لها أسماء : براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، لأن فيها التوبة على المؤمنين وهي تقشقش من النفاق أي تبرىء منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها، وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم وتخزيهم وتدمدم عليهم. وفي ترك التسمية في ابتدائها أقوال ؛ فعن علي وابن عباس رضي الله عنهم، أن بسم الله أمان وبراءة نزلت لرفع الأمان. وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه سورة أو آية قال :" اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا " وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال لأن فيها ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود، فلذلك قرنت بينهما وكانتا تدعيان القرينتين وتعدان السابعة من الطوال وهي سبع. وقيل : اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال، وقال بعضهم : هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان، وتركت بسم الله لقول من قال هما سورة واحدة.
﴿بَرَاءةٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة ﴿من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين﴾ من لابتداء الغاية متعلق بمحذوف وليس بصلة كما فى قولك برئت من الدين أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم كما تقول كتاب من فلان إلى فلان أو مبتدأ لتخصيصها بصفتها والخبرالى الذين عَاهَدْتُمْ كقولك رجل من بني تميم فى الدار والمعنى أن الله ورسوله
التوبة (٢ _ ٣)
قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم
﴿فَسِيحُواْ فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ فسيروا في الأرض كيف شئتم والسيح السير على مهل روي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم فنكثوا إلا ناسا منهم وهم بنوا ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا ولا يتعرض لهم وهي الأشهر الحرم في قوله فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد وأمر رسول الله ﷺ أبا بكر على موسم سنة تسع ثم أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدّي عني إلا رجل مني فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال هذا رغاء ناقة رسول الله ﷺ فلما لحقه قال أمير أو مأمور قال مأمور فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحثهم على مناسكهم وقام عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال يا أيها الناس إني رسول الله إليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده فقالوا عند ذلك يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا وأنه
﴿وَأَذّان مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس﴾ ارتفاعه كارتفاع بَرَاءةٌ على الوجهين ثم الجملة معطوفة على مثلها والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء والفرق بين الجملة الأولى والثانية أن الأولى إخبار بثبوت البرءاة والثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهدو من لم يعاهدوا من نكث من المعاهدين ومن لم ينكث ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾ يوم عرفة لأن الوقوف بعرفة معظم أفعال الحج أو يوم النحر لأن فيه تمام الحج من الطواف والنحر والحلق والرمي ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر ﴿أَنَّ الله بَرِىء مّنَ المشركين﴾ أي
التوبة (٣ _ ٥)
بأن الله حذفت صلة الأذان تخفيفاً ﴿وَرَسُولُهُ﴾ عطف على المنوي في بَرِيء أو على الابتداء وحذف الخبر أي ورسوله بريء وقرىء بالنصب عطفا على اسم إن والجر على الجوار أو على القسم كقولك لعمرك وحكى أن اعاربيا سمع رجلاً يقرؤها فقال إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر فحكى الاعرابى قراءة فعندها أمر عمر بتعلم العربية ﴿فَإِن تُبْتُمْ﴾ من الكفر والغدر ﴿فَهُوَ﴾ أي التوبة
﴿إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين﴾ استثناء من قوله فَسِيحُواْ فِى الأرض والمعنى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم ﴿ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ من شروط العهد أي وفوا بالعهد ولم ينقضوه وقرىء لَمْ ينقضوكم أي عهدكم وهو أليق لكن المشهورة أبلغ لأنه في مقابلة التمام ﴿وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً﴾ ولم يعاونوا عليكم عدواً ﴿فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ﴾ فأدوه إليهم تاماً كاملاً ﴿إلى مُدَّتِهِمْ﴾ إلى تمام مدتهم والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفي كالغادر ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ يعني أن قضية التقوى أن لا يسوّي بين الفريقين فاتقوا الله في ذلك
﴿فَإِذَا انسلخ﴾ مضى أو خرج ﴿الأشهر الحرم﴾ التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا ﴿فاقتلوا المشركين﴾ الذين نقضوكم وظاهروا عليكم ﴿حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ من حل أو حرم ﴿وَخُذُوهُمْ﴾ وأسروهم والأخذ الأسر ﴿واحصروهم﴾ وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد ﴿واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ كل ممر ومجتاز ترصدونهم به وانتصابه على الظرف ﴿فَإِن تَابُواْ﴾ عن الكفر ﴿وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾ فأطلقوا عنهم بعد الأسر
التوبة (٦ _ ٩)
بالالتزام
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ﴾ أَحَدٌ مرتفع بفعل شرط مضمر يفسره الظاهر أي وإن استجارك أحد استجارك والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه واستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمّنه ﴿حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله﴾ ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر ﴿ثم أبلغه﴾ بعد ذلك ﴿مأمنه﴾ داره التى يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت وفيه دليل على أن المستأمن لا يؤذي وليس له الإقامة في دارنا ويمكن من العود ﴿ذلك﴾ أي الأمر بالإجارة في قوله فَأَجِرْهُ ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعوا إليه فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا الحق
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ﴾ كَيْفَ استفهام في معنى الاستنكار أي مستنكر أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم ثم استدرك ذلك بقوله ﴿إِلاَّ الذين عاهدتم﴾ أي ولكن الذين عاهدتم منهم ﴿عِندَ المسجد الحرام﴾ ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم ﴿فَمَا استقاموا لَكُمْ﴾ ولم يظهر منهم نكث أي فما أقاموا على وفاء العهد ﴿فاستقيموا لهم﴾ على الوفاء وما شرطية أي فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ يعني أن التربص بهم من أعمال المتقين
﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد وحذف الفعل لكونه معلوماً أى كيف يكون لهم عهدو حالهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق ﴿لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ﴾ لا يراعوا حلفاً ولا قرابة ﴿وَلاَ ذِمَّةً﴾ عهداً ﴿يُرْضُونَكُم بأفواههم﴾ بالوعد بالإيمان والوفاء بالعهد وهو كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد ﴿وتأبى قُلُوبُهُمْ﴾ الإيمان والوفاء بالعهد ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون﴾ ناقضون العهد أو متمردون فى الكفر لامروءة تمنعهم عن الكذب ولا شمائل تردعهم عن النكث كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التفادى عنها
﴿اشتروا﴾ استبدلوا ﴿بآيات الله﴾ بالقرآن ﴿ثمنا قليلا﴾ عرضا يسيرا
التوبة (٩ _ ١٣)
وهو إتباع الأهواء والشهوات ﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾ فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم ﴿إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي بئس الصنيع صنيعهم
﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ ولا تكرار لأن الأول على الخصوص حيث قال فيكُمْ والثاني على العموم لأنه قال فِى مُؤْمِنٍ ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ المعتدون﴾ المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة
﴿فَإِن تَابُواْ﴾ عن الكفر ﴿وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم﴾ فهم إخوانكم على حذف المبتدأ ﴿فِى الدين﴾ لا في النسب ﴿وَنُفَصّلُ الأيات﴾ ونبينها ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ يفهمون فيتفكرون فيها وهذا اعتراض كأنه قيل وإن من تأمل تفصيلها فهو العالم تحريضاً على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها
﴿وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ أي نقضوا العهود المؤكدة بالأيمان ﴿وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ﴾ وعابوه ﴿فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر﴾ فقاتلوهم فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم وهم رؤساء الشرك أو زعماء قريش الذين هموا بإخراج الرسول وقالوا إذا طعن الذمي فى دين الإسلام طعنا ظاهر اجاز قتله لأن العهد معقود معه على ألا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة أَئِمَّةَ بهمزتين كوفي وشامي الباقون بهمزة واحدة غير ممدودة بعدها ياء مكسورة أصلها أأممة لأنها جمع إمام كعماد وأعمدة فنقلت حركة الميم الأولى إلى الهمزة الساكنة وأدغمت في الميم الأخرى فمن حقق الهمزتين أخرجهما على الأصل ومن قلب الثانية ياء فلكسرتها ﴿إنهم لا أيمان لهم﴾ وإنما أثبت لهم الإيمان في قوله وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم لأنه أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال لا إيمان لَهُمْ على الحقيقة وهو دليل لنا على أن يمين الكافر لا تكون يمينا ومعناه عند الشافعى رحمه الله أنهم لا يوفون با لأن يمينهم يمين عنده حيث وصفها بالنكث لا أيمان شامي أي لا إسلام ﴿لَعَلَّهُمْ ينتهون﴾ متعلق بفقاتلوا أئمة الكفر وما بينهما اعتراض أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم انتهاءهم عما هم عليه بعد ما وجد منهم من العظائم وهذا من غاية كرمه على المسيء
ثم حرض على القتال فقال ﴿أَلاَ تقاتلون قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم﴾ التي حلفوها في المعاهدة ﴿وهموا بإخراج الرسول﴾ من مكة ﴿وهم بدؤوكم أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ بالقتال والبادىء أظلم فما يمنعكم من أن تقاتلوهم وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها من
التوبة (١٣ _ ١٧)
نكث العهد واخرج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب
ولما وبخهم الله على ترك القتال جردلهم الأمر به بقوله ﴿قاتلوهم﴾ ووعدهم النصر ليثبت قلوبهم وتصح نياتهم بقوله ﴿يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ قتلاً ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾ أسراً ﴿وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ يغلّبكم عليهم ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ طائفة منهم وهم خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ لما لقوا منهم من المكروه وقد حصل الله هذه المواعيد كلها فكان دليلاً على صحة نبوته ﴿وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء﴾ ابتداء كلام وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وكان ذلك أيضاً فقد أسلم ناس منهم كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وهي ترد على المعتزلة قولهم إن الله تعالى شاء أن يتوب على جميع الكفرة لكنهم لا يتوبون باختيارهم ﴿والله عَلِيمٌ﴾ يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان ﴿حَكِيمٌ﴾ في قبول التوبة
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ﴾ أم منقطعة والهمزة فيها للتوبيخ على وجود الحسبان أي لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلص منكم وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً﴾ أي بطانة من الذين يضادون رسول الله ﷺ والمؤمنين ولما معناها التوقع وقد دلت على أن تبين ذلك
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ ما صح لهم وما استقام ﴿أن يعمروا مساجد الله﴾ مسجد الله مكي وبصري يعني المسجد الحرام وإنما
التوبة (١٧ _ ١٩)
جمع في القراءة بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد ولأن كل بقعة منه مسجد أو أريد جنس المساجد وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس وهو آكد إذ طريقه طريق الكناية كما تقول فلان لا يقرأ كتب الله فإنه أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك ﴿شاهدين على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ﴾ باعترافهم بعبادة الأصنام وهو حال من الواو في يَعْمُرُواْ والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم وَفِى النار هُمْ خالدون﴾ دائمون
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله﴾ عمارتها رمُّ ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا لأنها بنيت للعبادة والذكر ومن الذكر درس العلم ﴿من آمن بالله واليوم الأخر﴾ ولم يذكر الإيمان بالرسول عليه السلام لما علم أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول لاقترانهما في الأذان والإقامة وكلمة الشهادة وغيرها أو دل عليه بقوله ﴿وأقام الصلاة وآتى الزكاة﴾ وفي
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمن بالله واليوم الأخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين﴾ السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية ولا بد من مضاف محذوف تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله وقيل المصدر بمعنى الفاعل يصدقه قراء ابن الزبير سقاة الحاج وعمارة المسجد الحرام والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحيطة بأعمالهم المثبتة وأن يسوي بينهم وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعهما نزلت جواباً لقول العباس حين أسر فطفق على رضى الله عنه يوبخه بقتال رسول الله ﷺ وقطيعة الرحم تذكر
التوبة (٢٠ _ ٢٥)
مساوينا وتدع محاسننا فقيل أولكم محاسن فقال نعمر المسجد ونسقي الحاج ونفك العاني وقيل افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة وعلى رضى الله عنه بالإسلام والجهاد فصدق الله تعالى علياً
﴿الذين آمنوا وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ﴾ أولئك ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله﴾ من أهل السقاية والعمارة ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون﴾ لا أنتم المختصون بالفوز دونهم
﴿يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم﴾ يُبْشُرهم حمزة ﴿بِرَحْمَةٍ مّنْهُ ورضوان وجنات﴾ تنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرف ﴿لَّهُمْ فِيهَا﴾ في الجنات ﴿نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾ دائم
﴿خالدين فِيهَا أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لا ينقطع
لما أمر الله النبي عليه السلام بالهجرة جعل الرجل يقول لابنه ولأخيه ولقرابته إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ومنهم من تتعلق به زوجته أو ولده فيقول تدعنا بلا شيء فنضيع فيجلس معهم ويدع الهجرة فنزل ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أَوْلِيَاء إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان﴾ أي آثروه واختاروه ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ﴾ أي ومن يتول الكافرين ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون﴾
﴿قل إن كان آباؤكم وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وأزواجكم وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ أقاربكم وعشيراتكم أبو بكر ﴿وأموال اقترفتموها﴾ اكتسبتموها ﴿وتجارة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾ فوات وقت نفاقها ﴿ومساكن تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ﴾ وهو عذاب عاجل أو عقاب آجل أو فتح مكة ﴿والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين﴾ والآية تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين إذ لا تجد عند أورع الناس ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأموال والحظوظ
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ كوقعة بدر وقريظة والنضير والحديبية
التوبة (٢٥ _ ٢٨)
وخيبر وفتح مكة وقيل إن المواطن التي نصر الله فيها النبي عليه السلام والمؤمنين ثمانون موطناً ومواطن الحرب مقاماتها ومواقفها ﴿وَيَوْمَ﴾ أي واذكروا يوم ﴿حُنَيْنٍ﴾ وادٍ بين مكة والطائف كانت فيه الواقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فلما التقوا قال رجل من المسلمين لن نغلب اليوم من قلة فساءت رسول الله عليه الصلاة والسلام ﴿إِذْ﴾ بدل من يَوْمٍ ﴿أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة وزل عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله ﷺ وحده وهو ثابت في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام دابته وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه آخذاً بركابه فقال للعباس صح بالناس وكان صيتنا فنادى يا أصحاب الشجرة فاجتمعوا وهم يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة عليهم الثياب البيض على خيول بلق فأخذ رسول الله ﷺ كفأ من تراب فرماهم به ثم قال انهزموا ورب الكعبة فانهزموا وكان من دعائه عليه السلام يومئذ اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وهذا دعاء موسى عليه السلام يوم انفلاق البحر ﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ﴾ ما مصدرية والباء بمعنى مع أي مع رُحبها وحقيقته ملتبسة برحبها على أن الجار والمجرور في موضع الحال كقولك دخلت عليه بثياب السفر أى ملتبسابها والمعنى لم تجدوا موضعاً لفراركم عن أعدائكم فكأنها ضاقت عليكم ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ ثم انهزمتم
﴿ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ﴾ رحمته التي سكنوا بها وأمنوا ﴿على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ يعني الملائكة وكانوا ثمانية آلاف أو خمسة آلاف أو ستة عشر ألفاً ﴿وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ﴾ بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري ﴿وذلك جَزَاء الكافرين﴾
﴿ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاءُ﴾ وهم الذين أسلموا منهم ﴿والله غَفُورٌ﴾ بستر كفر العدو بالإسلام ﴿رَّحِيمٌ﴾ بنصر الولى بعد الانهزام
﴿يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ أي ذوو نجس وهو مصدر يقال نجس نجسا وقذر وقذرا لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام﴾ فلا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية ﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ وهو عام تسع من الهجرة
التوبة (٢٨ _ ٣٠)
حين أمر أبو بكر رضى الله عنه على الموسم ويكون المراد من نهي القربان النهى عن الحج والعمرة وهو من مذهبنا ولا يمنعون دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندنا وعند الشافعى رحمه الله يمنعون عن المسجد الحرام خاصة وعند مالك يمنعون منه ومن غيره وقيل نهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ أي فقراً بسبب منع المشركين عن الحج وما كان لكم في قدومهم عليكم من الإرفاق والمكاسب ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ من الغنائم أو المطر والنبات أو من متاجر حجيج
﴿قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ لأن اليهود مثنيّة والنصارى مثلثة ﴿وَلاَ باليوم الأخر﴾ لأنهم فيه على خلاف ما يجب حيث يزعمون أن لا أكل في الجنة ولا شرب ﴿وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ﴾ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة أو لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ﴿وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق﴾ ولا يعتقدون دين الإسلام الذي هو الحق يقال فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده ﴿مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ بيان للذين قبله وأما المجوس فملقحون بأهل الكتاب في قبول الجزية وكذا الترك والهنود وغيرهما بخلاف مشركي العرب لما رُوي الزهري أن النبي عليه السلام صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب ﴿حتى يُعْطُواْ الجزية﴾ إلى أن يقبلوها وسميت جزية لأنه يجب على أهلها أن يجزوه أي يقضوه أو هي جزاء على الكفر على التحميل في تذليل ﴿عَن يَدٍ﴾ أي عن يدٍ موانية غير ممتنعة ولذا قالوا أعطى بيده إذا انقاد وقالوا انزع يده عن الطاعة أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة لا مبعوثاً على يدٍ أحد ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ ﴿وَهُمْ صاغرون﴾ أي تؤخذ منهم على الصغار والذل وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيه ويقال له أدِّ الجزية يا ذمي وإن
﴿وَقَالَتِ اليهود﴾ كلهم أو بعضهم ﴿عُزَيْرٌ ابن الله﴾ مبتدأ وخبر كقوله ﴿المسيح ابن الله﴾ وعزير اسم أعجمي ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ومن نون وهم عاصم وعلي فقد جعله عربياً ﴿وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم﴾
التوبة (٣٠ _ ٣٤)
أي قول لا يعضده برهان ولا يستند إلى بيان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ عن معنى تحته كالألفاظ المهملة ﴿يضاهئون قول الذين كفروا من قبل﴾ لابد فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً يعني أن الذين كانوا فى عهد رسول الله ﷺ من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث أو الضمير للنصارى أي يضاهي قولهم المسيح ابن الله قول اليهود عُزَيْرٌ ابن الله لأنهم أقدم منهم يضاهئون عاصم وأصل المضاهاة المشابهة والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم امرأة ضهياء وهي التي أشبهت الرجال بأنها لا تحيض كذا قاله الزجاج ﴿قاتلهم الله﴾ أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا ﴿أنى يُؤْفَكُونَ﴾ كيف يصرفون عن الحق بعد قيام البرهان
﴿اتخذوا﴾ أي أهل الكتاب ﴿أحبارهم﴾ علماءهم ﴿ورهبانهم﴾ نساكهم ﴿أَرْبَابًا﴾ آلهة ﴿مِّن دُونِ الله﴾ حيث أطاعوهم في
﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد ﷺ بالتكذيب يحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى من الإشراق ليطفئه بنفخه أجرى ويأبى الله مجرى لاَ يُرِيدُ الله ولذا وقع فى مقابلة يريدون وإلا لا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً
﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ محمداً عليه السلام ﴿بالهدى﴾ بالقرآن ﴿وَدِينِ الحق﴾ الإسلام ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ ليعليه ﴿عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ على أهل الأديان كلهم أو ليظهر دين الحق على كل دين ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾
﴿يا أيها الذين آمنوا إنَّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس﴾ استعار
التوبة (٣٤ _ ٣٦)
الأكل للأخذ ﴿بالباطل﴾ أي بالرشا في الأحكام ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ سفلتهم ﴿عَن سَبِيلِ الله﴾ دينه ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة﴾ يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان للدلالة على
وقيار كذلك وخصا بالذكر من بين سائر الأموال لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء وذكر كنزهما دليل على ما سواهما ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
ومعنى قوله ﴿يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ أن النار تحمي عليها أي توقد وإنما ذكر الفعل لأنه مسند إلى الجار والمجرور أصله يوم تحمى النار عليها فلما حذفت النار قيل يحمى لانتقال الإسناد عن النار إلى عليها كما تقول رفعت القصة إلى الأمير فإن لم تذكر القصة قلت رفع إلى الأمير ﴿فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ وخصت هذه الأعضاء لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾ من غير زيادة والمراد بيان أن أحكام الشرع تبتنى على الشهور القمرية المحسوبة بالأهلة دون الشمسية
التوبة (٣٦ _ ٣٨)
﴿فِي كتاب الله﴾ فيما أثبته وأوجبه من حكمه أو في اللوح ﴿يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ ثلاثة سرد ذو القعدة للقعود عن القتال وذو الحجة للحج والمحرم لتحريم القتال فيه وواحد فرد وهو رجب لترجيب العرب إياه أي لتعظيمه ﴿ذلك الدين القيم﴾ أي الدين المستقيم لا ما يفعله أهل الجاهلية يعني أن تحريم الأربعة الأشهر هو الدين المستقيم ودين إبراهيم وإسماعيل وكانت العرب تمسكت به فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها حتى أحدثت النسيء فغيروا ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ﴾ في الحرم أو في الاثني عشر ﴿أَنفُسَكُمْ﴾ بارتكاب المعاصي ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً﴾ حال من الفاعل أو المفعول ﴿كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً﴾ جميعاً ﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ أي ناصر لهم حثهم على التقوى بضمان النصرة لاهلها
﴿إنما النسيء﴾ بالهمزة مصدر نساءه إذا أخره وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة فيحلونه ويحرمون
﴿يا أيها الذين آمنوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا﴾ اخرجوا ﴿فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم﴾ تثاقلتم وهو أصله إلا أن التاء أدغمت فى التاء
التوبة (٣٨ _ ٤٠)
فصارت ثاء ساكنة قد خلت ألف الوصل لئلا يبتدأ بالساكن أي تباطأتم ﴿إِلَى الأرض﴾ ضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بالى أي ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم وكان ذلك في غزوة تبوك استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم ذلك وقيل ما خرج رسول الله ﷺ في غزوة إلاّ ورّي عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة {أَرَضِيتُم بالحياة
﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ﴾ إلى الحرب ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾ سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدراين وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين خير منهم وأطوع وأنه غني عنهم في نصرة دينه لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً وقيل الضمير في وَلاَ تَضُرُّوهُ للرسول عليه السلام لأن الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ووعده كائن لا محالة ﴿والله على كُلّ شَيْءٍ﴾ من التبديل والتعذيب وغيرهما ﴿قدير﴾
﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾ إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد فدل بقوله فَقَدْ نَصَرَهُ الله على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كفروا﴾ أسند الإخراج إلى الكفار لأنهم حيث هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه ﴿ثَانِيَ اثنين﴾ أحد اثنين كقوله ثالث ثلاثة وهما رسول الله وأبو بكر وانتصابه على الحال ﴿إِذْ هُمَا﴾ بدل من إِذْ أَخْرَجَهُ ﴿فِي الغار﴾ هو نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثاً فيه ثلاثاً ﴿إِذْ يَقُولُ﴾ بدل ثانٍ ﴿لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا﴾ بالنصرة والحفظ قيل طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله ﷺ فقال إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه السلام ماظنك باثنين الله ثالثهما
التوبة (٤٠ _ ٤٣)
إليه ﴿عليه﴾ على النبى ﷺ أو على أبي بكر لأنه كان يخاف وكان عليه السلام ساكن القلب ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ هم الملائكة صرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه أو أيده بالملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي دعوتهم إلى الكفر ﴿السفلى وَكَلِمَةُ الله﴾ دعوته إلى الإسلام ﴿هِىَ﴾ فصل ﴿العليا﴾ وَكَلِمَةُ الله بالنصب يعقوب بالعطف والرفع على الاستئناف أوجه إذ هي كانت ولم تزل عالية ﴿والله عَزِيزٌ﴾ يعز بنصره أهل كلمته ﴿حَكِيمٌ﴾ يذل أهل الشرك بحكمته
﴿انفروا خِفَافًا﴾ في النفور لنشاطكم له ﴿وَثِقَالاً﴾ عنه لمشقته عليكم أو خفافاً لقلة عيالكم وثقالاً لكثرتها أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه أو ركباناً ومشاة أو شباباً وشيوخاً أو مهازيل وسمانا أو صحاحا ومرضا ﴿وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ﴾ إيجاب للجهاد بهما إن إمكن أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة ﴿فِي سَبِيلِ الله ذلكم﴾ الجهاد {خَيْرٌ
﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا﴾ هو ما عرض لك من منافع الدنيا يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر أي لو كان مادعوا إليه مغنماً ﴿قَرِيبًا﴾ سهل المأخذ ﴿وَسَفَرًا قَاصِدًا﴾ وسطاً مقارباً والقاصد والقصد المعتدل ﴿لاَّتَّبَعُوكَ﴾ لوافقوك في الخروج ﴿ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة﴾ المسافة الشاطة الشاقة ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾ من دلائل النبوة لأنه أخبر بما سيكون بعد القفول فقالوا كما اخبر وبالله متعلق بسيحلفون أو هو من جملة كلامهم والقول مراد في الوجهين أي سيحلفون يعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم أو سيحلفون بالله يقولون لو استطعنا وقوله لخرجنا سد مسد جوابى القسم ولو جميعاً ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا ﴿يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ﴾ بدل من سَيَحْلِفُونَ أو حال منه أي مهلكين والمعنى أنهم يهلكونها بالحلف الكاذب أو حال من لَخَرَجْنَا أي لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها على المسير في تلك الشقة ﴿والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون﴾ فيما يقولون
﴿عفا الله عنك﴾ كناية من الزلة لأن العفو رادف لها
التوبة (٤٣ _ ٤٧)
وهو من لطف العتاب بتصدير العفو في الخطاب وفيه دلالة فضله على سائر الأنبياء عليهم السلام حيث لم يذكر مثله لسائر الأنبياء عليهم السلام ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ بيان لما كنى عنه بالعفو ومعناه مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلّوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن ﴿حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين﴾ يتبين لك الصادق في العذر من الكاذب فيه
﴿لا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا﴾ ليس من عادة المؤمنين أن يستأذوك في أن يجاهدوا ﴿بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ والله عَلِيمٌ بالمتقين﴾ عدة لهم بأجزل الثواب
﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ يعني المنافقين وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً ﴿وارتابت قُلُوبُهُمْ﴾ شكوا في دينهم واضطربوا في عقيدتهم ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ يتحيرون لأن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المستبصر
﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ﴾ للخروج أو للجهاد ﴿عدة﴾ اهبة لأنهم كانوا مياسير للغزو ولما كان وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم قيل ﴿ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم﴾ نهوضهم للخروج كأنه قيل ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه ﴿وَقِيلَ اقعدوا﴾ أي قال بعضهم لبعض أو قاله الرسول عليه السلام غضباً عليهم أو قاله الشيطان بالوسوسة ﴿مَعَ القاعدين﴾ هو ذم لهم وإلحاق بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود في البيوت
﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ﴾ بخروجهم معكم ﴿إِلاَّ خَبَالاً﴾ إلا فساداً وشراً والاستثناء متصل لأن المعنى مازادوكم شيئاً إلا خبالاً والاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقولك مازادوكم خيراً إلا خبالاً والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الشيء فكان استثناء متصلاً لأن الخبال بعضه ﴿ولأَوْضَعُواْ خلالكم﴾
ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين يقال وضع البعير وضعاً إذا أسرع وأوضعته أنا والمعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم والمراد الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي وخط في المصحف وَلاَ أوضعوا بزيادة الألف لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحها ألفاً أخرى ونحوه اولا أذبحنه ﴿يبغونكم﴾ حال من الضمير فى أوضعوا ﴿الفتنة﴾ أي يطلبون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلافة فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم ﴿وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ﴾ أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ بالمنافقين
﴿لَقَدِ ابتغوا الفتنة﴾ بصد الناس أو بأن يفتكوا به عليه السلام ليلة العقبة أو بالرجوع يوم أحد ﴿مِن قَبْلُ﴾ من قبل غزوة تبوك ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور﴾ ودبروا لك الحيل والمكايد ودوّروا الآراء في إبطال أمرك ﴿حتى جَاءَ الحق﴾ وهو تأييدك ونصرك ﴿وَظَهَرَ أمر الله﴾ وغلب دينه وعلاشرعه ﴿وَهُمْ كارهون﴾ أي على رغم منهم
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي وَلاَ تَفْتِنّي﴾ ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت أولا تلقني في
﴿إِن تُصِبْكَ﴾ في بعض الغزوات حَسَنَةٌ ظفر وغنيمة ﴿تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ نكبة وشدة في بعضها نحو ما جرى يوم أحد ﴿يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا﴾ الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم ﴿مِن قَبْلُ﴾ من قبل ما وقع ﴿وَيَتَوَلَّواْ﴾ عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم ﴿وَّهُمْ فَرِحُونَ﴾ مسرورون
﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾ أي قضى من خير أو شر ﴿هُوَ مولانا﴾ أي الذي يتولانا ونتولاه ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله
﴿قل هل تربصون بنا﴾
التوبة (٥٢ _ ٥٥)
تنتظرون بنا ﴿إِلا إِحْدَى الحسنيين﴾ وهما النصرة والشهادة ﴿ونحن نتربص بكم﴾ إحدى السوأيين إما ﴿أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ﴾ وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود ﴿أَوْ﴾ بعذاب ﴿بِأَيْدِينَا﴾ وهو القتل على الكفر ﴿فَتَرَبَّصُواْ﴾ بنا ما ذكرنا
﴿قُلْ أَنفِقُواْ﴾ في وجوه البر ﴿طَوْعاً أَوْ كرها﴾ طائعين أو مكروهين نصب على الحال كَرْهاً حمزة وعلي وهو أمر في معنى الخبر ومعناه ﴿لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾ أنفقتم طوعاً أو كرهاً ونحوه استغفر لهم أولا تستغفر لهم وقوله... أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة... لدينا ولا مقلية إن تقلت...
أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ولا نلومك أسأت إلينا أو أحسنت وقد جاز عكسه في قولك رحم الله زيداً ومعنى عدم القبول أنه عليه السلام يردها عليهم ولا يقبلها أو لا يثيبها الله وقوله طَوْعاً أي من غير إلزام من الله ورسوله وكرها أي ملزمين وسمي الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه ﴿إِنَّكُمْ﴾ تعليل الرد إنفاقهم ﴿كُنتُمْ قَوْماً فاسقين﴾ متمردين عاتين
﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم﴾ وبالياء حمزة وعلي ﴿إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ﴾ أنهم فاعل منع وهم وأن تُقْبَلَ مفعولاه أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم ﴿بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى﴾ جمع كسلان ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون﴾ لأنهم لا يريدون بهما وجه الله تعالى وصفهم بالطوع في قوله ﴿طَوْعاً﴾ وسلبه عنهم ههنا لأن المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله ﷺ أو من رؤسائهم وما طوعهم ذلك إلا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختيار
﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا﴾ الإعجاب بالشيء أن تسربه سرور راضٍ به متعجب من حسنه والمعنى
التوبة (٥٥ _ ٦٠)
وحفظها وحبها والبخل بها والخوف عليها وكل هذا عذاب ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون﴾ وتخرج أرواحهم وأصل الزهوق الخروج بصعوبة ودلت الآية على بطلان القول بالأصلح لأنه أخبر أن إعطاء الاموال والأولاد لهم للتعذيب والأمانة على الكفر وعلى إرادة الله تعالى المعاصي لأن إرادة العذاب بإرادة ما يعذب عليه وكذا إرادة الإماتة على الكفر
﴿وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ﴾ لمن جملة المسلمين ﴿وَمَا هُم مّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ يخافون القتل وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية
﴿لو يجدون ملجأ﴾ مكاناً يلجئون إليه متحصنين من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة ﴿أَوْ مغارات﴾ أو غيراناً ﴿أَوْ مُدَّخَلاً﴾ أو نفقاً يندسون فيه وهو مفتعل من الدخول ﴿لَّوَلَّوَاْ إِلَيْهِ﴾ لأقبلوا نحوه ﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء من الفرس الجموح
﴿وَمِنْهُمُ﴾ ومن المنافقين ﴿مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات﴾ يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك ﴿فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ إذا للمفاجأة أي وإن لم يعطوا منها فاجئوا السخط وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح أهله لأنه عليه السلام استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه
﴿ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله راغبون﴾ جواب لو محذوف تقديره ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم والمعنى ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم وقالوا كفانا فضل الله وصنعه وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة اخرى فيؤتنيا رسول الله ﷺ أكثر مما آتانا اليوم إنا إلى الله فى أن يغنمنا ويخولنا فضله الراغبون
ثم بين مواضعها التي توضع فيها فقال ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء والمساكين﴾ قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة أي هي مختصة بهم لا تتجاوز إلى غيرهم كأنه قيل إنما هي لهم لا لغيرهم كقولك إنما الخلافة لقريش تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها كما هو مذهبنا وعن
التوبة (٦٠ _ ٦١)
حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين أنهم قالوا في أي صنف منها وضعتها أجزأك وعند الشافعى رحمه الله لا بد من صرفها إلى الأصناف وهو المروي عن عكرمة ثم الفقير الذي لا يسأل لأن عنده ما يكفيه للحال والمسكين الذي يسأل لأنه لا يجد شيئاً فهو أضعف حالا منه وعند الشافعى رحمه الله على العكس ﴿والعاملين عليها﴾ هم السعاة الذين يقبضونها ﴿والمؤلفة قُلُوبُهُمْ﴾ على الإسلام أشراف من العرب كان رسول الله ﷺ يتألفهم على أن يسلموا وقوم منهم أسلموا فيعطيهم تقريراً لهم على الإسلام ﴿وَفِي الرقاب﴾ وهم المكاتبون يعانون منها ﴿والغارمين﴾ الذين ركبتهم الديون ﴿وَفِي سَبِيلِ الله﴾ فقراء الغزاة أو الحجيج المنقطع بهم ﴿وابن السبيل﴾ المسافر المنقطع عن ماله وعدل عن اللام إلى الأربعة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم
﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمى بالجارجة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة وإيذاؤهم له هو قولهم فيه هُوَ أُذُنٌ قصدوا به المذمة وأنه من أهل سلامة القلوب والغرة ففسره الله تعالى بما هو مدح له وثناء عليه فقال ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾ كقولك رجل صدق تريد الجودة والصلاح كأنه قيل نعم هو أذن ولكن نعم الأذن ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذان في غير ذلك ثم فسر كونه ﴿أذن خير﴾ بأنه ﴿يؤمن بالله﴾ أى يصدق لما قام عنده من الأدلة ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار وعدي فعل الإيمان بالباء إلى الله لأنه قصد به التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به وإلى المؤمنين باللام لأنه قصد السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده ألا ترى إلى قوله وما أنت بمؤمن لنا كيف ينبىء عن الباء
التوبة (٦١ _ ٦٥)
﴿وَرَحْمَةٌ﴾ بالعطف على
﴿يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ الخطاب للمسلمين وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم فقيل لهم ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسول الله فكانا في حكم شيء واحد كقولكم إحسان زيد وإجماله نعشني أو والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك
﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ﴾ أن الأمر والشأن ﴿مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ﴾ يجاوز الحد بالخلاف وهي مفاعلة من الحد كالمشاقة من الشق ﴿فَأَنَّ لَهُ﴾ على حذف الخبر أي فحق أن له ﴿نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلك الخزي العظيم﴾
﴿يَحْذَرُ المنافقون﴾ خبر بمعنى الأمر أي ليحذر المنافقون ﴿أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ﴾ تُنَزَّلَ بالتخفيف مكي وبصري ﴿تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم﴾ من الكفر والنفاق والضمائر للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم دليله قُلِ استهزءوا أو الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه ﴿قُلِ استهزؤوا﴾ أمر تهديد {إِنَّ
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ بينا رسول الله ﷺ يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا أنظرونا إلى الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه على ذلك فقال احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبى االله لا والله ماكنا
التوبة (٦٥ _ ٦٨)
في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ولكن كنا فى شيء مما يخوضن فيه الركب ليقصر مضنا على بعض السفر أي ولئن سألتهم وقلت لهم لم قلتم ذلك لقالوا إنما كنا نخوض ونلعب ﴿قل﴾ يا محمد ﴿أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون﴾ لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود فيهم حتى وبخوا بإخطائهم موقع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير وذلك إنما يستقيم بعد ثبوت الاستهزاء
﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ﴾ لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ﴾ قد أظهرتم كفركم باستهزائكم ﴿بَعْدَ إيمانكم﴾ بعد إظهاركم الإيمان ﴿إن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ﴾ بتوبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق ﴿نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ مصرين على النفاق غير تائبين منه أَن يُعفَ تُعَذّبَ طَائِفَةٌ غير عاصم
﴿المنافقون والمنافقات﴾ الرجال المنافقون كانوا ثلثمائة والنساء
﴿وَعَدَ الله المنافقين والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا﴾ مقدرين الخلود فيها ﴿هِىَ﴾ أي النار ﴿حَسْبُهُمْ﴾ فيه دلالة على عظم عذابها وأنه بحيث لا يزاد عليه ﴿وَلَعَنَهُمُ الله﴾ وأهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ دائم معهم في العاجل لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين وما يحذرونه أبدا
التوبة (٦٩ _ ٧١)
من الفضحية ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم
الكاف في ﴿كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم﴾ محلها رفع أي أنتم مثل الذين من قبلكم أو نصب على
ثم ذكر نبأ من قبلهم فقال ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ﴾ هو بدل من الذين ﴿وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مدين﴾ وأهل مدين هم قوم شعيب ﴿والمؤتفكات﴾ مدائن قوم لوط وائتفاكهن انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر ﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ﴾ فما صح منه أن يظلمهم بإهلاكهم لأنه حكيم فلا يعاقبهم بغير جرم ﴿ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالكفر وتكذيب الرسل
﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ في التناصر والتراحم ﴿يَأْمُرُونَ بالمعروف﴾ بالطاعة والإيمان ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ عن الشرك والعصيان {وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ
التوبة (٧١ _ ٧٤)
عليه فهو يقدر على الثواب والعقاب ﴿حَكِيمٌ﴾ واضع كل موضعه
﴿وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً﴾ يطيب فيها العيش وعن الحسن رحمه الله قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد ﴿فِى جنات عَدْنٍ﴾ هو علم بدليل قوله جنات عدن التى وعد الرحمن وقد عرفت أن الذى والتى وضعا لوصف المعارف بالجمل وهي مدينة في الجنة ﴿ورضوان مّنَ الله﴾ وشيء من رضوان الله ﴿أَكْبَرُ﴾ من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة ﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما وعد أو إلى الرضوان ﴿هُوَ الفوز العظيم﴾ وحده دون ما يعده الناس فوزاً
﴿يا أيها النبى جاهد الكفار﴾ بالسيف ﴿والمنافقين﴾ بالحجة ﴿واغلظ عَلَيْهِمْ﴾ في الجهادين جميعاً ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما امكن منها ﴿ومأواهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير﴾ جهنم
أقام رسول الله ﷺ في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم الجلاس ابن سويد فقال والله لئن كان ما يقول محمدا حقا لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا فنحن شر من الحمير فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس أجل والله إن محمداً صادق وأنت شر من الحمار وبلغ ذلك رسول الله ﷺ فاستحضر فحلف بالله ما قال فرفع عامر يده فقال اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق
التوبة (٧٤ _ ٧٧)
﴿وما نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾ وذلك أنهم حين قدم رسول الله ﷺ المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فآثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله ﷺ بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى ﴿فَإِن يَتُوبُواْ﴾ عن النفاق ﴿يك﴾ الثواب ﴿خَيْراً لَّهُمْ﴾ وهي الآية التي تاب عندها الجلاس ﴿وَإِن يَتَوَلَّوْا﴾ يصروا على النفاق ﴿يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا والأخرة﴾ بالقتل والنار ﴿وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ ينجيهم من العذاب
﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله﴾ روي أن ثعلبة بن حاطب قال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً فقال عليه السلام يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه فراجعه وقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة فنزل وادياً وانقطع عن الجمعة والجماعة فسأل عنه
﴿فلما آتاهم مّن فَضْلِهِ﴾ أعطاهم الله المال ونالوا مناهم ﴿بَخِلُواْ بِهِ﴾ منعوا حق الله ولم يفوا بالعهد ﴿وَتَوَلَّواْ﴾ عن طاعة الله ﴿وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ مصرون على الإعراض
﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ﴾ فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم لأنه كان سبباً فيه ﴿إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ أي جزاء فعلهم وهو يوم القيامة ﴿بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين ومنه جعل خلف
التوبة (٧٨ _ ٨٠)
الوعد ثلث النفاق
﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ﴾ يعني المنافقين ﴿أَنَّ الله يَعْلَمُ سرهم﴾ أى ما أسروه من النفاق بالعزم على إخلاف ما وعدوه ﴿ونجواهم﴾ وما يتناجون به فيما بينهم
﴿الذين﴾ محله النصب أو الرفع على الذم أو الجر على البدل من الضمير في سِرَّهُمْ ونجواهم ﴿يَلْمِزُونَ المطوعين﴾ يعيبون المطوعين المتبرعين ﴿من المؤمنين في الصدقات﴾ متعلق بيلمزون روى أن رسول االله ﷺ حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي فقال عليه السلام بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً وتصدق عاصم بمائة وسق من تمر ﴿والذين﴾ عطف على المطوعين ﴿لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾ طاقتهم وعن نافع جَهْدَهُمْ وهما واحد وقيل الجهد الطاقة والجهد المشقة وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر فقال بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعا لعيالى وجئت بصاع فلمزهم المتنافقون وقالوا ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وأما صاع أبى عقيب فالله غني عنه ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ فيهزءون ﴿سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ جازاهم على سخريتهم وهو خبر غير دعاء ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم
ولما سأل عبد الله بن عبد الله ابن أبى رسول الله ﷺ أن يستغفر لأبيه في مرضه نزل ﴿استغفر لهم أو لا تستغفر لهم﴾ وقد أمر أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم
التوبة (٨٠ _ ٨٣)
كقولك اثنا عشر وثلاثة عشر إلى عشرين والعشرون تكرير العشرة مرتين والثلاثون تكريرها ثلاثة مرات وكذلك إلى مائة فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه وكمال الحساب والكثرة منه فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لأقصاه فجاز أن يكون تخصيص السعبين لهذا المعنى والله أعلم ﴿ذلك﴾ إشارة إلى اليأس من المغفرة ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسبب أنهم ﴿كَفَرُواْ بالله ورسوله﴾ ولا غفران للكافرين ﴿والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ الخارجين عن الإيمان ما داموا مختارين للكفر والطغيان
﴿فَرِحَ المخلفون﴾ المنافقون الذين استأذنوا رسول الله ﷺ فأذن لهم وخلّفهم بالمدينة في غزوة تبوك أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان ﴿بِمَقْعَدِهِمْ﴾ بقعودهم عن الغزو ﴿خلاف رَسُولِ الله﴾ مخالفة له وهو مفعول له أو حال أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له ﴿وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله﴾ أي لم يفعلوا ما فعله المؤمنون من باعث الإيمان وداعي الإيقان ﴿وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الحر﴾ قال بعضهم لبعض أو قالوا
﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا﴾ أي فيضحكون قليلاً على فرحهم بتخلفهم في الدنيا ويبكون كثيراً جزاء في العقبى إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيرهُ يروي أن أهل النفاق يبكون فى النار عمر الدنيا لا يرقألهم دمع ولا يكتحلون بنوم ﴿جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ من النفاق
﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله﴾ أي ردك من تبوك وإنما قال ﴿إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ﴾ لأن منهم من تاب من النفاق ومنهم من هلك ﴿فاستأذنوك للخروج﴾ إلى غزوة بعد غزوة تبوك ﴿فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا﴾ وبسكون الياء حمزة وعلي وأبو بكر ﴿وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا﴾ مَعِىَ حفص ﴿إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أول ما دعيتم إلى غزوة تبوك ﴿فاقعدوا مَعَ﴾
﴿الخالفين﴾ مع من تخلف بعد
وسأل ابن عبد الله بن أبي وكان مؤمنا أن يكفن النبى عليه السلام أباه في قميصه ويصلي عليه فقبل فاعترض عمر رضى الله عنه في ذلك فقال عليه السلام ذلك لا ينفعه وإني أرجو أن يؤمن به ألف من قومه فنزل ﴿وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم﴾ من المنافقين يعني صلاة الجنازة روي أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب التبرك بثوب النبى ﷺ ﴿مات﴾ صفة لأحد ﴿أبدا﴾ ظرف لتصل وكان عليه السلام إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فقيل ﴿وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون﴾ تعليل للنهي أي أنهم ليسوا بأهل للصلاة عليهم لأنهم كفروا بالله ورسوله
﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون﴾ التكرير للمبالغة والتأكيد وأن يكون على بال من المخاطب لا ينساه وأن يعتقد أنه مهم ولأن كل آية في فرقة غير الفرقة الأخرى
﴿وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ يجوز أن يراد سورة بتمامها وأن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه ﴿أن آمنوا بالله﴾ بأن آمنوا أو هي أن المفسرة ﴿وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ﴾ ذو الفضل والسعة ﴿وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين﴾ مع الذين لهم عذر في التخلف كالمرضى والزمنى
﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾ أي النساء جمع خالفة ﴿وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ﴾ ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق ﴿فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الهلاك والشقاوة
﴿لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ﴾ أي إن تخلف هؤلاء فقد نهض إلى الغزو من هو خير منهم ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ الفائزون بكل مطلوب
﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم﴾
قوله أَعَدَّ دليل على أنها مخلوقة
﴿وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾ هو من عذّر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى وحقيقته أن يوهم أن له عذر فيما فعل ولا عذر له أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين وهم الذين يعتذرون بالباطل قيل هم أسد وعطفان قالوا إن لنا عيالاً وإن بنا جهداً فأذن لنا في التخلف ﴿وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله ورسوله﴾ هم منافقوا الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان ﴿سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾ من الأعراب ﴿عذاب أليم﴾ فى الدينا بالقتل وفي الآخرة بالنار
﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفاء﴾ الهرمى والزمنى ﴿وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ﴾ هم الفقراء من مزينة وجهينة وبني عذرة ﴿حَرَجٌ﴾ إثم وضيق في التأخر ﴿إِذَا نصحوا لله وَرَسُولُهِ﴾ بأن آمنوا في السر والعلن وأطاعوا كما يفعل الناصح بصاحبه ﴿مَا عَلَى المحسنين﴾ المعذورين الناصحين ﴿من سبيل﴾ أى لاجناح عليهم ولا طريق للعتاب عليهم ﴿والله غَفُورٌ﴾ يغفر تخلفهم ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم
﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ لتعطيهم الحمولة ﴿قُلْتَ﴾ حال من الكاف في أتوك وقد قبله مضمرة أي إذا ما أتوك قائلاً ﴿لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا﴾ هو جواب إذا ﴿وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾ أي تسيل كقولك تفيض دمعاً وهو أبلغ من تفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض ومن للبيان كقولك أفديك من رجل ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز ويجوز أن يكون قُلْتَ لاَ أَجِدُ استئنافاً كأنه قيل إذا ما أتوك لتحملهم تولوا فقيل مالهم تولوا باكين فقيل قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض ﴿حَزَناً﴾ مفعول له ﴿أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ لئلا يجدوا ما ينفقون ومحله نصب على أنه مفعول له وناصبة حَزَناً والمستحملون أبو موسى الأشعرى وأصحابه أو البكاءون وهم ستة نفر من الأنصار
﴿إنما السبيل على الذين يستأذنونك﴾ فى التخلف ﴿وهم أغنياء﴾ وقوله ﴿رضوا﴾ استنئاف كأنه قيل مابالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل رضوا ﴿بِأَن يَكُونُواْ مع الخوالف﴾
أي بالانتظام في جملة الخوالف ﴿وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾
﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ﴾ يقيمون لأنفسهم عذراً باطلاً ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ من هذه السفرة ﴿قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ﴾ بالباطل ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ﴾ لن نصدقكم وهو علة للنهي عن الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به ﴿قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ علة لانتفاء تصديقهم لأنه تعالى إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم ﴿وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ أتنيبون أم تثبتون على كفركم ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة﴾ أي تردون إليه وهو عالم
﴿سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ لتتركوهم ولا توبخوهم ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ فأعطوهم طلبتهم ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ تعليل لترك معاتبتهم أي أن المعاتبة لا تنفع فيهم لا تصلحهم لأنهم أرجاسٍ لا سبيل إلى تطهيرهم ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمَ﴾ ومصيرهم النار يعني وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً فلا تتكلفوا عتابهم ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي يجزون جزاء كسبهم
﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ﴾ أي غرضهم بالحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم ﴿فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين﴾ أي فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها وإنما قيل ذلك لئلا يتوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم
﴿الأعراب﴾ أهل البدو ﴿أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾ من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وبعدهم عن العلم والعلماء ﴿وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ﴾ وأحق بأن لا يعلموا ﴿حُدُودَ مَا أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ﴾ يعني حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام ومنه قوله عليه السلام إن الجفاء والقسوة في الفدادين يعني الأكرة لأنهم يفدون أى يصيحون فى حروثهم
التوبة (٩٧ _ ١٠٠)
والفديد الصياح ﴿والله عَلِيمٌ﴾ بأحوالهم ﴿حَكِيمٌ﴾ في إمهالهم
﴿وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ﴾ أي يتصدق ﴿مَغْرَمًا﴾ غرامة وخسراناً لأنه لا ينفق إلا تقيّة من المسلمين ورياء لا لوجه الله وابتغاء المثوبة عنده ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوآئر﴾ أي دوائر الزمان وتبدل الأحوال بدور الأيام لتذهب غلبتكم عليه فيتخلص من إعطاء الصدقة ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء﴾ أي عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعون وقعوها في المسلمين السوء مكي وأبو عمرو وهو العذاب والسوء بالفتح ذم للدائرة كقولك رجل سوء في مقابلة قولك رجل صدق ﴿والله سميع﴾ ما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يضمرونه
﴿وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ﴾ في الجهاد والصدقات ﴿قربات﴾ أسباباً للقربة ﴿عَندَ الله﴾ وهو مفعول ثان ليتخذ ﴿وصلوات الرسول﴾ أي دعاءه لأنه عليه السلام كان يدعوا للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله اللهم صل على آل أبي أوفى ﴿أَلا إِنَّهَا﴾ أي النفقة أو صلوات الرسول ﴿قُرْبَةٌ لَّهُمْ﴾ قُرْبَةٌ نافع وهذا شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفى التبنيه والتحقيق المؤذين بثبات الأمر وتمكنه وكذلك ﴿سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ﴾ أي جنته وما في السين من تحقيق الوعد ومادل هذا الكلام على رضا الله عن المتصدقين وأن لصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ﴾ يستر عيب المخل ﴿رَّحِيمٌ﴾ يقبل جهد المقل
﴿والسابقون﴾ مبتدأ ﴿الأولون﴾ صفة لهم ﴿مِنَ المهاجرين﴾ تبين لهم وهم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدراً أو بيعة الرضوان ﴿والأنصار﴾ عطف على المهاجرين أي ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين ﴿والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ﴾ من المهاجرين والأنصار فكانوا سائر الصحابة وقيل هم الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة والخبر ﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ﴾ بأعمالهم الحسنة ﴿وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ بما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ﴾ عطف على رَضِيَ ﴿جنات تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار﴾ مِن تَحْتِهَا مكى
التوبة (١٠٠ _ ١٠٢)
﴿خالدين فِيهَا أَبَداً ذلك الفوز العظيم﴾
﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم﴾ يعني حول بلدتكم وهي المدينة ﴿مّنَ الأعراب منافقون﴾ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها ﴿وَمِنْ أَهْلِ المدينة﴾ عطف على خبر المبتدأ الذي هو مِمَّنْ حَوْلَكُم والمبتدأ منافقون ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت ومن أهل المدينة قوم ﴿مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾ أي تمهروا فيه على أن مردوا صفة موصوف محذوف وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاما مبتدأ أو صفة لمنافقون فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره ودل على مهارتهم فيه بقوله ﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ﴾ أي يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط تنوقهم في تحامي ما يشككك في أمرهم ثم قال ﴿نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ أي لا يعلمهم إلا الله ولا يطلع على سرهم غيره لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين ﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ﴾
﴿وآخرون﴾ أي قوم آخرون سوى المذكورين ﴿اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين وكانوا عشرة فسبعة منهم لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله ﷺ فدخل المسجد فصلى ركعتين وكانت عادته كلما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يحلهم فقال وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت فأطلقهم فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزل ﴿خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً﴾ ﴿خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا﴾ خروجا إلى الجهاد ﴿وآخر سَيِّئاً﴾ تخلفاً عنه أو التوبة والإثم وهو من قولهم بعت الشاء شاة ودرهما فالواو بمعنى الباء لأن الواو للجمع والباء للإلصاق فيتناسبان أو المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر فكل واحد منهما مخلوط ومخلوط به كقولك خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه بخلاف قولك خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به وإذا قلته بالواو فقد جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما كأنك قلت خلطت الماء باللبن واللبن بالماء ﴿عَسَى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم﴾
التوبة (١٠٣ _ ١٠٦)
ولم يذكر توبتهم لأنه ذكر اعترافهم بذنوبهم وهو دليل على التوبة
﴿خذ من أموالهم صدقة﴾ كفارة لذنبوهم وقيل هي الزكاة
﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ﴾ المراد المتوب عليهم أي ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم ﴿أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ إذا صحت ﴿ويأخذ الصدقات﴾ ويقبلها إذا صارت عن خلوص النية وهو للتخصيص أي إن ذلك ليس إلى رسول الله ﷺ إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردها فاقصدوه بها ووجهوها إليه ﴿وَأَنَّ الله هُوَ التواب﴾ كثير قبول التوبة ﴿الرحيم﴾ يعفو الحوبة
﴿وَقُلِ﴾ لهؤلاء التائبين ﴿اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون﴾ أي فإن عملكم لا يخفى خيراً كان أو شراً على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم أو غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة فقد رُوي أنه لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت وقوله تعالى فَسَيَرَى الله وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة ﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب﴾
﴿وآخرون مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾ بغير همز مدني وكوفي غير أبي بكر مرجئون غيرهم من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ومنه المرجئة أي وآخرون من المتخلفين موقوفون إلى أن يظهر أمر الله فيهم ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ﴾ إن أصروا ولم يتوبوا ﴿وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ إن تابوا وهم ثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومراره بن الربيع والضابط
التوبة (١٠٦ _ ١٠٨)
مكة تخلفوا عن غزوة تبوك وهم الذين ذكروا في قوله وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ ﴿والله عَلِيمٌ﴾ برجائهم ﴿حَكِيمٌ﴾ في إرجائهم وإما للشك وهو راجع إلى العباد أي خافوا عليهم العذاب وارجوا لهم الرحمة ورُوي أنه عليه السلام أمر أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل ذلك الفريق من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم فلما علموا أن أحداً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم ونصحت توبتهم فرحمهم الله
﴿والذين اتخذوا مَسْجِدًا﴾ تقديره ومنهم الذين اتخذوا الذين بغير واو مدني وشامي وهو مبتدأ خبره محذوف أي جازيناهم رُوي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله ﷺ أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه ويصلي فيه
﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ للصلاة ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التقوى﴾ اللام للابتداء وأسس نعت له وهو مسجد قباء أسسه رسول الله ﷺ وصلى
التوبة (١٠٨ _ ١١٠)
عام في الزمان والمكان ﴿أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ مصلياً ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين﴾ قيل لما نزلت مشى رسول الله ﷺ ومعه المهاجرون حتى وقفوا على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال أمؤمنون أنتم فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال عليه السلام أترضون بالقضاء قالوا نعم قال أتصبرون على البلاء قالوا نعم قال أتشكرون في الرخاء قالوا نعم قال عليه السلام مؤمنون أنتم ورب الكعبة فجلس ثم قال يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط قالوا يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي عليه السلام ﴿رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ﴾ قيل هو عام في التطهر عن النجاسات كلها وقيل هو التطهر من الذنوب بالتوبة ومعنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء ومعنى محبة الله إياهم أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ وضع أساس ما يبنيه ﴿على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم من أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ هذا سؤال تقرير وجوابه مسكوت عنه لوضوحه والمعنى أفمن أساس بنيان دينه على قاعدة محكمة وهي تقوى الله ورضوانه خير أم من أسسه على قاعدة أضعف
﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ﴾ لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لما غاظهم من ذلك وعظم علمهم ﴿إلا أن تقطع قلوبهم﴾ شامى وحمزة
التوبة (١١٠ _ ١١٢)
وحفص اي تنقطع غيرهم تُقطّع أي إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه وأما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة ثم يجوز أن يكون ذكر التقطع تصويراً لحال زوال الريبة عنها ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار أو معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم ﴿والله عَلِيمٌ﴾ بعزائمهم ﴿حَكِيمٌ﴾ في جزاء جرائمهم
﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء ورُوي تاجرهم فأغلى لهم الثمن وعن الحسن أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها ومر برسول الله ﷺ أعرابي وهو يقرؤها فقال بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد ﴿يقاتلون فِى سَبِيلِ الله﴾ بيان محل التسليم ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ أي تارة يقتلون العدو وطوراً يقتلهم العدو فَيُقتلون وَيَقْتلون حمزة وعلي ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ﴾ مصدر أي وعدهم بذلك وعداً ﴿حقا﴾ صفته أخبر أن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته ﴿فِي التوراة والإنجيل والقرآن﴾ وهو دليل على أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه ثم قال ﴿وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله﴾ لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكريم منا فكيف بأكرم الأكرمين ولا نرى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ ﴿فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ فافرحوا غاية الفرح فإنكم تبيعون فانياً بباقٍ ﴿وذلك هُوَ الفوز العظيم﴾ قال الصادق ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها
﴿التائبون﴾ رفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين أو هو مبتدأ خبره ﴿العابدون﴾ أي الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وما بعد خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال وعن الحسن هم الذين تابوا من
التوبة (١١٢ _ ١١٧)
ودخلت الواو للإشعار بأن السبعة عقد تام أو للتضاد بين الأمر والنهي كما في قوله ثيبات وأبكارا ﴿والحافظون لِحُدُودِ الله﴾ أوامره ونواهيه أو معالم الشرع ﴿وَبَشّرِ المؤمنين﴾ المتصفين بهذه الصفات
وهمّ عليه السلام أن يستغفر لأبي طالب فنزل ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى﴾ أى ماصح له الاستغفار في حكم الله وحكمته ﴿مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم﴾ من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك
ثم ذكر عذر إبراهيم فقال ﴿وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾ أي وعد أبوه إياه أن يسلم أو هو وعد أباه أن يستغفر وهو قوله لأستغفر لك دليله قراءة الحسن وَعَدَهَا أَبَاهُ ومعنى استغفاره سؤاله المغفرة له بعد ما أسلم أو سؤاله إعطاء الإسلام الذي به يغفر له ﴿فلما تبين﴾ من جهة الوحى ﴿له﴾ لابراهيم ﴿أَنَّهُ﴾ أن أباه ﴿عَدُوٌّ لِلَّهِ﴾ بأن يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ وقطع استغفاره {إن إبراهيم
﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ أي ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محذور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ولا يخدلهم إلا إذا قدموا عليه بعد بيان حظره وعلمهم بأنه واجب الاجتناب وأما قبل العلم والبيان فلا وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين والمراد بما يَتَّقُونَ ما يجب اتقاؤه للنهي فأما ما يعلم بالعقل فغير موقوف على التوقيف ﴿أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ﴾
﴿إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ لَقَدْ تَابَ الله على النبي﴾ أى تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه كقوله عفا الله عنك ﴿والمهاجرين والأنصار﴾ فيه بعث للمؤمنين على التوبة وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى
التوبة (١١٧ _ ١٢٠)
النبى ﷺ والمهاجرين والأنصار ﴿الذين اتبعوه فِى سَاعَةِ العسرة﴾ في غزوة تبوك ومعناه في وقتها والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق وكانوا في عسرة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد ومن الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة
﴿وَعَلَى الثلاثة﴾ أي وتاب على الثلاثة وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وهو عطف على النبى ﴿الذين خُلّفُواْ﴾ عن الغزو ﴿حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ﴾ برحبها أي مع سعتها وهو مثل للحيرة في أمرهم كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه قلقاً وجزعاً ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ﴾ أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور لانها خرجت من فرط الوحشية والغم ﴿وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ﴾ وعلموا أن لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفاره ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ بعد خمسين يوماً ﴿لِيَتُوبُواْ﴾ ليكونوا من جملة التبوابين ﴿إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾ عن أبي بكر الوراق أنه قال التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ في إيمانهم دون
﴿مَا كَانَ لأهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله﴾ المراد بهذا النفي النهي وخص هؤلاء بالذكر وإن استوى كل الناس في ذلك لقربهم منه ولا يخفى عليهم خروجه ﴿وَلاَ يَرْغَبُواْ﴾ ولا أن يضنوا ﴿بِأَنفُسِهِمْ عن نفسه﴾
عما يصيب نفسه أى لا يختاروا بقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد بل أمروا بأن يصحبوه في البأساء والضراء ويلقوا أنفسهم بين يديه في كل شدة ﴿ذلك﴾ النهي عن التخلف ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسبب أنهم ﴿لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ عطش ﴿وَلاَ نَصَبٌ﴾ تعب ﴿وَلاَ مَخْمَصَةٌ﴾ مجاعة ﴿فِى سَبِيلِ الله﴾ في الجهاد ﴿وَلاَ يطؤون مَوْطِئًا﴾ ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم واخفاف وراحلهم وأرجلهم ﴿يَغِيظُ الكفار﴾ يغضبهم ويضيق صدورهم ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً﴾ ولا يصيبون منهم إصابة بقتل أو أسر أو جرح أو كسر أو هزيمة ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عمل صالح﴾ عن ابن عباس رضى الله عنهما لكل روعة سبعون ألف حسنة يقال نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوءهم وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وقد أسهم النبى ﷺ لابني عامر وقد قدما بعد تقضي الحرب والموطئ إما مصدر كالمورد وإما مكان فإن كان مكانا
﴿وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً﴾ في سبيل الله ﴿صَغِيرَةً﴾ ولو تمرة ﴿وَلاَ كَبِيرَةً﴾ مثل ما أنفق عثمان رضى الله عنه في جيش العسرة ﴿وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا﴾ أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم وهو كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال ومنه الودْيُ وقد شاع في الاستعمال بمعنى الأرض ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ﴾ من الإنفاق وقطع الوادى ﴿ليجزيهم الله﴾ متعلق بكتب أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء ﴿أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي يجزيهم على كل واحد جزاء أحسن عمل كان لهم فيلحق ما دونه به توفيراً لأجرهم
﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾ الام لتأكيد النفي أي أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح للإفضاء إلى المفسدة ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ﴾ فحين لم يكن نفير الكافة فهلا نفر ﴿مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير ﴿لّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين﴾ ليتكلفوا الفقاهة فيه
التوبة (١٢٢ _ ١٢٦)
ويتجشموا المشاق في تحصيلها ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ﴾ وليجعلوا مرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم ﴿إذا رجعوا إليهم﴾ دون الاعراض الخسيسة من التصدر والترؤس والتشبه بالظلمة في المراكب والملابس ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ ما يجب اجتنابه وقيل إن رسول الله ﷺ كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك بعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن التفقه في الدين فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى سائرهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر إذ الجهاد بالحجاج أعظم أثراً من الجهاد
﴿يا أيها الذين آمنوا قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ﴾ يقربون منكم ﴿مِّنَ الكفار﴾ القتال واجب مع جميع الكفرة قريبهم وبعيدهم ولكن الأقرب فالأقرب أوجب وقد حارب النبي ﷺ قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم ﴿وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ شدة وعنفاً في المقال قبل القتال ﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ بالنصرة والغلبة
﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ ما صلة مؤكدة ﴿فَمِنْهُمْ﴾ فمن المنافقين ﴿مَن يِقُولُ﴾ بعضهم لبعض ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه﴾ السورة ﴿إيمانا﴾ إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين وأيكم مرفوع بالابتداء وقيل هو قول المؤمنين للحث والتنبيه ﴿فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا﴾ يقينا وثباتا أو خشية أو إيمانا بالسورة لأنهم لم يكونوا آمنوا بها تفصيلاً ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يعدون زيادة التكليف بشارة التشريف
﴿وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك ونفاق فهو فساد يحتاج إلى علاج كالفساد في البدن ﴿فزادتهم رجسا إلى رجسهم﴾ كفروا مضموماً إلى كفرهم ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون﴾ هو إخبار عن إصرارهم عليه إلى الموت
﴿أَوْ لاَ يَرَوْنَ﴾ يعني المنافقين وبالتاء حمزة خطاب للمؤمنين ﴿أنهم يفتنون﴾ يبتلون
التوبة (١٢٦ _ ١٢٩)
بالقحط والمرض وغيرهما ﴿فِي كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ﴾ عن نفاقهم ﴿وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ لا يعتبرون أو
﴿وإذا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ﴾ تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به قائلين ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ من المسلمين لننصرف فإنا لا نصير على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم أو إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين أشار بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد إن قمتم من حضرته عليه السلام ﴿ثُمَّ انصرفوا﴾ عن حضرة النبي عليه السلام مخافة الفضيحة ﴿صَرَفَ الله قُلُوبَهُم﴾ عن فهم القرآن ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسبب أنهم ﴿قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ لا يتدبرون حتى يفقهوا
﴿لقد جاءكم رسول﴾ محمد ﷺ ﴿مّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ شديد عليه شاق لكونه بعضا منكم عنتكم ولقاءكم المكروه فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ على إيمانكم ﴿بالمؤمنين﴾ منكم ومن غيركم ﴿رؤوف رَّحِيمٌ﴾ قيل لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك ﴿فَقُلْ حَسْبِيَ الله﴾ فاستعن بالله وفوض إليه أمورك فهو كافيك معرتهم وناصرك عليهم ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ فوضت أمرى إليه ﴿وهو رب العرش﴾ هو أعظم خلق الله خلق مطافاً لأهل السماء وقبلة للدعاء ﴿العظيم﴾ بالجر وقرىء بالرفع على نعت الرب جل وعز عن أبيّ آخر آية نزلت لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ الآية
وكذا ما بعدها إلى سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
يونس (١ _ ٣)