ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.
قوله تعالى: ﴿المص (١)﴾
قال ابن عرفة: الظاهر أن هذه الحروف اسم للسورة، واختلف الأصوليون هل يرد في القرآن ما لَا يفهم أو لَا، والظاهر عدمه.
قيل لابن عرفة: إن ابن الحاجب قال: هو بعيد، ولم يجعله من [... ] اعتبر الألفاظ؛ لأن الإنزال حقيقة إنما هو في الألفاظ المعبر بها عن الكلام القديم الأزلي بمطابقة الإعجاز؛ لأن المعجزة حادثة وعداه هنا بـ إلى اعتبارا بمنتهى الإنزال، وعداه في موضع آخر بـ على اعتبارا بمبدأ الإنزال، وعدَّاه بـ مِن لكونه من فوق إلى أسفل وهو على المحل المنزل عليه.
قوله تعالى: ﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ... (٢)﴾
أي ضيق؛ أي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حفظ القرآن ما هو مأمور بتبليغه لأمته فإذا بلغه ولم يؤمنوا مع حرصه على إيمانهم، وتعلق قلبه بذلك يقع في قلبه لأجل ذلك غمَّ، لأجل أن تبليغه ذلك لهم لم ينفع فيهم.
قوله تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا... (٤)﴾
احتج به من قال: إن الفاء لَا تفيد الترتيب.
وأجاب ابن عطية أن المراد بقوله تعالى: (أَهْلَكْنَاهَا) خذلان أهلها.
ابن عرفة: وهذه عبارة اعتزالية، والصواب أن يقال: خلقنا في أهل الفسق والمخالفة فجاءها بأسنا.
وأجاب ابن عصفور بـ أو، والمعنى أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا.
وقال الأستاذ أبو زكريا يحيى بن فرج العربي في تفسيره: وهذا الجواب فيه نظر من المتعلق التنجيزي؛ فمجيء البأس مقارن للإرادة فليس يعقبها، وإن أراد التعلق الصلاحي والإرادة القديمة فإن كان مجيء البأس بعقبها لزم عليه قدم العالم، وإن كان متأخرا عنها بمهلة لزم أن يكون بـ ثم، وأجيب بأن الإرادة قديمة مستمرة، وأنه إلى حين مجيء البأس فينقطع مجيء البأس بعقب آخر مدتها.
وأجاب أيضا ابن عصفور: بأن المراد أهلكنا هذا لَا من غير استقبال فجاءنا بأسنا فهلك هلاك استقبال.
قيل لابن عرفة: في الآية تقديم وتأخير والتقدير أهلكنا بياتا وهم قائلون فجاءنا بأسنا بياتا يكون؛ والمراد أهلكناها في الدنيا وجاءها في الآخرة العذاب في الدارين، فقال آخر: الآية تدل على أنه في الدنيا، لقوله تعالى: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥).
قوله تعالى: (بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ).
قال ابن عرفة: تقدمنا فيها سؤال وهو هلا قيل: فجاءهم بأسنا بياتا أو قيلولة فجاءها بأسنا بياتا وهم بائتون فما السر في ذلك؟ وما الفرق بين قولك: جاء زيد ضاحكاً، وبين قولك: جاء زيد وهو ضاحك؟ قال: وتقدم لنا الجواب بأن قولك: جاء زيد ضاحكا تقييد، وبأن قولك: جاء زيد وهو ضاحك حكم إسنادي، والوصف التقييدي راجع لقسم [التصور*]، والحكم الإسنادي راجع لقسم التصديق، ولا شك أن تأثير مجيء البأس في الليل أشد من تأثير مجيئه في القائلة، فلما كان مجيئه في الليل أشد عبر عنه بالتقييدي الراجع لبأس التصور؛ لأنه متصور بالبديهة، وعبر عن الآخر بالحكم الإسنادي التصديقي لما فيه من احتمال عدم التأثير.
قوله تعالى: (أَوْ هُم قَائِلُونَ).
قال ابن عرفة: الجملة إذا وقعت حالا فإن كان في صدرها ضمير اختلف هل يلزم الواو معها أم لَا؟؛ فنقول: جاء زيد يده على رأسه وإن لم يكن فيها ضمير فلا بد من الواو، ويقال: جاء زيد وعمرو ضاحكا، وعليه نزل سيبويه في قوله تعالى: (يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أنه حال، وعليه أورد الزمخشري هنا سؤالا، قال: لأي شيء.
قوله تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ... (٦)﴾
وهذا سؤال توبيخ، وقوله (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) هذا استعلام.
قوله تعالى: (وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).
قوله تعالى: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ... (٧)﴾
احتراس لأن قوله (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ)
إن ذلك سؤال استعلام فنفاه بهذا، ولذلك أكد الفعل بالنون الشديدة، وفيه رد على المعتزلة القائلين بأن الله عالم لَا يعلم.
قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ).
إشارة إلى أنه علم متيقن شاهد.
قوله تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ... (٨)﴾
والوزن يحتمل معنيين:
أحدهما: أن الوزن يومئذ يقع بالعدل والقسط.
الثاني: أن وزن أعمال العباد يومئذ ثابت وأنه لَا شك فيه بحال، وعرف الحق إشارة إلى أنه الحق اليقين الواضح الذي لَا مراء فيه.
قال: ونسب الثقل والخفة لكفة الحسنات، لقوله تعالى: (مَوَازِينُهُ) فإضافتها إليه على تقدير اللام، وكفة السيئات إنما هي موازين عليه، واختلفوا في ذلك، فقيل: إنه ميزان واحد، وقيل: لكل شخص ميزان أخذ بظاهر الآية، والصحيح الأول، وعندي أنه جمع في هذه الآية.
قال الإمام فخر الدين في (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) جمع [القلب*] لاختلاف حالاته وتقلباته؛ فكذلك يقال هنا.
قال ابن عرفة: ومفهوم أول الآية مناقض لمفهوم آخره، لأن مفهوم قوله تعالى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ). يقتضي أن من تساوت كفات موازينه ليس بخاسر نفسه، قيل: بهن (١).
ابن عرفة: [فالأنبياء*]، ومن لَا سيئة لهم بماذا توزن حسناته؟ قال: توضع حسناته في كفة ولا يوضع في الكفة الأخرى شيء، أو يوضع في الأخرى [... ] أو حجارة يوزن بها حسناته، فقال: الآية إنما تضمنت وزن الحسنات والسيئات، وقال هنا (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فعبر بجملة اسمية مقرونة بأداة الحصر وهي اسم الإشارة والبنائي المضمر، وتعريف الخبر دون ذكر علة هذا الحكم.
"ونسب الثقل والخفة لكفة الحسنات. وهو معنى إضافة الموازين بتقدير اللام، لأن وزن السيئات عليه لا له. اهـ (التقييد الكبير للبسيلي)
قال ابن عرفة: وجوابه أن المراد حصول الكلام الثابت اللازم؛ والمراد في الآخر حصول مطلق الخسران فيتناول العاصي والكافر وهي في سورة قد أفلح (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) فقال: تلك فيها قرينة أخرجت العاصي من اللفظ، وهنا نقول إنه داخل، قال: وإنما علل حصول الخسران لهم بالظلم ولم يعلل حصول الفلاح للآخرين بالطاعة إشارة إلى أن الثواب على الطاعة محض تفضل من الله عز وجل وحساب الآخرين وخسرانهم معلل بظلمهم إشارة إلى أن ذلك عدل من الله تعالى لأجل كسبهم السيئات.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ... (١٠)﴾
قال ابن عرفة: فائدة التقسيم تكون المخاطبين ظهرت عليهم مخائل الإنكار لأجل تماديهم على المعاصي وعدم تذكرهم واتعاظهم، وفيها سؤال وهو أن التمكين في الأرض أخص من وجود المعايش بأمة لكل أحد إذ لَا يستغني أحد عن القوت، والتمكين أخص مزيد في الأمراء والسلاطين، والامتنان الأهم أقوى وأعم فائدة فهلا قدم عليه، وأيضا فلأن المعايش أمر حاجي والتمكين في الأرض أمر تكميلي، فالأمر الحاجي أعم على التقوي من الأمر التكميلي، فالامتنان به أعظم منه، وأجيب بأنه قدم لأحد أمرين:
أحدهما: أنه يدل على المعايش دلالتين باللزوم والمطابقة، وقد تقدم نظيره غير ما مرة في عطف الأعم على الأخص بخلاف الخاص على العام والعكس فيهما (فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ).
الثاني: التمكين في الأرض لما كان خاصا بالبعض دون الكل وكانت المعايش أئمة صار نسبتها إليه نسبة الجزء إلى الكل والجزء قبل الكل فكذلك بدأ به في الآية.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ... (١١)﴾
الخلق راجع للقدرة والتصوير للإرادة وهي الكيفية الخاصة.
(ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ).
احتجوا به على أن إبليس من الملائكة.
قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ... (١٢)﴾
هذا سؤال توبيخ لَا يستحق جوابا فظن إبليس أنه سؤال حقيقي. فأجاب عنه بمقدمتين حذف أحدهما لدلالة الكلام عليها والتقدير أنا خير، والفاضل لَا يسجد للمفضول فأنا لَا أسجد إما أنا خير منه فبينه بكونه خلق من نار وآدم من طين، وإما أن الفاضل لَا يسجد للمفضول، قيل: وجوابه أن هذا على قاعدة التحسين والتقبيح باطل وإنما يتم على مذهب المعتزلة، لكن جاء بموضع المقدمة الصغرى وموضع كونه خير من آدم، وإلا كان يقول الملائكة: نحن خير منه؛ لأنا خلقنا من نور.
(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا... (١٣)
ابن عرفة: أفاد الجنة فيكون باعتبار الوجود لَا باعتبار الحكم؛ لأنه قد وسوس فيها آدم، وإن أريد السماء فيكون باعتبار أي، فما يجوز لك أن تتكبر فيها. لأنه قد امتنع من السجود لآدم.
قوله تعالى: (فَاخْرُجْ).
إما تكرار للتأكيد، وإما تأسيس والأول هبوط حسي، وهذا خروج من حكم الاعتناء والمراعاة إلى حكم الصغار والإذلال والاحتقار.
قوله تعالى: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)﴾
[الزمخشري: حكي عن طاوس*]: إبليس [أفقه*] بالتورية [من القدرية*].
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ... (١٧)﴾
قال ابن عرفة: إنما لم يقل: ومن فوقهم ومن تحتهم. لأن جهة الفوق منها الرحمة، وجهة التحتية داخلة في الإتيان من باب أحرى؛ لأنها محل إبليس.
قال ابن العربي في سراج المريدين في الاسم الثامن والعشرين: حضرت يوما مجلس الإمام أبي منصور الشيرازي وعادته أن يرقى المنبر ويجيب عن كل سؤال، أو يصعد المنبر ويأخذ القارئ بالقراءة وترمى الرقاع بالأسئلة من كل جانب وتتناولها الأيدي حتى تصل إليه فيجعلها تحت ركبتيه؛ فإذا سمع القارئ أخذها واحدة واحدة،
قوله تعالى: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا... (١٨)﴾
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إن كانت الذءامة والدحور أخص من الصغار فهو تأسيس، وإلا فالجواب بأن قوله بـ (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) مطلق يقتضي اتصافه بذلك وقياما.
قوله تعالى: (مَذْءُومًا مَدْحُورًا).
فإذا اتصافه بذلك في الحال، و (مَذْءُومًا) راجع لأمر حسي، (مَدْحُورًا) لأمر معنوي.
قوله تعالى: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ).
معارض بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنها تمتلئ حتى يضع الجبار فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ".
أخرجه مسلم، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعن قتادة، عن أنس بن مالك، عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأجيب بأن القاضي عياض، قال: حكوا فيها تأويلات:
أحدها: أن القدم عبارة عن السابق المتقدم حتى يضع فيها من قدم من أهل العذاب، قال تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقيل: القدم عبارة عن طائفة يخلقهم الله في الآخرة لها يسميهم قدما فلا تملأ إلا بهم، وقيل: المراد بالجبار السلطان أو أحد الجبابرة المتقدمين، وعلى رواية رجله يحتمل أن يريد الجماعة، يقال: رجل من جراد أي مثل جماعة منه، ويحتمل أن يريد بقوله تعالى: (لأَمْلأَنَّ) كثرة الداخلين لَا ملأها حقيقة.
قوله تعالى: ﴿لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا... (٢٠)﴾
ابن عرفة: إن كان الإيراء معنويا فليست للصيرورة؛ لأنه غير مقصود قصد إبليس شيئا، ووجد خلافه.
قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ).
فيها النظر إلى حالتي الإقبال والإدبار، وفيها إشارة إلى أنهما استشعرا حالة الموت إن أريد الخالدين بالإطلاق فيتناول الخلود في الجنة، فإن قلت: ظاهر الآية أن الملائكة أفضل من بني آدم، قلنا: باعتبار الوهم والاعتقاد لَا في نفس الأمر، فإِن قلت: هلا قيل: إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، أو يقال: إلا أن تكونا من الملائكة أو من الخالدين؟ قلنا: لأجل رءوس الآي.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ... (٢٢)﴾
الذوق هنا أوائل الإحساس بالشيء.
قوله تعالى: (بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا).
الظاهر أنها كلية لَا كل والمراد: بدت لكل واحد منهما سوأة صاحبه، ويحتمل أن يريد بدت لكل واحد منهما سوأة نفسه.
قوله تعالى: ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ... (٢٥)﴾
إن أريد مطلق الحياة فالمعنى فيها يدومون على الحياة أحياء، وإن أريد حياة خاصة فيكون الاستقبال على حاله.
قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا... (٢٦)﴾
قد للتحقيق ويبعد كونها للتوقع.
فإن قلت: الآية خرجت مخرج الامتنان عليهم، واللام للاختصاص أو للملك أو للتعليل أنسب من عطاء؛ لأن الامتنان عليهم أو لأجلهم أقوى بالمنزل عليهم، وأجيب بأنه إشارة إلى بعد المحل المنزل منه على المحل المنزل إليه، قال تعالى (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) لاقتضائه العلو والارتفاع التام، وهذه الآية يعدها ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية مجاز إيقاع السبب برفع المسبب، وقدره بأن أنزلنا موضوع موضع أعطينا لباسا؛ لأن إنزال المنازل في إعطاء اللباس فنزل أنزلنا منزلة أعطينا، وتكون سببا غائبا؛ لأن اللباس سبب في الماء بمعنى أنه باعث عليه، كما أن الاستمكان من الحر والبرد سبب في بناء البيت مع أنه متأخر عنه.
إشارة إلى وجوب ستر العورة دون ما سواها من البدن.
قوله تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ).
إشارة إلى أن من اللباس ما هو محرم كالحرير [وخزه*] واللباس منه مباح، ومنه ما هو مندوب إليه، واللباس الحسن في الأعياد والجمع، فإن أريد اللباس الواجب فخير فعل لأفعل، وإن أريد المندوب فخير أفعل من الخير ذلك خير من المباح.
قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ... (٢٧)﴾
قال البيانيون: فائدة النداء الاهتمام بالمنادى وتعظيمه.
قوله تعالى: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ).
قال الجوهري: فتن إذا اختبر، وقال غيره: إذا امتحن، والفتنة من الشيطان فكيف نهي الإنسان عما ليس من فعله ولا في قدرته؟؛ فأجاب ابن عطية: من باب لألزمنك هاهنا؛ أي لَا تكن هنا فأراك أي لَا تتبعوا الشيطان فيفتنكم.
ابن عرفة: وعادتهم يقولون: ليس مثله أن الرؤية مسببة عن الكون هناك والشيطان سبب في الاتباع، وأجيب بأن المعنى أي لَا تتبعوا هوى لنفسكم، وهوى النفس سبب في الوسوسة. لأنه إذا علم ميل النفس إلى الشهوات حمله ذلك على وسوستها على القدوم فيها، ويحتمل أن يكون من تكليف ما لَا يطاق على القول به؛ فنهى الإنسان عن فتنة الشيطان إياه.
قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم).
قال أبو حيان: الكاف نعت لمصدر محذوف.
قلت: قال ابن عرفة في الختمة الأخرى التي قبل هذه: ويحتمل أن يكون من حذف التعليل أي فتتبعوه فيفتنكم كما فتن أبويكم، فاتبعاه؛ فأخرجهما من الجنة، ونظيره (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ).
قوله تعالى: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا).
قال أبو حيان: حكاية حال.
قال ابن عرفة: هذا إن قلنا: إن الدوام ليس كالابتداء، وإن قلنا: إنه كالابتداء فنقول إن النزع دام فليس بحكاية، قال: بل إخبار عن حالتهم الوقتية الدائمة.
دل على عدم جواز نظر عورة زوجته؛ لأن الشيطان إنما يوسوس على فعل ما لا يجوز.
قال تعالى (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ).
قرئ بالنصب.
قال أبو حيان: على أنه مفعول معه.
ورده ابن عرفة: بأن ابن السراج فرق بين واو العطف وواو المفعول معه باقتضاء واو العطف الشركة في الفعل دون واو المفعول معه، وواو المفعول معه لَا يقتضيه، نحو: جلست والسارية.
والثاني: أن الأول في المفعول أو تابع وما بعده متبوع والشيطان متبوع لَا تابع، ولأنه يرانا كما نرى قبيله.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا... (٢٨)﴾
قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون وجدنا عليها بالشخص، أو على الفاحشة بالإطلاق، وإن أريد على شخصها فالضمير عائد لفظا دون معنى من باب عندي درهم ونصف.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ).
فيه سؤالان:
الأول: هلا قيل: قل إن الله ما أمر بالفحشاء فيكون النفي مطابقا للأول لأن الأول معنى ولا يجيء فيه شبهة النسخ؛ لاحتمال أن يكون الله أمر بها في الماضي لَا يعيدها؛ أي ليس يقابل شرعا لأن يأمر بالفحشاء، ولا يجوز ذلك شرعا عليه عندنا وعقلا عند المعتزلة.
السؤال الثاني: نفي الأمر لَا يفيد نفي الإباحة، والآية خرجت مخرج ذمهم في فعلهم ما هو محرم، فهلا قيل: إن الله لَا يبيح الفاحشة لأن نفي الأمر لَا يستلزم نفي الإباحة؟ وأجيب بأن قوله (بِالْفَحْشَاءِ) يفيد نفي الإباحة لأن لفظ الفحشاء إنما يطلق على المحرم.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن قوله: (يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) بمعنى أوجبها علينا؛ فيرد بنقيضه وهو أنه لم يوجبها عليكم، وأورد الفخر سؤالا، قال: (لَا يَأْمُرُ
وأجاب ابن عرفة بأنه لو قال: إن الله لَا يأمر بالفاحشة لأفاد نفي فاحشة مستحقة، فلما قال: الفحشاء أفاد نفي القدر المشترك بين الفواحش كلها فيعم الجميع.
قوله تعالى: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
قال ابن عرفة: إن قلنا: إن الحاصل للمقلد علم فلا دليل، وإن قلنا: إنه ليس بعلم فيكون دليلا لمن ينفي التقليد، فإن المقلد قال على الله ما لَا يعلم، ويدخل فيه من يفتي في مسألة الحدس وإن صادف الحق وهو بحيث لو سئل عن سنده لتوقف.
قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ... (٢٩)﴾
معطوف على قوله (بِالْقِسْطِ)، أي: أن أمر أن تقسطوا وتقيموا وجوهكم فأمر بالمصلحة القاصرة والمتعدية فالمتعدية على القسط، والقاصرة ما بعدها.
قوله تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ).
الظاهر أن الكاف للتعليل مثل: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ) أي: لأجل بدايتكم تعودون؛ فالعود للانتفاع والحساب.
قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ... (٣١)﴾
قال: في القرآن ثلاثة ألفاظ: منها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، (يَا بَنِي آدَمَ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). أخصها بذكر الحكم في المشتق، و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) يليها، و (يَا بَنِي آدَمَ) أعمها [... ] ببني آدم؛ لأن الخطاب بها على وفق المراد؛ لأن النفوس تتشوق للزينة.
قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
قال ابن العربي: منهم من قال إن الآية عامة في كل مسجد فلا يصح أن يكون سبب نزولها أن قريشا كانت تطوف عراة.
ابن عرفة: خصوص السبب لَا يمنع من عموم الحكم وهذا منافيه على أن المراد بالمسجد ذو البناء الخاص مثل شكل مساجد، ولنا أن نقول: المراد به مواضع السجود فقط فلا يحتاج إلى ما قال.
قال ابن العربي: والصحيح أن ستر العورة مستجد.
قال ابن عرفة: والظاهر عندنا أن الأمر هنا للندب؛ لأن خارج من ذلك لأنه أمر بالزينة لَا بستر العورة؛ لكنه يستلزم الستر من باب أحرى، قال: وقول القائل: خذ زينتك أبلغ من قوله: تزين، وإضافة الزينة إشارة إلى أن كل واحد منا يأخذ زينته اللائقة بحاله.
قوله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا).
قال ابن عرفة: تقدم لنا أن الاستثناء لإخراج الصالح، أو يكون لإخراج الدخول، ومنه ابن التلمساني باستثناء ما زاد على العشرة على وجه البدل من جموع القلة واستشكله الشيوخ؛ والصواب تمثيله بما قاله هو في مواضع أخر، وهو أن الاستثناء من النكرة المطلقة، كقولك: أكرم رجلا من بني تميم إلا زيدا.
قال ابن عرفة: وكذلك التقييدات تكون داخلة، وتكون صالحة للدخول، كقولك: أكرم النَّاس ولا تسرف، وأكرم بنيك ولا تسرف، فالأول: صالح، والثاني: داخل؛ لأن الأمر بإكرام [البنين*] مظنة الإسراف؛ لما في النفس من الشفقة عليهم، وأما هنا فالأكل محبوب للنفس بالطبع فإذا أمر به تأكد وكأنه مظنة للإسراف في الزائد على الشبع إذ لم يتوق النفس الشهوة فإنه محرم، وإن شبع الإنسان ولم تزل شهوته في الطعام فالظاهر أن أكله مكروه وليس بحرام بدليل أن الواحد يأكل الطعام ويشتهي الفواكه ويأكل منها.
قوله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) النهي للتحريم، كقولهم: لَا حبذا زيد فإنه للذم والذم على فعل الشيء دليل على تحريمه.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ... (٣٢)﴾
قال ابن عرفة: الخطابات في القرآن على ثلاثة أنواع: فمنها ما هو صريح العموم، مثل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، ومنها ما هو صريح الخصوص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مثل (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ)، ومنها ما هو محتمل كهذه الآية.
قوله تعالى: (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ).
إن أريد التي خلق الله لعباده فلا يكون فيه دليل لمن يقول: إن الأشياء على الحصر، وإن أريد التي شرع لعباده فيكون دليلا على أن الأشياء على الحصر.
الحصر إما بحسب السياق أو على ظاهره. لأن الآية مكية، وقد حرم بعد ذلك أمور أخر، قيل: إن أريد به التحريم فظاهر، وإن أريد الحكم في الأزل فكلها محرمات، فكان لفظ حرم خبر عن ماضي فلا يتناول ما بعد ذلك.
قال ابن عطية: الفواحش ما فحش وشنع فهو إشارة إلى ما نص الشارع على تحريمه.
ابن عرفة: فالمعنى عنده إنما حرم ربي المحرمات. وصوابه أن نقول كلما نهى الشارع عنه، فيكون المراد إنما حرم ربي ما نهى عنه بناء على أن المكروه ليس منهيا عنه.
قوله تعالى: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ).
ابن عرفة: المراد عندي بما ظهر ما دليله قوي، نص علي وعليه ما ذكر الأصوليون في القياس استعمال العين في العين، وما بطن ما استفيد بالقياس والنظر.
ومنه قول الأصوليين: استعمال الجنس في الجنس:
فالأول: دليل ظاهر، والثاني: قلت: ذكره ابن التلمساني في باب القياس في المسألة الثالثة منه، وحمله المفسرون الظهور والخفاء بالنسبة إلى الفاعل وفعله، وقالوا: في الآية عطف العام على الخاص، وعطف الخاص على العام، والإثم أعم من الفواحش؛ لأنه يشمل الصغائر والكبائر بخلاف الفواحش، والبغي أخص من الإثم.
قوله تعالى: (بِغَيْرِ الحَقِّ).
ليس بتأكيد؛ لأن السيد إذا بغى على عبده فضربه فهو باغ بالحق.
قوله تعالى: (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا).
راجع إلى الدليل العقلي.
(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
راجع إلى الدليل السمعي النقلي.
استشكل أبو حيان ترتيب يستقدمون جوابا للشرط بأنه أمر بديهي ظاهر؛ وتقديره أنهما شرطان وجوابان حسبما تقرر في المنطق أن الشرطية تتعدد بتعدد تاليها، وأجاب بأن الشرط أمر تقديري وليس بوجودي فيصح ترتيبه عليه بهذا الاعتبار.
قال: أو يجاب بأن العطف للتسوية، أي كما تعلمون أنتم لَا يستقدمون عليه؛ كذلك فاعلموا أنهم لَا يستأخرون عنه.
قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ... (٣٥)﴾
قيل: المراد ببني آدم هذه الأمة، والرسل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وجمعه لاختلاف حالاته، كما قال الشاعر: أنشده [الآبذي] في شرح الجزء عليه:
[فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلّها... يمينا ومهوى النّسر من عن شمالك*]
فإن قلت: إتيان الرسل محقق فهلا عبر بـ إذا؟، قال: فعادتهم يجيبون بأنه إشارة إلى مذهب أهل السنة في أصل بعثه الرسل أنها محض تفضل من الله تعالى، فإن ذلك ممكن جائز وليس بواجب وزيادة فأشار إلى وقوع ذلك وتحققه.
قوله تعالى: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ).
التقوى راجعه إلى اجتناب المنهيات والاصطلاح لامتثال المأمورات، ومن موصول الأجواب الأشرطية؛ لأنها لَا تقتضي وقوع الشيء لَا إمكان وقوعه.
قوله تعالى: (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
إن قلت: لم نفى الخوف بالاسم، والحزن بالفعل؟ فأجاب ابن عرفة بوجهين:
الأول: متعلق الحزن ماض، ومتعلق الخوف مستقبل والأمور المستقبلة أكثر من الأمور الماضية فأشبهت غير المتناهي ألا ترى أن الإنسان يخاف العذاب في الدنيا وفي الآخرة، وأمر الآخرة غير متناه لأنه بدخول الجنة يذهب عنه الخوف دائما.
الثاني: أن سبب الخوف يمكن دفعه والتحرز منه؛ لأن متعلقه مستقبل، وسبب الحزن لَا يمكن رفعه والماضي لَا يرتفع.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا... (٣٧)﴾
قال ابن عرفة: هذه الآية إذا كانت في النزول متصلة بما قبلها فالفاء للاستئناف، وعلى الأول في الآية التفات بالخروج من التكلم إلى الغيبة؛ وهذا إن أريد
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يرد على الجاحظ بهذه الآية، في قوله: إن الكذب إنما يطلق على من تعمده؛ فدلت الآية على أن من أخبر بالشيء على خلاف ما هو عليه ناسيا فهو كذب، وإن كان عامدا فهو افتراء وأجيب بالفرق بين مطلق الكذب وافتراء الكذب؛ وهو أن من أخبر بمجيء زيد وهو معتقد أنه لم يجئ وصادف في نفس الأمر أنه جاء فليس مفتر بالكذب ولا يسمى كاذبا بوجه؛ كمن حلف عليه بالطلاق أنه قد جاء معتقدا أنه لم يجئ وقد صادف أنه جاء.
قوله تعالى: (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ).
يحتمل أن يرجع إليهم بمعنى أنهم تارة يقولون على الله ما لم يقله، فيقولون: حرم علينا السائبة والوصيلة والحام، وتارة ينسبون إليه ما هو منزه عنه؛ كجعلهم له شريكا، ونسبتهم إليه الولد؛ فهذا افتراء الكذب، ذكره الفخر.
وتارة يكذبون بالآيات والمعجزات الظاهرة على يد رسوله وهذا تكذيب، ويحتملِ أن تكون الآية خرجت مخرج الإنصاف، كقوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) فالمعنى: قل لهم يا محمد إن كنت أنا مفتريا على الله فلا أَظلم مني، وإن كنت صادقا وأنتم تكذبون بي فلا أظلم.
قوله تعالى: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
قالوا: المراد بذلك الأصنام.
ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: يحتمل أن يريد به كل ما يشتمل عن الطاعات من الشهوات والأمور الدنيوية، كما قال تعالى (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا).
وقال تعالى (وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
إشارة إلى أن أعمالهم الدنيوية تذهب عنهم فلا يجدون لها أثرا بخلاف الأعمال الصالحة.
قوله تعالى: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم).
إن أريد شهادة بعضهم على بعض فهذه شهادة حقيقية، وإن أريد واحد منهم يشهد على نفسه فهو إقرار وليس بشهادة لاستلزامه العقوبة.
كيف نفهم مع حديث: "من سن في الإسلام [سنة*] سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
وأجاب ابن عرفة بأحد وجهين:
إما أن يراد لكل ضعف ما في اعتقادكم، أو ضعف ما يتوهمون.
قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ... (٣٩)﴾
الفاء إما للتسبيب فهو معطوف على قوله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ)، أو على مقدر؛ أي [مَا دُعَاؤُكُمُ اللَّهَ بِأَنَّا أَضْلَلْنَاكُمْ وَسُؤَالُكُمْ مَا سَأَلْتُمْ *] (١) [فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ*].
قال ابن عرفة: على التقديرين مسألة كانت تقدمت لنا فيما إذا قال عمرو: إن زيدا زنا، فيقول خالد: وسرق، فإن كان معطوفا على كلام عمرو لم يلزمه شيء، وإن كان معطوفا على مقدر؛ أي زنا وسرق لزمه حد القذف.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا... (٤٠)﴾
قال: الظاهر أن التكذيب أعم من الاستكبار؛ لأن المكذب قد يكون مستكبرا وقد لا يكون.
قوله تعالى: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ).
دليل على أن الجنة في السماء.
قوله تعالى: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ).
ولم يقل: دخول الجنة مع أنه أجلى وأبين تشديدا عليهم في العذاب؛ لأن الرجاء يتعلق بما هو معيبا بزمان، ولو كانت عائبة لَا يمكن كأنه يتطرق إمكانها، فإذا تعلق الرجاء بها على استحالتها عادة، ولم يقع ذلك؛ كان ذلك أشد على الراجي في حينه حسه مطعمه، وإنما قال: يلج الجمل، ولم يقل: الفيل وهو أكبر. لأن العرب إنما يعرفون الجمل.
قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ... (٤١)﴾
وقال تعالى في سورة (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) فقدم هنا لفظة فوق وأخر هاهنا، وأجيب بأنه هنالك روعي فيه لفظ المهاد. والمهاد غالبا يقتضي المكان الذي يمتهد عليه فهو تحت والظلال من تحت، فعذاب الله تلك أشد؛ لأنها نار تحت المهاد.
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).
المشبه بالشيء لَا يقوى قوته فدل على أن عذاب هؤلاء أشد من عذاب الظالمين.
قوله تعالى: ﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (٤٢)﴾
[دليل*] على أن القادر على الشيء يطاق وسعه بلا شك.
قوله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ... (٤٣)﴾
دليل على صحة القول بأن العرض يبقى زمانين؛ لأن الفعل معنى من المعاني ولا عرض ولا ينزع إلا ما هو قابل للبقاء.
فرد عليه ابن عرفة النزع بمعنى الإعدام، والمراد نزع نوع الغل مطلقا لَا شخصه، قال: هذا مجاز والأمثل حقيقة، قيل له: لَا بد في الآية من المجاز. لأنهم أجمعوا على أن العرض لَا يقوم بنفسه، وإذا حملت النزع على حقيقته يلزمك مخالفة الإجماع فلا بد من حمله على معنى الإعدام، فقال: هذا الذي أجمعوا عليه تحمل الآية عليه وتبقى على حقيقتها فيما اختلفوا فيه، قيل له: إنما حملناها على الإعدام زال المعنى الذي قلتم.
قال: والآية دلت على أن كل صدر فيه الغل فهو أمر جلي لَا يقع فيه التكليف. وإنما التكليف بأسنا به؛ ولذلك يقال: ما علا عبد من حسد فواحد يخفيه وآخر يفشيه.
قوله تعالى: [(أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) *].
إسقاط الفاء هنا، وأثبتها الفاء في قوله (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)؛ لأن الإنسان إذا وجد شيئا قد يصدق به، وقد يبقى على شك، وإذا خوف من شيء يستقر في نفسه الخوف منه ويسرع إليه الهلع والفزع،
قال: [ويحتمل أن يكون في الآية حذف التقابل؛ أي من اتقى وأصلح (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) [أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وَلاَ خَوْفَ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (أي لا حزن عليهم) وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وعليهم الخوف وهم يحزنون*] (١)
قوله تعالى: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)﴾
قال ابن عرفة: لما كانت حسناتهم مساوية لسيئاتهم فلم يبق لهم سبب إلا الرجاء في دخول الجنة، والرجاء إنما يكون فيما قدم الإنسان سببا فهو خير الطمع لَا في خير الرجاء.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ... (٤٧)﴾
بناؤه للمفعول دون الفاعل لأن المعرفة إليه مستقرة للنفس دائما، وإنما يقضي حين الاختيار.
قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
ولم يقل: من القوم الظالمين؛ لأن كونه معهم أعم بنفيه يستلزم نفي الأخص أعني الكفر عنهم.
قوله تعالى: ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)﴾
فأتاه بالاسم ونفى الحزن بالفعل؛ لأن متعلق الخوف مستقبل، ومتعلق الحزن ماض والأمور المستقبلة غير متناهية، والأمور الماضية متناهية لانقطاعها.
قوله تعالى: ﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ... (٥٠)﴾
يدخل فيه الماء وغيره.
قوله تعالى: (حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).
ليس المراد التحريم الشرعي؛ لأنها ليست دار تكليف؛ فيتعين أن المراد به المنع؛ أي منع الكافرين منها.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا... (٥١)﴾
قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ... (٥٣)﴾
يحتمل أن يكون إشارة إلى تكذيبهم وأنهم ليس حالتهم حالة من ينتظر المال والعاقبة، وهذا يشمل الشاك للتوهم.
قوله تعالى: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا).
إما للتوزيع، وإما لأنه مقام لَا يشفع فيه إلا الشفعاء لَا الشفيع الواحد.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)﴾
يحتمل أن يكون تهييجا وحقا للمظلوم في أن يدعو على الظالم لأن دعاه في مظنة الاستجابة والقبول فإن الله لَا يحب المعتدين.
قوله تعالى: ﴿بَعْدَ إِصْلَاحِهَا... (٥٦)﴾
تشنيع على من يفعل ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ... (٥٧)﴾
قال: لما تقدمها الأمر بالدعاء والنهي عن الإفساد في الأرض عقبه ببيان الدليل والبرهان على أن الله تعالى هو الفاعل المختار الذي لَا إله غيره، أو يكون إشارة إلى أن الدنيا سبب في الرحمة كما أن الريح الطيب سبب في الرحمة.
قوله تعالى: (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ).
ولم يقل: أرضٍ ميت، والضرر إنما هو لعمار الأرض لَا للأرض.
قوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ... (٥٨)﴾
يحتمل أن يكون مثالا لحال الدعاء فمنه ما يكون من صادق مقال ما منع فهذا يخرج نباته بإذن ربه إشارة إلى قرب الاستجابة، ومنه ما يكون من خبيث غير متصف في مكانه يتذلل ولا خشوع فهذا لَا تحصل له إجابة ولا برجاء؛ فإن قلت: لم قال: (وَالْبَلَدُ) فعبر بالاسم، فقال (وَالَّذِي خَبُثَ) فعبر بالفعل؟ قلت: لأن متعلق الذم على الأعم يستلزم تطبيقه على الأخص فإِذا ثبت الذم على مطلق الخبث فأحرى ما
أحدهما: هذا وأجاب عنه بأن الخبر نص على أن الفعل إنما يطلق على من تناوله الفعل طبعا وغريزة، فمساواة الاسم بهذا الاعتبار في معناه لمعنى الخبيث.
السؤال الثاني: أتى في الثاني بأداة الحصر دون الأول، وأجاب بأن الحصر راجع إما للمشبه أو المشبه به. فإِن الأرض الخبيثة قد تنبت الطيب قليلا؛ فالمراد للمشبه مما لا تنبت إلا خبيثا بالكفر نوع واحد كله مذموم، ولما كان المسلمون نوعين: منهم من أسلم أولا ولم يعاند؛ كأبي بكر، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - والإسلام يجبُّ ما قبله، ومنهم بعد ما أذى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وعاند وكفر، فلم يؤت فيه بالحصر ليعم اللفظ هذين؛ بخلاف الكفر فإِنه نوع واحد كله مذموم، والخبيث في النبات له حالات زمن خروجه، وزمن تمامه، وزمن يبسه؛ فلو قيل: يخرج لكثر التوهم أنه إذا صار إلى حالة التمام يحسن حاله؛ فأتى بالحصر تنبيها على أنه يخرج خروجا لَا يعقبه حسن.
قوله تعالى: ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ... (٥٩)﴾.. ، وفي آية أخرى (فَقَالَ يَا قَوْمِ) محذوف الياء.
قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ... (٦١)﴾
قال ابن عرفة: ابتدأ بلفظة (يَا قَوْمِ) على سبيل الترحم عليهم والتلطف في العبارة استجلابا لهم.
قال الزمخشري: فإِن قلت: قال: (لَيسَ بِي ضَلالَة) فأفرد، ولم يقل: ليس بي ضلال، كما قال تعالى (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
قال: قلت: الضلالة أخص من الضلال، كما لو قيل: لك تمر فتقول ما لي تمرة.
ورده ابن عرفة بأن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم إلا أن يكون تجوز في الأخص وأراد به التعليل القليل، ويرد عليه المثال الذي ذكره.
قوله تعالى: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ).
قيل: إن ما بعد لكن هنا مخالف لما قبلها لأن ما قبلها منفي وما بعدها مثبت، ومتعلق النفي غير متعلق الإثبات، وقيل: موافق؛ لأن نفي الضلالة يستلزم ثبوت
قوله تعالى: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ... (٦٣)﴾
قال الزمخشري: معطوف على مقدر؛ أي أكذبتم وعجبتم.
ابن عرِفة: هو أنه أنكرتم وعجبتم لأن التكذيب يأتي بعده في قوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ).
قوله تعالى: (عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ).
أي: تعلمون صدقه ولا تنكرونه. لأنه من جنسكم.
قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ... (٦٤)﴾
عطفه بالفاء وفي الآية الأخرى بالواو، إما لطول مكث نوح، وإما أنه قال لهم قولا لم يحتج إلى ذكره، أو لم يقل لهم شيئا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ... (٦٦)﴾
التنكير للتعظيم.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ... (٦٧)﴾
التنكير للتقليل.
قوله تعالى: ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨)﴾
عبر هنا بالاسم، وقال في نوح: (وَأَنْصَحُ) فعبر بالفعل؛ لأن نوحا أول رسول بعث في الأرض [فلم يتقدمه رسل*]، أما هود عليه السلام فتقدمه رسل بعثوا إلى قومهم وأهلك من كفر بهم؛ فعاقبة أمر قوم نوح عليه الصلاة السلام وسائر أمرهم مسندة بها إلى نوح عليه السلام خاصة، وكذلك قال: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وعاقبة أمر قوم هود مسندة إلى علمه في علم قومه بما جرى إلى من سبقهم من الأمم مع قومهم لما خالفوهم.
قوله تعالى: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ... (٦٩)﴾
قال ابن عرفة: يحسن أن يقدر هنا أكذبتم وعجبتم، الآية، لم يذكر هنا بعد التكذيب.
قال الزمخشري: إنه مفعول.
ابن عرفة: أو ظرف تقديره واذكروا حالكم إذ جعلكم.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ... (٧٠)﴾
ولم يقولوا: أرسلت إلينا؛ لأنهم ينكرون رسالته فهو احتراس منهم؛ ونظيره قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) برفع أساطير، وقال في المؤمنين (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا).
قوله تعالى: (وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا).
أتوا به مع أنه داخل في الأول إما تشنيعا منهم عليه، أو إشارة إلى مسندهم في عبادتهم وفيه دليل على عدم التقليد في الأمر الباطل.
قوله تعالى: ﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ... (٧١)﴾
أتى بلفظ الرب، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) تنبيها على أنه المنعم عليهم فلا يحل لهم عصيانه، والرجس والغضب بمعنى [وهما*] حسيان؛ فالرجس راجع لعذاب الدنيا؛ والغضب لعذاب الآخرة، ويكون الرجس حسيا راجع للعذاب النازل بهم، والغضب معنويا إلى إرادة الله تعالى ذلك بهم في الأزل؛ فيه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
قوله تعالى: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا).
قال ابن عرفة: في إما للسببية؛ أي ما يسبب فيكون مجازا أو على حقيقتها وهنالك مضاف مقدر؛ أي في حال أسماء فيتعارض المجاز، والإضمار فيه خلاف.
قوله تعالى: (سَمَّيْتُمُوهَا).
إن قلنا: إن الاسم هو المسمى، فظاهر، وإن قلنا: إنه غيره، وأن الاسم هو التسمية فلابد أن يكون على هذا تقدير حذف المجاز، أي: سميتم.
قوله تعالى: (أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم).
مع أن الذي سماها إنما هو آباؤهم هم الذين سموا الوصيلة والبحيرة والسائبة والحام.
قوله تعالى: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا... (٧٤)﴾
ولم يقل: من جبالها؛ لأن الجبال ليست من الأرض.
قوله تعالى: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ).
أي: من دليل فيستفاد منها ذم التقليد، وأجيب بأنهم في محل المجادلة والمخاصمة؛ والمجادل لَا بد له من دليل، بخلاف المقلد فإِنه لَا يجادل.
قوله تعالى: (وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
أي: آخرهم؛ فدل على قطع أولهم من باب أحرى.
قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ).
قال الزمخشري: إن قلت: ما فائدة قوله تعالى: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)؟ فأجاب بأنه تعويض بمن آمن بهم؛ أي ولم يكذبوا، مثل: من آمن بهم.
وأجاب ابن عرفة بثلاثة أوجه: يتناول الآية من لم يحرم بالكذب ولكنه بقي شاكا فهو أيضا غير مؤمن، وإن كان غير مكذب.
الثاني: أن التكذيب يتناول من كذب الرسل وهو مؤمن بالله موحد، وهؤلاء كانوا مشركين بالله، حسبما (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) فأفاد قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا مُؤمِنِينَ) أنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بالله.
الثالث: أن المراد ولم يكونوا قابلين إلى الإيمان فأخر عنهم العذاب حتى آمنوا به؛ لأن قوله: وما كان زيد ليؤمن يدل على نفي قبوله، فدلت الآية بمفهومها على أن من كذب وكان قابلا إلى الإيمان لم يقطع دابره.
قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨)﴾
فجمع الديار مع الصيحة وأفردها مع الرجفة.
قال ابن عرفة: تقدمها الجواب بأن الصيحة إنما تنال قلوبهم [فتحدث*] فيها تقطعا، والرجفة تنال أبدانهم، [وأماكنهم فتزلزل*] الأرض، وهي مسببة؛ فما كانت تنال إلا قلوبهم
قلت: ونقل ابن عبد السلام إلى أنه أجاب بأن الرجفة عقوبة أرضية؛ فنسبت الديار إليها نسبة واحدة، والصيحة عقوبة سماوية فتخص كل دار على حدتها.
وأجاب صاحب درة التنزيل بأن الآية التي جمعت فيها الديار، وذكر فيها نجاة النبي وقومه، ولا شك أنهم كانوا يجتمعون لأجله ليسمعوا قوله، ويختبروا أحواله، فلما ذهب المعنى الذي لأجله كانوا يجتمعون فرقوا في البلاد، فناسب جمع الديار، والآية التي أفردت فيها الرجفة لم يذكر فيها نجاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يزل النبي بين أظهرهم لم يزالوا مجتمعين، فكأنهم في دار واحدة، وعذابهم في ذلك عذاب واحد.
قوله تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ... (٨٠)﴾
قال الزمخشري: وأرسلنا و (إِذ). ظرف لـ أرسلنا، أي واذكر لوطا، أو بدل بمعنى واذكر وقت قال لقومه.
قال ابن عرفة: يريد أنه ظرف كان منسوبا، واذكر مفعولا إن كان بدلا من لوطا. وأورد الطيبي كونه بدلا بأنه يقتضي بأن القول وقع حين الإرسال مع قبله بلا شك، وأجاب بأن وقت القول خير من يوم أو شهر أو عام، وذلك اليوم أو الشهر لجمع الإرسال والقول، قلت: فاعتبر هنا الكل وجعل وقت الإرسال لاجتماعها في وقت آخر يجمع الوقتين، كما أعيد الضمير في قوله (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) على العشية لاجتماعها في يوم واحد يجمعها.
قال ابن عرفة: ويحتمل أن يقال: ليس المراد ابتداء الإرسال فقط؛ لأنه حين القول يسمى مرسلا وقبله وبعده؛ فهو حين يرسل أي دائم الإرسال، قال: لكن يرد على هذا أن قوله: (وَأَرسَلْنَا). هل هو حقيقة في أول أزمنة الإرسال مجاز فيما بعدها أو حقيقة في الجمع؟ وإذا قلنا: إنه مجاز فيكون المجاز فيه من حيث جعلنا لفظ أرسل متناولا زمن القول وما بعده.
وما قال الطيبي: مجاز من حيث جعل زمان القول ظرفا له، والرسالة لاجتماعها في زمن يشتمل عليها؛ فيتعارض المجاز في الفعل وهو إذ.
وقال الأصوليون وغيرهم: إن المجاز في الأسماء أكثر.
قال الزمخشري: هذه جملة مستأنفة.
قال الطيبي: أراد أن هذا ابتداء كلام وليس المراد حقيقة الاستئناف.
ابن عرفة: لأن الاستئناف عند البيانيين هو الواقع جوابا لسؤال مقدر ويبعد أن يكون حالا؛ لأنه تعبير للكلام جملة واحدة، وجعله جملة أبلغ في التأكيد والإطناب.
قوله تعالى: (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ).
قال الزمخشري: من الأولى زائدة لتأكيد النفي، والثانية للتبيين.
قال الطيبي: والثاني بدل من الأول، ورده ابن عرفة. بأن (مِنْ أَحَدٍ) فاعل لـ سبقكم و (مِنَ الْعَالَمِينَ) لَا يصح أن يكون فاعلا؛ لأنه لتبيين نكرة، ولا يكون الاسم الواقع بعد النفي في موضع الفاعل إلا إذا كان نكرة قد دخلت عليه من نحو ما جاء من رجل، أو من أحد.
قال بعض الطلبة: ما قاله أيضا باطل من جهة أن المعنى ما سبقكم بها بعض العالمين؛ فدل بالمفهوم أن فريقا آخر من العالمين سبقهم بها إلا أن يجعل البعض عاما.
وأجاب ابن عرفة بأن المنطقيين، قالوا: إن السالبة الجزئية لها ثلاثة صور: ليس بعض، وبعض ليس، وليس كل، وفرقوا بين بعض ليس وليس بعض. بأن ليس بعض على نوعين: فنقول: ليس بعض إلا ليس عالما؛ فيكون خصوصا حقيقة، وتقول: ليس بعض [الأشياء*] بحجم فيكون خصوصية عاما؛ فانظر هل هذا مما خصوصه عموما أم لَا؟ والظاهر أن خصوصه باق على حقيقته فيلزم المفهوم فلا يصح ما قاله الطيبي.
قوله تعالى: ﴿لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً... (٨١)﴾
الزمخشري: مفعول من أجله أو حال.
ابن عرفة: هو عندي بعد الفريضة فيجري فيه الأوجه الثلاثة، إما مصدر للأول، أو نعت لمصدر من لفظ الأول، أو مصدر لفعل مقدر من لفظه بعد الفرق بين كونه مفعولا من أجله وكونه حالا، فالفرق بين كل شيء علة كاملة، وبين كونه صفة الفاعل، كما يفرق بين الصاحب الغريب وبين من يمتثل أمرك، تقول: فلان يضجر السفهاء، وفلان يمتثل أمر السفهاء؛ فالذم بهذا الثاني أشد؛ فجعله مفعولا من أجله أبلغ من الذم، معناه أنتم ممتثلون أمر شهوتكم وطابعون عليها.
الإضراب للانتقال من الذم، وأخص الأوصاف إلى الذم بأعيانها وهو أبلغ؛ لأن الشاهد بأنه رأى فلان في وقت كذا يشرب الخمر قد يعرض لخبره التكذيب لشاهد آخر يشهد بأنه رآه في ذلك الوقت بعية غير شارب الخمر، والشاهد بأن فلانا فاسق أو شارب خمر بالإطلاق؛ خبره أقرب إلى الصحة.
قوله تعالى: ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ... (٨٥)﴾
إن قلت: لم عبر في الأول بالمصدر وفي الثاني بالاسم؟ فالجواب بثلاثة أوجه:
الأول: أنه من حذف التقابل؛ أي أوفوا الكيل بالمكيال والوزن بالميزان.
الثاني: أن البخس الغالب أن يكون في الكيل والميزان لَا في الوزن.
الثالث: أن الوفاء من جهة المكيال أن يفعل في الكيل لَا في المكيال والوفاء من جهة الميزان أن يكون فيه لَا في الوزن.
قوله تعالى: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ).
أخذ منه بعض الموثقين أن من أحدث حفرة بإزاء دار فإِنه يمنع ولو لم يضر بها لأنه يبخس من ثمنها.
قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
إن كان شرطا في الأمر دل على أن الكفار غير مخاطبين.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ... (٨٦)﴾
إن قلت: لَا يلزم من النهي من الكل النهي عن البعض، قلت: قد تقدم أن ليس كل من أسرار الجزئية السابقة، و (إِنْ) دلالتها على سبيل الحكم من الكل مطابقة، وعن البعض التزام، فإِن قلت: لأي شيء عدل عن الأمثل؟ قلت للتشنيع عليهم، وأنهم كانوا يقعدون بكل صراط يوعدون؛ (وَتَصُدُّونَ): أي توعدون من لَا حكم لكم عليه ولا سلطان، وتصدون من ينقاد لكم [ويطيع*] أمركم، وتبتغون عوجا لمن يطالبكم بالدليل، وتعلمون أن له نظرا واعتبارا وتأملا، وهو إشارة إلى اختلاف حالهم باعتبار من يصدونه ممن لَا علم عنده ولا فطنة يكتفون فيه بالصد والتوعد، ومن له بعض ممارسة يظهرون له اعوجاجا؛ فاصبروا على أن الخطاب للفريقين يكون وعدا للمؤمنين ووعيدا للكافرين، وتكون صيغة أفعل حينئذ مشتركة بين التهديد والإشارة.
قوله تعالى: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا... (٨٨)﴾
قوله تعالى: (أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ).
ولم يقل: مكرهين. لأن الإكراه أعم إذ قد لَا يكون المكره كارها بل راضيا، وهذا قال في الزاني فكره أنه يحد، وهذا مثل ما قال اللخمي في طلاق المكره: أنه يجب عليه أن ينوي أنه لم يطلق، فدل على أنه يكون غير كاره.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢)﴾
ابن عرفة: هذا يسمى قلب النكتة؛ لأنهم قالوا: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ)، فإن قلت: ما جواب القسم؟ قلت: إنكم لخاسرون سد مسد الجوابين.
وتعقبه أبو حيان وتعقبه غير صحيح؛ لجواز أن يكون مراد الزمخشري سد مسدهما أن الشرط وجوابه في موضع جواب القسم.
قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (٩٣)﴾
المراد به الكفر الأخص وهو تكذيبه في تبليغه ونصحه.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا... (٩٤)﴾
تقدم أن الرسول أخص من النبي، وهو المأمور بالتبليغ، والنبي ينزل عليه لكنه لم يؤمر بتبليغ ما ينزل عليه، ووقع في كلام الغزالي: أن الرسول أعم من النبي؛ ذكره في بداية الهداية وصرح به ابن عطية هنا وهو خطأ.
قوله تعالى: (إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا).
حال إلا منتقمين منهم.
قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).
الرجاء بلعل مصروف للمنزل إليه؛ أي ليحصل لنبيهم المرسل إليهم.
قوله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥)﴾
قال ابن عرفة: هذا تأسيس لأن الأخذ بغتة هو الأخذ على غرة وغفلة من غير أن يتيقن لهم علم بالأخذ والشعور وهو مبادئ العلوم، فأفاد أنهم لم يتقدم لهم علم بذلك ولا مبادئ العلم به، فأخذوا من غير علم لهم بالشيء، ولم يقل: بما كانوا يكذبون؛ لأن الكسب أعم، ولتناول الآية سبب تكذيبهم وما نشأ عنه؛ لأن الكسب مشتمل على التكذيب وغيره لأنه يتناول عمل النفس وعمل الجوارح.
قال ابن عرفة: تكلم الطيبي هنا كلاما.
قال ابن عرفة: لم خصص الإتيان بهذين الزمنين دون غيرهما؟ ثم أجاب بأنه من باب قولهم: ضربته الظهر والبطن، ومطرنا السهل والجبل؛ فعبر بالبيات عن زمن سكونهم، وبالضحى عن زمن اجتماعهم فيه؛ لأن أول ظهورهم وبعده يتفرقون في أشغالهم، قلت له: ولم قال: (وَهُم نَائِمُونَ). ؟ فأخبر بالاسم، وقال: (وَهُمْ يَلْعَبُونَ). فأخبر بالفعل، فأجاب بأن الاسم يقتضي الثبوت؛ والنائم ساكن، والفعل يقتضي التجدد؛ واللعب حركة تتجدد شيئا فشيئا.
قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ... (٩٩)﴾
قال الزمخشري: هذا إشعار لأخذ العبد من حيث لَا يشعر.
قال ابن عرفة: الأمر يقتضي أن عنده مضاف إلى الفاعل.
وقال ابن عطية: أمنوا عقوبة مكر الله فراجع للأول وموافق له.
ابن عرفة: ويحتمل عندي أن يكون غيره بأن الإنسان يتذكر حلول البأس والعقوبة في الدنيا، وتارة ينعم عليه في الدنيا فيتذكر الإملاء هنا، قال تعالى (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) فقوله: (مَكرَ اللَّهِ) إشارة إلى الإمهال؛ فإن من أنعم على شخص وأمهله وأقره فقد مكر به، فإن قلت: لم قال (فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللَّهِ)، ولم يقل: فلا يأمن بأسنا؟ فالجواب: أن المكر خسران وحلول البأس بهم غير متيقن؛ منهم من أمنه ليس كمن أمن المكر والإمهال، قلت: ولأن المكر راجع إلى العقوبة الآخرة وعذابها لَا ينقطع والمكر في الدنيا فمن أمن المكر فهو الخاسر حقيقة.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ... (١٠٠)﴾
الزمخشري فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه معطوف على مدلول معنى (أَوَلَمْ يَهْدِ) أي: [يغفلون*] عن الهداية [ونطبع*] على قلوبهم، أو معطوف على (يَرِثُونَ).
قال الزمخشري: ولا يصح عطفه على (أَصَبْنَاهُمْ). على أن يكون نطبع ماضيا في المعنى الأول، ونفيها إيجاب، وإيجابها نفي فيلزم أن يكون الطبع غير واقع، قال: وأجاب صاحب الانتصاف بأن الكفر قسمان: قسم حالي، وكفر دائم، والطبع عبارة عن الكفر الدائم الذي قدر لصاحبه بالممات عليه وهو لأمنهم من آمن؛ فالمراد في حقه الكفر الحالي، وأن الله لم يصبهم فيما سلف بذنوبهم ولا طبع ما آمن منهم أحد.
ورده الطيبي بأن سياق الآية أنهم أهلكوا بدليل توبيخهم وذمهم.
قال ابن عرفة: وهذا لَا ينهض، وإنما الجواب أن الآية [سيقت*] للتوبيخ والوعيد والإنسان ما يخوف ويزجر إلا بما هو مكروه له إذ لَا يحسن أن يقول للنصراني: إن لم تفعل كذلك نسقيك الخمر أو نطعمك الخنزير؛ لأنه يقول هو مرادي، ولا يقول له إذا ادعى عليه أنه يؤمن على ذلك ويفرح [... ].
وقال لي بعض الطلبة: وتقدم أن المقدم إن كان أخص من التالي لاستثناء نقيض التالي أنتج عين المقدم، واستثناء عين المقدم ينتج عين التالي، نحو: لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان، أو يقال: لكنه إنسان فهو حيوان وإن كانا متساويين أنتج أربع مطالب فاستثناء عين المقدم أو نقيضه، نحو: كلما كانت الشمس طالعة فإِن النهار موجودا.
قوله تعالى: (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ).
الزواجر والمواعظ الواقعة على ألسنة الرسل إليهم.
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا... (١٠١)﴾
قال الزمخشري: يصح أن تكون (الْقُرَى) خبرا، و (نَقُصُّ عَلَيكَ) حالا، أو تكون (الْقُرَى) نعتا، و (نَقُصُّ) خبرا، أو تكون (الْقُرَى) خبرا، و (نَقُصُّ) خبرا بعد خبر، قلت: لَا يصح الأول؛ لأن الحال لَا يأتي إلا بعد تمام الكلام وهو هنا لم تحصل الفائدة إلا بها، فقال: خبر المبتدأ لَا يتم إلا بصفته، والحال من صفته على
وأجاب الطيبي: بأنه يستقل بالمجموع لكن لَا يتم هذا إلا على اشتراط ابن عصفور كون الخبرين في معنى خبر واجد، نحو: هذا حلو حامض، ولا يأتي هنا.
قال ابن عرفة: بل يصح هنا، ونقول: التقدير تلك الأمور المخبر عنها وعن أنبائها.
قوله تعالى: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢)﴾
قلت: هذا في اللام الفارقة، وإنما تدخل على خبر إن؛ وهنا دخلت على خبر المبتدأ وهو خبر من خبر إن.
قوله تعالى: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ).
فإِن قلت: لم أتى بالجملة الثانية معطوفة مع أنها مفسرة للأولى؟ قلت: لأن القصص لم تقع بكل الأشياء بل ببعضها، فالعطف دال ومؤذن بمعطوف عليه لم يذكر.
قوله تعالى: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ).
إما أن تكون بمعنى الصائرين إلى الكفر، كما قال الزمخشري: قوله تعالى: (لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) تحصيل الحاصل، أو على حاله، ويراد بالطبع طبع خاص.
قوله تعالى: قيل هذا (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ).
ولم يقل: لَا يعقلون؟؛ لأن المراد هنا السمع النافع لَا مطلق السمع.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى... (١٠٣)﴾.. لم يأت لفظ (بعثنا) إلا مقيدا بقوله تعالى: (بَعدِهِم) وذلك للتبيين أن المبعوث من جنس الرسل (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ولم يقل: الظالمين. ليشملهم وغيرهم ممن تقدم ذكره.
قوله تعالى: ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ... (١٠٥)﴾
قال الزمخشري: في القراءة المشهورة إشكال ولا يخلو من وجوه: أحدها: أن يكون مما [لأمن الإلباس*]، كقوله:
[وَتَشْقَى*] الرّماحَ بالضيّاطِرَةِ الحُمر......................
أي [وَتَشْقَى*] بالضياطرة الحمر بالرماح
ورده ابن عرفة بالواجب [المخير*]؛ إذ لو كان كذلك لما وجد في الدنيا واجب [مخير*] أصلا.
قوله تعالى: (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
ولم يقل: فابعث معي؛ لأن أرسل قد وجد منه رسول ومرسل ولم يشتق من بعث شيء.
قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)﴾
دليل على خبثه؛ حيث أتى بـ إن المقتضية للشك وصيرورة ما دخل عليه في خبر المحال بخلاف إذا لأن وقوعه عنده غير محقق، وتنكير آية للتعليل أو للعموم، فإن قلت: لم قال: (إِنْ كُنْتَ)، ولم يقل: إن جئت؟ قلت: هذا أبلغ في النفي؛ لأنه أعم، وقد تقرر أن قولك: ليس هذا بحيوان، أبلغ من قولك: ليس هذا بإنسان، فإن قلت: لم قال: (مِنَ الصَّادِقِينَ) مع أنه أخص من قوله: إن كنت صادقا؟ قلت: الجواب كالجواب في قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ) أو عام، أما إذا علقنا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، بقوله: (فَأْتِ) كان فيه ما يدل على أن الصدق يكون في الأقوال والأفعال، إلا أن يكون قوله: (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي: في دعوى الرسالة في يجيئك بالآية، والظاهر أن موسى عليه الصلاة السلام أتى بالمطلوب وزيادة؛ لأنه إنما طلب منه آية واحدة وفيه أن الشيء يستدل عليه بدليلين.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (١٠٧)﴾
تقدم لابن عرفة فيها ما نصه: أي ظاهر قاله الزمخشري.
وقال الفخر: إنه إشارة إلى مذهب أهل السنة. لأنهم يقولون: إن الأجسام متساوية في الحقيقة فلا فرق بين الحمار والإنسان؛ لأن كلا منهما جسم متحيز عندهم، فيجوز عندهم أن يرد الله تعالى الحمار إنسانا أو ثعبانا حقيقة.
وقال المعتزلة والحكماء: إن الأجسام متباينة، ونسبة أحدهما إلى الآخر كنسبة الجوهر إلى العرض؛ إذ لَا يصح عندهم صيرورة الجوهر عرضا ولا العكس، قالوا: فكذلك الأجسام؛ فلا يجوز عندهم أن تصير العصا ثعبانا، وأيضا فهي تخييلات، فقوله: (مُبِين). إن التشكيك على قسمين: تشكيك في الأمور الضرورية، وتشكيك في النظريات فإنه تشكيك في الأمور البديهة لَا يصح لأنه إبطال لما علم ثبوته
قوله تعالى: ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)﴾
أي: لمن ينظر إليها ويتناقلها؛ لأن من لَا ينظر ولا يتأمل في الشيء قد تظنه بحمرة أو بسواد؛ ألا ترى أن البصر يغلط في السراب فيظنه ماء.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ... (١١١)﴾
نقل أبو حيان أن (وَأَخَاهُ) مفعول معه، ورده بأنه يلزم عليه أن يكون موسى تابعا لهارون.
قال بعضهم: هو المناسب لهذه المادة؛ لأن إرجاء هارون أخف من إرجاء موسى، والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)﴾
هذا أبلغ، من لو قيل: يأتوك بكل سحَّار عليم؛ لأنهم إذا أتوا بالساحر فأحرى أن يأتوا بالسحار؛ لأنه يلزم من أمرهم بالإتيان بالسحار بخلاف العكس، ووقع التأكيد في قولهم (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ). حسب التصور والتصديق، فالتصور بأن واللام، والتصديق بعليم، وكان بعضهم يقول في قول الشاطبي: [وَعى نَفَرٌ أَرْجِئْهُ... *] البيت.. أنه يوهم أن قراءة الباقين بالهمز غير ساكن، وجوابه: أن القراءة دخلت عليه الياء وهو الهمز.
قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (١١٣)﴾
ابن عرفة: هذا قاله إنسان منهم لموسى ولفرعون؛ فلموسى من حيث إتيانهم بـ إن دون إذا إشارة إلى أنهم ليسوا على وثوق من [غلبهم لموسى *]، وإنصافهم لفرعون من حيث التأكيد بالضمير وتعريف الخبر منه فما يأخذون منه الأجر إلا إذا غلبوا غلبة بينة.
قوله تعالى: ﴿إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥)﴾
الظاهر أنها مانعة خلو.
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلْقُوا... (١١٦)﴾
قوله تعالى: (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ).
إن قلت: المناسب الفاء؛ لأن الاسترهاب سبب عن سحر أعين النَّاس، قلت: إنما يفتقر إلى الفاء فيها سببية غير ظاهرة.
قال ابن عرفة: وفي قولهم: (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أي: [لن نترك موسى يبتدئ بالإلقاء]، [ولما فهم*] (١) ذلك عنهم موسى، قال لهم ألقوا، قال: وانظر هل القضية مانعة الجمع أو مانعة الخلو، والظاهر أنها مانعة الخلو فلا يخلو المخلي على أن يلقي هو قبلهم أو يلقون هم قبله، ويحتمل أن يقع منهم الإلقاء جميعا في زمن واحد.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧)﴾
يحتمل أن يكون من الموحَى وإخبار عن حال العصا.
قوله تعالى: (مَا يَأفِكُونَ).
أي ما أفكوا، كقوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) للتصويرِ، أو على بابه إن جعلنا فإذا هي من تمام الموحَى، كقوله تعالى: في الآية الأخرى (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا).
قوله تعالى: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)﴾
هذا يدل على أن الإضافة [يعتبر*] فيها حال المضاف إليه، وإلا لما تخلصوا من الدعوى. لأن فرعون قد يقول: أنا رب موسى وهارون؛ فالمعنى ذلك الرب الذي يدعيه موسى وهارون ربا.
قوله تعالى: ﴿آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ... (١٢٣)﴾
قيل: إنه لم يقع إذن منه لهم قبل ولا بعد، فهذا يدل على أن مثل قولك: كان كذا قبل كذا لا يقتضي وقوع الثاني، ولذلك كان ابن عبد السلام ينتقد على الطاعنين في قوله: ويؤمر الجنب بالوضوء قبل الغسل، فإِن أخره بعد ذلك أجزأه؛ وهذا يقتضي أنه لا يتوضأ قبل الغسل إذ لَا فائدة في الوضوء بعد الغسل، ونظيره قوله تعالى: (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي).
"وقولهم وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل، وقد سوّغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي، وأنّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً". اهـ (الكشاف. ٢/ ١٤٠).
ولم يقل: لما ظهرت لنا؛ لأن مجيئها لهم لم يستلزم ظهورها لهم لأجل مجيئها إليهم مع أنها جاءت لهم ولغيرهم؛ لكن تخصيص نسبة مجيئها إليهم على أن المراد مجيء وقع لهم وإفادة وظهور.
قوله تعالى: ﴿وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ... (١٢٧)﴾
يؤخذ منه عدم التعزية في النساء، كما قال عمر بن عبد العزيز في كتاب الجنائز: لأن ظاهر الآية أن إحياءهم عذاب ونقمة؛ يدل عليه أن موتهن رحمة ونعمة؛ ورد بأن إحيائهن دون رجال عذاب، كما أن إحياء الرجال دون النساء عذاب.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا... (١٢٩)﴾
جعله ابن عطية ضجرا منهم، وجعله الزمخشري طرديا، فكأنهم يقولون: مجيئك لنا وصف طردي، لم يفدنا شيئا، وهذا كفر.
ابن عرفة: والصواب غير هذا، وهو أنهم قصدوا الاعتراف باتصافهم بالصبر مطلقا، ومساواة حالهم في ذلك قبل مجيئهم كحالهم بعد مجيئه، وأخبروا أن شأنهم وديدنهم الصبر.
قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠)﴾
كان بعضهم يقول: يؤخذ من هذا أن المصائب والآلام النازلة بالإنسان نعمة ورحمة في حقه لأن نالها التذكير وهو يصبر على مرارته فيعقبه صحة وعافية.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ... (١٣١)﴾
قال ابن عرفة: أتي في الحسنة بإذا وعرفها وجعل فعلها ماضيا بلفظ جاء، وأتى في السيئة بإن وذكره ونكرها وجعل فعلها مستقبلا، فقال تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) إشارة إلى أنهم لَا يعتبرون إلا الحسنة الثابتة المحققة وأنهم يتطيرون بأدنى سيئة وأقلها ولو لم تكن محققة.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ... (١٣٢)﴾
قال ابن عرفة: لفظة ما لَا يقتضي التكرار بذاتها.
قال ابن مالك: قوله تعالى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) هذا ما توصل منهم بذلك، أو طلبوا منه أن يدعو متوسلا لربه بما عهد عنده [وأقسموا] بذلك على [أن*] يؤمنوا
قال: والآية في المعجزة الخارقة للعادة وأطلقوا عليها آية باعتبار اعتقاد موسى فيها وهي ليست عندهم آية.
قوله تعالى: ﴿آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ... (١٣٣)﴾
ذكروا في إسناده وجهين متعاقبين ولا مانع لاجتماعهما.
قوله تعالى: (وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ).
أي: كانوا على إجرامهم واستكبارهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ... (١٣٤)﴾
عبر بلفظ (وَقَعَ) إشارة إلى ثقل الأمر النازل بهم وشدته.
قال ابن عطية: والظاهر أن المراد بالرجز العذاب [... ].
ما قاله أبو حيان في قوله تعالى: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ) من أن لما تقتضي تعلق ما دخلت بأوائل الأمر فقط [... ] [بالرجز آحاد ما عذبوا به لَا مجموعه فيراد به أولا ما نزل بهم من ذلك].
قوله تعالى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ).
ابن عرفة: فعلى الأول: يتعلق بقالوا، وعلى الثاني: (ادع) فتكون المسألة من باب الأعمال، وعلى الثالث: يتعلق بمقدر؛ أي علقوا بما عدد عنده.
قوله تعالى: (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
لقوله: (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [ولو وافقتم في الحكم لما أتوا بقولهم: (مَعَكَ)].
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥)﴾
قالوا: الكشف متعلق بالأجل؛ أي: كشفناه مغيا كشفه بغاية إذا بلغوها [هلكوا].
قوله تعالى: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ... (١٣٦)﴾
أي: فأردنا الانتقام منهم فأغرقناهم؛ والمراد انتقمنا منهم بأنواع العذاب المتقدمة فأغرقناهم بعد ذلك في اليم، أو يكون العطف تفسيريا، كما قال ابن رشد في المقدمات في قوله تعالى: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) فإِن تذكر الإنسان ما أنعم الله وما أعد له من الحسنات وما يناله من السيئة فإنه ينزجر عما هو عليه من المعاصي.
قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا... (١٣٧)﴾
سماه ميراثا ولم يسمه إعطاء؛ لأنهم قالوه بعد موت القبط وكذلك هو الميراث، ولأنهم نالوه بغير سبب لهم ولا للقبط، فيه خلاف الإعطاء فإنهم ينالون ما أخذ بسبب وما أخذ من غير سبب.
قال ابن عرفة: إذا قلنا: فلان ضعيف؛ فهو ضعيف في نفسه، وإذا قلت: فلان متضعف؛ فهو محتقر أعم من أن يكون في نفسه ضعيفا أو قويا، واحتقر؛ لأنه ليس له قرابة ولا أصدقاء يحمونه.
قوله تعالى: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ).
يقتضي ذهاب كل ما صنعوا وعدم بقائه.
قوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا)
يقتضي البقاء، قلت: يحتمل أدط يكون المعنى دمرنا كل ما صنع من استخدام بني إسرائيل واستضعافهم.
قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى).
فيه رد على ابن التلمساني في قوله في أول شرح المعالم الفقهية: إن لفظ التمام يشعر بالتركيب، ولأن كلمة الله غير مركبة؛ إذ ليس بحرف ولا صوت، وأجيب بأن المراد العبارة عن الكلمة لَا معنى الكلمة باللفظ؛ والمعنى غير مركب، وأورد عليه أنه تقدم في قولهم (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا).
وتقدم لابن عطية أنه على سبيل التضجر، فأين الصبر هنا؟ وأجاب ابن عرفة بوجهين:
وتقدم لابن عرفة مرة أخرى قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) يحتمل أن يكون من كلام الله؟ يعني داخلا في الأمر فيكون من جملة الموحى به، ويحتمل أن يكون خبرا عما وقع في الوجود؛ أي: فألقاها فإِذا هي تلقف، والظاهر الأول لقوله تعالى: في سورة طه (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا).
قوله تعالى: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨)﴾
مع أن وقع الحق يقتضي ما عداه، فالجواب: أن المراد وقع الشعور بالحق والشعور بالحق لَا يستلزم بطلان ما عداه بل قد يكون ما سواه مرجوحا غير باطل [... ] فيكون الواقع هو الراجح، لقوله تعالى: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢). احتراس؛ لأن فرعون كان يقول: هو ربهم.
قوله تعالى: (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ).
دليل على أن من قال: جاء زيد قبل عمرو أنه لَا يلزم منه مجيء عمرو لعله لم يجيء البتة؛ لأن فرعون لم يأذن لهم أولا ولا آخرا.
قوله تعالى: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا) [... ].
قوله تعالى: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا).
المجاز إما في: (أَفْرِغْ)، أو في (صَبْرًا)، المعنى إما هيئ لنا صبرا، أو أفرغ علينا صبرا ما.
قوله تعالى: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ).
قال ابن عرفة: اللام للصيرورة، وهو المناسب لمقالتهم؛ فالمعنى أتذرهم [ليصلحوا*]، قال: أمرتهم [بالفساد*] في الأرض.
أي جوزنا.
قال أبو حيان: وهو من باب فاعل بمعنى فعل. لأن أصل فعل إنما يقتضي تكليف الفعل؛ وصعوبته تارة بكون النسبة إلى الفاعل وهو مستحيل هنا، وتارة يكون بالنسبة إلى المفعول، وهو المراد هنا.
قوله تعالى: (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ).
قال ابن عرفة: ما الفائدة في قوله: (لَهُم). ؟ قال: عادتهم يجيبون بأنه زيادة تشنيع وتنبيه على جهلهم وغوايتهم في عبادتهم ما هو ملك لهم عليهم أشد، ويؤخذ من الآية أن [تغيير*] المنكر خاص بمن أرسل إليه المغير؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام لم يغير على القوة بالآخرين وهم الكنعانيون.
قال الزمخشري: وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يهوديا قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه، قال: وأنتم قلتم: اجعل لنا إلها ولم تجف أقدامكم من اليم.
قال ابن عرفة: جدلي وهو من باب مقابلة الفاسد بالفاسد فلا ينتج غرضا بوجه؛ إذ لَا تبطل حجة الخصم لكنهم لغوايتهم يكفي فيه هذا الجواب، قال: والجواب البرهاني الحقيقي أن يقال: جادلتم أنتم بالباطل وكفرتم ونحن إنما قصدنا الحوطة على ديننا فكذلك اختلفنا فيمن يكون إماما بعد نبينا حوطة على ديننا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ... (١٣٩)﴾
قال ابن عرفة: دلت الآية على إبطال فعلهم وهلاكه بالمطابقة، وعلى إبطال الفعل وهلاكه باللزوم؛ لأنه إذا دمر فعلهم فقد دمرهم.
قوله تعالى: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا... (١٤٠)﴾
أعاد لفظة قال مع أنه من كلام موسى لما بين المقالتين من البون والاختلاف، فالأول راجع إلى الاستدلال على بطلانه، قال: واستدل على بطلانه بالخطابة لأنهم عوام يكفي فيهم الاستدلال بمجرد تفضيلهم على العالمين؛ ولذلك لم يستدل على ذلك بدلالة التمانع التي هي عقلية.
قوله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً... (١٤٢)﴾
إن قلت: لم عبر بالليالي دون الأيام.
قال الفخر: إن قلت: لَا فائدة لقوله (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)؛ لأن ما قبلها ينفى عنه؛ فالجواب: أن العشرة لَا تحتمل أن تكون من الثلاثين، أي: أتممنا الثلاثين بعشرة، فالكلام محتمل هنا كملت الثلاثون بعشر من جنسها أو من غير جنسها، فقال: قال: أتممنا احتمل كون العشرة داخلة في الثلاثين.
الجواب الثاني: أن العشر يحتمل أن تكون ساعات، وهذا لَا يصح؛ لأن تمييز العدد لَا يحذف إلا لدليل.
الجواب الثالث: أن معنى قوله (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ) فثبت ووقع واستقر؛ فهو إشارة إلى أن موسى فعله ووفاء به؛ لأن الكلام كان محتملا هل وفاء بالعهد أم لَا؟.
قوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي).
قال ابن عرفة: يؤخذ من الآية جواز الوكالة إن قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، كما قالوا في قوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ).
قال ابن الخطيب: لَا يصح أن يكون الاستثناء به في النبوة.
وقال ابن عرفة: بل يصح عقلا وشرعا؛ لأن مذهب مالك - رحمه الله - جواز توكيل أحد الوصيين لشريكه في الإيصاء بأن يجعل ما بيده تحت يد شريكه، قال: ويؤخذ من الآية انعقاد الوكالة بقوله: كن وكيلي وهي دائرة بين أمرين:
فقال في المدونة: زوجني ابنتك بكذا، فقال: قد فعلت، فقال: لَا أرضى أنه يلزمه النكاح ولا مقال له، وكذلك إذا قالت له: بما يعني بكذا، فقال: قد فعلت، فقالت: لَا أرضى أنه يلزمها الخلع ولا مقال لها، فوجه الأول أن [هزل*] النكاح جد.
الثاني: أنها دخلت في عهدة الطلاق، وقال: إذا قال له: بعني سلعتك، فقال: قد فعلت فقال: لَا أرضى أنه يلزمه ويحلف على ذلك. ذكرها في كتاب بيع الغرر من التهذيب؛ [فانظر هل له حق الوكالة بالبيع أو النكاح*].
قوله تعالى: (وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).
ابن عرفة: يؤخذ أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، وإلا كان يكون.
قوله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعْ).
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا... (١٤٣)﴾
أي: للوقت الذي وعد به.
قوله تعالى: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).
أي: أزال الحجب المانعة من سماع الكلام القديم الأزلي فسمعه، أو خلق له سمعا هو ولهذا أدركه الكلام القديم.
قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). إن قلت: النظر هو الرؤية؛ فكيف قال أرني أنظر إليك؟ قلت: أجيب بالنظر مطاوع، وأرني هو الفعل الأول، كقولك: أخرجني لمخرج، وأدخلني لمدخل.
قوله تعالى: (جَعَلَهُ دَكًّا).
قال الفقيه أبو القاسم بن أحمد الغبريني: أخذ بعضهم من هذا أن جميع الأفعال لله تعالى، ورده بأن هذا جبل جماد ولا يكون منه فعل؛ فلذلك أسند الفعل معه، بدليل قوله تعالى: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) فأسند الفعل لموسى، وأجاب الغبريني: بأن خرَّ مطاوع، يقول آخر: صير وهو في الثلاثي مقيس ويجوز كيف ما كان أخرجته فخرج، وإذا كان كذلك فالفعل لله.
وتحامل الزمخشري هنا وأساء الأدب على أهل السنة وأنكر الرؤية، ثم قال: ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنها من منصوبات [أشياخهم *]، والقول: ما قال بعض العدلية فيهم: [لجماعة سموا هواهم سنّة... وجماعة حمر لعمري موكفه قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا... شنع الورى فتستّروا بالبلكفه*] أي: تستروا بقولهم بلا كيف.
قال الطيبي: فأجابه بعض أهل السنة بقوله: [عجبًا*] لقوم ظالمين تلقبوا بالعدل ما فيهم لعمري معرفة قد جاءهم من حيث لَا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفة.
وأجاب الشيخ أبو علي عمر بن محمد بن مطيل السكوني الأصولي: [سميت جهلا صدر أمة أحمد... وذوي البصائر بالحمير الموكفة وزعمت أن قد شبهوه بخلقه... وتخونوا فتستروا بالبلكفة ونطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى... فهو في الْهُويبك في المهاوي المتلفة أترى الكليم أتى بجهل ما أتى... وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفة*].
وأجاب القاضي الفقيه أبو علي بن عبد الرفيع، بقوله: جورية وتلقبت عدلية... وعن الصواب عدولها للسفسفة نفوا الصفات وعطلوا وتمجسوا... ويكابرون وشأنهم خلق السفه*].
وأجاب الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن مرزوق [وجماعة عرفت لعمري بالسفه... وتمسكت بضلال أهل الفلسفة عدلت عن النهج القويم فلقبت... عدلية وعدولها عن معرفة ضلت وقالت لن يرى رب الورى... يوم الجزاء فألزمت نفي الصفة وكم من زلة زلت وكم... من مذهب ذهبت به في متلفة وكذلك أسلمت الأمور لنفسها... هيهات تنقذ نفسها من متلفة كيف السبيل لصرفهم عن غيهم... والعدل هل يمنع صرفهم والمعرفة*].
وأجاب شيخنا العالم أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة [لحثالة سموا عماهم معْدَلا... وحثالة حُمُرٌ لكي وقفه قد شبهوه بالمحال فعطلوا... وتستروا بالذات عن نفي الصفة الحثالة ما لَا خبر فيه، وعماهم في الدنيا؛ لمخالفتهم الحق، وفي الآخرة لأنهم لَا يرونه على مذهبهم الفاسد، وحمر جمع حمار، [وقوله "لكي وقفه" أي وقفت لتكوى، بخلاف الحمار الموكي*]، [وقوله: "قد شبهوه بالمحال"؛ لأن نفي الرؤية عنهم، يستلزم كونه محالا، لأن كل موجود يجوز أن يرى*].
قال ابن عرفة: والنظر [عين*] الرؤية فالنظر تحديق الحدقة ونحو المنظور [... ] لا تقول: نظرت فلم أره، والرؤية إنما تصدق عند المشاهدة، فالمعنى مكني عن الرؤية لا نظر قارئ، والمعتزلة ينكرونه في الدنيا عقلا ونحن نجيزها في الدارين [لكن نقول: لا تقع إلا في الآخرة*]، ووجه الجواز عند المتقدمين كإمام الحرمين أن كل موجود فرؤيته ممكنة لذاته، ولا يستلزم عليه ما قال المعتزلة من أن الرؤية تقتضي كون المرئي في مكان والله تعالى يستحيل عليه المكان؛ فإِن ذلك من لوازم المرئي لَا من لوازم الرؤية وهذا أن المرئي لَا يكون إلا في مكان؛ لأن المكان من ضرورياته لَا في زمن الرؤية، ولا في غيره؛ فلهذا كان المرئي لَا يرى إلا في مكان فالله تعالى يستحيل عليه
وقوله تعالى: (لَنْ تَرَانِي).
استدل به الزمخشري مطلقا؛ لأن (لن) عنده للنفي الدائم، ونحن نقول: لنفي غير دائم.
قوله تعالى: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ).
فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي
دليلِ على الرؤية ممكنة؛ لأن استقرار الجبل في مكان [ممكن عقلا*]، وقد علق عليه (فَسَوْفَ تَرَانِي) فدل على مكان الرؤية إذ لَا يصح تعلق المستحيل على الممكن، فلا تقول: إن جئتني فأنا أجمع بين النقيضين.
قوله تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا).
ابن عرفة: المعتزلة ينفون الرؤية ويشترطون البينة وهي البلة والرطوبة المزاجية وكان الجهلة تظن أن البينة هي الشكل الخاص؛ فإِما أن يكون خلق في الجبل حياة وإدراكا؛ فلما ناله التجلي صار دكا أو صيره الله تعالى حينئذ دكا.
قوله تعالى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي... (١٤٤)﴾
المراد ناس زمانه، واصطفاه عليهم بالمجموع، وإلا فقد أرسل إليهم أنبياء كثيرين.
وكان بعضهم يقول: يؤخذ من الآية أن الكلام يتعلق بنفسه؛ لأن جملة الكلام الذي اصطفاه ربه.
قوله تعالى: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ).
قيل له: هذا إن ثبت أنه قاله لموسى عليه السلام مباشرة، فقال: هو ظاهر الآية.
قوله تعالى: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ).
ظاهر الآية ينتج تحصيل الحاصل. فإن الاصطفاء والكلام قد أوتيهما وأخذهما فكيف يقول: خذ ما آتيتك؟ قالوا: والجواب من وجهين:
إما بالتجوز في لفظ خذ؛ فيكون بمعنى اقنع بما آتيتك ولا تطلب أكثر منه، وإما أن تكون آتيتك ماضيا بمعنى المستقبل أي: ما يأتيك من الوحي.
قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ... (١٤٥)﴾
قوله تعالى: (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ).
أخذوا منه أنه ينبغي للرسول أن يقدم الموعظة والتذكير على التكليف بالشرائع والأحكام.
قالوا: وفي الآية رد على ما قاله مالك رحمه الله في العتبية: من أنه يكره أن يكتب القرآن في الأجزاء، وقال: نجمعه وأنتم تفرقونه. فقد نزلت التوراة مفرقة في الألواح، فإن قلت: هذا استدلال بقول الله فهو ممنوع عند الأصوليين، قلنا: قد استدل به مالك في قياسه حد اللواطة على حد الزنا.
قوله تعالى: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ).
أي: بعزيمة واجتهاد.
قوله تعالى: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا).
تقدم استشكالا قبل هذا، وأنه يلزم عليه في الخبر؛ لأن معناه: أن يأمرهم يأخذوا بأحسنها، وقد أمرهم ولم يعطه جميعهم بل بعضهم.
وتقدم جواب ثان لابن عصفور في شرح الجمل الكبير في باب ما يتحرم من الجوابات، في قوله تعالى: (قُل لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) أجاب عنه بأن لفظ العباد لَا يتناول إلا الصالحين الممتثلين للأمر.
ورده ابن الصائغ بأن هذا خاص بتلك الآية فقط فلا يتم له في غيرها، قال: وإنَّمَا الجواب بأن في الآية حذفا، أي: قل لهم يقيموا الصلاة أو يعاقبوا، وكذلك هنا التقدير وأمر قومك. يأخذوا بأحسنها أو يعاقبوا.
قلت: وأجاب بعضهم بأنه في معنى الآية، فقوله (وَأْمُرْ قَوْمَكَ) بمعنى قل لقومك، وقوله (يَأْخُذُوا) بمعنى خذوا؛ أي: قل لقومك يأخذوا بأحسنها.
قال ابن عرفة: وقوله (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا).
تقدم استشكال مثله في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) إنه يلزم بالمفهوم ألا يتقبل عنهم [ما*] هو دونه في الحسن؛
قوله تعالى: (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ).
يحتمل أن يريد يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ... (١٤٦)﴾
أي: سأخلق في قلوبهم شيئا يمنعهم من الإيمان بها، متخذا مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة؛ سأمنعهم الألطاف والأسباب المحصلة للإيمان بها.
قال: وهو على سبيل التحذير لهم والتخويف، قال: والتحذير بذكر ما يتوقع منها أبلغ وأقرب لمكان التحصين، كما نقول: لَا تمش هذه الطريق فإنها مخوفة، وتقول لآخر: لَا تمش من هذه الطريق فإن مشيت منها تجد فيها طريقين؛ أحدهما وهي اليسرى مخلوقة فهذا أقرب للتخويف من الأول، وكذلك هذا لما أمر؛ وقيل له: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) أتى عندنا على سبيل التحذير لقومه من سبيل هؤلاء؛ لأنه لما قيل له: وأمر قومك تعلق قلبه بإيمان جميعهم، فقيل له: فيهم من لَا يؤمن بك فلا تتهالك عليهم وكن على بصيرة من ذلك.
قوله تعالى: (عَنْ آيَاتِيَ).
قال ابن عطية: أي: عن الإيمان بالوحي وما في الكتب المنزلة.
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
قال ابن عرفة: التكبر في الأرض قسمان:
تكبر بالحق، وقد يكون واجبا أو مباحا كمن يكون إذلالك له لم يوجب أن يحملك على ارتكاب معصية من شرب الخمر أو الزنا وتكبر بغير الحق.
وقال الزمخشري: سأصرف عن الطعن في آياتي.
فقال الطيبي: إنما قال عن الطعن؛ لأن مذهبه أن اللَّه لَا يخلق الشر؛ ولذلك تأول بالطعن.
وأورد عليه ابن المنير أن الطعن في الآيات محال عقلا لَا يقع بوجه، والصرف يقضي إمكان وقوعه فعلا وهو غير ممكن بوجه.
فالأول: [الصرف عن الآيات بها تصديقا*].
والثاني: [تصورا*]، وهو قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) أي: لا يتصورون طريق الإيمان بها؛ فهذا الصرف عن تصور طريق الإيمان بها.
والثالث: [الصرف عن*] الإيمان بها تقليدا.
قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
في ظاهره تعليل الشيء بنفسه، وقد ذكر الأصوليون أن العلة غير المعلول؛ إلا أن يقال: المراد بهذه الآيات المعجزات، والأول الآيات المنزلة على الرسل.
قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى... (١٤٨)﴾
[قال أبو حيان: أصله [اأتخذ*].
قال ابن عرفة: أصله [اأتخذ*]؛ لأنه من أخذ فأبدلت الهمزة تاء وأدغمت التاء في التاء ولفظ القوم يدخل فيهم هارون، فإن قلنا: إن أشراف النَّاس لَا يدخلون في مسمى القوم، فنقول: هو عام باق عمومه، وإن قلنا: إنهم يدخلون فيكون عاما مخصوصا بهارون.
قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِهِ).
دليل على مبادرتهم بذلك في أول أزمنة البعدية.
قوله تعالى: (مِنْ حُلِيِّهِمْ).
الإضافة إما بمعنى الملك، أو إضافة ملابسة، فهو مملوك لهم، إما تنقلا بمعنى أنهم [أخذوه حكما في غنيمة*] القتال، أو ورثوه عنهم، وإما ملابسة لأنهم لما استعاروه من [القبط*] صار كأنه لهم، والاتخاذ إما [فعلي أو معنوي*]، فإن كان فعليا [فما فعله غير*]
قوله تعالى: (جَسَدًا).
قالوا: أفاد الوصف به أنه لَا روح فيه، وقيل: إثارة إلى أنه لَا رأس له.
ورده ابن عرفة بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلنَاهُم جَسَدًا لَا يَأكُلُونَ الطعَامَ) قال: وعندي أنه أفاد التبكيت عليهم من أنهم عبدوا من لَا يستحق العبودية؛ لأن الإله منزه عن الجسمية والتحيز.
قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا).
ابن عرفة: أخذوا منه إثبات صفة الكلام لله تعالى.
قوله تعالى: (وَلَا يَهْدِيهِم سَبِيلًا).
يتضمن العلم والقدرة والإرادة، وكان بعضهم يستشكل الآية، ويقول: ظاهرها أن وجود الكلام وهداية السبيل علامة على الألوهية، وهذا المعنى ثابت في الرسل فيلزم أن كل واحد منهم إلها.
وأجيب بأنه استدلال بنفي الإلزام على نفي الملزوم، ولأن من لوازم الإله أن يكون متكلما هاديا السبيل، فإذا انتفى هذا اللازم من الشيء انتفى عنه ملزومه وهو الألوهية؛ فيلزم من نفي اللازم نفي الملزوم ولا يلزم من ثبوته ثبوته.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن الآية دلت على أن عدم الكلام نفي الملزوم وهو عدم الكلام وعدم الهداية؛ لأنه إذا انتقى عدم الألوهية ثبتت الألوهية؛ فكل من ثبتت له الألوهية ثبت له الكلام والهداية، ولا يلزم من نفي الملزوم نفي اللازم؛ لأنه لا يلزم من نفي عدم الكلام نفي عدم الألوهية؛ أي: لَا يلزم من ثبوث الكلام ثبوت الألوهية.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا... (١٥٠)﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يوردون في هذه الآية استشكالين:
أحدهما: أن حكم الحاكم من باب تغيير المنكر حسبما ذكره الشيخ عز الدين، فيقال: الحاكم إذا عرض له طريقان قريبة وبعيدة أنه ينبغي له أن يسلك القريبة ويترك
أحدهما: الأول: أن ذلك في غير النبي، وأما النبي فهو معصوم، والخطأ والتجاوز في حكمه فلا يؤثر فيه الغضب حسبما ذكر نحوه عياض في آخر الأجوبة عن حديث الزبير في شراج الحرة حين غضب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال: " [اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ*].
الثاني: أن حكم الحاكم أخص من تغيير المنكر؛ لأن حكم الحاكم لَا يقع إلا ممن هو معين لذلك، وتغيير المنكر يقع في سائر النَّاس؛ كما يلزم من اشتراط السلامة من الغضب والشواكل في حكم الحاكم اشتراطه في تغيير المنكر على هذا؛ فيعم ذلك جميع النَّاس من الفسقة وغيرهم.
الإشكال الثاني: أن الإنكار إن وقع على أمر محرم فيكون راجعا لذاته، وإن وقع على أمر جائز فهو إما لقوته أو لمحله. والإنكار وقع عليهم في نفس معبودهم وهو العجل.
وقوله (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) فزعم أن الإنكار وقع على الاستعجال دون الشيء المستعمل؛ ألا ترى أن الإنسان لو جهل في رمضان فأفطر على مباح قبل مغيب الشمس لحسن أن يقول: لما تعجلت الفطر قبل الغروب، ولو شرب الخمر أو أكل الخنزير لما حسن أن يقول له ذلك، قيل: إنما ينكر عليه نفس الفعل ولا ينكر عليه الزمان بوجه.
قال: والجواب أن تحمل الآية على غير ما قاله المفسرون في الاستعجال وهو أن الناظر قد يظهر له شبهة فيستعجل عليها من غير إعادة نظر ولا تأمل؛ ولذلك يقولون في الشعر: هذا شعر جبلي أي: معاود لها ولا ظهرت له شبهة؛ فبادروا إلى اتباعه والعمل بها بأول وهلة، ولو أعادوا النظر لظهر لهم فيها الحال؛ فمعنى الآية عندي: أعجلتم من أمر ربكم أي: تعديتم عنه وخرجتم عنه وخالفتموه، ويكون المراد بأمر ربكم توحيده وعبادته.
قوله تعالى: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ).
قوله تعالى: (وَأَخَذَ بِرَأسِ أَخِيهِ).
قال ابن عرفة: يؤخذ منه ومن قوله في سورة طه: (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) إن الأذنين ليسا من الرأس؛ لأن موسى عليه الصلاة السلام إنما أخذ بأحد أذنيه، ابن عرفة: وهذا لو قام الدليل على أن موسى امتثل لقول هارون له (لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي). ولعله لم يمتثل أمره ولم يسمع منه، قيل لابن عرفة: هذه معصية فكيف وقع فيها هارون وموسى معصوم؟ وتقديره أن موسى عليه الصلاة والسلام غضب عليه وأدبه بالقول والفعل، والتأديب يقتضي التأثيم وهما من خواص ترك الواجب، والنبي معصوم من الوقوع في ذلك، وقد تقرر في مسألة ترك الوتر أن التأديب يقع على ترك المندوب، فقد قال أصبغ: يؤدب تاركه وهارون قد غير عليهم أولا، فقد قال في طه (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) فما عاتبه موسى عليه الصلاة والسلام إلا على الدوام على التغيير.
قوله تعالى: (قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا).
قال ابن عرفة، عن سيبويه: في (ابْنَ أُمَّ) [ابن أم ثلاث لغات: ابْنَ أُمِّي، وابن أمَّ، وابْنَ إِمِّ*]، قال: سمعتها من الخليل، قال ابن عرفة: هذه عندي الصحيحة لكون سيبويه لم يذكر غيرها.
قوله تعالى: (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
قال ابن عرفة: هذا نفي أعم، ولو قال: من القوم الظالمين لكان نفي أخص، قلت: قال لي بعض النَّاس: ابن عبد السلام كان ينشد قول الشاعر:
يقول العاذلون تَسلَّ عنها... وداوِ غليل قلبك بالسُّلوِّ
وكيف ولمحة منها اختلاسا... ألذُّ من الشماتة بالعدوِّ
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ... (١٥١)﴾
قوله تعالى: (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
إن أريد الرحمة الحقيقية في نفس الأمر فلا اشتراك فيها بوجه، وإن أريد الرحمة باعتبار الظاهر فيعقل فيها الاشتراك.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا... (١٥٣)﴾
قال ابن عرفة: تقدم لنا فيها تمسك للمعتزلة بأن السيئات لفظ عام يتناول الكفر وسائر المعاصي، فقوله تعالى: (تَابُوا). راجع إلى التوبة مما سوى الكفر، وقوله تعالى: (وَآمَنُوا). راجع إلى التوبة مما سوى الكفر من المعاصي فكان تأسيسا، وعلى مذهب أهل السنة يكون تأكيدا، قال: وأجيب بأن الشيء في نفسه ليس هو كغيره، فقوله (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ). متصفون بالإيمان مع السيئات، وقوله (ثُمَّ تَابُوا). أي: تابوا مع تحصيلهم الإيمان، وقوله (وَآمَنُوا). أي: آمنوا إيمانا خالصا لَا يشوبه عمل سيئ بوجه، فلذلك كرره، قال: وتقدمنا سؤال وهو لأي شيء لم يقل: والذين أساءوا، كما قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) أو كان يقول: من عمل صالحا فلنفسه ومن عمل سيئا فعليها، قال: وتقدم الجواب بأن التقبيح تارة يرجع إلى المفعول، كما تقول: تأكل مال اليتيم ظلما، وتارة يرجع إلى الفعل، كما تقول: كيف تأكل بشمالك.
وتقبيح المفعول يستلزم تقبيح الفعل ولا ينعكس، فقوله تعالى: (وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا). تعيين الأعم فيتناول الأخص من باب أحرى لأنه إذا كان عليها مطلق إساءة فأحرى ما فوقها، وهنا عبر بالأخص فيستلزم الأعم لأنه إذا كان غفورا رحيما لمن مات بعد اتصافه بأخص القبيح؛ فأحرى أن يغفر لمن تاب بعد اتصافه بما دونه في القبيح.
قوله تعالى: (ثُمَّ تَابُوا مِن بَعدِهَا).
قلت: وتقدم لنا في الختمة الأخرى أن العطف هنا [بـ (ثُمَّ) *] لأجل أن من تاب [فإن اقتراته*] بالمعصية أخف ممن تاب بعدما تمالأ عليها وأصر عليها؛ فأتى بـ ثم ليفيد أن توبة هذا الثاني مقبولة فأحرى الأول، وقوله (مِن بَعدِهَا). أتى به رفعا للمجاز؛ لأنه يحتمل أن يكون تابوا بعدما عملوا [أو سعوا وهموا بفعلها*].
قوله تعالى: (مِن بَعْدِهَا).
قوله تعالى: ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ... (١٥٤)﴾
مع أنه أخص، قال: وعادتهم يجيبون بأنه [احتراس خشية أن يتوهم أنه تعليل بالمخل*]؛ لأن هذه لما كانت ألواحا نزلت من السماء من الجنة، قد يتوهم أن الهدى والرحمة فيها أنفسها، فقيل (وَفِي نُسْخَتِهَا) ليفيد أن الرحمة والهدى في المكتوب منها، [وفي النسخ منها، لا فيها أنفسها لذاتها*].
قوله تعالى: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا).
ليس باستفهام عن الإهلاك؛ لأنه قد وقع، والواقع لَا يسئل عنه؛ وإنَّمَا هو استفهام عن الجواز الحكمي؛ معناه: أيجوز في حكمك أن [تهلك*] البريء بما فعل العاصي، وهذا جائز عند أهل السنة فإنه يجوز عندهم أن يعذب الله الطائع ويعذب العاصي، وأفعال الله غير معللة وكلها بالنسبة إليه حسن.
قوله تعالى: (فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا).
الرحمة سبب في المغفرة؛ فهلا قدمت عليها، وأجيب: بأن المراد تكرير الدعاء بها لتكون [المغفرة*] متقدمة ومتأخرة.
قوله تعالى: (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ).
إن اعتبرنا ما في نفس الأمر فلا مشاركة، وباعتبار الظاهر هي أفعل، من قوله تعالى: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً... (١٥٦).. لَا يصح أن يكون الكتب حقيقة لأنه إن كان قديما امتنع لقوله (فِي هَذِهِ الدُّنْيَا). ، وإن كان حادثا امتنع لقوله (وَفِي الآخِرَةِ). فالمراد بالكتب إما ثبوت ذلك، أو الحكم بثبوته.
قوله تعالى: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ).
اختلفوا هل اتصل موسى بمطلوبه أم لا.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ).
قال ابن عرفة: إنما كرر الموصول؛ لأن هذه الأمور اعتقادية راجعة للتوحيد، والأولى أمور عقلية؛ فكررها لما بين العمل والاعتقاد من التفاوت.
قوله تعالى: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ).
قد يقال: فيه دليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، لقوله تعالى: (وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ).
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا... (١٥٨)﴾
قال ابن عرفة: كثيرا ما يقع هذا في القرآن فهو مأمور بأن يقول: يا أيها النَّاس، ويسقط لفظ قل، ولكنه هنا مأمور بتبليغ الجميع آيات القرآن، هو مأمور بتبليغها للناس، وكان بعضهم يقول: اختصاص بعضها بلفظ قل نبه على أنه أمران: يقول ذلك ليكون إبراء لساحته وأقلع لنفي التوهم عنه و (النَّاسُ). ، قيل: يشمل الجن والإنس، وقيل: خاص بالإنس، والفرق بين هذا وبين رسالة نوح بوجهين:
أحدهما: أن رسالة نوح كانت للإنس فقط.
الثاني: أنها كانت لأهل زمانه فقط؛ وهذه عامة إلى قيام الساعة.
قوله تعالى: (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ).
قال الزمخشري: قيل: هي الكلمة التي تكون عند عيسى وجميع خلقه وهي كن.
قال ابن عرفة: هذا غير جار على مذهبه؛ لأنه ينفي الكلام، ولذلك قالوا: إنه ضعيف في أصول الدين.
قال ابن عرفة: يحتمل أن يهدون غيرهم وبه يعدلون في القسم أو العكس، أو يرجع الأول للأمور الاعتقادية، والثاني للأعمال؛ فيحتمل أن يكون من العدل، أو من العدول، قال: الذين هم بربهم يعدلون، ولذلك كان رجل دلال في سوق الكتبيين يسمى عدلان، وكان ابن عبد السلام يمزح معه: أنت عدلك عن الحق إلى الباطل أو العكس، وإما لأن الحق يصدق على ما في الاعتقاد، وإن كان في نفس الأمر، قال: وعادتهم يوردون سؤالا مذكورا في نفس الائتلاف وهو لم قال (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ). وهلا قال: من أمة موسى قوم، فإن الأمة أكثر من القوم والقوم أقل، وعادتهم يجيبون بأن [لفظ الأمة يشعر بالاجتماع*] واتحاد الكلمة أكثر مما يشعر به لفظ قوم، ولذلك يجمع على أمم، ولذلك قال: "ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة"؛ والافتراق دليل على ما تقدم الاجتماع.
قوله تعالى: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ... (١٦٠)﴾
قال: معطوف على محذوف؛ أي: فضرب فانبجست قيل له: قال ابن عصفور إن المحذوف ضرب والفاء المتصلة بـ انبجست، وأما الفاء الملفوظ بها فهي داخلة على ضرب مقدر بين الفاء وبين انبجست، فقال: ليتأتى له ما يعطفه عليه مثل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)..
قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة هذا الحذف؟ فأجاب: بأنه إشعار بسرعة الانبجاس بنفس الأمر حتى كأنه سابق على الضرب، قال ابن عرفة: ويذكر فيه جوابا آخر لبعض المتقدمين؛ وهو أنه مشبهة على إسناد الكائنات إلى الله تعالى، وأن الضرب إنما هو سبب عادي، والانبجاس عنده لَا به.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ... (١٦١)﴾
قال ابن عطية: العامل في إذ فعل مقدر تقديره: واذكر إذا قيل لهم، قال ابن عرفة: فعلى هذا يكون إذ مفعولا به، والصواب أن يقدر أن يكون ظرفا، لأن وقت القول لهم متقدم الأمر والسكن، قال: وقد ذكر الوجهان في غير ما وضع إذ هي منصرفة، فالجواب أن يقدر بها فعل يعمل فيها على أنها ظرف تقديره: أنعمنا عليهم، إذ قيل لهم: اسكنوا، قال: والدخول أعم من السكن فهو من التعبير بالأعم مطلقا، أو بالأعم من وجه دون وجه فيستلزم الأخص، وعبر في البقرة بالدخول، لقوله: (رَغَدًا) والرغد يستلزم دوام الإقامة؛ واستغنى عنها بلفظ اسكنوا.
قوله تعالى: (وَقُولُوا حِطَّةٌ).
أخذوا منها مع آية البقرة أن الواو لَا تفيد الترتيب، وأجاب ابن التلمساني: بأنا إذا قلنا: أن المراد بقوله (حِطَّةٌ). كلمة التوحيد فيكونوا أمروا بأن يقولوها قبل الدخول وبعده، قال ابن عرفة: وكذلك إذا لم يكن المراد بها كلمة التوحيد، فأجيب بأنها إن كانت كلمة التوحيد فيكون دوامها ضروريا وغيرها ليس بضروري.
قوله تعالى: (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).
هو هنا بإسقاط الواو، وفي البقرة بالواو، وقال البيانيون: إن كان الفعل الثاني قريبا من معنى الأول جدا وبعيدا منه جدا أو دخلت الواو بينهما، وإن كانت منافاته له في حيز التوسط حذف الواو وهناك عبر بالدخول، وهو أعم من السكنى فقد ثبت لهم المعنى الأخص فحذفت الواو.
قوله تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا... (١٦٢)﴾
ابن عطية: يدل معناه غير اللفظ دون أن يذهب بجميعه، وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر، فرد عليه أبو حيان، بقوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ)، وبقوله (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، وبقوله (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا) قال ابن عرفة: هذا يقتضي كله تبديل الذات، وإنما حقه أن يرد عليه، بقوله تعالى: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) فإن التبديل هناك تغيير بعض اللفظ دون أن يذهب بالمعنى، قيل له: بنو إسرائيل غيروا اللفظ كله والمعنى لأنهم أمروا أن يقولوا حطة فدخلوا يزحفون على استاههم وقالوا: حبة في شعيرة.
قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ... (١٦٣)﴾
قال ابن عرفة: هذا مخالف لما يقول المنطقيون والنحويون من أن الطلب من الأعلى للأدنى يسمى أمرا، أو عكسه يسمى مسألة؛ فكان يقول على هذا: أو أمرهم بأن يخبروك بخبر القرية التي كانت حاضرة البحر.
قوله تعالى: (حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ).
قوله تعالى: (وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ).
ابن عرفة: عبر في الأول بالاسم، وفي هذا بالفعل، وهلا قال: وغير يوم سبتهم لا تأتيهم؟ قال ابن عرفة: وأجيب بوجهين؛ الأول:
أن الجملة الأولى مثبتة وهذه منفية، والفعل أعم من الاسم، وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص.
الثاني: أن قوله (وَيَومَ لَا يَسْبِتُونَ). يشعر باشتغالهم بالأعمال؛ أي: ويوم اشتغالهم وإقبالهم على العمل الذي من جملته الاصطياد لَا تأتيهم؛ بخلاف ما لو قيل: ويوم غير سبتهم فإنه لَا يشعر بذلك.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ... (١٦٥)﴾
قال ابن عرفة: عبر في (يَنْهَوْنَ). بالفعل المضارع، وفي (ظَلَمُوا).
بالماضي؛ لأنهما متلازمان؛ فالنهي إنما هو لمن ظلم.
قال: والجواب ظلموا لأنه أخص، وينهون أعم لأنه مضارع محتمل للحال والاستقبال، فناسب استعمال الأخص في العذاب ليدل على أنهم إنما عذبوا بما صدر منهم، واستعمال الأخف في الإنجاء ليدل على إنجاء من اتصف بما فوق ذلك من باب أحرى.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ... (١٦٦)﴾
أتت هذه كالتفسير لما قبلها، وأن هذا هو العذاب الذي عذبوا به في الدنيا.
قوله تعالى: (خَاسِئِينَ).
إشارة إلى عذاب يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ... (١٦٧)﴾
فسره ابن عطية بأربعة أمور: إما [أعلم، وإما قال، وإما أمر، تألَّى*]
قال عياض: قالت أم سلمة في كتاب الجنائز: ثم عزم الله لي فقتلتها، وأصل العزم القوة ويكون بمعنى الصبر وتوطين النفس؛ وحملها على الشيء والمعنى متقارب، ومنه قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).
قال ابن عرفة: والصواب عندي في قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ). أن معناه زاد مواعد ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا... (١٦٨)﴾
قال ابن عرفة: عبر بالتقطيع دون التفريق؛ لأن لفظ التقطيع أصرح وأشفع لاقتضائه تفريقا بعد كمال اتصال، فإن قلت: لم قال: أمما، وتقطيعهم آحاد مفترقين أنحى وأبلغ من تقطيعهم؟ فالجواب: أن هذا أبلغ في كمال الإعجاز؛ لأن كونهم أمما يقتضي الطمع في وقوع القلب، ولكنهم بعجزهم في هذه الحالة أبلغ وأدل على كمال العجز.
قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ).
قال ابن عطية: إما أن المراد ومنهم غير الصالحين أي: من الكفار، وإما أن المراد ومنهم من اتصف بما دون الصلاح.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ... (١٦٩)﴾.. ابن عرفة: هذا على سبيل الاحتراس لما استغفروا وتابوا؛ اقتضى ذلك عدم رجوعهم إلى العصيان، ومن تاب عن المعصية يبعد رجوعه إليها كمن زنا بامرأة جميلة فإنه لَا يسترجع زناه بعد ذلك بامرأة جميلة الصورة، وكذلك من تاب عن سرقة دينار إذا وجدها بعد ذلك، وهؤلاء لو قيل في حقهم، ويقولون: سيغفر لنا قوله استغفارهم من ذلك الذنب، وأنهم لم يرجعوا إلى مثل الذنب الذي استغفروا منه بل إلى ما هو أخف إلى النفس منه، فقيل: لا يأتيهم من حيث لو آتاهم عرض مثله لأخذوه.
قوله تعالى: (أَلَمْ يُؤخَذ عَلَيهِم مِيثَاقُ الْكِتَابِ).
إما تقرير لأخذ الميثاق عليهم وإنكار لما ادعوه من عدم أخذ الميثاق عليهم.
قال ابن عرفة: تقدم فيها سؤال وهو أنه قد رد المدح في حقهم بما اتصفوا به من فعل وقول، فقال: يأخذون عرض هذا الأدنى، ويقولون: سيغفر لنا، وأكد تقرير الذم بالفعل بتكراره، لقوله (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ). ثم لما انتقل لمقام الرد عليهم ذكر فيه تقبيح قولهم دون فعلهم وهو: (أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، قال: وأجيب بوجهين: الأول:
أن القول يستلزم الفعل وهو سبب فيه، فاكتفى بالسبب عن مسبه.
الثاني: قوله (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ). وتلك الجملة هي معمولة لقوله (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ). أيضا أن الدار الآخرة خير ولم يعملوا بها بل عملوا بنقيضها، وهذا هو الفعل وهو أخذهم عرض الدنيا ونبذهم عرض الآخرة.
قوله تعالى: (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ).
ولم يقل ودرسوه إشارة إلى أنهم حفظوه، ولو قال: ودرسوه لكانوا حفظوا لفظه ولم يتدبروا معناه.
قوله تعالى: (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ).
وذلك أنهم مأثورون بأن يتصفوا بالجودة والطاعة وعدم المخاِلفة؛ فاتصفوا بالعصيان ورجاء المغفرة؛ لقوله تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا).
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ... (١٧٢)﴾
ورد في الحديث الصحيِح أن الله تعالى لما خلق آدم أخرج ذريته من ظهره كالذر فاستعهدهم على أنفسهم (ألَسْتُ بِرَبَكُم قَالُوا بَلَى). فهذه الآية اقتضت الإخراج من بني آدم، والحديث اقتضى أن الإخراج من ظهر آدم لَا من ظهر ذريته، والجمع بينهما بأن المخرج من المخرج من الشيء مخرج من الشيء، فإذا خرجت سلعة من الصندوق فيها دنانير، قلت: أخرجت هذه الدنانير من الصندوق، والآية اقتضت إخراج ذرية بني آدم، وزاد الحديث بإخراج الوسط وهم بنو آدم من ظهره وإشهادهم على أنفسهم.
قوله تعالى: (وَأَشْهَدَهُم).
قوله تعالى: (قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
أي: حملناكم ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)
قوله تعالى: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ... (١٧٣)﴾
ابن عرفة: فيه دليل على أن التقليد غير كاف في الأمور الاعتقادية.
قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا... (١٧٥)﴾
ابن عرفة: انظر هل ذكر المتلو أم لَا؛ فيحتمل أنه ذكر المتلو وأن هنالك مضمر تقديره: الذي آتيناه آياتنا انسلخ منها، ابن عرفة: ولم يقل: انقطع عنها لأن الانسلاخ أبلغ كانسلاخ الجلد من الجسد فلا يرجع إليه أصلا بخلاف الانقطاع.
قوله تعالى: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ).
أتبعه أي: ساواه؛ بخلاف أتبعه فإنه من رواية متبع له ولا يراه.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)﴾
احتراس لأنه لما تكرر ذمهم في الآية بوصف التكذيب، وأنهم صدوا غيرهم؛ احترس من ذلك بأن حال تكذيبهم راجع عليهم.
قوله تعالى: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي... (١٧٨)﴾
قال ابن عرفة: الهداية قسمان: فالهداية الأعمية هي مجرد الإلهام والإعلام بطريق الحق.
والأخصية هي الإعلام بها، والحمل على سلوكها بالفعل، كما يقول الشخص: هذه طريق الحق وهذه طريق الباطل، وتارة يقول له: هذه طريق الحق فاسلكها وتجعله سالكا فيها بالفعل، فالأعمية هي قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، والأخصية (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم)، وبقي هنا أخصية قوله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). عبر في الأولى بالملزوم وهي الهداية، وفي الثاني باللازم وهو الخسران؛ ففيه حذف التقابل. أي: من يهدي الله فهو المهتدي الراجح، ومن يضلل فهو الضال الخاسر، وأولئك هم الخاسرون، فإِن قلت: لم أفرد المعتدي وجمع الضال. وجوابه عند النحويين: أنه جاء على الأصل في معلولة لفظ
قوله تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا... (١٧٩)﴾
يؤخذ منه أن البصر أشرف من القلب فهو ترق، أو يقال: أن هذه الحواس كلها خدمة القلب؛ فالقلب أشرفها.
قوله تعالى: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
قال ابن عطية: فيها الشهوة ولا عقل لها، فليس لها منع يمنعها عن شهوتها والإنس والجن فيهم الشهوة، والعقل المانع من اتباعها، فالعصاة منهم أضل إذ لم يمنعهم عقلهم من شهوتهم.
قيل لابن عرفة: كان القاضي ابن حيدرة يأخذ من هذه الآية أن بني آدم أفضل من الملائكة؛ لهم العقل ولا شهوة فيهم؛ فليس لهم داعٍ يدعوهم إلى المعصية، وبنو آدم فيهم الشهوة التي تحضهم على المعصية، فإِذا أطاعوا الله وتركوا شهواتهم كانوا أفضل من الملائكة.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا... (١٨٠)﴾
المراد إما المسميات أو التسميات على الخلاف في ذلك، والفاء في قوله (فَادْعُوهُ بِهَا). إما للتعدية؛ والمراد فتوسلوا إليه بها، وقال: وحديث الترمذي تعيين الأسماء الحسنى حسن لكن تلقته الأمة بالقبول فكان كالتصحيح له، وليس في التصحيح تعيينها، وإنما قال في الصحيح: "إن لله تسعة وتسعين اسما" من غير تعيين، [لكن ذكر المتكلمون*] أن من أسمائه واجب الوجود، ولم يرد ذلك في الحديث وجوزوا إطلاقه.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢)﴾
قوله تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ... (١٨٣)﴾
هو عدم مؤاخذتهم بالذنب في الحال وتأخيرهم إلى أجل مسمى، فإن قلت: عبر في (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ). بالنون الدالة على المتكلم ومعه غيره، وفي (أُمْلِي لَهُم). بهمزة المتكلم وحده، فأجيب بوجوه؛ الأول: قال ابن عرفة: المشاهد في الدنيا أن إعطاء النعم في الملوك أكثر من الحلم والصفح والعفو عن [المجرم؛ فلا نجد منهم من يعفو عن المجرم*] إلا القليل بحيث يعد عدًّا كمعاوية ونحوه، ونجد الكثير منهم يعطي العطاء الجزيل فلما كان الإنعام أكثر ناسب أن يعبر عنه بالنون التي للمتكلم ومعه غيره، وكانت هنا للعظمة فقط.
الثاني: أن الاستدراج نعم دنيوية والإملاء تأخير إلى أن يعذبوا عذابا أخرويا.
الثالث: أن الاستدراج فعل يستدعي فاعلا فناسب نون العظمة والإملاء ترك وتأخير وعدم مؤاخذة، والعدم لَا يتعلق به القدرة فناسب همزة المتكلم وحده.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)﴾
قال ابن عرفة: وتقدم المبالغة في النفي بأربعة أوجه: الأول: إدخال لفظه من، الثاني: إفراد لفظة جنة فهو أعم من لو قيل: جنون، الثالث: بلفظ صاحب المضاف إليهم فهو إشارة إلى أنهم غافلون به وهو بين أظهرهم قديما وحديثا.
قوله تعالى: (إنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).
الحصر بحسب السياق؛ أي: هذين لمن كذب وخالف وطعن فيه بالجنون.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (١٨٥)﴾
قال القرافي: الملك راجع للأمر الظاهر، والملكوت راجع للأمر الباطن، وهو ظاهر كلام البيضاوي؛ لقوله في خطبة كتابه الطوالع المطلع بشواهد الملك وغياهب الملكوت، فالملك ما تعلق بظواهر الملك الأمر، والملكوت ما تعلق بخفياتها.
وقال ابن عرفة: بل الفرق بينهما أن المخلوقات إن نظرناها باعتبار ذواتها فقط فهو نظر في ملك، وإن نظرناها من جهة افتقارها إلى موجد أوجدها فهذا نظر في ملكوت؛ فيستدل به على وحدانية الصانع وقدرته وإرادته وغير ذلك، فإن قلت: لم قرن الأول بالتفكر والثاني بالنظر؟، فالجواب: أن الأول ماض فناسب التفكر كما يتفكر الإنسان شيئا نسيه، والثاني حالي فناسب النظر.
قوله تعالى: (قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ).
قال: الفرق بين قرب، واقترب أن القرب يقتضي مقاربة الشيء مع كون ذلك الشيء طالبا للمقاربة، فكان أجلهم يطلبهم ويستدعي أن يقرب منهم، وهذا مبالغة في طلبه لهم وقربه منهم.
ابن عرفة: وقال هنا (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا). لأنه موضع المستقبل، وقال قبلها (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) لأن متعلقه ماض بحيث بعد.
قوله تعالى: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ... (١٨٦)﴾
قال ابن عرفة: لم يفصل هذه الجملة عما قبلها بالواو، إما لكمال المباينة بينهما أو لكمال المقاربة بينهما في المعنى، ولو كانتا في مقام التوسط لفصلا بالواو، وهذه الآية احتج بها أهل السنة على المعتزلة في أن الضلالة خلق الله تعالى؛ لأن ما المراد هنا إلا الإضلال بالفعل، وقد يجيب الآخرون بما أجابه سراج الدين الإمام الفخر: حيث استدل على وقوع النسخ في القرآن، بقوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) فقال السراج: ولقائل أن يقول: ملزومية الشيء للشيء لَا تدل على وقوعه ولا على إمكان وقوعه، فأجاب شمس الدين الجزري: بأن تلك الآية سيقت مساق المدح، والمدح إنما يكون بالواقع لَا بالمنكر، يجيب أهل السنة بمثل هذا الجواب؛ لأن سياق الآية دل على أنها جاءت في معرض المدح، قال: ولا بد فيها من تقييد السنة، ولا يصح بقاؤها على الإطلاق، فإن أريد فلا هادي له بالإطلاق تكون حينئذ حينية؛ أي من يضلل الله حين إضلاله فلا هادي أو فلا هادي له وقت إضلاله، وإن لم تكن مطلقة فالمعنى فلا هادي له غير الله ولا ينفي عنه نفي الهداية مطلقا؛ لأنه فريضة في وقت، والمراد من يضله عند الخاتمة فلا هادي له، وهذه القضية تعكس عكس النقيض؛ أي من له هاد فلا مضل له.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا... (١٨٧)﴾
قوله تعالى: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
الثقل فيها لأحد وجهين: إما لشدة أمرهما بأن النفس تنفر منها، إذ لَا يعلم أنها تخلد في النار أو في الجنة، وإما لنقل الدلائل والطرق إلى العلم بتوقيتها، فليس ثم دليل موصل إلى ذلك بوجه بخلاف غيرها.
قوله تعالى: (لَا تَأتِيكُم إِلَّا بَغْتَةً).
حكم على الغائب بحكم المخاطب مع أن الإتيان إنما هو لذرية المخاطبين النافين لآخر الزمان؛ فغلب المخاطب الحاضر.
قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا).
قال ابن عرفة: فصلت هذه الجملة عما قبلها لكمال مفارقتها لها في المعنى.
قال الزمخشري: فإِن قلت: لم كرر (يَسْأَلُونَكَ)، و (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) قلت: للتأكيد لما جاء بزيادة كأنك حفي عنها، وعلى هذا تقرير العلماء الحذاق في كتبهم لَا يخلو المكرر من فائدة زيادة، قال ابن عرفة: وكان يمشي لنا نحن أنها ليست مكررة، وأن الأول سؤال من العوام، والثاني سؤال من الخواص على أن فيه تفكيك الضمائر لكنه مغتفر وهو أولى من التكرار، ومما يؤيد هذا ويستأنس به بعض تأنيس العقيب الأول، بقوله (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي)، والعقيب الثاني، بقوله (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) فالعوام بجهلهم قوبلوا بلفظ الرب المستضيء للإحسان والرحمة والحنان، والعلماء قوبلوا باللفظ المستضيء للحلال والقهر والغلبة.
قوله تعالى: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا).
هل معناه شبيه بالحقير عنها، أو أنه مشبه بالحفي عنها إيمانهم يعتقدون شبهه بالحفي، أو أنه في نفس الأمر شبيه بالحفي، والظاهر الأول.
إن أريد أنهم لَا يعلمون وثبتها؛ فالأكثر بمعنى الكل، وإن أريد لَا يعلمون خفيات ولا يعلمون دقائق المعلومات؛ فالأكثر على بابه لأن الخواص من الأنبياء والعلماء يعلمون ذلك.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ... (١٨٨)﴾
قال ابن عرفة: هذا أبلغ من لو قيل: لَا أملك نفعا ولا ضرا بالإطلاق؛ لو كان كذلك لأمكن تخصيصهم بالغير، فيقال: إنه يملك النفع والضر لنفسه ولا يملك لغيره، فلما قال: (لَا أَمْلِكُ لِنَفسِي) دل باللزوم على أنه لَا يملك ذلك لغيره من باب أحرى، والمراد بالضر هنا دفعه لَا جلبه؛ لأن لَا أملك جلب نفع ولا دفع ضرر، والمنفي هنا الملك الفعلي.
قيل لابن عرفة: فالقابلية، قال: القابلية العرضية منافية والذاتية ثابتة.
قوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ).
إن أريد الملك الأعم من الاستقلالي والكسبي فالاستثناء متصل، وإن أريد الملك الاستقلالي فقط فالاستثناء منفصل؛ لأن الذي يملك عندنا هو الكسبي ولا يملك إلا بقدرة الله تعالى وخلق الداعي عليه له.
قوله تعالى: (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ).
فسر بوجهين. أحدهما: لتحررك في قتالهم واستكثرت من الخير فكنت غالبا وما مسني السوء، ولم أكن مغلوبا قط.
الثاني: لاستكثرت بالتجر في المال والربح فكنت رابحا وما مسني السوء؛ أي وما كنت خاسرا في تجارتي قط.
ووجد مناسبتها لما قبلها أنهم لما سألوا عن الساعة، قال: هذا أمر مغيب، ولا طريق لي إلى العلم بالمغيبات؛ لأني لو كنت أعلم عواقب الأمور لجزت منها في أحوالي كلها.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ... (١٨٩)﴾
الخطاب لقريش، وقيل: المراد بالنفس آدم أو قصي بن كلاب [وعبَّر*] في الأول بـ خلق، وفي الثاني بـ[جعل*] لأن الخلق في اللغة هو التقدير.
قال الشاعر:
والأول: مستند إلى جماعة فناسب الخلق؛ لأنه قدرهم على صفات عظيمة مختلفة، وأوصاف منوعة.
والثاني: يتعلق بشيء واحد وهو حواء.
قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا).
إن أريد به آدم فهو على ظاهره، وإن أريد به قصي بن كلاب فالمعنى: وجعل من أمثالها زوجها، وكلام الزمخشري هنا حسن، وكلام ابن عطية فيه تسامح، وكذلك حكاية وسوسة الشيطان فإنها من الخرائف الباطلة.
قوله تعالى: (لِيَسْكُنَ إِلَيهَا).
اختلفوا فيما الأولى في النكاح، هل النكاح القرابات أو الأجانب؟، واستحسن الإمام الغزالي نكاح الأجانب فإن الولد منها يكون أكمل حلية وأحسن؛ لأن الشهوة إلى الأجنبية أشد من الشهوة إلى القريبة، والآية حجة لترجيح نكاح القرابات، لقوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهَا) وعلله، بقوله (لِيَسْكنَ إِلَيهَا).
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا... (١٩٠)﴾
ابن عرفة: قالوا: إذا تقدم الاسم النكرة فأعيد ذكره، فإنما يعاد معرفا بالألف واللام، كقوله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)، وكذلك قال سيدنا عمر - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) لن يغلب عسر يسرين؛ لأنه إنما أعيد العسر معرفا كان شيئا واحدا، فيرد السؤال هنا لم أعيد هنا نكرة؟ قال: وتقدم الجواب بأن ذلك إذا كان في كلام واحد، وهنا في كلامين لقائلين.
قوله تعالى: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا).
قال ابن عرفة: اختلفوا في لفظ شرك هل يحمل على النصف فيقتضي التساوي، أو على ما هو أعم، وهذه الآية حجة لمن يحمله على المعنى الأعم، ومسألة كتاب القرض في المدونة دليل على أنه عنده أعم لأنه جعله فاسدا، فقال: وإن أقرضت على أن له شركاء في المال لم يسمه كان على قراض مثله إن عمل، وقال غيره: له النصف.
قوله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)﴾
قيل: الضمير عائد على الأصنام، وأجراهم مجرى من يعقل لمعاملتهم إياه معاملة من يعقل، قيل: على المشركين.
ابن عرفة: فعلى الأول يكون وهم يخلقون علة مانعة من الإشراك؛ أي المشركون أصناما مخلوقين مفتقرين إلى موجود أوجدهم، والإله من شرطه ألا يكون مفتقرا لغيره، وعلى الثاني يكون دليلا للتوحيد راجعا لدلالة التمانع، أي أتشركون أصناما لَا تخلق شيئا، والغرض إن هؤلاء الكفار في ذواتهم مخلوقين فمن الخالق لهم ليس هو أحد إلا الله تعالى وقال في هذه الآية: إيماء لتكفير بعض غلاة المعتزلة في قولهم: إن العبد يخلق أفعاله فسموا ذلك خلقا.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا... (١٩٢)﴾
لا يلزم من عدم القدرة على نصرة الغير أن لَا يقدر على النصرة لنفسه.
قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّبِعُوكُمْ... (١٩٣)﴾
أي لَا يجيبوكم.
قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ).
فإن قلت: لم عبر في الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم؟ فأجاب بأنه يفيد بأنهم صامتون دائما على الدعاء إليهم.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بما ذكر المنطقيون في العكوسات من أنه إذا لم يستلزم الأخص أمرا لم يستلزم الأعم، وإذا ثبت استلزام الأخص أمرا لم يلزم منه ثبوت استلزام الأعم له بوجه، فكما انتفى لزوم العلم للإنسان انتفى لزومه للحيوان،
قيل لابن عرفة: ينتفي أخص الدعاء، فقال: ما ثبت عنهم أنهم كانوا يدعونهم، عرفة إلا بمطلق الدعاء لَا بأخصه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا... (٢٠١)﴾
هذه دليل لسيبويه في مسألة كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي... (٢٠٣)﴾
يؤخذ منها أنه - ﷺ - لَا يحكم بالاجتهاد، وأن أحكامه كلها مستندة للوحي.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا... (٢٠٤)﴾
حكى الفخر في الأصول الخلاف في القرآن هل هو اسم جنس يصدق على القليل والكثير، أو اسم كل، وتظهر ثمرة الخلاف في قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩).. قال: وهذه الآية دليل علَى أنه اسم جنس؛ لاتفاقهم على أن من سمع أنه من القرآن يؤمر بالإنصات يتناول القارئ بعينه؛ لأنا نجد بعض الصناع يعمل صنعة وهو يقرأ ويأمر وينهى في قراءاته، قال: كان ذلك خفيفا فهو مفتقر وإلا لم يجز، قال: والإنصات متقدم على الاستماع وسبب فيه فهلا قدم عليه في الآية.
قال: وعادتهم يجيبون لأن الاعتناء بطلب فعل ما لم يكن فعل أقوى من الاعتناء لطلب المداومة على فعل ما كان واقفا؛ لأن هذا أخف على النفوس من الأول، ومجرد الإنصات شأن الإنسان، والاستماع هو استحضار الذهن لسماع القرآن فلم يكن هذا مفعولا، قيل بوجه، قيل لابن عرفة: هذا إن سلمنا أن الإنصات والصمت بمعنى واحد، ولنا أن نقول: الإنصات هو القصد إلى الصمت لَا مجرد الصمت، فقال: لا بل هما بمعنى واحد.
قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
لفظ الآية يدل على أن الإنصات والاستماع مطلوبان طلبا لَا ينتهي إلى الوجوب، ومفهومهما يدل على أنهما واجبان، وإذا لم ينصتوا لم يرحموا، وترتيب الثواب على
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً... (٢٠٥)﴾
قال ابن عرفة: قالوا: تناقض الشاطبي في قوله: [وَلاَ عَمَلٌ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِهِ... غَدَاةَ الْجَزَا مِنْ ذِكْرِهِ مُتَقَبَّلَا*] مع قوله وَمَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ إِلاَّ افْتِتَاحُهُ... مَعَ الْخَتْمِ حِلاًّ وَارْتِحاَلاً مُوَصَّلَا فدل قوله ولا عمل إنجاء له على أن ذكر الله هو أفضل الأعمال، وأفضل الأعمال قال: والجواب أن مجرد الذكر هنا قبل الأعمال، ودل البيت الثاني أن الافتتاح بالقرآن هو أفضل الأعمال، وأفضل من القراءة، ومجموع الافتتاح بالقراءة بها أفضل من الذكر.
قوله تعالى: (بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
إشارة إلى استحضار الإنسان حالتي الإيجاد والإعدام إنما هو حالة القيام من القيام؛ فكأنه تغير من موت إلى حياة فالأصل حالة التغيير من حاله إلى الموت.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)﴾
تنبيه على إمكان القدرة على الذكر دائما فإن الذي أقدر الملائكة على المداومة على الذكر من غير فتور قادر على أن يقدرك على المداومة عليه من غير فتور.
* * *