبير وحراء) (٥).
وهذا التفسير يقوي قراءة من قرأ بالتنوين، والتفسير الموافق للقراءتين مما روي عن (٦) ابن عباس أنه قال: (جعله ترابًا) (٧). ونحو ذلك قول
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٢٥، وذكره الثعلبي ١٩٦ ب، والبغوي ٣/ ٢٧٨.
(٢) في (ب): أي: (كسرا جبالا لا صغار)، وهو تحريف.
(٣) أحد، بالضم: جبل أحمر بالمدينة المنورة في شمالها بينه وبينها قرابة ميل، انظر: "معجم البلدان" ١/ ١٠٩، وورقان بالفتح ثم الكسر جبل عظيم أسود على يمين المصعد من المدينة إلى مكة، انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٣٧٢، ورضوى -بالفتح ثم السكون- جبل بالمدينة قرب ينبع، انظر: "معجم البلدان" ٣/ ٥١.
(٤) ثور، بالفتح ثم السكون: جبل مشهور بمكة خلفها على طريق اليمن، انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٨٦، وثبير، بالفتح ثم الكسر وسكون الياء: جبل بمكة. انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٧٢، وحراء، بالكسر والتخفيف والمد: جبل مشهور على ثلاثة أميال من مكة انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٢٣٣.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٠، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٧ - ٢٣٨ بسند ضعيف جدًّا، فيه، الجلد بن أيوب البصري متروك الحديث، انظر: "ميزان الاعتدال" ١/ ٤٢٠، و"المغني" في الضعفاء ١/ ١٣٥ "لسان الميزان" ٢/ ١٣٣، وذكر الحديث ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٧٢، وقال: (هذا حديث غريب بل منكر) وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٤، نحوه عن ابن عباس عن النبي - ﷺ - وقال: (وراه الطبراني في "الأوسط" وفيه طلحة بن عمرو المكي وهو متروك) اهـ. وذكره الشوكاني في "فتح القدير" ٢/ ٣٥٨، وزاد نسبته إلى (أبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية والديلمي) وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٢١ - ٢٢٢.
(٦) في (ب): (ما روي عن أنس عن ابن عباس)، وهو تحريف.
(٧) أخرجه الطبري ٩/ ٥٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٠ بسند جيد.
338
مسروق: (صار صحراء (١) ترابًا) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾. قال الليث: (الصعق مثل الغشي يأخذ الإنسان) (٣).
والصعقة الغشية، يقال: صعِق الرجل وصعَق، فمن قال: صعِق، قال: فهو صعِق، ومن قال: صعَق قال: فهو مصعوق، ويقال أيضا: صعق إذا مات، ومنه قال: ﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الزمر: ٦٨] فسروه الموت، ومنه قوله: ﴿يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾ [الطور: ٤٥] أي: يموتون، ويقال: أصعقته الصيحة أي: قتلته.
وأنشد الفراء:
أُحَادَ وَمَثْنَى أَصْعَقتها صوَاهِلُهْ (٤)
أي: قتلها صوته (٥).
(١) في: (ب): (صر صخرا ترابا) وهو تحريف.
(٢) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩٦ ب.
(٣) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠١٨، وانظر: "العين" ١/ ١٢٨، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٥٠١.
(٤) الشاهد لابن مقبل في "ديوانه" ص ٢٥٢ وصدره:
ترى النُّعَرات الزرق تحت لَبَانه
وهو في: "إصلاح المنطق" ص ٢٠٥، و"المعاني الكبير" ص/ ٦٠٦، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٣٠٢، و"الصحاح" ٤/ ١٥٠٧ (صعق)، و"المخصص" ٨/ ١٨٤، و"اللسان" ٤/ ٢٤٥٠ (صعق)، وبلا نسبة في "معاني الفراء" ١/ ٢٥٥، ٣٤٥، و"مجالس ثعلب" ص ١٢٨، و"التكملة" لأبي علي ص ٤٢٥، والنُّعَرَات جمع نُعَرَة؛ ذباب يسقط على الدواب، واللبان الصدر، وصواهلة جمع صاهلة، وهو الصهيل والشاعر يصف فرسا بشدة صهيله وأنه يقتل الذباب.
(٥) النص كله من "تهذيب اللغة" ٨/ ٢٠١٢ - ٢٠١٩، وانظر: "الجمهرة" ٢/ ٨٨٥، و"المجمل" ٢/ ٥٣٣؛ و"مقاييس اللغة" ٣/ ٢٨٥، و"المفردات" ص ٤٨٤ (صعق).
339
فأما التفسير: فقال ابن عباس (١)، والحسن (٢)، وابن زيد (٣): (مغشيًّا عليه). وقال قتادة: (ميتًا) (٤).
والذي يدل على صحة قول ابن عباس قوله: ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ﴾.
قال الزجاج: (ولا يكاد يقال للميت: قد أفاق من موته، ولكن يقال للذي يغشى عليه والذي قد ذهب عقله: قد أفاق من علته؛ لأن الله عز وجل قال في الذين ماتوا: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ (٥) [البقرة: ٥٦].
وقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَكَ﴾. أي: تنزيهًا لك (٦) من السوء. ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾. أي: من مسألتي الرؤية. قاله (٧) الكلبي (٨) ومجاهد (٩)، والمعنى: من مسألتي الرؤية في الدنيا؛ لأن هذه القصة وقعت من مسألته الرؤية في
(١) أخرجه الطبري ٩/ ٥٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦١ من طرق جيدة.
(٢) ذكره الماوردي ٢/ ٢٥٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٧ عن ابن عباس والحسن وابن زيد، وذكره البغوي ٣/ ٢٧٨ عن ابن عباس والحسن.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ٥٣ بسند جيد.
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ٥٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦١ بسند جيد، وذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٧٥ عن قتادة أنه قال: (أي: مغشيًا عليه) اهـ.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٣ ومثله ذكر الأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠١٨ (صعق)، وهذا القول أظهر وهو اختيار الجمهور، قال ابن الأنباري في "الزاهر" ٢/ ١٢١: (فيه قولان: أحدهما: قد غُشي عليه، والقول الآخر قد مات. والأول هو الكثير المشهور) اهـ. وانظر: "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٠، والطبري ٩/ ٥٣، وابن عطية ٦/ ٧١، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٧، والرازي ١٤/ ٢٣٥.
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٤.
(٧) في (ب): (قال)، وهو تحريف.
(٨) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٥.
(٩) أخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" ص ١١٣، عبد الرزاق ١/ ٢/٢٣٨، والطبري ٩/ ٥٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٢ من طرق جيدة.
340
الدنيا.
وقال أهل العلم: (إن الرؤية وإن كانت جائزة فإن موسى سألها من غير استئذان من الله تعالى، فلذلك (١) تاب لأنه كان بغير إذن، وهذا إجماع من الأمة أن توبته لم تكن عن معصية؛ لأن عندنا سأل الرؤية لنفسه، ولا يكون هذا (٢) السؤال عندنا معصية (٣)، وعند من خالفنا (٤): سأل الرؤية لقومه مع علمه أن ذلك لا يكون، أو سأل أمرًا عظيمًا، وكل واحد من هذين لا يكون معصية) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾. قال مجاهد: (وأنا أول قومي إيماناً) (٦)، وقاله السدي أيضًا (٧).
(١) في (ب): (فكذلك)، وهو تحريف.
(٢) في (ب): (لهذا)، وهو تحريف.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٥٥، وابن عطية ٦/ ٧١.
(٤) انظر: "الكشاف" ٢/ ١١٢ - ١١٦.
(٥) انظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٢٥٩، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٧، وقال القرطبي ٧/ ٢٧٩: (أجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية، فإن الأنبياء معصومون، وأيضًا عند أهل السنة والجماعة الرؤية جائزة، وعند المبتدعة سأل لأجل القوم ليبين لهم أنها غير جائزة وهذا لا يقتضى التوبة، فقيل: أي تبت إليك من قتل القبطي، وقيل: قالها على جهة الإنابة إلى الله والخشوع له عند ظهور الآيات) اهـ.
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ٥٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٢، من طرق جيدة.
(٧) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٧ أ، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٨، والبغوي ٣/ ٢٧٩، عن مجاهد والسدي، وأخرجه الطبري ٩/ ٥٦، من طرق جيدة عن السدي عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج الطبري ٩/ ٥٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٢، من طرق جيدة عن ابن عباس قال: (أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد من خلقك في الدنيا) اهـ.
341
وقال أبو العالية: (وأنا أول من آمن أنه لا يراك أحد قبل يوم القيامة) (١). واختاره الزجاج فقال: (أي: أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا) (٢).
١٤٤ - قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ﴾. الاصطفاء (٣): استخلاص الصفوة لما لها من الفضيلة.
ومعنى ﴿اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ﴾. قال ابن عباس: (يريد: فضلتك على الناس) (٤).
وقال الزجاج: (أي: اتخذتك صفوة على الناس) (٥).
﴿بِرِسَالَاتِي﴾، وقرئ (٦) ﴿برسالتي﴾، والرسالة تجري مجرى
(١) أخرجه الطبري ٩/ ٥٥، بسند لا بأس به، وذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٦٨.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٤، وهذا هو الظاهر وهو اختيار الطبري ٩/ ٥٦، وقول الإِمام أحمد رحمه الله تعالى قال في الرد على الجهمية ص ٩٦: (يعني: أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات)، وانظر: "مرويات الإِمام أحمد في التفسير" ٢/ ١٩٧، وقال ابن كثير ٢/ ٢٧٣: (وهذا قول حسن له تجاه) اهـ. وانظر: "تأويل مشكل القرآن" ص ٢٨١.
(٣) الصَّفْو والصفاء: ممدود خلوص الشيء من الشوب نقيض الكدر وصفوة كل شيء خالصه وخيره، والاصطفاء الاختيار وتناول صفوة الشيء، افتعال من الصفوة: واستصفيت الشيء إذا استخلصته. انظر: "العين" ٧/ ١٦٢، و"الجمهرة" ٢/ ٨٩٣، و"تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٢٢، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٠١، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٢٩٢، و"المجمل" ٢/ ٥٣٥، و"المفردات" ص ٤٨٧، و"اللسان" ١٤/ ٢٤٦٨ (صفو).
(٤) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٤/ ٢٣٦.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٤.
(٦) قرأ نافع وابن كثير (برسالتي) بغير ألف بعد اللام على التوحيد، وقرأ الباقون ﴿بِرِسَالَاتِي﴾ بألف بعد اللام على الجمع. انظر: "السبعة" ص ٢٩٣، و"المبسوط" ص ١٦٣، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٥، و"التيسير" ص ١١٣، و"النشر" ٢/ ٢٧٢.
المصدر، فيجوز إفرادها في موضع الجمع وإن لم يكن المصدر من (أرسل) (١)، وقد تقدم الكلام في هذا (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَبِكَلَامِي﴾. هذا يدل على أنه سمع كلام الله عز وجل من غير واسطة؛ لأن ما يكون بواسطة يدخل في حد الرسالة، وأشار أبو إسحاق إلى أن معنى اصطفائه: هو تخصيصه بكلامه من غير واسطة؛ لأنه قال: (لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام الله عز وجل) (٣) أي: تفضيله موسى (٤) أنه سمع كلام الله من غير ملك، وإنما كان كلام الله تعالى لموسى من غير واسطة بينه وبينه فضيلة وشرفًا؛ لأن من أخذ العلم عن العالم المعظم كان أجلّ رتبة ممن أخذه عن واحد عنه، كما نقول في الأسانيد إلى النبي - ﷺ -؛ فإن أقربها إليه أعزها وأجلها (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: ما فضلتك وكرمتك). وقوله ﴿وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾. (يعني: لأنعمي والطائعين لي) (٦).
١٤٥ - قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ﴾. قال ابن عباس:
(١) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ٧٧، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٣٦، و"إعراب القراءات" ١/ ٢٠٧، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٣، ولابن زنجلة ص ٢٩٥، و"الكشف" ١/ ٤٦٧.
(٢) انظر: "البسيط" نسخة جامعة الإمام ٣/ ٥٨ ب.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٥.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢٧٩، والرازي ١٤/ ١٩٢.
(٥) انظر: "معرفة علوم الحديث" للحاكم ص ١١٢ - ١١٣، وقال ابن الصلاح في "علوم الحديث" ص ٢٥٦: (طلب العلو سنة وتستحب الرحلة فيه، وهو يبعد من الخلل وأجل أنواع العلو القرب من رسول الله - ﷺ - بإسناد نظيف غير ضعيف) اهـ.
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٩.
343
(يريد: ألواح التوراة) (١).
واختلفوا في الألواح (٢) من أي شيء كانت، وكيف كانت الكتابة. فقال الربيع (٣): (كانت الألواح من بُرْد) (٤).
وقال الحسن: (كانت من خشب نزلت من السماء) (٥).
وقال وهب: (كانت من صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها منها بيده) (٦).
وقال ابن جريج: (كانت من زمرد (٧) أمر الله جبريل حتى جاء بها من
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٣ بسند جيد، وذكره السمرقندي ١/ ٥٦٩، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٩ والبغوي ٣/ ٢٨٠ - ٢٨١، والخازن ٢/ ٢٨٧.
(٢) قال محمد أبو شهبة في كتاب "الإسرائيليات والموضوعات" في كتب التفسير ص ٢٠١ - ٢٠٣: (ذكر في الألواح مم هي وما عددها، أقوالًا كثيرة، وفيها ما يخالف المعقول والمنقول وهي متضاربة يرد بعضها بعضًا مما نحيل أن يكون مرجعها المعصوم - ﷺ - وإنما هي من الإسرائيليات حملها عنهم بعضهم بحسن نية وليس تفسير الآية متوقفا على كل هذا الذي رووه والذي يجب أن نؤمن به أن الله أنزل الألواح على موسى وفيها التوراة وما ذكروه لا يجب علينا الإيمان به والأولى عدم البحث فيه؛ لأنه لا يؤدي إلى فائدة ولا يوصل إلى غاية) اهـ. ملخصًا.
(٣) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٧ ب، والبغوي ٣/ ٢٨١، وأخرجه الطبري ٩/ ٦٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٣ بسند جيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية.
(٤) البُرْد، بالضم: ثَوْب مخطط وأكسية يتلحف بها. انظر: "القاموس" ص ٣٤١ (برد).
(٥) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٦٠، والبغوي ٣/ ٢٨١، وابن عطية ٦/ ٧٤، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٨، والرازي ١٤/ ٢٣٦، والخازن ٢/ ٢٨٧.
(٦) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٧ ب، والبغوي ٣/ ٢٨١، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٨، والرازي ١٤/ ٢٣٦، والخازن ٢/ ٢٨٧.
(٧) انظر: "القاموس" ص ٢٨٥ (زمرد)، وص ٣٢٥ (ورد).
344
عدن) (١). ونحو ذلك قال مجاهد (٢) ومقاتل (٣).
وقال الكلبي (٤): (كانت من زبرجدة (٥) خضراء).
وأما الكتابة، فقال: ابن جريج: (كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور فكتب به الألواح) (٦).
وقال مقاتل: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ﴾ كنقش الخاتم) (٧).
قال عطاء عن ابن عباس: (وكانت الألواح يومئذ ستة، ثم صارت أربعة وعشرين مِمّ ضُمَّ إليها من الوصايا والمواعظ) (٨).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾، قيل: من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام، والمحاسن والقبائح (٩). وهذا معنى قول ابن عباس: (يريد: مما افترض وأحلّ وحرّم ونهى وأمر) (١٠).
(١) أخرجه الطبري ٩/ ٦٦، بسند جيد، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ص ١٩٧/ ب، والبغوي ٣/ ٢٨١، والخازن ٢/ ٢٨٧، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٢٢٤.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ٦٦، من طرق جيدة بلفظ: من زمرد وفي رواية (من زمرد أخضر).
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٦٣، وفيه: (كانت من زمرد وياقوت).
(٤) ذكره الثعلبي ١٩٧ ب، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٩، والبغوي ٣/ ٢٨١، والخازن ٢/ ٢٨٧.
(٥) الزَّبَرْجَد، بالفتح جَوْهر. انظر: "القاموس" ص ٣٦٤ (زبرجد).
(٦) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ص ١٩٧/ ب، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٩، والبغوي ٣/ ٢٨١، والرازي ١٤/ ٢٣٦، والخازن ٢/ ٢٨٧.
(٧) "تفسير مقاتل" ٢/ ٦٢، وفيه: (نقرا كنقش الخاتم) اهـ.
(٨) لم أقف عليه.
(٩) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٥٧، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٥، والنحاس ٣/ ٧٦.
(١٠) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٣٩، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٣ بسند جيد عن ابن عباس قال: (كان الله عز وجل كتب في الألواح ذكر محمد - ﷺ - وذكر أمته وما ادخر لهم عنده ولا يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما أحل لهم) اهـ.
345
وقوله تعالى: ﴿مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، قال ابن عباس: (يريد: هداية إلى كل أمر هو لله رضي) (١).
وقال الكلبي: ﴿مَوْعِظَةً﴾ نهي عن الجهل ﴿وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [من الحلال والحرام (٢).
وقال مجاهد:] (٣) ﴿وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ مما أمروا به ونهوا عنه (٤) والتفصيل معناه: التبيين (٥)، ذكرنا ذلك في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ (٦) [الأنعام: ٥٥].
وقوله تعالى: ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ﴾. قال ابن عباس (٧) ومقاتل (٨) والكلبي (٩): (بجد)، وقال الزجاج: ﴿بِقُوَّةٍ﴾ في دينك وحجتك) (١٠).
(١) في "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٦، نحوه، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٠ دون نسبة، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٥ بسند جيد عن ابن عباس في قوله: ﴿وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (قال: تبيانًا لكل شيء) اهـ.
(٢) قال الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٦٠: (قيل الموعظة: النواهي، والتفصيل: الأوامر وهو معنى قول الكلبي) اهـ.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٦، وأخرجه الطبري ٩/ ٥٧ من طرق جيدة.
(٥) قال محمد أبو شهبة في كتاب "الإسرائيليات والموضوعات" في كتب التفسير ص ٢٠٣: (المحققون من المفسرين سلفًا وخلفًا على أن المراد: أن فيها تفصيلًا لكل شيء مما يحتاجون إليه في الحلال والحرام والمحاسن والقبائح مما يلائم شريعة موسى وعصره وإلا فقد جاء القرآن الكريم بأحكام وآداب وأخلاق لا توجد في التوراة قط) اهـ.
(٦) لفظ: ﴿سَبِيلُ المُجْرِمِينَ﴾ ساقط من (ب).
(٧) أخرجه الطبري ٩/ ٥٨ بسند ضعيف، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٥ بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (بجد وحزم).
(٨) "تفسير مقاتل" ٢/ ٦٣، وفيه: (يعني: التوراة بالجد والمواظبة عليه) اهـ.
(٩) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٦.
(١٠) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٥، ومثله قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٧٧.
346
وقال أهل المعاني: (بصحة عزيمة؛ لأنه لو أخذه بضعف نية لأداه إلى فتور العمل به) (١).
وقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾. قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: يحلّوا حلالها ويحرموا حرامها ويتدبروا أمثالها ويعملوا بمحكمها، ويقفوا عند متشابهها) (٢).
وذكر أبو إسحاق في هذا وجهين: (أحدهما: أنهم أُمروا بالخير ونهوا عن الشرّ، وعرّفوا ما لهم في ذلك، فقيل: ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾.
قال: ويجوز أن يكون ما أمرنا به؛ من الانتصار بعد الظلم، ونحو القصاص في الجروح؛ فهذا كله حسن، والعفو أحسن من القصاص، والصبر أحسن من الانتصار، ونظير هذه الآية قوله: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: ٥٥]، وقوله: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ (٣) [الزمر: ١٨].
وقال قُطرب (٤): ﴿يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾، أي: بحسنها وكلها حسن؛ كقوله: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: ٤٥]).
وقول الفرزدق:
(١) ذكره البغوي ٣/ ٢٨١، والخازن ٢/ ٢٨٨.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٠، والبغوي ٣/ ٢٨١، والخازن ٢/ ٢٨٨، وأخرج الطبري ٩/ ٥٨ بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (أمر موسى أن يأخذها بأشد مما أمر به قومه) اهـ.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٥، ونحوه الأزهري في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٢٣ (حسن).
(٤) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٧ ب، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٠، والبغوي ٣/ ٢٨١، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٩، والرازي ١٤/ ٢٣٧.
347
بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ (١)
وقال أهل المعاني: (أحسنها الفرائض والنوافل وهي ما يستحق عليها الثواب، وأدونها في الحسن المباح؛ لأنه لا يستحق عليه حمد ولا ثواب) (٢).
وقوله تعالى: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾. قال ابن عباس (٣) في رواية عطاء والحسن (٤) ومجاهد (٥): (هي جهنم). أي: فلتكن منكم على ذُكْر
(١) "ديوانه" ٢/ ١٥٥، و"الكامل" ٢/ ٣٠٨، والصاحبي ص ٤٣٤، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٩، والرازي ١٤/ ٢٣٧، و"اللسان" ٦/ ٣٨٠٨ كبر، و"الدر المصون" ٥/ ٤٥٤، و"الخزانة" ٨/ ٢٤٢، وأوله: (إن الذي سمك السماء بني لنا) والشاهد فيه (أعز وأطول) حيث استعمل صيغتي التفضيل في غير التفضيل إذ لو كانتا للتفضيل لكان الفرزدق يعترف بأن لمهجوه وهو جرير بيتا دعائمه عزيزة طويلة وهذا لا يقصده الشاعر.
(٢) انظر: "معاني النحاس" ٣/ ٧٧، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٩، والماوردي ٢/ ٢٦٠ - ٢٦١، والبغوي ٣/ ٢٨١، وابن عطية ٦/ ٧٥، وابن الجوزي ٣/ ٢٥٩، وقال الطبري في معنى الآية ٩/ ٥٨: (يقول: يعملوا بأحسن ما يجدون فيها والعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمنهي عنه) اهـ. وانظر: "الفتاوى" لشيخ الإسلام ٦/ ١٦، و١٢/ ١٧.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٦، وذكره الرازي ١٤/ ٢٣٨، عن ابن عباس ومجاهد والحسن، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٠ عن عطاء والحسن ومجاهد، وذكره البغوي ٣/ ٢٨١ - ٢٨٢، والخازن ٢/ ٢٨٩، عن عطاء والحسن، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٦ بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (دار الكفار) اهـ.
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٦ من طرق جيدة، وذكره النحاس في "معانيه" ٣/ ٧٧، والثعلبي ١٩٧ ب.
(٥) ذكره الماوردي ٢/ ٢٦١، وابن عطية ٦/ ٧٧، وابن الجوزي ٣/ ٢٦٠، والقرطبي ٧/ ٢٨٢ عن مجاهد والحسن، وفي "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٦ قال: (مصيرهم في الآخرة) اهـ، وأخرجه الطبري ٩/ ٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٦ من طرق جيدة، وهذا القول ظاهر وهو اختيار الطبري ٩/ ٥٩، وابن كثير ٢/ ٢٧٥؛ لأن الجملة =
348
لتحذروا أن تكونوا منهم، وهي (١) تتضمن وعيدًا وتهديدًا لمن خالف أمر الله، كما تقول لمن تخاطبه: سأريك غدًا إلى ما يصير حال من خالف أمري (٢).
وقال قتادة: (سأدخلكم الشام فأريكم (٣) منازل الكافرين الذين كانوا سكانها من الجبابرة والعمالقة، أي: لتعتبروا بها، وما صاروا إليه من النكال فيها) (٤). وهذا معنى قول الكلبي: ﴿دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا) (٥).
= متصلة بما قبلها، فهي من تمامها، وأولى الأمور أن يختم الأمر بالعمل بالوعيد على من ضيعه.
وقال ابن كثير: (هذا أولى والله أعلم لأن هذا كان بعد إنفصال موسى وقومه عن مصر وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم) اهـ.
(١) في (ب): (وهو).
(٢) هذا قول الطبري ٩/ ٥٩.
(٣) في (ب): (وأيكم).
(٤) ذكره الثعلبي ١٩٧ ب، والماوردي ٢/ ٢٦١، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤١، والبغوي ٣/ ٢٨٢، وابن عطية ٦/ ٧٧، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٦، والطبري ٩/ ٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٦ من طرق جيدة عن قتادة قال: (منازلهم) اهـ. وقال ابن الصلاح في "علوم الحديث" ص ٢٨١: (بلغنا عن أبي زرعة الرازي أن يحيى بن سلام المفسر حدث عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: ﴿دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ قال: مصر، واستعظم أبو زرعة هذا واستقبحه وذكر أنه في تفسير سعيد عن قتادة: مصيرهم) اهـ.
(٥) ذكره الثعلبي ١٩٧ ب، والبغوي ٣/ ٢٨٢، وابن عطية ٦/ ٧٧، والرازي ١٤/ ٢٣٨، والخازن ٢/ ٢٨٩، وذهب الزمخشري في "تفسيره" ٢/ ١١٧، وابن عطية ٦/ ٧٧، والقرطبي ٧/ ٢٨٢ إلى أن المراد: منازل القرون الذين أهلكوا ومنها مصر دار فرعون وقومه، ويمكن الجمع بين القولين بأن الآية تضمنت الوعد للمؤمنين بدخول الأرض الموعودة ومنازل القرون الماضية والوعيد للفاسقين بهلاكهم ودخولهم جهنم. والله أعلم.
349
١٤٦ - قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾. قال ابن عباس: (يريد: الذين يتجبرون على عبادي، ويحاربون أوليائي. ويستحلون محارمي حتى لا يؤمنوا بما جئت به) (١)، فالآيات على قول ابن عباس: هي القرآن، و ﴿الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ﴾ هم: المشركون.
قال (٢) ابن الأنباري: (والمعنى على هذا ﴿سَأَصْرِفُ﴾ ﴿الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ﴾ عن قبول آياتي والتصديق بها لعنادهم الحق؛ عوقبوا بأن حرموا الهداية وسُتِرَ عنهم الحق. وهذا كقوله: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥]، وقوله: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢٧]). وذكر قولًا آخر، قال: (المعنى: ﴿سَأَصْرِفُ﴾ عن إبطال ﴿آيَاتِيَ﴾ وعن الاعتراض عليها هؤلاء الكفرة، كما تقول: وهو يمنعنى من زيد، أي: من ضربه، وأذاه، وكما قال عبد المطلب لما قصدت الحبشة البيت: (إن لهذا البيت (٣) ربا سيمنع منه) (٤). أي: سيمنع من تخريبه وقتل أهله) (٥).
وقال ابن جريج: (الآيات خلق السموات والأرض، يعني: أصرفهم
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤١، والبغوي ٣/ ٢٨٢، والخازن ٢/ ٢٨٩.
(٢) في: (ب): (كما قال).
(٣) هذه كلمة سارت مسير الأمثال، وذلك أن أبرهة الحبشي لما سار لهدم الكعبة وأشرف على مكة وجد إبلا لعبد المطلب وأخذها فذهب عبد المطلب إليه وكلمه في الإبل فعجب أبرهة منه وقال: (أتكلمني في الإبل ولا تكلمني في بيت فيه عزك وشرفك؟ فقال عبد المطلب: (أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه) وفي رواية (يحميه). انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام ١/ ٥١، و"الروض الأنف" ١/ ٦٩، و"السيرة النبوية" لأبي شهبة ص ١٦٧ - ١٦٩.
(٤) في: (ب): (عنه).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤١.
350
عن الاعتبار بما فيها) (١). وهو قول ابن زيد (٢) ومقاتل (٣).
قال أبو إسحاق: (أي: أجعل جزاءهم الإضلال عن هداية ﴿آيَاتِيَ﴾).
قال: ومعنى: ﴿يَتَكَبَّرُونَ﴾ أنهم يرون أنهم أفضل الخلق، وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم، وهذه الصفة -أعنى: المتكبر- لا تكون إلا لله عز وجل (٤) خاصة؛ لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد مثله، فبذلك يستحق أن يقال له: المتكبر، وليس لأحد أن يتكبر لأن الناس في الحقوق سواء وليس لأحد ما ليس لغيره، وهو المكبر جل وعز، فأعلم أن هؤلاء ﴿يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ (٥).
وقال غيره من أهل المعاني (٦): (التكبر: إظهار كبر النفس على غيرها)، وصفة متكبر صفة ذم في جميع العباد، وصفة مدح (٧) في القديم جل وعز؛ لأنه يستحق إظهار الكبر على من سواه لأن ذلك حق، وهذا المعنى في صفة غيره باطل.
(١) أخرجه الطبري ٩/ ٦٠ بسند جيد.
(٢) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ص ١٩٧/ ب، عن ابن زيد وابن جريج.
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٦٣، والأكثر على أن الآية عامة أي: سأمنع وأصد عن النظر في الآيات الكونية والشرعية والتفكر والاستدلال بها، انظر: الطبري ٩/ ٦٠، و"معاني النحاس" ٣/ ٧٨، والسمرقندي ١/ ٥٦٩، والبغوي ٣/ ٢٨٢، وابن عطية ٦/ ٧٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٦٠.
(٤) في (أ): (جل وعز).
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٦.
(٦) انظر: "معاني النحاس" ٣/ ٧٩، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٦٩، والماوردي ٢/ ٢٦٢.
(٧) انظر: "تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص ٣٥، و"اشقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١٥٥، ٢٤١، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ص ٩٣.
351
وقال أحمد بن يحيى: ﴿يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ من الكِبَر لا من الكِبْر (١)، أي: يتفضلون ويرون أنهم أفضل من غيرهم) (٢)، وهذا الذي قاله أحمد قريبٌ من الأول بل هو بعينه معنى.
وقوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ﴾ حجة على القدرية (٣)، و (٤) دليل ذلك أن له أن يصرف عن الإيمان من شاء.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ﴾ قال ابن عباس: (يريد سبيل الهدى والبيان الذي جاء من الله، ﴿لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ قال: يريد: لا يتخذوه دينا، ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ﴾ يريد: طاعة الشيطان وضلالته، ﴿يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ يريد: دينا) (٥).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ قال الزجاج: ﴿ذَلِكَ﴾ يصلح أن يكون نصبا على معنى: فعل الله بهم ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ (٦).
(١) قوله: (من الكِبَر، هو: بكسر الكاف وفتح الباء لا من الكِبْر هو بفتح الكاف وسكون الباء والتكبر التعظم، وكبَر، بكسر الكاف وفتح الباء الهرم ضد الصغر، وكِبْر، بسكون الباء: العظمة، وكبُر، بفتح الكاف وضم الباء: عظم.
انظر: "العين" ٥/ ٣٦١، و"الجمهرة" ١/ ٣٢٧، و"الصحاح" ٢/ ٨٠١، و"المجمل" ٣/ ٧٧٦، و"مقاييس اللغة" ٥/ ١٥٣، و"المفردات" ص ٦٩٦، و"اللسان" ٥/ ١٢٥ (كبير).
(٢) "تهذيب اللغة" ١٠/ ٢١٠ - ٢١١ (كبر).
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ٣ - ٤.
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤١ - ٢٤٢ بدون نسبة، وانظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ١١٤ - ١١٥، و"معاني الزجاج" ٣/ ٣٧٦، والنحاس ٣/ ٧٩، والسمرقندي ١/ ٥٧٠، والماوردي ٢/ ٥٧.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٦، وفيه: (ذلك يصلح أن يكون رفعا أي أمرهم ذلك، ويجوز أن يكون نصبا..) اهـ. وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٣٩٠، والسمين في =
352
وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ أي: جحدوا الإيمان بها والنظر فيها والتدبر لها (١).
١٤٧ - وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ﴾، قال ابن عباس: (يريد: الثواب والعقاب) (٢). وهذا معنى وليس بتفسير، وذلك أن تفسيره: ولقاء (٣) الدار الآخرة، وهي موعد الثواب والعقاب، ومن أنكرها فقد أنكر الثواب والعقاب (٤).
قوله تعالى: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، أي: صارت كأنها لم تكن. قال ابن عباس: (يريد: ضل سعيهم) (٥) وقوله: ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. لا بد فيه من تقدير محذوف، أي: إلا بما [كَانُواْ] (٦)، أو على ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أو جزاء ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
= "الدر" ٥/ ٤٥٧ - ٤٥٨: (الأظهر أنه مبتدأ خبره الجار بعده، أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم، وجوز فيه النصب فقدره ابن عطية ٧/ ١٦٢، فعلنا ذلك، فجعله مفعولا به، وقدره الزمخشري ٢/ ١١٧، صرفهم الله ذلك الصرف بعينه، فجعله مصدراً) اهـ، وانظر: "الفريد" ٢/ ٣٦٠.
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٦١، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٦، النحاس ٣/ ٨٠
(٢) لم أقف عليه.
(٣) قال الطبري ٩/ ٦١ في معنى الآية: (يقول: وهؤلاء المستكبرون في الأرض بغير الحق وكل مكذب حجج الله ورسله وآياته وجاحد أنه يوم القيامة مبعوث بعد مماته ومنكر لقاء الله في آخرته ذهبت أعمالهم فبطلت..) اهـ.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢٨٣.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) لفظ: (كانوا) ساقط من النسخ، وقال الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٢ في تفسير الآية: (أي بما كان أو على ما كانوا يعملون) اهـ.
وقال السمين في "الدار" ٥/ ٤٥٨ - ٤٥٩: (قال الواحدي: هنا لا بد من تقدير محذوف أي: إلا بما كانوا أو على ما كانوا أو جزاء ما كانوا، قال السمين: لأن نفس ما كانوا يعملونه لا يجزونه إنما يجزون بمقابله، وهو واضح). اهـ.
١٤٨ - قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ﴾، قال المفسرون (١): (أي: من بعد إنطلاقه ومجيئه إلى الجبل (٢) للميقات).
﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾، قال الليث: (الحَلْي كل حلية حليت بها امرأة، والجمع حُلِي، وتحلت المرأة اتخذت حُليًا ولبسته، وحَلَّيتها أنا أي: ألبستها (٣) واتخذته لها مخال (٤) قال (٥): ولغة حَلِيت المرأة أي: لَبِسَتْه) (٦)
وأنشد:
وحَلْي الشَّوَى منها إذا حَلِيَتْ به على قَصَباتٍ لا شِخاتٍ ولا عُصْلِ (٧)
وقال ابن السكيت: (حَلَيْت المرأة وأنا أحليها إذا جعلت لها حليًا. وبعضهم يقول: حلوتها، بهذا المعنى) (٨).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٦٢، و"معاني النحاس" ٣/ ٥٠، والسمرقندي ١/ ٥٧٠.
(٢) في (ب): (إلى الجبل والميقات).
(٣) في النسخ: (أي لبسته) وهو تحريف.
(٤) لفظ (لها مخال) ساقط من (ب)، ولم ترد في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٩، ولعلها مَحال بالحاء المهملة، وهو ضرب من الحُلي، انظر: "القاموس" ص ١٣٦٥ (محل).
(٥) لفظ: (قال) ساقط من (أ).
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٩، وانظر: "العين" ٣/ ٢٩٦.
(٧) الشاهد لذي الرمة في "ديوانه" ص ٥٧، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٩، "اللسان" ٢/ ٩٨٥ (حلى)، قال الخطيب التبريزي في "شرحه": (يريد بالشوى: يديها ورجليها، والقصبات: العظام التي فيها المخ، ولا شخات أي: لا دقاق، ولا عصل، معوجة) اهـ.
(٨) "إصلاح المنطق" ص ١٣٩، و"تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٩٠ والحلى بفتح الحاء وسكون اللام جمع (حُلِي) بضم الحاء وكسر اللام: وهو ما تزين به من مصوغ المعادن أو الحجارة.
انظر: "الصحاح" ٦/ ٢٣١٨، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٩٤، و"المجمل" ١/ ٢٤٧، و"المفردات" ص ٢٥٤ (حلى).
354
قال الزجاج: (ويقرأ (١) ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾، فمن قرأ من ﴿حُلِيِّهِمْ﴾ فهو جمع حَلي مثل حقوٍ (٢) وحُقيّ، ومن كسر الحاء أتبع الحاء كسرة اللام) (٣).
قال أبو علي الفارسي: (يقال: حَلْي وحُلي مثل ثَدْي وثُدِي، ومن الواو حَقْو وحُقِي، وحِلي على وزن (فعول) قلبت واو فعول ياء لوقوعها قبل الياء التي هي لام، كما أبدلت واو مفعول في (مَرْمِي)، وأبدلت من ضمة عين (فُعُول) كسرة، كما أبدلت ضمة عين مفعول في (مَرْمى) وإن كانت اللام واوًا أبدلت منها الياء، وذلك نحو حَقْوٍ وحقي، وإنما أبدلت الواو ياء لإدغامها في الياء، فأما الحاء التي هي فاء في الحُلي، فإنها بقيت مضمومة كما كانت مضمومة في كُعُوب وفُلُوس، ومثال هذا مما أبدلت الواو منها ياء، وأبدلت في ضمتها الكسرة قولهم: أدحي النعام (٤) وآري الدابة (٥)، هما (فاعول) إلا أن اللام من أدحي واو قلبت ياء، ومن آري
(١) قرأ حمزة والكسائي: ﴿حِلِيِّهِمْ﴾ -بكسر الحاء واللام والياء مع تشديد الياء- وقرأ الباقون مثلها إلا أنهم ضموا الحاء ﴿حُلِيِّهِمْ﴾، وقرأ يعقوب: ﴿حَلْيِهم﴾ -بفتح الحاء وسكون اللام وكسر الياء مع تخفيفها-، انظر: "السبعة" ص ٢٩٤ "المبسوط" ص ١٨٥، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٥، و"التيسير" ص ١١٣، و"النشر" ٢/ ٢٧٢.
(٢) الحَقْو: الكَشْح، والإزار أو مقعده، والحقو: الخاصرة وجانب الشيء، والحَقْو: الموضع المرتفع عن السيل وموضع الريش من السهم. انظر: "اللسان" ٢/ ٩٤٨ (حقو).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٨٦ وفيه: (فمن قرأ ﴿حَلْيِهِمْ﴾ بالفتح فالحَلْي: اسم لما يحسن به من الذهب والفضة، ومن قرأ ﴿حُلِيِّهِمْ﴾ بضم الحاء فهو: جمع حَلْى مثل حَقْو وحُقَيِّ، ومن كسر الحاء أتبع الحاء كسر اللام) اهـ. وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٠.
(٤) أدحي النعام: مبيضها في الرمل. انظر: "اللسان" ٣/ ١٣٣٨ (دحى).
(٥) آري الدابة: محبس الدابة. انظر: "اللسان" ١/ ٦٨ (أرى).
355
ياء، والكسرة في البناءين مبدلة (١) من ضمةٍ.
فأما قراءة من كسر الحاء من (٢) ﴿حُلِيِّهِمْ﴾ فوجه ذلك أن الكسر من الجموع قد غير عما كان الواحد عليه في اللفظ والمعنى، ألا ترى أن الاسم المكسر في الجمع يدل بالتكسير على الكثرة، فغير الفاء أيضًا في التكسير، وذلك أنه لما غير الاسم تغييرين وهو إبدالك الواو ياء، وابدال الضمة كسرة، قوي هذا التغيير على تغيير الفاء، ومثال هذا: الاسم المنسوب إليه، فإنه تغير عما (٣) كان عليه لفظًا ومعنى، فتغير اللفظ ما لحقه من الزيادات، وتغير المعنى هو أنه صار صفة، وكان قبلُ اسمًا فقوي التغيير للنسب على تغيير الفاء حتى قالوا: بِصْري بكسر الباء، ودُهري بضم الدال في النسبة إلى البصرة وإلى الدهر، فهذا وجه كسر الحاء، وقد جاء حرفان نادران من هذا القبيل ولم تقلب الواو ياء في الجمع، وذلك ما حُكي من قولهم: إنكم لتنظرون في نُحُوٍّ كثيرة، وما أنشده أحمد بن يحيى:
وأصبحتَ من أدنى حُمُوَّتِها حمًا (٤)
(١) في (ب): (مبدوله).
(٢) لفظ: (من) مكرر في (ب).
(٣) في (ب): (كما كان)، وهو تحريف.
(٤) الشاهد لعبد الله بن عجلان، شاعر جاهلي، كما في "الشعر والشعراء" ص ٤٧٩، وصدره:
ألا إن هندًا أصبحت منك محرمًا
وهو بلا نسبة في "العين" ٣/ ٣١٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٠٩، و"اللسان" ٢/ ١٠١٣ (حمى)، وأوله عندهم:
لقد أصبحت أسماء حجراً محرمًا
والشاعر كانت له زوجة فطلقها وتزوجها أخوه يقول: أصبحت أخًا زوجها بعد ما كنت زوجها.
356
فجاءت الواو في الحُمُوَّة مصححةً وكان القياس أن ينقلب ياء من حيث كان جمعًا، ولحاق تاء التأنيث في الحموة على حد عمومة وخيوطة، ومما يؤكد كسر الفاء في ﴿حُلِيِّهِمْ﴾ قولهم: قِسيٌّ من جمع (قوس)، ألا ترى أنا لا نعلم أحدًا يسكن إلى روايته حكى فيه غير الكسر في الفاء، فهذا مما يدل على تمكن الكسرة في هذا الباب الذي هو الجمع، وأما ما كان من هذا النحو واحداً كالمُضي والصُلي مصدر صَلِيَ، فإن الفاء منه لا يكسر كما كُسِر في المجموع؛ لأن الواحد لم يتغير فيه المعنى كما تغير في الجمع، على أن أبا عمر (١) حكى عن أبي زيد (أوَى إليه إويًا بالكسر) (٢)، فأما قوله: ﴿وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٢١]، وقال في أخرى (٣): ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ [مريم: ٦٩] فإن الواو في (العتو) لما كان طرفًا أبدل في الجمع، ولا يلزم فيه البدل كما يلزم في الجمع) (٤).
(١) في النسخ: "عمرو" والتصحيح من "الحجة" لأبي علي ٤/ ٨٦ وهو: صالح بن إسحاق الجرمي مولاهم أبو عمر البصري، إمام نحوي، لغوي، صدوق، ورع، فقيه، أخذ عن أبي زيد وأبي الحسن الأخفش وأبي عبيدة والأصمعي وغيرهم وله مصنفات مفيدة منها "الفرخ" في النحو، والأبنية، والعروض، توفي سنة ٢٢٥ هـ. انظر: "طبقات النحويين" للزبيدي ص ٨٤، و"تاريخ بغداد" ٩/ ٣١٣، و"أنباه الرواة" ٢/ ٨٠، و"معجم الأدباء" ١٢/ ٥، و"وفيات الأعيان" ٢/ ٤٨٥، و"البلغة" ص ١١٣.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٢٣٦ (أوى).
(٣) في (أ): (أخريهم)، وهو تحريف.
(٤) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٨٠ - ٨٨ مع بعض الاختصار، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٢٣، و"إعراب القراءات" ١/ ٢٠٧، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٤، ولابن زنجله ص ٢٩٦، و"الكشف" ١/ ٤٧٧.
357
وكانت قصة الحلي والعجل على ما ذكره المفسرون (١): (إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي، فاستعاروا حلي القبط لذلك اليوم، فلما أخرجهم الله من مصر وغرقهم بقيت تلك الحلي في أيديهم، فجمع السامري ذلك الحلي، وكان رجلاً مطاعًا فيهم ذا قدر، وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلهًا يعبدونه كما رأوا قوم فرعون يعبدون أصنامًا، فصاغ السامري عجلاً، وجعله في بيت، وأعلمهم أن إلههم وإله موسى عنده، فذلك قوله: ﴿عِجْلًا جَسَدًا﴾.
قال الزجاج: (والجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز، إنما معنى الجسد معنى الجثة فقط) (٢).
وقال الفراء: (كان جسدًا مجوفًا) (٣).
وأكثر أهل التفسير (٤) على: أنه صار جسدًا ذا لحم ودم، قال وهب: (جسدًا لحمًا ودمًا) (٥).
[و] (٦) قال قتادة: (جعله الله جسدًا لحمًا ودمًا له خوار) (٧).
(١) أخرج الطبري في "تفسيره" ٩/ ٦٢ قصة الحلي والعجل بسند ضعيف عن ابن عباس وسعيد بن جبير، ومن طرق جيدة عن مجاهد والسدي وابن زيد وابن إسحاق. وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٧، و"إعراب القراءات" لابن خالويه ١/ ٢٠٨، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٠.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٧ ومثله قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٨٠ - ٨١.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٣.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢٨٣، وذكر هذا القول ابن عطية ٦/ ٨٢، وقال: (وهذا ضعيف لأن الآثار في أن موسى برده بالمبارد تكذب ذلك) اهـ.
(٥) ذكره الثعلبي في "الكشف" ١٩٧ ب، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٣.
(٦) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٧) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٨ بسند جيد.
358
وقال عطاء: (قال الله تعالى لموسى: ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ﴾ [طه: ٨٥]، قال موسى: يارب هذا السامري أخرج لهم عجلًا من حليهم، فمن (١) جعل له جسدًا؟ يريد الجسم (٢) واللحم والدم، ومن جعل له خوارًا؟ قال الله [تعالى] (٣): أنا، قال موسى: وعزتك وجلالك ما أضلهم غيرك، قال: صدقت يا حكيم الحكماء) (٤).
وقال الحسن: (قبض السامري قبضة [تراب] (٥) من أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذف ذلك التراب في (٦) العجل، فتحول لحمًا ودمًا) (٧).
قال أبو إسحاق: (ويقال في التفسير: إنه سمع صوته مرة واحدة فقط) (٨). وهذا يروى عن ابن عباس (٩) كما قاله الحسن وأبو إسحاق (١٠): (إن السامري كان قد أخذ قبضة من تراب أثر فرس جبريل، ثم ألقاها في العجل وأنه خار خورة واحدة ولم يثن).
وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا﴾. قال ابن
(١) في (ب): (من جعل).
(٢) في (ب): (يريد بالجسم اللحم والدم).
(٣) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ).
(٤) لم أقف عليه، وهو أثر غريب منكر.
(٥) لفظ: (تراب) ساقط من (أ)، وملحق أعلى السطر في (ب).
(٦) في (أ): (ذلك التراب في فيِ العجل).
(٧) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٤٦، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٣.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٧، ومثله قال الفراء في "معانيه" ١/ ٣٩٣.
(٩) أخرجه الطبري ٩/ ٦٢ من طرق ضعيفة، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٨ من طرق جيدة.
(١٠) ليس في "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٧ أنه أخذ من أثر الفرس، ولعل الواحدي يقصد أنه خار مرة واحدة فقط.
359
عباس: (يريد: لا يرشدهم إلى دين) (١)، يريد: العجل.
قال أصحابنا: (هذا يدل على أن من لا يكون متكلمًا لا يجوز أن يكون إلهًا، وأن الإله هو الذي يتكلم ويهدي السبيل) (٢). وقول: ﴿اتَّخَذُوهُ﴾ أي: إلهًا ومعبودًا، كقوله: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [البقرة: ٥١]. أي: إلهًا. وقد مر.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا ظَالِمِينَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: مشركين) (٣). قال أهل المعاني: (وهذه الآية إخبار عن جهل بني إسرائيل في اتخاذهم العجل إلهًا وهو لا يهديهم سبيلاً، ولا يستطيع كلامًا فيدعو إلى رشدٍ أو يصرف عن غيّ) (٤).
١٤٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾، قال ابن عباس (٥) والمفسرون (٦): (أي: ندموا على عبادتهم العجل).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٣ بلا نسبة. وقال الزجاج ٢/ ٣٧٨ في معنى الآية: (أي: لا يبين لهم طريقًا إلى حجة) اهـ.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٦٢.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٦٢.
(٤) قال الطبري ٣/ ١١٧ في معنى الآية: (يخبر جل ذكره عنهم أنهم ضلوا بما لا يضل بمثله أهل العقل، وذلك أن الرب جل جلاله الذي له ملك السموات والأرض ومدبر ذلك لا يجوز أن يكون جسدًا له خوار لا يكلم أحدًا ولا يرشد إلى خير...) اهـ.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٨، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٤.
(٦) انظر "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٨، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٠، و"تفسير غريب القرآن" ١٨٠ - ١٨١، و"تفسير الطبري" ٩/ ٦٢، والسمرقندي ١/ ٥٧١، والبغوي ٣/ ٢٨٣، وقال الرازي ٧/ ١٥: (اتفقوا على أن المراد اشتد ندمهم على عبادة العجل) اهـ.
360
قال الفراء: (يقال: سُقِط في يده وأُسْقِط من الندامة، وسُقط أكثر وأجود) (١).
وقال الزجاج: (يقال للرجل النادمِ على ما فعل الخَسِرِ على ما فرط منه: قد سُقِط في يده وأُسْقِط) (٢). قال الأزهري: (وإنما حَسَّنَ قولَهم: سقط في يده، بضم السين غير مسمًّى فاعله الصفةُ وهي قولهم: (في يده)، ومثله قول امرؤ القيس:
فدع عنك نهبًا صيح في حَجَراته ولكن حديثًا ما حديث الرواحل (٣)
أي: صاح المنتهب في حجراته، وكذلك (٤) المراد: سقط الندم في يده) (٥) انتهى كلامه.
فقد بان بقول المفسرين وأهل اللغة أن قولهم: (سُقط في يده) معناه: نَدِم، وأن هذا اللفظ يستعمل في صفة النادم، فأما القول في أصله ومأخذه فلم أر لأحد من الأئمة فيه شيئًا أرتضيه إلا ما ذكره أبو القاسم الزجاجي، وهو أنه قال: (قوله: ﴿سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾ بمعنى (٦) ندموا، نظمٌ لم يُسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب، ولم يوجد ذلك في أشعارهم، والذي يدل على صحة ذلك أن شعراء الإسلام لما سمعوا هذا النظم واستعملوه في
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٣ وفيه زاد (وأسقط لغة). وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٠.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٨، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٨١.
(٣) "ديوانه" ص ١٣٥، و"اللسان" ٤/ ٢٠٣٩ (سقط)، و"الدر المصون" ٥/ ٤٦١، وفي "الديوان" (دع) بدل فدع، والنهب: الغارة والسلب، وحجراته: نواحيه، والرواحل: النوق.
(٤) في (ب): (ولذلك)، وهو تحريف.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧١٣ (سقط).
(٦) في (ب): (معناه).
361
كلامهم خفي عليهم وجه الاستعمال؛ لأن عادتهم لم تَجْرِ بِهِ، فقال أبو نواس (١):
ونشوة سقطت منها في يدي (٢)
وأبو نواس هو العالم النّحْرِير (٣) فأخطأ في استعمال هذا اللفظ؛ لأن فُعِلتْ لا يبنى إلا من فعل (٤) متعدٍّ وسُقط لازم لا يُعدى إلا بحرف الصفة. لا يُقال: سُقِطت كما لا يقال: رُغِبتُ، وغُضبتُ، إنما يقال: رُغِب فيّ، وغضْبَ عليّ، وذكر أبو حاتم (٥): (سُقط فلان في يده، بمعنى: ندم)، وهذا خطأ مثل قول أبي نواس؛ لأنه لو جاز: سُقط فلان في يده، لجاز: سقطت في يدي، ولو كان الأمر على ما ذكره لكان النظم: ولمّا سُقطوا في أيديهم، أو سقط القوم في أيديهم.
(١) أبو نُواس: هو الحسن بن هانئ الحكمي مولاهم أبو علي البصري، شاعر مشهور، عالم باللغة، فصيح، أخذ عن أبي زيد وأبي عبيدة وغيرهما، وهو شاعر مجيد، لكن فسقه ظاهر، أكثر من النظم في المجنون والخمر والغلمان، وغلب عليه اللهو، وذكر عنه التوبة في آخر عمره. توفي سنة ١٩٥ هـ أو بعدها وقد قارب الستين سنة.
انظر: "الشعر والشعراء" ص ٥٣٨، و"تاريخ بغداد" ٧/ ٤٣٦، و"وفيات الأعيان" ٢/ ٩٥، "لسان الميزان" ٧/ ١١٥، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٤/ ٢٥٧، و"الإعلام" ٢/ ٢٢٥.
(٢) ليس في "ديوانه"، ولم أقف على تكملته. ونقله السمين في "الدر" ٥/ ٤٦٢ عن الواحدي، وذكره الميداني عن الزجاجي في "مجمع الأمثال" ٢/ ٣٣١.
(٣) النّحْرِير: الحاذق الماهر العاقل المجرب وقيل: الرجل الفطن المُتْقِن البصير في كل شيء، انظر: "اللسان" ٧/ ٤٣٦٥ (نحو).
(٤) انظر: "تصحيح التصحيف وتحرير التحريف" للصفدي ص ٣١٤.
(٥) أبو حاتم: هو سهل بن محمد بن عثمان السجستاني. تقدمت ترجمته؛ والنص عنه في "مجمع الأمثال" ٢/ ٣٣١، وانظر "اللسان" ٤/ ٢٠٣٨، و"التاج" ١٠/ ٢٨٣ (سقط).
362
وحقيقة معنى السقوط (١): نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ولهذا قالوا: سقط المطر، وسممى الجليد سَقِيطًا، ويقال: سقط من يدي شيء، وأسْقَطت المرأة ولدها، ومنه سَقْط النار والولد، وسِقْطا الخِبَاء: جانباه اللذان يسقطان على الأرض، هذا أصل، ثم توسعوا واستعاروا هذه اللفظة حيث لا يكون هناك نزول من أعلي إلى أسفل تشبيهًا، فقالوا للخطأ من الكلام: سَقَط؛ لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه فيسقط، ويقال للرجل إذا أخطأ: كان ذلك منه سَقطة (٢)، شبهوا ذلك [بـ] السقطة (٣) على الأرض، ومعنى ﴿سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾ أي: سقط الندم في أيديهم، ولم يذكر الندم، وقيل: سُقط، على ما لم يُسم فاعله، كما يقال: رُغب في فلان، على ما بيَّنا، وذكر اليد هاهنا لوجهين:
أحدهما: أنه يقال للذي يحصل على شيء، وإن كان ذلك مما لا يكون في اليد: قد (٤) حصل في يده مكروه، يُشَبَّه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين، وخصت اليد بالذكر لأن مباشرة الذنوب بها، فاللائمة ترجع عليها لأنها هي الجارحة العظمى فيسند إليها ما لم تباشره كقوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ١٠]، وكثير من الذنوب لم تقدمه اليد (٥).
(١) انظر: (سقط) في "العين" ٥/ ٧١، و"الجمهرة" ٢/ ٨٣٥، و"الصحاح" ٣/ ١١٣٢، و"المجمل" ٢/ ٤٦٦، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٨٦، و"المفردات" ص ٤١٤.
(٢) في (ب): (سقطًا).
(٣) لفظ: (الباء) ساقط من (ب).
(٤) في (ب): (فقد)، وهو تحريف.
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ٧/ ٢٨٦.
363
الوجه الثاني: أن الندم حدث يحصل في القلب (١)، وأثره يظهر في اليد؛ لأن النادم (٢) يعض يده ويضرب إحدى يديه على الأخرى، كقوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا﴾ [الكهف: ٤٢]. فتقليب الكف عبارة عن الندم؛ لأن من ندم على شيء قلب كفيه وصفق اليمنى على اليسرى تحسرًا على ما فعل.
ومن هذا أيضاً قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ [الفرقان: ٢٧]، أي: ندمًا وتحسرًا على كفره بالله، فلما كان أثر الندم يحصل في اليد من الوجه الذي ذكرنا أضيف سقوط الندم إلى اليد؛ لأن الذي يظهر للعيون من فعل النادم هو تقليب الكف وعض الأنامل واليد، كما أن السرور معنى في القلب يستشعره الإنسان، والذي يظهر من حاله الاهتزاز والحركة والضحك وما يجري مجراه، والقراءة المشهورة ﴿سُقِطَ﴾ على ما لم يسم فاعله، وهذا الفاعل إذا ظهر لا بد من أن يكون الندم على ما ذكره الزجاج وغيره) (٣)، هذا الذي ذكرناه معنى كلامه، وبعض لفظه، وهو صحيح واضح لا غبار عليه.
(١) في (ب): (يحصل بالقلب).
(٢) انظر: "مجمع الأمثال" ٢/ ٣٣١.
(٣) لم أقف عليه عن الزجاجي في كتبه بعد طول بحث عنه وذكره الميداني في "مجمع الأمثال" ٢/ ٣٣١، عن الزجاجي مختصرًا، ونقله السمين في "الدر" ٥/ ٤٦٢ - ٤٦٣، وجعل الكلام في ذكر اليد من قول الواحدي، وقال الرازي في "تفسيره" ١٥/ ٨: (حكى الواحدي عن بعضهم أن هذا مأخوذ من السقيط، وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج، ومعنى سقط في يده أي: وقع في يده السقيط والسقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى، فصار مثلًا لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من سعيه على طائل وكانت الندامة آخر أمره) اهـ. ملخصًا. وانظر: "جمهرة الأمثال" ٢/ ٢١٦، و"المستقصى" ٢/ ١١٩.
364
[و] (١) قوله تعالى: ﴿وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا﴾ أي: وعلموا أنهم قد ابتلوا بمعصية الله، ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا﴾ الآية. وهذا الندم والاستغفار إن كان بعد رجوع موسى إليهم.
١٥٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾، اختلفوا في معنى: الأسف؛ فقيل الأسف: الشديد الغضب، وهو قول أبي الدرداء (٢)، وعطاء عن ابن عباس (٣) واختيار الزجاج (٤)، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف: ٥٥]. أي: أغضبونا، واختاره ابن قتيبة أيضاً فقال: (يقال: آسفني فأسفت أي: أغضبني فغضبت، ومنه قوله: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ (٥).
و (٦) قال ابن عباس (٧) والسدي (٨) والحسن (٩): (الآسف الحزين)،
(١) لفظ: (الواد) ساقط من (ب).
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ٦٤ بسند ضعيف، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٧ ب، والبغوي ٣/ ٢٨٤ وابن الجوزي ٣/ ٢٦٣، والرازي ١٥/ ١٠، والقرطبي ٧/ ٢٨٦، ابن كثير ٢/ ٢٧٦، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٢٣٥.
(٣) ذكره الرازي ١٥/ ١٠.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٨ واختاره أكثرهم. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٨، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٠، "تفسير الطبري" ٩/ ٦٤، و"معاني النحاس" ٣/ ٨٢، و"نزهة القلوب" ص ٧٤.
(٥) "تفسير غريب القرآن" ص ١٧٣.
(٦) (الواو): ساقطة من (ب).
(٧) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٦٩ من طرق جيدة، وذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٦٢، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٢٣٥.
(٨) أخرجه الطبري ٩/ ٦٣ بسند جيد، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٧ ب، والبغوي في "معالم التنزيل" ٣/ ٢٨٤، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ٧/ ٢٨٦ - ٢٨٧ عن ابن عباس والسدي.
(٩) أخرجه الطبري ٩/ ٦٤ بسند جيد، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٢٦٣ =
365
ونحو ذلك قال الكلبي (١)، والقولان متقاربان (٢)؛ لأن الغضب من الحزن؛ والحزن من الغضب، فإذا (٣) جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت، وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت، يسمى أحدهما: حزنًا، والآخر: غضبًا، وأصلهما أن يصيبك ما تكره.
يدل على هذا ما قاله الليث: (الأسَفُ في حال الحُزن، وفي حال الغَضَب إذا جاءك أمر ممن هو دونك فأنت أسف [أي: غضبان، وقد آسَفَك، وإذا جاءك أمر ممن هو فوقك (٤) فحزنت له ولم تطقه فأنت أسف] (٥) أي: حزين) (٦). ومن هذا قال القائل (٧):
فحُزْنُ كل أخي حزنٍ أخو الغضب
فبين مقاربة ما بينهما، وعلى هذين المعنيين استعملت العرب الأسف. قال الأعشى:
= والرازي ١٤/ ١٠ عن ابن عباس والحسن والسدي.
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٨، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٤ عن الكلبي والسدي.
(٢) انظر: "تفسير ابن عطية" ٦/ ٨٦، ونقل قول الواحدي، الرازي ١٥/ ١٠.
(٣) في (ب): (وإذا).
(٤) في "العين" ٧/ ٣١١: (ممن هو فوقك أو من مثلك فأنت أَسِف)، وفي "تهذيب اللغة" ١/ ١٦١، عن الليث: (وإذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه..).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ١٦١.
(٧) "الشاهد" لأبي الطيب المتنبي في "ديوانه" ص ٤٣٦ وبلا نسبة في "المفردات" ص ٧٥ (أسف)، و"الدر المصون" ٥/ ٤٦٦، و"عمدة الحفاظ" ص ١٦، و"بصائر ذوي التمييز" للفيروزأبادي ٢/ ١٨٥ وأوله: (جزاك ربك بالأحزان مغفرة). وانظر شرح البيت في "شرح ديوان" المتنبي للواحدي ص ٦١١.
366
أرى رجلاً منهم أسيفًا كأنما يضم إلى كشحيه كفًّا مخضبا (١)
يقول: كأن يده قطعت واختضبت بدمه فغضب لذلك، فهذا في الغضب، وأما في الحزن فما روى في حديث عائشة -رضي الله عنها (٢) - أنها قالت: إن أبا بكر رجل أسيف (٣).
قال أبو عبيد: (الأسيف: السريع الحزن والكآبة (٤)، قال: ويقال من هذا كله: أسفت آسف أسفا) (٥)، فعلى هذا كان موسى غضبان على قومه لأجل عبادتهم العجل ﴿أَسِفًا﴾ حزينًا لأن الله فتنهم، وقد كان قال له: ﴿فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ﴾ [طه: ٨٥].
(١) "ديوانه" ص ٨٠، و"مجالس ثعلب" ص ٣٨، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٦١، و"مقاييس اللغة" ١/ ١٠٣، و"اللسان" ١/ ٧٩، و"الدر المصون" ٥/ ٤٦٦، وفي "الديوان" (رجلاً منكم) بدل (منهم).
(٢) في: (أ): (عنهما).
(٣) أخرجه البخاري (٦٦٤) في الأذان باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، وفي باب: من أسمع الناس تكبير الإمام، رقم (٧١٢) وفي باب الرجل يأتم بالإمام وبأتم الناس بالمأموم رقم (٧١٣)، وفي كتاب: الأنبياء، باب: قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: ٧]، وأخرجه مسلم رقم (٤١٨) كتاب الصلاة، باب: استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرها رقم (٣٣٨٤)، عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: قال النبي - ﷺ - في مرضه: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقلت: (إنه رجل أَسيف..) الحديث.
(٤) "تهذيب اللغة" ١/ ١٦١، و"غريب الحديث" لأبي عبيد ١/ ١٠٠ قال: (سريع الحزن والبكاء) اهـ.
(٥) "غريب الحديث" ١/ ١٠٠، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٦١، وزاد: (والأسف: الغضبان المتلهف على الشيء ومنه قوله تعالى: ﴿غَضْبَانَ أَسِفًا﴾ اهـ. وانظر: "المنجد" ص ١٠٨، و"الصحاح" ٤/ ١٣٣٠، و"المجمل" ١/ ٩٥، و"مقاييس اللغة" ١/ ١٠٣، و"المفردات" ص ٧٥ (أسف).
367
وقال الكلبي: ﴿أَسِفًا﴾ حزينًا لعبادة العجل (١).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي﴾ (٢) (٣). أي: بئسما عملتم بعدي، يقال: خلّفه بما يكره، وخَلَفه بما يحب إذا عمل خلفه ذلك العمل. قال ابن عباس: (يريد: اتخاذهم العجل وكفرهم بالله) (٤).
وقوله تعالى: ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾. معنى العَجَلة (٥): المتقدم بالشيء قبل وقته، ولذلك صارت مذمومة، والسرعة غير مذمومة؛ لأن معناها: عمل الشيء في أقل أوقاته.
قال الفراء (٦) والزجاج (٧): (يقال: عجلت الشيء إذا سبقته، وأعجلته أي: استحثثته).
ومعنى ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ (٨). قال ابن عباس: (يعني: ميعاد ربكم فلم تصبروا له) (٩).
(١) في النسخ: (إنا قد فتنا)، وهو تحريف.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٨، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٤.
(٣) في (ب) تكرار: (من بعدي).
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٤.
(٥) انظر: "العين" ١/ ٢٢٧، و"الجمهرة" ١/ ٤٨٢، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٤١، و"الصحاح" ٥/ ١٧٥٩، و"المجمل" ٣/ ٦٤٩، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٣٧، و"المفردات" ص ٥٤٨، و"اللسان" ٥/ ٢٨٢١ (عجل).
(٦) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٣، ومثله قال الطبري ٩/ ٦٤.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٨.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٩) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٢٦٤، والرازي ١٥/ ١١.
368
وقال الحسن (١): (وعد ربكم الذي وعدتم من الأربعين ليلة، وذلك أنهم قدروا أنه مات لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة).
وقال عطاء (٢): (يريد: تعجلتم سخط ربكم). وقال الكلبي: (أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: التي فيها التوراة) (٤).
وروي أن النبي - ﷺ - قال: "يرحم الله أخي موسى ما المُخبَر كالمعاين، لقد أخبره الله بفتنة قومه، فعرف أن ما أخبره ربه حق، وإنه على ذلك لمتمسك بما في يديه، فرجع إلى قومه ورآهم (٥) فألقى الألواح" (٦).
(١) ذكره الماوردي ٢/ ٢٦٣، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٥، والبغوي ٣/ ٢٨٤، وابن الجوزي ٣/ ٢٦٤، والرازي ١٥/ ١١.
(٢) ذكره الرازي ١٥/ ١١.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٢٨، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٥، والبغوي ٣/ ٢٨٤، والرازي ١٥/ ١١.
(٤) ذكره أكثرهم بلا نسبة. انظر: "الوسيط" ١/ ٢٤٥، والبغوي ٣/ ٢٨٤، وابن الجوزي ٣/ ٢٦٤، والرازي ١٥/ ١١.
(٥) في (ب): (ورآلهم) وهو تحريف.
(٦) أخرج أحمد في "المسند" ٤/ ١٤٧ رقم ٢٤٤٦ - تحقيق أحمد شاكر، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٧٠، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٢١ من طرق جيدة عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - قال: "ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت" اهـ. واللفظ لأحمد. وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي في "التلخيص".
وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٣٥، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد والبزار وابن حبان والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه). =
369
وقوله تعالى: ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾. قال الكلبي: (بذؤابة أخيه، وشعره بيده اليمنى، ولحيته باليسرى) (١).
وقال ابن الأنباري: (٨) رجع موسى فوجدهم مقيمين على المعصية أكبر ذلك واستعظمه، وأقبل على أخيه هارون بالملامة، ومد يده إلى رأسه لشدةٍ موجدته عليه، إذ لم يلحق به فيعرفه ما جرى بنو إسرائيل إليه من الأمر العظيم ليرجع فيتلافاهم، وهذا بيِّن في قوله: ﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا﴾ [طه: ٩٢]، فأعلمه هارون أنه إنما أقام بين أظهرهم خوفًا على نفسه من القتل، وهذا بيّن في قوله: ﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾، فكان مد موسى يده إلى رأس أخيه عند توهمه أنه قد عصى الله بمقامه وتركه اللحوق به، وتعريفه ما أحدث قومه بعده، فلما سمع [موسى] (٢) اعتذار هارون، زال عنه ما كان لحقه مما توهمه على أخيه، و ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي﴾ (٣) الآية) (٤).
= وأخرج أحمد ٣/ ٢٥٤ رقم ١٨٤٢، والقضاعي في "مسند الشهاب" ٢/ ٢٠١ - ٢٠٢ رقم ١١٨٢ - ١١٨٤، والخطيب في "تاريخ بغداد" ٣/ ٣٦٠ - و٨/ ٢٨ من طرق جيدة، عن أنس وأبي هريرة وابن عباس أن النبي - ﷺ - قال: "ليس الخبر كالمعاينة" اهـ. وانظر: "المفاسد الحسنة" للسخاوي ص ٤١٤، و"كشف الخفاء" ٢/ ١٦٨.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٥.
(٢) لفظ: (موسى) ساقط من (ب).
(٣) لفظ: (﴿وَلِأخَى﴾) ساقط من (أ).
(٤) ذكر الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٥ عن الكلبي نحوه. وذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٦٤ بلا نسبة.
370
وقوله تعالى: ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ﴾ قرئ بكسر الميم وفتحها (١)، [فـ] من (٢) كسر الميم فقال الزجاج: (فإنه أضاف إلى نفسه بعد أن جعلها (٣) اسمًا واحداً)، فعلى هذا قولهم: يا ابن أُمِ، بمنزلة يا غلامِ أقبل، تحذف الياء؛ لأن النداء باب حذف، وتبقى الكسرة دليلًا على المحذوف.
قال الفراء: (وذلك أنه كثر في الكلام، فحذفت العرب منه الياء، ولا يكادون يحذفون الياء إلا من الاسم المنادى يضيفه المنادي إلى نفسه إلا قولهم: يا ابن عمِّ ويا ابن أم، وذلك أنه يكثر استعمالهما (٤) في كلامهم، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا (٥) الياء فقالوا: يا ابن أبي، ويا ابن أخي، ويا ابن خالتي) (٦). انتهى كلامه.
ومعنى هذا: إن الياء لا تحذف إلا من المنادى إذا أضفته إلى نفسك نحو: يا غلام، ولا تحذف من الاسم مع المضاف إليه المنادى إذا أضفته إلى نفسك نحو (٧): يا غلام غلامي (٨) لا يجوز حذف الياء هاهنا، وكذلك
(١) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ﴾ بكسر الميم، وكذلك في آية ﴿يَبْنَؤُمَّ﴾ [طه: ٩٤]، وقرأ الباقون بفتحهما. انظر: "السبعة" ص ٢٩٥، و"المبسوط" ١٨٥، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٦، و"التيسير" ص ١١٣، و"النشر" ٢/ ٢٧٢.
(٢) لفظ: (الفاء) ساقط من (ب).
(٣) في (أ): (جعلهما)، وفي "معاني الزجاج" ٢/ ٢٧٨ (جعله).
(٤) في (ب): (استعمالهم).
(٥) في (ب): (بينوا).
(٦) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٤.
(٧) لفظ: (نحو) ساقط من (ب).
(٨) في (ب): (يا غلام يا غلامي).
371
يا ابن أبي، ويا ابن أخي، وجاز في يا ابن أم، ويا ابن عم لكثرتهما (١) في الكلام، فجعل الابن مع الأم والعم اسمًا واحداً وحذفت الياء كما حذفت من يا غلام، وقد جاء يا ابن أمي بإثبات الياء على الأصل كقول أبي زبيد:
يا ابن أمي ويا شُقَيِّقَ نفسي أنت خَلَّيْتَني لدهر كؤودِ (٢)
قال سيبويه: (فهذا بمنزلة القصوى الذي استعمل فيه الأصل الذي رفض في غيره) (٣).
وهذا الذي ذكرنا قول البصريين والكوفيين بلا اختلاف بينهما.
فأما (٤) من فتح فقال: ﴿ابْنَ أُمَّ﴾ فمذهب البصريين (٥) فيه أنهم جعلوا: ابن وأم شيئًا واحداً نحو: خمسة عشر، ومذهب الكوفيين أنهم
(١) في (ب): (لكثرتها).
(٢) "ديوانه" ص ٤٨، و"الكتاب" ٢/ ٢١٣، و"تفسير الطبري" ٩/ ٦٧، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٢٩٣، و"الحجة" لأبي علي ٤/ ٩٠، و"اللسان" ٤/ ٢٣٠١ (شقق)، وبلا نسبة في: "المقتضب" ٤/ ٢٥٠، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٩، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٦٣٩ - ٦٤٠، و"إعراب القراءات" ١/ ٢٠٩، و"التفسير" للماوردي ٢/ ٢٦٤، و"الأمالي" لابن الشجري ٢/ ٢٩٤، وهذه هي رواية النحاة في كتبهم والشاهد: يا ابن أمي، حيث أثبت الياء وهو قليل، والرواية في الديوان:
يا ابن خنساء شق نفسي يا لجلاج خليتني لدهر شديد
وهو من قصيدة طويلة يرثى بها ابن أخته لجلاج، انظر: "الاختيارين" للأخفش ص ٥٤١٨، و"جمهرة أشعار العرب" ص ٢٦٢.
(٣) هذا نص قول أبي علي الفارسي في "الحجة" ٤/ ٩٠، ولم أقف عليه عن سيبويه، وانظر: "الكتاب" ٢/ ٢١٣ - ٢١٤.
(٤) في (ب): (وأما).
(٥) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٠، و"الزجاج" ٢/ ٢٧٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٤٦٠.
372
قالوا: يا ابن أم ويا ابن عم فنصبوا كما ينصب المفرد في بعض الأحوال نحو: يا حسرتا ويا ويلتا، فكأنهم قالوا: يا أماه ويا عماه، وهذا قول الفراء (١)، وعلى هذا الفتحة في (ابن) كالفتحة في المنادي المضاف والفتحة في (أم) كالفتحة في أمّاه وعمّاه، والصحيح قول البصريين، وهو أن الفتحة في ابن كالفتحة في خمسة من قولهم: خمسة عشر، والفتحة في أم كالفتحة (٢) في عشر.
فإن قيل: لما لا يجوز أن يكون المراد يا ابن أمّا فحذف الألف كما حذفت ياء الإضافة في: يا غلام؟ قيل: ليس مثله، ألا ترى أن من حذف الياء من يا غلام أثبتها في يا غلام غلامي فلو كانت الألف مقدرة في يا ابن أم لم تحذف كما لم تحذف في قوله (٣):
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٤، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٦٧ - ٦٨.
(٢) هنا في: (أ) وقع تكرار وخلط ففيها: (والصحيح قول البصريين وهو أن الفتحة في ابن كالفتحة في خمسة من قولهم خمسة عشر والفتحة في أم كالفتحة في أماه وعماه والصحيح قول البصريين وهو أن الفتحة في ابن كالفتحة في خمسة من قولهم خمسة عشر والفتحة في أم كالفتحة في عشر فإن قيل..).
(٣) "الشاهد" لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي في "ديوانه" ص ١٣٤، و"الكتاب" ٢/ ٢١٤، و"النوادر" ص ١٩، و"الأصول" ١/ ٣٤٢، و"الجمل" للزجاجي ص ١٦٠، و"الصحاح" ٥/ ١٩٩٢ (عمم) "الأمالي" لابن الشجري ٢/ ٢٩٥، و"اللسان" ٥/ ٣١١١ (عمم)، وبلا نسبة في "المقتضب" ٤/ ٢٥٢، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٥، و"الحجة" لأبي علي ٤/ ٩١، و"البغداديات" ص ٥٠٦، و"العسكريات" ص ١٣٥، و"معاني الحروف" للروماني ص ١٤٨، و"المحتسب" ٢/ ٢٣٨، و"المدخل" للحدادي ص ٥٤٧، و"رصف المباني" ص ٢٣٥، و"الدر المصون" ٥/ ٤٦٨، وهو رجز بعده.
لا تسمعيي منك لومًا واسمعي =
373
يا ابنة عمَّا لا تلومي واهجعي
فالألف لا تحذف حيث تحذف الياء، ألا ترى أن من قال: ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ [الكهف: ٦٤]، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: ٤] فحذف الياء من الفواصل لم يكن عنده في نحو ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [الليل: ١ - ٢] إلا الإثبات. فإن قيل: فما تقولون (١) في بيت الكتاب:
رهط مرجوم ورهط ابن المعلّ (٢)
وهو يريد: المعلى؟
وفيما أنشد أبو الحسن:
فلست بمدرك ما فات مني بلهفَ ولا بليتَ ولا لو اني (٣)
= الشاهد فيه: يا ابنة عما، والأصل يا ابنة عمي فقلب الياء ألفًا كراهة اجتماع الكسرة والياء.
(١) في (ب): (فما تقول).
(٢) الشاهد: للبيد بن ربيعة في ملحق "ديوانه" ص ١٩٩، و"الكتاب" ٤/ ١٨٨، و"مجاز القرآن" ٢/ ١٦٠، و"طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٤٤٨، و"كتاب الكتاب" لابن درستويه ص ١٠٤، و"الحجة" لأبي علي ١/ ١٤١، و"البغداديات" ص ٥٠٦، و"الخصائص" ٢/ ٢٩٣، و"الأمالي" لابن الشجري ٢/ ٢٩٣، و"اللسان" ٣/ ١٦٠٣ (رجم)، وبلا نسبة في "الجمهرة" ١/ ٤٦٦، و"العسكريات" ص ١٣٣، و"المحتسب" ١/ ٣٤٢، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥٢٢، و"المقرب" ٢/ ٢٩، وصدره:
وقبيل من لكيز شاهد
والشاهد: ابن المعل، والأصل المعلى فحذف للضرورة، وقبيل: القبيلة، وشاهد أي حاضر، ولكيز من عبد قيس، ومرجوم: لقب رجلاً من عبد قيس، وابن المعلى هو جد الجارود بن بشير بن عمرو بن المعلى، أفاده عبد السلام هارون -رحمه الله تعالى- في حاشية الكتاب ٤/ ١٨٨.
(٣) لم أعرف قائله وهو في: "معاني الأخفش" ١/ ٦٥، و"الحجة" لأبي علي ٤/ ٩٢، =
374
يريد: بلهفى، فحذف الألف؟ قال أبو علي الفارسي: (والجواب: أن ذلك يجوز في الشعر (١) ولا يجوز في الاختيار وحال السعة، ولا ينبغي أن جمل قوله: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ﴾ (٢) [طه: ٩٤] على هذا) (٣).
وقال أبو علي في هذه المسألة في سورة طه: (من (٤) قال: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ﴾ [طه: ٩٤] أراد يا ابن أمَّا فحذف الألف كما يحذف الياء من غلامي في النداء [إذا قال: يا غلام وحذف الياء، من المضاف إليه، وإن كانت لا تحذف من المضاف إليه] (٥) إذا قال: يا غلام غلامي، كما تحذف من المضاف إذا قال: يا غلام؛ لأن هذا الاسم قد كثر استعماله فيغير عن أحوال النظائر، والفتحة في ﴿ابْنَ﴾ على هذا نصبة كما أنها في قولك: يا غلام أمي، كذلك.
قال: ويجوز أن يكون جعل ابن وأمّ جميعًا بمنزلة اسم واحد فبناهما على الفتح، والفتحة في الأول ليست بنصبة كما كانت في الوجه الأول، ولكنها بمنزلة الفتحة في خمسة من خمسة عشر، والاسمان في موضع ضم بالنداء، فهذان وجهان. ومن قال: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمِ﴾ بالكسر، احتمل أيضًا
= و"العسكريات" ص ١٣٤، و"كتاب الشعر" ١/ ٢٨٢، و"الخصائص" ٣/ ١٣٥، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥٢١، و"المحتسب" ١/ ٢٧٧، و"الأمالي" ابن الشجري ٢/ ٢٩٣، و"الإنصاف" ١/ ٣٩٠، و"المقرب" ١/ ١٨١، و"الممتع" ٢/ ٦٢٢، و"اللسان" ٧/ ٤٠٨٧ (لهف).
(١) في (ب): (والجواب أن ذلك يجوز في الاختيار وحال السعة)، وهو تحريف.
(٢) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٩٢، وما قبله منه أيضاً. انظر: "الحجة" ٤/ ٨٩ - ٩٣.
(٣) أي: بالفتح.
(٤) في (ب): (ما قال)، وهو تحريف.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
375
أمرين: أحدهما: أن يكون أضاف ابنا إلى أم، وحذف الياء من الثاني، وكان الوجه إثباتها مثل: يا غلام غلامي، والآخر: أن يكون جعل الاسم الأول مع الثاني اسمًا واحداً وأضافه إلى نفسه، ثم حذف الياء، كما تحذف من أواخر المفردة نحو: يا غلام) (١).
قال المفسرون (٢): (وكان هارون أخا موسى لأبيه وأمّه، وإنما قال. ﴿يَا ابْنَ أُمَّ﴾ ليستعطفه عليه ويرققه) (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي﴾). قال الكلبي: (استذلوني وقهروني) (٤). ﴿وَكَادُوا﴾ وهمّوا أن ﴿يَقْتُلُونَنِي﴾ ﴿فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ﴾ يعني: أصحاب العجل. ﴿وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الذين عبدوا العجل، أي: في موجدتك (٥) عليّ، وعقوبتك لي لا تجعلني معهم (٦).
١٥١ - قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي﴾. قال الكلبي: (رب اغفر لي ذنبي أي: ما صنعت إلى أخي) (٧)، يريد: ما أظهرت من الموجدة على هارون وهو بريء مما يوجب العتب عليه؛ لأنه لم يكن منه تقصير في
(١) "الحجة" لأبي علي ٥/ ٢٤٨، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٢٥، و"إعراب القراءات" ١/ ٢٨٠، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٤، ولابن زنجلة ص ٢٩٧، و"الكشف" ١/ ٤٧٨.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٦٨، والسمرقندي ١/ ٥٧١، والبغوي ٣/ ٢٨٤.
(٣) في (ب): (ويرفقه).
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٩، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٦.
(٥) وَجَدت عليه مَوْجِدَة أي: غضبت، ووجدت عليه أي: حزنت وانظر: "اللسان" ٨/ ٤٧٧٠ (وجد).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٦٩، والسمرقندي ١/ ٥٧١.
(٧) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٩.
الإنكار على عبدة العجل. إذ بلغ الأمر به أن (١) هموا بقتله لشدة إنكاره.
وقوله تعالى: ﴿وَلِأَخِي﴾. إنما استغفر لأخيه لأنه ظنه مقصرًا في الإنكار على عبدة العجل، وإن لم يقع ذلك التقصير منه، [و] (٢) كأنه يقول: اغفر لأخي إن قصر في الإنكار، كذلك (٣) قال أهل المعاني (٤) في استغفار موسى لأخيه هاهنا.
وقوله تعالى: ﴿وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ﴾. قال عطاء عن ابن عباس (٥): (يريد: في سعة جنتك).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. إخبار عن موسى أن الله تعالى بهذه الصفة، وهو يدل على قوة طمع الداعي في نجاح طلبته لأن من هو ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ يُؤمل منه الرحمة.
١٥٢ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ الآية، قد ذكرنا (٦) في مواضع أن المفعول الثاني من مفعولي الاتخاذ محذوف على تقدير: اتخذوا العجل إلهًا (٧) ومعبودًا، يدل على هذا المحذوف قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾ [طه: ٨٨]، وللمفسرين، وأهل المعاني، في هذه الآية طريقان:
(١) في (أ): (إذا بلغ الأمر به لاهموا) وهو تحريف.
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٣) في (ب): (لذلك)، وهو تحريف.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٦٩، و"معاني النحاس" ٣/ ٨٣، والسمرقندي ١/ ٥٧١.
(٥) لم أقف عليه، وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٩: (قال: في جنتك)، وذكر الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٦ عن عطاء قال: (أي: في جنتك) اهـ.
(٦) انظر: "البسيط" البقرة: ٥١.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٧٠، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٩، والنحاس ٣/ ٨٤.
377
أحدهما: أن المراد بالذين اتخذوا العجل: الذين باشروا عبادة العجل.
وقوله تعالى: ﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: في الدنيا) (١)، يعني: أولئك تيب (٢) عليهم بقتلهم أنفسهم فلا يلحقهم الغضب في الآخرة، وتفسير هذا الغضب في الدنيا قاله أبو العالية؛ قال: (هو ما أمروا به من قتلهم أنفسهم) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. قال الزجاج: (الذلة لحقتهم بأنهم رأوا أنهم قد ضلوا فذلوا) (٤). وعلى هذا معنى قوله: ﴿سَيَنَالُهُمْ﴾ -وقد نالهم الغضب و [الذلة] (٥)، وهذه السين للاستقبال- هو أن هذه الآية إخبار (٦) عما أخبر الله به موسى حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل، أخبره أيضًا أن أولئك سينالهم غضب وذلة، ويُحتاج إلى تقدير محذوف كأنه قيل: وقلنا لموسى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ الآية، والقول كثيراً ما يُضمر في الكلام.
الثاني: أن المراد بالذين اتخذوا العجل أبناؤهم الذين كانوا في زمن النبي - ﷺ -، وهذا مذهب ابن عباس وعطية العوفي، قال ابن عباس: (هم الذين أدركوا النبي وآباؤهم الذين عبدوا العجل) (٧). وقال في قوله (٨):
(١) لم أقف عليه.
(٢) في (ب): (تبت).
(٣) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٨ أ، والبغوي ٣/ ٢٨٥.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٩، وفيه: (والذلة ما أمروا به من قتل أنفسهم).
(٥) لفظ: (الذلة) ساقط من (أ).
(٦) في (ب): (هو أن هذه الأخبار) وهو تحريف.
(٧) ذكره الخازن ٢/ ٢٩٢.
(٨) في (ب): (في قولهم) وهو تحريف.
378
﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ﴾: (عذاب في الآخرة)، ﴿وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، قال: (وهي الجزية) (١).
وقال العوفي: (أراد سينال أولادهم الذين كانوا على عهد رسول الله - ﷺ - غضب وذلة)، قال: (وهو ما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء) (٢).
وعلى هذا الطريق تحمل الآية على وجهين:
أحدهما: أن العرب تُعيّر الأبناء بمعاير الآباء وتنسبها إليهم، كما تفعل ذلك في المناقب، وهو كثير في أشعارهم يقولون للأبناء: فعلتم كذا وكذا، وإنما فعل ذلك من مضى من آباءهم، كذلك هاهنا الله تعالى وصف [هؤلاء] (٣) اليهود الذين كانوا في زمن النبي - ﷺ - باتخاذ العجل وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك تعييرًا لهم كعادة (٤) العرب.
الوجه الثاني: أن الآية من باب حذف المضاف على ما ذكره عطية العوفي، والمعنى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ الذين باشروا ذلك ﴿سَيَنَالُهُمْ﴾ (٥) أي: سينال أولادهم ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه (٦).
(١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٨ أ، والبغوي ٣/ ٢٨٥، وابن الجوزي ٣/ ٢٦٥، الخازن ٢/ ٢٩٢.
(٢) ذكره الثعلبي ١٩٨ أ، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٨، والبغوي ٣/ ٢٨٥، وابن الجوزي ٣/ ٢٦٦، الخازن ٢/ ٢٩٢.
(٣) لفظ: (هؤلاء) سقط من (ب).
(٤) في (ب): (لعادة).
(٥) لفظ: (سينالهم) سقط من (أ).
(٦) والقول الأول أظهر وهو أن ذلك مختص بالمتخذين للعجل إلهًا لا لمن بعدهم =
379
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: كذلك أعاقب من اتخذ إلهًا من دوني أو تولى غيري) (١). وقال أهل المعاني: (كل مفترٍ في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا، يؤكد هذا ما روي عن مالك بن أنس (٢) [رحمه الله] (٣) أنه قال: (ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ هذه الآية) (٤)، والمبتدع مفتر في دين الله.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا﴾، قال ابن عباس (٥): (يريد: الشرك، مثل قوله في النساء: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ [النساء: ١٨]، ﴿ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا﴾ (٦) أي: رجعوا عنها وتركوها،
= من ذراريهم، وهو اختيار الجمهور، انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٦٩ - ٧٠، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٩، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ٩٠، والقرطبي ٧/ ٢٩١ - ٢٩٢، وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ٨٤: (وهذا القول أصح لأن الجزية لم تؤخذ منهم وإنما أخذت من ذريتهم) اهـ.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٦٦.
(٢) مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله المدني من تابعي التابعين، إمام حافظ ثقة، ثبت فقيه محدث، إمام دار الهجرة واحد أئمة المذاهب المتبوعة، أجمع العلماء على إمامته وجلالته وعلو مرتبته في الفقه والحديث، وفضله ومناقبه وثناء الأئمة عليه كثير توفي -رحمه الله- سنة ١٧٩ هـ، وله ٨٦ سنة انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" ٢/ ٧٥، و"سير أعلام النبلاء" ٨/ ٤٨، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ٢٠٧، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٨
(٣) لفظ: (رحمه الله) ساقط من (ب).
(٤) أخرجه الثعلبي في "تفسيره" ص ١٩٨، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٦٦، والرازي ١٥/ ١٣، والقرطبي ٧/ ٢٩٢، والخازن ٢/ ٢٩٣، وأخرج الطبري ٩/ ٧٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٧١، من عدة طرق جيدة عن أبي قلابة وسفيان بن عيينة نحوه.
(٥) لفظ: (﴿ثُمَّ تَابُوا﴾) ساقط من (أ).
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ١٢٩، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٨.
380
قال ابن عباس: (يعني: قبل حلول العذاب وقبل الموت). وقوله: ﴿وَآمَنُوا﴾، قال: (يريد: صدّقوا أنه لا إله غيري ولا شريك معي) (١).
١٥٤ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ﴾، قال المفسرون (٢)، وأهل اللغة (٣): (أي: سكن)، والسكوت أصله السكون والإمساك عن الشيء، وإنما يقال: سكت إذا أمسك عن الكلام، وجاز ﴿سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ﴾، ولا يجوز صمت هاهنا؛ لأن ﴿سَكَتَ﴾ بمعنى: سكن وصمت (٤) معناه: سدّ فاه عن الكلام.
قال أصحاب النظر: (وإنما قيل لسكون الغضب: سكوت، وليس الغضب مما يجوز أن يتكلم (٥) لأنه لما كان بفورته (٦) دالًا على ما في النفس للمغضوب عليه، كان بمنزلة الناطق بذلك، فإذا سكنت تلك الفورة كان بمنزلة الساكت عما كان متكلمًا).
(١) لم أقف عليه.
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٩، و"معاني الأخفش" ٢/ ٣١١، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٠، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨١، و"تفسير الطبري" ٩/ ٧١، و"نزهة القلوب" ص ٢٦٤، و"معاني النحاس" ٣/ ٨٥، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٢، و"تفسير المشكل" ص ٨٧
(٣) انظر: "العين" ٥/ ٣٠٥، و"الجمهرة" ١/ ٣٩٨، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٧١٨، و"الصحاح" ١/ ٢٥٣، و"المجمل" ٢/ ٤٦٨، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٨٩، و"المفردات" ص ٤١٦، و"اللسان" ٤/ ٢٠٤٦ (سكت).
(٤) انظر: "العين" ٧/ ١٠٦، و"تهذيب اللغة" ٢/ ٢٠٥١، و"الصحاح" ١/ ٢٥٦، و"المجمل" ٢/ ٥٤٠، و"معجم المقاييس" ٣/ ٣٠٨، و"اللسان" ٤/ ٢٤٩٣ (صمت).
(٥) في (ب): (يتكلم به).
(٦) في (ب): (لأنه كان نفورته)، وهو تحريف.
381
وقال عكرمة: (المعنى: سكت موسى عن الغضب) (١) فقلب؛ كما قالوا: أدخلت القلنسوة (٢) في رأسي، والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة، قال أبو إسحاق: (والقول الأولى، الذي معناه: سكن، وهو قول أهل العربية) (٣).
وقوله تعالى: ﴿أَخَذَ الْأَلْوَاحَ﴾؛ لأنه كان قد ألقاها.
وقوله تعالى: ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا﴾. قد ذكرنا معنى النسخ (٤) فيما تقدم، وهو: اكتتابك كتابًا عن كتاب حرفًا بحرف، تقول: نَسَخْتُه وانْتَسَخْته، فالأصل نُسْخةٌ، والمكتوب عنه نُسخةٌ؛ لأنه قام مقامه (٥).
قال ابن عباس (٦) وعمرو بن دينار (٧): (لما ألقى موسى الألواح تكسرت، فصام أربعين يومًا، فردت عليه، وأعيدت الألواح، وفيها الذي في الأولى) (٨). فعلى هذا معنى: ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا﴾. أي: فيما (٩) نسخ منها،
(١) ذكره الرازي ١٥/ ١٤، والقرطبي ٧/ ٢٩٣.
(٢) القَلَنْسُوة: من ملابس الرؤوس معروفة، انظر: "اللسان" ٦/ ٣٧٢٠ (قلس).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٧٩، وقال الخازن ٢/ ٢٩٣: (والقول الأول أصح لأنه قول أهل اللغة والتفسير) اهـ. وقال السمين في "الدر" ٥/ ٤٧٢: (القول بالقلب ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه مع ما في القلب من الخلاف) اهـ.
(٤) انظر: "البسيط" النسخة الزهرية ١/ ٧٨ ب.
(٥) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٥٨ (نسخ).
(٦) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٨ أ، والبغوي ٣/ ٢٨٥، والرازي ١٥/ ١٥، والقرطبي ٧/ ٢٩٣، والخازن ٢/ ٢٩٣.
(٧) عمرو بن دينار لعله: عمرو بن دينار الجمحي، أبو محمَّد المكي الأثرم، تقدمت ترجمته.
(٨) ذكره الثعلبي ١٩٨ أ، والبغوي ٣/ ٢٨٥، الخازن ٢/ ٢٩٣.
(٩) في (ب): (أي وفيما).
382
وإن كانت الألواح لم تتكسر، وأخذها موسى بعينها بعد ما ألقاها، فمعنى: ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا﴾. أي: وفي المكتوب فيها، وذلك المكتوب انتسخ من أصل فيسمى نسخة.
وقوله تعالى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةٌ﴾. قال ابن عباس (١) وغيره (٢): (هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب). ﴿لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾. قال: (يريد: الخائفين من ربهم) (٣). واختلفوا في وجه دخول اللام في قوله ﴿لِرَبِّهِمْ﴾؛ فقال الكسائي: (٨) تقدم المفعول على الفعل حسنت اللام) (٤)، قال: (وهذا مما مات من الغريب، وقد كان يقال: لك أكرمت، ولك حدثت (٥)، فمات ولو قلت: (أكرمت لك) تريد: أكرمتك، كان قبيحًا، وهو جائز، كما تقول: هو مكرم لك، وهو ضارب لك، بمعنى: مكرمك وضاربك، فحسن في موضع وقبح في آخر والأصل واحد) (٦).
قال النحويون: (لمّا تقدم المفعول ضعف عمل الفعل فيه، فصار بمنزلة ما لا يتعدى، فأدخل اللام) (٧).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٠، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٨ أ، والخازن ٢/ ٢٩٣.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٧١، و"معاني النحاس" ٣/ ٨٥، والسمرقندي ١/ ٥٧٢.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٥، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٦٧، والخازن ٢/ ٢٩٣.
(٤) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٨ أ، والبغوي ٣/ ٢٨٦.
(٥) في (ب): (ولك حديث).
(٦) لم أقف عليه.
(٧) انظر: "اللامات" للزجاجي ص ١٤٧، و"الهروي" ص ٣٤، وقال ابن هشام في "المغني" ١/ ٢١٧: (هي لام التقوية، وهي المزيدة لتقوية عامل ضعف إما بتأخر نحو ﴿هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ أو بكونه فرعا في العمل) اهـ.
383
وقال أبو علي الفارسي -وهو قول أكثر النحويين-: (قد يزاد بحروف الجر في المفعول، وإن كان الفعل متعديًا، وذلك نحو: قرأت السورة، وقرأت بالسورة (١)، وألقى يده، وألقى بيده، وفي القرآن ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: ١٤]، وفي موضع آخر ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ﴾ [النور: ٢٥] (٢). فعلى هذا قوله: ﴿لِرَبِّهِمْ﴾ (٣) اللام صلة وتأكيد كقوله: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ [النمل: ٧٢].
وقد ذكرنا مثل هذا في قوله: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ [آل عمران: ٧٣]، وقال بعضهم: إنها (٤) لام أجلٍ، والمعنى: هم (٥) لأجل ربهم (٦) ﴿يَرْهَبُونَ﴾. لا رياء ولا سمعة.
١٥٥ - قوله تعالى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ﴾، الاختيار: افتعال من لفظ الخير، يقال: اختار الشيء أي: أخذ خيره وخياره (٧)، وأصل اختار (اختير)، فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفًا نحو: قال وباع، وفي الأسماء (دار) و (ناب)، أصلهما (٨) دَوَرٌ ونَيَبٌ، ولهذا استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما: (مختار) والأصل (مُختَيِر) و (مُختَيَر)، فقلبت الياء فيهما ألفًا فاستويا في اللفظ (٩).
(١) في (ب): (نحو قرأت السورة وألقى يده، وفي القرآن) وهو تحريف.
(٢) "الإيضاح العضدي" ١/ ١٩٧ - ١٩٨، وانظر: "المسائل العسكريات" ص ١٢٨.
(٣) في (ب): (﴿لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾).
(٤) في (ب): (وقال بعضهم ألها لام)، وهو تحريف.
(٥) في (ب): (والمعنى والذين هم).
(٦) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣١١، و"تفسير الطبري" ٩/ ٧١، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٤١، و"التبيان" ص ٣٩١، و"والفريد" ٢/ ٣٦٧، و"الدر المصون" ٥/ ٤٧٢.
(٧) في (ب): (وختاره).
(٨) في (ب): (أصلها).
(٩) انظر: "العين" ٤/ ٣٠١، و"البارع" ص٢٢٤، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٥٩، ٩٦٠، =
384
قال جماعة النحويين (١): (معناه: واختار موسى [من] (٢) قومه، فحذفت (من) ووصل الفعل فنصب، يقال: اخترت من الرجال زيدًا [واخترت الرجال زيدًا] (٣).
وأنشدوا قول الفرزدق (٤):
منَّا الذي اختير الرِّجالَ سماحة وجودًا إذا هبَّ الرِّياح الزَّعازعُ
قال الفراء: (وإنما استجيز وقوع الفعل عليهم إذا طُرحت (من)؛ لأنه مأخوذ من قولك: هؤلاء خير القوم، وخير من القوم، فلما جازت الإضافة مكان (من) ولم يتغير المعنى استجازوا أن يقولوا: اخترتكم رجلاً، واخترت منكم رجلاً) (٥) وأنشد للراعي (٦):
= و"الصحاح" ٢/ ٦٥١، و"المجمل" ٢/ ٣٠٨، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٣٣، و"المفردات" ص ٣٠١، و"اللسان" ٣/ ١٢٩٩ (خير).
(١) انظر: "الكتاب" ١/ ٣٧، و"معاني الأخفش" ٢/ ٣١٢، و"المقتضب" ٤/ ٣٣٠، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٠، و"إعراب النحاس" ٢/ ١٥٤.
(٢) لفظ: (من) ساقط من (ب).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) "ديوانه" ٢/ ٤١٨، و"الكتاب" ١/ ٣٩، و"الكامل" ١/ ٣٣، و"تفسير الطبري" ٩/ ٧٤، و"الأمالي" لابن الشجري ٢/ ١٣١، و"اللسان" (٣/ ١٢٩٩ (غير)، و"الدر المصون" ٥/ ٤٧٤ وبلا نسبة في "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٢، و"المقتضب" ٤/ ٣٣٠، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٠، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٤٢، وانظر شرحه في "الخزانة" ٩/ ١٢٣ - ١٢٥.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٥.
(٦) الرّاعي: هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل النميري أبو جندل البصري، شاعر أموي، لقب بالراعي؛ لكثرة وصفه الإبل، وتوفي بعد سنة ٩٠ هـ. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٢٩٨، و"الشعر والشعراء" ص ٢٦٥، و"الأغاني" ٢٤/ ١٦٨، و"الأعلام" ٤/ ١٨٨.
385
فقلت (١) له (٢) اخترها قلوصًا سمينه وناب علينا مثلُ نابك في الحيا
أراد: اختر منها، قال أبو علي: (والأصل في هذا الباب أن من الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف جر، ثم يتسع فيحذف حرف الجر فيتعدى الفعل إلى المفعول الثاني، من ذلك قولك: اخترت من الرجال زيدًا (٣)، ثم يُتسع فيقال: اخترت الرجال زيدًا، وأستغفر الله من ذنبي، [وأستغفر الله ذنبي] (٤)، وكذلك أمرت زيدًا الخير، وأمرته بالخير.
قال الشاعر:
أستغفر الله ذنبًا لست مُحْصِيَه (٥)
(١) "ديوانه" ص ٢٥٩، و"الدر المصون" ٥/ ٤٧٣، وبلا نسبة في "معاني الفراء" ٢/ ٣٩٥، و"تفسير الطبري" ٩/ ٧٥، والقلوص: الفتية من الإبل، والناب: المسنة، والحيا: الخصب والمطر لإحيائه الأرض فتخصب، والحيا: الشحم والسمن، وصدره في الديوان، و"طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٥٢١:
فقلت لرب الناب خذها ثنية
(٢) في (أ): (فقلت لها)، وهو تحريف.
(٣) النص في "الإيضاح العضدي" ١/ ٢٠٠ وفيه: (فمن ذلك قولك: اخترت زيدًا من الرجال..).
(٤) لفظ: (واستغفر الله ذنبي) ساقط من (ب)، وفي "الإيضاح": (واستغفرت الله ذنبي).
(٥) لم أعرف قائله وهو في "الكتاب" ١/ ٣٧، و"معاني الفراء" ١/ ٢٣٣، و"أدب الكاتب" ص ٤١٩، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٢٢٩، و"المقتضب" ٤/ ٣٣١، و"الأصول" ١/ ١٧٨، و"الخصائص" ٣/ ٢٤٧، و"الصاحبي" ص ٢٩١، و"المخصص" ١٤/ ٧١، و"اللسان" ٦/ ٣٢٧٤ (غفر)، و"الدر المصون" ٥/ ٤٧٤، وعجزه:
ربُّ العباد إليه الوجه والعمل =
386
وقال آخر:
أمرتُك الخير فافعل (١) ما أُمِرت به) (٢)
وقوله تعالى: ﴿سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا﴾. قال السدي: (أمر الله موسى أن يأتيه (٣) [في] ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، فاختار موسى سبعين رجلاً ليعتذروا) (٤).
وقال ابن يسار (٥): (اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوا، ويسألوه التوبة على (٦) من ورائهم من قومهم) (٧).
= والشاهد: أستغفر الله ذنبًا حيث حذف حرف الجر من ثاني مفعولي (استغفر) الذي تعدى إليه بواسطة الحرف، والأصل: أستغفر الله من ذنب. انظر: "الخزانة" ٣/ ١١١.
(١) في (أ): (وافعل).
(٢) الشاهد مختلف في نسبته وهو في ديوان عمرو بن معد يكرب ص ٦٣، والعباس بن مرداس ص ١٣١، و"خفاف بن ندبة" ص ١٢٦، ونسب إلى زرعة بن السائب أو أعشى طرود، وهو في "الكتاب" ١/ ٣٧، و"معاني الأخفش" ٢/ ٣١٢، و"الكامل" للمبرد ١/ ٣٣، و"المقتضب" ٤/ ٣٣١، و"تفسير الطبري" ٩/ ٧٤، و"الأصول" ١/ ١٧٨، و"البغداديات" ص ٢٨٣، و"المحتسب" ١/ ٥١، و"المخصص" ١٤/ ٧١، و"الأمالي" لابن الشجري ٢/ ٥٥٨، و"الدر المصون" ٥/ ٤٧٤ وعجزه:
فقد تركتك ذا مالٍ وذا نشب
والنشب: المال الثابت كالضياع ونحوها، والشاهد (أمرتك الخير)، حيث حذف الجار، والأصل أمرتك بالخير. انظر: "الخزانة" ٩/ ١٢٤.
(٣) لفظ: (في) ساقط من (ب).
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٧٢ بسند جيد.
(٥) ابن يسار: هو محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي، إمام تقدمت ترجمته.
(٦) في (ب): (عن من ورائهم).
(٧) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٧٢ بسند جيد.
387
وقال وهب: (إنهم لم يصدقوا موسى أنه يسمع كلام الله وقالوا: يحضرك طائفة منا حتى يكلمك، فيسمعوا كلامه فنؤمن، وتذهب التهمة) (١)
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾. قال ابن عباس: (يريد: ماتوا) (٢). قال الزجاج: (والرجفة الحركة الشديدة، يقال: إنهم رجف بهم الجبل فماتوا) (٣).
قال ابن يسار، والسدي: (إنما أخذتهم الرجفة لأنهم قالوا: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾) (٤) [النساء: ١٥٣]. وقال ابن عباس: (إنهم قالوا في دعائهم: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدًا قبلنا ولا تعطيه أحدًا بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة) (٥).
وروى أبو الجوزاء (٦) عنه قال: (إنما أخذتهم الرجفة لأنهم كانوا [لم] (٧) ينهوا عن عبادة العجل) (٨).
ونحو ذلك قال قتادة وابن جريج (٩) والقرظي (١٠) قالوا: (إنهم لم
(١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٨ أ.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٠، وذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٧٣.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٠، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ٨٦.
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ٧٢ بسند جيد عن السدي وابن إسحاق.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ٧٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٧٤ بسند جيد.
(٦) أبو الجوزاء البصري: هو أوس بن عبد الله الربعي. تقدمت ترجمته.
(٧) لفظ: (لم) ساقط من (ب).
(٨) أخرجه الطبري ٩/ ٧٣، ٧٤ من طرق جيدة
(٩) أخرجه الطبري ٩/ ٧٤ بسند جيد عن قتادة وابن جريج.
(١٠) ذكره الثعلبي ١٩٨ ب، والبغوي ٣/ ٢٨٦ عن قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب القرظي.
388
يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل، ولم يأمروهم بالمعروف، ولم ينهوهم عن المنكر).
وقال وهب: (لم تكن تلك الرجفة موتًا، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت أن تبين منهم مفاصلهم، وتنقص ظهورهم، وخاف موسى عليهم الموت، فعند ذلك بكى ودعا فكشف الله عنهم تلك الرجفة) (١).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾. قال الزجاج: (أي: لو شئت أمتهم من قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة) (٢).
وقال السدي: (قال موسى: يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم، وليس معي رجل واحد، فما الذي يصدقونني به أو يأمنوني (٣) عليه بعد هذا، فأحياهم الله) (٤).
فمعني قوله: ﴿لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ﴾ ﴿وَإِيَّايَ﴾ أن موسى خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم، ولم يصدقوه أنهم ماتوا، فقال لربه: لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات، وكانوا (٥) بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني.
وقوله تعالى: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾. قال الفراء: (ظن موسى
(١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٨ ب، والبغوي ٣/ ٢٨٦، والخازن ٢/ ٢٩٤.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٠.
(٣) في (ب): (أو يأمنونني علي).
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٧٦، وفي "التاريخ" ١/ ٤٢٨ بسند جيد، وذكره الثعلبي ١٩٨ ب، والرازي ١٥/ ١٨.
(٥) في (ب): (وكان).
389
أنهم أُهلكوا باتخاذ [أصحابه] (١) العجل، [فقال: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾، يعني: عبدة العجل] (٢)، وإنما أهلكوا لمسألتهم الرؤية، وقولهم (٣): ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ (٤) [النساء: ١٥٣]، و (٥) هذا قول الكلبي (٦) وجماعة.
وقال قوم: (لا يجوز أن يُظن بموسى أن الله -عز وجل- يهلك قومًا بذنوب غيرهم، ولكن قوله: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾ استفهام على تأويل الجحد، وأراد: لست تفعل ذلك كما تقول: أتهين من يكرمك؟ أي: لست تهين من يكرمك)، وهذا قول ابن الأنباري (٧)، [و] (٨) على هذا أنكر موسى أن يكون سبب إهلاكهم فعل السفهاء، وكأنه لم يعلم سبب إهلاكهم، وأنكر أن يكون فعل السفهاء سبب الإهلاك (٩).
[و] (١٠) قال المبرد: (هذا استفهام استعطاف أي: لا تهلكنا) (١١).
(١) لفظ: (أصحابه) ساقط من (ب).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) في (ب): (وقوله تعالى).
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٥.
(٥) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٦) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٤٩، والخازن ٢/ ٢٩٥.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٤٩، وابن الجوزي ٣/ ٢٦٩، والسمين في "الدر" ٥/ ٤٧٦.
(٨) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٩) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٤٢، و"معاني النحاس" ٣/ ٨٧
(١٠) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(١١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٨ ب، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٤٩، والبغوي ٣/ ٢٨٧، وابن الجوزي ٣/ ٢٦٩، والرازي ١٥/ ١٩.
390
وقوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ﴾. الكناية في قوله ﴿هِيَ﴾ تعود إلى الفتنة، [كما تقول: إن هو إلا زيد، وإن هي إلا هند، والمعنى: إن تلك الفتنة] (١) التي وقع فيها السفهاء لم تكن ﴿إِلَّا فِتْنَتُكَ﴾ أي: اختبارك، وابتلاؤك، وهذا تأكيد لقوله: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾ لأن معناه: لا تهلكنا بفعلهم، فإن تلك الفتنة كانت اختبارًا منك وابتلاءً أضللت بها قوماً فافتتنوا، وهديت قومًا فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك (٢)، فذلك معنى قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ (٣). وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر (٤).
١٥٦ - قوله تعالى: ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾. أي: أوجب لنا، والكتابة تذكر بمعنى الإيجاب، وقد مضى ذلك، وسؤالهم الحسنة في الدنيا والآخرة كسؤال المؤمنين من هذه الأمة حيث أخبر الله عنهم في قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١]. ومضى تفسير هذه الآية.
و (٥) قال ابن عباس في الآية في هذه السورة: (يريد: اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة)، ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾، قال: (يريد: حسنة، يعني: الجنة) (٦). وقول ابن عباس: (يريد: حسنة)، يعني: إن تقدير الآية:
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٧٦، و"معاني النحاس" ٣/ ٨٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٤٢، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٣.
(٣) لفظ: (﴿وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾) ساقط من (ب).
(٤) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ١٩، والقرطبي ٧/ ٢٩٦، والخازن ٢/ ٢٩٥.
(٥) (الواو) ساقطة من (ب).
(٦) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٥٠.
391
﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ﴾ حسنة.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾. قال جميع المفسرين (١) وأهل المعاني (٢): (تبنا ورجعنا إليك بتوبتنا). قال الليث: (الهَوْد التوبة) (٣).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ﴾. قال ابن عباس: (يريد: على الذنب اليسير) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾. قد ذكرنا (٥) قديمًا أن رحمة الله تعالى إرادته الخير (٦)، وإرادته الخير تنقسم إلى أقسام كثيرة، وكل خيرٍ من خير الدنيا والآخرة أصاب أحدًا فذلك من رحمته، ثم من تلك الخيرات ما هو أعم وأوسع، ومنها ما هو أخصّ.
والأحسن في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه الحسن وقتادة (٧)، وهو:
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٧٧، ٧٨، وأخرجه من طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم التيمي وقتادة والسدي والضحاك وأبي العالية، وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٣، والماوردي ٢/ ٢٦٦.
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٢٩، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥١، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨١، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٠، و"نزهة القلوب" ص ٤٧٨، و"معاني النحاس" ٣/ ٨٨، و"تفسير المشكل" ص ٨٧.
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦٨٩، وانظر: "العين" ٤/ ٧٦، (هود)، و"الزاهر" ٢/ ٢١٤
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٥٠.
(٥) انظر: "البسيط" تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم) أول الكتاب.
(٦) الرحمة: صفة من صفات الله تعالى تثبت له كما أثبتها لنفسه ولا يلزم من إثباتها مشابهة صفة المخلوقين ولا نؤولها بإرادة الخير كما يفعل أهل التأويل. انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٨٠، و"مختصر الصواعق" لابن القيم ٣/ ٨٦٩.
(٧) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٤٣، الطبري ٩/ ٨٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٧٨ بسند جيد عن الحسن وقتادة.
392
(أن رحمته وسعت في الدنيا البار والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة)، وقد بين [عطية العوفي] (١) هذا أحسن بيان فقال: (إن الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن لسعة رحمة الله للمؤمن، فيعيش فيها، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه) (٢). وهذا اختيار الزجاج (٣)، وذكر أبو بكر بن الأنباري وجهين في هذه الآية:
أحدهما: (أن الرحمة يراد بها الصنع والأفضال، وما يخلو من صنع الله وأفضاله مؤمنٌ ولا كافر، كالمطر يسمى الرحمة، وما خرج منه كافر ولا غيره)، وهذا معنى ما ذكرنا عن المفسرين أنهم قالوا: (رحمته وسعت في الدنيا البار والفاجر).
الوجه الثاني: (أن رحمته (٤) تسع كل شيء يجوز أن يدخل فيها، وأن يكون مستحقًا لها (٥)، كقولهم: فلان يحسن كل شيء، يريدون من الأشياء التي يحسنها أمثاله، ومن هذا قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤]، يعني: مما يجوز أن يفتح عليهم، وكذلك (٦): ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣]. معناه: من الأشياء التي يمكن أن يؤتاها مثلها.
(١) لفظ: (عطية العوفي) ساقط من (ب).
(٢) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٩٨ ب، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٥٠، والبغوي ٣/ ٢٨٧.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٠.
(٤) في (ب): (أن رحمته وسعت تسع)، وهو تحريف.
(٥) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٢١٣.
(٦) في (ب): (وكذلك في).
393
وهذا مذهب جماعة المفسرين (١)، وهو أنهم قالوا: هذا من العام الذي أريد به (٢) الخاص) (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾، يعني: فسأوجبها في الآخرة ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾، وهذا معنى قول المفسرين (٤): (وهي يوم القيامة للمتقين خاصة)، وهذا تخصيص بعد التعميم باللفظ. وبيان [ذلك] (٥) أن ذلك يجب في الآخرة لمن اتصف بما ذكر في قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ إلى آخر الآية. قال ابن عباس: ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ (يريد: أمة محمد - ﷺ -) (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: صدقات الأموال عند محلها) (٧).
وروي أيضًا عنه أنه قال في قوله: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾: (يطيعون الله ورسوله) (٨)، كأنه ذهب إلى ما يزكي النفس ويطهرها من الأعمال (٩)، وبه
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٨٠، والسمرقندي ١/ ٥٧٣، والماوردي ٢/ ٢٦٧.
(٢) في (ب): (منه).
(٣) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٢٧١، وفيه قال ابن الأنباري: (أن الرحمة تسع
كل الخلق إلا أن أهل الكفر خارجون منها، فلو قدر دخولهم فيها لوسعتهم) اهـ.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٨٠
(٥) لفظ: (ذلك) ساقط من (ب).
(٦) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٧٩، ٨٠، ٨٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٨٠ من عدة طرق جيدة.
(٧) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٨٠ بسند ضعيف، وقال الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٢٦٧، وابن الجوزي ٣/ ٢٧١ (هذا هو قول الجمهور) اهـ. ورجحه ابن عطية ٦/ ٩٩.
(٨) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٨١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٨٠ بسند جيد، ولفظ ابن أبي حاتم قال: (يعني: طاعة الله والإخلاص).
(٩) هذا توجيه الطبري ٩/ ٨١، وانظر الماوردي ٢/ ٢٦٧، وابن الجوزي ٣/ ٢٧١.
394
قال الحسن (١).
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾. قال: (يريد: بما أنزلت (٢) على محمد والنبيين قبله يصدّقون) (٣).
قال المفسرون (٤): (إن وقد بني إسرائيل سألوا الله تعالى فقالوا: ﴿وَاكْتُبْ لَنَا﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾. فسألوه النعمة في الدنيا والآخرة، وتقربوا إليه بالتوبة من المعاصي، فأخبرهم الله تعالى أنه واسع الرحمة بقوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، فكانوا هم من جملة من وسعتهم الرحمة، ثم خص أمة محمد - ﷺ - بذكرهم وأوجب لهم الرحمة بقوله: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾).
ولهذا قال نوف (٥) البكالي: (ألا تحمدون ربًّا (٦) حفظ غيبتكم وأخذ لكم بسهمكم (٧)، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم) (٨).
وروى عطاء أيضًا عن ابن عباس أيضاً في هذه الآية أنه قال: (هذه الوفادة صارت للصالحين من أمة محمد) (٩)، ثم زاد في البيان أن المراد
(١) ذكره الماوردي ٢/ ٢٦٧، وابن الجوزي ٣/ ٢٧١.
(٢) كذا في (النسخ): (بما أنزلت) والأولى (بما أُنزل).
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٢.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٨١، وقد أخرجه من عدة طرق جيدة عن قتادة، وابن جريج، وأبي بكر الهذلي ونوف البكالي.
(٥) نوف بن فضالة الحميري البكالي أبو يزيد الشامي. تقدمت ترجمته.
(٦) في (ب): (ربنا).
(٧) في (ب): (لسهمكم).
(٨) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٧ - ٢٣٨ والطبري ٩/ ٨٣ من عدة طرق جيدة.
(٩) أخرجه الطبري ٩/ ٨٢، ٨٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٨٠، من عدة طرق جيدة.
395
بقوله: ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ هذه الأمة، فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾. [والأمي] (١) الذي لا يكتب ولا يقرأ في قول جميع المفسرين (٢)، قال الزجاج: (معنى ﴿الْأُمِّيَّ﴾: الذي هو على خِلْقَة الأُمَّة، لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته) (٣). وقد قال - ﷺ -: "إنا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسُب" (٤).
قال الأزهري: ([وقد] (٥) قيل للنبي - ﷺ -: الأمي؛ لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، وبعثه الله رسولاً وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة؛ لأنه تلا عليهم كتاب الله منظومًا تارة بعد تارة بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، وكان الخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها أو نقص، فحفظه الله على نبيّه كما أنزله وأبانه من سائر من بعثه إليهم بهذه الآية، وفي ذلك أنزل الله: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾
(١) لفظ: (والأمي) ساقط من (ب).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٨٠، و"معاني النحاس" ٣/ ٨٩، والسمرقندي ١/ ٥٧٤.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨١، والأُمَّة -بضم الهمزة وفتح الميم المشددة-، انظر: "اللسان" ١/ ١٣٨ (أمم) وجبلته -بالكسر- أي خلقته، وقال الزجاج في "معانيه" ١/ ١٥٩: (معنى الأمي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة أُمَّته أي: لا يكتب فهو في أنه لا يكتب على ما ولد عليه) اهـ.
وقال الأزهري في "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٤: (قيل للذي لا يكتب: أمي؛ لأن الكتابة مكتسبة فكأنه نُسب إلى ما ولد عليه أي: هو على ما ولدته أُمه عليه) اهـ.
(٤) أخرجه البخاري رقم (١٩١٣) في كتاب الصوم، باب: قول النبي - ﷺ -: "لا نكتب ولا نحسب"، مسلم رقم (١٠٨٠) كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان، عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما.
(٥) لفظ: (قد) ساقط من (ب).
396
الآية (١) [العنكبوت: ٤٨]. وقد مضى صدر من الكلام في معنى الأمّي عند قوله: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ [البقرة: ٧٨].
وقوله تعالى: ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾. أي: يجدونه بنعته وصفته، وهو مذكور في الكتابين بنعوته وصفاته، قد عرف ذلك أهلهما.
وقوله تعالى: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾. قال الزجاج: (يجوز أن يكون ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ استئنافًا، ويجوز أن يكون المعنى ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ﴾ أنه ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾) (٢). وعلى هذا يكون الأمر بالمعروف، وما ذكر بعده، من صفته التي (٣) ذكرت في الكتابين.
وقال أبو علي فيما استدرك عليه: إلا وجه لقوله ﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا﴾ أنه ﴿يَأْمُرُهُمْ﴾ إن كان يعني: إن ذلك مراد؛ لأنه لا شيء يدل على حذفه، ولأنا لم نعلمهم حذفوا هذا في شيء.
قال: وتفسير الآية: إن وجدت فيها المتعدي إلى مفعولين و ﴿مَكْتُوبًا﴾ مفعول ثانٍ، والمعنى: يجدون ذكره أو اسمه مكتوبًا.
قال سيبويه: (تقول إذا نظرت في هذا الكتاب (٤): هذا عمرو، وإنما المعنى: هذا اسم عمرو، وهذا ذكر عمرو، وقال: إن هذا يجوز على سعة
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ٢٠٤ (أم).
(٢) "الإغفال" لأبي علي ص ٨١٧، وفي "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨١، قال: (قوله: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يجوز أن يكون ﴿يَأْمُرُهُمْ﴾ مستأنفًا) اهـ.
(٣) في (ب): (الذي).
(٤) في "الكتاب" ٣/ ٢٦٩، و"الإغفال" ص ٨١٨: (تقول إذا نظرت في الكتاب).
397
الكلام) (١)، فالمفعول الأول في الآية قائم مقام المضاف إليه، يدل على (٢) هذا أن المكتوب عندهم الاسم والذكر لا الرسول نفسه، ألا ترى أن المفعول الثاني هاهنا يجب أن يكون الأول كقوله: وجدت زيدًا منطلقًا، فالمنطلق في المعنى هو الأول، فلو جعلت الهاء في قوله ﴿يَجِدُونَهُ﴾ المفعول الأول دون تقدير حذف المضاف لم يكن المفعول الثاني هو الأول فلا يستقيم ذلك، فأما قوله (٣): ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ فهو عندي تفسير لما كُتب، كما أن قول: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٩]. تفسير لوعدهم، وكما أن قوله: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩] تفسير للمثل، ولا يجوز أن يكون حالاً من المفعول الأول، ألا ترى أنه إذا كان المعنى: يجدون ذكره أو اسمه، لم يجز أن يكون يأمرهم حالاً منه، لأن الاسم والذكر لا يأمران إنما يأمر المذكور والمسمى) (٤).
فأما تفسير المعروف، فقال عطاء عن ابن عباس: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يريد: مكارم الأخلاق وخلع الأنداد، وصلة الأرحام) (٥). وقال الكلبي: (أي: بالتوحيد وشرائع الإِسلام) (٦).
(١) "الكتاب" ٣/ ٢٦٩.
(٢) في (ب): (يدل على أن هذا أن)، وهو تحريف.
(٣) في النسخ: (قولهم)، وهو تحريف.
(٤) "الإغفال" ص ٨١٧ - ٨٢٠، وانظر: "الدر المصون" ٥/ ٤٧٩ - ٤٨١، وذكر رد الفارسي على الزجاج، وقال: (وهذا الرد تحامل منه عليه لأنه أراد تفسير المعنى وهو تفسير حسن) اهـ.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٥٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٧٢، وذكره الثعلبي ١٩٩ أ، والبغوي ٣/ ٢٨٩، والقرطبي ٧/ ٢٩٩، الخازن ٢/ ٢٩٨، عن عطاء فقط.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٢.
398
وقوله تعالى: ﴿وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾. قال عطاء: (يريد: عن عبادة الأوثان وقطع الأرحام، والكفر بما أنزل الله على النبيين) (١).
وقال الكلبي: (هو ما لا يعرف في شريعة ولا سنة) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾. قال عطاء: (يريد: ما حُرّم عليهم في التوراة والإنجيل من لحوم الإبل وشحوم الضأن والمعز والبقر) (٣). وقيل (٤): (هي الحلالات التي كان أهل الجاهلية تحرمها من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي).
وقوله تعالى: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾. قال عطاء عن ابن عباس (٥): (يريد: ﴿المَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ وما ذكر (٦) في المائدة [٣] إلى قوله: ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾.
[و] (٧) قوله تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾. ذكرنا معنى (الإصر) في
(١) ذكره الثعلبي ١٩٩ أ، والبغوي ٣/ ٢٨٩، والقرطبي ٧/ ٢٩٩، والخازن ٢/ ٢٩٨، وجعله الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٥٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٧٢، من قول ابن عباس.
(٢) ذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٧٤، بلا نسبة.
(٣) لم أقف عليه، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨١، النحاس ٣/ ٨٩.
(٤) هذا هو قول الطبري ٩/ ٨٤، والثعلبي ١٩٩ أ، والماوردي ٢/ ٢٦٩، والبغوي ٣/ ٢٨٩.
(٥) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٥/ ٢٤، وأخرج الطبري ٩/ ٨٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٨٣ بسند جيد عن ابن عباس قال: (هي لحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله) اهـ.
(٦) في (ب): (وما ذكره) وهو يريد قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ [المائدة: ٣]
(٧) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
399
آخر سورة البقرة. واختلف (١) القراء هاهنا، فقرءوا: ﴿إِصْرَهُمْ﴾ ﴿وآصَارهم﴾ (٢)، قال أبو علي الفارسي: (الإصر مصدر يقع على الكثرة مع إفراد لفظه، ويدل على ذلك إضافته وهو مفرد إلى الكثير، كما قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ (٣) [البقرة: ٢٠]. ومن جمع أراد ضروبًا من العهود (٤). مختلفة، والمصادر قد تجمع إذا اختلفت ضروبها كما تجمع سائر الأجناس) (٥).
قال ابن عباس: (يريد: العهد (٦) الثقيل الذي كان أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة) (٧).
وهو قول الحسن والضحاك والسدي ومجاهد (٨)، والمعنى: ويُسقط عنهم ثقل العهد الذي أُخذ عليهم.
(١) في (ب): (واختلفوا).
(٢) قرأ ابن عامر: (آصَارهم) -بفتح الهمزة والصاد، وألف بعدها على الجمع- وقرأ الباقون: ﴿إِصْرَهُمْ﴾ -بكسر الهمزة وسكون الصاد من غير ألف بعدها على الإفراد-، انظر: "السبعة" ص ٢٩٥، و"المبسوط" ص ١٨٥، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٦، و"التيسير" ص ١١٣، و"النشر" ٢/ ٢٧٢.
(٣) في (ب): (فلو شاء)، وهو تحريف.
(٤) في "الحجة" لأبي علي ٤/ ٩٤: (أراد ضروبًا من المآثم مختلفة).
(٥) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٩٣، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٢٥، و"إعراب القراءات" ١/ ٢١٠، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٥، ولابن زنجلة ص ٢٩٨، و"الكشف" ١/ ٤٧٩.
(٦) في: (أ): (يريد: بالعهد).
(٧) أخرجه الطبري ٩/ ٨٥، ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٨٣ من عدة طرق جيدة.
(٨) أخرجه الطبري ٩/ ٨٥، من عدة طرق عن مجاهد والحسن والسدي والضحاك، وذكره الثعلبي ١٩٩ أ، والبغوي٣/ ٢٨٩، عن هؤلاء.
400
قال الزجاج: (والإصر ما عقدته من عقد ثقيل) (١).
وقال سعيد بن جبير: (هو شدة العبادة) (٢).
وقال ابن جريج: (من أَتبع محمدًا - ﷺ - من أهل الكتاب وضع عنه ما كان عليه من التشديد في دينه) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾. قال المفسرون (٤): (وهي الشدائد التي كانت في العبادة؛ كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروق من اللحم).
قال ابن قتيبة: ﴿وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ﴾ تحريم الله عليهم كثيراً مما أطلقه الله لأمة محمد - ﷺ -، وجعله أغلالًا لأن التحريم يمنع، كما يقبض الغُل اليد فاستعيرت) (٥).
وقال الزجاج: (الأغلال تمثيل؛ ألا ترى أنك تقول: قد جعلت هذا طوقًا في عنقك، وليس هناك طوق، وإنما تأويله: أني قد وليتك هذا وألزمتك القيام [به] (٦)، فجعلت لزومه (٧) كالطوق في عنقك. قال:
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨١، وانظر: "تفسير غريب القرآن" ص ١٨١، و"نزهة القلوب" ص ١٢٣، و"تفسير المشكل" ص ٨٧.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ٨٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٨٣، من عدة طرق جيدة.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ٨٥ بسند جيد عن ابن جريج عن مجاهد، وذكر النحاس في "معانيه" ٣/ ٩٠، وقال: (الأقوال فيه متقاربة أي: ما يثقل عليهم) اهـ.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٨٥، وقد أخرجه من طرق عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد.
(٥) "تأويل مشكل القرآن" ص ١٤٨، وانظر: "تفسير غريب القرآن" ص ١٨١، وقال القرطبي ٧/ ٣٠٠: (الأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال، هذا قول جمهور المفسرين) اهـ.
(٦) لفظ: (به) ساقط من (ب).
(٧) في: (أ): (لزومه له) وفي "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨١ (لزومه لك).
401
﴿وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾؛ أنه من قَتَل قُتِل لا تقبل في ذلك ديةٌ، وكان عليهم إذا أصاب جلودهم شيء من البول أن يقرضوه، وكان عليهم أن لا يعملوا في السبت) (١).
وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح (٢)، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعًا لله) (٣)، فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة.
وقوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ﴾، قال ابن عباس: (يعني: من اليهود) (٤)، ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾، (يريد: وقروه) (٥)، وقد ذكرنا الكلام في معنى التعزير مستقصى عند قوله: ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ [المائدة: ١٢].
﴿وَنَصَرُوهُ﴾ أي: على عدوه، ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ﴾، قال المفسرون (٦): (يعني: القرآن).
وقال عطاء: (يريد: الهدى والبيان والرشاد) (٧).
وقال الزجاج: (أي: اتبعوا الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور) (٨).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨١، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٩١.
(٢) المسُوح جمع مِسْح: وهو الكساء من الشعر، انظر: "اللسان" ٧/ ٤١٩٨ (مسح).
(٣) ذكره الرازي ١٥/ ٢٥، بلا نسبة.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٢.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ٨٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٨٥ بسند جيد عن ابن عباس قال: (حموه ووقروه) وانظر: "الأضداد" لابن الأنباري ص ١٤٧، و"اللسان" ٥/ ٢٩٢٥ (عزر).
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٨٦، والسمرقندي ١/ ٥٧٤، والماوردي ٢/ ٢٦٩.
(٧) ذكره الرازي ١٥/ ٢٥، بلا نسبة.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٢، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٩١.
402
١٥٩ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾، قال ابن عباس: (يريد: يدعون إلى الحق) (١).
قال الزجاج: (أي: يدعون الناس إلى الهداية بالحق) (٢). ﴿وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ قال ابن عباس: (يريد: يعملون) (٣). وقال الزجاج: (وبالحق يحكمون) (٤)، والعَدْل: الحكم بالحق، يقال: هو يقضى بالحق، ويعدل، وهو حكم عادل (٥)، ومنه قوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ١٢٩]. وقوله: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [الأنعام: ١٥٢].
واختلفوا في هذه الأمة العادلة من قوم موسى، فأكثر المفسرين قالوا: (إنهم قوم وراء الصين آمنوا بالنبي - ﷺ - وتركوا تحريم السبت، يجمعون، ولا يتظالمون، ولا يتحاسدون، لا يصل إلينا منهم أحد، ولا منّا إليهم، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يستقبلون قبلتنا)، وهذا معنى قول عطاء والكلبي والربيع والضحاك وابن جريج والسدي (٦).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٣، وهو قول الأكثر، انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٥، الثعلبي ١٩٩ أ، والبغوي ٣/ ٢٩٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٧٤، والرازي ١٥/ ٣٢.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٢.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٣.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٢.
(٥) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٥٨، وانظر: "العين" ٢/ ٣٨، و"الجمهرة" ٢/ ٦٦٣، و"الصحاح" ٥/ ١٧٦٠، و "مقاييس اللغة" ٤/ ٢٤٦، و"المجمل" ٣/ ٦٥١، و"المفردات" ص ٥٥١، و"اللسان" ٥/ ٢٨٣٨ (عدل).
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ٨٨، بسند جيد عن ابن جريج والسدي، وذكره الثعلبي ١٩٩ أ، عن عطاء، والكلبي، والربيع، والضحاك، وابن جريج، والسدي، وذكره البغوي ٣/ ٢٩٠، الخازن ٢/ ٣٠٠، عن الكلبي، والضحاك والربيع، وذكره الماوردي =
وقال أهل النظر (١): (هم قوم كانوا مستمسكين بالحق في وقت ضلالتهم بقتل أنبيائهم)، وقيل (٢): (إنهم من آمن بالنبي - ﷺ - كابن سلام (٣) وغيره من مؤمني أهل الكتاب).
١٦٠ - قوله تعالى (٤): ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾، قد مضى الكلام في معنى (الأسباط) في سورة البقرة.
قال الفراء: (إنما قال: ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ والسبط ذكر؛ لأن [ما] (٥) بعده ﴿أُمَمًا﴾ فذهب التأنيث إلى الأمم، ولو كان (اثني عشر) لتذكير السبط كان جائزًا) (٦).
= ٢/ ٢٧٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٧٤، عن ابن عباس والسدي، وهذا قول غريب ضعفه: ابن عطية ٦/ ١٠٩، والرازي ١٥/ ٣١، والخازن ٢/ ٣٠٠، الألوسي ٩/ ٨٥، وقال محمد أبو شهبة في "الإسرائيليات والموضوعات" ص ٢٠٦: (هذا من خرافات بني إسرائيل وأسانيدها ضعيفة واهية، وليس هناك ما يشهد لها من عقل ولا نقل صحيح، وهي مخالفة للمعقول، والمشاهد الملموس) اهـ. بتصرف.
(١) انظر: "إعراب النحاس" ص ٦٤٤، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٧٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٧٥.
(٢) هذا قول الكلبي كما ذكره الماوردي ٢/ ٢٧٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٧٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٢٩١، والظاهر أن الآية عامة تشمل الذين تمسكوا بالحق وبه يعدلون في زمن موسى عليه السلام والذين آمنوا بمحمد - ﷺ - وهو اختيار محمد أبو شهبة في "الإسرائيليات والموضوعات" ص ٢٠٨.
(٣) هو عبد الله بن سلام بن الحارث الخزرجي أبو يوسف الإسرائيلي، تقدمت ترجمته.
(٤) في (ب): (وقوله تعالى) بالواو.
(٥) لفظ: (ما) ساقط من (ب).
(٦) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٧.
404
واحتج النحويون على هذا بقول الشاعر:
وإنَّ قريشاً كلها عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشر (١)
ذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة، لذلك (٢) أنث، والبطن مذكر.
وقال الزجاج: (المعنى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ فرقة، ﴿أَسْبَاطًا﴾ [من نعت فرقة، كأنه قال: جعلناهم أسباطًا وفرقناهم أسباطًا، فتكون ﴿أَسْبَاطًا﴾] (٣) بدلاً من ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾) (٤)، فحصل من هذا أن التأنيث في العدد [إنما وقع لتقدير الفرقة في الكلام، ولهذا جمع الأسباط، وإن كان العدد] (٥) لا يفسر بالجمع؛ لأن الأسباط في الحقيقة نعتُ المفسر المحذوف وهو الفرقة، ويجوز أن يكون الأسباط كما ذكر بدلاً من العدد، فيكون المعنى: قطعناهم أسباطًا.
(١) "الشاهد" للنواح الكلابي وهو في "الكتاب" ٣/ ٥٦٥ لرجل من بني كلاب، وبلا نسبة في: "معاني الفراء" ١/ ١٢٦، و"الكامل" للمبرد ٢/ ٢٥٠، و"المقتضب" ٢/ ١٤٦، و"تفسير الطبري" ٩/ ٨٨، و"الأصول" ٣/ ٤٧٧، و"الأمالي" للزجاجي ص ٧٥، و"الصاحبي" ص ٤٢٥، و"الخصائص" ٢/ ٤١٧، و"المخصص" ١٧/ ١١٧، و"الإنصاف" ص ٦١٨، و"اللسان" ٧/ ٣٩١٠ (كلب)، و"الدر المصون" ٥/ ٢٣٦، و"الشاهد": (عشر أبطن) حيث أنث أبطن وحذف الهاء من عشر حملًا للبطن على معنى القبيلة بقرينة ذكر القبائل بعدها. انظر: "الخزانة" ٧/ ٣٩٥، وفي المراجع السابقة:
وإن كلابًا هذه عشر أبطن
ولم أقف على رواية الواحدي إلا عند الثعلبي ٦/ ١١ ب، والقرطبي ٧/ ٣٠٣، و"الدر المصون" ٥/ ٤٨٦.
(٢) في (ب): (كذلك) وهو تحريف.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٢ - ٣٨٣ وزاد: وهو الوجه. وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٣، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٦٤، و"المشكل" ١/ ٣٠٣.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
405
وقد ذكرنا في أول الكتاب (١) أن البدل يقدر فيه تكرير العامل، ونص أبو علي على هذا القول فقال: (ليس الأسباط بتفسير، ولكنه بدل من ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾) (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَانْبَجَسَتْ﴾. بَجْسُ الماء وانبجاسه، انفجاره، يقال: بَجَسَ الماء يبجس [بجسا] (٣) وانبجس وتبجس: إذا تفجر
هذا قول أهل اللغة (٤) والمفسرين (٥) في معنى معنى الانبجاس والانفجار (٦)
وأنهما سواء، وفرق قوم بينهما (٧)، فقالوا: (الانبجاس: خروج الجاري بقلة، والانفجار: خروجه بكثرة)، وهذا يروي عن أبي عمرو
(١) لم أقف عليه بعد طول بحث عنه في "مظانه".
(٢) كتاب "التكملة" ص ٢٦١، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٤٨٤: (تمييز ﴿اثنتي عشرة﴾ محذوف لفهم المعنى، تقديره: ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ فرقة و ﴿أسباطا﴾ بدل من ذلك التمييز لأن أسباط مذكر وجمع) اهـ.
(٣) (بجسا) ساقط من (أ).
(٤) انظر: "العين" ٦/ ٥٨، و"الجمهرة" ١/ ٢٦٧، و"تهذيب اللغة" ١/ ٢٧٧، و"الصحاح" ٣/ ٩٠٧، و"المجمل" ١/ ١١٦، و"مقاييس اللغة" ١/ ١٩٩، و"اللسان" ١/ ٢١٢ (بجس).
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٠، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥١، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٢، و"تفسير الطبري" ٩/ ٨٩، و"نزهة القلوب" ص ١٢٦، و"معاني النحاس" ٣/ ٩٢، و"تفسير المشكل" ص ٨٧
(٦) انظر: "العين" ٦/ ١١١، و"الجمهرة" ١/ ٤٦٣، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٧٤٣، و"الصحاح" ٢/ ٧٧٨، و"المجمل" ٣/ ٧١٢، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٤٧٥، و"المفردات" ص ٦٢٥، و"اللسان" ٦/ ٣٣٥١ (فجر).
(٧) قال الراغب في "المفردات" ص ١٠٨: (الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع) اهـ.
وانظر: "عمدة الحفاظ" ص ٣٩، و"الدر المصون" ٥/ ٤٨٧ - ٤٨٨.
406
ابن العلاء (١)، ويؤكد هذا الفرق ما قال عطاء: (كان يظهر على كل موضع من الحجر يضربه موسى -عليه السلام- مثل ثدي المرأة فيعرق أولاً ثم يسيل) (٢)، وباقي الآية مفسر (٣) في سورة البقرة.
١٦٣ - قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ﴾، قال أهل المعاني: (سلهم سؤال توبيخ على ما كان منهم في أمر القرية من فاحش الخطيئة (٤) وشنيع السيئة، والسؤال قد يكون للتقرير والتوبيخ، كما تقول لمن تلومه على جفائه: هل شتمتك؟ هل ضربتك؟ وأنت تعلم أنك لم تفعل، وإنما تسأله لتُقرره وتوبخه.
ومعنى سؤال النبي - ﷺ - أهل الكتاب عن هذه القرية، وقد أخبره الله بقصتها، تقريرهم بقديم كفرهم، وسلوكهم مسلك أسلافهم في المخالفة وارتكاب المعصية وأن يعلمهم ما لا يعلم إلا بكتاب أو وحي)، وهذا معنى قول المبرد (٥) والزجاج (٦) وغيرهما (٧)، وتلك القرية هي أيلة (٨) في رواية
(١) ذكره الثعلبي ٦/ ١٢ أ، والبغوي ٣/ ٢٩٢، والرازي ١٥/ ٣٣، والسمين في "الدر" ٥/ ٤٨٨.
(٢) ذكره الثعلبي ٦/ ١٢ أ.
(٣) انظر: "البسيط" البقرة: ٦٠.
(٤) في (ب): (الخطايا).
(٥) انظر: "ما اتفق لفظه واختلف معناه" للمبرد ص ٤٢.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٤.
(٧) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١٨٣ - ١٨٤، و"تأويل مشكل القرآن" ص ١٧٩، و"معاني النحاس" ٣/ ٩٢.
(٨) أيلة، بالفتح: مدينة على ساحل بحر القلزم -البحر الأحمر- مما يلي الشام، وقيل: هي مدينة عامرة في بلاد الشام بين الفسطاط ومكة على شاطئ بحر القلزم، انظر: "معجم البلدان" ١/ ٢٩٢.
407
عكرمة والوالبي عن ابن عباس (١)، وقال في رواية (٢) عطاء: (هي الطَبريَة) (٣). وهو قول الزهري (٤).
وقوله تعالى: ﴿الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾. الحضور نقيض الغيبة، أي: التي هي مجاورة البحر، وبقربه وعلى شاطئه (٥)، كقوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: ١٩٦]. والحضرة (٦) قرب الشيء، تقول: كنت بحضرة الدار.
(١) أخرجه الطبري ٩/ ٩٠ - ٩١ من عدة طرق جيدة عن عكرمة وعلي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٩٧، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٢٢، عن عكرمة عن ابن عباس، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) اهـ. ووافقه الذهبي في "التلخيص".
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس.
(٣) طبرية: مدينة في الأم من أعمال الأردن مطلة على بحيرة طبرية المشهورة، انظر: "معجم البلدان" ٤/ ١٧.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٩٧، والنحاس في "معانيه" ٣/ ٩٣، بسند جيد، وذكره الثعلبي ٦/ ١٢/ ب، والماوردي ٢/ ٢٧١، والمشهور أنها أيلة وهو قول الأكثر، فقد أخرجه الطبري ٩/ ٩٠ - ٩١، من طرق عن ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير والسدي وقتادة، وقال ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٩٧: (وروى عن سعيد بن جبير والضحاك) اهـ، وزاد والماوردي ٢/ ٢٧١ نسبته إلى عكرمة، وزاد ابن الجوزي ٣/ ٢٧٦ نسبته إلى ابن مسعود والحسن، وحكاه الأزهري في "تهذيبه" ١/ ٢٣٣، عن الليث، وحكاه هود الهواري ٢/ ٥٣ عن الكلبي، وقال الرازي ١٥/ ٣٦: (الأكثرون على أن تلك القرية أيلة) اهـ، وهو اختيار ابن كثير ٢/ ٢٨٦، ورجح الطبري ٩/ ٩١: أنها مدينة حاضرة البحر دون تحديد، لعدم الدليل القاطع، وهذا هو الظاهر لوجود الخلاف في تحديدها، ولأنه لا يترتب على تحديدها كبير فائدة.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٩١.
(٦) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" ١/ ٨٤٧، وانظر: "العين" ٣/ ١٠١، و"الجمهرة" ١/ ٥١٥، و"الصحاح" ٢/ ٦٣٢، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٧٥، =
408
وقوله تعالى: ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾. قال ابن عباس: (يريد: يصيدون الحيتان ويفعلون ما نهوا عنه) (١). والمعنى: إذ يظلمون في السبت، ومضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾ (٢) [البقرة: ٦٥]، وقوله: ﴿لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾ (٣) [النساء: ١٥٤]. وموضع ﴿إِذْ﴾ نَصْب؛ لأن المعنى: سلهم إذ عدوا (٤)، وحقيقة السؤال وقع عن الاعتداء لا عن القرية؛ لأن التوبيخ (٥) يقع به، وإنما ذكرت القرية لأنهم بها اعتدوا.
وقوله تعالى: ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ﴾. موضع ﴿إِذْ﴾ نصب أيضاً بـ"يعدون"، المعنى: سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان (٦).
= و"المجمل" ١٢٤٠، و"المفردات" ص ٢٤١، و"اللسان" ٢/ ٩٠٦ (حضر).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٥٧، وأخرج الطبري ٩/ ٩٢، ابن أبي حاتم ٥/ ١٥٩٨ والحاكم في "المستدرك" وصححه ٢/ ٣٢٢ - ٣٢٣ من عدة طرق جيدة نحوه.
وهو قول أهل اللغة والتفسير، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٠، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥١، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٢، و"تفسير الطبري" ٩/ ٩٢، و"معاني الزجاج" ٢/ ١٨٤، النحاس ٣/ ٩٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٧، و"تفسير المشكل" ص ٨٧
(٢) لفظ: (منكم) ساقط من (أ).
(٣) انظر: "البسيط" نسخة جستربتي ٢/ ٣٣ ب.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٤، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٤٥، و"المشكل" ١/ ٣٠٤.
(٥) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٤٥
(٦) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٨٤، وانظر: "البيان" ١/ ٣٧٦، و"التبيان" ١/ ٣٩٣، و"الفريد" ٢/ ٣٧٥، و"الدر المصون" ٥/ ٤٩٢.
409
وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا﴾. أي: ظاهرة على الماء، قاله الزجاج (١) وشرَّع جمع: شارع وشارعة.
قال شمر: (وكل شيء دان من شيء فهو شارع، ودار شارعة دنت من الطريق، ونجوم شوارع دنت من المغيب) (٢)، وعلى هذا الحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يُمكنهم صيدها.
قال ابن عباس (٣) ومجاهد (٤) والمفسرون (٥): (إن اليهود أُمروا باليوم الذي أمرتم به، يوم الجمعة، فتركوه واختاروا السبت، فابتلوا به، وحُرّم عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه إن أطاعوا لم يؤجروا (٦) وإن عصَوا
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٤، وهو قول أهل اللغة والتفسير. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٠، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٢، و"تفسير الطبري" ٩/ ٩٢، و"نزهة القلوب" ص ٢٩٠، و"معاني النحاس" ٣/ ٩٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٧، و"تفسير المشكل" ص ٨٧.
(٢) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٥٩، وانظر: "العين" ١/ ٢٥٢، و"الجمهرة" ٢/ ٧٢٧، و"الصحاح" ٣/ ١٢٣٦، و"المجمل" ٢/ ٥٢٦، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٢٦٢، و"المفردات" ص ٤٥٠، و"اللسان" ٤/ ٢٢٣٩ (شرع).
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ٩١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٥٩٨، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٢٢ - ٣٢٣، وصححه من عدة طرق جيدة عن ابن عباس نحوه.
(٤) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٨، وذكره الرازي ١٥/ ٣٧، عن ابن عباس ومجاهد.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٩١، وأخرجه ١٣/ ١٩٠ - ١٩٨، من طرق عن عبد الله بن مسعود والحسن وقتادة، وابن زيد، وأبي صالح ماهان الحنفي، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٤، النحاس ٣/ ٩٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٧، والثعلبي ٦/ ١٣ أ، والماوردي ٢/ ٢٧٢، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٥٧، و"الخازن" ٢/ ٣٠٢، عن المفسرين.
(٦) كذا في النسخ: (لم يؤجروا) وكذلك عند الثعلبي ٦/ ١٣/ أ، والأقرب أنه: (إن أطاعوا أجروا).
410
عُذّبوا، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر إلى السبت المقبل، بلاء ابتلوا به، فذلك معنى قوله: ﴿وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ﴾). يقال: سبتت اليهود، أي: قامت بأمر سبتها.
قال الفراء: (ومعنى ﴿يَسْبِتُونَ﴾ يفعلون سبتهم، ﴿وَيَوْمَ﴾ منصوب بقوله: ﴿لَا تَأْتِيهِمْ﴾) (١).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ﴾، في قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ وجهان ذكرهما الزجاج وابن الأنباري، أحدهما: قال الزجاج: (أي: مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم، وموضع (٢) الكاف نصب بنبلوهم) (٣).
وقال أبو بكر: (ذلك) إشارة إلى ما بعده يراد به: ﴿نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾، كذلك البلاء الذي وقع بهم في أمر الحيتان وينقطع الكلام عند قوله: ﴿لَا تَأْتِيهِمْ﴾ (٤).
الوجه الثاني: قال الزجاج: (ويحتمل على بُعدٍ أن يكون ﴿وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ﴾. أي: لا تأتيهم شرعًا، ويكون ﴿نَبْلُوهُمْ﴾ مستأنفًا) (٥).
(١) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٨، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٩٢، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٤٥، و"المشكل" ١/ ٣٠٤، و"التبيان" ١/ ٣٩٤، و"الفريد" ٢/ ٣٧٥، و"الدر المصون" ٥/ ٤٩٣.
(٢) في (أ): (فموضع).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٥، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٤٥.
(٤) انظر: "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٦٦٧، و"القطع" للنحاس ١/ ٢٦٤، و"المكتفى" للداني ص ٢٧٧.
(٥) في (ي): (وهم لا يسبتون)، وهو تحريف.
411
وقال أبو بكر: (وعلى هذا الوجه ﴿كَذَلِكَ﴾ راجعة على الشروع في قوله: ﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا﴾. والتقدير: ﴿وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ﴾ (١) الإتيان بالشروع، وموضع الكاف على هذا الوجه نصب بالإتيان على الحال، أي: لا تأتي مثل ذلك الإتيان) (٢).
وقوله تعالى: ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: بعصيانهم رب العالمين خُذلوا) (٣).
وقال الزجاج: (أي: شددت عليهم المحنة بفسقهم) (٤).
١٦٤ - وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ﴾ الآية. قال أهل التفسير (٥): (افترق أهل القرية ثلاث فرقٍ؛ فرقة صادت وأكلتْ، وفرقة نهت وزجرت، وفرقة أمسكت عن الصيد، وقالت للفرقة الناهية: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾).
قال الزجاج: (لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين،
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٥، وزاد: (وذلك القول الأول قول الناس وهو الجيد) اهـ.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٥٧، والسمين في "الدر" ٥/ ٤٩٣ - ٤٩٤، وقال الهمداني في "الفريد" ٢/ ٣٧٥: (الكاف في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، وفيه تقديران: أحدهما: نبلوهم بلاءً مثل ذلك البلاء الشديد ويوقف على ﴿تَأْتِيهِمْ﴾، وهو الوجه وعليه الجمهور، والثاني: لا تأتيهم إتيانًا مثل ذلك الإتيان الذي يأتي يوم السبت ويوقف على ﴿كَذَلِكَ﴾) اهـ.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٦.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٥.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ٩٣ - ٩٨ من عدة طرق جيدة عن ابن عباس وقتادة، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠٠، والحاكم وصححه ٢/ ٣٢٢، من عدة طرق جيدة عن ابن عباس، وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٧، والثعلبي ٦/ ١٤ أ، والماوردي ٢/ ٢٧٢ - ٢٧٣.
412
فقالت الفرقة الناهية للذين لاموهم: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾، أي: موعظتنا إياهم ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ والمعنى: أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذرًا إلى الله تعالى) (١)، والمعذرة مصدر كالعذر.
و (٢) قال أبو زيد: (عذرته أعذِره عُذرًا ومعذِرةً وعُذرَى) (٣)، ومعنى عذره في اللغة (٤): قام بعذرهِ، وقبل (٥) عذره، يقال: من يعذرني، أي: من يقوم بعذري، وعذرت فلانًا فيما صنع، أي: قمت بعذره، فعلى هذا معنى قوله: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ أي: قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله، فإنا إذا طولبنا بإقامة النهي عن المنكر، قلنا: قد فعلنا، فنكون بذلك معذورين. وقال الأزهري: (المعذرة اسم على مفعلة من عذر يعذر، وأقيم مقام الاعتذار، كأنهم قالوا: موعظتنا اعتذار إلى ربنا، فأقيم الاسم مقام الاعتذار، يقال: اعتذر فلان اعتذارًا وعذرة (٦) ومعذرة من ذنبه فعذرته) (٧).
وذكرنا معنى الاعتذار وأصله (٨) في اللغة في سورة براءة عند قوله (٩):
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٥، و"تفسير الطبري" ٩/ ٩٢، و"معاني النحاس" ٣/ ٩٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٦٥ (عذر).
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٣) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٩٧، و"تفسير الرازي" ١٥/ ٣٨.
(٤) انظر: "العين" ٢/ ٩٣، و"الجمهرة" ٢/ ٦٩٢، و"الصحاح" ٢/ ٧٣٧، و"المجمل" ٣/ ٦٥٤، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٥٣، و"المفردات" ص ٥٥٥، و"اللسان" ٥/ ٢٨٥٤ (عذر).
(٥) في (ب): (وقيل).
(٦) لفظ: (وعذرة) ساقط من (ب).
(٧) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٦٥ (عذر).
(٨) لم أقف عليه.
(٩) في النسخ عند قوله: "قل ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ﴾ "، وهو تحريف وفي سورة التوبة قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾ [التوبة: ٩٤].
413
﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ﴾ الآية [التوبة: ٦٦].
وقال ابن الأعرابي: (يقال: لي في هذا الأمر عُذر وعذرى ومعذرة، أي: خروج من الذنب) (١).
قال أبو علي: (لم يريدوا أن يعتذروا عذرًا مستأنفًا من أمر ليموا عليه، ولكنهم قيل لهم ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾؟ فقالوا: ﴿مَعْذِرَةً﴾ أي: موعظتنا معذرة (٢)، ومن نصب ﴿مَعْذِرَةً﴾ (٣) فقال سيبويه (٤): "لو قال رجل لرجل: معذرةً إلى الله، وإليك من كذا وكذا لنصب (٥) ") (٦).
قال الزجاج (٧): (المعنى: نعتذر معذرةً).
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٦٥ (عذر).
(٢) هذا قول سيبويه في "الكتاب" ١/ ٣٢٠، وحكاه الفارسي في "الحجة" عنه أيضًا ٤/ ٩٨، وهذا التوجيه على قراءة الرفع عندهما.
(٣) قرأ حفص عن عاصم: ﴿مَعْذِرَةً﴾ بالنصب وقرأ الباقون بالرفع، انظر: "السبعة" ص ٢٩٦، و"المبسوط" ص ١٨٦، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٧، و"التيسير" ص ١١٤، و"النشر" ٢/ ٢٧٢.
(٤) "الكتاب" ١/ ٣٢٠، وانظر: "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٦٦٨.
(٥) في (ب): (وكذا النصب)، وهو تحريف.
(٦) "الحجة" لأبي علي ٤/ ٩٨، وعليه قراءة الرفع خبر لمبتدأ مضمر أي: موعظتنا معذرة، وعلى قراءة النصب مفعول لأجله، أي: وعظناهم لأجل المعذرة، أو على المصدر أي: نعتذر معذرة، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٢٧، و"إعراب القراءات" ١/ ٤١٠، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٦، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٣٠٠، و"الكشف" ١/ ٤٨١، و"الدر المصون" ٥/ ٤٩٥.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٦، وفيه قال: (ويجوز النصب على معنى يعتذرون معذرة) وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٣٩٨، و"تفسير الطبري" ٩/ ٩٣، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٤٥، و"تفسير المشكل" ١/ ٣٠٤، و"البيان" ١/ ٣٧٦، و"التبيان" ١/ ٣٩٤، و"الفريد" ٢/ ٣٧٦.
414
وقوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾. أي: جائز عندنا أن ينتفعوا بالمعذرة فيتقوا الله ويتركوا العَدْو (١).
وقال بعضهم (٢): (وكانوا فرقتين: فرقة نهت عن السوء، وفرقة عملت بالسوء)، وهذا قول الكلبي (٣)، وحكاه الزجاج (٤)، وعلى هذا فالذين قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾ الفرقة المعتدية.
قال الكلبي: (المعتدية نحو من سبعين ألفًا أتاهم طوائف نحو من اثني عشر ألفًا، وهم الذين كرهوا الصيد في السبت، وقالوا: انتهوا قبل أن ينزل بكم العذاب، فإنا قد علمنا أن الله منزل بكم بأسًا عاجلًا إن لم تنتهوا، فقالوا لهم: فلم تعظوننا إذًا إن كنتم قد علمتم أن الله منزل بنا عذابه) (٥).
والقول الأول (٦) أصح؛ لأنهم لو كانوا فرقتين وكان قوله: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ خطابًا من الناهية المعتدية لقالوا: ولعلكم (٧) تتقون.
(١) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٨٥.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ٩٢ بسند جيد عن ابن زيد، وانظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٥٧٨.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٩، وحكاه الطبري في "تفسيره" ٩/ ٩٢، وهود الهواري ٢/ ٥٣ - ٥٤ عن الكلبي.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٦.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٣ - ١٤، والبغوي ٣/ ٢٩٣، والقرطبي ٧/ ٣٠٧.
(٦) هذا قول الثعلبي ٦/ ١٤ أ، ونقله الرازي في "تفسيره" ١٥/ ٣٩، عن الواحدي، واختاره ابن عطية ٦/ ١١٧، والخازن ٢/ ٣٠٣، وقال القرطبي ٧/ ٣٠٧: "القول الأول قول جمهور المفسرين وهو الظاهر من الضمائر في الآية) اهـ.
(٧) في (ب): (ولعلهم).
415
١٦٥ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾، قال ابن عباس: (أي: تركوا ما وعظوا به) (١)، ﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾، يعني: الفرقة الناهية، واختلفوا في الفرقة الممسكة غير الناهية الذين قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾، فقال ابن عباس في رواية عطاء بن السائب (٢): (أسمع الله يقول: ﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾ إلى قوله ﴿يَفْسُقُونَ﴾، فليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾) (٣). فمذهبه في هذه الرواية الوقف في الفرقة الممسكة.
وروي عنه أيضًا أنه قال: (كانوا أثلاثًا؛ ثلثًا نهى، وثلثًا قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾، وثلثا أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم) (٤).
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠١ بسند جيد وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٥٨، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ٩٩، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٦، والنحاس ٣/ ٩٤، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٧، الثعلبي ٦/ ١٤/ ب، والماوردي ٢/ ٢٧٢.
(٢) عطاء بن السائب بن يزيد الثقفي أبو يزيد الكوفي، إمام تابعي عابد من كبار العلماء، ثقة ساء حفظه في آخر عمره توفي سنة ١٣٦هـ، انظر: "طبقات ابن سعد" ٦/ ٣٣٨، و"الجرح والتعديل" ٦/ ٣٣٢، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ١١٠، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ١٠٣، ومقدمة "فتح الباري" ص ٤٢٥.
(٣) أخرجه "عبد الرزاق" ١/ ٢/ ٢٣٩ - ٢٤٢، والطبري ٩/ ٩٨، والحاكم صححه ٢/ ٣٢٢ - ٣٢٣ من عدة طرق جيدة.
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ٩٧، وابن أبي حاتم ١٦٠٠ من طرق جيدة وذكره ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٨٧ - ٢٨٨، وقال: (نص الله على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحًا فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيمًا فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم فروي عن ابن عباس بإسناد جيد أنه قال: (ما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم)، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين حالهم =
416
وهذا قول ابن زيد أيضاً، قال: (كانوا ثلاث فرقٍ؛ فرقة اعتدت، وفرقة نهت، وفرقة لم تنه، وقالت ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾، فنجت الناهية، وهلكت الفرقتان. قال: وهذه الآية أشد آية في القرآن في ترك النهي عن المنكر) (١).
وروى ابن جريج عن عكرمة قال: (دخلت على ابن عباس وهو ينظر
في المصحف ويبكي قبل أن يذهب بصره، فقلت: ما يبكيك؟ فذكر قصة أصحاب أيلة، ثم قرأ قوله (٢): ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾. الآية، وقال: أسمع الله ذكر الذين نهوا ولا أسمع الذين سكتوا، ونحن نرى أشياء ننكرها فلا نقول فيها ولا نغيرها.
قال (٣) عكرمة: فقلت له: جعلني الله فداك، ألا تراهم قد أنكروا حين قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾، وإن لم يقل الله: أنجيتهم، لم يقل أيضًا أهلكتهم، ولم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا، قال: فأعجبه ذلك من قولي، فرضي، وأمر لي ببردين فكسانيهما) (٤).
= بعد ذلك والله أعلم) اهـ. بتصرف.
وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "الفتاوى" ١٧/ ٣٨٢: (أنجى الله الناهين، وأما أولئك الكارهون للذنب الذين قالوا ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾ فالأكثرون على أنهم نجوا؛ لأنهم كانوا كارهين فأنكروا بحسب قدرتهم، وأما من ترك الإنكار مطلقًا فهو ظالم يعذب) اهـ.
(١) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٣ ب، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٦٠، والبغوي ٣/ ٢٩٤، والخازن ٢/ ٣٠٣.
(٢) لفظ: (قوله) ساقط من (ب).
(٣) في (أ): (وقال).
(٤) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٠ - ٢٤٢، والطبري ٩/ ٦٤، وابن خالويه في "إعراب =
417
وهذا أيضًا مذهب الحسن ويمانٍ.
قال الحسن: (نجت فرقتان، وهلكت فرقة، وهم الذين أخذوا الحيتان) (١).
وقال يمانٍ: (نجت الطائفتان؛ الذين قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾، والذين قالوا: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾، وأهلك الله أهل معصيته) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾، أي: شديد من العذاب، قاله ابن عباس (٣) والحسن (٤) ومجاهد (٥) وقتادة (٦) وابن زيد (٧).
= القراءات" ١/ ٢١٢ - ٢١٤، والحاكم ٢/ ٣٢٢ - ٣٢٣ وصححه من طرق جيدة. وأخرج الطبري ٩/ ٩٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠٠ بسند جيد عن ابن عباس قال: (نجت فرقتان، وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وخنازير) اهـ.
(١) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٥٥، والواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٦٠، والبغوي ٣/ ٢٩٤، وابن عطية ٦/ ١١٦، والرازي ١٥/ ٣٨ - ٣٩، والقرطبي ٧/ ٣٠٧، والخازن ٢/ ٣٠٢.
(٢) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ١٤ أ، والبغوي ٣/ ٢٩٤.
(٣) أخرجه أبو عبيد في كتاب "اللغات" ص ١٠٦، و"ابن حسنون" ص ٢٥ بسند جيد، وأخرج عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٤٠ - ٢٤٢، الطبري ٩/ ١٠٠ - ١٠١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠٢ بسند ضعيف عن ابن عباس قال: (أليم وجيع) اهـ.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٨، وأخرجه الطبري ٩/ ١٠١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠٢ من طرق جيدة بلفظ: (أليم شديد) اهـ.
(٦) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٩، والطبري ٩/ ١٠١ من طرق جيدة بلفظ: (موجع).
(٧) أخرجه الطبري ٩/ ١٠١ بسند جيد وهو قول أهل اللغة والتفسير. انظر: "مجاز =
418
قال ابن الأعرابي: (البَئِس (١) والبَيِس على فَعِل العذابُ الشديد) (٢).
ونحو ذلك قال الزجاج (٣).
قال أبو علي: ﴿بَئِيسٍ﴾ على وزن فعيل يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون فعيلًا من بؤس يبؤس بأسًا: إذا اشتد.
والآخر: ما قاله أبو زيد قال: يقال من البؤس وهو الفقر: بَئِسَ الرجل يبأس بؤسًا وبأساء وبئيسًا (٤) إذا افتقر فهو بائس أي: فقير (٥). فوصف العذاب ببئيس وهو مصدر على فعيل كالنذير والنكير والشحيح، والتقدير: بعذاب ذي بئيس أي: ذي بؤس.
وقرأ نافع (٦): (بيس) جعل (بيس) الذي هو فعل اسمًا، فوصف
= القرآن" ١/ ٢٣١، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٢، و"تفسير غريب القرآن"
ص ١٨٢، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٦، و"نزهة القلوب" ص ١٤١، و"معاني النحاس" ٥/ ٩٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٧، والثعلبي ٦/ ١٤ ب، والماوردي ٢/ ٢٧٢، وقال الطبري ٩/ ١٠١: (أجمعوا على أن معناه: شديد) اهـ.
(١) في النسخ: البيئيس، والبئيس، وهو تصحيف.
(٢) "تهذيب اللغة" ١/ ٤١١ (بئس) وانظر: "العين" ٧/ ٣١٦، و"الصحاح" ٣/ ٩٠٧، و"المجمل" ١/ ١٤١، و"مقاييس اللغة" ١/ ٣٢٨، و"المفردات" ص ١٥٣، و"اللسان" ١/ ١٩٩ (بأس).
(٣) في "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٦، قال: (بئيس أي: شديد يقال: بئس يبؤس بأسًا إذا اشتد) اهـ. وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٤١١ (بئس).
(٤) في (ب): "وبيسا" وهو كذلك في "الحجة" لأبي علي ٤/ ١٠٠ عن أبي زيد.
(٥) هذا وما قبله من قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" ١/ ٤١١ (بئس) وذكره الجوهري في "الصحاح" ٣/ ٩٠٧، وقال: (حكاه أبو زيد في كتاب "الهمز") اهـ.
(٦) قرأ نافع: (بيس) بكسر الباء وسكون الياء من غير همز، وقرأ ابن عامر: ﴿بَئْسَ﴾، بكسر الباء وبعدها همزة ساكنة، وقرأ الباقون: ﴿بَئِيسٍ﴾ بفتح الباء وبعدها همزة مكسورة وبعدها ياء ساكنة، وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ: (بَيْئسَ) على وزن =
419
به (١)، ومثل ذلك قوله: "إن الله ينهى عن قيلَ وقال" (٢).
ويروى "قيلٍ وقالٍ" (٣)، ونحوه: مُذ شُبَّ (٤) إلى دبَّ، ومذ شبِّ إلى
= فيعل، بفتح الباء وبعدها ياء ساكنة وبعدها همزة مفتوحة-.
انظر: "السبعة" ص ٢٩٦، و"المبسوط" ص ١٨٦، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٧، و"التيسير" ص ١١٤، و"النشر" ٢/ ٢٧٢.
(١) في (ب): (فوصف به العذاب ببيس) ولا يوجد ذلك في "الحجة" لأبي علي ٤/ ١٠٠.
(٢) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (١٤٧٧١) كتاب الزكاة، باب: قول الله: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ﴾، ومسلم رقم (١٧١٥) كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة السائل من غير حاجة، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن الرسول - ﷺ - قال: "إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال" اهـ. وفيهما قيلَ وقالَ -بالفتح-.
(٣) يريد الرواية الأولى بالفتح والثانية بالكسر منونًا، وقد أخرج مسلم رقم (١٧١٥) كتاب الأقضية، باب النهي عن كثر المسائل، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن الله نهى عن ثلاث: قيلٍ وقالٍ وكثرة السؤال وإضاعة المال" اهـ. وفيه قيل وقال بالكسر منونًا.
قال النووي في "شرح مسلم" ١٢/ ١٦: (اختلفوا في حقيقة قيل وقال على قولين: أحدهما: أنهما فعلان، فقيل مبني لما لم يسم فاعله، وقال فعل ماض، والثاني: أنهما اسمان مجروران منونان لأن القيل والقال والقول والقالة كلها بمعنى) اهـ. وانظر: "فتح الباري" ١٢/ ٤٠٧.
(٤) في "الحجة" ٤/ ١٠١: (مِنْ شب إلى دب ومن شب إلى دب) وأشار المحقق إلى ورود (مد) في بعض النسخ وهذا من أمثال العرب تقول:
"أعييتني من شب إلى دبَّ ومن شب إلى دُبِّ"
أي: من لدن شببت إلى أن دببت على العصا هرمًا، وهو مثل يضرب للبغيض ولمن يكون في أمر عظيم غير مرضى فيمتد فيه أو يأتي بما هو أعظم منه.
انظر: "جمهرة الأمثال" ١/ ٥٤، و"مجمع الأمثال" ١/ ١٩٨، و"المستقصى" ١/ ٢٥٧.
420
دبِّ (١)، فكما استعملت هذه (٢) الألفاظ أسماءً وأفعالاً، كذلك (بيس) جعله اسمًا بعد أن كان فعلاً، فصار وصفًا مثل نِقضٍ (٣) ونضوٍ (٤).
وقرأ ابن عامر: ﴿بِئْسَ﴾ (٥)، وهو مثل قراءة نافع إلا أنه حقق الهمزة، وروى أبو بكر (٦) عن عاصم (بيأس)، وهو وصف مثل ضيغم (٧) وحيدرٍ (٨)، وهو بناء كثير في الصفة (٩).
(١) أي بالفتح والكسر مع التنوين وعدمه، فمن نونه جعله بمنزلة الاسم بإدخال من عليه، ومن لم ينونه جعله على وجه الحكاية للفعل، أفاده الميداني في "مجمع الأمثال" ١/ ١٩٨.
(٢) في (ب): (هذا)، وهو تحريف.
(٣) نِقْض، بكسر النون وسكون القاف، وهو المهزول من الإبل والخيل، انظر: "اللسان" ٨/ ٤٥٢٤ (نقض).
(٤) نضو - بكسر النون وسكون الضاد: المهزول من جميع الدواب وقد يستعمل في الإنسان، انظر: "اللسان" ٧/ ٤٤٥٧ (نصا).
(٥) في: (أ): (ييئس)، وفي (ب). (بيس)، وهو تصحيف.
(٦) أبو بكر: هو أبو بكر بن عياش الأسدي أحد الرواة عن عاصم، إمام، تقدمت ترجمته.
(٧) ضيغم، بفتح الضاء وسكون الياء وفتح الغين: الأسد والواسع الشدق والذي يعَضَ، واسم الشاعر ضيغم الأسدي. انظر: "اللسان": ٥/ ٢٥٩٢ (ضغم).
(٨) حيدر: بفتح الحاء وسكون الياء وفتح الدال اسم، انظر: "اللسان" ٢/ ٨٠٣ (حدر).
(٩) "الحجة" لأبي علي ٤/ ١٠٠ - ١٠٢، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٢٨، و"إعراب القراءات" ١/ ٢١١، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٣٠٠، و"الكشف" ١/ ٤٨١، وقال ابن خالويه في "الحجة" ص ١٦٦: (هذه القراءات لغات مشهورات مستعملات في القراءة) اهـ.
421
١٦٦ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ﴾ الآية. نظم الآية لا يصح إلا بتقدير محذوف؛ لأن معنى العتُو (١): الإباء والعصيان، وإذا عتوا عما نهوا عنه فقد أطاعوا؛ لأنهم أبوا ما نهوا عنه، وهو صيد الحيتان في السبت، ولكن التقدير: فلما عتوا عن ترك ما نهوا عنه ثم حذف المضاف؛ وإذا أبوا ترك المنهي عنه كان ذلك ارتكابًا (٢).
وقوله تعالى: ﴿قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ مفسر في سورة البقرة (٣).
١٦٧ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾، اختلفوا في معنى ﴿تَأَذَّنَ﴾، فقال أهل اللغة (٤): (تأذن بمعنى أذن أي: أعلم)، ونحو
(١) عَتَا: أي: استكبر وجاوز الحد، وقال الزجاج ٢/ ٣٨٦: (العاتي الشديد الدخول في الفساد المتمرد الذي لا يقبل موعظة) اهـ.
وانظر: "العين" ٢/ ٢٢٦، و"الجمهرة" ٢/ ١٠٣٢، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣١٣، و"الصحاح" ٦/ ٢٤١٨، و"المجمل" ٣/ ٦٤٦، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٢٥، و"المفردات" ص ٥٤٦، و"اللسان" ٥/ ٢٧٩٤ (عتا).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٠١، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٤٨، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٨، والرازي ١٥/ ٤٠، والخازن ٢/ ٣٠٣، قال الطبري: (أي: تمردوا فيما نهوا عنه وتمادوا فيه) اهـ. وقال النحاس: (أي: تجاوزوا في معصية الله جل وعز) اهـ.
(٣) انظر: "البسيط" البقرة: ٦٦.
(٤) الأذان: الإعلام، وأذن بمعنى عَلِمَ، وأذن له أذنا استمع، وتأذن فلان أعلم وآذن، وتأذن الأمير في الكلام أي: تقدم وأعلم ونادى فيهم بالتهديد والنهي، وقال الخليل في "العين" ٨/ ٢٠٠: (الأذان اسم للتأذين، والتأذن من قولك: تأذنت لأفعلن كذا يراد به إيجاب الفعل في ذلك أي: سأفعل لا محالة وتأذنت تقدمت كالأمير يتأذن قبل العقوبة ومنه: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾) اهـ. وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ١٣٩ - ١٤٠، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٦٨، و"المجمل" ١/ ٩١، و"مقاييس اللغة" ١/ ٧٥، و"المفردات" ص ٧٠، و"اللسان" ١/ ٥١ (أذن).
422
ذلك قال الحسن (١)، وقال ابن عباس: (وإذ قال ربك) (٢)، وهو معنى وليس تفسير، وذلك أن الإعلام يكون بالقول ففي أعلم معنى قال.
وقال في رواية عطاء: (حتم ربك) (٣). وقال الزجاج: (معناه: تألى ربك) (٤). وأكثر أهل اللغة على (أن التأذن بمعنى: الإيذان وهو الإعلام) (٥).
وقال أبو علي الفارسي: (قال سيبويه: (آذن أعلم وأذَّن نادى وصاح للأعلام، منه قوله تعالى: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٤٤]. قال: وبعض العرب يجري أذنت مجرى آذنت فيجعل أذن وآذن بمعنى" (٦). فإذا كان أَذَّن
(١) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٥٦، والماوردي ٢/ ٢٧٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٧٩.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٧، وذكره الثعلبي ٦/ ١٥ ب، والبغوي ٣/ ٢٩٥.
(٣) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٧٩، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٤١٣ عن عطاء فقط، وجاء عند الثعلبي ٦/ ١٥ ب، والبغوي ٣/ ٢٩٥ عن عطاء قال: (حكم ربك).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٧، وتألى أي: حلف وأقسم.
(٥) وهو قول أهل التفسير أيضًا، قال النحاس في "معانيه" ٣/ ٩٦: (قال أهل التفسير: معناه: أعلم ربك، وهذا قول حسن لأنه يقال: تعلم بمعنى أعلم) اهـ.
وقال أبو عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٣١: (أي: أمر من الإذن وأحل وحرم ونهى) اهـ.
وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٢، و"تفسير غريب القرآن" ١/ ١٨٢، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٠٢، و"نزهة القلوب" ص ١٥٨، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٨، و"تفسير المشكل" ص ٨٧
(٦) في "الكتاب" ٤/ ٦٢ قال سيبويه: (وقد يجيء فعلت وأفعلت في معنى واحد نحو: آذنت وآذنت أعلمت وأذنت النداء والتصويت بإعلان، وبعض العرب يجري أذنت وآذنت مجرىَ سمَّيت وأسميتُ) اهـ.
وانظر: "الحجة" لأبي علي ٢/ ٤٠٤.
423
أعلم في لغة بعضهم فَتَأَذَّن تَفَعَّل من هذا وليس تفعل هنا بمنزلة تَقَيَّس (١) وتَشَجَّع (٢)، ولكنه بمنزلة (فعَّل) كما أن تَكَبَّر في قوله: ﴿الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر: ٢٣]. ليس على حد (تكبَّر زيد) إذا تعاطى الكبر، ولكن ﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾ بمنزلة الكبير، كما أن قوله (٣): ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: ١٨] تقديره: علا وليس على حد (تغافل) و (تناسى) إذا أظهر (٤) شيئًا من ذلك ليس فيه، فبناء الفعلين يتفق والمعنى يختلف، كذلك ﴿تَأَذَّنَ﴾ بمنزلة عَلِمَ، ومثل (تَفَعَّلَ) في أنه يراد به (فَعَل)، قول زهير:
تَعَلَّمْ أن شرَّ الناس قوم ينادى في شعارهم يسار (٥)
ليس يريد: تعلَّم هذا عن جهل، كما يريدون بقولهم: تعلم الفقه، وإنما يريد به: اعلم، كذلك ﴿تَأَذَّنَ﴾ معناه عَلِم، ومما يدل على أن معناه العلم وقوع لام اليمين بعده، كما يقع بعد العلم في نحو: علم الله لأفعلن، وكأن المعنى في ﴿تَأَذَّنَ﴾، علم ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، فتعلق (٦) الجواب به كما يتعلق بالقسم من حيث استعمل
(١) تقيس - بالفتح. يقال: تقيس الرجل أي: انتسب إلى قبيلة قيس. انظر: "اللسان" ٦/ ٣٧٩٤ (قيس).
(٢) انظر: "الكتاب" ٤/ ٧١.
(٣) في: (أ): (قوله): ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وهي الآية [النحل: ١]، وفي "الحجة" ٢/ ٤١١، كما أن قوله عز وجل: ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ﴾ [الإسراء: ٤٣].
(٤) في (ب): (ظهر).
(٥) "ديوانه" ص ٥١، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٧، الثعلبي ٦/ ١٥ ب، وابن عطية ٦/ ١٢٤، و"ووضح البرهان" للغزنوي ١/ ٣٦٨، والقرطبي ٧/ ٣٠٩ وتعلم أي: اعلم، والشعار العلامة. ويسار: اسم راعي إبل له، انظر: "شرح ديوان زهير لثعلب" ص ٢١٩.
(٦) في (ب): (يتعلق).
424
استعمال القسم) (١).
وقد ذكرنا استعمال العلم بمعنى القسم في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ [البقرة: ١٠٢]، في سورة البقرة.
وقوله تعالى: ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ﴾، يعني: على اليهود. وقوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ فيه تقديم وتأخير، أي: ليبعثن عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة] (٢).
قال ابن عباس (٣) والحسن (٤) وسعيد بن جبير (٥) وقتادة (٦): (هم العرب؛ محمد وأمته بعثهم الله على اليهود يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية)، ومعنى البعث هاهنا: إرسالهم عليهم وأمرهم بذلك.
(١) "الحجة" لأبي علي ٢/ ٤٠٤ - ٤١٢. وانظر ابن عطية ٦/ ١٢٤، والقرطبي ٧/ ٣٠٩، و"الدر المصون" ٥/ ٥٠٠ ومعنى الآية: علم الله ليبعثن، ويقتضي أن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء كما تقول في أمر عزمت عليه غاية العزم: علم الله لأفعلن كذا، وأجري مجرى فعل القسم كعلم الله، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو ﴿لَيَبْعَثَنَّ﴾ أفاده ابن عطية والسمين وقالا: (قالت فرقة: تأذن أعلم، وهو قلق من جهة التصريف إذ نسبة تأذن إلى الفاعل غير نسبة أعلم وبين ذلك فرق بين التعدي وغيره) اهـ.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ١٠٢ - ١٠٣ من طرق جيدة عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وابن زيد وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠٤ من طرق جيدة عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد.
(٤) ذكره الماوردي ٢/ ٢٧٣، عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة.
(٥) أخرجه أيضًا النحاس في "معانيه" ٣/ ٩٧ بسند جيد عن سعيد بن جبير، وذكره الثعلبي ٦/ ١٥ ب.
(٦) أخرجه أيضًا عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٣٩ - ٢٤٠ بسند جيد عن قتادة.
425
وقال عطاء: (يريد: بُخْتُ نصَّر (١) وغيره إلى اليوم) (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾. قال ابن عباس: (يريد: في الدنيا والآخرة) (٣).
ومعنى هذا: أنه سريع العقاب لمن استحق تعجيله؛ لأنه لا يتأخر عن وقت إرادته. عاقب اليهود في الدنيا بسوء العذاب (٤).
١٦٨ - قوله تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا﴾، قال ابن عباس: (يريد: فرقناهم في جميع البلاد) (٥).
قال أهل المعاني (٦): (فرقهم الله تعالى فتشتت أمرهم، ولم تجتمع لهم كلمة) (٧).
(١) بخت نصر: قائد وملك من ملوك بابل قبل الميلاد، قال في "القاموس" ص ٦٢١ (نصر): (بخت نصر بالتشديد أصله بوخت ومعناه: ابن ونصر كبقم صنم وكان وجد عند الصنم ولم يعرف له أب فنسب إليه - خرب بيت المقدس) اهـ. وانظر أخباره في "تاريخ الطبري" ١/ ٥٣٨ - ٥٦٠، و"الكامل" لابن الأثير ١/ ٢٦١ - ٢٧١.
(٢) ذكره الرازي ١٥/ ٤٢، والقرطبي ٧/ ٣٠٩ بلا نسبة. والقول الأول هو قول أهل التفسير كما ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٦١ وهو اختيار القرطبي ٧/ ٣٠٩، والظاهر أن الآية عامة. قال ابن عطية ٦/ ١٢٥: (الصحيح أنها عامة في كل من حال اليهود معه هذه الحال) اهـ.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٠٣، والسمرقندي ١/ ٥٧٨.
(٥) أخرج الطبري ٩/ ١٠٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠٥ بسند جيد نحوه، وفي "الدر المنثور" ٣/ ٢٥٥، و"مسائل نافع بن الأزرق" ص ١٦٤ عن ابن عباس قال: (﴿أُمَمًا﴾ أي: فرق).
(٦) لفظ: (قال أهل المعاني فرقهم الله تعالى) ساقط من (أ).
(٧) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣١، و"تفسير غريب القرآن" ١/ ١٨٢، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٠٤، و"معاني النحاس" ٣/ ٩٨، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٧٤.
426
وقوله تعالي: ﴿مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ﴾. قال ابن عباس (١) ومجاهد (٢): (يريد: الذين أدركوا النبي - ﷺ - وآمنوا به).
وقال الكلبي: (يعني: الذين ذكرهم في قوله: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: ١٥٩]، وهم الذين وراء الصين) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ﴾، قال: (يريد: الذين كفروا) (٤).
وقوله: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ﴾، أي: عاملناهم معاملة المبتلي المختبر. ﴿بِالْحَسَنَاتِ﴾، وهي: النعيم والخصب والعافية، ﴿وَالسَّيِّئَاتِ﴾ وهي: الجدب والشدائد (٥).
قال أهل المعاني: (وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة، أما النعم فلارتباطها والازدياد (٦) منها، وأما النقم فلكشفها، والسلامة منها) (٧).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٦١، والبغوي ٣/ ٢٩٥، والرازي ١٥/ ٤٢، والخازن ٢/ ٣٠٤ عن ابن عباس ومجاهد.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠٥ بسند جيد.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٧، وذكره الثعلبي ٦/ ١٥ ب، والبغوي ٣/ ٢٩٥، ورجح الطبري ٩/ ١٠٤، الخازن ٢/ ٣٠٤: أنهم من آمن بالله ورسوله وثبت منهم على دينه قبل مبعث عيسى -عليه الصلاة والسلام -، قال الخارن: (هذا هو الصحيح ويدل عليه قوله بعد: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ [الأعراف: ١٦٩] والخلف بعد الذين وصفهم بالصلاح من بني إسرائيل) اهـ.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٧.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٠٤، و"معاني النحاس" ٣/ ٩٨، والسمرقندي ١/ ٥٧٨، والماوردي ٢/ ٢٧٤.
(٦) في (أ): (ولازديادها وأما).
(٧) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٣/ ٢٨٠، والرازي ١٥/ ٤٣، والخازن ٢/ ٣٠٤.
427
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: كي يتوبوا) (١).
قال أهل المعاني: (إنهم مارَّون على وجوههم في جهة الباطل، فدعوا إلى الرجوع عنه إلى جهة الحق، والانصرافُ عن الباطل رجوعٌ إلى الحق).
١٦٩ - قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، قال ابن عباس: (فخلف من بعد هؤلاء الذين قطعناهم خلف من اليهود) (٢).
وقال في رواية عطاء: (يريد: نسلًا منهم) (٣).
يعني: أولاد هؤلاء الذين فرقهم في البلاد.
وقوله تعالى: ﴿خَلْفٌ﴾. قال الزجاج: (يقال للقرن الذي يجيء في أثر قرن: خلف، والخلف ما أخلف عليك بدلاً مما أخذ منك، ويقال في هذا: خلف أيضًا) (٤).
وقال الفراء: ﴿خَلْفٌ﴾ أي: قرن بجزم اللام، والخَلَف ما استخلفته، تقول: أعطاك الله خلفا مما ذهب لك (٥).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٧، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٦٢.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٨، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٨٠.
(٣) لم أقف عليه، ورجح الطبري ٩/ ١٠٥: (أن المراد خلف سوء من اليهود؛ لأنه لا دليل يوجب صحة القول به على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم)، وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ٩٨: (قال مجاهد: يعني: النصارى، وقال غيره: يعني: أبناءهم، وهذا أولى القولين، والله أعلم لأنه يقال لولد الرجل: خلفه) اهـ.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٨، وزاد: (فأما ما أخلف عليك بدلا مما ذهب منك فهو الخلف بفتح اللام) اهـ.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٩، وزاد: (وأنت خلف سوء سمعت من العرب) اهـ.
428
وقد توافقا في هذا القول، وقال أحمد بن يحيى: (الناس كلهم يقولون: خَلَف صدق وخَلَف سوء، وخَلْف (١) للسوء لا غير، وأبو عبيدة (٢) معهم، ثم (٣) انفرد وحده فقال: ويقال للصدق أيضًا: خَلْف) (٤).
قال الأزهري: (وأخبرني المنذري بإسناده عن الفراء قال: الخَلْف يذهب به إلى الذم، والخَلَف خلف صالح، وقد يكون في الرديء خَلْف وفي الصالح خَلْف لأنهم يذهبون به (٥) إلى القرن، قال: فأرى الفراء قد أجاز في الصالح خَلْف كما أجازه أبو عبيدة) (٦)، وعلى هذا ينشد لحسان:
لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع (٧)
وقال ابن السكيت: (يقال: هذا خلف صدق، وهذا خلف سوء، وهؤلاء خلف سوء، جمعه وواحده (٨) سواء، وأنشد (٩):
(١) أي: بسكون اللام.
(٢) في "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٢، قال: (خلْف ساكن ثاني الحروف وإن شئت حركت الحرف الثاني وهما في المعنى واحد كما قالوا: أثر وأثر وقوم يجعلونه إذا سكنوا ثاني حروفه إذا كانوا مشركين وإذا حركوه جعلوه خلفًا صالحًا) اهـ.
(٣) لفظ: (ثم) ساقط من (ب).
(٤) "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٨٦ (خلف).
(٥) لفظ: (ب) ساقط من النسخ.
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٨٦ (خلف).
(٧) "ديوانه" ص ٤٨، و"سيرة ابن هشام" ٣/ ٣٠٨، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٠٤، والثعلبي ٦/ ١٦ أ، وابن عطية ٦/ ١٢٧، والقرطبي ٧/ ٣١١، و"اللسان" ٢/ ١٢٣٩ (خلف)، والخازن ٢/ ٣٠٥، و"البحر" ٤/ ٤١٥، و"الدر المصون" ٥/ ٥٠٣، وفي "الديوان": (لنا القدم الأولى إليك وخلفنا)، بسكون اللام.
(٨) في (ب): (وواحد سواء)، وهو تحريف.
(٩) الشاهد للبيد في "ديوانه" ص ٣٦، و"العين" ٤/ ٢٦٦، و"الكامل" للمبرد ٤/ ٣٣، =
429
وبقيتُ في خَلْفٍ كجلد الأجرب) (١)
وقال أصحاب العربية (٢): (الخلفُ المستعمل في الذم مأخوذ من الخَلَف، وهو الفساد، يقال للرديء من القول: خلف، ومنه المثل: نطق خلفًا (٣)، وخَلَف النبيذ يخلف خُلُوفًا وخلفًا إذا فسد، وكذلك الفم إذا تغيرت رائحته).
وقال النضر: (الخلف بتحريك اللام وإسكانها في القرن السوء واحد، فأما في القرن الصالح فتحريك اللام لا غير، وأنشد (٤):
إنا وجدنا خلفًا (٥) بئس الخلف) (٦)
= و"جمهرة أشعار العرب" ص ٦٩، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٠٥، و"الجمهرة" ١/ ٦١٥، و"أمالي القالي" ١/ ١٥٨، و"الصحاح" ٤/ ١٣٥٤ (خلف)، و"ديوان المعاني" ٢/ ١٩٨، و"تفسير الثعلبي" ٦/ ١٦ أ، وخلف بسكون اللام وصدره:
ذهب الذين يعاشُ في أكنافهم
(١) "إصلاح المنطق" ص ١٣ و ٦٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٠٨٦ (خلف).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٠٤، و"أمالي القالي" ١/ ١٥٨.
(٣) هذا من أمثال العرب المشهورة يضرب للرجل يطيل الصمت ثم يتكلم بالخطأ يقال: سَكَتَ ألفا ونطق خلفاً، أي: سكت عن ألف كلمة ونطق بواحدة رديئة، انظر: "إصلاح المنطق" ص ٦٦، و"أمالي القالي" ١/ ١٥٨، و"جمهرة الأمثال" ١/ ٥٠٩، و"مجمع الأمثال" ١/ ٣٣٠، و"المستقصى" ٢/ ١١٩.
(٤) لم أقف على قائله، وهو في كتب "الفرق": لقطرب ص ٦٨، وللأصمعي ص ٧٨ و٧٩، ولأبي حاتم السجستاني ص ٣٦، ولثابت بن أبي ثابت ص ٤٤، و"الكامل" للمبرد ٣/ ٣٧٢ - ٣٧٣، و"الجمهرة" ١/ ٦٠٧، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٠٥٠، و"الصحاح" ٤/ ١٣٥٢، و"تفسير القرطبي" ٧/ ٣١١، و"اللسان" ٢/ ١٢٣٨، و"تاج العروس" ١٢/ ١٧٤ (خضف)، وعجزه:
عبدًا إذا ما ناء بالحمل خضف
(٥) في (ب): (خلفنا) وكذا في "الدر المصون" ٥/ ٣٠٥، وفي غيره (خلفًا).
(٦) "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٦ أو"البحر" ٤/ ٤١٦، و"الدر المصون" ٥/ ٥٠٣، وفي =
430
فجمع اللغتين في المذموم، وأكثر أهل اللغة (١) على هذا إلا الفراء وأبا عبيدة فإنهما أجازا في الصالح جزم اللام (٢).
وقوله تعالى: ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾. قال أبو عبيد: (جميع متاع الدنيا عَرَض بفتح الراء، يقال: إن الدنيا عرض حاضر، وأما العَرْض بسكون الراء، فما خالف العين (٣)، الدراهم والدنانير التي هي الثمنات، وجمعه عُروض، وكأن العَرْض من العَرَضِ وليس كل عَرَض عَرْضًا) (٤).
= "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٩٢: (قال النضر بن شميل: الخلف يكون في الخير والشر وكذلك خلف) اهـ.
(١) انظر: "العين" ٤/ ٢٦٥، و"الجمهرة" ١/ ٦١٥، و"الصحاح" ٤/ ١٣٥٤، و"المجمل" ٢/ ٣٠٠، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢١٠، و"المفردات" ص ٢٩٣، و"اللسان" ٢/ ١٢٤١، (خلف)، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٥٠٣: (هذا قول جماعة أهل اللغة إلا الفراء وأبا عبيدة) اهـ. بتصرف.
(٢) والحاصل أن خلف بفتح اللام وإسكانها، قيل: بمعنى واحد وقيل: الساكن في الطالح، والمفتوح في الصالح، وأكثرهم على جواز الفتح والسكون في الرديء، وأما الصالح فبالفتح فقط، قال المبرد في "الكامل" ٤/ ٣٣: (قلما يستعمل خلف بالسكون إلا في الشر) اهـ. وقال الماوردي ٢/ ٢٧٤: (هو بالتسكين في الذم، وبالفتح في الحمد وهذا أظهر وفي قول الشعراء أشهر) اهـ. وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٣، و "تفسير غريب القرآن" ١/ ١٨٢، و"نزهة القلوب" ص ٢١٩، و"تفسير المشكل" ص ٨٨، و"زاد المسير" ٣/ ٢٨٠، و"البحر" ٤/ ٤١٥.
(٣) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٩٥: (فما خالف الثمنين: الدنانير والدراهم من متاع الدنيا وأثاثها) اهـ.
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٣٩٥ وفيه: (فكل عَرْض داخل في العَرَضَ، وليس كل عَرَض عَرْضًا) اهـ. وانظر: "العين" ١/ ٢٧١، و"مجاز القرآن" ١/ ٢٣٢، و"معاني الأخفش" ٢/ ٣١٣ - ٣١٤، و"الجمهرة" ٢/ ٧٤٧، و"الصحاح" ٣/ ١٠٨٢، و"المجمل" ٢/ ٦٥٩، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٢٦٩، و"المفردات" ص ٥٥٩، و"اللسان" ٥/ ٢٨٧٧ (عرض).
431
قال ابن عباس (١): (يأخذون الطمع إذا عرض لهم حلالًا أو حرامًا من الرشى (٢) وغيرها).
وقال عطاء عنه: (يريد: ما أشرف لهم من الدنيا) (٣)، و ﴿الْأَدْنَى﴾ تذكير (الدنيا) وأراد عرض هذه الدار الدنيا، فلما ترك الاسم المؤنث ذكر النعت (٤)، وفي ﴿الْأَدْنَى﴾ قول آخر (٥) لمجاهد نذكره بعيد.
قال المفسرون: (ذم الله تعالى بهذه الآية اليهود ﴿وَرِثُوا الْكِتَابَ﴾ فقرؤوه، وعلموه، وضيعوا (٦) العمل به، وخالفوا حكمه، يرتشون في حكم الله وتبديل كتابه وتغيير صفة رسوله) (٧).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٨، وفي "زاد المسير" ٣/ ٢٨١، عن ابن عباس قال: (يأخذون ما أحبوا من حلال أو حرام) اهـ.
انظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٥٥ - ٢٥٦.
(٢) الرُّشَي: جمع رشوة، انظر: "اللسان" ٣/ ١٦٥٣ (رشا)، وقال الماوردي ٢/ ٢٧٥، في معنى الآية: (يعني: الرشوة على الحكم في قول الجميع) اهـ.
(٣) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ١٠٦، بسند ضعيف، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٦٢، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠٨ بسند جيد عن عطاء نحوه.
(٤) هذا قول الثعلبي ٦/ ١٧ أ، والأدنى: الأقرب، والدنو غير مهموز مصدر دنا يدنو إذا قرب.
انظر: "العين" ٨/ ٧٥، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٢٣٣، و"الصحاح" ٦/ ٢٣٤١، و"المجمل" ٢/ ٣٣٦، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٣٠٣، و"المفردات" ص ٣١٨، و"اللسان" ٣/ ١٤٣٦ (دنا).
(٥) لفظ: (آخر) ساقط من: (أ).
(٦) في (ب): (وضيعوه العمل وخالفوا)، وهو تحريف.
(٧) هذا قول الثعلبي ٦/ ١٦ ب، عن المفسرين، وانظر البغوي ٣/ ٢٩٦، والقرطبي ٧/ ٣١١.
432
﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾. قال ابن عباس (١) والمفسرون (٢): (كانوا يتمنون على الله المغفرة، يقولون: ما عملنا بالليل كفر عنا [بالنهار، وما عملنا بالنهار كفر عنا] (٣) بالليل) و (٤) قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾، قال ابن عباس: (إذا أصابوا عرضًا مثل رشوتهم تلك التي أصابوا بالأمس قبلوه) (٥).
وقال مجاهد: ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾، ما أشرت لهم اليوم شيء من الدنيا حلال أو حرام أخذوه وتمنوا على الله المغفرة، وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه) (٦)، فالأدنى على هذا عبارة عن اليوم الأدنى، وهو اليوم الذي هم فيه.
ونحو هذا قال قتادة (٧) والسدي (٨) وقالوا: (هذا إخبار عن إصرارهم على الذنوب). وقال الحسن: (هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا، وأنهم لا يشبعهم شيء) (٩).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٨.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٠٧، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٨، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٨، والثعلبي ٦/ ١٦ ب.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٣٨، وهو قول الطبري ٩/ ١٠٦، والسمرقندي ١/ ٥٧٨.
(٦) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٩، وأخرجه الطبري ٩/ ١٠٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠٧ من طرق جيدة.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٠، بسند جيد.
(٨) أخرجه الطبري ٩/ ١٠٦، من طرق جيدة عن قتادة والسدي.
(٩) ذكره والماوردي ٢/ ٢٧٥، وابن الجوزي ٣/ ٢٨١، والرازي ١٥/ ٤٤.
433
وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾. قال عطاء عن ابن عباس: (وكّد الله في التوراة ﴿أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾، فقالوا الباطن).
قال ابن عباس: (يعني: قولهم: ﴿سَيُغْفَرُ لَنَا﴾، فذلك قولهم على الله غير الحق) (١).
وقال ابن جريج: (أي: فيما يرجون على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يزالون يعودون لها ولا يتوبون منها، فذلك قولهم على الله غير الحق) (٢).
وقال الزجاج: (قوله: ﴿وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ﴾ يدل على إصرارهم على الذنب، والله عز وجل وعد بالمغفرة في العظائم التي توجب النار مع التوبة، فقال: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾) (٣).
وبيان هذا ما قاله بعض المفسرين قال: (ليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار) (٤)، وقوله تعالى: ﴿وَدَرَسُوا مَا فِيهِ﴾ أي: فهم ذاكرون لما (٥) أخذ عليهم لأنهم قد قرؤوه (٦).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٦٣، وابن الجوزي ٣/ ٢٨١.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٠٦ بسند جيد عن ابن جريج عن ابن عباس، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي المكي إمام، لم يسمع من ابن عباس، انظر: "سير أعلام النبلاء" ٦/ ٣٣٤، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٦٠١.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٨، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٠٧، و"معاني النحاس" ٣/ ١٠٠، والسمرقندي ١/ ٥٧٨.
(٤) ذكره البغوي ٣/ ٢٩٦، وابن الجوزي ٣/ ٢٨١، والرازي ١٥/ ٤٤.
(٥) في (ب): (ذاكرون ما أخذ عليهم).
(٦) هذا قول الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٨٨، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٠٧، و"معاني النحاس" ٣/ ١٠٠، والسمرقندي ١/ ٥٧٩.
434
١٧٠ - وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾، يقال: مسَّكت (١) بالشيء، وتمسكت به، واستمسكت به، وامتسكت به (٢)، وروى أبو بكر عن عاصم (٣) ﴿يُمْسِكُونَ﴾ مخففه، وحجته قوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، وقوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ (٤) [الأحزاب: ٣٧]، ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ (٥) [المائدة: ٤]، والتشديد أقوى، لأن التشديد للكثرة، وهاهنا أريد به الكثرة لأنه قال في موضع آخر: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران: ١١٩]. والإيمان بكل الكتاب يوجب التمسك الذي هو للكثرة (٦)، ولأنه يقال: أمسكته، وقيل ما يقال: أمسكت به (٧).
(١) مسك أصل يدل على حبس الشيء، وإمساك الشيء التعلق به وحفظه، واستمسكت بالشيء إذا تحريف الإمساك.
ويقال: أمسكت عنه كذا أي: منعته، انظر: "العين" ٥/ ٣١٨، و"الجمهرة" ٢/ ٨٥٥، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٩٦، و"الصحاح" ٤/ ١٦٠٨، و"المجمل" ٣/ ٨٣٠، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٣٢٠، و"المفردات" ص ٧٦٨، و"اللسان" ٧/ ٤٢٠٣ (مسك).
(٢) لفظ: (به) ساقط من (أ).
(٣) قرأ: أبو بكر عن عاصم ﴿يُمَسِّكُونَ﴾ بسكون الميم وتخفيف السين، وقرأ الباقون بفتح الميم وتشديد السين، انظر: "السبعة" ص ٢٩٧، و"المبسوط" ص ١٨٦، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٨، و"التيسير" ص ١١٤، و"النشر" ٢/ ٢٧٣.
(٤) لفظ: (﴿زَوْجَك﴾) ساقط من (أ).
(٥) في (أ): (وكلوا)، وكذا في "الحجة" لأبي علي ٤/ ١٠٣٦، وفي (ب): (كلوا)، وهو تحريف.
(٦) في (ب): (الذي هو الكثرة).
(٧) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١٠٣ - ١٠٤، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٢٩، و"إعراب القراءات" ١/ ٢١٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٦، ولابن زنجلة ص ٣٠١، و"الكشف" ١/ ٤٨٢.
435
قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: أمة محمد - ﷺ -) (١).
وقال عامة المفسرين (٢): (نزلت في مؤمني أهل الكتاب). فعلى قول عطاء المراد بالكتاب: القرآن، وعلى قول المفسرين المراد به: التوراة، وأما معنى التمسك بالكتاب؛ فقال الفراء (٣): (معناه (٤): يأخذون بما فيه). وقال الزجاج: (أي: يؤمنون به ويحكمون بما فيه (٥). وقال غيره: (التمسك بالكتاب ارتباط به على ما بيّن فيه، كالقابض على الشيء الذي يرجو النجاة من قبله والفوز من جهته) (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾. إنما ذكرت ﴿الصَّلَاةَ﴾ مع دخولها في التمسك بالكتاب للبيان عن جلالة موقعها، وعظم منزلتها في طاعة الله، وأنها من أوكد الأمور التي يجب المحافظة عليها (٧)، واختلف النحويون (٨) في إعراب الآية، فقال قوم: هذه الآية معطوفة على ما قبلها، والتقدير:
(١) ذكره الثعلبي ٦/ ١٧ ب، والبغوي ٣/ ٢٩٧، عن عطاء فقط.
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ١/ ٢٤٩، وأخرجه الطبري ٩/ ١٠٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٠٩، من طرق جيدة عن مجاهد وابن زيد وهو اختيار السمرقندي ١/ ٢٧٩، وابن الجوزي ٣/ ٢٨٢، والقرطبي ٧/ ٢١، والخازن ٢/ ٣٠٦.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٩.
(٤) في (ب): (معناه يحكمون يأخذون بما فيه).
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٩، ومثله قال الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٩٧ (مسك).
(٦) قال الطبري ٩/ ١٠٨ في معنى الآية: (الذي يعملون بما في كتاب الله)، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ١٠٠، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٢٧٩.
(٧) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ٤٥، والخازن ٢/ ٣٠٦، و"البحر" ٤/ ٤١٧.
(٨) انظر: "الكشاف" ٢/ ١٢٨، وابن عطية ٦/ ١٢٩، والرازي ١٥/ ٤٥.
436
﴿وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾، ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾، وقال الأكثرون منهم: ﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ، ثم اختلفوا في خبره، فقال قوم (١): خبره محذوف تقديره: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ نعطيهم أجرهم، ودل على هذا المحذوف قوله: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾؛ [لأن فيه معنى التعليل فكان في ذكر العلة ما يغني عن المعلول.
وقال الزجاج: (الذي أختار أن يكون التقدير: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾] (٢) منهم) (٣)، فعلى هذا الخبر قوله: ﴿إِنَّا﴾، والعائد إلى المبتدأ محذوف وهو (منهم).
قال ابن الأنباري: (وخص ﴿الْمُصْلِحِينَ﴾ بأن وعدهم حفظ الأجر إذ كان منهم من لم يُصلح فتكاملت آثامه بتضييعه وصايا ربه وإقدامه على تكذيب النبيين ودفع ما يقف على نعته من أمر محمد - ﷺ -).
قال أبو بكر: (وقال بعض النحويين الراجع إلى المبتدأ قوله: ﴿الْمُصْلِحِينَ﴾، وتلخيص المعنى: إنا لا نضيع أجرهم فأظهرت كنايتهم بالمصلحين كما يُقال: عليُّ لقيتُ الكسائي. وأبو سعيد رويت عن الخدري (٤)، يراد (٥): لقيته ورويتُ عنه، وأنشد:
(١) انظر: "غرائب التفسير" ١/ ٤٢٦، و"البيان" ١/ ٣٧٩، و"التبيان" ص ٣٩٥، و"الفريد" ٢/ ٣٨٢، و"الدر المصون" ٥/ ٥٠٧.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٨، وهو قول النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٤٨ - ٦٤٩، ومكي في "المشكل" ١/ ٣٠٥.
(٤) تقدمت ترجمته.
(٥) في (ب): (يقال لقيته)، وهو تحريف.
437
فيا ربَّ ليلى أنت في كلِّ موطنٍ وأنت الذي في رحمة الله أطمع (١)
أراد في رحمته (٢) فأظهر الهاء) (٣)، وهذان الوجهان ذكرهما أبو بكر؛ معنى قول الزجاج (٤) في هذه الآية، والأول منهما (٥) اختياره (٦).
﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٧١].
١٧١ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾، اختلفت (٧) عبارات أهل اللغة (٨) والتفسير (٩) في معنى ﴿نَتَقْنَا﴾؛ فقال الليث: (النَّتق الجذب، تقول: نتقت الغرب من البئر نتقًا إذا جذبته بمرَّة جذبة، وبعث الله الملائكة فنتقوا جبل طور فاقتلعوه من أصله حتى أطلعوه على عسكر بني إسرائيل) (١٠).
(١) الشاهد بلا نسبة في "زاد المسير" ٣/ ٢٨٣، و"مغني اللبيب" ١/ ٢١٠ - ٢/ ٥٠٤ - و٥٤٦، وقال السيوطي في "شرح شواهد المغني" ٢/ ٥٥٩: (قيل: إنه لمجنون بني عامر) اهـ. وهو ليس في "ديوانه".
(٢) في (ب): (في رحمته أطمع فأظهر).
(٣) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٨٢ - ٢٨٣.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٨٨ - ٣٨٩.
(٥) في (ب): (منها).
(٦) قال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤١٨: (والظاهر أن قوله: ﴿وَالَّذِينَ﴾ استئناف مرفوع بالابتداء وخبره الجملة بعده، ولا ضرورة إلى ادعاء الحذف) اهـ.
(٧) في (ب): (اختلف)، وهو تحريف.
(٨) انظر: "الجمهرة" ١/ ٤٠٨، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٣٨٧، و"المجمل" ٣/ ٨٥٤، و"المفردات" ص ٧٩٠، و"اللسان" ٧/ ٤٣٧٧ (نتق).
(٩) أخرج الطبري ٨٢/ ١١٠ من طرق جيدة عن ابن عباس وقتادة قالا: (أي: رفعنا)، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٠ من طرق جيدة عن ابن عباس وعطاء.
(١٠) "العين" ٥/ ١٢٩ - ١٣٠، وفي "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٠٥، قال الليث: (النتق =
438
وقال (١) الفراء في كتاب "المصادر": (يقول: علّقنا (٢) الجبل فوقهم فرفعناه، نتقهُ ينتقهُ نتقًا) (٣).
وقال في المعاني: ﴿نَتَقْنَا﴾ رفعنا (٤). وقال بعض أهل اللغة (٥): (أصل النتق: الزعزعة والنفض، ومن هذا يقال: نتقت السقاء إذا نفضته لتقلع منه زبدته) (٦)، وإلى هذا القول ذهب مجاهد وابن قتيبة، قال مجاهد: ﴿نَتَقْنَا الْجَبَلَ﴾ كما تنتق الزبدة) (٧).
وقال ابن قتيبة: ﴿نَتَقْنَا الْجَبَلَ﴾ أي: زعزعناه، ومنه يقال: نتقت السقاء، أي: نفضته لتقلع الزبدة منه).
وقال أبو عبيدة: (أصل النتق: قلع الشيء من موضعه والرمي به، يقال: نتق ما في الجراب إذا رمى به وصبّه، وامرأة ناتق منتاق إذا كثر ولدها، لأنها ترمي بأولادها رميًا) (٨).
= الجذب ونتقت الغَرْب من البئر إذا جذبته بمرة) اهـ. والغَرْب بفتح الغين وسكون الراء: الدلو العظيمة، انظر: "اللسان" ٦/ ٣٢٢٧ (غريب).
(١) في (ب): (فقال).
(٢) في (ب): (علقت).
(٣) ذكره الثعلبي ٦/ ١٧/ ب، وذكره الطبري ٩/ ١١٠ عن بعض الكوفيين.
(٤) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٩، وزاد: (رفع الجبل على عسكرهم فرسخًا فرسخًا) اهـ.
(٥) ذكره في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٠٥ بلا نسبة، وهو في أكثر المراجع المذكورة.
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ١٠٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٠ بسند ضعيف.
(٧) "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٢، وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٢، و"معاني النحاس" ٣/ ١٠١.
(٨) ذكره الرازي ١٥/ ٤٥، والسمين في "الدر" ٥/ ٥٠٩، وذكره الطبري ٩/ ١١٠، عن بعض البصريين، وقال الشيخ أحمد شاكر في "الحاشية" (يعني: أبا عبيدة) وفي "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٢ قال: (أي: رفعنا فوقهم) اهـ. وفي "الصحاح" ٤/ ١٥٥٨ (قال أبو عبيدة: أي: زعزعناه) اهـ.
439
وأحسن العبارات وأجمعها (١) أن يقال: معنى ﴿نَتَقْنَا الْجَبَلَ﴾: رفعناه باقتلاع له من أصله.
وقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: (كأنه سقيفة) (٢)، والظلة (٣): كل ما أظلك من سقف بيت، أو سحابة، أو جناح حائط، والجمع ظلل وظلال (٤). أما (٥) تفسير الآية وقصتها فقد ذكرنا في سورة البقرة عند قوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ الآية [البقرة: ٦٣].
وقوله تعالى: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾. قال المفسرون (٦): (علموا
(١) هذا هو الظاهر واختيار أكثرهم، انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٥٩، و"نزهة القلوب" ص ٤٤٥ - ٤٤٦، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٩، و"تفسير المشكل" ص ٨٨، و"تفسير ابن الجوزي" ٣/ ٢٨٣، والرازي ١٥/ ٤٥، والقرطبي ٧/ ٣١٣، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤١٨: (النتق الجذب بشدة وفسره بعضهم بغايته وهو القلع) اهـ. وقال السمين في "الدر" ٥/ ٥٠٩ - ٥١٠: (اختلفت فيه عبارات أهل اللغة وكلها معان متقاربة) اهـ. بتصرف.
وقال ابن عطية ٦/ ١٣٠: (أي: اقتلعنا ورفعنا. وقد جاء في القرآن بدل هذه اللفظة في هذه القصة بعينها ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: ٦٣]) اهـ.
(٢) ذكره الرازي ١٥/ ٤٥، وذكره الثعبي ٦/ ١٨ أ، والبغوي ٣/ ٢٩٧ عن عطاء فقط.
(٣) انظر: "العين" ٨/ ١٤٨، و"الجمهرة" ١/ ١٥٣، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٤٦، و"الصحاح" ٥/ ١٧٥٥، و"المجمل" ٢/ ٥٩٩، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤٦١، و"المفردات" ص ٥٣٥ (ظلل).
(٤) في (ب): (ظلل وأظلال)، وفي "اللسان" ٥/ ٢٧٥٥ (ظلل): (كل شيء أظلك فهو ظلَّة ويقال: ظلُّ وظلال وظلة وظلل، والظلُّ بالكسر جمعه أظلال وظلال وظلول) اهـ.
(٥) في (ب): (فأما).
(٦) انظر: السمرقندي ١/ ٥٧٩، والثعلبي ٦/ ١٨ أ، والماوردي ٢/ ٢٧٦، والبغوي ٣/ ٢٩٧، وابن الجوزي ٣/ ٢٨٣، والخازن ٢/ ٣٠٦، وذكره عن المفسرين الرازي ١٥/ ٤٥.
440
وأيقنوا)، وقال أهل المعاني: (قوي في نفوسهم ﴿أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ إن خالفوا) (١)، وهذا هو الأظهر (٢) في معنى الظن، ومضى الكلام فيه عند قوله: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦].
١٧٢ - وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾، قال الزجاج: (موضع ﴿إِذْ﴾ نصب، المعنى (٣) واذكر ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾) (٤)، وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾، قوله: ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ بدل من قوله ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ﴾، والمعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم.
قاله الزجاج (٥)، وهو معنى قول الكناني (٦)؛ قال: (لم يذكر ظهر آدم، وإنما أخرجوا جميعًا من ظهره؛ لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، لذلك (٧) قال: ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾، واستغنى عن ذكر ظهر آدم لما عُلم أنهم كلهم بنوه
(١) ذكره الماوردي ٢/ ٢٧٦، والرازي ١٥/ ٤٥.
(٢) واختاره أيضًا الرازي ١٥/ ٤٥، وقال ابن عطية ٦/ ١٣٣، و"أبو حيان" ٤/ ٤٢٠: (قال المفسرون معناه: أيقنوا وليس كذلك بل هو غلبة ظن مع بقاء الرجاء) اهـ.
(٣) في (ب): (والمعنى).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٠، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٤٩، و"المشكل" ١/ ٣٠٥، و"البيان" ١/ ٣٧٩، و"التبيان" ص ٣٩٥، و"الفريد" ٢/ ٣٨٣.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٠، وفيه: (والمعنى: وإذ أخذ ربك ذريتهم وذرياتهم جميعًا) اهـ. وقال السمين في "الدر" ٥/ ٥١١: (﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ بدل من قوله ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ﴾ بإعادة الجار، والظاهر أنه بدل بعض من كل) اهـ. وهذا قول الأكثر، انظر: "المشكل" ١/ ٣٠٦، و"البيان" ١/ ٣٧٩، و"التبيان" ص ٣٩٥، و"الفريد" ٢/ ٣٨٣.
(٦) الكناني: حجر الإمام عبد العزيز بن يحيى المكي، تقدمت ترجمته.
(٧) في (ب): (كذلك)، وهو تحريف.
441
وأخرجوا من ظهره، فترك ذكر ظهر آدم وذكر ظهور (١) بنيه) (٢).
وقوله تعالي: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾. وقرئ (٣) ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ جمعًا، وقد ذكرنا معنى الذرية والكلام فيها عند قوله: ﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ [البقرة: ١٢٤].
وبينا أن الذرية تقع على الواحد والجمع، فمن أفردها هاهنا فلأنه قد استغنى عن جمعه بوقوعه على الجمع، فصار كالبشرة فإنه يقع على الواحد كقوله: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾ [يوسف: ٣١]، وعلى الجمع كقوله: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ [التغابن: ٦]. وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ [إبراهيم: ١٠].
وكما لم يجمع (بشر) بتصحيح ولا تكسير كذلك لا تجمع الذرية، ومن جمع قال: إن الذرية إن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه، وإن كان جمعًا فجمعه أيضًا حسن لأنك قد رأيت المجموع المكسرة قد جُمعت نحو: الطرقات والجُزرات (٤) وصَوَاحبات يوسف (٥).
(١) لفظ: (وذكر ظهور) ساقط من (ب).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٢٦٦ - ٢٦٧، وهو عند الثعلبي ٦/ ١٩ أ، والبغوي ٣/ ٢٩٩ بلا نسبة.
(٣) قرأ ابن عامر وأبو عمرو ونافع: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ بألف على الجمع مع كسر التاء، وقرأ الباقون: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ بجر ألف على التوحيد مع فتح التاء، انظر: "السبعة" ص ٢٩٨، و"المبسوط" ص ١٨٦، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٨ "التيسير" ص ١١٤، و"النشر" ٢/ ٢٧٣.
(٤) الجُزرات: بالضم جمع الجمع كطُرق وطرقات، وهي جمع جُزُر والجُزُر جمع جَزُور وهي الناقة المجزورة: أي المعدة للذبح، انظر: "اللسان" ١/ ٦١٤ (جزر)
(٥) صَوَاحبات يوسف: أي مثلهن في الإلحاح، جمعوا (صواحب) جمع السلامة، انظر: "اللسان" ٤/ ٢٤٠٠ - ٢٤٠١ (صحب)، وقد أخرج أحمد في "المسند" ٤/ ٤١٢، وابن ماجة رقم (١٢٣٢ - ١٢٣٥) كتاب إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة النبي في مرضه، والنسائي ١/ ٢٩٣ (٩٠٦) كتاب الإمامة من طرق جيدة، =
442
وأما تفسير الآية ففيه مذهبان: أحدهما -وهو مذهب المفسرين وأهل الأثر- ما روى مسلم (١) بن يسار الجهني: (أن عمر - رضي الله عنه - سُئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله - ﷺ - سئل عنها فقال: "إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية [فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية] (٢) فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون".
= باب: الائتمام بالإمام، أن النبي - ﷺ - قال في مرضه: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت عائشة: إنه رجل رقيق، فقال: " إنكن صواحبات يوسف مروه فليصل بالناس" الحديث. وأصله في "الصحيح" أخرجه البخاري رقم (٦٦٤١) كتاب الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الإمامة، ومسلم رقم (٤١٨ - ٤٢٠)، وفيه: "إنكن صواحب يوسف" كتاب الصلاة، باب: استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر، قال ابن حجر في "الفتح" ٢/ ١٥٣: (صواحب جمع صاحبة والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن) اهـ.
وما تقدم قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١٠٥ - ١٠٦، وقال الأزهري في "معاني القراءات" ١/ ٤٢٩: (المعنى واحد في الذرية والذريات) اهـ، وانظر: "إعراب القراءات" ١/ ٢١٤، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٧، ولابن زنجلة ص ٣٠١، و"الكشف" ١/ ٤٨٣.
(١) مسلم بن يسار الجهني البصري تابعي روى عن نعيم بن ربيعة الأزدي، وقيل: روى عن عمر رضي الله عنه وروى عنه عبد الحميد بن عبد الرحمن العدوي، وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن حجر في "التقريب" ٥٣١ (٦٦٥٤): (مقبول).
انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري ٧/ ٢٧٦، و"تاريخ العجلي" ٢/ ٢٧٨ (١٧٢٣)، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٥١٤، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ١٠٨، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٧٤.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
443
فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار" (١).
(١) أخرجه مالك في "الموطأ" ٢/ ٨٩٨، وأحمد ١/ ٢٨٩، رقم ٣١١ تحقيق أحمد شاكر، وأبو داود ٥/ ٧٩ رقم ٤٧٠٣، والترمذي كتاب التفسير، باب: ومن سورة الأعراف رقم ٣٠٧٥، وابن أبي عاصم في السنة ١/ ٨٧ رقم ١٩٦، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٥٠٤ رقم ٢١٠، والطبري ٩/ ١١٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٢، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٥٠، والآجري في "الشريعة" ٢/ ٧٤٣، وابن منده في "الرد على الجهمية" ص ١٤٣، ١٤٤، والحاكم في "المستدرك" ١/ ٢٧ - ٢/ ٣٢٤ - و٥٤٤، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ٢/ ١٤٥، والبغوي في "تفسيره" ٣/ ٢٩٧، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ١٦١ من طرق جيدة عن مسلم عن عمر، وهو مرسل، وقال الترمذي: (حديث حسن ومسلم لم يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم بين مسلم وعمر رجلاً مجهولًا) اهـ، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم) وقال البيهقي والذهبي في "التلخيص": (فيه إرسال). وقال الألباني في ظلال الجنة في "تخريج السنة" لابن أبي عاصم ١/ ٨٧: (إسناده ضعيف لانقطاعه) اهـ.
وقد أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" ٨/ ٩٨، وأبو داود ٥/ ٨٠ رقم ٤٧٠٤، وابن أبي عاصم في "السنة" ١/ ٨٨ رقم ٢٠١، والطبري في "تفسيره" ٩/ ١١٣ - ١١٤، عن مسلم عن نعيم بن ربيعة الأزدي عن عمر، وقال الألباني في "ظلال الجنة": (إسناده ضعيف لجهالة نعيم) اهـ.
والحديث له شواهد مرفوعة عن النبي - ﷺ - مما يجعله صحيحًا لغيره، وذكر الأحاديث ودرجاتها الألباني في "الصحيحة" ٤/ ١٥٨ - ١٦٣ وقال: (وجملة القول أن الحديث صحيح بل هو متواتر المعنى وجاء عن الإمام إسحاق بن راهويه أنه قال: أجمع أهل العلم أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد واستنطقهم وأشهدهم) اهـ. =
444
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته (١) إلى يوم القيامة" (٢). وذكر حديثًا طويلًا.
وقال ابن عباس في رواية عطاء في: قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ (يريد: نفض (٣) آدم فأراه ذريته مما خلق إلى يوم القيامة) (٤).
وقال ابن عباس أيضاً: (إن الله خلق آدم ثم أخرج ذريته من صلبه مثل الذر، فقال لهم: من ربكم؟ قالوا: الله ربنا، ثم أعادهم في صلبه حتى يولد كل من أخذ ميثاقه لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى أن تقوم الساعة) (٥)
= وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ١٠١: (أحسن ما قيل في الآية ما تواترت به الأخبار عن النبي - ﷺ - أن الله جل وعز مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته أمثال الذر فأخذ عليهم الميثاق) اهـ.
(١) في (ب): (من ذريتي) ثم صحح إلى ذريته في أعلى السطر.
(٢) أخرجه الترمذي كتاب التفسير، باب: وفي تفسير سورة الأعراف رقم (٣٠٧٦)، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٤، وابن منده في "الرد على الجهمية" ص ١٤٤، والحاكم ٢/ ٣٢٥، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ -) اهـ، وقال ابن منده: (هذا حديث صحيح) اهـ، وقال الحاكم: (حديث صحيح على شرط مسلم) اهـ. ووافقه الذهبي في "التلخيص"، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٦٠٣.
(٣) في النسخ: (نقص) وعلى (أ) تصحيح لم أستطع قراءته ولعلها (نفض).
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ١١١ بسند جيد.
(٥) أخرجه الطبري في ٩/ ١١٦، وابن أبي حاتم ١٤/ ١٦ بسند جيد، وقد أخرج الطبري ٩/ ١١١ - ١١٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٤ من طرق كثيرة جيدة نحوه.
445
وقال أبو العالية: (جمعهم يومئذٍ، ثم صورهم، ثم استنطقهم وأخذ عليهم العهد والميثاق، ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾. فقال الله تعالى: فإني أرسل إليكم رسلًا يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا: نشهد أنك إلهنا وربنا، ولا رب ولا إله غيرك) (١).
وقال ابن جريج: (ضرب الله ظهر آدم فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، وخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار أمثال الخردل في سورة الذر) (٢).
وقال القرظي: (أقر له بالإيمان والمعرفة الأرواحُ قبل أن يخلق أجسادها) (٣).
وقال مقاتل: (إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
(١) أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" ٥/ ١٣٥، والطبري ٩/ ١١١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٥، وابن منده في "الرد على الجهمية" ص ١٤٣، ١٤٤، والحاكم ٢/ ٣٢٣ - ٣٢٤ عن أبي العالية عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-، وقال الحاكم: (حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) اهـ ووافقه الذهبي. وقال أحمد شاكر في "حاشية الطبري" (إسناده صحيح) اهـ.
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٥ وقال: (رواه عبد الله بن أحمد عن شيخه محمد بن يعقوب الربالي وهو مستور وبقية رجاله رجال الصحيح) اهـ.
وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٦٥٠.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١١٤ بسند لا بأس به، عن ابن جريج عن الزبير بن موسى المكي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٥٩، وذكره القرطبي ٧/ ٣١٦، عن ابن جريج.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ١١٧ بسند ضعيف، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٥٩.
446
قَالُوا بَلَى}، فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء في النار ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة، ثم أعادها جميعًا في صلب آدم، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء. قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾ (١) [الأعراف: ١٠٢] (٢).
وهذا أيضاً قول عكرمة (٣) والكلبي وسعيد بن جبير و [سعيد (٤) بن المسيب] والضحاك (٥) وأبي صالح (٦)، هذا كلام أهل التفسير في هذه الآية.
فأما أصحاب المعاني فقال أبو إسحاق: (جائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال (٧) الذَّر فهمًا يعقل به، كما قال: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: ١٨]. وكما قال: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾ [الأنبياء: ٧٩]) (٨).
(١) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٢) "تفسير مقاتل" ٢/ ٧٢ - ٧٤.
(٣) ذكره الرازي ١٥/ ٤٧، عن عكرمة والكلبي وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والضحاك.
(٤) لفظ: (سعيد بن المسيب) ساقط من (أ)، وذكره عنه ابن القيم في كتاب "الروح" ص ٢١٥.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ١١٤، ١١٧ من طرق جيدة عن سعيد بن جبير، وعطاء والنضر ابن عربي الباهلي والضحاك والسدي والكلبي، وانظر: "الرد على الجهمية" لابن منده ص ١٤٤.
(٦) ذكره ابن القيم في كتاب "الروح" ص ٢١٤، عن السدي، عن أبي صالح، عن ناس من الصحابة.
(٧) في (ب): (جعل الأمثال)، وهو تحريف.
(٨) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٠، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ١٠١.
447
وقال أبو بكر بن الأنباري: (مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية هو: أن الله عز وجل أخرج ذريات آدم من صلبه وأصلاب أولاده، وهم في صور الذر، وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعوه، فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركب فيهم عقولًا عرفوا بها ما عرض عليهم، كما جعل للجبل عقلاً حتى خوطب (١)، وكما فعل ذلك بالبعير (٢) لما سجد، وبالنخلة (٣) حين سمعت، وانقادت
(١) ذكره الخازن ٢/ ٣٠٩، عن ابن الأنباري وفيه: (كما جعل للجبال عقولًا حتى خوطبوا بقوله تعالى: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ [سبأ: ١٠] اهـ. وأخرج الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٦٢٠ عن علي رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي - ﷺ - بمكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله) قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وانظر: "صحيح مسلم" رقم (٢٢٧٧) من حديث جابر بن عبد الله، كتاب الفضائل، باب: فضل نسب النبي - ﷺ -، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة.
(٢) أخرج أحمد في "المسند" ٦/ ٧٦، عن عائشة: (أن رسول الله - ﷺ - كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له..) الحديث، وانظر: "البداية والنهاية" ٦/ ١٢٣ - ١٥١.
(٣) أخرج البخاري رقم (٢٠٩٥) في "البيوع" -باب النجار- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه - قال: (قعد النبي - ﷺ - يوم الجمعة على منبر صنع له، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها، وبكت على ما كانت تسمع من الذكر حتى كادت أن تنشق فنزل النبي حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت) وأخرج ابن ماجه رقم (٤٠٢٨) كتاب الفتن، باب: الصبر على البلاء، بسند جيد عن أنس رضي الله عنه قال: (جاء جبريل إلى النبي - ﷺ - وهو جالس حزين فقال، ما لك؟ فقال: "فعل بي هؤلاء ما فعلوا" قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: "نعم" قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها فلترجع، فقال لها فرجعت حتى عادت إلى مكانها..) وأخرج الحاكم =
448
حين دعيت) (١).
وقال صاحب النظم: (ليس بين قول النبي - ﷺ -:"إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته" و [بين] (٢) الآية اختلاف بحمد الله؛ لأنه عز وجل إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته؛ لأن ذرية آدم ذرية لذريته بعضهم من بعض.
قال: وحصل الفائدة بهذا الفصل، أنه قد أثبت الحجة على كل منفوس ممن بلغ، وممن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم، وزاد على من بلغ منهم الحجة بالآيات والدلائل التي نصبها في نفسه وفي العالم، وبالرسل المنفذة إليهم، مبشرين ومنذرين، وبالمواعظ والمثلات المنقولة إليهم أخبارها) (٣).
وقال جماعة من المفسرين: (إن أهل السعادة من الذرية أقروا طوعًا، وإن أهل الشقاوة أقروا تقية وكرهًا، وذلك معنى قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
= في "المستدرك" ٢/ ٦٢٠ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى النبي - ﷺ - فقال: بم اعرف أنك رسول الله؟ فقال: "أرأيت إن دعوت عذق هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟ " قال: نعم، فدعا العذق فنزل وجعل ينقز على الأرض حتى أتى النبي - ﷺ - ثم قال له: "ارجع" فرجع حتى عاد مكانه) قال الحاكم: (حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وانظر: "الصحيح المسند من دلائل النبوة" للوادعي ص ٧٣ - ١٩٧.
(١) ذكره الخازن ٢/ ٣٠٩، وابن القيم في كتاب "الروح" ص ٢٢٠، وذكره الألباني في "الصحيحة" ٤/ ١٦١ وقال: (في كلامه إشارة لطيفة إلى طريقة الجمع بين الآية والحديث، وهو قوله: إن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده) اهـ. وانظر: "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة ص ١٤٥ - ١٤٧.
(٢) لفظ: (بين) ساقط من (أ).
(٣) ذكره الخازن ٢/ ٣١٠، وابن القيم في كتاب "الروح" ص ٢١٦.
449
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (١) [آل عمران: ٨٣]. وقال مقاتل: من مات صغيرًا دخل الجنة بمعرفته بالميثاق (٢) الأول، ومن بلغ العقل لم يُغن عنه الميثاق الأول شيئًا حتى يؤمن، وكان الميثاق الأول حجة عليهم) (٣)، وهذا الذي ذكره مذهب من يقول: إن أطفال المشركين يدخلون (٤) الجنة، فأما من لا يحكم لهم بالجنة، فإنه يقول: من كان من أهل الشقاوة من الذرية السوداء أقرّ بالمعرفة كرهًا فلم يغن ذلك عنه شيئًا. فأمَّا سوق ألفاظ الآية وما بعدها من هذه القصة على هذا التفسير فقوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾. قال الزجاج (٥): (المعنى قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ وهو إيجاب للإقرار عليهم بربوبيته).
وقوله: ﴿قَالُوا بَلَى﴾. قال ابن عباس: (هو جواب منهم له وإقرار له بالربوبية ولأنفسهم بالعبودية) (٦).
وقوله تعالى: ﴿شَهِدْنَا﴾ قال الكلبي: (٨) (لما أقروا، قال الله للملائكة:
(١) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٧٩ - ٥٨٢، و"الرد على الجهمية" لابن منده ص ١٤٣، والبغوي ٣/ ٢٩٨.
(٢) في (أ): (بمعرفته في الميثاق).
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٧٤.
(٤) قال القرطبي في "تفسيره" ٧/ ٣١٧: (هذه المسألة اختلف فيها لاختلاف الآثار، والصحيح أن أطفال المشركين في الجنة) اهـ. وانظر: "التذكرة" ص ٥٩٨.
(٥) هذا قول ابن الجوزي ٣/ ٢٨٤، ولم أقف عليه عن الزجاج، وانظر: "الزاهر" ٢/ ٥٠.
(٦) أخرج ابن منده في "الرد على الجهمية" ص ١٤٤ من طرق جيدة عن ابن عباس في الآية قال: (أخذ عليهم كلهم عهودهم على الإيمان والمعرفة له، والتصديق به وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا) اهـ.
450
اشهدوا. فقال: ﴿شَهِدْنَا﴾) (١). و (٢) قال ابن عباس في رواية عطاء: (قالت (٣) الملائكة: شهدنا على إقراركم) (٤).
وقال السدي: (هذا خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم) (٥). فعلى هذه الأقوال (٦) يحسن الوقف على قوله: ﴿بَلَى﴾؛ لأن كلام الذرية قد انقطع.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾. يجوز أن يتعلق ﴿أَن﴾ بقوله ﴿شَهِدْنَا﴾، أي شهدنا عليهم بالإقرار لئلا تقولوا، فأسقط (لا) (٧) كما قال: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥]. يريد: لئلا تميد.
وكما قال القطامي (٨):
رأينا ما يرى البصراء فيها فآلينا عليها أن تباعا (٩)
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٠، وذكره هود الهواري ٢/ ٥٨، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٦٨، والبغوي ٣/ ٣٠٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٨٥.
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٣) في (أ): (قال).
(٤) لم أقف عليه. وانظر: "الرد على الجهمية" لابن منده ص ١٤٣.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ١١٨ بسند جيد، وذكره الثعلبي ٦/ ٤٩ ب، و"الواحدي" ٢/ ٢٦٨، والبغوي ٣/ ٣٠٠، وانظر: الطبري ٩/ ١١٨.
(٦) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ٥٢
(٧) لفظ: (لا) ساقط من (أ).
(٨) تقدمت ترجمته.
(٩) "ديوانه" ص ٤٣، و"تفسير الطبري" ٩/ ١١٨، و"الدر المصون" ٥/ ٥١٣، وهو يصف ناقته يقول: لا تباع لما رأينا من حسنها.
451
أراد: أن لا تباعا، هذا مذهب الكوفيين (١)، وعند البصريين المحذوف مضاف بتقدير: شهدنا كراهة أن تقولوا، ومضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦].
ويمكن أن تعلق ﴿أَن﴾ بـ (أشهدهم) وهذا أوضح في التأويل، والمعنى: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ لئلا تقولوا، أو (٢) كراهية أن تقولوا، ولا يصح الوقف على ﴿شَهِدْنَا﴾ لتعلق ﴿أَن﴾ بما قبله، هذا كله كلام أبي بكر (٣).
(١) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٥١، و"المشكل" ١/ ٣٠٦، و"البيان" ١/ ٣٧٩، و"التبيان" ص ٣٩٥، و"الفريد" ٢/ ٣٨٤، و"الدر المصون" ٥/ ٥١٣. قال السمين: (قوله: ﴿أَن تَقُولُواْ﴾ مفعول لأجله، والعامل إما ﴿شَهِدْنَا﴾ أي: شهدنا كراهة أن تقول، هذا تأويل البصريين، وأما الكوفيين فقاعدتهم تقدير (لا) النافية أي: لئلا تقولوا) اهـ.
(٢) في (أ): (لئلا تقولوا وكراهية أن تقولوا).
(٣) "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٦٦٩ - ٦٧٠، وقال الداني في "المكتفى" ص ٢٧٨ - ٢٨٠: (قال جماعة: ﴿شَهِدْنَا﴾ وقف كافٍ وهو من قول بني آدم أي: شهدنا أنك ربنا وإلهنا وهو قول أُبي وابن عباس.
وقال ابن الأنباري: ليس بوقف لأن ﴿أَن﴾ متعلقة بما قبلها، وقال جماعة التمام على ﴿بَلَى﴾ و ﴿شَهِدْنَا﴾ من قول الملائكة وهو قول مجاهد والضحاك والسدي، وقيل هو من قول الله تعالى والملائكة وهو قول أبي مالك ويروي عن السدي أيضًا ومن قرأ: ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ بالتاء فالوقف على ﴿بَلَى﴾ لأن (أن) متعلقة بما قبل ﴿بَلَى﴾ من قوله ﴿وَأَشْهَدَهُمْ﴾) اهـ. ملخصًا.
وقال النحاس في القطع ١/ ٢٦٥ - ٢٦٦: (على القراءة بالتاء يجب أن يكون الوقف على ﴿بَلَى﴾ لأن ﴿شَهِدْنَا﴾ عند أهل التأويل ليس من كلام الذين قالوا ﴿بَلَى﴾ ومن قرأ بالياء فأكثر أهل التأويل يقول: التقدير: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أن يقولوا، أي: كراهة أن يقولوا أو لأن يقولوا. فالكلام على هذا متصل) اهـ. ملخصًا.
452
وقال بعضهم: قوله: ﴿شَهِدْنَا﴾ من كلام الذرية، والمعنى: شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار، وهو معنى قول (١) مقاتل، وعلى هذا لا يحسن الوقف على ﴿بَلَى﴾ ولا يتعلق ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ بشهدنا، وإنما يتعلق بقوله: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ (٢)، وذكر صاحب النظم] (٣) وجهًا آخر في قوله: ﴿شَهِدْنَا﴾ عن بعضهم، وهو: (أن يكون قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا بَلَى﴾. تمام قصة الميثاق، ثم ابتدأ عز وجل خبرًا آخر يذكر ما يقوله المشركون يوم القيامة فقال: ﴿شَهِدْنَا﴾ بمعنى: نشهد، كما قال الحطيئة (٤):
شَهِدَ الخُطَيْئَةُ حِينَ يَلْقَى رَبَّه (٥)
(١) "تفسير مقاتل" ٢/ ٧٢، وفيه: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ بإقرارهم ﴿قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ إنك ربنا، قال الله للملائكة: اشهدوا عليهم بالإقرار، قالت الملائكة: قد شهدنا) اهـ.
(٢) ذكره في الواحدي السمين في "الدر" ٥/ ٥١٣، وقال: (كأنه رأى أن التركيب يصير ﴿شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا﴾ سواء قرئ بالغيبة أو الخطاب والشاهدون هم القائلون في المعنى فكان ينبغي أن يكون التركيب شهدنا أن نقول نحن، وهذا غير لازم لأن المعنى: شهد بعضهم على بعض فبعض الذرية قال: شهدنا أن يقول البعض الآخر كذلك) اهـ.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) الحطيئة: جرول بن أوس بن مالك الغطفاني أبو مليكة. تقدمت ترجمته.
(٥) "ديوانه" برواية وشرح ابن السكيت ص ١١٠، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٩٨، و"وضح البرهان" للغزنوي ٢/ ٣٥١، و"اللسان" ٢/ ٨٦٦ (حسب)، و"الدر المصون" ٥/ ٥١٤، وبلا نسبة في مجالس ثعلب ص ٣٨٨، و"المدخل" للحدادي ص ٢٣٤، وعجزه:
أن الوليد أحق بالعذر
والوليد هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي يقال: إنه سكر فأمر بجلده فقال الحطيئة هذه الأبيات، والشاهد: شهد الحطيئة يريد: يشهد فوضع الماضي موضع المستقبل.
453
أي: يشهد، فيكون تأويله نشهد (١) ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي: إنكم ستقولون ذلك، فتكون القصة الأولى خبرًا عن جميع المخلوقين بأخذ الميثاق عليهم، والقصة الثانية خبرًا عن المشركين خاصة) (٢).
واختلف القراء في قوله: ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ [الأعراف: ١٧٢]، ﴿أَوْ تَقُولُوا﴾ [الأعراف: ١٧٣]، فقرأ (٣) أبو عمرو بالياء (٤) جميعًا؛ لأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة وهو قوله: ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ لئلا يقولوا، وقرأ الباقون بالتاء؛ لأنه قد جرى في الكلام خطاب، وهو قوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾، وكلا (٥) الوجهين حسن؛ لأن الغيب هم المخاطبون في المعنى (٦).
قال المفسرون: (هذه (٧) الآية تذكير بما أخذ على جميع المكلفين من الميثاق، واحتجاج عليهم؛ لئلا يقول الكفار ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا﴾ الميثاق ﴿غَافِلِينَ﴾ لم نحفظه ولم نذكره)، فإن قيل: كيف يحتج عليهم
(١) في (ب): (يشهد) بالياء.
(٢) ذكره ابن القيم في كتاب "الروح" ص ٢٢٩، والسمين في "الدر" ٥/ ٥١٣ - ٥١٤.
(٣) قرأ أبو عمرو: ﴿يَقُولوا يَوْمَ القِيامَة﴾ [الأعراف: ١٧٢]، ﴿أو يَقُولوا إنَّما أَشْرَكَ﴾ [الأعراف: ١٧٣] بالياء فيهما على الغيبة، وقرأهما الباقون بالتاء على الخطاب، انظر: "السبعة" ص ٢٩٨، و"المبسوط" ص ١٨٦، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٩، و"التسير" ص ١١٤، و"النشر" ٢/ ٢٧٣.
(٤) في (أ): (فقرأ أبو عمر وجميعًا بالياء).
(٥) في: (أ): (فكلا).
(٦) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١٠٧، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٢٩، و"إعراب القراءات" ١/ ٢١٥، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٣٠٢، و"الكشف" ١/ ٤٨٣.
(٧) في (أ): "وهذه".
454
بميثاق لا يذكرونه؟ قيل: (١) نسيانهم لذلك لا يسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله تعالى عن أخذ ذلك عليهم على لسان صاحب المعجزة، وإذا صح ذلك بقول الصادق قام في النفوس مقام الذكر، فالاحتجاج به قائم صحيح (٢).
قال عوف (٣): (وسيذكرون الميثاق يوم القيامة) (٤).
قوله تعالى: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ﴾ الآية [الأعراف: ١٧٣]، قال المفسرون: (هذا قطع لعذر الكفار فلا يستطيع أحد من الذرية أن يقول يوم القيامة: ﴿إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ﴾، أي: قبلنا، ونقضوا العهد. ﴿وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ صغارًا وكبارًا فاقتدينا (٥) بهم، ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾، أي: أفتعذبنا بما فعل المشركون المكذبون بالتوحيد، وإنما اقتدينا بهم وكنا في غفلة عن الميثاق، وعما نطالب به الآن من التوحيد، وآباؤنا أشركوا، وحملونا على مذهبهم في الشرك في صبانا، فجرينا على مذهبهم واقتدينا بهم، فلا ذنب لنا إذ كنا مقتدين بهم، والذنب في ذلك لهم، كما (٦) قالوا في موضع آخر: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١١٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٨٥.
(٢) انظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٨١، والبغوي ٣/ ٣٠٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٨٥.
(٣) لعله: عوف بن أبي جميلة العبدي أبو سهل الأعرابي البصري واسم أبيه رزينة، إمام ثقة من علماء البصرة ومن صغار التابعين رمى بالقدر والتشيع، توفي سنة ١٤٦ هـ أو ١٤٧ هـ، وله ٨٦ سنة، انظر: "الجرح والتعديل" ٧/ ١٥، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ٣٨٣، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٣٠٥، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٣٣٦، و"تقريب التهذيب" ص ٤٣٣ برقم (٤٢١٩).
(٤) لم أقف عليه.
(٥) في (ب): (فاقتديناهم)، وهو تحريف.
(٦) لفظ: (كما) ساقط من (ب).
455
الآية [الزخرف: ٢٢]. فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام، ويكون الآباء على الإشراك بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق بالتوحيد على كل واحد من الذرية)، هذا هو الكلام على مذهب أهل الأثر (١).
فأما مذهب أهل النظر، فقال أبو إسحاق: (وقال بعضهم: إن الله عز وجل أخرج بني آدم بعضهم من ظهور بعض، ومعنى: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ أن كل بالغ يعلم أن الله عز وجل واحد، لأن كل ما خلق الله دليل على توحيده، فمعنى: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ دلهم بخلقه على توحيده) (٢).
وشرح أبو بكر هذا فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ﴾ ذريات (٣) ﴿بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ أي: أخرجهم وأنشأهم بعد أن كانوا نطفًا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتبهم في الوجود ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أنه ربهم بما أظهر من آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم فليس من أحد إلا وفيه من صنعة ربه ما ينبه على أنه بارئه ونافذ الحكم فيه، فلما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع: ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧]، يريد: هم بمنزلة الشاهدين وإن لم يقولوا: نحن كفرة، وكما يقول الرجل: قد شهدت جوارحي بقولك، يريد: قد عرفته، فكأن جوارحي لو استشهدت وفي وسعها أن تنطق لشهدت، ومن هذا الباب أيضًا ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]،
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١١٨، والبغوي ٣/ ٣٠٠، والرازي ٣/ ١٧١، والخارن ٢/ ٣١١.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٠.
(٣) كذا في النسخ، وهو تفسير وليس قراءة.
456
يريد: أعلم وبين، فأشبه إعلامه وتبيينه ذلك شهادة من يشهد عند الحكام وغيرهم) (١).
وزاد صاحب النظم لهذا المذهب بيانًا حكايته عن بعضهم، فقال: (إن الله عز وجل لما خلق الخلق ونفذ علمه فيهم بما هو كائن، صار ما لم يكن بعد مما هو كائن كالكائن عنده، إذ علمُه بكونه مانعٌ من غير كونه، فسايغ في مجاز العربية أن يضع ما هو منتظر مما لم يقع بعد موضعَ الواقع لسبق علمه بوقوعه، وكما قال عز وجل: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [الأعراف: ٥٠] وأمثاله، فيكون تأويل قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾: وإذ يأخذ ربك، وكذلك قوله: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: ويشهدهم بما يركبه فيهم من العقل الذي يكون به الفهم ويجب به الثواب والعقاب، فكل من ولد وبلغ الحنث وعقل الضر والنفع وفهم الوعد والوعيد والثواب والعقاب صار كأن الله تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدلائل (٢) على حدوثه وضعفه وأنه لا يجوز أن يكون قد خلق نفسه، وإذا لم يجز ذلك فلا بد من خالق هو غيره ليس كمثله، وكل (٣) من بلغ وعقل فقد أخذ عليه العهد والميثاق إذ جعل فيه السبب الذي به يؤخذ الميثاق وهو العقل، واحتج أصحاب هذا القول بقوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأحزاب: ٧٢]، قالوا: فالأمانة هاهنا عهد وميثاق، وامتناع السموات والأرض من حملها خلوهما من العقل الذي يكون به الفهم،
(١) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٨٦، وابن القيم في كتاب "الروح" ص ٢٢١.
(٢) في النسخ: (والدليل)، وهو تحريف.
(٣) في (ب): (ليس كمثله وهو من بلغ)، وهو تحريف.
457
وحمل الإنسان إياها (١) لمكان (٢) العقل فيه).
قال صاحب النظم: (ونحن إلى ما روي (٣) عن رسول الله - ﷺ - وما ذهب إليه أهل العلم والسنة من السلف الصالح، أَمْيَلُ وله أَقْبَلُ وبه آنَسُ (٤) والله عز وجل ولي التوفيق لما هو أولى وأهدى بمنّه) (٥).
(١) لفظ: (إياها) ساقط من (أ).
(٢) في (ب): (مكان)، وهو تحريف.
(٣) انظر: بعض الأحاديث في مرويات الإِمام أحمد في "التفسير" ٢/ ٢٠٩ - ٢١٥.
(٤) هذا هو الظاهر فالراجح أن الله سبحانه وتعالى مسح ظهر آدم واستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد بلسان المقال لثبوته مرفوعًا إلى النبي - ﷺ - وموقوفاً على غيره من الصحابة رضي الله عنهم والأحاديث فيه صحيحة بل متواترة المعنى، وقد ذكرها الطبري ٩/ ١١١ - ١١٨، وابن كثير ٢/ ٢٩٣، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٢٥٨ - ٢٦٥، والشوكاني ٢/ ٣٨٣ - ٣٨٥، والألباني في "الصحيحة" ١/ ٦٨ - ٧١، رقم ٤٧ - ٥٠، وص ٩٧ رقم ١٧٢، و٤/ ١٥٨ رقم ١٦٢٣، قال الشوكاني ٢/ ٣٨٣: (هذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعًا إلى النبي - ﷺ - وموقوفاً على غيره من الصحابة ولا ملجئ للمصير إلى المجاز وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل) اهـ.
وقال الألباني في الصحيحة ٤/ ١٦٢: (جملة القول أن فيه أحاديث صحيحة بل متواترة المعنى وأنه لا تعارض بينها وبين آية أخذ الميثاق فالواجب ضمها إليها وأخذ الحقيقة من مجموعها وبذلك تنجو من مشكلتين بل مفسدتين كبيرتين: الأولى: رد الأحاديث بزعم معارضتها للآية والأخرى: تأويلها تأويلًا يبطل معناها أشبه ما يكون بتأويل المبتدعة) اهـ. بتصرف وهو اختيار جمهور المفسرين ومنهم: النحاس في "معانيه" ٣/ ١٠١، والسمرقندي ١/ ٥٧٩ - ٥٨٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٨٣ - ٢٨٦، والرازي ١٥/ ٤٦ - ٥٢، والخازن ٢/ ٣٠٧ - ٣١١، والألوسي ٩/ ٩٩ - ١٠٩، الشنقيطي ٢/ ٣٣٤ - ٣٣٨.
(٥) ذكره ابن القيم في كتاب "الروح" ص ٢٢٨.
458
١٧٤ - و (١) قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾، أي: و (١) كما بينا في (٢) أمر الميثاق نبين الآيات ليتدبرها العباد فيرجعوا إلى مدلولها ويعملوا بموجبها دون ما سولت لهم أنفسهم ودعت إليه أهواؤهم، وهو معنى قوله: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، أي: ولكي يرجعوا عمّا هم عليه من الكفر والضلالة إلى التوحيد والطاعة (٣)، وقيل: إلى ما أخذ عليهم من الميثاق في التوحيد، والرجوع إلى ذلك الميثاق رجوع إلى التوحيد (٤).
١٧٥ - قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ الآية.
قال ابن عباس (٥) وابن مسعود (٦) ومجاهد (٧): (نزلت في بلعم بن
(١) لفظ: (الواو) ساقط من (أ).
(٢) لفظ: (الفاء) ساقط من (ب).
(٣) هذا قول أكثرهم، انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١١٩، والسمرقندي ١/ ٥٨٢، والثعلبي ٦/ ١٩ ب، والبغوي ٣/ ٣٠٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٨٦.
(٤) ذكره الرازي ١٥/ ٥٣، والخازن ٢/ ٣١١.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ١٢٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٧ من طرق جيدة. وفيهما قال: (هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم) وفي رواية عند الطبري (بلعم بن باعر) وعند ابن أبي حاتم (بلعم بن باعوراء). وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٦٧ بلفظ: (بلعم بن باعوراء).
(٦) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/٢٤٣، والنسائي في "التفسير" ١/ ٥١٠، والطبري ٩/ ١٢٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٦، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٢٥ من طرق جيدة، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٢/ ٢٥، وقال: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٦٧، والكل بدون ذكر قصته وجاء عند النسائي، والطبراني، ورواية عند الطبري (بلعم) وعند الحاكم (بلعم بن باعوراء) وفي الباقي (بلعم بن أبر).
(٧) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٥٠، وأخرجه الطبري ٩/ ١٢٠ من طرق جيدة بدون ذكر قصته.
459
باعوراء (١))؛ دعا على موسى وقومه، وكان عنده اسم الله الأعظم، فقصد موسى بلده الذي هو فيه، وغزا أهله وكانوا كفارًا، فلم يزل قوم بلعم به حتى دعا عليهم، وقيل (٢) (أجبره (٣) ملكهم على (٤) ذلك، وكان مجاب الدعوة بذلك الاسم الذي كان عنده، فأستجيب له، ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه، فقال موسى: يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه؟ قال: بدعاء بلعام، قال: فكما سمعت دعاءه عليَّ فاسمع دعائي عليه، فدعا موسى عليه أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة (٥) بيضاء (٦)
(١) بلعم بن باعور: مختلف فيه فقيل: هو من مدينة الجبارين وقيل: من أهل اليمن وقيل: من الكعنانين، وهو: بلعم بن باعور بن سموم بن فرستم بن مآب بن لوط ابن هارون، أوتي العلم والحكمة، انظر أخباره في: "تاريخ الطبري" ١/ ٤٢٧، و"الكامل" لابن الأثير ١/ ٢٠٠، و"تفسير مبهمات القرآن" للبلنسي ١/ ٤٩٦.
(٢) هذا قول مقاتل في "تفسيره" ٢/ ٧٥.
(٣) في (ب): (أجبر)، وهو تحريف.
(٤) لفظ: (على) ساقط من (أ).
(٥) في (ب): "نُخامة" وعند الثعلبي ٦/ ٢١ ب، و"الوسيط" ٢/ ٢٧٠، والبغوي ٣/ ٣٠٢ (حمامة).
(٦) أخرج الطبري ٩/ ١٢٣، ١٢٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٧ بسند جيد عن ابن عباس قال: (هو رجل من مدينة الجبارين يقال: له بلعم يعلم اسم الله الأعظم فلما نزل بهم موسى أتاه قومه فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرده عنا، قال: إني إن دعوت عليه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخ مما كان عليه) اهـ. وذكره الرازي ١٥/ ٥٤، عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد، وذكر الخازن ٢/ ٣١١، ٣١٣، هذا ونحوه وقال: (هذا من الإسرائيليات ولا يلتفت إلى ما يسطره أهل الأخبار إذا خالف الأصول وسبب وقوع بني إسرائيل في التيه عبادة العجل أو قولهم لموسى: =
460
فهذا (١) قصته.
قال عطاء عن ابن عباس: (أعان أعداء الله على أوليائه) (٢) يعني: بدعائه. وقوله: ﴿آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾. قال ابن زيد: (هو أنه كان لا يسأل شيئًا إلا أعطاه إياه) (٣). وقال عكرمة (٤): (أوتي كتابًا من كتب الله تعالى (٥)).
وقيل (٦): (هو أنه لما أراد أن يدعو عليهم، قيل له في المنام: لا تدعُ عليهم، ثم هم ثانيًا، فكلمته أتان له قد ركبها، حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم فلم ينزع عن ذلك)، وقال أهل المعاني: (﴿آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾. علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عالمًا بها).
وقوله تعالى: ﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: خرج من محبة الله (٧) إلى معصيته، ومن رحمة الله إلى سخطه) (٨).
= ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا﴾ [الأعراف: ١٣٨] لا دعاء بلعم عليهم، وعلى تقدير صحة القصة فموسى دعا عليه لعلمه بكفره ومقابلة لدعائه عليه) اهـ. بتصرف.
(١) في (ب): (فلهذا)، وهو تحريف والأولى فهذه.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ١٢٢ بسند جيد وذكره الثعلبي ٦/ ٢٣ أ، والبغوي ٣/ ٣٠٤.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٨ بسند جيد.
(٥) لفظ: (تعالى) ساقط من (أ).
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ١٢٥ - ١٢٦ من طرق عن السدي وغيره.
(٧) انظر: الطبري ٩/ ١٢٤، والرازي ١٥/ ٥٤
(٨) ذكره الرازي ١٥/ ٥٤ بلا نسبة، وأخرج الطبري ٩/ ١٢٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٨ بسند جيد عن ابن عباس في الآية قال: (نزع منه العلم) وفي "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٠: (﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ فخرج منها) اهـ.
461
ومعنى ﴿انْسَلَخَ﴾ خرج من المِسْلاَخ (١) وهو القشر والجلد، ويقال: الحية تنسلخ (٢) عن جلدها، ثم يقال لكل من فارق شيئًا: انسلخ منه.
وقوله تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾. قال عبد الله (٣) بن مسلم: (أي: أدركه؛ يقال: أتبعت القوم إذا لحقتهم).
قال أبو عبيد: (يقال: أتبعت القوم مثال أفعلت (٤) إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم ويقال: ما زلت أتبعهم حتى أتبعتهم أي: حتى أدركتهم) (٥).
وقال أبو زيد: (تقول: رأيت القوم فأتبعتهم إتباعًا إذا سبقوك فأسرعت نحوهم، ومرُّوا على فاتبعتهم اتباعًا إذا ذهبت معهم ولم يسبقوك) (٦)، فعلى هذا معنى: أتبعه الشيطان أي: أسرع خلفه (٧)، {فَكَانَ مِنَ
(١) انظر: "العين" ٤/ ١٩٨، و"الجمهرة" ١/ ٥٩٨، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٣٠، و"الصحاح" ١/ ٤٢٣، و"المجمل" ٢/ ٤٧٠، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٩٤، و"المفردات" ص ٤١٩، و"اللسان" ٤/ ٢٠٦٣ (سلخ).
(٢) في (أ): (سلخت)، ساقط وملحق بأسفل السطر، وكأنه سلخت الحية عن جلدها.
(٣) "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٢، وزاد: (وتبعتهم سرت في إثرهم) اهـ. وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٣، و"تفسير المشكل" ص ٨٨.
(٤) لفظ: (أفعلت) غير واضح في (ب) وكأنه (افتعلت).
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٤٢٥، وزاد: (واتبعتهم مثل: افتعلت إذا مروا بك فمضيت معهم وتبعتهم تبعًا مثله) اهـ.
(٦) "الحجة" لأبي علي ٥/ ١٦٧، وأصل تبع: التلو والقفو، وهل تبعه، وأتبعه بمعنى أو بينهما فرق؟ قيل: بكل منهما وأبدى بعضهم الفرق بأن تبعه مشى في أثره، وأتبعه إذا وازاه في المشي، وقيل: اتبعه بمعنى استتبعه وقال الخليل في "العين" ٢/ ٨٨: (وأتبع فلان فلانًا إذا تبعه يريد شرًا، قال تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾) اهـ وانظر: "الجمهرة" ١/ ٢٤٥، و"الصحاح" ٣/ ١١٨٩، و"مقاليس اللغة" ١/ ٣٦٢، و"المجمل" ١/ ١٥٣، و"المفردات" ص ١٦٢، و"اللسان" ١/ ٤١٦ - ٤١٧ (تبع).
(٧) قال الطبري ٩/ ١٢٣ - ١٢٤: (أي: صيره لنفسه تابعًا ينتهي إلى أمره في معصية الله ويخالف أمر ربه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن) اهـ. وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ١٠٥، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٨٢، والماوردي ٢/ ٢٨٠.
462
الْغَاوِينَ}؛ لأنه أدركه فأضله، هذا الذي ذكره أبو زيد حقيقة معنى الإتباع.
قوله تعالى: ﴿فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾. قال ابن عباس: (فأطاع الشيطان وكان من الضالين) (١).
و (٢) قال أهل المعاني: (هذا بيان عن حال من أوتي الهدى، فانسلخ منه إلى الضلال والعمى، ومال مع الهوى حتى تلاعب به الشيطان، فصار إلى الهلاك والردى، وخاب في الآخرة والأولى، قصّ الله قصته ليحذر الناس من مثل حاله) (٣).
وقال عبد الله بن عمرو (٤) (٥) وسعيد بن المسيب، وزيد بن
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤١، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٠، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩١، والماوردي ٢/ ٢٨٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٨٩.
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٣) انظر: الرازي ١٥/ ٥٥.
(٤) عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم السهمي القرشي أبو محمد صحابي إمام عابد زاهد أحد السابقين المكثرين واحد العبادلة الفقهاء أسلم قبل أبيه وهاجر قبل الفتح وشهد الفتوح وكتب عن النبي - ﷺ - علمًا كثيرًا، وكان مجتهدًا في العبادة صوامًا قوامًا تاليًا لكتاب الله تعالى، وله مناقب وفضائل ومقام راسخ في العمل والعلم، وثناء الأئمة عليه كثيرة، توفي رضي الله عنه سنة ٦٥ هـ. وله ٧٢ سنة، انظر: "الحلية" ١/ ٢٨٣، و"الاستيعاب" ٣/ ٨٦ (١٦٣٦)، و"سير أعلام النبلاء" ٣/ ٧٩، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ٧١، و"الإصابة" ٢/ ٣٥١، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٣٩٣.
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/٢٤٣، والنسائي في "التفسير" ١/ ٥٠٨، ٥١١، الطبري ٩/ ١٢٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦١٦، من طرق جيدة وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٥، وقال: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) اهـ. وذكره ابن حجر في "الفتح" ٧/ ١٥٤، وقال: رواه ابن مردويه بإسناد قوي) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٦٥، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد وابن المنذر =
463
أسلم (١)، وأبو روق (٢): (نزلت هذه الآية في أمية (٣) بن أبي الصلت، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت، ورجا
= وأبي الشيخ) وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٩٤: (قد روى من غير وجه عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد أن أمية يشبهه؛ فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ولكنه لم ينتفع بعلمه فإنه أدرك زمن رسول الله - ﷺ - وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتدحهم ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة قبحه الله، وقد جاء في بعض الأحاديث "أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه" فإن له أشعارًا ربانية وحكمًا وفصاحة ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام) اهـ.
(١) زيد بن أسلم العدوي العمري مولاهم أبو عبد الله المدني، إمام تابعي ثقة، عالم عابد مفسر فقيه وكان من العلماء الأبرار له حلقة للعلم في مسجد رسول الله - ﷺ - وله تفسير رواه عنه ابنه عبد الرحمن، توفي رحمه الله تعالى سنة ١٣٦ هـ، انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ٥٥٤، و"الحلية" ٣/ ٢٢١، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٣١٦، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ١٣٢، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٦٥٨، و"تهذيب تاريخ ابن عساكر" ٥/ ٤٤٢.
(٢) ذكره الثعلبي ٦/ ٢١ ب، وابن الجوزي ٣/ ٢٨٧، والرازي ١٥/ ٥٤، عن سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبي روق، وذكره البغوي ٣/ ٣٠٣، والخازن ٢/ ٣١٣، عن سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص ٢٢٧، والقرطبي ٧/ ٣٢٠، عن زيد بن أسلم.
(٣) في النسخ: (أمية بن الصلت) وهو تحريف، وقد تقدمت ترجمته. وفيها بيان حاله وأخباره، وانظر: " السيرة النبوية" للدكتور/ مهدي رزق الله أحمد، ص ٧٢، ٧٦، والقول بأنه بلعام أشهر وعليه الأكثر، أفاده ابن الجوزي ٣/ ٢٨٨، والقرطبي ٧/ ٣٢١، وابن حجر في "الفتح" ٧/ ١٥٤، والظاهر العموم كما رجحه الطبري ٩/ ١٢٣، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤٢٢ - ٤٢٣: (اختلف المفسرون في ذلك وطولوا في قصته وذكروا ما الله أعلم به والجمهور على أنه شخص معين والأولى في مثل هذا أن يحمل على التمثيل لا على الحصر في معين فإنه يؤدي إلى الاضطراب والتناقض) اهـ. بتصرف.
464
أن يكون هو، فلما أُرسل محمد - ﷺ - حسده، ثم مات كافرًا، ولم يؤمن بالنبي - ﷺ - وهو الذي قال فيه النبي - ﷺ -: "آمن شعره وكفر قلبه" (١)، يريد: أن شعره كشعر المؤمنين، وذلك أنه يوحد الله في شعره ويذكر دلائل توحيده من خلق السماء والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار.
١٧٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾. قال ابن عباس: (﴿لَرَفَعْنَاهُ﴾ بعلمه بها) (٢)، أي بالآيات، يعني وفقناه للعمل بها، فكنا نرفع بذلك منزلته.
وقال عطاء (٣) عنه: (يريد: لعصمتُه عن معاصي). وهو اختيار الزجاج لأنه قال: (أي: لو شئنا أن نحول فيما بينه وبين المعصية لفعلنا) (٤). وهذا كالقول الأول، لأنه إذا لم يعصمه عن المعصية لم يوفقه للعمل بالآيات، ولو وفقه عصمه عن المعصية، ولو عصمه أستحق الرفعة بالآيات.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾.
(١) قال الألباني في "الضعيفة" ٤/ ٥٢ رقم ١٥٤٦: (ضعيف أخرجه ابن الأنباري في المصاحف وفي إسناده أبو بكر الهذلي متروك، وأخرجه الخطيب وابن عساكر في "التاريخ" وإسناده ضعيف فيه الكلبي متهم بالكذب) اهـ. بتصرف، وانظر: "الجامع الصغير" للسيوطي ١/ ٤، و"كشف الخفاء" للعجلوني ١/ ١٩ - ٢٠.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٢٧، بسند ضعيف، وذكره الثعلبي ٦/ ٢٣ ب، والبغوي ٣/ ٣٠٤، والخازن ٢/ ٣١٥، وقال ابن الجوزي ٣/ ٢٩٠: (هاء الكناية تعود إلى الإنسان المذكور وهو قول الجمهور والمعنى: ولو شئنا لرفعنا منزلته بما علمناه) اهـ. وهو اختيار الطبري ٩/ ١٢٧، والسمرقندي ١/ ٥٨٣.
(٣) ذكره الثعلبي ٦/ ٢٣ ب، والبغوي ٣/ ٣٠٤، والخازن ٣/ ٣١٥، عن عطاء فقط، وانظر: "تفسير الماوردي" ٢/ ٢٨٠.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩١، وهو قول النحاس في "معانيه" ٣/ ١٠٦.
465
قال الفراء: (ركن إليها وسكن). قال: (ويقال: خلد إلى الأرض بغير ألف وهي قليلة) (١). ونحو ذلك قال الزجاج (٢) والكسائي (٣) في خلد وأخلد (٤)، وقال أصحاب العربية: (أصل الإخلاد اللزوم على الدوام، وكأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض، ومن هذا يقال: أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به) (٥).
قال مالك (٦) بن نويرة:
(١) هنا في (ب) وقع اضطراب في ترتيب الأوراق فوقع الوجه ب من ص ١٧٧ في ١٨٥ ب.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٩. وانظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٣، و"تفسير غريب القرآن" ١/ ١٨٢، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٢٨، و"تفسير المشكل" ص ٨٨.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩١. وقال الأخفش في "معانيه" ٢/ ٣١٥: إلا نعلم أحدًا يقول: خلد، وقوله ﴿أَخْلَدَ﴾ أي: لجأ إليها) اهـ.
(٤) "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٨٠ (خلد). انظر: "العين" ٤/ ٢٣١، و"المنجد" لكراع ص ٧٨، و"الجمهرة" ١/ ٥٧٩، و"الصحاح" ٢/ ٤٦٩، و"المجمل" ٢/ ٢٩٩، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٠٧، و"المفردات" ص ٢٩١، و"اللسان" ٢/ ١٢٢٥ (خلد).
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٣٣، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٢٨، و"نزهة القلوب" ص ٧٤، و"الدر المصون" ٥/ ٥١٦.
(٦) مالك بن نويرة بن جمرة بن شداد اليربوعي التميمي، أبو حنظلة، شاعر فحل، وفارس مغوار، من أرداف الملوك في الجاهلية. يقال له: الجفول، وسمي ذا الخمار نسبة إلى فرسه، أدرك الإسلام فأسلم، وولاه رسول الله - ﷺ - صدقات قومه بني يربوع فبقي كذلك حتى وفاة النبي - ﷺ - ثم اضطرب عمله ولم يحمد، ورأى خالد بن الوليد ما استوجب قتله عنده فقتله، وقيل: ارتد فقتل في حروب الردة، انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٢٠٤، و"الشعر والشعراء" ص ٢٠٩، و"الأغاني" ١٥/ ٢٨٩، و"معجم المرزباني" ص ٢٣٢، و"الإصابة" ٣/ ٣٥٧، و"الأعلام" ٥/ ٢٦٧.
466
بأبناء حيٍّ من قبائل مالكٍ وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا (١)
قال ابن عباس: ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾ (٢)، يريد: مال إلى الدنيا) (٣). وقال مقاتل: (رضي بالدنيا) (٤).
وقال الزجاج: (ولكنه سكن إلى الدنيا) (٥). فهؤلاء فسروا ﴿الْأَرْضِ﴾ في هذه الآية بالدنيا، وذلك لأن الدنيا هي الأرض؛ لأن ما فيها من العقار والرباع (٦) والضياع كلها أرض، وسائر متاعها يستخرج من الأرض، فالدنيا كلها هي الأرض (٧)، فصلح أن يعبر عنها بالأرض لأنها هي (٨).
(١) "الشاهد في الأصمعيات" ص ١٩٣، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٢٨، والثعلبي ٦/ ٢٣ ب والرازي ١٥/ ٥٦، و"بدائع التفسير" لابن القيم ٢/ ٣١٠، و"الدر المصون" ٥/ ٥١٦.
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤١، وذكره الرازي ١٥/ ٥٦.
(٤) "تفسير مقاتل" ٢/ ٧٥، وفيه: (رضي بالدنيا وركن إليها) اهـ.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩١، وقال أيضًا: (المعنى: أنه سكن إلى لذات الأرض) اهـ. وقال الطبري ١٣/ ٢٦١: (سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض ومال إليها وآثر لذاتها وشهواتها على الآخرة) اهـ. وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ١٠٦، والسمرقندي ١/ ٥٨٣، والماوردي ٢/ ٢٨٢.
(٦) "الرِّباع": جمع ربع، وهي الدار والمحلة والموضع يرتع فيه في الربيع، انظر: "القاموس" ص ٧١٨ (ربع).
(٧) جاء في (ب) بعد قوله: (كلها هي الأرض) تكرار قوله: (سائر متاعها) إلى (كلها هي الأرض) وعليه ضرب.
(٨) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ١/ ٢٩٠، والرازي ١٥/ ٥٦، والخازن ٢/ ٣١٥، وقال القرطبي ٧/ ٣٢٢: (كأن المعنى: لزم لذات الأرض، فعبر عنها بالأرض، لأن متاع الدنيا على وجه الأرض) اهـ.
467
وقوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾. قال ابن عباس: (يريد: ما زين له الشيطان) (١).
وقال ابن زيد: (كان هواه مع القوم) (٢).
وقال أهل المعاني: (انقاد لما دعاه إليه الهوى، والهوى يدعو إلى أمور تجر إلى الهلاك، فكان القابل لدعاه متبعًا له) (٣).
وقال أهل (٤) العلم: (هذه الآية من أشد الآي على أصحاب العلم، وذلك أن الله تعالى أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه، والانسلاخ عنها، ومن الذي سلم من هاتين الخلتين، إلا من عصمه الله) (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾، قال الليث: (اللَّهث لهث الكلب عند الإعياء وعند شدة الحر، وهو إدلاع اللسان من العطش) (٦). وقال الفراء (٧) في "المصادر":
(١) لم أقف عليه
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٢٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٠ بسند جيد.
(٣) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٦١.
(٤) قال النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٥٢: (في هذه الآية أعظم الفائدة لمن تدبرها، وذلك أن فيها منعًا من التقليد لعالم إلا بحجة يبينها؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وأن لا يقبل منه إلا بحجة) اهـ.
(٥) انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٣٠٤، وابن الجوزي ٣/ ٢٠٩، والرازي ١٥/ ٥٦، الخازن ٢/ ٣١٥.
(٦) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٠٦، وانظر: "العين" ٤/ ٤٢ (لهث).
(٧) لم أقف عليه.
468
(يقال اللهْثُ واللهَث واللهثان) (١). قال مجاهد: (هذا مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به) (٢). و (٣) قال ابن عباس: (معناه: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير، كالكلب إن كان رابضًا لهث وإن طرد لهث) (٤).
وقال الحسن: (هو المنافق لا يُنيب (٥) إلى الحق، دُعي أو لم يدع، وعظ أو لم يوعظ، كالكلب يلهث طردًا وتركًا) (٦).
وروي معمر (٧) عن بعضهم قال: (هو الكافر؛ ضال إن وعظته وإن لم
(١) قال السمين في "الدر" ٥/ ٥١٧: (يقال لهث يلهث -بفتح العين في الماضي والمضارع-، لهثًا ولهثًا -بفتح اللام وضمها- وهو خروج لسانه في حال راحته وإعيائه، وأما غيره من الحيوان فلا يلهث إلا إذا أعيا أو عطش) اهـ. وفي "الصحاح" ٢/ ٢٩٢: (اللهثان بالتحريك العطش وبالتسكين العطشان وقد لهث لهثًا ولهاثًا مثل سمع سماعًا ولهث بالفتح يلهث لهثًا ولهاثًا بالضم، إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش وكذلك الرجل إذا أعيا) اهـ.
وانظر: "الجمهرة" ١/ ٤٣٣، و"المجمل" ٣/ ٧٩٦، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢١٤، و"المفردات" ص ٧٤٨، و"اللسان" ٧/ ٤٠٨٣ (لهث).
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٥١، وأخرجه الطبري ٩/ ١٢٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٠ من طرق جيدة.
(٣) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ١٢٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٠ بسند جيد.
(٥) في (ب): (لا يثبت).
(٦) ذكره الثعلبي ٦/ ٢٤ أ، وفيه: (لا ينيب)، وأخرج الطبري ٩/ ١٢٩ بسند جيد عن الحسن في الآية قال: (هذا مثل الكافر ميت الفؤاد) اهـ.
(٧) معمر بن راشد بن أبي عمرو الأزدي. تقدمت ترجمته.
469
تعظه) (١)، فهذا قول المفسرين في تفسير هذا المثل، ويحتاج إلى الشرح حتى يتبين وجه التمثيل بين هذا الكافر وبين الكلب، وهو أن يقال: أراد أن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر، وإن تركته لم يهتد، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب؛ فإنه إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثًا، وإن ترك وربض كان أيضًا لاهثًا، فهو [في الحالتين لاهث كهذا الكافر] (٢) في الحالتين ضال، وذلك أن بلعام زُجر ونهي عن الدعاء على موسى في ينزجر ولم ينتفع بالزجر، يبين هذا ما قاله أبو إسحاق قال: (ضرب الله تعالى للتارك لآياته والعادل عنها أحسن (٣) شيء في أخس أحواله مثلًا فقال: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾، إذا كان الكلب لهثان؛ لأن التمثيل به على أنه على كل حال حملت عليه أو لم تحمل، فمعناه: فمثله كمثل الكلب لاهثًا) (٤).
فقد بين أبو إسحاق أنه مثل بالكلب إذا كان لاهثًا، واللهث في الكلاب طباع، وقد كشف ابن قتيبة عن هذا المعنى فقال: (كل شيء يَلهثُ
(١) أخرجه الطبري ٩/ ١٢٩، بسند جيد عن معمر عن بعضهم، وذكره الثعلبي ٦/ ٢٤ أ، وقال الشيخ أحمد شاكر في "حاشية الطبري": (كأنه يعني بقوله عن بعضهم الكلبي ولذلك نكّره) اهـ.
وقد أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٤٤، عن معمر عن الكلبي، وذكره هود الهواري ٢/ ٦٠ عن الكلبي.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) في (أ): (أخس شيء في أخس أحواله)، وفي (ب): (أحسن شيء في أحسن أحواله) وعند الزجاج في "معانيه" ٢/ ٣٩١: (أحسن مثل في أخس أحواله).
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩١، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ١٠٦.
470
إنما يلهث من إعباء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال الري، وحال العطش، فضربه الله مثلًا لهذا الكافر (١) فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث) (٢) انتهى كلامه، وهذا التمثيل لم يقع لكل كلب إنما وقع بالكلب اللاهث، وذلك بأخس ما يكون وأبشعه (٣) ثم قال عز من قائل: ﴿ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾. فعم بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله.
قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: أهل مكة كانوا يتمنون هاديًا يهديهم وداعيًا يدعوهم إلى طاعة الله، فلما جاءهم من لا يشكون في صدقه كذبوه) (٤)، والتمثيل بينهم وبين الكلب كالتمثيل الأول فإنهم لم يهتدوا لما تركوا، ولم يهتدوا أيضًا لما دعوا بالرسول والكتاب، وزجروا بالوعيد، وكانوا ضالين عن الرشد في الحالتين كهذا الكلب اللاهث في الحالتين لاهث طرد أو ترك (٥).
(١) في "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٦٩: (لمن كذب بآياته).
(٢) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٦٩.
(٣) في (ب): (كأنها أشنعه) وقال القرطبي ٧/ ٣٢٣: (هذا المثل في قول كثير من أهل العلم بالتأويل عام في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به وقيل: هو في كل منافق والأول أصح) اهـ. وانظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٧٣، والسمرقندي ١/ ٥٨٣، و"بدائع التفسير" ٢/ ٣١٢ - ٣١٤.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٢، والرازي ١٥/ ٥٧، وذكره البغوي ٣/ ٣٠٥ بلا نسبة.
(٥) في (ب): (ترك وطرد)، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٢٩، والسمرقندي ١/ ٥٨٣.
471
وقوله تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ﴾. قال عطاء (١): (يريد: قصص الذين كفروا وكذبوا أنبيائهم. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. يريد: يتعظون) (٢).
١٧٧ - قوله تعالى: ﴿سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ﴾ الآية. قال الليث: (ساء يسوء فعل لازم ومجاوز، يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح، وهاءه يسوءه مساءة، ويقال: ساء ما فعل صنيعًا، [أي: قبُح صنيعه صنيعًا، ومن هذا الباب قوله: ﴿سَاءَ مَثَلاً﴾] (٣) أي: قبح مثلهم) (٤).
قال ابن عباس (٥): يريد: بئس مثل القوم ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾.
فأما: تقدير الآية في الإعراب، فأكثر النحويين (٦) قالوا: (تقديره: ساء مثلًا مثل القوم] (٧) ثم حذف المضاف)، وهو قول أبي إسحاق (٨)،
(١) لفظ: (عطاء) ساقط من (ب).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٩١، وذكره الرازي ١٥/ ٥٧، بلا نسبة.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) "تهذيب اللغة" ١٥٨٣، مع بعض الاختلاف والزيادة، وانظر: "العين" ٧/ ٣٢٧، و"الجمهرة" ١/ ٢٣٧، و"الصحاح" ١/ ٥٥، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١١٣، و"المفردات" ص ٤٤٢، و"اللسان" ٤/ ٢١٣٨ (ساء).
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٢، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٢.
(٦) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٥٢، و"التبيان" ص ٣٩٦، و"الدر المصون" ٥/ ٥١٨.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٢٩١، وهو قول الأخفش في "معانيه" ٢/ ٣١٥، وأبو علي الفارسي في "الإيضاح" ص ١٢٨، وقال ابن الشجري في "أماليه" ٣/ ١٨٣: (ساء بمنزلة (بئس) وقوله: ﴿سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ﴾) الصواب أن تقديره: (ساء مثلاً مثلُ القوم ومن زعم أن التقدير، ساء مثلاً هم القوم، فقد أخطأ خطأ فاحشًا) اهـ. بتصرف.
472
وعلى هذا انتصب ﴿مَثَلًا﴾ على التمييز، و ﴿سَاءَ﴾ هاهنا بمنزلة (بئس)، ألا ترى أن ابن عباس فسره به، ولو قلت: (بئس) رجلاً زيد، نصبت رجلاً على التشبيه بالمفعول، وهو بمعنى التمييز؛ لأنك إذا قلت: (بئس) جاز أن تذكر شيئًا آخر سوى مثلاً، ورجلًا (١) من حمار وفرس، وأي ما كان (٢)، فإذا ذكرت نوعًا ميزته من سائر الأنواع، وفي (ساء) ضمير فاعل لأنه فعل والفعل لا يخلو من فاعل فصار المميز كالمفعول، وارتفع ﴿الْقَوْمُ﴾ لأنه أقيم مقام المضاف، والمضاف كان يرتفع كما يرتفع (زيد) في قولك: بئس رجلاً زيد، وارتفاعه من وجهين: أحدهما أن يكون مبتدأ ويكون (بئس) وما عملته فيه خبره، والثاني: أن يكون لما قلت: بئس رجلاً، قيل لك: من هو، فقلت: زيد، أي: هو زيد، فيكون رفعه على أنه ابتداء محذوف (٣).
وقال بعضهم: (تقدير الآية (٤): ساء مثل القوم، ثم حول الفعل من المثل إلى القوم فخرج المثل مفسرًا كقولهم: قَرَّ بِهِ عينًا، وضاق به (٥) ذرعًا، وطاب زيدٌ نفسًا، وألم رأسه، ووجع بطنه) (٦).
(١) في (ب): (ورجلًا بين حمار وفرس).
(٢) انظر: "الكتاب" ٢/ ١٧٥ - ١٧٩.
(٣) ذكره أبو علي في "الإيضاح" ص ١٢٦ - ١٢٨، وانظر: "البيان" ١/ ٣٨٠، و"الفريد" ٢/ ٣٨٦.
(٤) ذكره الثعلبي ٦/ ٢٤ ب، وقال مكي في "المشكل" ١/ ٣٠٦: (في ﴿سَاءَ﴾ ضمير الفاعل و ﴿مَثَلًا﴾ تفسير و ﴿الْقَوْمُ﴾ رفع بالابتداء وما قبله خبره أو رفع على إضمار مبتدأ تقديره: ساء المثل مثلاً هم القوم الذين. مثل: نعم رجلاً زيدُ) اهـ. وانظر: "غرائب الكرماني" ١/ ٤٢٨
(٥) لفظ: (به) ساقط من (ب).
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٢٤ ب
473
قال أهل المعاني: (هذه الآية بيان عن ذم المكذب بآيات الله بأن مثله أسوأ مثل وأن نفسه ظلم وحظه خسر) (١).
١٧٨ - قوله تعالى: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ﴾. قال ابن عباس (٢): (يريد: من يرشده الله (٣) إلى دينه).
وقال ابن كيسان (٤): (يريد: من يتول الله تنبيهه وإرشاده ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾)، يجوز إثبات الياء فيه على الأصل، ويجوز حذفها استخفافًا كما قيل في بيت الكتاب:
وطرتُ بمنصلي (٥) في يعملاتٍ دوامي (٦) الأيدِ يخبطن السريحا
(١) لم أقف عليه
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٢.
(٣) في (ب): (من يرشد الله).
(٤) لم أقف عليه.
(٥) الشاهد لمضرس بن ربعي الأسدي في "اللسان" ١/ ٥٠٩ (ثمن)، ٤٩٥١ (يدي) وبلا نسبة في: "الكتاب" ١/ ٢٧ و٤/ ١٩٠، و"الجمهرة" ١/ ٥١٢، و"الإغفال" ص ٨٨٠، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥١٩ - ٧٧٢، و"الخصائص" ٢/ ٢٦٩ - ٣/ ١٣٣، و"المنصف" ٢/ ٧٣، و"الصحاح " ٥/ ٢٠٨٩ (ثمن) و٦/ ٢٥٣٩ (يدي)، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٢٨٩، و"الإنصاف" ص ٤٢٩، و"تفسير الرازي" ١٥/ ٥٩، و"اللسان" ٢/ ١٥٩٣ (خبط)، و"الدر المصون" ٥/ ٥٢٠، و"المغني" لابن هشام ١/ ٢٢٥، وهو لمضرس أو ليزيد بن الطثرية في "اللسان" ١/ ٦١٥ (جزر)، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي ٢/ ٥٩٨، و (المنصُل: السيف، ويعملات: جمع يعملة وهي الناقة القوية على العمل، والسريح: جلود أو خرق تشد على الأخفاف حين تحفى الناقة، والشاهد: الأيد، حيث حذف الياء للضرورة والأصل الأيدي).
(٦) في (ب): "دوام" وكذا في بعض نسخ "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥١٩ كما أشار محققه في الحاشية.
474
ومن أبياته أيضًا:
كنواح ريش حمامة نجدية ومسحت باللثتين عصف الأثمد (١)
قال أبو الفتح (٢): (يريد: كنواحي، فحذف الياء لأنه شبه المضاف إليه بالتنوين فحذف الياء لأجله كما يحذفها لأجل التنوين، لأنهما يتعاقبان، كما شبه الأول لام المعرفة في الأيد بالتنوين من حيث كانت هذه الأشياء من خواص الأسماء، ومتعقبة عليها فحذف الياء لأجل اللام كما يحذف لأجل التنوين. قال: هكذا أخذت من لفظ أبي علي) (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: من يضله (٤) الله ويخذله ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ يريد: خسروا الدنيا والآخرة) (٥).
(١) "الشاهد" لخفاف بن ندبة الأسدي في "ديوانه" ص ٥١٤، و"الكتاب" ١/ ٢٧، و"الإنصاف" ص ٤٣٠، و"اللسان" ١/ ٤٦٠ (تيز)، ٤٩٥١ (يدي)، و"شرح شواهد المغني" ١/ ٣٥٤، وبلا نسبة في: "المنصف" ٢/ ٢٢٩، "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٧٧٢، و"الصحاح" ٦/ ٢٥٣٩ (يدي)، و"تفسير الرازي" ١٥/ ٥٩، و"الدر المصون" ٥/ ٥٢٠، و"المغني" لابن هشام ١/ ١٠٥، وعصف الأثمد: ما سحق من حجر الكحل، وهو يصف شفتي المرأة ويشبهها بنواحي الريش يقول: (مسحت اللثتين بعصف الأثمد فقلب).
والشاهد: "كنواح" والأصل كنواحي حيث حذف الياء للضرورة
(٢) أبو الفتح: عثمان بن جني، نحوي مشهور. تقدمت ترجمته.
(٣) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٧٧٢ - ٧٧٣، وانظر: قول أبي علي الفارسي في "الإغفال" ص ٨٨٠ - ٨٨١.
(٤) في (ب): (يضلله).
(٥) ذكره "الواحدي" ٢/ ٢٧٢، والرازي ١٥/ ٥٩ بلا نسبة.
475
١٧٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ (١). قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: لا يعقلون بها ثوابًا ولا يخافون عقابًا) (٢).
وقال الكلبي: (لا يعقلون بها الخير والهدى) (٣).
﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا﴾.
قال عطاء: (يريد: سبيل الهدى والرشاد)، ﴿وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا﴾. قال: (يريد مواعظ الله والقرآن) (٤).
قال مقاتل: (﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ الآية. يقول الله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ الآية [البقرة: ٧]، فمن ثم لم تفقه قلوبهم، ولم تبصر أعينهم، ولم تسمع آذانهم) (٥).
وقال أهل المعاني: (إنما نفى عنهم الإدراكات لأنهم يعرضون في جميع ذلك إعراض من لا يدرك فهم في تركهم الحق وإعراضهم عنه بمنزلة من لا يفقه ولا يبصر ولا يسمع) (٦).
وهذه الآية صريح في الرد على القدرية؛ لأن الله تعالى ذكر أنه خلق كثيراً من الإنس والجن للنار، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية
(١) هنا في (ب): رجوع إلى الأصل في ترتيب الأوراق فوقع تفسير الآية في ١٧٧ ب.
(٢) ذكره القرطبي ٧/ ٣٢٤ بلا نسبة.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٤.
(٤) ذكره أكثرهم بلا نسبة. انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٢٥ أ، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٤، والبغوي ٣/ ٣٠٦، والقرطبي ٧/ ٣٢٤، والخازن ٢/ ٣١٧.
(٥) "تفسير مقاتل" ٢/ ٧٦.
(٦) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٣/ ٢٩٢، والخازن ٢/ ٣١٧.
476
بالشقاوة والعذاب، ومن خلقه الله لجهنم، فلا حيلة له في الخلاص (١).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ﴾. قال الكلبي: (شبههم بالأنعام في المأكل والمشرب) (٢).
وقال مقاتل: (يأكلون ويشربون لا يلتفتون إلى الآخرة كما تأكل الأنعام وتشرب لا همة لها إلا الأكل، فهي تسمع ولا تعقل، كذلك الكافر) (٣).
وقوله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾.
قال عطاء: (يريد (٤) إن الأنعام تعرف ربها وتحذر الهلاك) (٥)، وقال الكلبي: (لأن الأنعام مطيعة لله، والكافر (٦) غير مطيع لله) (٧).
قال مقاتل: (هم أخطأ طريقًا من الأنعام؛ لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه) (٨).
وقال أبو إسحاق في قوله: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾: (وذلك أن الأنعام تُبصر منافعها ومضارها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء يعلم (٩) أكثرهم أنه معاند فيقدم على النار) (١٠).
(١) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ٦٠ - ٦١، والقرطبي ٧/ ٣٢٤.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٧٦.
(٤) لفظ: (يريد) ساقط من (أ).
(٥) في القرطبي ٧/ ٣٢٥ قال عطاء: (الأنعام تعرف الله والكافر لا يعرفه) اهـ.
(٦) لفظ: (والكافر) ساقط من (ب).
(٧) ذكره الرازي ١٥/ ٦٥، والقرطبي ٧/ ٣٢٥، والخازن ٢/ ٣١٨ بلا نسبة.
(٨) "تفسير مقاتل" ٢/ ٧٦.
(٩) في (ب): (وهؤلاء لا يعلم)، وهو تحريف.
(١٠) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٢، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ١٠٧.
477
قال مقاتل: (يعني: كفار مكة) (١).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.
قال عطاء: (عما أعد الله لأوليائه (٢) من الثواب، وما أعد لأعدائه من العقاب) (٣).
وقال الكلبي: (عن أمر الآخرة، وما فيها من العذاب) (٤).
١٨٠ - قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾. قال المفسرون: (هي ما ذكره أبو هريرة عن النبي - ﷺ - قال: "إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة غير واحدة" (٥)، ثم ذكرها (٦)، وكل اسم ورد به
(١) "تفسير مقاتل" ٢/ ٧٦.
(٢) في (ب): (عما أعد الله أوليائه)، وهو تحريف.
(٣) ذكره الرازي ١٥/ ٦٥، وأبو حيان في "البحر" ٤/ ٤٢٨.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٢، وذكره "الواحدي" ٢/ ٢٧٥، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٢ بلا نسبة.
(٥) أخرج البخاري في "صحيحه" رقم (٢٧٣٦) كتاب الشروط، باب: ما يجوز من الاشتراط والثُّنْيَا في الإقْرار، ورقم (٧٣٩٢) كتاب الدعوات، باب: لله مائة اسم غير واحدة، ورقم (٦٤١٠) كتاب التوحيد، باب: لله عز وجل مائة اسم غير واحد، ومسلم رقم (٢٦٧٧) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة" وفي رواية لمسلم: "من حفظها".
(٦) الحديث الذي فيه ذكر الأسماء، أخرجه ابن ماجه كتاب الدعاء رقم (٣٨٦٠)، والترمذي رقم (٣٥٠٧) كتاب الدعوات عن رسول الله، والحاكم في "المستدرك" ١/ ١٦ - ١٧، والبيهقي في "سننه" ١٠/ ٢٧، وفي "الأسماء والصفات" ص ١٥ - ١٩، عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - قال: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة" ثم سرد الأسماء وفيها اختلاف وزيادة ونقص، وقال =
478
التوقيف (١) فهو داخل في هذا، ألا ترى أن الله تعالى ذكر الأسماء بلفظ التعريف، فدل أنها محصورة، محدودة، معلومة بالشرع (٢).
= الترمذي: (هذا حديث غريب، وذكر الأسماء ليس له إسناده صحيح) اهـ.
وقال شيخ الإسلام في "الفتاوى" ٦/ ٣٧٩ - ٣٨٢، و٨/ ٩٦ - ٩٧، و٢٢/ ٤٨٢: (إسناده ضعيف وتعيينها ليس من كلام النبي - ﷺ - باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي - ﷺ -) اهـ.
وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٢٩٨: (الذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه) اهـ.
وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٨٠٢ - ٨١٦، و"فتح الباري" ١١/ ٢١٤ - ٢٢٩، و"تلخيص الحبير" ٤/ ١٧٢ - ١٧٤، و"الدر المنثور" ٣/ ٢٦٩ - ٢٧٠.
(١) أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها فلا يجوز تسميته بما لم يرد به السمع بل يجب الوقوف فيها على ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأن ذلك من الأمور الغيبية، ولأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء ولأن تسميته بما لم يسم به نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه تعالى فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص، أفاده الشيخ: محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- في "القواعد المثلى" ص ١٣، وانظر: "شرح أسماء الله الحسنى" للرازي ص ٣٦.
(٢) قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في "القواعد المثلى" ص ١٣ - ١٤: (أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به والحديث لا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: إن أسماء الله تسعة وتسعون اسمًا من أحصاها دخل الجنة أو نحو ذلك، فمعنى الحديث أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاها دخل الجنة وعلى هذا فيكون قوله: "من أحصاها دخل الجنة" جملة مكملة لما قبلها وليست مستقلة ونظير هذا أن تقول: عندي مدّة درهم أعددتها للصدقة، فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدفة) اهـ.
وقال النووي في "شرح مسلم" ١٧/ ٧ - ٨: (اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين وإنما =
479
وقوله تعالى: ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾؛ دعاؤه بها تعظيمه بذكرها؛ كقولك: يا قدير يا عليم يا كريم، قال أبو إسحاق (١): إلا ينبغي أنا تدعوه بما لم يصف به نفسه أو لم يسم به نفسه، فلا ينبغي أن يقال: سَخيٌّ بمعنى: جواد، ولا رفيق بمعنى: رحيم، ولا جلد بمعنى: قوي؛ لأنه لم يصف نفسه بهذه الألفاظ).
وقال غيره: (في هذه الآية دليل على أن من أفضل الدعاء أن تدعوا الله بالأسماء الحسنى كما ذكر الله وأمر به) (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾. وقرأ (٣) حمزة: ﴿يُلْحِدُونَ﴾، ووافقه عاصم (٤) والكسائي في النحل، قال الفراء: (يُلحدون ويَلْحَدُونَ لغتان، يقال: لحدت لحدًا وألحدت) (٥).
= مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصرها) اهـ. وانظر: "الأسماء والصفات" ص ٢٧، و"الفتاوى" لشيخ الإسلام ٦/ ٣٨١، و"فتح الباري" ١١/ ٢١٤.
(١) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٢، وفيه بعض الاختلاف ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ١٠٨.
(٢) انظر: "بدائع التفسير" لابن القيم ٢/ ٣١٦.
(٣) قرأ حمزة: ﴿يُلْحِدُونَ﴾ هنا، وفي النحل: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ﴾ [النحل: ١٠٣]، وفي فصلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ﴾ [فصلت: ٤٠] بفتح الياء والحاء في الثلاثة، ووافقه الكسائي في النحل، وقرأ الباقون جميع ذلك بضم الياء وكسر الحاء، انظر: "السبعة" ص ٢٩٨، و"المبسوط" ص ١٨٦، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٩، و"التيسير" ص ١١٤، و"النشر" ٢/ ٢٧٣.
(٤) كذا في النسخ وعند الرازي ١٥/ ٧١، وهو وهم أو تحريف من الناسخ، فعاصم يقرأ بضم الياء وكسر الحاء في الثلاثة المواضع كما سبق، وانظر: سورة النحل في "السبعة" ص ٣٧٥، و"المبسوط" ص ٢٢٦، و"التذكرة" ٢/ ٤٦٤.
(٥) ذكره الرازي ١٥/ ٧١، ولم أقف عليه في "معانيه" وفي "تهذيب الأزهري" ٤/ ٣٢٤٣ =
480
قال أهل اللغة (١): (معنى الإلحاد في اللغة: الميل عن القصد)، وقال ابن السكيت: (الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس فيه، قال: قد ألحد في الدين ولحد) (٢)، وقال غيره من أهل اللغة: (الإلحاد العدل عن الاستقامة والانحراف عنها، ومنه اللَّحد الذي يحفر جانب القبر خلاف الضريح الذي يحفر في وسطه) (٣)، والأجود قراءة العامة؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ [الحج: ٢٥].
والإلحاد أكثر في كلامهم لقولهم: ملحد، ولا تكاد تسمع (٤) العرب
= (لحد) "معاني القراءات" ١/ ٤٣٠، قال الفراء: (يقرأ ﴿يُلْحِدُونَ﴾ -بالفتح- أي: يميلون إليه وبالضم أي يعترضون) اهـ. بتصرف. وانظر: كتاب "الأفعال" للسرقسطي ٢/ ٤١١.
(١) لفظ: "اللغة" غير واضح في (ب).
(٢) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٤٢. وانظر: "العين" ٣/ ١٨٢، و"الجمهرة" ١/ ٥٠٥، و"الصحاح" ٢/ ٥٣٤، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢٣٦، و"المجمل" ٣/ ٨٠٣، و"المفردات" ص ٧٣٧، و"اللسان" ٧/ ٤٠٠٥ (لحد).
وقال ابن الأنباري في "الزاهر" ١/ ١٤٣ - ١٤٤: (الملحد في كلام العرب: الجائر عن الحق ويقال: قد لحدت الرجل إذا أدخلته اللحد وألحدته إذا صنعت له لحدًا، ويقال: قد ألحد الرجل ولحد: إذا جار، وفرق الكسائي بينهما فقال: ألحد: جار، ولحد: ركن) اهـ.
(٣) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١٠٨، ونحوه ذكر اليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٥٣. وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٣، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٣، و"نزهة القلوب" ص ٥٠٩، و"تفسير المشكل" ص ٨٨.
(٤) ذكره السمين في "الدر" ٥/ ٥٢٣، عن الواحدي وقال: (امتناعهم عن مجيء اسم فاعل الثلاثي يدل على قلته ومن كلامهم لحده اللاحد) اهـ.
481
لاحدًا، فمن جمع بينهما في قراءته فكأنه أراد الأخذ بكل واحدة من اللغتين (١).
قال ابن عباس ومجاهد (٢): (﴿الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ هم المشركون، عدلوا بأسماء الله عما هي عليه فسموا بها أوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، واشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان).
وقال أهل المعاني: (الذين يلحدون في أسماء الله الذين (٣) يسمون الله بما لم يسمّ به نفسه، ولم ينطق به كتاب، ولا دعا إليه رسول) (٤).
يدل على صحة هذا ما روى عن ابن عباس أنه قال: (﴿يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ أي: يكذبون) (٥).
(١) هذا قول أبي علي الفارسي في "الحجة" ٤/ ١٠٨، وانظر: "إعراب القراءات" ١/ ٢١٥، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٨، ولابن زنجلة ص ٣٠٣، و"الكشف" ١/ ٤٨٤ وقال الطبري في "تفسيره" ٩/ ١٣٤: (الصواب أنهما لغتان بمعنى واحد، غير أن قراءة الضم أشهر وأفصح) اهـ. وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٥، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٥٣، و"معانيه" ٣/ ١٠٨.
(٢) أخرج الطبري ٩/ ١٣٣ - ١٣٤ بسند ضعيف عن ابن عباس ومجاهد نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٣، بسند ضعيف عن ابن عباس نحوه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٢٥ ب، والماوردي ٢/ ٢٨٢، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٦، والبغوي ٣/ ٣٠٧، والخازن ٢/ ٣١٩، عن ابن عباس ومجاهد، وقال ابن الأنباري في "الزاهر" ١/ ١٤٣: (قال المفسرون: هو اشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز) اهـ.
(٣) لفظ: (الذين) ساقط من (ب).
(٤) ذكره الثعلبي ٦/ ٢٥ ب، والبغوي ٣/ ٣٠٧، والخازن ٢/ ٣١٩، عن أهل المعاني.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ١٣٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٣ بسند جيد.
482
وقال زيد بن أسلم: (يميلون عن الحق) (١). فكل من سمّى الله بما لم يرد به توقيف فقد كذب في ذلك (٢) التسمية ومال عن الحق (٣).
وقوله تعالى: ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي: جزاء ما كانوا يعملون في الآخرة (٤).
١٨١ - قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ﴾ الآية. روى قتادة وابن جريج عن النبي - ﷺ -: "أنها هذه الأمة" (٥).
وروي أيضًا أنه قال: "هذه لكم وقد أعطى الله قوم موسى مثلها" (٦).
وقال الربيع بن أنس: (قرأ النبي - ﷺ - هذه الآية فقال: "إن من أمتي قومًا على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم" (٧).
(١) ذكره الثعلبي ٦/ ٢٥ ب.
(٢) كذا في النسخ: (ذلك)، والأولى (تلك).
(٣) قال أهل العلم: (الإلحاد في أسماء الله تعالى أنواع أحدها: أن يسمى الأصنام بها، والثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله، والثالث: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، الرابع: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها وأنها مجرد أعلام فقط وألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، الخامس: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علوًا كبيرًا)، أفاده ابن القيم في "بدائع التفسير" ٢/ ٣١٤، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٥٣، و"أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٨١٦، والقرطبي ٧/ ٣٢٨.
(٤) لفظ: (أي جزاء ما كانوا يعملون) ساقط من (ب).
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ١٣٥ من طرق جيدة عن ابن جريج وقتادة وهو مرسل، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٢، وقال: (أخرجه ابن جرير وابن المنذر، وأبو الشيخ عن ابن جريج، وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة) اهـ. وذكره الثعلبي ٦/ ٢٦ أ، والماوردي ٢/ ٢٨٣، عن قتادة وابن جريج.
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ١٣٥ بسند جيد عن قتادة وهو مرسل وتابع لما سبق عن قتادة.
(٧) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٣، وهو مرسل، وأخرج البخاري رقم (٧٣١١) =
وقال ابن عباس: (يريد: أمة محمد - ﷺ -، وهم المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) (١).
وقوله تعالى: ﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾. قد ذكرنا ما فيه عند قوله: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ﴾ [الأعراف: ١٥٩].
١٨٢ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾، قال الكلبي: (يعني: أهل مكة كذبوا بمحمد والقرآن) (٢).
وقوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾. الاستدراج في اللغة (٣):
= كتاب التوحيد، باب: قول النبي - ﷺ -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين"، ومسلم رقم (١٩٢١) كتاب الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله" اهـ.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٧، والبغوي ٣/ ٣٠٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٤، والرازي ١٥/ ٧٢، والخازن ٢/ ٤٢٠، وذكره الثعلبي ٦/ ٢٦ أ، عن عطاء فقط، وأكثرهم على أنه في أمة محمد - ﷺ -.
وقال "النحاس" ١/ ٦٥٣: (دل الله جل وعز بهذه الآية أنه لا تخلو الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق) اهـ، وانظر: السمرقندي ١/ ٥٨٥، ابن عطية ٦/ ١٥٨، و"البحر" ٤/ ٤٣٠.
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٣. وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٧، وهو قول السمرقندي ١/ ٥٨٦، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٢٩٤، والرازي ١٥/ ٧٣، والقرطبي ٧/ ٣٢٩، عن ابن عباس، والظاهر العموم وأول ما يدخل كفار مكة، وهو اختيار الرازي ١٥/ ٧٣، والخازن ٢/ ٣٢٠، قال الخازن: (هذا أولى لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه) اهـ.
(٣) انظر: "العين" ٦/ ٧٧، و"الصحاح" ١/ ٣١٣، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٧٥، و"المجمل" ٢/ ٣٢٥، و"المفردات" ص ٣١١، و"اللسان" ٣/ ١٣٥٢ (درج).
484
الأخذ بطيِّ منزلةٍ (١) وأصله من الدرج، وهو لفُّ الشيء، يقال: درجته وأدرجته ودرجته، وأدرجت المرأة صبيها في المعاوز (٢)، وأدرج الميت في أكفانة، وأدرجت الكتاب في الكتاب إذا طويته فيه (٣)، والاستدراج هو طي منزلة بعد منزلة، ويجوز أن يكون من الدرجة فيكون معنى الاستدراج في الأمر: أن يحط درجة بعد درجة حتى ينتهي إلى مقصوده، وهذا معنى الاستدراج في اللغة، وهو معنى قول المفسرين (٤) وأهل المعاني (٥).
وقال أبو عبيدة (٦): والمؤرج (٧): (الاستدراج أن آتيه من حيث لا يعلم)، وهو معنى قول ابن عباس (٨): (سنمكر بهم من حيث لا يعلمون).
وقال الكلبي: (يزين لهم أعمالهم فيهلكهم) (٩).
(١) لفظ: (بطي منزلة) ساقط من (ب).
(٢) المعاوز، جمع معوز -بكسر الميم وسكون العين وفتح الواو-: وهو الثوب الخلق وخرقة يلف بها الصبي. انظر: "اللسان" ٥/ ٣١٦٩ (عوز).
(٣) ما تقدم في "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٦٨ (درج).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٣٥، والسمرقندي ١/ ٥٨٦، والماوردي ٢/ ٢٨٣.
(٥) انظر: "معاني النحاس" ٣/ ١٠٩.
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٣ وزاد: (ومن حيث تلطف له حتى تغتره). ونحوه قال اليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٥٤.
(٧) ذكره الثعلبي ٦/ ٢٦ ب.
(٨) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٧، وذكره الثعلبي ٦/ ٢٦ ب، والبغوي ٣/ ٣٠٨ عن عطاء.
(٩) ذكره السمرقندي في "تفسيره" ١/ ٥٨٦، والثعلبي ٦/ ٢٦ ب والبغوي ٣/ ٣٠٨، والخازن ٢/ ٣٢٠.
485
وقال الضحاك: (كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة) (١).
وقال الأزهري: (قيل في قوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾: سنأخذهم قليلاً من حيث لا يحتسبونه، وذلك أنه جل وعز يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه أنسًا به (٢)، ثم يأخذهم علي غرّتهم أغفلَ ما يكونون (٣)، ولهذا قال عمر (٤) -رضي الله عنه- لما حُمل إليه كنوز كسرى: "اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجًا؛ فإني أسمعك تقول: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ") (٥).
وقال عبد الله بن مسلم: (الاستدراج أن يُدنيهم من بأسه قليلاً، ومنه يقال: درجت فلانًا إلى كذا، واستدرج فلانًا حتى تعرف ما عنده، يراد: لا تجاهره ولا تهجم عليه بالسؤال، ولكن استخرج ما عنده قليلاً قليلاً، قال: وأصل هذا من الدرجة، وذلك أن الراقي فيها والنازل منها ينزل مِرْقاة مرقاة، فاستعير (٦) هذا منها) (٧). والاية وعيد للمكذب بآيات الله عز وجل بأنه يستدرجه إلى العذاب من حيث لا يعلم ما إليه يصير (٨).
(١) ذكره الثعلبي ٦/ ٢٦ ب، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٧، والبغوي ٣/ ٣٠٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٥، والقرطبي ٧/ ٣٢٩، والخازن ٢/ ٣٢٠، وقال السجستاني في "نزهة القلوب" ص ٢٦٤ عند شرح كلمة ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾: (جاء في التفسير كلما جددوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيانهم الاستغفار) اهـ.
(٢) في (ب): (أنسيأبهم)، وهو تحريف.
(٣) في (ب): (ما يكون)، وهو تحريف.
(٤) ذكره الرازي ١٥/ ٧٣، والخازن ٢/ ٣٢٠، ولم أقف على إسناده بعد طول بحث.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٦٨ - ١١٦٩ (درج).
(٦) في (ب): (واستعير).
(٧) "تأويل مشكل القرآن" ص ١٦٦.
(٨) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٥٣.
486
١٨٣ - قوله تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾، الإملاء في اللغة (١) الإمهال وإطالة المدة، وهو نقيض الإعجال، والمليُّ زمان طويل من الدهر، ومنه قوله: ﴿وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ [مريم: ٤٦]. أي: طويلاً، ويقال: مُلوة، ومِلوة (٢)، وملاوة من الدهر أي: زمان طويل (٣). فمعنى ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾. أي: أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي، ولا أعاجلهم بالعقوبة على المعصية ليقلعوا عنها بالتوبة والإنابة (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، قال ابن عباس (٥): (يريد: إن مكري شديد)، والمتين من كل شيء القوي (٦)، وقد متن متانة (٧)، ومعنى
(١) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٤، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٤، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٣، و"نزهة القلوب" ص ١٠١، ١١٥، و"تفسير المشكل" ص ٨٨.
(٢) لفظ: (وملوة) ساقط من (ب).
(٣) النص في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤٣٨ (ملا)، ومُلوة بالضم، ومِلوة بالكسر، ومَلاوة بالفتح. وانظر: "العين" ٨/ ٣٤٤، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٩٦، و"المجمل" ٣/ ٨٤١، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٣٥٢، و"المفردات" ص ٧٧٦، و"اللسان" ٧/ ٤٢٥٢ (ملا).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٣٥، و"معاني النحاس" ٣/ ١٠٩، والسمرقندي ١/ ٥٨٦.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٧، والبغوي ٣/ ٣٠٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٥، والرازي ١٥/ ٧٤، والخازن ٢/ ٣٢١، و"البحر" ٤/ ٤٣١.
(٦) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٤، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٤، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٣، و"تفسير أسماء الله الحسنى" للزجاج ص ٥٥، و"اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١٩٤.
(٧) انظر: "العين" ٨/ ١٣١، و"الجمهرة" ١/ ٤١٠، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٣٨، و"الصحاح" ٦/ ٢٢٠٠، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢٩٤، و"المفردات" ص ٧٥٨، و"اللسان" ٧/ ٤١٣٠ (متن).
كيد (١) الله هنا: استدراجه إياهم (٢). قال المفسرون: (نزلت في المستهزئين من قريش؛ قتلهم الله عز وجل في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم حتى صاروا إلى الاغترار بطول السلامة وإسباغ النعمة) (٣).
١٨٤ - وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾. قال أصحاب المعاني: (التفكير طلب المعنى بالقلب كطلب الشخص بالعين) (٤)، وتقدير الآية ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ فيعلموا ﴿مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾، كذلك قال ابن كيسان (٥) وغيره، فحذف (يعلموا)؛ لأن التفكر مؤدٍ إلى العلم، فقام مقامه وأغنى عن ذكره، وذكر صاحب النظم أن بعض أهل العربية قال: (إن قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ تمام الكلام واتصاله بما قبله، وقوله تعالى: ﴿مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ نفي مبتدأ) (٦).
وإلى هذا مال ابن الأنباري؛ لأنه قال: (﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ وقف التمام.
(١) انظر: "العين" ٥/ ٣٩٦، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٥٤، و"نزهة القلوب" ص ٣٨٥، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٠٧٦، و"الصحاح" ٢/ ٥٣٣، و"المفردات" ص ٧٢٨ (كيد).
(٢) انظر: "القواعد المثلى" لابن عثيمين ص ٢٠، و"المفسرون بين التأويل والإثبات" للمغراوي ص ١٣.
(٣) ذكره الثعلبي ٦/ ٢٦ ب، والبغوي ٣/ ٣٠٨، والقرطبي ٧/ ٣٣٠، والخازن ٢/ ٣٢١، و"البحر" ٤/ ٤٣١، وقد اختلف العلماء في المستهزئين من حيث عددهم وكيفية هلاكهم، انظر: "مجمع الزوائد" ٤/ ٤٦، و"الدر المنثور" ٣/ ٢٧٢.
(٤) ذكره الرازي ١٥/ ٧٥، وانظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٨١٨، و"المفردات" ص ٦٤٣ (فكر).
(٥) لم أقف عليه، وضعف هذا القول أبو حيان ٤/ ٤٣٢، والسمين ٥/ ٥٢٥.
(٦) ذكر هذا القول أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤٣٢، والسمين في "الدر" ٥/ ٥٢٥ بلا نسبة.
488
قال: ومثل هذا قوله (١): ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [الروم: ٨] ثم تبتدئ ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ﴾، وقوله في سبأ: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ: ٤٦] ثم تبتدئ: ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾) (٢)، وقد قيل: إن قوله: ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾، إلى آخر الآية كلام معترض بين كلامين، على نظم ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾، ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ﴾ (٣) [الأعراف: ١٨٥]، وأدخل بينهما قوله: ﴿مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾، فلما انقضى هذا رجع إلى المبتدأ الأول وهو قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ فجاء به على لفظ سواه، وهو قوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا﴾ [ومعناهما جميعًا واحد؛ لأن قولك: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾، ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا﴾ واحد، والمعنى] (٤): أولم يتفكروا في خلق السموات والأرض (٥)،
(١) لفظ: (قوله) ساقط من (ب).
(٢) "الإيضاح" لابن الإنباري ٢/ ٦٧١، ومثله ذكر النحاس في "القطع والائتناف" ١/ ٢٦٧، والداني في "المكتفي" ص ٢٨١.
(٣) لفظ: (السموات) ساقط من (أ).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) لفظ: (الأرض) ساقط من (ب)، ولم أقف على هذا القول فيما لدي من مراجع، وأما إعراب الآية: فما نافية و ﴿بِصَاحِبِهِمْ﴾ خبر مقدم، ومن مزيدة ﴿جِنَّةٍ﴾ مبتدأ أي: ما جنة بصاحبهم، وقيل: ما استفهامية مبتدأ، والخبر ﴿بِصَاحِبِهِمْ﴾ أي: أي شيء استقر بصاحبهم من الجنون وجملة ﴿مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ في محل نصب مفعول به لفعل التفكر بعد إسقاط الخافض لأن التفكر من أفعال القلوب فيجوز تعليقه، وهذا هو اختيار أبي حيان في "البحر" ٤/ ٤٣١، والسمين في "الدر" ٥/ ٥٢٥، قال أبو حيان ٤/ ٤٣٢: (هذا هو الظاهر وفي الآية تخريجات ضعيفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها وتفكر مما يثبت في اللسان تعليقه فلا ينبغي أن يعدل عنه) اهـ. وانظر: "غرائب الكرماني"١/ ٤٢٩، و"التبيان" ص ٣٩٦، و"الفريد" ٢/ ٣٨٨، و"الجدول في إعراب القرآن" ٩/ ١٢١.
489
والجِنَّة (١) حالة من الجُنون كالجِلسة والرِّكبة ودخول ﴿مِّن﴾ في قوله ﴿مِّن جِنَّةٍ﴾ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون.
قال الحسن (٢) وقتادة (٣): (إن نبي الله - ﷺ - قام ليلاً على الصَّفا يدعو قريشًا فخذًا (٤) فيقول: "يا بني فلان يا بني فلان" (٥)؛ يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن (٦) صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت حتى الصباح، فأنزل الله تعالى هذا الآية)، وحثهم على التفكر في أمر الرسول ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال.
(١) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٤، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٤، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٣، و"تهذيب اللغة" ١/ ٦٧١، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٩٣ (حسن).
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٨، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٦، والرازي ١٥/ ٧٥، و"البحر" ٤/ ٤٣١، عن الحسن وقتادة، وذكره الخازن ٢/ ٣٢١ عن المفسرين.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ١٣٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٤ بسند جيد عن قتادة مرسلًا. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٣، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن قتادة)، وذكره الثعلبي ٦/ ٢٦ ب، والبغوي ٣/ ٣٠٩، و"الكشاف" ٢/ ١٣٣، عن قتادة وقال ابن حجر في "الكافي الشاف" ص ٦٦٩: (أخرجه الطبري بإسناد صحيح إلى قتادة) اهـ.
وقد أخرج الطبري ١٩/ ١١٨ - ١٢٣ من عدة طرق جيدة نحوه عن جماعة منه الصحابة، وعن قتادة والحسن وغيرهما بدون ذكر الآية وذلك عندما نزل عليه قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٤]، وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٧٣.
(٤) فخذ الرجل: نفرة من حيه الذين هم أقرب عشيرته إليه فهو فرقة من الجماعات أولها الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ، انظر: "اللسان" ٦/ ٣٣٦٠ (فخذ).
(٥) لفظ: (يا بني فلان) ساقط من (أ).
(٦) لفظ: (إن) ساقط من (ب).
490
١٨٥ - قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية. قال أهل المعاني: (حثهم الله على النظر المؤدي إلى العلم، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ ليستدلوا على أن لها صانعًا مدبرًا دبرها علي ما أراد) (١)، قال الزجاج: (والمعنى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا﴾ فيما دلهم الله به على توحيده) (٢)، ومضى الكلام في معنى (٣) ﴿مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ في سورة الأنعام. وقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾، أي: وفيما خلق الله من الأشياء كلها، قال ابن عباس: (يريد: من جليل وصغير) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾، أي: وفي (أن) لعل آجالهم قريبة، فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار. و (أن) في (٥) ﴿وَأَنْ عَسَى﴾ بمعنى: أنه، فهو مخفف (٦) من الثقيل كقول الأعشى (٧):
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٣٦، والبغوي ٣/ ٣٠٩، وابن عطية ٦/ ١٦٢، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٦، والرازي ١٥/ ٧٦، والقرطبي ٧/ ٣٣٠.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٢.
(٣) لفظ: (معنى) ساقط من: (أ).
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٧٨، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٨١٦.
(٥) في (ب): (وإن في عسى أن)، وهو تحريف.
(٦) هذا هو الظاهر فأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، وجملة: ﴿عَسَى أَنْ يَكُونَ﴾ خبرها، وهذا اختيار أبي حيان في "البحر" ٤/ ٤٣٢، والسمين في "الدر" ٥/ ٥٢٦، وانظر: "التبيان" ص ٣٩٧، و"الفريد" ٢/ ٣٨٩.
(٧) "ديوانه" ص ١٤٧ والبيت:
في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل
هذه رواية النحاة. أما الديوان ففيه:
أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل
وقد سبق تخريجه والكلام عليه.
قد علموا... أن هالك.......
أي: أنه هالك، وقد بينا ذلك في مواضع.
قال الزجاج: (أي: إن (١) كانوا يسوّفون بالتوبة فعسى ﴿عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾) (٢) قال ابن عباس: (يريد: قتلهم يوم بدر، ويوم أحد) (٣)
وقوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾. قال: (يريد: فبأي (٤) قرآن غير ما جاء به محمد يصدقون) (٥)، وقال أهل المعاني: (هذا دليل على أن محمدًا خاتم الرسل وأن الوحي ينقطع بعد القرآن) (٦).
١٨٦ - قوله تعالى: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾، قال المفسرون: (ذكر علة إعراضهم عن الإيمان والقرآن وهو إضلال الله إياهم) (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَنَذَرُهُمْ﴾ رَفْعٌ بالاستئناف، وهو مقطوع مما قبله (٨).
(١) في (أ): (أي إذ كانوا)، وهو تحريف.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٢.
(٣) ذكره القرطبي ٧/ ٣٣٤، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ٢/ ٧٨.
(٤) في (ب): (يريد فبغير قرآن).
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٥، وذكره "الواحدي" ٢/ ٢٧٩، والبغوي ٣/ ٣٠٩، والقرطبي ٧/ ٣٣٤، بلا نسبة.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٣٦، والسمرقندي ١/ ٥٨٦، والبغوي ٣/ ٣٠٩.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٣٧، والثعلبي ٦/ ٢٧ أ، والبغوي ٣/ ٣٠٩، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٦، والقرطبي ٧/ ٣٣٤، والخازن ٢/ ٣٢١.
(٨) هذا على قراءة الرفع، أما الجزم فلا يوقف على ما قبله ولا يبتدأ به لأنه معطوف على موضع الفاء وما بعدها من قوله: ﴿فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾ فلا يقطع من ذلك، أفاده الداني في "المكتفى" ص ٢٨١، وانظر: "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٦٧٢، و"القطع والائتناف" ص ٢٦٧، و"التذكرة" لابن غلبون ٢/ ٤٢٩.
492
وقرأ (١) أبو عمرو بالياء لتقدم اسم الله (٢) سبحانه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء والجزم، ووجه ذلك فيما يقول سيبويه (٣): (إنه عطف على موضع الفاء وما بعدها من قوله: ﴿فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾؛ لأن موضع الفاء مع ما بعدها جزم بجواب الشرط). فحمل ﴿وَيَذَرُهُمْ﴾ على الموضع، والموضع جزم، كقول أبي دواد (٤):
فأبلوني بليتكم (٥) لعلي أصالحُكم وأستدرجْ نويَّا (٦)
(١) قرأ عاصم وأبو عمرو: ﴿وَيَذَرُهُم﴾ بالياء ورفع الراء، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء وقرأ الباقون بالنون ورفع الراء، انظر: "السبعة" ص ١٩٨، و"المبسوط" ص ١٨٧، و"التذكرة" ٢/ ٤٢٩، و"التيسير" ص ١١٥، و"النشر" ٢/ ٢٧٣.
(٢) أي: قراءة الياء على الغيبة لتقدم اسم الله تعالى وهو على لفظ الغيبة كما في "الحجة" لأبي علي ٤/ ١٠٩، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٣، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٥٤.
(٣) "الكتاب" ٣/ ٩٠، وفيه ذكر قراءة الجزم وقال: (وذلك لأنه حمل الفعل على موضع الكلام؛ لأن هذا الكلام في موضع يكون جوابًا؛ لأن أصل الجزاء الفعل، وفيه تعمل حروف الجزاء ولكنهم قد يضعون في موضع الجزاء غيره) اهـ.
(٤) أبو دواد الإيادي: جارية بن الحجاج، شاعر جاهلي قديم يضرب به المثل في الجود والإجارة، وأكثر أشعاره في المدح والفخر وأوصاف الخيل، انظر: "الشعر والشعراء" ص ١٤٠، و"الأغاني" ١٦/ ٤٠٢، و"الأعلام" ٢/ ١٠٦.
(٥) في (ب): (بلوتكم).
(٦) "ديوانه" ص ٣٥٠، و"العسكريات" ص ١١٥، و"العضديات" ص ١٢٠، و"الخصائص" ١/ ١٧٦، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٧٠١، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ١٦٤، و"شرح شواهد المغني" ٢/ ٨٣٩، وبلا نسبة في "معاني الفراء" ١/ ٨٨ - ٣/ ١٦٨، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٥٦، و"إعراب النحاس" ٣/ ٤٣٩، و"الخصائص" ٢/ ٤٢٤، و"الأمالي" لابن الشجري ١/ ٤٢٨، و"البيان" ١/ ٣٨٠، و"اللسان" ٥/ ٣٠٨٢ (علل)، و"مغني اللبيب" ٤٢٣٢، و"الدر =
493
حمل (أستدرجْ) على موضع الفاء المحذوفة من قوله: (فلعلي أصالحكم)، والموضع جزم، والحمل على الموضع كثير (١).
قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ﴾، قال ابن عباس: (إن قومًا من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا عن الساعة متى تكون إن كنت نبيًا؟) (٢)، وقال الحسن (٣) وقتادة (٤): (هم قريش، لمحمد - ﷺ -: أسرَّ إلينا متى الساعة؟).
= المصون" ٥/ ٥٢٨، ونسبه ابن هشام في "المغني" ٢/ ٤٧٧ للهذلي، والبيت قاله في قوم جاورهم فأساءوا جواره يقول: أحسنوا لعلي أرجع إلى جواركم، وقول: فأبلوني، أي اصنعوا بي جميلاً، وأستدرج، أي أرجع أدراجي من حيث أتيت، ونويا: يريد نواي وهي النية، والمراد: الوجه الذي يقصده، والشاهد: وأستدرج، حيث جزم على المعنى على تقدير جزم أصالحكم.
(١) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١٠٩ - ١١٠ وأكثرهم على أنه جزم عطف على محل قوله: ﴿فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾ وقيل: إنه سكون تخفيف لتوالي الحركات. انظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٣١، و"إعراب القراءات" ١/ ٢١٦، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٧، ولابن زنجلة ص ٣٠٣، و"الكشف" ١/ ٤٨٥، و"البحر" ٤/ ٤٣٣، و"الدر المصون" ٥/ ٥٢٨.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٣٧ بسند لا بأس به، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٤، وزاد نسبته إلى (ابن إسحاق وأبي الشيخ) وذكره الثعلبي ٦/ ١٧ أ، والماوردي ٢/ ١٨٧، وابن عطية ٦/ ١٦٥ - ١٦٦، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٧، والرازي ١٥/ ٨٠، والخازن ٢/ ٣٢١ عن ابن عباس، وهو في "سيرة ابن هشام" ٢/ ١٩٨ - ١٩٩ بلا نسبة.
(٣) ذكره الماوردي ٢/ ١٨٧، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٠، والرازي ١٥/ ٨٠، عن الحسن وقتادة.
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ١٣٧ - ١٣٨ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٤، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد) وذكره أكثرهم، واختار الطبري ٩/ ١٣٨، عدم التخصيص، ولا يبعد حصول السؤال من الجميع، أو أن اليهود أمروا قريش أن تسأل عن ذلك. والله أعلم.
494
وقوله تعالى: ﴿عَنِ اَلسَّاعَةِ﴾.
قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: التي لا بعدها ساعة) (١).
وقال الزجاج (٢): (الساعة (٣) هاهنا الساعة التي يموت فيها الخلق)، وقد ذكرنا فيما تقدم معنى الساعة، وقوله تعالى: ﴿أَيّاَنَ﴾ معناه: الاستفهام (٤) عن الوقت الذي لم يجيء، وهو سؤال عن الزمان (٥) على جهة الظرف للفعل كقول الراجز (٦):
(١) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٥.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٣، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٥٤.
(٣) لفظ: (الساعة) ساقط من (ب).
(٤) انظر: "الكتاب" ٤/ ٢٣٥، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٥٢٢، و"حروف المعاني" للزجاجي ص ١٢، و"نزهة القلوب" ص ٧٤، و"تهذيب اللغة" ١/ ٢٤٣ (أيان)، و"المحتسب" ١/ ٢٦٨، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٧٦ (أين)، و"الصاحبي" ص ٢٠١، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤١٩، والسمين في "الدر" ٥/ ٥٢٩: (أيان ظرف زمان مبني لا يتصرف ويليه المبتدأ أو الفعل المضارع دون الماضي وأكثر استعمالها في الاستفهام، وقد تأتي شرطية جازمة لفعلين وذلك قليل فيها).
قال أبو حيان: (وهي عندي حرف بسيط لا مركب وجامد لا مشتق).
وقال السمين: (الفصيح فتح همزتها وهي قراءة العامة وقرئ بكسرها وهي لغة سليم) اهـ.
وانظر: "الإتقان" للسيوطي ١/ ٢١٤.
(٥) في (ب): (وهو سؤال عن السؤال على جهة الظرف) وهو تحريف.
(٦) لم أقف على قائله وهو في: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٤، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٣٨، والثعلبي ٦/ ٢٧ ب، والماوردي ٢/ ٢٨٤، وابن عطية ٦/ ١٦٦، و"الفريد" للهمداني ٢/ ٣٩٠، والقرطبي ٧/ ٣٣٥، و"اللسان" ١٣/ ٤ (أبن)، و"البحر" ٤/ ٤١٩، و"الدر المصون" ٥/ ٥٢٩ وتمامه:
أما ترى لنجحها إبانا
495
أيان تقضي حاجتي أيانا
أي: متى أوان قضائها.
وقوله تعالى: ﴿مُرْسَاهَا﴾. المرسى: مفعل من الإرساء وهو الإثبات، يقال: رسا (١) الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غيره، قال الله تعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ [النازعات: ٣٢].
والمرسى (٢) هاهنا مصدر بمعنى: الإرساء كقوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ [هود: ٤١]. أي: إجراؤها وإرساؤها (٣)، فمعنى ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ متى يقع إثباتها، قال قتادة (٤) والسدي (٥): (﴿مُرْسَاهَا﴾ قيامها)، وهو معنى وليس تفسير.
وقال الزجاج: (متى وقوعها) (٦).
= وإبان كل شيء بالكسر والتشديد وقته وحينه الذي يكون فيه انظر: "اللسان" ١/ ١٢ (ابن).
(١) في (ب): "رسى".
(٢) في (ب): "والمرسا".
(٣) انظر: "العين" ٧/ ٢٩٠، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٠٣، و"الصحاح" ٦/ ٢٣٥٦، و"المجمل" ٢/ ٣٧٧، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٣٩٤، و"المفردات" ص ٣٥٤، و"اللسان" ٣/ ١٦٤٧ (رسا).
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ١٣٨ بسند جيد عن قتادة، وذكره النحاس في "معانيه" ٣/ ١١٠، والثعلبي ٦/ ٢٧ ب، والبغوي ٣/ ٣٠٩، عن قتادة.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٦ بسند جيد عن السدي، وذكره الماوردي ٢/ ٢٨٤، وهو قول الطبري ٩/ ١٣٨، والسمرقندي ١/ ٥٨٧.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٩٣ وهو قول اليزيدي في "غريب القرآن" ص ١٥٤، والنحاس في "إعرابه" ١/ ٦٥٤.
496
وقال ابن قتيبة: (متى ثبوتها) (١)؛ وذلك أنها إذا أثبتت وقعت وثبتت (٢).
وقوله تعالى: ﴿قُلْ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾. أي: العلم بوقتها و (٣) وقوعها، وهذا من باب إضافة المصدر (٤) إلى المفعول، والمعنى: أنه مستأثر بذلك العلم فلا يعلمها إلا هو، قال أهل المعاني: (والمعنى في إخفاء أمر الساعة وعلمها عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون كانوا على حذر منها، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة، وأزجر في المعصية) (٥).
وقوله تعالى: ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾.
قال الزجاج (٦) وابن مسلم (٧): (لا يظهرها في وقتها إلا هو)، وهو معنى قول مجاهد (٨): (لا يأتي بها إلا هو)، وقال المبرد: (لا يقيمها عند
(١) "تفسير غريب القرآن" ١/ ١٨٣، وهو قول مكي في "تفسير مشكل القرآن" ص ٨٨، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٤.
(٢) "المعاني متقاربة"، وقد أخرج الطبري ٩/ ١٣٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٦ من طرق جيدة عن ابن عباس قال: (منتهاها) قال الطبري: (وهو قريب من معنى من قال: قيامها لأن انتهاءها بلوغها وقتها، وأصل ذلك الحبس والوقوف) اهـ.
(٣) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٤) انظر: "التبيان" ١/ ٣٩٧، و"الفريد" ٢/ ٣٩١، و"الدر المصون" ٥/ ٥٣٠.
(٥) ذكره الرازي ١٥/ ٨٠ - ٨١، والخازن ٢/ ٣٢٢، عن المحققين.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٣.
(٧) "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٤، وهو قول أكثرهم.
انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٥، و"غريب القرآن" ص ١٥٥، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٣٨، و"نزهة القلوب" ص ٤٧٩، و"معاني النحاس" ٣/ ١١٠، و"تفسير المشكل" ص ٨٨.
(٨) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٥٢، وأخرجه الطبري ٩/ ١٣٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٧ من طرق جيدة، وأخرج الطبري بسند جيد عن قتادة والسدي نحوه.
497
وقتها إلا هو) (١)، نظيره قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ [النجم: ٥٨]. والتجلية (٢) إظهار الشيء، والتجلي ظهوره، وقد مر.
وقوله تعالى: ﴿ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. قال ابن عباس (٣): (يريد: ثقلت على أهل السموات وأهل الأرض) (٤)؛ يريد: كلهم خائفون من الله، المحسن والمسيء؛ وهذا معنى قول الحسن (٥)؛ يقول: (إذا جاءت ثقلت على السموات والأرض وأهلهما (٦)، أي: كبرت وعظمت لما فيها من انتشار النجوم، وتكوير الشمس، وتسيير الجبال).
ونحو من ذلك قال ابن جريج (٧)، وقتادة والكلبي (٨): (ثقل علمها
(١) لم أقف عليه، وانظر: "الكامل" للمبرد ١/ ٤٤٢ و٢/ ٤٩٦، ١٠٥٢.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٦٢٥، و"الصحاح" ٦/ ٢٣٠٣، و"مقاييس اللغة" ١/ ٤٦٨ (جلا).
(٣) أخرج أبو عبيد في كتاب: "اللغات" ص ١٠٧، و"ابن حسنون" ص ٢٦، بسند جيد عن ابن عباس قال: (﴿ثَقُلَتْ﴾ خفيت بلغة قريش) اهـ.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٥، وزكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨١، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٨، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٧ بسند ضعيف عن ابن عباس في الآية، قال: (ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٤.
(٥) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٥، والطبري ٩/ ١٣٩، وابن أبي هاشم ٥/ ١٦٢٧ بسند ضعيف، وذكره هود الهواري ٢/ ٦٣، والثعلبي ٦/ ٢٧ ب، والمارودي ٢/ ٢٨٥، والبغوي ٣/ ٣١٠، وابن عطية ٦/ ١٦٧، والرازي ١٥/ ٨١.
(٦) في (ب): (وأهلها).
(٧) أخرجه الطبري ٩/ ١٣٩، بسند جيد عن ابن جريج، وقتادة والسدي، وذكره ابن عطية ٦/ ١٦٧، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٨، والقرطبي ٧/ ٣٣٥، عن ابن جريج، وقتادة والسدي، وذكره الماوردي ٢/ ٢٨٥، عن ابن جريج والسدي.
(٨) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٤، بسند جيد عن قتادة والكلبي، وأخرجه ابن أبي حاتم ٢/ ٢٨٥، بسند جيد عن قتادة.
498
على أهل السموات وأهل (١) الأرض (٢)، فلم يطيقوا إدراكًا لها) (٣)، وهو قول السدي (٤)، واختيار الفراء وابن قتيبة.
[قال الفراء: (ثقل علمها على أهل الأرض والسماء أن يعلموه) (٥).
وقال (٦) ابن قتيبة: (أي] (٧) خفي علمها على أهل السموات والأرض وإذا خفي الشيء ثقل) (٨)، وذكر أبو إسحاق القولين جميعًا فقال: (قال بعض القوم: ثقل علمها على أهل السموات (٩) والأرض، وقال قوم: ثقل وقوعها على أهل السموات والأرض، ثم أعلم الله عز وجل كيف وقوعها فقال:
(١) لفظ: (أهل) ساقط من (ب).
(٢) في (ب) جاء بعد قوله: (والأرض) تكرار قوله: "وأهلها أي كبرت وعظمت، إلى (والأرض).
(٣) إدراكًا لها: أي تحديد وقتها، وأصل الإدراك اللحوق، وأدرك الشيء أي بلغ وقته، انظر: "اللسان" ٣/ ١٣٦٣ (درك).
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ١٣٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٧، بسند جيد، وذكره الرازي ١٥/ ٨١.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٩، وهو قول ابن الأنباري في "الإيضاح" ٢/ ٦٧٣.
(٦) في (أ): (فقال).
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٨) "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٤، وهو قول أكثرهم، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٥، و"نزهة القلوب" ص ١٨٤، و"معاني النحاس" ٣/ ١١١، و"تفسير المشكل" ص ٨٨، والظاهر أن الأقوال متقاربة والمعنى: ثقل علمها على أهل السماء والأرض وعظم شأنها وثقل وقوعها، والرب تقول لكل شيء عظيم أو نفيس أو خطير: ثقيل، انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٤٩٠ (ثقل).
(٩) في (ب): خلط فجاء: "على أهل الأرض والسماء أن يعلموه، وقال ابن قتيبة: أي على أهل السموات والأرض، وقال قوم.. ".
499
﴿لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾، أي: فجأة) (١) على غفلهَ منكم وذلك أشدّ لها كما قال (٢):
وأفظع شيء حين يفجؤك (٣) البغتُ
و (٤) قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾. قال الفراء (٥): (جاء في التفسير عن ابن عباس (٦)، كأنك حفيّ بهم إذا سألوك حين يسألونك عنها
(١) لم يذكر الزجاج في "معانيه" ٢/ ٢٩٣ إلا القول الثاني مع أنه قال: (قيل: فيه قولان قال: قوم ثقل وقوعها..).
(٢) "الشاهد" ليزيد بن صبة الثقفي في "مجاز القرآن" ١/ ١٩٣، و"الكامل" للمبرد ١/ ١٥١، و"اللسان" ١/ ٣١٧ (بغت)، و"عمدة الحفاظ" ص ٥٦، وبلا نسبة في: "العين" ٤/ ٣٩٧، و"الجمهرة" ١/ ٢٥٥ - ٢/ ١٠٤٣، و"الزاهر" ٢/ ٦، و"البارع" ص ٣٥٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٦٤، و"الصحاح" ١/ ٢٤٣، و"المجمل" ١/ ١٣٠، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٧٢ (بغت)، و"تفسير الماوردي" ٢/ ٢٨٥، وأوله: ولكنَّهم بانوا ولم أدر بغتة.
(٣) في النسخ: (يفجأك)، وهو خلاف ما في المراجع.
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٥) لم أقف عليه، وفي "معاني الفراء" ١/ ٣٩٩ قال: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ مقدم ومؤخر ومعناه: يسألونك عنها كأنك حفي بها، ويقال: في "التفسير" كأنك حفي أي: كأنك عالم بها) اهـ.
وقال أبو علي الفارسي في "البصريات" ص ١/ ٤٦٥: (﴿حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ أي: عالم بها) اهـ.
(٦) أخرج الطبري ٩/ ١٤٠، ١٤١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٨ بسند جيد عن ابن عباس قال: (أي: كأنك يعجبك سؤالهم إياك: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾) اهـ. وأخرجا عنه بسند ضعيف قال: (أي: كأنك بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم) اهـ. وأخرج الطبري بسند ضعيف عنها قال: (أي: قرب منهم وتحفى عليهم) اهـ. وقال اليزيدي في "غريب القرآن" ص١٥٥: (أي: عالم بها والمعنى: يسألونك =
500
أي: فرح بهم). لعلى هذا التقدير: يسألونك عنها كأنك حفي بهم أي: بارّ بهم لطيف.
قال ابن الأعرابي: (يقال: حَفِي بي حفاوة، وتحفى بي تحفيًا، والتحفي: الكلام واللقاء الحسن) (١)، ومنه قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم: ٤٧]. أي: بارًا لطيفًا يجيب (٢) دعائي إذا دعوته، وهو (٣) قول الحسن (٤) وقتادة (٥) والسدي (٦)، ويؤيد هذا القول ما روي في "التفسير": (إن قريشًا قالت لمحمد: إن بيننا وبينك قرابة، فأسر إلينا متى الساعة؟ فقال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ﴾) (٧)، أي: كأنك صديق لهم، بار بهم، فهم يدلون إليك بالقرابة في طلب علم الساعة يعني: أنك لا تكون حفيًّا
= كأنك تحفي. وجاء عن ابن عباس أنه قال: كأنك حفي بهم أي: فرح بهم حين يسألونك. ويقال للقاضي والحاكم: الحافي، وقد تحفينا إلى فلان إذا تحاكمنا) اهـ.
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ٨٥٩، وانظر: "العين" ٣/ ٣٠٥، و"مجالس ثعلب" ص ٣٥٠، و"المنجد" لكراع ص ١١٧، "الجمهرة" ١/ ٥٥٧، و"الصحاح" ٦/ ٢٣١٦، و"المجمل" ١/ ٢٤٣، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٨٣، و"المفردات" ص ٢٤٥، و"اللسان" ٢/ ٩٣٥ (حفاً).
(٢) في (ب): (ويجيب).
(٣) في (ب): (وهذا).
(٤) ذكره هود الهواري ٢/ ٦٣، والرازي ١٥/ ٨٢.
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٤٥ بسند جيد. وذكره ابن عطية ٦/ ١٦٧، والرازي ١٥/ ٨٢.
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ١٤١ بسند جيد، وذكره الرازي ١٥/ ٨٢.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٥، والطبري ٩/ ١٤٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٨ من طرق جيدة عن قتادة وهو مرسل.
501
بهم ما داموا على كفرهم، وقال (١) في رواية عطاء: (﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾، يريد: خابرٌ بأمرها) (٢). وهو قول مجاهد (٣). والضحاك وابن زيد (٤) ومعمر (٥) قالوا: (معناه: كأنك عالم بها). واختاره ابن قتيبة، وعلى هذا القول ﴿حَفِيٌّ﴾ فعيل من الإحفاء وهو الإلحاح والإلحاف في السؤال، ومن أكثر (٦) السؤال والبحث عن الشيء علمه، فحقيقة معنى ﴿حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ [كأنك أكثرت المسألة، قال ابن قتيبة: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾] (٧)، (أي: معنيُّ بطلب علمها، ومنه يقال: تحفى فلان بالقوم) (٨).
(١) يعني ابن عباس بعد ذكر رواية الفراء عنه.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٨ بسند ضعيف، وأخرج ابن حسون في كتاب "اللغات" ص ٣٤، و"الوزان" ٦ أبسند جيد عنه قال: (عالم بلغة قريش) اهـ.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٥١ - ٢٥٢. وأخرجه الطبري ٩/ ١٤١٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٨ من طرق جيدة، وفي رواية عند الطبري قال: (حفي بهم حين يسألونك) وفي رواية: (استحفيت عنها السؤال حتى علمتها)، وصحح هذه الرواية ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٠١، وجاء في رواية عند ابن أبي حاتم قال: (حفي بهم تشتهي أن يسألونك عنها).
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ١٤١ من طرق جيدة عن الضحاك وابن زيد، وذكره الثعلبي ٦/ ٢٨ أعن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ١٤١ بسند جيد عن معمر بن راشد الأزدي عن بعضهم، ولعله الكلبي كما أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٥ عن معمر عن الكلبي، وذكره الماوردي ٢/ ٢٨٥، عن مجاهد والضحاك وابن زيد ومعمر.
(٦) في (ب): (ومن كبر)، وهو تحريف.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٨) "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٤، ومثله قال السجستاني في "نزهة القلوب" ص ٢٠٣، ومكي في "تفسير المشكل" ص ٨٨.
502
وقال أبو عبيدة: (هو (١) من قولهم: تحفى فلان بالمسألة أي: استقصى) (٢).
وقال ابن الأنباري: (﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾، أي: سؤول عنها، والحفي الشديد السؤال، ومن ذلك قول الأعشى (٣):
فإن تسألي عني في ربَّ سائلٍ حفي عن الأعشى به حيث أصعدا) (٤)
وذكر أبو إسحاق القولين وقرب بينهما فقال: (﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ﴾ أي: كأنك فرح بسؤالهم، يقال: قد تحفيت بفلان في المسألة (٥) إذا سألت عنه سؤالًا، أظهرت فيه المحبة والبر، قال: وأحفى فلان بفلان في المسألة فإنما تأويله: الكثرة، قال: وقيل: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ كأنك أكثرت المسألة عنها) (٦)؛ فالقولان راجعان إلى كثرة السؤال؛ لأن العالم بالشيء هو الذي أكثر السؤال عنه حتى تيقنه، واللطيف البار بالإنسان بكثير (٧) السؤال عنه
(١) في (أ): (وهو).
(٢) "تفسير الرازي" ١٥/ ٨٢، وفي "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٥ قال: (أي: حفي بها ومنه قولهم: تحفيت به في المسألة) اهـ.
(٣) "ديوان الأعشى الكبير" ص ١٥١، و"العين" ٣/ ٣٠٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٨٥٩، و"الصحاح" ٦/ ٢٣١٦، و"المجمل" ١/ ٢٤٣، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٨٣، و"الفريد" ٢/ ٣٩٢، و"تفسير القرطبي" ٧/ ٣٣٦، و"اللسان" ٢/ ٩٣٥ - ٩٣٦ (حقاً)، و"الدر المصون" ٥/ ٥٣٢، وحفي أي: سأل عن حاله مبالغ في إكرامه والتلطف به، وأصعد أي: ذهب في البلاد.
(٤) "شرح القصائد" ص ٤٤٧، و"الزاهر" ١/ ٣٤٨، و"تهذيب اللغة" ١/ ٨٥٩، قال في "شرح القصائد" أي: كأنك معني بها مستقصٍ في السؤال عنها.
(٥) في (ب): (بالمسألة).
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٣ - ٣٩٤.
(٧) في (ب): (بكثرة)، وهو تحريف.
503
وعن أحواله (١).
قاما قوله ﴿حَفِيٌّ عَنْهَا﴾، والحفاوة إنما توصل بالباء كقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم: ٤٧].
قال الفراء (٢) والزجاج (٣) وابن الأنباري (٤): (هو على التقديم والتأخير، أي ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ عنها (٥) ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ﴾ فعن من صلة السؤال)، وقال قوم (٦): (معنى ﴿حَفِيٌّ﴾ سؤول) كما ذكرنا، وإذا كان بمعنى: السؤال صح أن يوصل بعن كبيت (٧) الأعشى.
وقال أبو علي الفارسي: (الآية تحتمل أمرين، أحدهما: أن تجعل
(١) والراجح -والله أعلم- أن المعنى: كأنك عالم بها وقد أخفى الله علمها على خلقه لأنه ظاهر الآية، قال ابن كثير ٢/ ٣٠٢: (هذا القول أرجح في المقام) اهـ.
وقال الشوكاني في "تفسيره" ٢/ ٣٩٨ - ٣٩٩، وصديق خان في "فتح البيان" ٥/ ٩٤: (هذا هو معنى النظم القرآني على مقتضى المسلك العربي) اهـ.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٣٩٩، وهو قول الداني في "المكتفى" ص ٢٨٢.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٣ وهو قول النحاس في "معانيه" ٣/ ١١١، وانظر: "القطع" للنحاس ١/ ٢٦٨.
(٤) "الزاهر" ١/ ٣٤٨ وهو قول اليزيدي في "غريبه" ص ١٥٥، والسجستاني في "نزهة القلوب" ص ٢٠٣، وحكاه النحاس في "إعرابه" ١/ ٦٥٤ - ٦٥٥، والثعلبي ٦/ ٢٨/ أعن أهل التفسير، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٥٣١: (لا حاجة إلى التقديم والتأخير لأن هذه كلها متعلقات للفعل فجملة ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ﴾ حال من مفعول ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ﴾ معترض وصلتها محذوفة أي: حفي بها أو عن بمعنى: الباء ويضمن معنى شيء يتعدى بعن أي: كأنك كاشف بحفاوتك عنها) اهـ. بتصرف.
(٥) في (ب): (عنهما)، وهو تحريف.
(٦) وهو قول الطبري ٩/ ١٤٢، وحكاه النحاس في "إعرابه" ١/ ٦٥٥، عن المبرد قال: (المعنى ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ﴾ بالمسألة عنها أي: مُلح) اهـ.
(٧) في (ب): (كقول).
504
﴿عَنْهَا﴾ متعلقًا بالسؤال كأنه ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ عنها ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ﴾ بها فحذف الجار والمجرور، وحسن ذلك لطول الكلام بِعَنْهَا التي من صلة السؤال، قال (١): ويجوز أن يكون ﴿عَنْهَا﴾ بمنزلة بها، وتصل الحفاوة مرة بالباء، ومرة بعن، كما أن السؤال يوصل بهما) (٢)، وذكرنا (٣) ذلك في قوله: ﴿وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ [البقرة: ١١٩].
وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾. أعاد هذا لأن هذا الثاني وصل (٤) بقوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، أي: لا يعلمون أن علمها عند الله حين سألوا محمدًا عما لم يطلعه (٥) الله عليه ولا أحدًا من خلقه (٦)، وهذا معنى قول ابن عباس (٧).
(١) هذا هو الثاني وذكر الطبري ٩/ ١٤٠ - ١٤٢ مثله.
(٢) "الحجة" لأبي علي ٢/ ٢١٤، وانظر: "غرائب الكرماني" ١/ ٤٣٠، و"التبيان" ص ٣٩٧، و"الفريد" ٢/ ٣٩١، و"البحر" ٤/ ٤٣٥.
(٣) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ١/ ٨٣ أ.
(٤) في (أ): (واصل).
(٥) في (ب): (لم أطلعه عليه)، وهو تحريف.
(٦) في (ب): (خلقي)، وهو تحريف.
(٧) أخرجه الطبري ٩/ ١٤٢، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٩، بسند ضعيف عن ابن عباس في الآية قال: (لما سأل الناس محمدًا - ﷺ - عن الساعة سألوه سؤال قوم وكأنهم يرون أن محمدًا حفي بهم فأوحى الله إليه: إنما علمها عنده استأثر بعلمها فلم يُطلع عليها ملكًا ولا رسولاً) اهـ.
وكرر الجواب لتقرير الحكم، وتأكيده ولكل أن ذلك الجواب لا يرجى غيره، وأن الحصر في قوله: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ حقيقي، ولما تضمنه قوله: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ من الزيادة والإنكار، وقيل: السؤال الأول: عن وقت قيام الساعة، والثاني: عن مقدار شدتها ومهابتها. انظر: "الكشاف" ٢/ ١٣٤ - ١٣٥، مع "حاشية ابن المنير" عليه، وابن عطية ٦/ ١٦٩، والرازي ١٥/ ٨٢، وابن عاشور ٩/ ٢٠٥ - ٢٠٦.
505
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي﴾ الآية [الأعراف: ١٨٨]. اختلفوا في وجه تفسير هذه الآية، فقال (١) مقاتل: (هذه الآية متصلة بما قبلها، ومعنى قوله: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾ لا أملك أن أسوق إليها خيرًا أو أدفع عنها سوءًا حين ينزل بي، فكيف أعلم وأملك علم الساعة) (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾. أي: إلا ما شاء الله أن يملكني إياه بالتمكين منه.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾. أي: من معرفته حتى أجيب في كل ما أُسأل عنه من الغيب في الساعة وغيرها، وحتى لا يخفى علي شيء، وتم الكلام (٣) هاهنا. ثم قال: ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾. أي: ليس بي جنون، وذلك لأنهم نسبوه إلى الجنون كما ذكرنا في قوله: ﴿مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ (٤) [الأعراف: ١٨٤] فقال: ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ
(١) في (ب): (فقال مقال مقاتل هذه..).
(٢) "تفسير مقاتل" ٢/ ٧٨، وذكره الثعلبي ٦/ ٢٨ ب.
(٣) قال الداني في "المكتفى" ص ٢٨٢: (قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٧] وقف تام وقوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعراف: ١٨٨] كافٍ. وقوله: ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ أكفى منه وقوله ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٨] تام) اهـ. ونحوه قال ابن الأنباري في "الإيضاح" ٢/ ٦٧٣ والنحاس في "القطع" ١/ ٢٦٨، وذكر قول الواحدي الرازي في "تفسيره" ١٥/ ٨٤ - ٨٥، وقال: (هذا عندي بعيد جدًا، يوجب تفكيك نظم الآية) اهـ.
وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤٣٧: (هذا القول فيه تفكيك لنظم الكلام واقتصار على أن يكون جواب لو ﴿لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ [الأعراف: ١٨٨] فقط، وتقدير حصول علم الغيب يترتب عليه الأمران، لا أحدهما، فيكون إذ ذاك جوابًا قاصرًا) اهـ.
(٤) في (ب) كما ذكرنا في قوله: ﴿مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ وهي الآية (٤٦) من سورة سبأ، وانظر: "البسيط النسخة الأزهري" ٤/ ١٧٠ ب سورة سبأ تفسير الآية (٤٦).
506
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
قال ابن عباس: (﴿نَذِير﴾ لمن لا يصدق بما جئت به، ﴿بشِيرٍ﴾ لمن اتبعني وآمن بي) (١)، وعلى هذا فلم يذكر إحدى الطائفتين لدلالة الكلام عليه كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١].
ويجوز أن يكون نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ للمؤمنين مخصوصًا هاهنا، وإن كان بعث إلى الكافة بالتبشير والإنذار؛ لأن نفع ذلك عاد إلى المؤمنين فاختصوا به واختص بهم كما قال: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ (٢) [النازعات: ٤٥]. وقد مضى (٣) لهذا ما يشبهه (٤) من النظائر.
وقال ابن عباس: (إن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري (٥) لتربح عليه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فترتحل (٦) منها، فأنزل الله هذه الآية) (٧).
فعلى هذا معنى قوله: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا﴾، أي: اجتلاب نفع بأن أربح، ﴿وَلَا ضَرًّا﴾ أي: دفع ضر بأن أرتحل عن الأرض التي تريد أن
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٢، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٠، بسند جيد عنه قال: (نذير من النار ومبشر بالجنة) اهـ.
(٢) في: (أ): (إنما أنا منذر)، وهو تحريف.
(٣) انظر: "البسيط" تفسير سورة البقرة الآية (١١٩).
(٤) في (ب): (ما يشبه)، وهو تحريف.
(٥) في (ب): (فنشتري من الرخيص لنربح عليه).
(٦) في (ب): (فيرتحل).
(٧) ذكره الثعلبي ٦/ ٢٨ أ، والبغوي ٣/ ٣١٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٩، والخازن ٢/ ٣٢٣، و"البحر" ٤/ ٤٣٥ - ٤٣٦، عن ابن عباس، وذكره السمرقندي ١/ ٥٨٧، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٢، و"أسباب النزول" ص ٢٣٢، عن الكلبي.
507
تجدب (١)، ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ أن أملكه، ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ أي: ما يكون قبل أن يكون، ﴿لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾، [أي: لاحتجزت في زمان الخصب لزمن الجدب. ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾، وما أصابني الضر والفقر.
وقال ابن جريج (٢): (﴿لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾، يعني: الهدى والضلالة. ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ متى أموت. ﴿لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾] (٣) من العمل الصالح على حسب علمي به) أي: إن من يعلم الغيب إنما يعمل الأفضل لعلمه بعلوه على الأدون. ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾، أي: واجتنبت ما سيكون من الشر واتقيته. قاله ابن زيد (٤) وهذا مذهب الحسن (٥) الكلبي (٦)، وقد حصل في تفسير هذه الآية ثلاثة (٧) أوجه، وفيها تكذيب
(١) هذا قول الفراء في "معانيه" ٢/ ٤٠٠، ورواه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٢٩، بسند ضعيف عن ابن عباس، وذكره الماوردي ٢/ ٢٨٥ - ٢٨٥، وقال: (هذا قول شاذ) اهـ.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٤٢، بسند جيد، وذكره الثعلبي ٦/ ٢٨ أ، والماوردي ٢/ ٢٨٥، والبغوي ٣/ ٣١١، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٦.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ١٤٣، وذكره الثعلبي ٦/ ٢٨ ب، والبغوي ٣/ ٣١١، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٦.
(٥) في (ب): "الحسين" وهو تصحيف. وذكره الماوردي ٢/ ٢٨٦، وابن الجوزي ٣/ ٣٠٠، والقرطبي ٧/ ٣٣٧، عن الحسن البصري.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٦.
(٧) والظاهر العموم وعدم التعيين في النفع والضر والغيب وتحمل الأقوال على التمثيل لا الحصر وهذا هو اختيار الجمهور.
انظر: الطبري ١٤٢ - ١٤٣، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٤، و"النحاس" ٣/ ١١٢، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٥٥، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ١٧٠، وابن الجوزي ٣/ ٢٩٩، والرازي ١٥/ ٨٣ - ٨٤، والقرطبي ٧/ ٣٣٩، و"البحر" ٤/ ٤٣٧.
508
للقدرية (١) حيث جوّزوا أن يستبد الإنسان بقدرة يجتلب بها المنافع ويدفع بها المضار.
١٨٩ - و (٢) قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾، قال ابن عباس (٣) والمفسرون (٤): (يعني: آدم). ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ كما قال في سورة النساء: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: ١].
وقوله تعالى: ﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾. قال ابن عباس: (يريد: ليأنس بها ويأوي إليها) (٥).
قال أهل المعاني: (والحكمة في أن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم هو أن يكون آدم إليها أميل، ولها آلف وأحب؛ إذ الشكل إلى شكله أحب (٦)، ولذلك كانت الأشياء تحن إلى أشكالها، وتهرب من
(١) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ٨٣ - ٨٤
(٢) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٦، وذكره الرازي ١٥/ ٨٥، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٨.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٤٣، وأخرجه بسند جيد عن قتادة والسدي، وبسند ضعيف عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٠ بسند ضعيف عن الضحاك، وقال ابن أبي حاتم: (وروي عن مجاهد وأبي مالك وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك) اهـ.
وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٤، و"النحاس" ٣/ ١١٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٨٨، والثعلبي ٦/ ٢٨ ب، والماوردي ٢/ ٧٥، وقال القرطبي ٧/ ٣٣٧: (قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم) اهـ.
(٥) ذكره الثعلبي ٦/ ٢٨ ب، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٢، والبغوي ٣/ ٣١١، والقرطبي ٧/ ٣٣٧، الخازن ٢/ ٣٢٤ بلا نسبة، ونحوه قال الطبرى ٩/ ١٤٣، وانظر: السمرقندي ١/ ٥٨٨، والماوردي ٢/ ٧٥.
(٦) لفظ: (أحب) غير واضح في (أ)، وكأنه: (أجذب)
509
أضدادها) (١)، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾. قال المفسرون (٢): (جامعها)، قال أبو إسحاق: (كنى به عن الجماع أحسن كناية) (٣)، والغِشيان (٤) إتيان الرجل المرأة، وقد غَشِيها وتغشاها إذا علاها، ومثله تَجلَّلها (٥).
وقوله تعالى: ﴿حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا﴾، قالوا (٦): (يريد: النطفة والمني)، والحمل (٧) ما كان في البطن أو على رأس الشجر (٨).
(١) انظر: الرازي ١٥/ ٨٩، و"البحر" ٤/ ٤٣٩.
(٢) انظر: الطبري ٩/ ١٤٣، السمرقندي ١/ ٥٨٨، والثعلبي ٦/ ٢٨ ب، والماوردي ٢/ ٧٥.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٥، وانظر: "معاني النحاس" ٣/ ١١٣.
(٤) انظر: "العين" ٤/ ٤٢٩، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٦٩، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٤٦، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٤٢٥، و"المفردات" ص ٦٠٦، و"اللسان" ٦/ ٣٢٦٢ (غشى).
(٥) تَجَلَّلَه، بالفتح: علاه، وجلال كل شيء، بالكسر: غطاؤه، انظر: "العين" ٦/ ١٧، و"تهذيب اللغة" ١/ ٦٤١، و"الصحاح" ٤/ ١٦٥٨، و"اللسان" ٢/ ٦٦٤ (جلل).
(٦) انظر: الطبري ٩/ ١٤٣، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٥، والسمرقندي ١/ ٥٨٨، والثعلبي ٦/ ٢٨ أ، والماوردي ٢/ ٧٥.
(٧) لفظ: (والحمل ما كان في) غير واضح في: وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٦، و"معاني الأخفش" ٢/ ٣١٥، و"غريب القرآن" ص ١٥٥، و"نزهة القلوب" ص ٢٠٣ - ٢٠٨، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٥٦.
(٨) الحمل، بفتح الحاء: وما ذكر هو قول الزجاج والمشهور عن أهل اللغة أما الحمل بالكسر فهو ما كان على ظهر أو رأس غير شجرة، وحكي في حمل الشجرة لغتان الفتح والكسر وقيل: ما ظهر فهو حمل بالكسر، وما بطن فهو بالفتح، وقيل: ما كان لازمًا للشيء فهو حمل بالفتح، وما كان بائنًا فهو بالكسر، قال الأزهري في "تهذيب اللغة" ١/ ٩٢٥: (الصواب الأول)، وانظر: "العين" ٣/ ٢٤٠، و"الجمهرة" ١/ ٥٦٦، و"الصحاح" ٤/ ١٦٧٦، و"المجمل" ١/ ٢٥٢، و"مقاييس اللغة" ٢/ ١٠٦، و"المفردات" ص ٢٥٧، و"اللسان" ٢/ ١٠٠٢ (حمل).
510
وقوله تعالى: ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾. أي: استمرت بذلك الحمل الخفيف، وقامت وقعدت لم يُثقلها.
قال الكلبي (١) والزجاج (٢): وقوله: ﴿فَلَمَّا أَثْقَلَتْ﴾. أي: صارت إلى حال الثقل ودنت ولادتها. ﴿دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا﴾. يعني: آدم وحواء (٣). ﴿لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا﴾ بشرًا سويًا مثلنا، وذلك أنهما أشفقا أن يكون بهيمة أو شيئًا سوى الإنسان، ويأتي بيان هذا في الآية الثانية.
١٩٠ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾.
قال المفسرون (٤): (لما حملت حواء أتاها إبليس في غير صورته التي عرفته حواء، وقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت ما أدري. قال: إني أخاف أن يكون بهيمة أو كلبًا أو خنزيرًا، وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك، فخافت حواء، فذكرت ذلك لآدم، فلم يزالا في هم من ذلك، ثم أتاها، وقال: إن سألت الله أن يجعله خلقًا سويًّا
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٦، وهو قول الأكثر، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٦، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٤، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٤٤، وقد أخرج من طرق جيدة نحوه عن مجاهد والحسن وقتادة والسدي، وانظر: "نزهة القلوب" ص ٢٠٣، و"معاني النحاس" ٣/ ١١٣، والسمرقندي ١/ ٥٨٨، والثعلبي ٦/ ٢٨ ب، والماوردي ٢/ ٧٥.
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٥، وهو قول الفراء في "معانيه" ١/ ٤٠٠.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٤٤، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٥، و"النحاس" ٣/ ١١٤، والسمرقندي ١/ ٥٨٨، والثعلبي ٦/ ٢٨ ب، والماوردي ٢/ ٧٥.
(٤) ذكره عن المفسرين ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص ٢٥٨، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٣، وانظر: "معاني الفراء" ١/ ٤٠٠، و"تفسير غريب القرآن" ١/ ١٨٤، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٥، و"الكامل" لابن الأثير ١/ ٤٥، والقرطبي ٧/ ٣٣٨.
511
مثلك، ويسهل عليك خروجه حتى تلقيه من بطنك سهلاً أتسمينه (١) عبد الحارث؟ ثم لم يزل بها حتى غرّها، فلما ولدت ولدًا سويَّ الخلق سمته عبد الحارث برضا آدم وعلمه، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فذلك قوله: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾)، أي: لما آتاهما ولدًا سويًا ﴿جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ﴾ قال ابن عباس (٢). (يريد: في تسميتهما (٣) عبد الحارث).
و (٤) قال الفراء: (﴿جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ﴾ إذ قالت: عبد الحارث، ولا ينبغي أن يكون عبدًا إلا لله (٥). قال: ولم تعرفه أنه إبليس) (٦).
وذكر ابن زيد (إن النبي - ﷺ - قال: "خدعهما مرتين، خدعهما (٧) في الجنة، وخدعهما في الأرض") (٨).
(١) في (ب): "تسميه".
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٤٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٣ - ١٦٣٤، من طرق يقوي بعضها بعضًا، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ضعيف عن ابن عباس عن أبي بن كعب، وأخرج أيضًا من طريق جيد رجاله رجال الصحيح عن ابن عباس قال: (في هذه الآية ما أشرك آدم وإن أولها شكر وإن آخرها مثل) اهـ. وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٧، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وفيه: (وآخرها مثل ضرب لمن بعده).
(٣) في (ب): (في تسميتها).
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٥) في (ب): (إلا الله)، وهو تحريف.
(٦) "معاني الفراء" ١/ ٤٠٠.
(٧) لفظ: (خدعهما) ساقط من (ب).
(٨) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٠، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٥ بسند جيد عن عبد الرحمن بن زيد وهو مرسل ضعيف وعند ابن أبي حاتم: (قال رسول الله - ﷺ -: "خدعهما مرتين"). قال زيد بن أسلم: (خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض).
وذكره الثعلبي ٦/ ٣٠ ب، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٣، والبغوي ٣/ ٣١٣، والسيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٧.
512
وهذا الذي ذكرنا معنى قول سعيد بن جبير (١) والكلبي (٢) وأكثر أهل التفسير (٣).
(١) أخرجه الطبري ٩/ ١٤٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٤ من طرق جيدة.
(٢) لفظ: (والكلبي) ساقط من (ب)، وقد أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٤٥، بسند جيد عن الكلبي، وذكره هود الهواري ٢/ ٦٥، والثعلبي ٦/ ٢٩ أ.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٤٦ - ١٤٩، والسمرقندي ١/ ٥٨٨، والثعلبي ٦/ ٢٨ ب، والماوردي ٢/ ٢٨٦ - ٢٨٧، و"الدر المنثور" ٣/ ٢٧٧، وقال الطبري: (أجمع أهل التأويل على أن المعني بذلك: آدم حواء، وأنهما ﴿جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ﴾ في الاسم لا في العبادة) اهـ. بتصرف.
وقد أخرج أحمد والترمذي رقم (٣٠٧٧) كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأعراف، والطبري ٩/ ١٤٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٥، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٥٤٥ كلهم عن عمر بن إبراهيم عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي - ﷺ - قال: (لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسموه عبد الحارث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره) اهـ.
قال الترمذي: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عمر عن قتادة ورواه بعضهم ولم يرفعه) اهـ.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" ٦/ ٨٩، وقال: (هذا لا أعلم يرويه عن قتادة غير عمر وحديثه عن قتادة مضطرب وهو مع ضعفه يكتب حديثه) اهـ، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي في "التلخيص" وقال في "الميزان" ٣/ ١٧٩: (هو حديث منكر) اهـ، والحديث ضعيف لأن فيه عمر بن إبراهيم العبدي قال الحافظ في "التقريب" ص ٤١٠ رقم (٤٨٦٤): (صدوق، في حديثه عن قتادة ضعف) اهـ. وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٠٤ - ٣٠٥، و"البداية والنهاية" ١/ ٩٦: (الحديث معلول من ثلاثة أوجه: أحدها: أن عمر وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، الثاني: أنه روى موقوفًا على سمرة، كما أخرجه الطبري ١٣/ ٣١٠، وهذه علة قادحة في الحديث، وهو أشبه، والمقطوع أن رفعه خطأ والصواب وقفه، الثالث: أن الحسن البصري فسر الآية بغير هذا فلو كان =
513
واختلف القراء في قوله: ﴿شُرَكَاءَ﴾. فقرأ نافع (١) وأبو بكر.
= عنده عن سمرة مرفوعًا لما عدل عنه وقد أخرج تفسيره الطبري ٩/ ١٤٨ بأسانيد صحيحة ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله - ﷺ - لما عدل عنه هو ولا غيره ولا سيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ويحتمل أنه تلقاه من بعض من آمن من أهل الكتاب) اهـ. مجموع بتصرف.
أما الآثار عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فجزم ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٠٦ أنها مأخوذة عن أهل الكتاب قال: (روى الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه، وقد تلقى هذه الآثار عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة وكأنه والله أعلم أصله مأخوذ من أهل الكتاب، وهذه الآثار يظهر عليها والله أعلم أنها من آثار أهل الكتاب وأخبارهم على ثلاثة أقسام، فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافة من الكتاب والسنة أيضاً، ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في روايته وهو الذي لا يصدق ولا يكذب، وهذا الأثر هو من القسم الثاني أو الثالث فيه نظر، فأما من حدث به من صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث) اهـ. ملخصًا.
وكذلك ضعف الحديث وجعل الروايات من الإسرائيليات ابن العربي في "أحكام القرآن" ٢/ ٨١٩ - ٨٢٠، والقرطبي ٧/ ٣٣٧، والألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" ١/ ٣٤٨ رقم ٣٤٢، والشيخ محمَّد بن صالح العثيمين في القول المفيد على كتاب "التوحيد" ٣/ ٦٧، ومحمد أبو شهبة في الموضوعات والإسرائيليات في كتب "التفسير" ص ٢٠٩ - ٢١٥، وانظر: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" ٢/ ٦١٤، و"الدر النضيد على أبواب التوحيد" ص ٢٨٥، و"تخريج الأحاديث المنتقدة في كتاب التوحيد" للشيخ فريج صالح البهلال ص ١٠٩.
(١) قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: (جَعَلاَ لَهُ شِرْكَا) بكسر الشين وسكون الراء وتنوين الكاف من غير مد ولا همز، وقرأ الباقون: ﴿شُرَكَاءَ﴾ بضم الشين وفتح الراء والمد وهمزة مفتوحة من غير تنوين جمع شريك. =
514
﴿شِرْكاً﴾ بكسر الشين، وهذا يتوجه على حذف المضاف بتقدير: جعلا له ذا شرك أو ذوي شرك، فإذا جعلا له ذوي شرك فقد جعلا له شركاء، فالقراءتان تؤولان إلى معنى واحد، والضمير في: ﴿لَهُ﴾ يعود إلى اسم الله كأنه ﴿وجَعَلَا﴾ لله ﴿شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾. قال أبو الحسن (١): (وكان ينبغي لمن قرأ: (شركًا) أن يقول المعنى: (جعلا لغيره شركًا)؛ لأنهما لا ينكران أن الأصل لله عز وجل، فالشرك إنما يجعل (٢) لغيره)، حكاه الزجاج (٣) وأبو علي هذا (٤) عن أبي الحسن، ثم قال الزجاج (٥): (هذا على معنى: جعلا له ذا شرك، فحذف ذا، مثل: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢].
وقال أبو علي: (يجوز أن يكون الكلام على ظاهرة ولا يقدر حذف المضاف في قوله: ﴿جَعَلَا لَهُ﴾، وأنت تريد لغيره، ولكن (٦) تقدر حذف المضاف إلى شركٍ، كما ذكرنا (٧) فلا يحتاج إلى تقدير: جعلا لغيره شركًا؛
= انظر: "السبعة" ص ٢٩٩، و"المبسوط" ص ١٨٧، و"التذكرة" ٢/ ٤٣٠، و"التيسير" ص ١١٥، و"النشر" ٢/ ٢٧٣.
(١) "معاني الأخفش" ٢/ ٢١٦.
(٢) في (أ): (يجعله).
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٦.
(٤) كذا في الأصول أي: حكاه أبو علي عن الأخفش، و"الحجة" ٤/ ١١١ - ١١٢، وفي "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٦: (قال بعضهم: (شركًا) لأن الشرك إنما هو الشركة، وكان ينبغي في قول من قال هذا أن يقول: فجعلا لغيره شركًا فيما آتاهما) اهـ، وذكر النحاس في "إعرابه" ١/ ٦٥٦.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٦، ومثله قال النحاس في "إعرابه" ٢/ ٦٥٦ - ٦٥٧.
(٦) لفظ: (ولكن) ساقط من (أ).
(٧) جاء بعده في "الحجة" ٤/ ١١٢: (فيكون المعنى: جعلا له ذوي شرك وإذا جعلا له ذوي شرك وإن في المعنى مثل جعلا لغيره شركًا) اهـ.
515
لأن تقدير حذف المضاف من شرك بمنزلة جعلا لغيره شركًا) (١)، وتقدير (٢) حذف المضاف من ﴿شركًا﴾ أحسن وأولى من تقدير حذفه من قوله: ﴿لَهُ﴾ (٣).
قال الزجاج: (ومن قرأ ﴿شركًا﴾ فهو مصدر شركت الرجل (٤) أشركه شركًا) (٥)، ومن قرأ ﴿شُرَكَاءَ﴾ فحجته (٦) قوله: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ﴾ [الرعد: ١٦]، وأراد بالشركاء في هذه الآية إبليس، أوقع الجمع موقع الواحد، وذلك أن من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين (٧)، فإن قيل: كيف أضيف الشرك إلى آدم وحواء مع منزلتهما من دين الله؟، والجواب عن هذا: ما روي عن قتادة أنه قال: (أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة) (٨)، يعني: أنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما، لكنهما
(١) "الحجة" لأبي علي ٤/ ١١١ - ١١٢.
(٢) انظر: "المشكل" ١/ ٣٠٧، و"البيان" ١/ ٣٨١، و"التبيان" ١/ ٣٩٨، و"الفريد" ٢/ ٣٩٤، و"الدر المصون" ٥/ ٥٣٥.
(٣) لفظ: (له) ساقط من (ب).
(٤) في (ب): (شركت بالرجل)، وهو تحريف.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٦.
(٦) هذا من "الحجة" لأبي علي ٤/ ١١٢، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٣١، و"إعراب القراءات" ١/ ٢١٦، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٨، لابن زنجلة ص ٣٠٤، و"الكشف" ١/ ٤٨٦.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ١٤٩.
(٨) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٥، والطبري ٩/ ١٤٧، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٤، و"الداني في المكتفى" ص ٢٨٣ من عدة طرق جيدة وذكره يحيى بن سلام في "التصاريف" ص ١٠٦، السمرقندي ١/ ٥٨٨، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٩، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد وابن المنذر) قال: و (أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله) وذكره الثعلبي ٦/ ٣٠ أعن المفسرين.
516
قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد مضافًا إلى من لا يراد أنه مملوك له كقوله (١):
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويًا
يريد: أنه خاضع له مطيع، ولم يرد أن الضيف ربه، وقد يقع الاشتراك في الاسم مع وقوع اختلاف في المعنى كما يقال لمملوك زيد: هذا عبد زيد، ثم يقال: إنه عبد الله، فقد جمعهما اللفظ، والمعنى مختلف (٢)، يدل على صحة هذا المعنى ما روي أنه قيل لسعيد بن جبير: (أشرك آدم؟ فقال: معاذ الله، ولكن حواء لما حملت أتاها إبليس فقال: أخبريني عن الذي في بطنك أتلدينه من عينك أم من فيك أم من أنفك؟ قالت: لا علم لي (٣) بذلك.
قال: فإن سألت الله عز وجل أن يسهل أمر الولادة عليك أتسمينه باسمي؟ قالت: نعم، وخبرها أن اسمه الحارث، فلما ولدت سمت الولد عبد الحارث، فذلك قول الله عز وجل: ﴿جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾) (٤).
(١) البيت لحاتم الطائي في "ديوانه" ص ٤٤، و"تفسير الثعلبي" ٦/ ٣٠ أ، والقرطبي ٧/ ٣٣٩، وهو لقيس بن عاصم المنقري في "الكامل" للمبرد ٢/ ١٧٩، وللمقنع الكندي في "أمالي القالي" ١/ ٢٨١، وبلا نسبة في: "عيون الأخبار" ١/ ٢٦٦، و"الوسيط" للواحدي ٢/ ٢٨٤، و"تفسير ابن الجوزي" ٣/ ٣٥٣، والرازي ١٥/ ٨٨، والخازن ٢/ ٣٢٥ وعجزه:
وما فيَّ إلا تلك من شيمة العبدِ
(٢) ذكر الطبري في "تفسيره" ٩/ ١٤٨: (إجماع أهل التأويل على أن المراد الشرك في الاسم لا في العبادة).
(٣) لفظ: (لي) ساقط من (ب).
(٤) أخرجه الطبري في "تفسيره" ٩/ ١٤٨، و"التاريخ" ١/ ١٤٩ بسند ضعيف.
517
قال أبو علي: (فعلى هذا التقدير: جعل أحدهما، فحذف المضاف كقوله: ﴿عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١].
وقوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢]) (١)، وهذا يوضح أن حواء ما قصدت الإشراك بالله من حيث الكفر، ولكن قصدت بالتسمية أن الحارث كان سبب سلامة الولد وسلامة أمه، وعلى هذا ينقطع الكلام عند قوله: ﴿آتَاهُمَا﴾.
ثم قال: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (٢). فعاد إلى الخبر عن الكفار ونزه نفسه عن إشراكهم فقال: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: أهل مكة) (٣).
وقال عبد الله بن مسلم: (وإنما جعلا له الشرك بالتسمية لا بالنية
(١) "الحجة" ٤/ ١١٢ - ١١٣ وزاد فيه: (فيكون الذي جعل له شركًا أحدهما ويخرج آدم من أن ينسب إليه ذلك) اهـ.
وهذا القول رجحه صديق خان في "فتح البيان" ٥/ ٩٩ - ١٠٣، وأطال في تقريره قال: (الجاعل هو حواء دون آدم ولم يشرك آدم قط، وعلى هذا فليس في الآية إشكال، والذهاب إلى ما ذكرناه متعين تبعاً للكتاب والحديث وصونًا لجانب النبوة عن الشرك بالله تعالى، والذي ذكروه في تأويل الآية يرده كله ظاهر الكتاب والسنة، والقول بأنها سمته بإذن آدم يحتاج إلى دليل ولعلها سمته بغير إذنه ثم تابت من ذلك، وصحة إطلاق المثنى على المفرد شائع في كلام العرب وفي القرآن من ذلك الكثير، ولكنهم لم يذهبوا إليه في هذا الآية مع كونه ظاهر الأمر وواضحه، ومع أنهم ذكروه وذهبوا إليه في مواضع من القرآن والحديث، وهذا عجيب منهم غاية العجب) اهـ. ملخصًا.
(٢) في (ب): (تعالى)، وهو تحريف.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٤، وذكره الثعلبي ٦/ ٣٠ أ، والبغوي ٣/ ٣١٤ بلا نسبة.
518
والعقد، وانتهى الكلام في قصة آدم وحواء، ثم ذكر من أشرك بالعقد والنية من ذريتهما فقال: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، ولو كان أراد آدم وحواء لقال: عما يشركان، وهذا يدلك (١) على العموم) (٢)، ونحو هذا قال مقاتل، قال: (انقطع الكلام (٣) عند قوله: ﴿فِيمَا آتَاهُمَا﴾. ثم ذكر كفار مكة فقال: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ﴾) (٤). قال (٥) السدي: (هذا من الموصول والمفصول يعني: قوله: ﴿جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾ في شأن آدم وحواء، ثم قال: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. قال: عما يشرك المشركون، لم يعنهما) (٦).
وقال أبو بكر: (قال طائفة من أهل العلم: الذين جعلوا لله شركاء اليهود (٧) والنصارى وغيرهم من الكفار الذين هم أولاد آدم وحواء عليهما السلام، وتأويل الآية: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا﴾ جعل أولادهما له شركاء، فحذف المضاف) (٨). وهذا معنى قول الحسن وقتادة وعكرمة، قال الحسن:
(١) في (ب): (يدل).
(٢) "تأويل مشكل القرآن" ص ٢٥٩.
(٣) قال الداني في "المكتفى" ص ٢٨٢: (قوله: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا﴾ وقف كافٍ عند أصحاب الوقف وهو عندي تام لأنه انقضاء قصة آدم وحواء عليهما السلام، وقوله: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يريد مشركي العرب) اهـ.
وانظر: "الإيضاح" لابن الأنباري ٢/ ٦٧٤، و"القطع" للنحاس ١/ ٢٦٨.
(٤) "تفسيرمقاتل" ٢/ ٨٠.
(٥) في (ب): (ثم قال).
(٦) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٦، والطبري ٩/ ١٤٩، وابن أبي حاتم ٥/ ٢٦٣٥ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ١٧٩، وهذا القول هو اختيار الطبري في "تفسيره" ٩/ ١٤٨، والشيخ محمَّد بن صالح العثيمين في "القول المفيد على كتاب التوحيد" ٣/ ٦٧.
(٧) لفظ: (اليهود) ساقط من (ب)
(٨) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٣٠٤.
519
(عني بهذا من أشرك من ذرية آدم ولم يعن آدم) (١).
وروى سعيد (٢) عن قتادة أنه كان يقول هذه الآية ويقول: (هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادًا فهودوا ونصّروا) (٣). وقال عكرمة: (جعلها لمن بعد آدم ممن أشرك بالله) (٤).
ويتوجه قول هؤلاء على ما ذكرنا من حذف المضاف، وهو اختيار ابن كيسان؛ لأنه قال: (هم الكفار جعلوا له شركاء، سموا أولادهم عبد العزى، وعبد اللات، وعبد مناة) (٥).
(١) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٥، والطبري ٩/ ١٤٨، من طرق جيدة، وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٠٥: (أخرجه ابن جرير عن الحسن بأسانيد صحيحة وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية) اهـ.
(٢) سعيد هو راوية قتادة وأثبت الناس فيه، سعيد بن أبي عروبة البصري، إمام ثقة، تقدمت ترجمته.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ١٤٨، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٤ بسند جيد، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٧٩، وزاد نسبته إلى (عبد بن حميد، وابن المنذر).
(٤) ذكره النحاس في "معانيه" ٣/ ١١٦، والثعلبي ٦/ ٣٠ ب، والبغوي ٣/ ٣١٤، والقرطبي ٧/ ٣٣٩.
(٥) ذكره الثعلبي ٦/ ٣٠ ب، والبغوي ٣/ ٣١٤، والخازن ٢/ ٣٢٥، وهذا القول هو الظاهر الذي عليه أهل التحقيق، وقد استحسنه البغوي ٣/ ٣١٤، والخازن ٢/ ٣٢٥، وقال النحاس في "معانيه" ٣/ ١١٦: (هذا القول أولى والله أعلم، من أن ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام مثل هذا) اهـ.
وقال في "إعرابه" ٢/ ١٦٧: (هذا قول حسن)، وقال القرطبي ٧/ ٣٣٩: (هذا قول حسن وهو الذي يعول عليه) اهـ.
وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤٤٠: (من جعل الخطاب للناس وليس المراد في الآية بالنفس وزوجها آدم وحواء أو جعل الخطاب لمشركي العرب ولقريش فيتسق الكلام اتساقًا حسنًا من غير تكَلف تأويل ولا تفكيك). =
520
١٩١ - قوله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: أيعبدون ما لا يقدر أن يخلق شيئًا ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ يريد وهم مخلوقون (١)، يعني: الأصنام) (٢).
فإن قيل: كيف وحد ﴿يَخلُقُ﴾ وجمع فقال: ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ وجعل الواو والنون في جمع غير الناس؟ فقال ابن الأنباري: (أما الجمع بعد التوحيد فسائغ (٣) من قبل أن ما يقع على الواحد والاثنين والجميع و (٤) المؤنث بلفظهما، وأوقعها الله عز وجل على الأصنام المعبودة من دونه فوحد ﴿يَخلُقُ﴾ للفظها وبيّن معناها في قوله جل وعز ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾، وأما جمعه الفعل بالواو والنون وأصحابه غير ناس (٥) فالحجة فيه أن الأصنام لما ادعى عابدوها أنها تعقل وتميز ووصفوها بالسمع والخلق، أجريت مجرى الناس، فجعلت علامة جمعها كعلامة جمع أفعال الناس، وجرى هذا مجرى قوله عز وجل: ﴿فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠]، وقوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤]. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: ١٨].
= وقد اختار هذا القول الحافظ ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٠٥ - ٣٠٦، وأطال في تقريره فأجاد وأفاد -رحمه الله تعالى-، وانظر: "الكشاف" ٢/ ١٣٨، وابن عطية ٦/ ١٧٤ - ١٧٦، والرازي ١٥/ ٨٦.
(١) في (ب): (وهم المخلوقون).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٧، و"معاني الفراء" ١/ ٤٠٠.
(٣) في (ب): (فشائع).
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٥) انظر: "الكتاب" ٢/ ٤٧، و"المقتضب" ٢/ ٢٤٤، و"المغني" لابن هشام ٢/ ٣٦٥.
وقول الشاعر (١):
تمززتها والديك يدعو صباحه إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا) (٢)
قال أصحابنا: (هذه الآية تدل على أن من لا يقدر على الخلق لا يستحق العبادة، ولا يقدر على خلق القليل والكثير غير الله، فلا يستحق العبادة غيره، والقدرية تقول: إن العباد يخلقون أفعالهم وهي مخلوقة لهم لا لله) (٣).
١٩٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾. قال ابن عباس: (يريد: إن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تنتصر ممن عصاها) (٤).
(١) "الشاهد" للنابغة الجعدي في "ديوانه" ص ٤، و"الكتاب" ٢/ ٤٧، و"مجاز القرآن" ٢/ ٣٨، و"الصاحبي" ص ٤١٩، و"وضح البرهان" للغزنوي ١/ ٤٥٠، و"اللسان" ٧/ ٤٤٧٤ (نعش)، وبلا نسبة في: "مجاز القرآن" ١/ ٢٧٦ و٢/ ٨٣ - و٩٣، و"معاني الأخفش" ٢/ ٤٢٤، و"المقتضب" ٢/ ٢٢٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٦١١، و"الصحاح" ٣/ ١٠٢٢ (نعش)، و"دلائل الإعجاز" ص ١٣٧، و"المغني" لابن هشام ٢/ ٣٦٥، وفي "الديوان": شربت بها والديك، وقوله: تمززتها، يعني: الخمر، أي: تمصص الشراب قليلاً قليلاً، مزه يمزه، أي مصه، وبنو نعش: أي بنات نعش وهي منازل القمر شبهت بحملة النعش في تربعها وتصوبوا، دنوا من الأفق للغروب، والشاهد: تذكير بنات نعش لأنه أخبر عنها بالدنو والتصوب كما يخبر عن العقلاء، انظر: "شرح شواهد سيبويه" للنحاس ص ١١٤، و"اللسان" ٧/ ٤٤٧٤ (نعش)، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي ٢/ ٧٨٣، و"الخزانة" ٨/ ٨٢.
(٢) ذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٣٠٤، وانظر: "تفسير الطبري" ١٩/ ٥٩، و"الدر المصون" ٥/ ٥٣٦.
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ٩٠.
(٤) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٧، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٤.
وقال أهل المعاني في قوله: ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾: (النَّصر المعونة (١) على العدو، يقول (٢): هذه الأوثان لا تستطيع معونتهم على عدوهم وهم يعبدونها عبادة من يقدر على ضرهم ونفعهم) (٣)، وقال الحسن في قوله: ﴿وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾: (أي: ولا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أرادهم (٤) بكسر أو نحوه) (٥).
١٩٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى﴾. يخاطب المؤمنين؛ يقول: إن تدعوا المشركين إلى الهدى، وهو قول ابن عباس والكلبي (٦)، قال ابن عباس في هذه الآية: (يريد: إني خذلتهم، وأمليت لهم في الضلالة) (٧)، فدل هذا الكلام على أن المراد بقوله: ﴿لَا يَتَّبِعُوكُمْ﴾. المشركون.
قال الكلبي: (وإن تدعوا المشركين إلى الإِسلام) (٨).
(١) انظر: "العين" ٧/ ١٠٨، و"الجمهرة" ٢/ ٧٤٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨٤، و"الصحاح" ٢/ ٨٢٩، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤٣٥، و"المفردات" ص ٨٠٨، و"اللسان" ٧/ ٤٤٣٩ (نصر).
(٢) في (أ): (يقال).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٥٠، والسمرقندي ١/ ٥٨٨، والبغوي ٣/ ٣١٤، وابن عطية ٦/ ١٧٧، والرازي ١٥/ ٩١.
(٤) كذا في: (ب)، و"الوسيط" ٢/ ٢٨٤، عن الحسن، وفي: (أ) وكذا عند البغوي ٣/ ٣١٤، عن الحسن: (من أراد بهم بكسر) والأولى: (ممن أرادهم).
(٥) انظر: "الدر المنثور" ٥/ ٥٣٦.
(٦) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٧، وهو اختيار البغوي ٣/ ٣١٥.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) ذكره السمرقندي ١/ ٥٨٨، عن الكلبي قال: (يعني: الآلهة وإن يدع المشركون آلهتهم إلى أمر لا يتبعهم آلهتهم) اهـ.
523
وقال: قوم (١): (وإن تدعوا الأصنام التي عبدوها لا يتبعونكم لأنها لا تعقل). وهو اختيار الفراء (٢)، والآيات السابقة إخبار عن المشركين، وهذه الآية خطاب للمؤمنين، الدليل على ذلك أن المشركين لا يدعون أحدًا إلى الهدى (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَا يَتَّبِعُوكُمْ﴾. وقرأ نافع (٤) بالتخفيف، وهما لغتان اتبعه اتباعًا وتبعه تبعًا، والمراد به: تركهم الانقياد للحق والإذعان للهدى، والوجه قراءة العامة؛ لأن (اتَّبَع) أكثر في الاستعمال، ألا ترى أنهم أجمعوا على افتعل في قوله: ﴿وَاْتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ (٥) [الأعراف: ١٧٦].
(١) هذا قول الجمهور وحكاه النحاس في "إعرابه" ١/ ٦٥٧، عن الأخفش، وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٥٠، والثعلبي ٦/ ٣١ أ، والزمخشري ٢/ ١٣٧، وابن عطية ٦/ ١٧٧ - ١٧٨، والرازي ١٥/ ٩١، والخازن ٢/ ٣٢٦، وابن كثير ٢/ ٣٠٧.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٤٠١.
(٣) قال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤٤١، والسمين في "الدر" ٥/ ٥٣٧: (الظاهر أن الخطاب للكفار وضمير النصب للأصنام، والمعنى: وإن تدعو آلهتكم إلى طلب هدى ورشاد كما تطلبونه من الله لا يتابعونكم على مرادكم) قال السمين: (ويجوز أن يكون الضمير للرسول والمؤمنين، والمنصوب للكفار أي: وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإيمان) اهـ.
(٤) قرأ نافع: ﴿يَتَّبِعُوكُمْ﴾ بسكون التاء وتخفيفها وفتح الباء، من تبع، وقرأ الباقون بفتح التاء وتشديدها وكسر الباء من اتبع، انظر: "السبعة" ص ٢٩٩، و"المبسوط" ص ١٨٧، و"التذكرة" ٢/ ٣٤٠، و"التيسير" ص ١١٥، و"النشر" ٢/ ٢٧٤.
(٥) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١١٣ - ١١٤، والجمهور على أنهما بمعنى واحد، وقال بعض أهل اللغة: تبعه مخففًا إذا مضى خلفه ولم يدركه والمعنى: لا يلحقوكم، واتبعه مشددًا إذا مضى خلفه فأدركه، والمعنى لا يسيرون على أثركم ولا يركبون طريقتكم في دينكم، انظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٣٢، و"إعراب القراءات" ١/ ٢١٩، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٩، ولابن زنجلة ص ٣٠٥، =
524
وقوله تعالي: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾. مثل قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦]. وذكرنا ما فيه، وهناك عطف الفعل على الفعل، وهاهنا عطف الاسم على الفعل؛ لأن المعنى: أدعوتموهم أم صَمَتُّم، فهما جملتان الأولى مركبة من فعل وفاعل، والثانية من مبتدأ وخبر، ويعود معناها إلى معنى الأولى؛ لأن معناها: صمتم، وقال الفراء: (قوله (١): ﴿أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾. ولم يقل: أم صمتُّم. وأكثر كلام (٢) العرب أن يقولوا: سواء عليَّ أقمت أم قعدت، ويجوز سواء عليَّ أقمت أم أنت قاعد.
قال: وأنشدني الكسائي:
سواء عليك الفقر أم بتَّ ليلة بأهل القباب من نمير بن عامر (٣)
= و"الكشف" ١/ ٤٨٦، و"الدر المصون" ٥/ ٥٣٧، وفيه: (هما لغتان وهو أظهر) اهـ.
(١) وكذلك حكى سيبويه في "الكتاب" ٣/ ٦٤: (عن الخليل أن الآية بمنزلة أم صمتم) وهو قول ابن السراج في "الأصول" ٢/ ١٦١، وأبي علي في كتاب "الشعر" ١/ ٢٨١ - ٢/ ٥٤٤، وقال في "العسكريات" ص ٩٧، و"البصريات" ١/ ٧١١: (اعلم أن بعض الجمل قد تقوم مقام بعض فمن ذلك قوله عز وجل: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ فهذه التي من الابتداء والخبر موقعة موقع التي هي من الفعل والفاعل ألا ترى أنها معادلة كما هو كذلك فقد عادل بالابتداء والخبر الجملة التي هي من الفعل والفاعل والمعنى: أم صمتم) اهـ.
(٢) في "معاني الفراء" ١/ ٤٠١: (وعلى هذا أكثر كلام العرب أن يقولوا..) اهـ.
(٣) لم أقف على قائله وهو في: "تفسير الطبري" ٩/ ١٥١، وابن عطية ٦/ ١٧٨، و"البحر" ٤/ ٤٤٢، و"الدر المصون" ٥/ ٥٣٨، وعند الفراء والطبري وأبي حيان: سواء عليك النفر، يريد النفر من مني في أيام الحج وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، والشاهد: سواء عليك الفقر أم بت ليلة حيث عادلت أم بين المفرد في قوله: الفقر، وجملة قوله: بت ليلة، وقال أبو حيان: (عطف الجملة الفعلية على =
525
وأنشد بعضهم:
..... أو أنت بائت) (١)
وقال غيره من أهل المعاني (٢): (إنما قال: ﴿أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ ولم يقل: أم صمتم لإفادة الماضي والحال، و (٣) ذلك أن المقابلة بـ (دعوتم) قد دلت على معنى الماضي، واللفظ قد دل على معنى الحال).
وقال صاحب النظم: (قوله ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾ ظاهر هذا النظم أن الاستواء واقع بالداعين، وهو (٤) في المعنى واقع بالمدعوين (٥)؛ لأن حال الداعي في الدعاء والصمات مختلفة، وإنما يتفق ويستوي على المدعوين لأنها أصنام لا تسمع ولا تجيب، فاستوى (٦) عليها الدعاء والصمات،
= اسم مقدر بالفعلية إذ الأصل سواء عليك أنفرت أم بت فأوقع النفر موقع أنفرت) اهـ. والقباب، بالكسر، جمع قبَّة -بالضم- بناء من بيوت العرب معروف، انظر: "اللسان" ٦/ ٣٥٠٧ (قبب)، ونمير بن عامر بن صعصعة، انظر: "نهاية الأرب" ص ٣٨٥.
(١) "معاني الفراء" ١/ ٤٠، ومثله قال الطبري ٩/ ١٥١.
(٢) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٥٧، و"غرائب الكرماني" ١/ ٤٣١، و"الكشاف" ٢/ ١٣٨، و"التبيان" ص ٣٩٨، و"الفريد" ٢/ ٣٩٥، و"الدر المصون" ٥/ ٥٣٨، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤٤٢: (الآية من عطف الجملة الاسمية على الفعلية، وكانت الجملة الثانية اسمية لمراعاة رؤوس الآي، ولأن الفعل يشعر بالحدوث واسم الفاعل يشعر بالثبوت والاستمرار، فكانوا إذا دهمهم أمر معضل فزعوا إلى أصنامهم، وإذا لم يحدث بقوا ساكتين فقيل: لا فرق بين أن تحدثوا لهم دعاء وبين أن تستمروا على صمتكم فتبقوا على ما أنتم عليه من عادة صمتكم وهي الحالة المستمرة) اهـ.
(٣) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٤) في (ب): (وهي)، وهو تحريف.
(٥) في (أ): (واقع بالمدعو).
(٦) في (ب): (واستوى).
526
وإنما جاز ذلك وحسن لأنه إذا استوى عليها الدعاء والصمات كان مرجع هذا الاستواء إلى الداعين لأنهم إنما يدعون ليجابوا، وإذا لم يجابوا بشيء استوى عليهم الدعاء والصمات.
وقوله تعالى: ﴿أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ تأويله: أم صمتم، وإنما جاز هذا النظم لأن رؤوس الآيات كانت على النون (١)، وهذا النظم وإن كان قليلاً فقد تكلمت العرب بمثله.
قال الأعشى (٢):
إن تركبوا فظهور (٣) الخيل عادتنا وإن نزلتم فإنا معشر نزل
(١) مجموع فواصل آيات الأعراف: (ن، م، د، ل) الدال في الآية الأولى، واللام في الآيتين ١٠٥، ١٣٤، والميم في الآيات ١٦، ٧٣، ٥٩، ١٠٩، ١١٢، ١١٦، ١٤١، ١٥٣، ١٦٧، ٢٠٠، والباقي بالنون.
(٢) "ديوانه" ص ١٤٩، و"الكتاب" ٣/ ٥١، و"المحتسب" ١/ ١٩٥، و"الصاحبي" ص ٤٧٠، و"الأمالي" ابن الشجري ٢/ ٢١٩، و"الدر المصون" ٤/ ٨٢، و"المغنى" ٢/ ٦٩٣، والرواية عندهم:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا أو تنزلون فإنا معشر نزل
وأوله في الديوان:
قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا
ويروى: قالوا الطرادُ. وهو من معلقته المشهورة، والشاهد: عطف الجملة الاسمية، أو أنتم تنزلون على جملة الشرط (إن تركبوا)، وقيل: هو عطف توهم كأنه قال. أتركبون فذلك عادتنا أو تنزلون في الحرب فنحن معروفون بذلك، انظر: "شرح القصائد" للنحاس ٢/ ١٥٣، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي ٢/ ٥٦٥ - ٥٦٨، و"الخزانة" ٨/ ٥٥٢.
(٣) لفظ: (فظهور)، (ونزلتم) لم أقف عليها إلا في هذه الرواية.
527
معناه: إن تركبوا ركبنا، وإن تنزلوا نزلنا، فأجاب الشرطين وهما فعلان بخبرين اسمين؛ لأن فيهما دليلًا على الفعل المضمر) (١).
١٩٤ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ (٢). قال المفسرون (٣): (يعني: الأصنام)، وقال عطاء عن ابن عباس: (يريد: الملائكة) (٤)، وهذا القول ضعيف من جهتين أحدهما: إن المشركين في ذلك الوقت كانوا يعبدون الأصنام لا الملائكة، ولأنه قال بعد هذه الآية ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا﴾ الآية [الأعراف: ١٩٥]. فدلت هذه أنه يريد الأصنام التي هي جماد لا توصف بالأيدي الباطشة والأرجل الماشية (٥)، وقد مضى القول في أن الأصنام لما جمعت جمع ما يعقل في قوله: ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [الأعراف: ١٩١].
ومعنى الدعاء المذكور هاهنا يحتمل أن يكون العبادة، ويحتمل أن يكون التسمية، كأنه قيل: إن الذين تدعون آلهة من دون الله، ومعنى ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ غير الله.
(١) لم أقف عليه.
(٢) في (أ): (يدعون) بالياء والمشهور بالتاء، وذكر ابن خالويه في "الشواذ" ص ٤٨، أنه قرئ بالياء.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٥١، و"معاني النحاس" ٣/ ١١٧، والسمرقندي ١/ ٥٨٩، والثعلبي ٦/ ٣١ أ.
(٤) لم أقف عليه، وحكاه البغوي ٣/ ٣١٥، والخازن ٢/ ٣٢٦ عن مقاتل، وقالا: (والأول أصح) اهـ.
وفي "تفسير مقاتل" ٢/ ٨١ قال: (يعني: تعبدون ﴿دُونِ الله﴾ من الآلهة ﴿إنهم عباد أمثالكم﴾ وليسوا بآلهة).
(٥) انظر: "البحر" ٤/ ٤٤٣ - ٤٤٤.
528
وقوله: ﴿عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾. قال الكلبي: (مملوكون أمثالكم) (١)، وقال الأخفش: (﴿عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ في التسخير) (٢) فعلى هذا معنى ﴿عِبَادٌ﴾ أي: مسخرون مذللون لأمر الله، ومنه سمي الرقيق عبدًا؛ لأنه مسخر بذلك، وقال قطرب: (مخلوقة أمثالكم) (٣). فأما وصفها بأنهم ﴿عِبَادٌ﴾ وهي موات كالحائط والباب والثوب، فقال أبو بكر بن الأنباري: (الأصنام وإن كانت (٤) مواتًا تجري مجرى الباب والثوب والحائط في أنها غير حيوان، فإن المشركين لما ادعوا أنها تعقل وتميز، وتضر وتنفع أجريت مجرى الناس، ولذلك قال: ﴿فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا﴾، ولم يقل: فادعوهن فليستجبن، ولهذا أيضاً قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ ولم يقل: التي)، وقد سبق (٥) بيان هذا، (فإذا صيرت الأصنام كالناس فأوقع عليها ﴿الَّذِينَ﴾ وقيل في جمعها: فليفعلوا صلح أن يقال لها (٦) ﴿عِبَادٌ﴾، وامتنع ذلك في الأبواب والحيطان والثياب، إذ كانت هذه الأنواع (٧) ما وصفت قط بما يوصف به الناس من العقل والتمييز) (٨).
وقوله تعالى: ﴿فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾. قال ابن عباس: (يريد:
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٨، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٥، وهو قول الطبري ٩/ ١٥١، والسمرقندي ١/ ٥٨٩، والبغوي ٣/ ٣١٥.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٥، ولم أقف عليه عند غيره.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في (ب): (كان).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) لفظ: (لها) ساقط من (ب).
(٧) في (أ): (الأبواب)، وهو تحريف.
(٨) لم أقف عليه. وانظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ٩٢.
529
فاعبدوهم هل يثيبونكم (١) أو يجازونكم) (٢).
وقال أهل المعاني: (معنى هذا الدعاء: طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم، وذلك ما يُئِس منه من قبلهم، وعبادة من هذه صفته جهل وسخف، واللام في: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا﴾ لام الأمر على معنى التعجيز، وهو طلب الفعل إن أمكن) (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾. أي: إن صدقتم أن لكم عند الأصنام منفعة أو ثوابًا أو شفاعة أو نصرة، قاله ابن عباس (٤)، وسلك صاحب النظم في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ طريقة أخرى؛ فقال: (تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾ ﴿إِنَّ﴾ على استفهام، وفي الاستفهام طرف من الإنكار كقوله: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ [التغابن: ٦] إلا أنه استثقل همزتان فاقتصر على إحداهما، وقد تستفهم العرب بغير الألف، قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ [الشعراء: ٢٢] بمعنى: أو تلك على الإنكار، ولا يجوز أن يكون هذا خبرًا؛ لأن تعبيده بني إسرائيل لم يكن منّة عليه، ومثله قول الشاعر (٥):
أفرح أن أرزأ الكرام وأن أورث ذودًا شصائصًا نبلا
أراد: أأفرح لأنه ينتفي من ذلك، ولا يرضى أن يقال له ذلك، وإنما
(١) في (ب): "يثبتونكم".
(٢) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٨، وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٥، والبغوي ٣/ ٣١٥، والقرطبي ٧/ ٣٤٢.
(٣) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ٩٢.
(٤) ذكره البغوي ٣/ ٥١٥ بلفظ: (﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إن لكم عندها منفعة). وذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٥ بلا نسبة.
(٥) الشاهد لحضرمي بن عامر الأسدي، وقد سبق.
530
قال عز وجل منكراً عليهم أن تكون الأصنام عبادًا أمثالهم لقصورها عن أن تكون مثل العباد في الفهم والسمع والبصر، فحقرها وضعفها بهذا الخبر عن أن تبلغ مبلغ العباد فكيف مبلغ الآلهة، ثم قال عز وجل: فإن كان كما تقولون أنها تنفع وتضر ﴿فَادْعُوهُمْ﴾ إلى آخر الآية) (١).
١٩٥ - قوله تعالى: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا﴾، قال ابن عباس: (يريد: مثل بني آدم ممن جعلت فيه الروح. ﴿أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا﴾ مثل ما يبطش بنو آدم) (٢)، ومعنى البَطش (٣): التناول عند الصولة، والأخذ الشديد في كل شيء: بَطش، ومنه قوله عز وتعالى: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [البروج: ١٢].
قال أهل المعاني في هذه الآية: (إنما أنكر عليهم عبادة من لا رجل له يمشي بها، ولا يد (٤) يبطش بها، لأن من عبد جسمًا هذه صفته فقد عبد ما لا شبهة في اليأس من ضره ونفعه، فهو ألوم (٥) ممن عبد من له جارحة يمكن أن ينفع بها أو يضر، فقد عرفهم بهذا أنهم مفضلون عليهم (٦) فكيف يعبدون من هم أفضل منه، فالقصد بالآية بيان جهالتهم في عبادة الأصنام (٧)
(١) لم أقف عليه.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٦ بلا نسبة.
(٣) انظر: "العين" ٦/ ٢٤٠، و"الجمهرة" ١/ ٣٤٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٤٩، و"الصحاح" ٣/ ٩٩٦، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٦٢، و"المفردات" ص ١٢٩، و"اللسان" ٦/ ٣٠١ (بطش).
(٤) لفظ: (ولا يد) ساقط من (ب).
(٥) في (ب): (فهو اليوم)، وفي (أ): (اللوم).
(٦) في (ب): (عليه).
(٧) لفظ: (الأصنام) ساقط من (ب).
531
حيث كانوا أفضل من معبوديهم بما خلق الله لهم من هذه الجوارح التي لم يخلقها لمعبوديهم) (١).
وقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾. قال ابن عباس (٢): (يريد: الذين تعبدون (٣) من دون الله، ﴿ثُمَّ كِيدُونِ﴾ أنتم وشركاؤكم)، وهذا يتصل بما قبله اتصال استكمال الحجة عليهم؛ لأنهم لما فزعوا بعبادة من لا يملك ضرًا ولا نفعًا، قيل لمحمد: قل لهم معبودي يملك الضر والنفع فلو اجتهدتم في كيدي لم تصلوا إلى ضري لدفعه عني.
قال الحسن (٤): (إنهم كانوا يخوفونه بآلهتهم فقال الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ﴾)، واختلفوا في إثبات الياء (٥) في ﴿كِيدُونِ﴾ وحذفها، فقرءوا بالوجهين، ومثله: ﴿فَلَا تُنْظِرُونِ﴾، والقول في ذلك أن الفواصل وما أشبه الفواصل من الكلام التام تجري مجرى القوافي
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٥١، والسمرقندي ١/ ٥٨٩، والماوردي ٢/ ٢٨٧، والبغوي ٣/ ٣١٥، وابن عطية ٦/ ١٨٠، والرازي ١٥/ ٩٢ - ٩٣، وقال ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٣٠٦: (في الآية تنبيه على تفضيل العابدين على المعبودين وتوبيخ لهم حيث عبدوا من هم أفضل منه) اهـ.
(٢) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٦ بلا نسبة.
(٣) في (أ): (تدعون).
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٦، وابن الجوزي ٣/ ٣٠٦، والرازي ١٥/ ٩٣، والخازن ٢/ ٣٢٧.
(٥) قرأ أبو عمرو (ثُمَّ كِيدُونِي) بإثبات الياء وصلًا وحذفها وقفًا وهي رواية عن ابن عامر ونافع، وقرأ ابن عامر في رواية بإثبات الياء في الوصل والوقف، وحذفيها الباقون في الحالين، وقرأ يعقوب وحده: (فَلَا تُنظِرُونِي) بإثبات الياء في الوصل والوقف، وحذفها الباقون في الحالين، انظر: "السبعة" ص ٢٩٩، و"المبسوط" ص ١٨٨، و"التذكرة" ٢/ ٤٣٢، و"التيسير" ص ١١٥، و"النشر" ٢/ ٢٧٥.
532
لاجتماعهما في أن الفاصلة آخر الآية، كما أن القافية آخر البيت، وقد ألزموا (١) الحذف هذه الياءات إذا كانت القوافي كقوله:
فهل يمنعني ارتيادي البلاد من قدر الموت أن يأتِيَنْ (٢)
وكذلك الياء التي هي لام كقوله:
يلمس الأحلاس في منزله بيديه كاليهودي المصل (٣)
ومن أثبت فلأن الأصل الإثبات (٤). ومعنى قوله: ﴿فَلَا تُنْظِرُونِ﴾. أي: لا تمهلوني واعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم، وهذه الآية تدل على صحة ما قال صاحب النظم في الآية الأولى، ألا ترى أنه بيّن فضل الآدمي على الأصنام في هذه الآية لما بقي (٥) بالأولى، أن تكون الأصنام أمثالهم.
(١) في (ب): (وقد لزموا)، وهو تحريف.
(٢) الشاهد للأعشى الكبير في "ديوانه" ص ٣٥٩، و"الكتاب" ٣/ ٥١٣ و٤/ ١٨٧، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٢١٩، و"المحتسب" ١/ ٣٤٩، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ١٨٢، و"الدر المصون" ٣/ ٩٢، والشاهد حذف الياء من الفعل (يأتيني).
(٣) الشاهد للبيد في "ديوانه" ص ١٤٢، والرازي ١٥/ ٩٣، و"اللسان" ٧/ ٤٠٧٢ - ٤٠٧٣ (لمس)، وهو في "تفسير ابن عطية" ٦/ ١٨٢ للأعشى ولعله تحريف أو وهم، ويلمس: يطلب، والأحلاس: جمع حلس، وهو كساء رقيق يوضع على ظهر البعير، والمصل المصلي يعني أنه لا يعقل من غلبه النعاس فهو يطلب الأحلاس مائلًا جانبه كأنه يهودي يصلي على شق وجهه، والشاهد حذف الياء من الاسم، وهو المصلي.
(٤) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١١٥، وانظر. "إعراب القراءات" ١/ ٢١٩، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٩.
(٥) كذا في "الأصول": يريد أنه ما بقي في الآية السابقة دليل على أن الأنام أمثالهم بل هم أفضل.
533
١٩٦ - قولهم تعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ﴾ الآية. قرأ القراء (١): ﴿وَلِيِّيَ﴾ بثلاث ياءات، ياء (فعيل) وهي ساكنة، والثانية لام الفعل وهي مكسورة قد أدغمت (٢) الأولى فيها فصارتا ياء مشددة، والثالثة ياء الإضافة.
وروي عن أبي عمرو بالإدغام (٣) الكبير: ﴿وَلِيِّيَ اللَّهُ﴾ بياء مشددة، ووجه ذلك (٤) أنه حذف الياء التي هي لام فعيل، كما حذفت اللام من قولهم: (ما بليتُ به بالةً) (٥)، وكما حذفت الهمزة التي هي لام في قول أبي
(١) اختلف عن أبي عمرو، فقرأ بحذف الياء وإثبات ياء واحدة مفتوحة مشددة، وقرأ بكسر الياء المشددة بعد الحذف، وقرأ الباقون بياءين الأولى مشددة مكسورة، والثانية مخففة مفتوحة. انظر: "السبعة" ص ٣٠٠، و"المبسوط" ص ٩٧، و"النشر" ٢/ ٢٧٤ - ٢٧٥.
(٢) في (أ): (قد أدغمتا الأولى فصارتا).
(٣) في (أ): "في الإدغام" وقال ابن الجزري في "النشر": ٢/ ٢٧٤: (بعضهم يعبر عنه بالإدغام وهو خطأ إذ المشدد لا يدغم في المخفف وبعضهم أدخله في الإدغام الكبير ولا يصح ذلك لخروجه عن أصوله ولأن راويه يرويه مع عدم الإدغام الكبير) اهـ.
(٤) قال ابن الجزري في "النشر": ٢/ ٢٧٤: (اختلف في توجيه الرواية عن أبي عمرو، فخرج فتح الياء على حذف لام الفعل في ولي وهي الياء الثانية وإدغام ياء فعيل في ياء الإضافة وقد حذفت اللام كثيراً في كلامهم وهو مطرد في اللامات في التحقير، وقد قيل في تخريجها غير ذلك وهذا أحسن، وأما كسر الياء فوجهها أن يكون المحذوف ياء المتكلم لملاقاتها ساكنًا كما تحذف ياءات الإضافة عند لقيها الساكن، والرواية الحذف وصلًا ووقفًا أجري الوقف مجرى الوصل) اهـ.
(٥) (ما باليتُ به بالة) أي: لم أكترث به، والشاهد: بالة حيث حذف الياء تخفيفاً، والأصل بالية، وفي "الكتاب" ٤/ ٤٠٦: (حكي عن الخليل أن من الحذف قولهم: ما أباليه بالة كأنها بالية بمنزلة العافية) اهـ، وفي "النهاية" لابن الأثير ١/ ١٥٦ قال: (وفي حديث ابن عباس: (ما أباليه بالة) أي: لم أكترث به)، وفي "اللسان" ١/ ٣٥٦ (بلا)، ذكر حديث ابن عباس، وقال: (ومن كلام الحسن: لم يبالهم الله =
534
الحسن (١) (من أشياء) كما حذفت الهمزة من قولهم: سواية إذا أردت به سوائية مثل الكراهية، وكما استمر الحذف في التحقير في هذه (٢) اللامات نحو: عُطيّ في تحقير عطاء بدليل قولهم: سميَّة في تصغير سماء، فلما حذفت اللام أدغمت ياء فعيل في ياء الإضافة فقلت: ﴿وَلِيِّيَ اللَّهُ﴾. فهذه الفتحة فتحة ياء الإضافة (٣) ولا يجوز أن يدغم الياء التي هي لام في ياء الإضافة؛ لأنه إذا فعل ذلك انفك الإدغام، ويذهب سيبويه إلى (إنك إذا قلت هذا: وليُّ يزيد، وعدو وليد، لم يجز إدغام الياء التي هي لام في ياء يزيد لانفكاك الإدغام من وليّ) (٤)، وكأن أبا عمرو في قوله: ﴿وَلِيَّ اللَّهُ﴾ شبه (٥) المنفصل وهو ياء الإضافة بالمتصل، فحذف إحدى الياءات عن ﴿وَلِيَّ﴾ كما يحذف من عُطيّ، والباقون أجازوا اجتماع ثلاث ياءات؛ لأن
= بالة، أي: لا أكترث بهم) اهـ. وأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (٦٤٣٤) كتاب الرقاق، باب: ذهاب الصالحين، عن مرداس الأسلمي الأسلمي رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: "يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة") اهـ. وفي "النهاية" ١/ ١٥٦: (أي: لا يرفع لهم قدرًا أو لا يقيم لهم وزنًا، يقال: ما باليته وما باليت به أي: لم أكترث به) اهـ.
(١) قول الأخفش في "الحجة" لأبي علي ٤/ ١١٨، وقال الأزهري في "تهذيبه" ٢/ ١٩٥١ (شيء): (لم يختلف النحويون في أن (أشياء) جمع شيء وأنها غير مجراة، وقال الفراء والأخفش أصل أشياء أفعلاء إلا إنه كان في الأصل أشيئاء على وزن أشيعاع فاجتمعت همزتان بينهما ألف، فحذفت الهمزة الأولى). وانظر: "اللسان" ٤/ ٢٣٦٩ - ٢٣٧٠ (شيء)، و"معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص ١٥٧.
(٢) لفظ: (في هذه) ساقط من (ب).
(٣) في (ب): (فتحة بالإضافة)، وهو تحريف.
(٤) "الكتاب" ٤/ ٤٤٢.
(٥) في (ب): (شبهه)، وهو تحريف.
535
ياء الإضافة منفصل، ولم يجروا المنفصل مجرى المتصل، ولا يجوز في عُطيّ إلا الحذف لأنه متصل (١).
ومعنى ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ﴾ أي: الذي يتولى حفظي وتصرفي هو الله لا غيره، ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ يريد: القرآن، أي: أنه يتولاني وينصرني، كما أيدني بإنزال الكتاب (٢). ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [قال ابن عباس: (يريد: الذين لا يعدلون بالله شيئًا ولا يعصونه) (٣)، وفي هذا مدح الصالحين] (٤) بأن الله عز وجل يتولاهم بنصره فلا يضرهم (٥) عداوة من عاداهم، وفي ذلك يأس المشركين من أن يضره كيدهم ومكرهم. قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ الآية [الأعراف: ١٩٧] معنى هذه الآية قد مضى في مثلها من قوله: ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾ [الأعراف: ١٩٢].
وإنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع، وهاهنا ذكر على جهة الفرق بين صفة من تجوز له العبادة ومن لا تجوز، كأنه قيل: إن ناصره الله ولا ناصر لكم ممن تعبدون (٦).
(١) ما تقدم قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١١٦ - ١٢٠، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٤٣٢، و"إعراب القراءات" ١/ ٢١٧، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٨، و"البحر" ٤/ ٤٤٦، و"الدر المصون" ٥/ ٥٤٢.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٥٢، و"إعراب النحاس" ١/ ٦٥٩، والسمرقندي ١/ ٥٨٩.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٦، والبغوي ٣/ ٣١٥ - ٣١٦، والخازن ٢/ ٣٢٧.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) في (ب): (ولا يضرهم).
(٦) انظر: "تفسير الرازي" ١٥/ ٩٥، والخازن ٢/ ٣٢٧، وقال ابن عطية ٦/ ١٨٤: (إنما كرر لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكنًا من نفوس العرب في ذلك الزمن ومستوليًا على عقولها فأوعب القول في ذلك لطفًا من الله تعالى بهم) اهـ.
536
١٩٨ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾. ذهب الحسن (١) إلى أن المراد بهذا (٢): المشركون، فيكون المعنى: وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى ﴿الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا﴾ أي: لا يعقلوا (٣) بقلوبهم، ﴿وَتَرَاهُمْ﴾، يا محمد ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ بأعينهم (٤) ﴿وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ بقلوبهم، والأكثرون (٥) على أن المراد بالآية الأنام وبيان صفات ما هي عليه من النقص، وظاهر النظم يدل على هذا المقدم (٦).
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٧، والبغوي ٣/ ٣١٦، والخازن ٢/ ٣٢٧، وأخرجه الطبري ٩/ ١٥٢ بسند جيد عن السدي ومجاهد، وهو قول مقاتل في "تفسيره" ٢/ ٨١.
(٢) لفظ: (بهذا) ساقط من (ب).
(٣) في (أ): (أي يعقلوا).
(٤) لفظ: (بأعينهم) ساقط من (ب).
(٥) وهو إختيار أكثرهم قال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٠٧: (هذا هو الأولى وقاله قتادة واختاره الطبري ٩/ ١٥٣) اهـ.
وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٥٧، والسمرقندي ١/ ٥٨٩، والثعلبي ٦/ ٣١ أ، والبغوي ٣/ ٣١٦، و"الكشاف" ٢/ ١٣٨، والقرطبي ٧/ ٣٣٤، والخازن ٢/ ٣٢٧، وقال أبو حيان في "البحر" ٤/ ٤٤٧: (تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير للأصنام ونفى عنها السماع لأنها جماد لا تحس وأثبت لها النظر على سبيل المجاز بمعنى أنهم صوروهم ذوي أعين فهم يشبهون من ينظر، وقال الحسن ومجاهد والسدي الضمير يعود على الكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون إذ لم يتحصل لهم عن الاستماع والنظر فائدة ولا حصلوا منه بطائل وهذا تأويل حسن ويكون إثبات النظر حقيقة لا مجازًا ويحسن هذا التأويل الآية بعد هذه ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] أي: الذين من شأنهم أن تدعوهم لا يسمعوا وينظرون إليك وهم لا يبصرون فتكون مرتبة على العلة الموجبة لذلك وهي الجهل) اهـ.
(٦) في (ب): (التقدم) والظاهر أنه يرجح اللأول والله أعلم وهو ظاهر من تقديم قول الحسن هنا، وكذلك في "الوسيط" ٢/ ٢٨٧.
537
وقوله تعالى (١): ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾. قال الفراء: (يريد: الآلهة أنها صور لا تبصر ولم يقل: وتراها لأن لها أجسامًا وعيونًا، والعرب تقول للرجل والقريب من الشيء: هو ينظر وهو لا يراه، والمنازل تتناظر إذا كان بعضها بإزاء بعض) (٢)، فمعنى ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ هاهنا: يقابلونك، ونحو هذا قال ابن الأنباري (٣) فقال: (المعنى: ﴿وَتَرَاهُمْ﴾ يقربون منك ويدنون وهم غير مبصرين)، وذكر وجهًا آخر فقال: (معنى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ يخيل إليك أنهم يبصرون وهم غير مبصرين) (٤).
وشرح أبو علي الجرجاني هذه الوجه واختاره فقال: (قوله: ﴿وَتَرَاهُمْ﴾، أي: تحسبهم، والرؤية على وجهين أحدهما: العلم وهو كثير كقوله: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ [غافر: ٢٩] أي: ما أعلمكم إلا ما أعلم، والآخر: الشك كقوله: ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ [الحج: ٢] أي: تحسبهم كذلك. ومنه قول الشاعر (٥):
ترى الأكم منه سجدًا للحوافر
(١) جاء في النسخ بعد قوله: (المقدم). قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾. وقوله تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ وهو تكرار.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٤٠١.
(٣) "الزاهر" ١/ ٣٥٢، وفيه قال: (معناه: يواجهونك، يقال: الجبل ينظر إليك، والحائط يراك، أي: يواجهك ويقابلك) اهـ.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٧.
(٥) البيت لزيد الخيل وصدره:
بجمع تضل البلق في حجراته
وقد سبق تخريجه والكلام عليه.
538
أي: تحسبها كأنها ساجدة، وليس للرؤية التي هي العلم هاهنا معنى فتأويل قوله: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ (١): تحسبهم ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾؛ لأن لها أعينًا مصنوعة مركبة بالجواهر حتى يحسب الإنسان أنها تنظر إليه) (٢)، فمعنى الوجه الأول: ﴿وَتَرَاهُمْ﴾ يقابلونك، والوجه الثاني: تحسبهم يرونك ﴿وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (٣).
١٩٩ - قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾، قال أهل اللغة: (العفو (٤) الفضل وما أتى بغير كلفة). وقد ذكرنا هذا عند قوله: ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] في سورة البقرة.
قال مجاهد: (أمر أن يأخذ عفو أخلاق الناس) (٥)، وهو قول الحسن (٦) وعروة (٧) بن الزبير (٨) وقتادة (٩)، والمعنى: اقبل الميسور من
(١) لفظ: (إليك) ساقط من (ب).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) والمعنى متقارب، قال الطبري ٩/ ١٥٣: (أي: يقابلونك ويحاذونك وهم لا يبصرونك لأنه لا أبصار لهم، وقيل: ﴿تَرَاهُمْ﴾ ولم يقل: تراها لأنها صور مصورة على صور بني آدم عليه السلام) اهـ. ونحوه قال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٠٧، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٥٩، والسمرقندي ١/ ٥٨٩، والبغوي ٣/ ٣١٦، وابن عطية ٧/ ٢٣٢، وابن الجوزي ٣/ ٣٠٧، والرازي ١٥/ ٩٥.
(٤) هذا من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٨٩ (عما).
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٥٣، وأخرجه الطبري ٩/ ١٥٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٧، والنحاس في "معانيه" ٣/ ١١٩ من طرق جيدة
(٦) ذكره الماوردي ٢/ ٢٨٨، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٨، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٠٧.
(٧) عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، تقدمت ترجمته.
(٨) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ١٤٥، والطبري ٩/ ١٥٣ - ١٥٤ من طرق جيدة، وذكرِه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٧.
(٩) لم أقف عليه.
539
أخلاق الناس، ولا تستنقص عليهم فيستنقصوا عليك، ويتولد منه البغضاء والعداوة (١).
وقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾. العرف والعارفة والمعروف واحد، وهو: كل ما تعرفه النفس من الخير (٢) وتبسأ به (٣) وتطمئن إليه (٤). قال مقاتل (٥) وعروة (٦) والضحاك (٧): (وأمر بالمعروف) وهو قول الكلبي (٨).
وقال أهل المعاني: (المعروف ما يعرف صوابه عند (٩) ذوي العقول السليمة) (١٠).
(١) هذا من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٨٩ (عفا)، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٦، و"غريب القرآن" ص ١٥٥، و"تفسير غريب القرآن" ١/ ١٨٦، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٥٤ - ١٥٥.
(٢) لفظ: (من الخير) ساقط من (أ).
(٣) تبسأ به أي: تأنس به. انظر: "اللسان" ١/ ٢٧٩ (بسأ).
(٤) هذا من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٠٤ (عرف).
(٥) "تفسير مقاتل" ٢/ ٨١
(٦) أخرجه عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٥، والطبري ٩/ ١٥٥ من طرق جيدة.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٨ عن الضحاك، وأخرجه وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٨ بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس وقال: (وروي عن عروة والسدي وسفيان الثوري نحوه) وأخرجه الطبري ٩/ ١٥٦ من طرق جيدة عن السدي وقتادة.
(٨) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٩، وذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٦٧، وهذا قول الأكثر، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٦، تفسير سورة الأعراف "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٦، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٥٦، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٦، و"نزهة القلوب" ص ٣٣٦، و"معاني النحاس" ٣/ ١٢٠، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٨٩، وقال النحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٦٣: (هذا هو المعروف في اللغة).
(٩) لفظ: (عند) ساقط من (ب).
(١٠) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٥٩، و"إحكام القرآن" لابن العربي ٢/ ٨٢٣ - ٨٢٦.
540
وقوله تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.
قال: لم أمره بالإعراض عنهم مع وجوب النكير عليهم بما يردعهم عن جهلهم؟ قيل: إن هذا في حال اليأس من صلاحهم، فيعمل على طريق الاستخفاف بهم، وصيانة النفس عن مقابلتهم (١) على سفههم (٢).
قال عكرمة: (لما نزلت هذه الآية قال النبي - ﷺ -: "يا جبريل ما هذا؟ " قال: "لا أدري حتى أسأل"، فذهب، ثم رجع فقال: (يا محمد إن ربك يقول: هو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك") (٣) وتفسير جبريل (٤) عليه السلام لهذه الآية موافق لظاهرها لأن في وصل القاطع عفوًا عن جريمة القطيعة، وإعطاء المحارم من جملة المعروف، والعفو عن الظالم إعراض عن جهله وظلمه.
(١) في (ب): (عن).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٥٦، و"النا سخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٣٦٤.
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٤٦، والطبري ٩/ ١٥٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٨ بسند جيد عن أمي بن ربيعة المرادي وهو مرسل، وقال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣٠٨: (هو مرسل على كل حال، وقد روي له شواهد من وجوه أخر فقد رواه ابن مردويه مرفوعاً عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة) اهـ.
وقال ابن حجر في "الفتح" ٨/ ٣٠٦، وفي "الكافي الشاف" ص ٦٦: (رواه الطبري مرسلًا وابن مردويه موصولاً من حديث جابر وقيس) اهـ.
وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٢٨، وزاد نسبته: (إلى ابن أبي الدنيا وابن المنذر وأبي الشيخ) اهـ.
وأخرجه السمرقندي ١/ ٥٩٠ عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الماوردي ٢/ ٢٨٨، عن ابن زيد، وذكره الرازي ١٥/ ٩٦ عن عكرمة، وانظر مرويات الإمام أحمد في "التفسير" ٢/ ٢٢٨.
(٤) ذكره الرازي ١٥/ ٩٦، عن أهل العلم.
541
قال قتادة (١): (في هذه الآية أخلاق أمر الله بها نبيه عليه السلام ودلَّه عليها).
وقال عبد الله بن الزبير (٢): (ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس) (٣).
(١) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٦ بسند جيد.
(٢) عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي أبو بكر القرشي المكي المدني، صحابي، إمام، عالم، عابد، وأول مولود في المدينة بعد الهجرة، وكان فارسًا شجاعًا له مواقف مشهودة، شهد اليرموك وفتح المغرب وغيرهما، وله قدر كبير في العلم والعبادة والشرف والجهاد، وفضله وثناء الأئمة عليه كثير، تولى الخلافة تسع سنين، وقتل رضي الله عنه في ذي الحجة سنة ٧٣ هـ.
انظر: "الحلية" ١/ ٣٢٩، و"الاستيعاب" ٣/ ٣٩ رقم (١٥٥٣)، و"تهذيب الأسماء واللغات" ١/ ٢٦٦، و"وفيات الأعيان" ٣/ ٧١، و"سير أعلام النبلاء" ٣/ ٣٦٣، و"الإصابة" ٢/ ٣٠٩، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٣٣٣.
(٣) أخرجه البخاري في "صحيحه" ٥/ ١٩٨، تفسير سورة الأعراف وأبو داود كتاب التفسير، باب: خذ العفو وأمر بالعرف رقم (٤٦٤٣)، والنسائي في "التفسير" ١/ ٥١٢ رقم ٢١٥، والطبري ٩/ ١٥٤، ووقع في طبعتنا (أبي الزبير) والصواب: (ابن الزبير)، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٧ كتاب الأدب، باب: باب في التجاوز في الأمر، والنحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٦٠، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٧، وفي رواية عند البخاري قال: (أمر الله نبيه - ﷺ - أن يأخذ العفو من أخلاق الناس) اهـ. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٢٥: (رواه الطبراني في "الأوسط" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ورجاله ثقات) اهـ.
وانظر: "الدر المنثور" ٣/ ٢٨٠، وقال النحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٦٠ بعد الحديث: (هذا أولى ما قيل في الآية لصحة إسناده، وأنه عن صحابي يخبر بنزول الآية، وإذا جاء الشيء هذا المجيء لم يسع أحدًا مخالفته، والمعنى عليه: خذ العفو، أي: السهل من أخلاق الناس، ولا تغلظ عليهم، ولا تعنف بهم، وكذا كانت أخلاقه - ﷺ - أنه ما لقي أحدًا قط بمكروه في وجهه، ولا ضرب أحدًا بيده) اهـ. وانظر: شرح الحديث في "فتح البارى" ٨/ ٣٠٥.
542
وقال الصادق (١): (ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية) (٢).
وقال عبد الله بن مسلم: (جمع الله تعالى بهذه الآية لنبيه - ﷺ - كل خلق عظيم؛ لأن في أخذ العفو صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين، وفي الأمر بالعرف (٣) تقوى الله وصلة الأرحام، وصون اللسان عن الكذب، وغض الطرف عن الحُرمات، وإنما سمي هذا وما أشبهه عرفًا ومعروفًا؛ لأن كل نفس تعرفه، وكل قلب يطمئن إليه، وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم، وتنزيه النفس عن مماراة السفيه، ومنازعة اللجوج) (٤)، فهذا الذي ذكرنا طريقة حسنة في هذه الآية (٥).
وللمفسرين (٦) طريق آخر فيها، قال ابن عباس: (﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ أي: (ما (٧) عفا لك من أموالهم، وهو ما فضل من العيال والكلّ (٨)، يقول: ما أتوك به عفوًا فخذه، ولا تسأل ما وراء ذلك، وكان هذا قبل بيان فريضة
(١) الصادق هو: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، تابعي إمام عابد عالم ثقة، تقدت ترجمته.
(٢) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٣٢ أ، والبغوي ٣/ ٣١٦، والزمخشري ٢/ ١٣٩، والرازي ١٥/ ٩٦، والقرطبي ٧/ ٣٤٥، والخازن ٢/ ٣٢٨.
(٣) في (ب): (بالمعروف).
(٤) "تأويل مشكل القرآن" ص ٤، ٥.
(٥) لفظ: (الآية) ساقط من (ب).
(٦) في (ب): (والمفسرين)، وهو تحريف.
(٧) في (ب): (مما عفا لك).
(٨) الكل، بالفتح واللام: اليتيم، والكلُّ الذي هو عيال وثقل على صاحبه. والكلُّ: الوكيل، وكلَّ الرجل إذا تعب، وكلَّ عنه نبا وضعف، انظر: "اللسان" ٧/ ٣٩١٩ (كلل).
543
الصدقة، فلما نزلت آية وجوب الزكاة نُسخت هذه) (١).
وهذا قول السدي (٢) ومقاتل (٣) والكلبي والضحاك (٤).
قال الكلبي: (هو فضل المال كان يأخذه بعد الكل والعيال، ليس فيه شيء مؤقت، ثم نزلت الزكاة المفروضة بعد ذلك فنسخت الفضل) (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: بلا (٦) إله إلا الله)، وقال السدي: (بالفضل (٧) من المال، نسخته الزكاة).
(١) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٤، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٨ بسند جيد، وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عنه بسند جيد قال: (﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ الفضل).
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٤ بسند جيد.
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٨١.
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٤ بسند ضعيف وذكره النحاس في "ناسخه" ٢/ ٣٥٨ - ٣٥٩، والماوردي ٢/ ٢٨٨، عن ابن عباس والسدي والضحاك، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٣٨ بسند ضعيف عن الضحاك عن ابن عباس قال: (خذ الفضل: أنفق الفضل) اهـ.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٩، وذكره هود الهواري ٢/ ٦٧، عن الكلبي، وذكره الثعلبي ٦/ ٣١/ ب، والبغوي ٣/ ٣١٦، عن ابن عباس والسدي والضحاك، وهو قول أبي عبد الله محمد بن حزم في "ناسخه" ص ٣٨، وهبة الله بن سلامة في "ناسخه" ص٧٠، والظاهر عدم النسخ، وأن المعنى: أقبل الميسور من أخلاق الناس، وقد يدخل فيه فضل المال ومكان عن ظهر غنى فالآية محكمة وهو اختيار الجمهور، انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٥٥، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٣٦٠، و"الإيضاح" لمكي ص ٢٥٣، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص ٣٤٢، و"زاد المسير" ٣/ ٣٠٨، و"النسخ في القرآن" للدكتور/ مصطفى زيد ٢/ ٧٣٢.
(٦) في (ب): (يريد لا إله إلا الله)، والأثر ذكره الثعلبي ٦/ ٣١ ب، والبغوي ٣/ ٣١٦، والقرطبي ٧/ ٣٤٦، والخازن ٢/ ٣٢٨، عن عطاء فقط.
(٧) في (ب): (الفضل) وقد سبق تخريج الأثر، والظاهر أنه في تفسير قوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ وليس في قوله: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ لأنه محكم.
544
﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾. قال الضحاك: (وأعرض عن المشركين) (١). وقال مقاتل (٢) والكلبي (٣): (عن جميع من جهل عليك، وجهل أمرك من مشركي مكة، مثل أبي جهل وغيره، نسخة آية السيف) (٤)، فعلى هذه الطريقة جميع الآية منسوخة إلا قوله: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ على قول عطاء (٥)، والأحسن الطريقة الأولى (٦).
قال ابن زيد (٧): نزلت هذه الآية قال النبي - ﷺ -: "كيف يا رب والغضب"؟ فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾) (٨) [الأعراف: ٢٠٠]، نزغ الشيطان وساوسه ونخسه في القلب بما يسول
(١) لم أقف عليه.
(٢) "تفسير مقاتل" ٢/ ٨١ - ٨٢، وهو قول ابن حزم في "ناسخه" ص ٣٨.
(٣) "تنوير المقباس" ٢/ ١٤٩، وهو قول هبة الله بن سلامة في "ناسخه" ص٧٠.
(٤) هي الآية -٥ من سورة التوبة، وقد سبق ذكرها.
(٥) سبق تخريجه، وهو عندهم موصولًا بقوله: (يريد بلا إله إلا الله قال: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ أبي جهل وأصحابه نسخها بآية السيف، وقال القرطبي ٧/ ٣٤٧: (قال عطاء وابن زيد: هي منسوخة بآية السيف، وقال مجاهد وقتادة هي محكمة وهو الصحيح) اهـ. والذين قالوا بالنسخ جماعة ذكرهم المؤلف ولم يذكر عطاء معهم.
(٦) أي أن الآية محكمة والمعنى: إنه عام فيمن جهل، أمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم وإن وجب الإنكار عليهم، وهذا هو الصحيح واختيار الجمهور.
انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٥٣ - ١٥٦، و"الناسخ والمنسوخ" للنحاس ٢/ ٣٦٣، و"الإيضاح" لمكي ص ٢٥٣٦، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص ٣٤١٤، و"تفسير ابن عطية" ١٨٥ - ١٨٧، وابن الجوزي ٣/ ٣٠٨، والرازي ١٥/ ٩٦ - ٩٧، و"البحر" ٤/ ٤٤٨، و"النسخ في القرآن" لمصطفى زيد ٢/ ٨٣٣.
(٧) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٦ - ١٥٧ بسند جيد عن عبد الرحمن بن زيد وهو مرسل، وذكره الثعلبي ٦/ ٣٢ أ، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٩، والبغوي ١٣/ ٣١٧
(٨) لفظ: (نزغ) ساقط من (ب).
545
للإنسان من المعاصي (١)، روي أبو عبيد عن أبي زيد: (نزغت بين القوم إذا أفسدت) (٢). وقال الليث: (النزغ أن تنزغ بين قوم فتحمل بعضهم على بعض بفساد ذات بينهم) (٣).
قال ابن عباس في رواية عطاء: (يريد: يعرض لك من الشيطان عارض) (٤). وقال مقاتل: (وإما (٥) يفتنك الشيطان فتنة) (٦).
وقال الزجاج: (المعنى: إن نالك من الشيطان أدنى وسوسة) (٧).
وقال عبد الله بن مسلم: (وإما يستخفنك الشيطان. قال: ويقال: نزغ بيننا فلان أي: أفسد) (٨).
وقال بعض أهل المعاني: (معنى النزغ: الإزعاج، وأكثر ما يكون عند الغضب، وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر، وهذه نزغة من الشيطان للخصلة الحاملة عليه) (٩)، وموضع (١٠) ﴿يَنْزَغَنَّكَ﴾ جزم بـ "إِنْ"
(١) النص في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٥٢، وانظر: "الجمهرة" ٢/ ٨٢٠، و"الصحاح" ٤/ ١٣٢٧، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤١٦، و"اللسان" ٧/ ٤٣٩٧ (نزغ).
(٢) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٥٢.
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٥٢، وانظر: "العين" ٤/ ٣٨٤، و"البارع" ص ٣٣٠.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٨٩.
(٥) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٦) "تفسيرمقاتل" ٢/ ٨٢.
(٧) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٦، ونحوه قال النحاس في "معانيه" ٣/ ١٢٠.
(٨) "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٦، ونحوه في "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٦، و"غريب القرآن" ص ١٥٦، و"تفسير المشكل" ص ٨٩.
(٩) انظر: الرازي ١٥/ ٩٧.
(١٠) ﴿يَنْزَغَنَّكَ﴾ مضارع مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والنون للتوكيد حسن تأكيده بالنون لما دخلت عليه ما، انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٦٠.
546
التي للجزاء إلا أنه لا يتبين فيه الإعراب لأنه مبني مع نوع التأكيد بالفتح إذ كانت مشددة ولا بد (١) من تحريك ما قبلها في الجزم لالتقاء الساكنين (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أي: اطلب النجاة من تلك البلية بالله، ومضى معنى (٣) الاستعاذة والعوذ، ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ﴾ لدعائك ﴿عَلِيم﴾ بما عرض لك.
٢٠١ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾، قال ابن عباس: (يريد: المؤمنين) (٤). وقال الكلبي: (﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الكفر والشرك والفواحش) (٥)، ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ﴾، وقرئ (٦) ﴿طَيْف﴾، اختلفوا في الطيف، فقيل: إنه مصدر.
قال أبو زيد: (طاف يطوف طوفًا وطوافًا، إذا أقبل وأدبر، وأطاف يُطيف إطافة إذا جعل يستدير بالقوم ويأتيهم من نواحيهم، وطاف الخيال
(١) في: (أ): (مشددة أبد من تحريك) وهو تحريف.
(٢) انظر: "الكتاب" ٣/ ٥١٤ - ٥١٩.
(٣) انظر: "البسيط" البقرة: ٦٧، النسخة الأزهرية ١/ ٨٤/ أ.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٠، وذكره الثعلبي ٦/ ٣٢/ ب، والبغوي ٣/ ٣١٧ بلا نسبة.
(٥) ذكر الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٠ عن ابن عباس قال: (يريد: المؤمنين الذين اتقوا الكفر والشرك والفواحش) اهـ. وقال السمرقندي ١/ ٥٩٠: (يعني: اتقوا الشرك والفواحش) اهـ.
(٦) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي (طيف) بياء ساكنة بعد الطاء من غير ألف ولا همز، وقرأ الباقون ﴿طَائِفٌ﴾ بألف بحد الطاء وهمزة مكسورة بعدها.
انظر: "السبعة" ص ٣٠١، و"المبسوط" ص ١٨٧، و"التذكرة" ٢/ ٤٣٠، و"التيسير" ص ١١٥، و"النشر" ٢/ ٢٧٥.
547
يطيف طيفًا إذا ألم في المنام) (١)، ونحو هذا قال الزجاج (٢)، وأنشدوا (٣):
أنَّى ألمَّ بك الخيال يطيف
قال ابن الأنباري: (وجائز أن يكون الطيف أصله طيِّف إلا أنهم أستثقلوا التشديد فحذفوا إحدى اليائين وأبقوا (٤) ياء ساكنة) (٥).
فعلى القول الأول هو مصدر، و (٦) على ما قاله أبو بكر من باب هَيّن وهَيْن، ومَيّت ومَيْت (٧)، ويشهد بصحة قول أبي بكر قراءة سعيد بن
(١) "الحجة" لأبي علي ٤/ ١٢٠، وليس فيه (وطوافًا) وفي "مجمل اللغة" ٢/ ٥٨٩ قال: (طاف يطوف طوفًا وطوافًا).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٦ وفيه: (يقال: طفت أطوف وطاف الخيال يطيف).
(٣) الشاهد لكعب بن زهير في "ديوانه" ص ٤٩، و"اللسان" ٥/ ٢٧٣٩ (طيف) وبلا نسبة في: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٧، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٥٧ - ١٥٨، و"نزهة القلوب" ص ٣١٢، و"إعراب القراءات" ١/ ٢١٩، و"الصحاح" ٤/ ١٣٩٧، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤٣٢، و"الكشاف" ٢/ ١٣٩، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ١٩٠ - ١٩١، و"الفريد" ٢/ ٣٩٨، و"البحر" ٤/ ٤٤٩، و"الدر المصون" ٥/ ٥٤٦ وتمامه: (ومطافة لك ذكرة وشعوف).
وأنى أي: كيف، وأم نزل والإلمام الزيارة، والذكرة -بالضم والكسر نقيض النسيان وهو حفظ الشيء أو الشيء يجري على اللسان والشعف- إحراق الحب القلب مع لذة يجدها، وشعفه الهوى إذا بلغ منه، والشعوف الولوع بالشيء حتى لا يعدل عنه، قال في "اللسان" ٤/ ٢٢٨٥ - ٢٢٨٦ شعف في شرح بيت كعب: (يحتمل أن يكون جمع شعف ويحتمل أن يكون مصدرا وهو الظاهر) اهـ. وانظر: "اللسان" ٤/ ٢٢٧٩ (ذكر) حيث شرح فيه بيت كعب "شرح شواهد الكشاف" ٤/ ٤٥٧.
(٤) في (ب): (واتقوا) وهو تصحيف.
(٥) ذكره الرازي ١٥/ ٩٩، عن الواحدي عن ابن الأنباري.
(٦) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٧) قال السمين في "الدر" ٥/ ٥٤٦: (طيف قيل: إنه مخفف من فيعل والأصل طيف =
548
جبير (١) ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَيَّفٌ﴾ بالتشديد، هذا هو الأصل في الطيف (٢) ثم يسمّى الجنون والغضب والوسوسة طيفًا لأنه لمة من الشيطان (٣) يشبه بلمّة الخيال.
قال الأزهري: (الطَّيف في كلام العرب الجنون، رواه أبو عبيد عن الأحمر (٤).
وقال الهذلي (٥):
= بتشديد الياء فحذف عين الكلمة كقولهم في ميِّت ميت وفي هين هين ثم طيف الذي هو الأصل يحتمل أن يكون من طاف يطيف أو من طاف يطوف والأصل طيوف فقلب وأدغم وهذا قول ابن الأنباري) اهـ.
وانظر: "معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص ١٧٦ (طاف)، وص ٢٥٢ (ميت)، وص ٢٧١ (هين).
(١) ذكرها النحاس في "إعرابه" ١/ ٦٦٠، والسمرقندي ١/ ٥٩٠، والثعلبي ٦/ ٣٢ ب، ومكي في "الكشف" ١/ ٤٨٧، وابن عطية ٦/ ١٩٠ - ١٩١، والرازي ١٥/ ٩٩، والقرطبي ٧/ ٣٤٩، و"البحر" ٤/ ٤٤٩، وذكرها ابن خالويه في "مختصر الشواذ" ص ٢٥٣، عن ابن عباس وسعيد بن جبير، وذكرها ابن زنجلة في "الحجة" ص ٣٠٦ عن ابن مسعود. وذكرها ابن الجوزي في "تفسيره" ٣/ ٣٠٩ عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعاصم الجحدري والضحاك.
(٢) لفظ: (في الطيف) مكرر في (أ).
(٣) في (أ): (من الشيطان أن يشبه)، وهو تحريف.
(٤) الأحمر هو خلف بن حيان، لغوي. تقدمت ترجمته.
(٥) الهذلي هو أبو العيال بن أبي غثير، مشهور بكنيته، شاعر مخضرم، أسلم مع من أسلم من هذيل، وعمر إلى خلافة معاوية، وهو فصيح مقدم.
انظر: "شرح أشعار الهذليين" للسكري ١/ ٤٠٧، و"الشعر والشعراء" ص٤٤٥، و"الأغاني" ٢٤/ ١٦٢، و"الإصابة" ٤/ ١٤٦.
549
وإذا بها وأبيك طيف جنون (١)
وقيل للغضب: طيف لأن عقل من استفزه يعزب حتى يصير في صورة المجنون الذي زال عقله) (٢).
وأما الطائف فيجوز أن يكون بمعنى: الطيف، مثل العافية والعاقبة، ونحو ذلك مما جاء المصدر فيه على فاعل وفاعلةٍ، قال الأعشى (٣):
وتصبح (٤) من غبِّ السرى وكأنما (٥) ألم بها من طائف الجن أولق
قال الفراء (٦) في هذه الآية: (الطائف والطيف سواء، وهو ما كان
(١) "شرح أشعار الهذليين" للسكري ١/ ٤١٥، و"معاني القراءات" ١/ ٤٣٣، و"الصحاح" ٤/ ١٣٩٧، و"اللسان" ٥/ ٢٧٣٩ (طيف)، وبلا نسبة في "البارع" ص ٦٨٣، و"الحجة" لأبي علي ٤/ ١٢١، وصدره:
ومنحتني فرضيت حين منحتني
وجاء في "الأغاني" ٢٤/ ٢٦٦ (رأي) بدل (حين)، (والله) بدل (وأبيك)، وفي المراجع (فإذا) بدل (وإذا).
(٢) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٥ (طيف).
(٣) "ديوانه" ص ١١٨، و"مجاز القرآن" ١/ ٢٣٦، و"الحجة" لأبي علي ٤/ ١٢١، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٤٣٢، و"تفسير ابن عطية" ٦/ ١٩١ - ١٩٢، و"اللسان" ٥/ ٢٧٢٢ (طوف)، و"البحر" ٤/ ٤٤٩، و"الدر المصون" ٥/ ٥٤٧، وبلا نسبة في: "الجمهرة" ١/ ١٠٩٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٨٤ (ألق)، و"إعراب القراءات" ١/ ٢١٨، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٨، وغب الشيء: عاقبته وما يليه، والسرى: السير ليلاً، وألم به خالطه، والطائف ما يلم بالإنسان ويطوف وبه، وأولق أي: جنّ.
(٤) في: (أ): (ويصبح)، وهو تصحيف.
(٥) في: (أ): (ولا نما)، وهو تحريف.
(٦) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٥، وفي "معاني الفراء" ١/ ٤٠٢: (﴿طَائِفٌ﴾، وقرأ إبراهيم النخعي (طيف) وهو اللمم والذنب) اهـ.
550
كالخيال، والشيء يُلم بك).
وقال الليث: (طائف الشيطان، وطيف الشيطان ما يغشى الإنسان من وساوسه) (١).
ومنهم من قال: (الطيف كالخطرة، والطائف كالخاطرة (٢). وهذا أكثر لأن المصدر على فَعْل أكثر منه على فاعل (٣)، وقال أبو عمرو (٤): (الطائف ما يطوف حول الشيء، وهو هاهنا ما طاف به من وسوسة الشيطان، والطيف اللمة والوسوسة) (٥)، فأما التفسير، فقال ابن عباس في
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٥، وفيه قال الليث: (كل شيء يغشى البصر من وسواس الشيطان فهو طيف والطائف العاس بالليل) اهـ.
وانظر: "العين" ٧/ ٤٥٩، و"الجمهرة" ١/ ٩٢٢.
(٢) لفظ: (كالخاطرة) ساقط من (ب).
(٣) هذا قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١٢١، وانظر: "الحجة" لابن زنجلة ص ٣٠٥، و"الكشف" ١/ ٤٨٧.
(٤) أبو عمرو بن العلاء، إمام، مقرئ، لغوي. سبقت ترجمته.
(٥) ذكره الثعلبي ٦/ ٣٢ ب، والماوردي ٢/ ٢٨٩، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٠، والبغوي ٣/ ٣١٧، وابن الجوزي ٣/ ٣٠٩ - ٣١٠.
وفي "تفسير الطبري" ٩/ ١٥٧ - ١٥٨، و"معاني النحاس" ٣/ ١٢٠ عن أبي عمرو قال: (الطيف الوسوسة) اهـ.
وفي "معاني النحاس" عن الكسائي قال: (الطيف اللمم والطائف كل ما طاف حول الإنسان) اهـ.
وقال النحاس في "إعرابه" ٦٦٠: (كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف، ومعناه في "اللغة": ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم، وكذا معنى طائف) اهـ. ونحوه قال في "معانيه" ٣/ ١٢٠، وقال الأزهري في "معاني القراءات" ١/ ٤٣٣ - ٤٣٤: (المعنى في الطيف والطائف واحد، وهو في كلام العرب له معنيان أحدهما: الجنون، وقد جعله بعض المفسرين في هذا =
551
رواية عطاء: (إذا مسهم عارض من وسوسة الشيطان) (١).
[وروي عنه (٢): (نزغ من الشيطان)] (٣).
وقال مجاهد (٤) وسعيد بن جبير (٥): (هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله فيكظم الغيظ).
وروى ليث (٦) عن مجاهد قال: (هو الرجل يهمّ بالذنب فيذكر الله فيدعه) (٧).
= الموضع جنونًا لأن الغضب الشديد يعتريه شيء من الجنون، والمعنى: إذا مسهم غضب يخيل إلى من رآه في تلك الحالة بعد ما كان رآه ساكنًا أنه مجنون، والطيف في غير هذا الخيال الذي تراه في منامك، ومن قرأ: ﴿طَائِفٌ﴾ أراد به تغير حالة الغضبان إذا ثار ثائره فكأنما طاف به شيطان استخفه حتى تهافت فيما يتهافت فيه المجنون من سفك الدم الحرام والتقحم على الأمور العظام) اهـ.
وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٦، و"غريب القرآن" ص ١٥٦، و"الدر المصون" ٥/ ٥٤٥.
(١) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٠، وأخرج الطبري ٩/ ١٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٠ بسند جيد عنه قال: (الطائف اللَّمة من الشيطان) اهـ.
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٨ بسند ضعيف، وذكره الثعلبي ٦/ ٣٢ ب.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٠ عن سعيد بن جبير ومجاهد، وفي "تفسير مجاهد" ١/ ٢٥٤. وأخرجه الطبري ٩/ ١٥٨ من طرق جيدة قال: (الغضب).
(٥) ذكره الثعلبي ٦/ ٣٣ أ، والبغوي ٣/ ٣١٨، وأخرج الطبري ٩/ ١٥٨ بسند جيد عنه، قال: (الغضب)، وذكره ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤ عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعبد الرحمن بن زيد.
(٦) ليث بن أبي سليم الكوفي. تقدمت ترجمته.
(٧) ذكره الثعلبي ٦/ ٣٣ أ، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٠، والبغوي ٣/ ٣١٨.
552
ونحو ذلك قال الكلبي (١)، وروى الحكم (٢) عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: (الطيف الغضب) (٣).
وقال أهل المعاني: (ينبغي للعاقل إذا أحس من نفسه إفراطًا في الغضب أن يذكر غضب الله على المسرفين فلا يقدم على ما يوبقه) (٤).
وقوله تعالى: ﴿تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾. قال عطاء عن ابن عباس: (يريد: استعاذوا فأبصروا عظمة الله تعالى) (٥).
وقال السدي: (معناه: إذا زلُّوا تابوا) (٦)، وقال مقاتل: (يقول: إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر (٧) وعرف أنها معصية فأبصرها ففزع من مخافة الله) (٨)، فعلى هذا معنى (٩) ﴿مُبْصِرُونَ﴾ أي: يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتفكر.
(١) في "تنوير المقباس" ٢/ ١٥٠ قال: (الطائف: الريب والوسوسة) اهـ. وذكر الثعلبي ٦/ ٣٢ ب عن الكلبي قال: (ذنب) اهـ.
(٢) الحكم هو: الحكم بن أبان العدني، أبو عيسى، إمام، عابد، سيد أهل اليمن، وهو صدوق له أوهام. توفي سنة ١٥٤ هـ وله حوالي ٨٠ سنة.
انظر: "الجرح والتعديل" ٣/ ١١٣، و"ميزان الاعتدال" ١/ ٥٦٩، و"تهذيب التهذيب" ١/ ٤٦١، و"تقريب التهذيب" ص ١٧٤ رقم (١٤٣٨).
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٠ بسند ضعيف، وذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٥ (طيف).
(٤) هذا قول الأزهري في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٥٥ (طيف).
(٥) لم أقف عليه. وأخرج الطبري ٩/ ١٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤١ بسند ضعيف عنه في الآية قال: (إذا هم منتهون عن المعصية آخذون بأمر الله عاصون للشيطان) اهـ.
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٨، ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤١، بسند جيد.
(٧) في (ب): (تذكروا وعرف)، وهو تحريف.
(٨) "تفسير مقاتل" ٢/ ٨٢.
(٩) لفظ: (معنى) ساقط من (أ).
553
وقال أبو إسحاق: (أي: تفكّروا فيما أوضح الله لهم من الحجة فإذا هم على بصيرة) (١).
وقال الفراء: (﴿فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ أي: منتهون إذا أبصروا) (٢).
وقوله: ﴿فَإِذَا هُمْ﴾. معنى (إذا) هاهنا: المفاجأة، كقولك: خرجت فإذا زيد، و (إذا) في قوله ﴿إِذَا مَسَّهُمْ﴾ (٣) بمنزلة الجزاء في أن لها جوابًا كجوابه، والفرق (٤) بينها وبين الجزاء أن (إذا) عبارة عن الوقت كقولك: آتيك إذا احمَرَّ البُسْرُ، وليس كذلك (إنْ) كقولك: آتيك إن كان (٥) كذا، فهذا شرط لا عبارة فيه (٦) عن زمان ما، ولهذا قال الشافعي: (إذا قال لامرأته: إذا لم أطلقك فأنت طالق (٧)؛ طلقت في الوقت، وإذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق؛ لم يقع الطلاق ما لم يطلقها) (٨).
(١) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٦.
(٢) "معاني الفراء" ١/ ٤٠٢، والمعاني متقاربة، والمعنى: تذكروا أمر الله وانتهوا إلى أمره، أفاده الطبري ٩/ ١٥٩، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٦١، والماوردي ٢/ ٢٨٩، وابن الجوزي ٣/ ٣١٠، و"البحر" ٤/ ٤٥٠.
(٣) في (ب): (وإذا مسهم)، وهو تحريف.
(٤) في (ب): (فالفرق).
(٥) انظر: "حروف المعاني" للزجاجي ص ٥٧ وص ٦٣، و"معاني الحروف" للرماني ص ٧٤، وص ١١٥، و"الصاحبي" ص ١٧٦ وص ١٩٣، و"رصف المباني" ص ١٨٦، و"المغني" لابن هشام ١/ ٢٧ وص ٨٧.
(٦) لفظ: (فيه) ساقط من (ب).
(٧) لفظ: (طالق) ساقط من (ب).
(٨) ذكره الأزهري في "تهذيب اللغة" ١/ ٢٢٤ (إن)، وفي "روضة الطالبين" ٦/ ١٢١ قال: (أدوات التعليق تقتضي الفور في طرف النفي إلا لفظة (إن) فإنها للتراخي) اهـ.
وذكر في "المجموع" ١٧/ ١٨٨ قول الشافعي، وقال: (هذا هو الصحيح لأن =
554
٢٠٢ - قوله تعالى: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ﴾، اختلفوا في هذه الكناية، فالأكثرون على أن المراد بها: الشياطين، وهو قول الحسن (١) وقتادة (٢) والسدي (٣) والضحاك (٤) والكناني (٥) واختيار الزجاج (٦)، قال: (يعني به: الشياطين؛ [لآن الكفار إخوان الشياطين] (٧) لاجتماعهم على الضلالة)، وعلى هذا المراد بالإخوان: الكفار، وعادت الكناية إلى الشياطين لأنهم قد ذكروا في قوله ﴿طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ﴾ [الأعراف: ٢٠١]، و (٨) هو اسم جنس.
وقال آخرون: المراد بالإخوان: الشياطين، فقوله: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ﴾، أي: إخوان المشركين من الشياطين، وهذا قول ابن عباس (٩) في رواية عطاء،
= (إذا) اسم لزمان مستقبل ومعناه: أي وقت، ولهذا يجاب به عن السؤال عن الوقت فيقال: هل ألقاك فتقول: إذا شئت، كما تقول: أي وقت شئت، فكان على الفور، كما لو قال: أي وقت لم أطلقك فأنت طالق، وليس كذلك! فإنه لا يستعمل الزمان، ولهذا لا يجوز أن يقال متى ألقاك فتقول: إن شئت، وإنما يستعمل في الفعل ويجاب بها عن السؤال عن الفعل، فيقال: هل ألقاك فتقول: إن شئت، فيصير معناه: إن فاتني أن أطلقك فأنت طالق، والفوات يكون آخر العمر) اهـ.
(١) ذكره هود الهواري في "تفسيره" ٢/ ٦٨، وذكره القرطبي ٧/ ٣١٥ عن الحسن وقتادة والضحاك.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٤٥ - ٢٤٦، والطبري ٩/ ١٦٠، بسند جيد.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤١ بسند جيد.
(٤) ذكره النحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٦٦١.
(٥) الكناني: هو الإِمام عبد العزيز بن يحيى المكي، ولم أقف على قوله.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٧.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٨) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٩) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٢ بسند ضعيف، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤١ بسند جيد عنه قال: (إخوان الشياطين يمدونهم في الغي).
555
ومجاهد (١) والكلبي، وابن مسلم (٢) وابن جريج (٣) ومقاتل (٤)، قال الكلبي: (لكلّ كافرٍ أخ من الشياطين) (٥). وهذا القول اختيار الفراء (٦) وأبي بكر؛ قال: (والكناية على هذا تعود إلى الجاهلين في قوله: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩]، وهم المشركون، ﴿وَإِخْوَانُهُمْ﴾ وهم الشياطين) (٧).
و (٨) قوله تعالى: ﴿يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ﴾. هذا من فعل الشياطين على القولين جميعًا، قال مقاتل: (يدعونهم إلى المعصية) (٩)، وقال أبو بكر: (أي: يزينونه لهم ويريدون منهم لزومه والإقامة عليه) (١٠).
(١) "تفسير مجاهد" ١/ ٢٥٤، وأخرجه الطبري ٩/ ١٦٠ بسند جيد.
(٢) "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٧، ونحوه قال مكي في "تفسير المشكل" ص ٨٩.
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٩ بسند جيد.
(٤) "تفسير مقاتل" ٢/ ٨٢
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩١، والبغوي ٣/ ٣١٨، والخازن ٢/ ٣٢٩.
(٦) "معاني الفراء" ١/ ٤٠٢.
(٧) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣١١، وقال النحاس في "إعرابه" ١/ ٦٦١: (أحسن ما قيل في هذا قول الضحاك ﴿وَإِخْوَانُهُمْ﴾ أي: إخوان الشياطين وهم الفجار، وعلى هذا يكون الضمير متصلاً، فهذا أولى في العربية، وقيل للفجار: إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم) اهـ. ونحو قال القرطبي ٧/ ٣٥١، وقال السمين في "الدر" ٥/ ٥٤٨: (الضمير في (﴿وَإِخْوَانُهُمْ﴾ يعود على الشياطين لدلالة لفظ الشيطان عليهم، والضمير المنصوب في (يمدوهم) يعود على الكفار والتقدير: وإخوان الشياطين يمدهم الشياطين، وهذا قول الجمهور وعليه عامة المفسرين) اهـ.
وانظر: "تفسير السمرقندي" ١/ ٥٩٠، وابن عطية ٦/ ١٩٢ - ١٩٣، وابن الجوزي ٣/ ٣١٠، والرازي ١٥/ ١٠٠.
(٨) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٩) "تفسير مقاتل" ٢/ ٨٢.
(١٠) ذكره ابن الجوزي ٣/ ٣١٠ - ٣١١ بلا نسبة.
556
وقال أهل المعاني: (يطولون لهم الإغواء حتى يستمروا عليه) (١)، وذكرنا معنى المدّ في قوله: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] واختلف القراء (٢) في قوله: ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ فقرءوا من المدّ والإمداد جميعًا، وعامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ﴾ [الطور: ٢٢]. وقوله: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ [النمل: ٣٦] وما كان خلافه يجيء على مددت قال: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥]، فالوجه هاهنا قراءة العامة وهو فتح الياء ومن ضم الياء استعمل ما هو للخير في ضده كقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١]، وقوله: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: ١٠] (٣).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾، قال الليث: (الإقصار الكف عن الشيء) (٤). وقال أبو زيد: (أقصر فلان عن الشيء يقصر إقصارًا إذا كف عنه وانتهى) (٥).
(١) هذا قول ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٧، الثعلبي ٦/ ٣٣ ب، ومكي في "تفسير المشكل" ص ٨٩، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٧، و"غريب القرآن" ص ١٥٦، و"معاني النحاس" ٣/ ١٢١.
(٢) قرأ نافع ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الميم من مدَّ، انظر: "السبعة" ص ٣٠١، و"المبسوط" ص ١٨٨، و"التذكرة" ٢/ ٣٤٠، و"التيسير" ص ١١٥، و"النشر" ٢/ ٢٧٥.
(٣) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" ٤/ ١٢٢ - ١٢٣، وانظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٦١، و"معاني القراءات" ١/ ٤٣٤، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٣٠٦، و"الكشف" ١/ ٤٨٧.
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٧٢: وانظر: "العين" ٥/ ٥٧ (قصر).
(٥) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٧٢: وانظر: "الجمهرة" ٢/ ٧٤٢، و"الصحاح" ٢/ ٧٩٢، و"المجمل" ٣/ ٧٥٦، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٩٦، و"المفردات" ص ٦٧٢، و"اللسان" ٦/ ٣٦٤٥ (قصر).
557
قال ابن عباس: (يريد: لا يألون في ضلالتهم) (١).
وقال ابن زيد: (لا يسأمون ولا يفترون) (٢)، وقال الضحاك (٣) (الشياطين يمدون المشركين (٤) في الضلالة ﴿ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾. يعني: المشركين، بخلاف ما قال في المؤمنين ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠١]) ونحو هذا قال مقاتل بن سليمان: (﴿ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ عن الضلالة، ولا يبصرونها كما أقصر المتقي عنها حين أبصرها) (٥).
وهو قول ابن جريج: (لا يقصر الإنسان من أهل الشرك كما يقصر الذين اتقوا) (٦).
فعلى قول ابن عباس قوله: ﴿ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ من (٧) فعل الشياطين وعلى قول الباقين من فعل المشركين، وقال قوم: إنه من فعلهم جميعًا.
(١) لم أقف عليه، وأخرج الطبري ٩/ ١٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٣ بسند ضعيف عنه قال: (لا يسأمون) اهـ.
(٢) ذكره الثعلبي ٦/ ٣٣ أ.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٢، والبغوي ٣/ ٣١٨ عن الضحاك ومقاتل، وذكر النحاس في "إعرابه" ١/ ٦٦١، عن الضحاك قال: (أي: إخوان الشياطين وهم الفجار: ﴿يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ أي: لا يتوبون ولا يرجعون) اهـ.
(٤) في (ب): (يمدون المشركين والضلالة)، وهو تحريف.
(٥) "تفسير مقاتل" ٢/ ٨٢.
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٣ بسند جيد عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير المكي.
(٧) لفظ: (من) ساقط من (ب).
558
قال مقاتل (١) بن حيان: (﴿ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ عن المعصية هؤلاء وهؤلاء) (٢).
وقال الفراء: (﴿ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ يعني: المشركين وشياطينهم) (٣).
وروي مثل هذا عن ابن عباس قال: (لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين يمسكون عنهم) (٤).
٢٠٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ﴾، قال الكلبي (٥): (يعني: أهل مكة ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ﴾ سألوكها، وكانوا يسألونه الآيات تعنتًا، فإذا أبطأت ﴿قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا﴾).
قال الفراء: (العرب تقول: اجتبيت الكلام (٦) واختلقته، وارتجلته (٧) إذا افتعلته من قبل نفسك) (٨).
(١) في: (أ) تكرار لفظ: (مقاتل).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "معاني الفراء" ١/ ٤٠٢.
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ١٥٩، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٢ بسند جيد، وذكره ابن الجوزي ٣/ ٣١١ وقال: (وعليه يكون قوله: ﴿يُقْصِرُونَ﴾ من فعل الفريقين، وهذا على القول المشهور) اهـ.
(٥) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٢، والبغوي ٣/ ٣١٨، وابن الجوزي ٣/ ٣١١، الخازن ٢/ ٣٣٠.
(٦) لفظ: (الكلام) ساقط من (ب).
(٧) في (ب): (وارتجلته وافتعلته)، وهو تحريف.
(٨) حكاه الطبري ٩/ ١٦١، عن الفراء، وفي "تهذيب اللغة" ١/ ٥٢٧، عن الفراء في الآية قال: (هلا اجتبيتها هلا اختلقتها وافتعلتها من قبل نفسك، وهو في كلام العرب جائز أن تقول: لقد اختار لك واجتباه وارتجله) اهـ. وفي "معاني الفراء" ١/ ٤٢٠: (يقول: هلا افتعلتها، وهو من كلام العرب جائز أن يقال: اختار الشيء وهذا اختياره) اهـ. وأشار المحقق في الحاشية إلى وجود سقط في النسخ.
559
وقال أبو زيد: (الاجتباء تقوله العرب في الكلام يبتدئه الرجل من نفسه) (١).
وقال الزجاج (٢): (﴿لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا﴾ أي: هلا اختلقتها، وأتيت بها (٣) من قبل نفسك).
ونحو هذا قال المفسرون، و (٤) روي عن ابن عباس: (لولا أحدثتها فأنشأتها) (٥).
وقال مجاهد (٦): (لولا اقتضبتها (٧) وأخرجتها من نفسك).
وقال ابن زيد (٨): (لولا تقولتها وجئت بها من عندك).
(١) حكاه الطبري ٩/ ١٦٢، عن أبي عبيدة عن أبي زيد، وذكره الثعلبي ٦/ ٣٣ ب، وانظر: "اللسان" ١/ ٥٤٢ (جبى).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٧، ونحوه في "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٧، و"معاني النحاس" ٣/ ١٢١.
(٣) لفظ: (بها) ساقط من (أ).
(٤) لفظ: (الواو) ساقط من (ب).
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ١٦١ بسند جيد. وفي رواية قال: (لولا تلقيتها)، وأخرج ابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٣ بسند جيد عنه قال: (لولا أخذتها وتلقيتها فأنشأتها) وفي رواية بسند ضعيف قال: (هلا افتعلتها من تلقاء نفسك) وفي رواية عند الطبري وابن أبي حاتم بسند ضعيف قال: (لولا تقبلتها من الله) اهـ.
(٦) أخرجه الطبري ٩/ ١٦١ بسند جيد، وفي "تفسير مجاهد" ١/ ٢٥٤، وأخرجه ابن أبى حاتم ٥/ ١٦٤٣ بسند جيد قال: (لولا ابتدعتها من قبل نفسك).
(٧) في (ب): (قتضيتها)، والأولى "اقتضبتها" كما في المراجع. واقتضب الكلام ارتجله من غير تهيئة أو إعداد له، انظر: "اللسان" ٦/ ٣٦٦٠ (قضب).
(٨) أخرجه الطبري ٩/ ١٦١ بسند جيد.
560
وقال قتادة (١): (هلا افتعلتها (٢) [وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك).
وقال الضحاك: (افتعلتها] (٣) من تلقاء نفسك) (٤).
قال الزجاج: (فأعلمهم - ﷺ - أن الآيات من قبل الله عز وجل لقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾ (٥) [الأعراف: ٢٠٣]، أي: (٦) لو كنت آتي بالآيات من قبل نفسي للزمني تعجيل ما تطلبون مني، لكن ليس الأمر كذلك لأني ﴿أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾.
وقوله تعالى: ﴿هَذَا﴾ أي: هذا القرآن الذي أتيت به ﴿بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
(١) ذكره الثعلبي ٦/ ٣٣/ ب، وأخرج عبد الرزاق ١/ ٢/ ٢٤٧، والطبري ٩/ ١٦١ بسند جيد عنه قال: (لولا جئت بها من نفسك)، وفي رواية عند الطبري بسند جيد عنه قال: (لولا تلقيتها من ربك)، وأخرج الطبري ٩/ ١٦١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٤ بسند جيد عنه قال: (لولا أتيت بها من قبل نفسك، هذا قول كفار قريش) اهـ.
(٢) في (ب): (فعلتها).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) أخرج الطبري ٩/ ١٦١، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٣ بسند جيد عنه قال: (لولا أخذتها فجئت بها من السماء) اهـ، والمعاني متقاربة، واختار الطبري ٩/ ١٦١ أن المعنى: (هلا أحدثتها من نفسك) اهـ، واختار النحاس في "معانيه" ٣/ ١٢١: (جئت بها من عند نفسك قال: وكذلك هو في اللغة يقال: اجتبيت الشيء وارتجلته واخترعته واختلقته إذا جئت به من عند نفسك) اهـ.
وقال ابن الجوزي ٣/ ٣١٢: (هلا افتعلتها من تلقاء نفسك قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد والفراء والزجاج وابن قتيبة في آخرين وهو أصح) اهـ. وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٠٠، و"تفسير غريب القرآن" ص ١٨٧، والسمرقندي ١/ ٥٩١، والماوردي ٢/ ٢٩٠.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٧.
(٦) لفظ: (أي) ساقط من (أ)
561
قال ابن الأعرابي (١): (البصيرة الثبات في الدين).
وقال غيره: (البصيرة العبرة، يقال: أما لك بصيرة في هذا أي: عبرة تعتبر بها (٢) وأنشد (٣):
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
أي: عبر) (٤).
وقال الفراء (٥) والزجاج (٦): (البصيرة في الدين، وأصلها من ظهور الشيء وبيانه).
وقال أهل المعاني (٧) في قوله: ﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾: (هذا القرآن، وهذا الوحي دلائل من ربكم تقود إلى الحق، وتهدي إلى الرشد من استدل بها دون من أعرض عنها متعاميًا عما فيها، ومن هذا يقال للطريقة من الدم (٨) يستدل به على الرميَّة: بصيرة).
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ٣٤٢.
(٢) في (أ): (تعتبرها)، وهو تحريف.
(٣) البيت لقس بن ساعدة الإيادي في كتاب "المعمرين" لأبي حاتم السجستاني ص ٩٦، و"العقد الفريد" ٤/ ٢١٥، و"البيان" للجاحظ ١/ ٢٩٤، و"الأغاني" ١٥/ ٢٣٧، و"معجم المرزباني" ص ١٩٩، وبلا نسبة في "العين" ٧/ ١١٨، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣٤٢، و"اللسان" ١/ ٢٩١ (بصر).
(٤) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" ١/ ٣٤٢.
(٥) لم أقف عليه عن الفراء.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٧.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٦٢.
(٨) في (ب): (الذم) وهو تصحيف، والرمية، هي الطريدة التي يرميها الصائد. انظر: "اللسان" ٣/ ١٧٤٠ (رمي).
562
وقال المفسرون (١): (هذا القرآن حجج وبيان وبرهان من ربكم، وأصلها من ظهور الشيء حتى يبصرها الإنسان فيهتدي إليها وينتفع بها (٢)، فمعنى البصيرة في أصل اللغة (٣) ما يبصر به الشيء، ويدخل في هذا العبرة والحجة والدليل والبرهان).
٢٠٤ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾. الإنصات السكوت للاستماع، يقال: نَصَتَ وأَنصت وانتصت بمعنى واحد (٤)، وقد ورد الإنصات متعديًا في شعر الكميت (٥) بمعنى الإسكات وهو قوله (٦):
أبوك الذي أجدى علي بنصره فأنصت عني بعده كلَّ قائل (٧)
(١) هذا قول الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٣٣ ب، والبغوي ٣/ ٣١٨، ونحوه قال أكثرهم، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٧، و"تفسير الطبري" ٩/ ١٦٢، و"نزهة القلوب" ص ١٤٠، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٩١.
(٢) لفظ: (بها) ساقط من (ب).
(٣) انظر: "الجمهرة" ١/ ٣١٢، و"الصحاح" ٢/ ٥٩١، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢٥٣، و"المجمل" ١/ ١٢٧، و"المفردات" ص ١٢٧ (بصر).
(٤) انظر: "العين" ٧/ ١٠٦، و"الجمهرة" ١/ ٤٠١، و"الصحاح" ١/ ٢٦٨، و"المجمل" ٢/ ٨٧٠، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٤٣٤.
(٥) تقدمت ترجمته.
(٦) لفظ: (قوله) ساقط من (ب).
(٧) البيت للكميت في "البحر" ٤/ ٤٣٨، و"الدر المصون" ٥/ ٥٥١ وهو للراعي النميري في "ديوانه" ص ٧٨، و"مجاز القرآن" ٢/ ٤٧، و"الجمهرة" ١/ ٣٩٨، ٣/ ١٢٦١، و"الاشتقاق" ص ١١٠، وبلا نسبة في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨٢، و"اللسان" ٧/ ٤٤٣٧ (نصت).
563
قال الأصمعي (١): (يريد: فأسكت عني) (٢). واختلف المفسرون في وجه نزول الآية على قولين أحدهما: أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة، قال أبو هريرة: (كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت هذه الآية وأُمروا بالإنصات) (٣).
وقال قتادة: (كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم وكم بقي، وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأنزل الله هذه الآية) (٤) ونحو هذا قال معاوية (٥) بن قرة (٦). وقال ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة؛ سلام على فلان، سلام على فلان، فجاء القرآن: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ الآية) (٧).
القول الثاني: أن الآية نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام، قال ابن عباس: (إن رسول الله - ﷺ - قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية) (٨).
(١) وقع هنا في (ب) اضطراب في ترتيب الأوراق حيث وقع باقي تفسير الآية في ١٨٦ ب.
(٢) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨٢.
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٢/ ٨٣٨٠، الطبري ٩/ ١٦٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٥، والبيهقي في "سننه" ٢/ ١٥٥ من طرق ضعيفة.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٤٧، والطبري ٩/ ١٦٤ من طرق جيدة.
(٥) معاوية بن قرَّة بن إياس بن هلال المزني أبو إياس البصري، إمام تابعي عابد عالم ثقة، والد القاضي إياس أدرك كثيرًا من الصحابة رضي الله عنهم، توفي سنة ١١٣ هـ وله ٧٦ سنة، انظر: "الجرح والتعديل" ٨/ ٣٧٨، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ١٥٣، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ١١١، و"تقريب التهذيب" ص ٥٣٨ (٦٧٦٩).
(٦) أخرجه البيهقي في "سننه" ٢/ ١٥٥ بسند جيد.
(٧) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٢ بسند ضعيف لانقطاعه.
(٨) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٥ بسند جيد
564
وروى عن أبي هريرة مثل ذلك (١) قال: (نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله - ﷺ - في الصلاة) (٢).
وروي أيضًا عن ابن مسعود (٣) مثل هذا، وقال الكلبي: (كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار فأنزل الله هذه الآية) (٤).
وفي الآية قول ثالث: وهو أنها نزلت في السكوت للخطبة؛ أُمِروا بالإنصات للإمام يوم الجمعة، وهذا قول سعيد (٥) بن جبير ومجاهد (٦) وعطاء (٧) وعمرو (٨) بن دينار، وزيد بن أسلم (٩) والقاسم
(١) في (ب): (مثل هذا).
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٣، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٥، والدارقطني في "سننه" ١/ ٣٢٦، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٣، وفي "أسباب النزول" ص ٢٣٣ بسند ضعيف كما قال الدارقطني.
(٣) أخرجه الطبري ١٣/ ٣٤٦، وابن أبي حاتم ٥/ ١٦٤٦ بسند جيد عنه، قال: (لعلكم تقرأون مع الإِمام قالوا: نعم، قال: ألا تفقهون ما لكم لا تعقلون: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾) اهـ.
قال الشيخ أحمد شاكر في "الحاشية": (فيه بشير بن جابر لم أعرفه وفي المخطوطة (بسير) غير منقوطة ولم أعرف له وجه) اهـ.
(٤) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٤٧ بسند جيد.
(٥) ذكره البغوي ٣/ ٣١٩، والرازي ١٥/ ١٠٢، والخازن ٢/ ٣٣٠ عن سعيد بن جبير وعطاء، وأخرج الطبري ٩/ ١٦٥ بسند جيد عنه قال: (يوم الأضحى والفطر والجمعة وفي الصلاة) وقال البخاري في القراءة خلف الإمام ص ٦٤: (ذكر عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن الآية في الصلاة إذا خطب الإِمام يوم الجمعة) اهـ.
(٦) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٢/ ٢٢٦ - ٢٢٧، الطبري ٩/ ١٦٥ من طرق جيدة.
(٧) ذكره الماوردي ٢/ ٢٩٠، وأخرج الطبري ٩/ ١٦٥ من طرق جيدة.
(٨) ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص ٢٣٣، وابن الجوزي ٣/ ٣١٣، عن سعيد ابن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار.
(٩) ذكره الثعلبي ٦/ ٣٤ ب، والقرطبي ٧/ ٣٥٣، عن سعيد بن جبير ومجاهد وعمرو ابن دينار وزيد بن أسلم، والقاسم بن مخيمرة.
565
بن مخيمرة (١) وجماعة.
واحتج ابن المبارك (٢) لهذا القول بأن قال: (لا ترى خطيبًا يخطب يوم الجمعة فأراد أن يقرأ في الخطبة (٣) آية من قوارع القرآن إلا قرأ هذه الآية قبل قراءته ثم قرأ القرآن) (٤).
واختار الفراء (٥)، وأبو إسحاق (٦) القول الأول، وقالا: (كان الناس يتكلمون في الصلاة المكتوبة، يأتي الرجل القوم فيقول: كم صليتم؟ فيقول الناس: كذا وكذا، فنهوا عن ذلك، فحرم الكلام في الصلاة لما نزلت هذه الآية).
ولا حجة في الآية لمن أبى وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة خلف الإِمام؛ لأن قوله: ﴿وَأَنْصِتُوا﴾ على القول الأول أمر بالإنصات عن الكلام الذي لا يحل في الصلاة، وعلى القول الثاني أمر بالإنصات عن رفع الأصوات خلف الإِمام، وفي القول الثالث أمر بالإنصات لاستماع القرآن
(١) القاسم بن مخيمرة الهمداني، أبو عروة الكوفي نزيل الشام، تابعي إمام عابد فاضل معلم محدث ثقة، توفي سنة ١٠٠ هـ. انظر: "الجرح والتعديل" ٧/ ١٢٠، و"سير أعلام النبلاء" ٥/ ٢٠١، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٤٢١، و"تقريب التهذيب" ٣/ ٤٢١.
(٢) عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي. تقدمت ترجمته.
(٣) لفظ: (الخطبة) ساقط من (ب).
(٤) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ٦/ ٣٤ ب، وهذا القول ضعفه أكثرهم، قال البغوي في "تفسيره" ٣/ ٣٢٠: (الأولى أنها في القراءة في الصلاة؛ لأن الآية مكية والجمعة وجبت بالمدينة واتفقوا على أنه مأمور بالإنصات حالة ما يخطب الإمام) وضعفه ابن العربي في "أحكام القرآن" ٢/ ٨٢٨، والقرطبي ٧/ ٣٥٣.
(٥) "معاني الفراء" ١/ ٤٠٢.
(٦) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٨.
566
في الخطبة، وقد قال الأوزاعي (١): (إن الله أمر بالإنصات عن الكلام لا عن قراءة القرآن لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة) (٢).
فإن احتج بعموم اللفظ ولم يقصر الآية على سببها قيل له: حكم الآية ممتثل (٣) عند الشافعي (٤) -رضي الله عنه-؛ لأن السنة أن يسكت الإِمام ويتنفس فيقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام، كما قال أبو سلمة (٥): (للإمام سكتتان فاغتنم القراءة في أيهما شئت) (٦)، على أن الإنصاف هو ترك
(١) الأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد الأوزاعي أبو عمرو الشامي الدمشقي، إمام تابعي عابد فاضل فقيه حافظ ثقة، شيخ الإِسلام وعالم أهل الشام أجمعوا على إمامته وجلالته وعلوّ مرتبته وكمال فضله وأقاويل الأئمة فيه كثيرة مصرحة بورعه وزهده وغزارة فقهه وقيامه بالحق، توفي رحمه الله تعالى سنة ١٥٧ هـ وله ٦٩ سنة.
انظر: "الجرح والتعديل" ١/ ١٨٤، و٥/ ٢٦٦، و"الحلية" ٦/ ١٣٥، و"تهذيب الأسماء واللغات" ١/ ٢٩٨، و"سير أعلام النبلاء" ٧/ ١٠٧، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٥٣٧.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) كذا في النسخ: "ممتثل" ولعل المعنى أي: قائم ومتصور. انظر: "اللسان" ٧/ ٤١٣٥: (مثل).
(٤) انظر: "أحكام القرآن" للشافعي ١/ ٧٧، و"روضة الطالبين" ١/ ٣٤٧، و"المجموع" ٣/ ٣٦٣.
(٥) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وهو إمام تابعي عالم عابد فقيه ثقة مكثر اتفقوا على جلالته وإمامته وعظم قدره وارتفاع منزلته توفي رحمه الله تعالى سنة ٩٤ هـ، وله ٧٢ سنة، انظر: "الجرح والتعديل" ٥/ ٩٣، و"تهذيب الأسماء واللغات" ٢/ ٢٤٠، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٢٨٧، و"تهذيب التهذيب" ٤/ ٥٣١.
(٦) أخرجه البخاري في "القراءة خلف الإمام"، وذكره ابن قدامة في "المغني" =
567
الجهر، والعرب تسمي تارك الجهر منصتًا وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يُسمع أحدًا، وأيضًا فإن الفاتحة مخصوصة بالقراءة من بين غيرها بالسنة لقوله - ﷺ -: "إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة إلا بها" (١).
= ٢/ ٢٦٦، وابن القيم في "زاد المعاد" ١/ ٢٠٨، وقال ابن قدامة في "المغني" ١/ ١٦٣: (يستحب أن يسكت الإمام عقيب قراءة الفاتحة سكتة يستريح فيها ويقرأ فيها من خلفه الفاتحة كي لا ينازعوه فيها، وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي وإسحاق، وكرهه مالك وأصحاب الرأي) اهـ.
وانظر: "سنن البيهقي" ٢/ ١٩٥، و"نيل الأوطار" ٢/ ٢٧٦.
(١) أخرجه البخاري في "القراءة خلف الإمام"، وأبو داود في "سننه" رقم (٣٢٣)، والترمذي رقم (٣١١)، و"النسائي" ٢/ ١٤١ - كتاب "الافتتاح"- باب: قراءة أم القرآن في الجهرية، والدارقطني ١/ ٣١٨، والحاكم في "المستدرك" ١/ ٢٣٨ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله - ﷺ - الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "إني أراكم تقرءون وراء إمامكم. قلنا: إي والله. قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها") اهـ.
قال الترمذي: (حديث حسن وله شواهد والعمل عليه في القراءة خلف الإِمام عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين وهو قول مالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق) اهـ.
وقال الدارقطني: (إسناده حسن) اهـ. وذكره الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" ١/ ٢٣١ وحسنه وقال: (صححه أبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي) اهـ.
وقال البيهقي في "سننه" ٢/ ١٦٣: (يقرأ المأموم خلف الإمام بفاتحة الكتاب في السرية والجهرية وهو أصح الأقوال على السنة وأحوطها وبالله التوفيق) اهـ. وهذا هو الظاهر وحديث عبادة نص في ذلك، وهو اختيار الشيخ محمد بن =
568
فالمأموم ينصت إلا عن الفاتحة. للخبر، على أنا نقول: إن جاز لغيرنا أن يُعدّي الآية إلى غير السبب النازل فيه جاز لنا أن نأوّلها بما ذكره أبو إسحاق، وهو أنه قال: (يجوز أن يكون: ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ (١) اعملوا بما فيه، ﴿وَأَنْصِتُوا﴾ لا تجاوزه إلى غيره؛ لأن معنى قول القائل: سمع الله دعاءك تأويله: أجاب الله دعاءك، وفعل ما أردت؛ لأن الله عز وجل سميع لم يزل) (٢)، وعلى هذا فلا معنى لترك القراءة في الآية وليست الآية من ترك القراءة في شيء.
وذهب قوم من أهل الظاهر (٣) إلى أن هذه الآية عامة، ويجب الإنصاف لقارئ الطريق، ومعلم الصبيان، وليس الأمر على (٤) ما ذهبوا إليه؛ فإن هذا الإنصات إنما يجب في الصلاة، وعند الخطبة يوم الجمعة،
= صالح العثيمين قال في "مجموع دروس الحرم المكي" ٢/ ٢٣٦: (الصحيح من أقوال أهل العلم أن قراءة الفاتحة واجبة على الإِمام والمأموم والمنفرد في الصلاة السرية والجهرية والدليل حديث عبادة فتكون الأحاديث مخصصة للآية وتحمل الآية في غير الفاتحة لأنه لا بد من قراءتها) اهـ.
(١) في النسخ: (استمعوا).
(٢) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٨.
(٣) انظر: "المغني" لابن قدامة ٢/ ٢٥٩، و"الفتاوى" لشيخ الإِسلام ٢٣/ ٢٦٥ وص ٣٣٠، و"نيل الأوطار" ٢/ ٢٤٣ - ٢٥٧، وقال النحاس في "إعرابه" ص ٦٦٢: (الإنصات في اللغة عام يجب أن يكون في كل شيء إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء) اهـ. ونحوه في "معانيه" ٣/ ١٢٢، وقال القرطبي ٧/ ٣٥٣ - ٣٥٤: (الصحيح أن الإنصات عام في الصلاة والخطبة لأنه يجمع جميع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات وحكي عن النقاش إجماع أهل التفسير أن هذا في الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة) اهـ.
(٤) في (ب): (إلى ما ذهبوا).
569
على ما ذكرنا عن الأئمة والسلف (١)؛ يدل على هذا ما روى الجريري (٢) عن طلحة بن عبيد الله بن كريز (٣) قال: (رأيت عبيد بن عمير (٤) وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاص يقصّ فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود، فنظرا إليّ وقالا: إنما ذلك في الصلاة: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾. ثم أقبلا علي حديثهما) (٥).
٢٠٥ - قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾، الخطاب في هذا للنبي - ﷺ -، وغيره داخل فيه لأنه عام لسائر المكلفين.
قال ابن عباس: (يعني بالذكر القراءة في الصلاة) (٦).
﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ قال: (يريد: يتضرع إليّ ويخاف مني) (٧).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٦٥، ١٦٦، والسمرقندي ١/ ٥٩١، والماوردي ٢/ ٢٩٠، وابن عطية ٦/ ١٩٦ - ١٩٧، وابن الجوزي ٣/ ٣١٢، والرازي ١٥/ ١٠٢ - ١٠٤، وابن كثير ٢/ ٣١١، و"الدر المنثور" ٣/ ٢٨٥ - ٢٨٧.
(٢) الجريري: سعيد بن إياس الجريري، أبو مسعود البصري، إمام، محدث من كبار العلماء، ثقة، اختلط قبل موته بثلاث سنين. توفي سنة ١٤٤ هـ.
انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ١، و"سير أعلام النبلاء" ٦/ ١٥٣، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ١٥٥، و"تهذيب التهذيب" ٢/ ٧، و"تقريب التهذيب" ص ٢٣٣ (٢٢٧٣).
(٣) طلحة بن عبد الله بن كريز بن جابر بن ربيعة الخزاعي الكعبي، تقدمت ترجمته.
(٤) عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، إمام مجمع على ثقته، وكان قاضي أهل مكة. تقدمت ترجمته.
(٥) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٣ بسند جيد.
(٦) ذكره الثعلبي ٦/ ٣٥ أ، والواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٤، والبغوي ٣/ ٣٢١، وابن الجوزى ٣/ ٣١٣، الخازن ٢/ ٣٣٢.
(٧) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٤، والبغوي ٣/ ٣٢١.
570
ومعناه: (١) استكانة لي وخوفًا من عذابي.
﴿وَخِيفَةً﴾ قال الزجاج: (أصلها خوفة. فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها) ذكر ذلك في سورة طه (٢). ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ﴾ دون الرفع ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾ من القرآن.
قال (٣): (يريد: لا ترفع بذلك صوتك، تسمع نفسك، وإن جاوزك إلى من هو إلى جانبك فلا بأس). ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾. قال: (يريد: بكرة وعشيًا، يريد: الصلوات) (٤).
فعلى (٥) هذا القول الآية وردت في القراءة في الصلوات كلها لقوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: ٥٢].
وقد مر، فأمر ان يقرأ في نفسه في بعضها وهو صلاة الإسرار، ودون
(١) في (ب): (ومعنا)، وهو تحريف.
(٢) "معاني الزجاج" ٣/ ٣٦٧: (والخيف بالكسر جمع خيفة من الخَوْف، فأصله خوفة سكنت الواو إثر كسر فقلبت ياء) انظر: "إعراب النحاس" ١/ ٦٦٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩٦٦ (خاف)، و"الحجة" لأبي علي ٣/ ٣١٧، و"اللسان" ٣/ ١٢٩٠ (خوف)، و"معجم مفردات الإبدال والإعلال" للخراط ص ١٠٣.
(٣) كأنه يعني بقال ابن عباس رضي الله عنهما، ولم أقف عليه عنه.
(٤) ذكره الواحدي في "الوسيط" ٢/ ٢٩٥ عن ابن عباس.
(٥) قال ابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٣١٢ - ٣١٣: (المراد بالآية الحض على كثرة الذكر من العباد ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ لئلا يكونوا من الغافلين، ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون ليقتدي بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم، وزعم أن المراد بها: أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة، وهذا بعيد منافٍ للإنصات المأمور به، ثم إن المراد بذلك في الصلاة أو الصلاة والخطبة ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان سواء كان سرًا أو جهرًا فهذا الذي قيل لم يتابع عليه) اهـ. بتصرف.
571
الجهر في بعضها وهو ما يرفع فيها (١) الصوت بالقراءة والمسنون دون الجهر لقوله: ﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ١١٠].
وقال قتادة (٢): (أمر الله بذكره ونهى عن الغفلة، أما ﴿بِالْغُدُوِّ﴾ فصلاة الصبح، وأما بالعشي فصلاة العصر)، وعلى هذا القول الآية مقصورة على الصلاتين.
وقال مجاهد (٣) وابن جريج (٤): (أمر أن تذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة، ويكره رفع الصوت والنداء بالدعاء).
وعلى هذا الآية وردت في ذكر الله تعالى بالقلب، وترك الصياح في الدعاء (٥).
وقوله تعالى: ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾. الغَدْو مصدر، يقال: غَدوت أغدُو (٦) غدوًا وغدوَّا ومنه قوله: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ﴾ [سبأ: ١٢] أي: غدوها للسير، ثم سمي وقت الغدو غدوًا كما يقال: دنا الإصباح، أي: وقته، ودنا الإمساء، ويجوز أن يكون الغدو هاهنا جمع غدوة، قال الليث:
(١) في (أ): (ما يرفع فيه الصوت).
(٢) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٨ بسند جيد، وفيه ﴿وَالْآصَالِ﴾ بالعشي، وذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٢٨٨، وزاد نسبته إلى (عبد الرزاق وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة).
(٣) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٦ بسند ضعيف، وذكره الثعلبي ٦/ ٣٥ أ، والبغوي ٣/ ٣٢١ عن مجاهد وابن جريج وليس فيه عند الطبري: (ويكره رفع الصوت..).
(٤) أخرجه الطبري ٩/ ١٦٧ بسند جيد.
(٥) قال النحاس في "معانيه" ٣/ ١٢٣: (لم يختلف في معنى قوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ أنه في الدعاء.
وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٦٦، والسمرقندي ١/ ٥٩١، والماوردي ص ٢٩٠.
(٦) في (أ): (غدوت أغدوا).
572
(الغدوُّ جمع مثل الغدوات وواحد الغدوات غدوة) (١).
قال الراجز (٢):
جرَّت عليه كلَّ ريح ريدة هو جاء سفواء نؤوج الغدوة
وأما ﴿وَالْآصَالِ﴾، فقال الفراء: (واحدها أُصُل، وواحد الأصل أصيل.
قال: ويقال: جئناهم مؤصلين، أي: عند الآصال) (٣).
وقال الزجاج: (الآصال العشيات جمع الجمع) (٤).
(١) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٣٦، وليس فيه: (وواحد الغدوات غدوة).
انظر: "العين" ٤/ ٤٣٧، و"الجمهرة" ٢/ ٦٧١، و"البارع" ص ٤٢٥، و"الصحاح" ٦/ ٢٤٤٤، و"المجمل" ٢/ ٦٩٢، و "مقاييس اللغة" ٤/ ٤١٥، و"المفردات" ص ٦٠٣، و"اللسان" ٦/ ٣٢٢٠ (غدا).
(٢) الشاهد لهميان بن قحافة السعدي، شاعر، وراجز، أموي في "الصحاح" ٢/ ٤٧٩ (ريد) وهو لعلقمة بن عبدة التيمي الفحل، شاعر، جاهلي في "تهذيب إصلاح المنطق" ١/ ٢٨٠، وهو في "اللسان" ٣/ ١٧٩٠ (ريد) لهميان أو علقمة وبلا نسبة في: "إصلاح المنطق" ص ٩٤، و"المخصص" ٩/ ٨٦ و ١٥/ ٨١ قال التبريزي في "تهذيب إصلاح المنطق في شرح الشاهد": (ريح ريدة لينة الهبوب والهوجاء التي تهب بشدة، والسفواء الخفيفة، والنؤوج المصوتة في هبوبها أخبر أنها تهب في وقت الغدوة) اهـ.
(٣) ذكره النحاس في "إعرابه" ١/ ٦٦٢ - ٦٦٣، والرازي ١٥/ ١٠٩، والقرطبي ٧/ ٣٥٦، ولم أقف عليه في معانيه وهذا القول هو قول الأكثر. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٩، و"معاني النحاس" ٣/ ١٢١، وفي "معاني الأخفش" ٢/ ٣١٧، و"غريب القرآن" لليزيدي ص ١٥٦: (الآصال، واحدها أصيل).
وانظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٦٧، و"نزهة القلوب" ص ٨٨.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٨ وفيه: (الآصال: جمع أُصل والأصل جمع أصيل فالآصال جمع الجمع وهي العشيات) اهـ.
وانظر: "معجم الإبدال والإعلال" للخراط ص ٢٢.
573
ومنه قول النابغة (١):
وقفت فيها أصيلًا كي (٢) أسائلها
أي: عشية، ويقال: الأصيل (٣) مأخوذ من الأصل وهو أسفل كل شيء، وما بعد العصر ينتهي إليه النهار إلى آخر النهار، فقيل لذلك الوقت: أصيل (٤).
(١) "ديوانه" ص ٩، و"الكتاب" ٢/ ٣٢١، و"معاني الفراء" ١/ ٤٨٠، و"المقتضب" ٤/ ٤١٤، و"الجمل" للزجاجي ص ٢٣٥، و"اللمع" لابن جني ص ١٢٢، و"الصحاح" ٤/ ١٦٢٣ (أصلَ)، و"الإنصاف" ص ١٤٨، والقرطبي ٧/ ٣٥٦، و"اللسان" ١/ ٨٩ (أصل) وعجزه:
عيت جوابًا وما بالربع من أحد
(٢) في (ب): (أصيلًا لا أسائلها) ورواية الأكثر. (أصيلانًا).
قال النحاس في "شرح القصائد المعلقات" ١/ ١٥٨ في شرح البيت: (يروى: أصيلًا كي أسائلها، وهو واحد وجمعه أصُل وجمع أصل آصال ويروى: أصيلانًا وفيه قولان:
أحدهما: أنه تصغير أصلان، وأصلان جمع أصيل.
والثاني: أنه بمنزلة قولهم: على الله التكلان، وقولهم: غفران، وهذا هو الصحيح، والأول خطأ لأن أصلانًا لا يجوز أن يصغر إلا أن يرد إلى أقل العدد وهو حكم كل جمع كثير.
وقوله: عيت أي: عجزت عن الإجابة، والربع المنزل في الربيع ثم كثر استعماله في كل منزل) اهـ. بتصرف.
ورواية أصيلال أصله: أصيلان أبدل النون لاما على غير القياس.
(٣) هذا قول الليث في "تهذيب اللغة" ١/ ١٦٨. وانظر: "العين" ٧/ ١٥٦، و"المجمل" ١/ ٩٧، و"مقاييس اللغة" ١/ ١٠٩، و"المفردات" ص ٧٨ (أصل).
(٤) في (ب): (أصل).
574
٢٠٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾، قال ابن عباس (١) وغيره من المفسرين (٢): (يعني: الملائكة)، قال الزجاج: (تأويله أنه من قرب من رحمة الله ومن فضله فهو عند الله جل وعز) (٣).
فعلى هذا قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يراد به: قرب الرحمة والفضل لأقرب المكان (٤).
وقال غيره من أهل المعاني: (هذا تشريف للملائكة بإضافتهم إلى الله عز وجل، يراد بذلك: أنهم بالمكان الذي كلامه وشرفه وجعل الأمور تصدر عنه).
وقال بعضهم: (إنما قيل في صفة الملائكة ﴿الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ لأنهم رسل الله إلى الإنس، كما يقال: إن عند الخليفة جيشًا عظيمًا وإن كانوا متفرقين في البلدان) (٥).
(١) "تنوير المقباس" ٢/ ١٥١.
(٢) قال القرطبي ٧/ ٣٥٦: (يعني: الملائكة بإجماع) اهـ.
وانظر: "تفسير غريب القرآن" ص ١٨٨، والطبري ٩/ ١٦٨، و"معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٨، و"إعراب النحاس" ٢/ ١٧٣، و"تفسير السمرقندي" ١/ ٥٩٢، والثعلبي ٦/ ٣٥ أ، والماوردي ٢/ ٧٩.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٣٩٨.
(٤) انظر: "تفسير ابن عطية" ٦/ ١٩٩.
(٥) ذكر هذه الأقوال النحاس في "إعرابه" ١/ ٦٦٣، والثعلبي ٦/ ٣٥ أ، والرازي ١٥/ ١١١، والقرطبي ٧/ ٣٥٦، والذي عليه أهل السنة والجماعة وهو ظاهر الآية أن عندية الملائكة عند ربهم عندية فوقية ومن لوازمها عندية القرب والمكانة والتشريف وما ذكره الواحدي وغيره تأويلات ليس عليها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله - ﷺ - ولا من صحيح اللغة.
انظر: "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات" للمغراوي ص ٩٨.
575
وقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾. جاء هذا على الجواب لمن استكبر من الناس عن عبادة الله، كأنه قيل: من هو أكبر منك أيها الإنسان لا يستكبر عن عبادة الله (١).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٩/ ١٦٨، والسمرقندي ١/ ٥٩٢، والماوردي ٢/ ٢٩١. إلى هنا انتهى الموجود في نسخة: (ب) وجاء في نسخة: (أ): (تمت المجلدة الثالثة بحمد الله وجميل صنعه، يتلوها في الرابعة -إن شاء الله تعالى- سورة الأنفال، في الثامن والعشرين من ذي الحجة لشهور سنة ست وستمائة هجرية ٦٠٦هـ.
والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين. غفر الله لصاحبه وكاتبه ولمن قال آمين من العالمين. بقلم الفقير إلى الله عثمان بصليق الشافعي).
576
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة الأنفال إلى آية (٩٢) من سورة التوبة
تحقيق
د. إبراهيم بن علي الحسن
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركى بن سهو العتيبي
الجزء العاشر
1
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة الأنفال إلى آية (٩٢) من سورة التوبة
تحقيق
د. إبراهيم بن علي الحسن
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركى بن سهو العتيبي
الجزء العاشر
2
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤٣٠هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الواحدي، على بن أحمد
التفسير البسيط لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)./ على بن أحمد الواحدي، إبراهيم بن علي الحسن،
الرياض١٤٣٠هـ.
٢٥مج. (سلسلة الرسائل الجامعية)
ردمك: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٣ - ٨٦٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج ١٠)
١ - القرآن تفسير... ٢ - الواحدي، على بن أحمد
أ- العنوان... ب- السلسة
ديوي ٢٢٧. ٣... ٨٦٨/ ١٤٣٠
رقم الإيداع: ٨٦٨/ ١٤٣٠هـ
ردمك ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٣ - ٨٦٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج١٠)
3
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

5
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن على بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
6
Icon