تفسير سورة سورة التوبة من كتاب تفسير المنار
المعروف بـتفسير المنار
.
لمؤلفه
محمد رشيد رضا
.
المتوفي سنة 1354 هـ
(٤) ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْأُولَى صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ، وَذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ ذُكِرَ فِي آخِرِهَا حُكْمُ الْوِلَايَةِ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَاءَ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلُ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أَيْضًا.
(٥) ذُكِرَ فِي الْأُولَى التَّرْغِيبُ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَجَاءَ مِثْلُ هَذَا التَّرْغِيبِ بِأَبْلَغَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْسَعَ فِي الثَّانِيَةِ، وَذُكِرَتْ فِي الْأُولَى مَصَارِفُ الْغَنَائِمِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ.
(٦) وَرَدَ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي الْأُولَى فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفُصِّلَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْسَعَ تَفْصِيلٍ، حَتَّى كَانَتْ أَجْدَرَ بِأَنْ تُسَمَّى سُورَةَ " الْمُنَافِقُونَ " مِنْ سُورَةِ " ٦٣ " إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ لَوْ كَانَتْ تَسْمِيَةُ السُّوَرِ بِالرَّأْيِ.
التَّفْسِيرُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
(٥) ذُكِرَ فِي الْأُولَى التَّرْغِيبُ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَجَاءَ مِثْلُ هَذَا التَّرْغِيبِ بِأَبْلَغَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْسَعَ فِي الثَّانِيَةِ، وَذُكِرَتْ فِي الْأُولَى مَصَارِفُ الْغَنَائِمِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ.
(٦) وَرَدَ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي الْأُولَى فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفُصِّلَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْسَعَ تَفْصِيلٍ، حَتَّى كَانَتْ أَجْدَرَ بِأَنْ تُسَمَّى سُورَةَ " الْمُنَافِقُونَ " مِنْ سُورَةِ " ٦٣ " إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ لَوْ كَانَتْ تَسْمِيَةُ السُّوَرِ بِالرَّأْيِ.
التَّفْسِيرُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
133
مِنَ الْمَشْهُورِ الْقَطْعِيِّ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولَهُ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ، وَجَعَلَ آيَتَهُ الْكُبْرَى هَذَا الْقُرْآنَ الْمُعْجِزَ لِلْبَشَرِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، ذَكَرْنَا كُلِّيَّاتِهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ [٢: ٢٣ ص١٥٩ - ١٩١ ج ١ ط الْهَيْئَةِ] وَأَقَامَ بِنَاءَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ عَلَى أَسَاسِ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْمُقْنِعَةِ وَالْمُلْزِمَةِ، وَمَنَعَ الْإِكْرَاهَ فِيهِ، وَالْحَمْلَ عَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ [٢: ٢٥٦ ص٣٠ - ٣٤ ج ٣ ط الْهَيْئَةِ]، فَقَاوَمَهُ الْمُشْرِكُونَ وَفَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّعْذِيبِ وَالِاضْطِهَادِ لِصَدِّهِمْ عَنْهُ، وَصَدُّوهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ تَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ بِالْقُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ
التَّعْذِيبِ، إِلَّا بِتَأْمِينِ حِلْفٍ أَوْ قَرِيبٍ. فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْهُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، ثُمَّ اشْتَدَّ إِيذَاؤُهُمْ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى ائْتَمَرُوا بِحَبْسِهِ الدَّائِمِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ قَتْلِهِ عَلَنًا فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَرَجَّحُوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ قَتْلَهُ، فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (٨: ٣٠) [ص٤٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ] فَهَاجَرَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَارَ يَتْبَعُهُ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى حَيْثُ وَجَدُوا مِنْ مُهَاجَرِهِمْ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَنْصَارًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَيُؤْثِرُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَتِ الْحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ حَالَ حَرْبٍ بِالطَّبْعِ، وَمُقْتَضَى الْعُرْفِ الْعَامِّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَعَاهَدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا عَلَى السَّلْمِ وَالتَّعَاوُنِ فَخَانُوا وَغَدَرُوا، وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ لَهُ مَا كَانُوا يُوَالُونَ الْمُشْرِكِينَ وَيُظَاهِرُونَهُمْ كُلَّمَا حَارَبُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.
وَقَدْ عَاهَدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى السَّلْمِ وَالْأَمَانِ عَشْرَ سِنِينَ بِشُرُوطٍ تَسَاهَلَ مَعَهُمْ فِيهَا مُنْتَهَى التَّسَاهُلِ عَنْ قُوَّةٍ وَعِزَّةٍ، لَا عَنْ ضَعْفٍ وَذِلَّةٍ، وَلَكِنْ حُبًّا لِلسَّلْمِ وَنَشْرِ دِينِهِ بِالْإِقْنَاعِ وَالْحُجَّةِ، وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا دَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ عَدَا هَؤُلَاءِ عَلَى أُولَئِكَ، وَأَعَانَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالسِّلَاحِ فَنَقَضُوا عَهْدَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ عَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ، وَفَتْحِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَكَّةَ، الَّذِي خَضَدَ شَوْكَةَ الشِّرْكِ وَأَذَلَّ أَهْلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ مَا زَالُوا يُحَارِبُونَهُ حَيْثُ قَدَرُوا، وَثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ لَهُمْ فِي حَالَيْ قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، أَنَّهُمْ لَا عُهُودَ لَهُمْ وَلَا يُؤْمَنُ نَقْضُهُمْ وَانْتِقَاضُهُمْ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ (٧) إِلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ آيَةِ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَيْ لَا عُهُودَ لَهُمْ يَرْعَوْنَهَا وَيَفُونَ بِهَا. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ بِحُكْمِ الْمُعَاهَدَاتِ الْمَرْعِيَّةِ فَيَأْمَنُ كُلٌّ مِنْهُمْ شَرَّ الْآخَرِ وَعُدْوَانَهُ، مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَرْعٌ يُدَانُ بِهِ
التَّعْذِيبِ، إِلَّا بِتَأْمِينِ حِلْفٍ أَوْ قَرِيبٍ. فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْهُمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، ثُمَّ اشْتَدَّ إِيذَاؤُهُمْ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى ائْتَمَرُوا بِحَبْسِهِ الدَّائِمِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ قَتْلِهِ عَلَنًا فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَرَجَّحُوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ قَتْلَهُ، فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (٨: ٣٠) [ص٤٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ] فَهَاجَرَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَارَ يَتْبَعُهُ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى حَيْثُ وَجَدُوا مِنْ مُهَاجَرِهِمْ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَنْصَارًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَيُؤْثِرُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَتِ الْحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ حَالَ حَرْبٍ بِالطَّبْعِ، وَمُقْتَضَى الْعُرْفِ الْعَامِّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَعَاهَدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا عَلَى السَّلْمِ وَالتَّعَاوُنِ فَخَانُوا وَغَدَرُوا، وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ لَهُ مَا كَانُوا يُوَالُونَ الْمُشْرِكِينَ وَيُظَاهِرُونَهُمْ كُلَّمَا حَارَبُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.
وَقَدْ عَاهَدَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى السَّلْمِ وَالْأَمَانِ عَشْرَ سِنِينَ بِشُرُوطٍ تَسَاهَلَ مَعَهُمْ فِيهَا مُنْتَهَى التَّسَاهُلِ عَنْ قُوَّةٍ وَعِزَّةٍ، لَا عَنْ ضَعْفٍ وَذِلَّةٍ، وَلَكِنْ حُبًّا لِلسَّلْمِ وَنَشْرِ دِينِهِ بِالْإِقْنَاعِ وَالْحُجَّةِ، وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا دَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ عَدَا هَؤُلَاءِ عَلَى أُولَئِكَ، وَأَعَانَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالسِّلَاحِ فَنَقَضُوا عَهْدَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ عَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ، وَفَتْحِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَكَّةَ، الَّذِي خَضَدَ شَوْكَةَ الشِّرْكِ وَأَذَلَّ أَهْلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ مَا زَالُوا يُحَارِبُونَهُ حَيْثُ قَدَرُوا، وَثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ لَهُمْ فِي حَالَيْ قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، أَنَّهُمْ لَا عُهُودَ لَهُمْ وَلَا يُؤْمَنُ نَقْضُهُمْ وَانْتِقَاضُهُمْ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ (٧) إِلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ آيَةِ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَيْ لَا عُهُودَ لَهُمْ يَرْعَوْنَهَا وَيَفُونَ بِهَا. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ بِحُكْمِ الْمُعَاهَدَاتِ الْمَرْعِيَّةِ فَيَأْمَنُ كُلٌّ مِنْهُمْ شَرَّ الْآخَرِ وَعُدْوَانَهُ، مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَرْعٌ يُدَانُ بِهِ
134
فَيَجِبُ
الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ بِإِيجَابِهِ، كَيْفَ وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْمِيثَاقِ، مَنْ كَانُوا أَجْدَرَ بِالْوَفَاءِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ!.
هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ مَا جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ نَبْذِ عُهُودِهِمِ الْمُطْلَقَةِ، وَإِتْمَامِ مُدَّةِ عَهْدِهِمُ الْمُؤَقَّتَةِ لِمَنِ اسْتَقَامَ مِنْهُمْ عَلَيْهَا، وَأَمَّا حِكْمَةُ ذَلِكَ فَهِيَ مَحْوُ بَقِيَّةِ الشِّرْكِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بِالْقُوَّةِ، وَجَعْلُهَا خَالِصَةً لِلْمُسْلِمِينَ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْأُصُولِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ (٢: ١٩٠) وَقَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (٨: ٦١) بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ قَالَ الْجُمْهُورُ بِنَسْخِ هَذَا بِآيَةِ السَّيْفِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَبْذِ عُهُودِ الشِّرْكِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْبَرَاءَةُ مَصْدَرُ بَرِئَ (كَتَعِبَ) مِنَ الدَّيْنِ إِذَا أُسْقِطَ عَنْهُ، وَمِنَ الذَّنْبِ وَنَحْوِهِ إِذَا تَرَكَهُ وَتَنَزَّهَ عَنْهُ، أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ وَاصِلَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. كَمَا تَقُولُ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْبُرْءِ وَالْبَرَاءِ وَالتَّبَرِّي: التَّفَصِّي مِمَّا يُكْرَهُ مُجَاوَرَتُهُ، أَيْ أَوْ مُلَابَسَتُهُ. أُسْنِدَ التَّبَرِّي إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ جَدِيدٌ شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِتَبْلِيغِهِ وَتَنْفِيذِهِ، وَأَسْنَدَ مُعَاهَدَةَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ هُوَ الَّذِي عَقَدَهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا عَقَدَهُ بِصِفَةِ كَوْنِهِ الْإِمَامَ وَالْقَائِدَ الْعَامَّ لَهُمْ، وَهُوَ عَقْدٌ يُنَفَّذُ بِمُرَاعَاتِهِمْ لَهُ وَعَمَلِهِمْ بِمُوجَبِهِ، كَمَا يُسْنِدُ تَعَالَى إِلَى الْجَمَاعَةِ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، حَتَّى مَا كَانَ الْخِطَابُ فِي أَوَّلِ آيَاتِهِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (٦٥: ١) إِلَخْ. فَجُمْهُورُ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يُنَفِّذُونَ أَحْكَامَ الْمُعَاهَدَاتِ، وَلِقُوَّادِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأُمَرَاءِ السَّرَايَا الِاجْتِهَادُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْهَا، وَمِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُنْسَبُ ذَلِكَ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ إِحَاطَةُ النُّصُوصِ بِفُرُوعِهِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْقُوَّادَ إِذَا نَزَلُوا حِصْنًا فَطَلَبَ أَهْلُهُ مِنْهُمُ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ
أَلَّا يُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِهِمَا وَذِمَّتِهِمَا، وَأَمَرَ بِأَنْ يُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ.
وَالْمُعَاهَدَةُ عَقْدُ الْعَهْدِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى شُرُوطٍ يَلْتَزِمُونَهَا، وَكَانَ اللَّذَانِ يَتَوَلَّيَانِهَا مِنْهُمَا يَضَعُ أَحَدُهُمْ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ الْآخَرِ، وَكَانُوا يُؤَكِّدُونَهَا وَيُوَثِّقُونَهَا بِالْأَيْمَانِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَيْمَانًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ (٩: ١٢).
قَالَ نَاصِرُ السُّنَّةِ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى تَبُوكَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُفُونَ الْأَرَاجِيفَ، وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَنْقُضُونَ عُهُودًا كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنَقْضِ عُهُودِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ بِإِيجَابِهِ، كَيْفَ وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْمِيثَاقِ، مَنْ كَانُوا أَجْدَرَ بِالْوَفَاءِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ!.
هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ مَا جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ نَبْذِ عُهُودِهِمِ الْمُطْلَقَةِ، وَإِتْمَامِ مُدَّةِ عَهْدِهِمُ الْمُؤَقَّتَةِ لِمَنِ اسْتَقَامَ مِنْهُمْ عَلَيْهَا، وَأَمَّا حِكْمَةُ ذَلِكَ فَهِيَ مَحْوُ بَقِيَّةِ الشِّرْكِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بِالْقُوَّةِ، وَجَعْلُهَا خَالِصَةً لِلْمُسْلِمِينَ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْأُصُولِ السَّابِقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ (٢: ١٩٠) وَقَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (٨: ٦١) بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ قَالَ الْجُمْهُورُ بِنَسْخِ هَذَا بِآيَةِ السَّيْفِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَبْذِ عُهُودِ الشِّرْكِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْبَرَاءَةُ مَصْدَرُ بَرِئَ (كَتَعِبَ) مِنَ الدَّيْنِ إِذَا أُسْقِطَ عَنْهُ، وَمِنَ الذَّنْبِ وَنَحْوِهِ إِذَا تَرَكَهُ وَتَنَزَّهَ عَنْهُ، أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ وَاصِلَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. كَمَا تَقُولُ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ. قَالَ الرَّاغِبُ: أَصْلُ الْبُرْءِ وَالْبَرَاءِ وَالتَّبَرِّي: التَّفَصِّي مِمَّا يُكْرَهُ مُجَاوَرَتُهُ، أَيْ أَوْ مُلَابَسَتُهُ. أُسْنِدَ التَّبَرِّي إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ جَدِيدٌ شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِتَبْلِيغِهِ وَتَنْفِيذِهِ، وَأَسْنَدَ مُعَاهَدَةَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ هُوَ الَّذِي عَقَدَهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا عَقَدَهُ بِصِفَةِ كَوْنِهِ الْإِمَامَ وَالْقَائِدَ الْعَامَّ لَهُمْ، وَهُوَ عَقْدٌ يُنَفَّذُ بِمُرَاعَاتِهِمْ لَهُ وَعَمَلِهِمْ بِمُوجَبِهِ، كَمَا يُسْنِدُ تَعَالَى إِلَى الْجَمَاعَةِ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، حَتَّى مَا كَانَ الْخِطَابُ فِي أَوَّلِ آيَاتِهِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ (٦٥: ١) إِلَخْ. فَجُمْهُورُ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يُنَفِّذُونَ أَحْكَامَ الْمُعَاهَدَاتِ، وَلِقُوَّادِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأُمَرَاءِ السَّرَايَا الِاجْتِهَادُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْهَا، وَمِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يُنْسَبُ ذَلِكَ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ إِحَاطَةُ النُّصُوصِ بِفُرُوعِهِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْقُوَّادَ إِذَا نَزَلُوا حِصْنًا فَطَلَبَ أَهْلُهُ مِنْهُمُ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ
أَلَّا يُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِهِمَا وَذِمَّتِهِمَا، وَأَمَرَ بِأَنْ يُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ.
وَالْمُعَاهَدَةُ عَقْدُ الْعَهْدِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى شُرُوطٍ يَلْتَزِمُونَهَا، وَكَانَ اللَّذَانِ يَتَوَلَّيَانِهَا مِنْهُمَا يَضَعُ أَحَدُهُمْ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ الْآخَرِ، وَكَانُوا يُؤَكِّدُونَهَا وَيُوَثِّقُونَهَا بِالْأَيْمَانِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَيْمَانًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ (٩: ١٢).
قَالَ نَاصِرُ السُّنَّةِ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى تَبُوكَ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَرْجُفُونَ الْأَرَاجِيفَ، وَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَنْقُضُونَ عُهُودًا كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنَقْضِ عُهُودِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
135
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (٨: ٥٨) يَعْنِي أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّمَا عَمِلَ فِي نَبْذِ عُهُودِهِمْ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَلَيْسَ تَشْرِيعًا جَدِيدًا لِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهَا: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِذَوِي الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمِلُ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ مَهْمَا كَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ (٩: ٤) وَلِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ " وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ " وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ. اهـ.
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ، مُبَيِّنٌ لِمَا يَجِبُ أَنْ يَقُولُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ أَنْفُسِهِمْ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَالسِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ الِانْتِقَالُ وَالتَّجْوَالُ الْوَاسِعُ فِيهَا، وَرَجُلٌ سَائِحٌ وَسَيَّاحٌ، وَهُوَ مَجَازٌ مَنْ سَاحَ الْمَاءُ سَيْحًا، وَسَيَّحَ النَّاسُ نَهْرًا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِالسِّيَاحَةِ حُرِّيَّةُ السَّيْرِ وَالِانْتِقَالِ مَعَ الْأَمَانِ
مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَعْرِضُ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ فِيهَا بِقِتَالٍ، فَلَهُمْ فِيهَا سَعَةٌ مِنَ الْوَقْتِ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِمْ، وَالتَّفَكُّرِ فِي عَاقِبَتِهِمْ، وَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُقَاوَمَةِ وَالصِّدَامِ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ رَحْمَةِ هَذَا الدِّينِ، وَإِعْذَارِهِ إِلَى أَعْدَى أَعْدَائِهِ الْمُحَارِبِينَ، وَلَوْلَاهُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَخَذَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، وَدَانَهُمْ بِمَا كَانُوا يُدِينُونَهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مِنَ الْعَدْلِ، فَأَيْنَ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ؟.
وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهَرِ تَبْتَدِئُ مَنْ عَاشَرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ، وَهُوَ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي بُلِّغُوا فِيهِ هَذِهِ الدَّعْوَةَ كَمَا يَأْتِي، وَتَنْتَهِي فِي عَاشِرِ رَبِيعِ الْآخَرِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ "؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُحَرَّمِ أَوَّلَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ. وَهُوَ غَلَطٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ شَهْرَيْنِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ كَوْنِ تَبْلِيغِهِمُ الْبَرَاءَةَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي مِنًى، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُحَاسَبُوا بِالْمُدَّةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ أَيْ: وَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ قَطْعِيٍّ بِأَنَّكُمْ لَا تُعْجِزُونَ اللهَ تَعَالَى بِسِيَاحَتِكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَا تَجِدُونَ لَكُمْ مَهْرَبًا مِنْ رَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَصْرَرْتُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ وَعُدْوَانِكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، بَلْ هُوَ يُسَلِّطُهُمْ عَلَيْكُمْ، وَيُؤَيِّدُهُمْ بِنَصْرِهِ الَّذِي وَعَدَهُمْ، كَمَا نَصَرَهُمْ فِي كُلِّ قِتَالٍ لَكُمْ مَعَهُمْ بَدْءًا أَوِ انْتِهَاءً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهَا: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِذَوِي الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُكْمِلُ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ مَهْمَا كَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ (٩: ٤) وَلِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ " وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ " وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ. اهـ.
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ، مُبَيِّنٌ لِمَا يَجِبُ أَنْ يَقُولُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ أَنْفُسِهِمْ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَالسِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ الِانْتِقَالُ وَالتَّجْوَالُ الْوَاسِعُ فِيهَا، وَرَجُلٌ سَائِحٌ وَسَيَّاحٌ، وَهُوَ مَجَازٌ مَنْ سَاحَ الْمَاءُ سَيْحًا، وَسَيَّحَ النَّاسُ نَهْرًا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِالسِّيَاحَةِ حُرِّيَّةُ السَّيْرِ وَالِانْتِقَالِ مَعَ الْأَمَانِ
مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَعْرِضُ الْمُسْلِمُونَ لَهُمْ فِيهَا بِقِتَالٍ، فَلَهُمْ فِيهَا سَعَةٌ مِنَ الْوَقْتِ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِمْ، وَالتَّفَكُّرِ فِي عَاقِبَتِهِمْ، وَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُقَاوَمَةِ وَالصِّدَامِ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ، وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ رَحْمَةِ هَذَا الدِّينِ، وَإِعْذَارِهِ إِلَى أَعْدَى أَعْدَائِهِ الْمُحَارِبِينَ، وَلَوْلَاهُ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَخَذَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، وَدَانَهُمْ بِمَا كَانُوا يُدِينُونَهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مِنَ الْعَدْلِ، فَأَيْنَ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ؟.
وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهَرِ تَبْتَدِئُ مَنْ عَاشَرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ، وَهُوَ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي بُلِّغُوا فِيهِ هَذِهِ الدَّعْوَةَ كَمَا يَأْتِي، وَتَنْتَهِي فِي عَاشِرِ رَبِيعِ الْآخَرِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ "؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُحَرَّمِ أَوَّلَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ. وَهُوَ غَلَطٌ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ شَهْرَيْنِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ كَوْنِ تَبْلِيغِهِمُ الْبَرَاءَةَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي مِنًى، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُحَاسَبُوا بِالْمُدَّةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ أَيْ: وَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ قَطْعِيٍّ بِأَنَّكُمْ لَا تُعْجِزُونَ اللهَ تَعَالَى بِسِيَاحَتِكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَا تَجِدُونَ لَكُمْ مَهْرَبًا مِنْ رَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَصْرَرْتُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ وَعُدْوَانِكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، بَلْ هُوَ يُسَلِّطُهُمْ عَلَيْكُمْ، وَيُؤَيِّدُهُمْ بِنَصْرِهِ الَّذِي وَعَدَهُمْ، كَمَا نَصَرَهُمْ فِي كُلِّ قِتَالٍ لَكُمْ مَعَهُمْ بَدْءًا أَوِ انْتِهَاءً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
136
وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ أَيْ: وَاعْلَمُوا كَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْمُخْزِي لِجَمِيعِ الْكَافِرِينَ مِنْكُمْ وَمِنْ غَيْرِكُمْ فِي مُعَادَاتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ لِرُسُلِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، يُخْزِيهِمْ فِي الدُّنْيَا بِذُلِّ الْخَيْبَةِ وَالْفَضِيحَةِ، ثُمَّ يُخْزِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا، فَتِلْكَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِيهِمْ كَمَا قَالَ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِمْ: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٣٩: ٢٥ و٢٦) وَقَالَ فِي عَادٍ قَوْمِ هُودٍ: فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِزْيِ هُنَا مَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِلتَّصْرِيحِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فِي آخِرِ قَوْلِهِ:
وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، مُصَرِّحَةٌ بِالتَّبْلِيغِ الصَّرِيحِ الْجَهْرِيِّ الْعَامِّ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَسَائِرِ خُرَافَاتِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالَاتِهِ، وَمُبَيِّنَةٌ لِوَقْتِهِ الَّذِي لَا يَسْهُلُ تَعْمِيمُهُ إِلَّا فِيهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَفِي تَعْيِينِهِ خِلَافٌ سَيُذْكَرُ مَعَ تَرْجِيحِ أَنَّهُ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي تَنْتَهِي فِيهِ فَرَائِضُ الْحَجِّ وَأَرْكَانُهُ، وَيَجْتَمِعُ الْحَاجُّ فِيهِ لِإِتْمَامِ وَاجِبَاتٍ الْمَنَاسِكِ وَسُنَنِهَا فِي مِنًى. وَالْأَذَانُ: النِّدَاءُ الَّذِي يَطْرُقُ الْآذَانَ بِالْإِعْلَامِ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ التَّأْذِينِ، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (١٢: ٧٠) وَمِنْهُ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ. وَأَذَّنَ بِهَا أَعْلَمَ، وَآذَنَهُ بِالشَّيْءِ إِيذَانًا أَعْلَمَهُ بِهِ. وَأَذَّنَ بِالشَّيْءِ (كَعَلَّمَ) عَلَّمَهُ، وَأَذِنَ لَهُ (كَتَعِبَ) اسْتَمَعَ. وَأَعَادَ التَّصْرِيحَ فِي هَذَا الْأَذَانِ بِكَوْنِهِ مِنَ اللهِ بِاسْمِ الذَّاتِ، وَمِنْ رَسُولِهِ بِصِفَةِ التَّبْلِيغِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الرِّسَالَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِمَا فِي الْبَرَاءَةِ، وَصَرَّحَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ بِعُنْوَانِ الشِّرْكِ وَوَصْفِهِ، وَذَلِكَ لِتَأْكِيدِ هَذَا الْحُكْمِ، وَتَأْكِيدِ تَبْلِيغِهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ. ثُمَّ أَكَّدَ مَا يَجِبُ أَنْ يُبَلِّغُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا أَوْجَبَ أَنْ يُخَاطِبُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تُبْتُمْ أَيْ: قُولُوا لَهُمْ: فَإِنْ تُبْتُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ شِرْكِكُمْ، وَمَا زَيَّنَهُ لَكُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ بِنَقْضِ الْعُهُودِ، وَقَبِلْتُمْ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ هِيَ السَّبَبُ لِسَعَادَتِهِمَا وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ عَنْ إِجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ أَيْ: غَيْرُ فَائِتِيهِ بِأَنْ تُفْلِتُوا مِنْ حُكْمِ سُنَنِهِ وَوَعْدِهِ لِرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
لِأَنَّهُ نَبَأٌ عَنِ الْغَيْبِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ إِلَّا بِوَحْيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْبِشَارَةَ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَشَرَةِ مِنَ الْأَنْبَاءِ، إِمَّا بِالتَّهَلُّلِ، وَإِشْرَاقِ الْوَجْهِ وَهُوَ السُّرُورُ الَّذِي تَنْبَسِطُ فِيهِ أَسَارِيرُ الْجَبْهَةِ وَتَتَمَدَّدُ، وَإِمَّا بِالْعُبُوسِ وَالْبُسُورِ، وَتَقْطِيبِ الْوَجْهِ مِنَ الْكَدَرِ أَوِ الْحُزْنِ أَوِ الْخَوْفِ. وَغَلَبَ فِي الْأَوَّلِ حَتَّى ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِيمَا يَسُوءُ وَيُكَدِّرُ إِنَّمَا يُقَالُ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ
عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِزْيِ هُنَا مَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لِلتَّصْرِيحِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فِي آخِرِ قَوْلِهِ:
وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، مُصَرِّحَةٌ بِالتَّبْلِيغِ الصَّرِيحِ الْجَهْرِيِّ الْعَامِّ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَسَائِرِ خُرَافَاتِ شِرْكِهِمْ وَضَلَالَاتِهِ، وَمُبَيِّنَةٌ لِوَقْتِهِ الَّذِي لَا يَسْهُلُ تَعْمِيمُهُ إِلَّا فِيهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَفِي تَعْيِينِهِ خِلَافٌ سَيُذْكَرُ مَعَ تَرْجِيحِ أَنَّهُ عِيدُ النَّحْرِ الَّذِي تَنْتَهِي فِيهِ فَرَائِضُ الْحَجِّ وَأَرْكَانُهُ، وَيَجْتَمِعُ الْحَاجُّ فِيهِ لِإِتْمَامِ وَاجِبَاتٍ الْمَنَاسِكِ وَسُنَنِهَا فِي مِنًى. وَالْأَذَانُ: النِّدَاءُ الَّذِي يَطْرُقُ الْآذَانَ بِالْإِعْلَامِ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ التَّأْذِينِ، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (١٢: ٧٠) وَمِنْهُ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ. وَأَذَّنَ بِهَا أَعْلَمَ، وَآذَنَهُ بِالشَّيْءِ إِيذَانًا أَعْلَمَهُ بِهِ. وَأَذَّنَ بِالشَّيْءِ (كَعَلَّمَ) عَلَّمَهُ، وَأَذِنَ لَهُ (كَتَعِبَ) اسْتَمَعَ. وَأَعَادَ التَّصْرِيحَ فِي هَذَا الْأَذَانِ بِكَوْنِهِ مِنَ اللهِ بِاسْمِ الذَّاتِ، وَمِنْ رَسُولِهِ بِصِفَةِ التَّبْلِيغِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الرِّسَالَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِمَا فِي الْبَرَاءَةِ، وَصَرَّحَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ بِعُنْوَانِ الشِّرْكِ وَوَصْفِهِ، وَذَلِكَ لِتَأْكِيدِ هَذَا الْحُكْمِ، وَتَأْكِيدِ تَبْلِيغِهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ. ثُمَّ أَكَّدَ مَا يَجِبُ أَنْ يُبَلِّغُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا أَوْجَبَ أَنْ يُخَاطِبُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تُبْتُمْ أَيْ: قُولُوا لَهُمْ: فَإِنْ تُبْتُمْ بِالرُّجُوعِ عَنْ شِرْكِكُمْ، وَمَا زَيَّنَهُ لَكُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ بِنَقْضِ الْعُهُودِ، وَقَبِلْتُمْ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ هِدَايَةَ الْإِسْلَامِ هِيَ السَّبَبُ لِسَعَادَتِهِمَا وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ عَنْ إِجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ أَيْ: غَيْرُ فَائِتِيهِ بِأَنْ تُفْلِتُوا مِنْ حُكْمِ سُنَنِهِ وَوَعْدِهِ لِرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
لِأَنَّهُ نَبَأٌ عَنِ الْغَيْبِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ إِلَّا بِوَحْيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْبِشَارَةَ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَشَرَةِ مِنَ الْأَنْبَاءِ، إِمَّا بِالتَّهَلُّلِ، وَإِشْرَاقِ الْوَجْهِ وَهُوَ السُّرُورُ الَّذِي تَنْبَسِطُ فِيهِ أَسَارِيرُ الْجَبْهَةِ وَتَتَمَدَّدُ، وَإِمَّا بِالْعُبُوسِ وَالْبُسُورِ، وَتَقْطِيبِ الْوَجْهِ مِنَ الْكَدَرِ أَوِ الْحُزْنِ أَوِ الْخَوْفِ. وَغَلَبَ فِي الْأَوَّلِ حَتَّى ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِيمَا يَسُوءُ وَيُكَدِّرُ إِنَّمَا يُقَالُ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ
137
ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَبَرَّأَ مِنْ عُهُودِهِمْ، وَأَمَرَ بِوَعِيدِهِمْ وَتَهْدِيدِهِمْ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَوْعِدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، مَنْ حَافَظُوا عَلَى عَهْدِهِمْ بِالدِّقَّةِ التَّامَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَرْبِ مُدَّةِ التَّأْجِيلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِمَنْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ، فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ يَذْهَبُ فِيهَا، لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ شَاءَ إِلَّا مَنْ لَهُ عَهْدٌ مُؤَقَّتٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ الْمَضْرُوبَةِ الَّتِي عُوهِدَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ الْمَضْرُوبَةِ. وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَلَّا يَنْقُضَ الْمُعَاهِدُ عَهْدَهُ، وَلَمْ يُظَاهِرْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يُمَالِئْ عَلَيْهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ، فَهَذَا الَّذِي يُوَفَّى لَهُ بِذِمَّتِهِ، وَعَهْدِهِ إِلَى مُدَّتِهِ اهـ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بَنُو ضَمْرَةَ وَحَيٌّ مِنْ كِنَانَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَؤُلَاءِ بَنُو ضَمْرَةَ وَبَنُو مُدْلِجٍ، حَيَّانِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، كَانُوا حُلَفَاءَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ مَنْ بَنِي تَبِيعٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ لَبَنِي مُدْلِجٍ وَخُزَاعَةَ عَهْدٌ، فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللهُ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ: هُمْ بَنُو خُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّتِهِمْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأُمِرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ يُوَفِّيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ
هَذَا إِلَى مُدَّتِهِمْ، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عَامٌّ، وَتَعْيِينُ الْمُرَادِ مِنْهُ بِأَسْمَاءِ الْقَبَائِلِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ مَا دَامَ الْعَهْدُ مَعْقُودًا، وَعَلَى أَنَّ الْعَهْدَ الْمُؤَقَّتَ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ إِلَّا بِانْتِهَاءِ وَقْتِهِ، وَأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ عَلَيْنَا مُحَافَظَةُ الْعَدُوِّ الْمُعَاهِدِ لَنَا عَلَيْهِ بِحَذَافِيرِهِ، مِنْ نَصِّ الْقَوْلِ وَفَحْوَاهُ وَلَحْنِهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِرُوحِهِ، فَإِنْ نَقَضَ شَيْئًا مَا مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ، وَأَخَلَّ بِغَرَضٍ مَا مِنْ أَغْرَاضِهِ عُدَّ نَاقِضًا لَهُ، إِذْ قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَفْظُ شَيْءٍ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَصْدُقُ بِأَدْنَى إِخْلَالٍ بِالْعَهْدِ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " يَنْقُضُوكُمْ " بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُهْمَلَةُ أَبْلَغُ - وَمِنَ الضَّرُورِيِّ أَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ الَّتِي يَنْتَقِضُ بِالْإِخْلَالِ بِهَا عَدَمُ مُظَاهَرَةِ أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَخُصُومِنَا عَلَيْنَا، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنَ الْمُعَاهَدَاتِ تَرْكُ قِتَالِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَعَاهِدَيْنِ لِلْآخَرِ، وَحُرِّيَّةُ التَّعَامُلِ بَيْنَهُمَا، فَمُظَاهَرَةُ أَحَدِهِمَا لِعَدُوِّ الْآخَرِ، أَيْ مُعَاوَنَتُهُ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى قِتَالِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمُبَاشَرَتِهِ لِلْقِتَالِ وَغَيْرِهِ بِنَفْسِهِ، يُقَالُ: ظَاهَرَهُ إِذَا عَاوَنَهُ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بَنُو ضَمْرَةَ وَحَيٌّ مِنْ كِنَانَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هَؤُلَاءِ بَنُو ضَمْرَةَ وَبَنُو مُدْلِجٍ، حَيَّانِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، كَانُوا حُلَفَاءَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ مَنْ بَنِي تَبِيعٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ لَبَنِي مُدْلِجٍ وَخُزَاعَةَ عَهْدٌ، فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللهُ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ: هُمْ بَنُو خُزَيْمَةَ بْنِ عَامِرٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّتِهِمْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَأُمِرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ يُوَفِّيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ
هَذَا إِلَى مُدَّتِهِمْ، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عَامٌّ، وَتَعْيِينُ الْمُرَادِ مِنْهُ بِأَسْمَاءِ الْقَبَائِلِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ مَا دَامَ الْعَهْدُ مَعْقُودًا، وَعَلَى أَنَّ الْعَهْدَ الْمُؤَقَّتَ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ إِلَّا بِانْتِهَاءِ وَقْتِهِ، وَأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ عَلَيْنَا مُحَافَظَةُ الْعَدُوِّ الْمُعَاهِدِ لَنَا عَلَيْهِ بِحَذَافِيرِهِ، مِنْ نَصِّ الْقَوْلِ وَفَحْوَاهُ وَلَحْنِهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِرُوحِهِ، فَإِنْ نَقَضَ شَيْئًا مَا مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ، وَأَخَلَّ بِغَرَضٍ مَا مِنْ أَغْرَاضِهِ عُدَّ نَاقِضًا لَهُ، إِذْ قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَفْظُ شَيْءٍ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَصْدُقُ بِأَدْنَى إِخْلَالٍ بِالْعَهْدِ، وَقُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ " يَنْقُضُوكُمْ " بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْمُهْمَلَةُ أَبْلَغُ - وَمِنَ الضَّرُورِيِّ أَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ الَّتِي يَنْتَقِضُ بِالْإِخْلَالِ بِهَا عَدَمُ مُظَاهَرَةِ أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَخُصُومِنَا عَلَيْنَا، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنَ الْمُعَاهَدَاتِ تَرْكُ قِتَالِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَعَاهِدَيْنِ لِلْآخَرِ، وَحُرِّيَّةُ التَّعَامُلِ بَيْنَهُمَا، فَمُظَاهَرَةُ أَحَدِهِمَا لِعَدُوِّ الْآخَرِ، أَيْ مُعَاوَنَتُهُ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى قِتَالِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمُبَاشَرَتِهِ لِلْقِتَالِ وَغَيْرِهِ بِنَفْسِهِ، يُقَالُ: ظَاهَرَهُ إِذَا عَاوَنَهُ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ
138
(٣٣: ٢٦) وَظَاهَرَهُ عَلَيْهِ إِذَا سَاعَدَهُ عَلَيْهِ. وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ تُعَاوِنُوا وَكُلُّهُ مِنَ الظَّهْرِ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْقُوَّةِ، وَمِنْهُ بَعِيرٌ ظَهِيرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الظُّهُورِ.
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أَيْ: لِنَقْضِ الْعُهُودِ وَإِخْفَارِ الذِّمَمِ، وَلِسَائِرِ الْمَفَاسِدِ الْمُخِلَّةِ بِالنِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ وَالْأَذَانِ بِهَا - أَيِ التَّبْلِيغِ الْعَامِّ الْعَلَنِيِّ لَهَا - أَحَادِيثُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ نَقْتَصِرُ عَلَى أَمْثَلِهَا وَأَثْبَتِهَا، وَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَيُزِيلُ تَعَارُضَهَا. فَجُمْلَةُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَعَلَ أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ
سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْحَجَّ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيُبَلِّغَهُمْ عَنْهُ نَبْذَ عُهُودِهِمُ الْمُطْلَقَةِ، وَإِعْطَاءَهُمْ مُهْلَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَأَنَّ الْعُهُودَ الْمُؤَقَّتَةَ أَجَلُهَا نِهَايَةُ وَقْتِهَا. وَيَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةَ لِمَسْأَلَةِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ وَهِيَ ٤٠ أَوْ ٣٣ آيَةً، وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنَ التَّرَدُّدِ بَيْنَ ٣٠ و٤٠ فَتَعْبِيرٌ بِالْأَعْشَارِ، مَعَ إِلْغَاءِ كَسْرِهَا مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْعُهُودَ وَنَبْذَهَا إِنَّمَا تَكُونُ مِنْ عَاقِدِهَا أَوْ أَحَدِ عَصَبَتِهِ الْقَرِيبَةِ، وَأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ إِمَارَةِ الْحَجِّ لِأَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَانَ يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْمُرُ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَأَبِي هُرَيْرَةَ بِمُسَاعَدَتِهِ.
أَمَّا الشَّيْخَانِ فَقَدْ أَخْرَجَا فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَكَرَّرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كُتُبِ الطَّهَارَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِزْيَةِ وَالْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ، فَنَذْكُرُ لَفْظَهُ فِي تَفْسِيرِ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ الْآيَةَ. عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدٌ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِـ (بَرَاءَةٌ) وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ اهـ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ مَا نَصُّهُ: هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَمَلَ قِصَّةَ تَوَجُّهِ عَلِيٍّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ لَحِقَ بِأَبِي بَكْرٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَمَلَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أَيْ: لِنَقْضِ الْعُهُودِ وَإِخْفَارِ الذِّمَمِ، وَلِسَائِرِ الْمَفَاسِدِ الْمُخِلَّةِ بِالنِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْبَرَاءَةِ وَالْأَذَانِ بِهَا - أَيِ التَّبْلِيغِ الْعَامِّ الْعَلَنِيِّ لَهَا - أَحَادِيثُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخِلَافِ وَالتَّعَارُضِ نَقْتَصِرُ عَلَى أَمْثَلِهَا وَأَثْبَتِهَا، وَمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَيُزِيلُ تَعَارُضَهَا. فَجُمْلَةُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَعَلَ أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ
سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْحَجَّ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيُبَلِّغَهُمْ عَنْهُ نَبْذَ عُهُودِهِمُ الْمُطْلَقَةِ، وَإِعْطَاءَهُمْ مُهْلَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِيَنْظُرُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَأَنَّ الْعُهُودَ الْمُؤَقَّتَةَ أَجَلُهَا نِهَايَةُ وَقْتِهَا. وَيَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةَ لِمَسْأَلَةِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ وَهِيَ ٤٠ أَوْ ٣٣ آيَةً، وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنَ التَّرَدُّدِ بَيْنَ ٣٠ و٤٠ فَتَعْبِيرٌ بِالْأَعْشَارِ، مَعَ إِلْغَاءِ كَسْرِهَا مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْعُهُودَ وَنَبْذَهَا إِنَّمَا تَكُونُ مِنْ عَاقِدِهَا أَوْ أَحَدِ عَصَبَتِهِ الْقَرِيبَةِ، وَأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ إِمَارَةِ الْحَجِّ لِأَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَانَ يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْمُرُ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَأَبِي هُرَيْرَةَ بِمُسَاعَدَتِهِ.
أَمَّا الشَّيْخَانِ فَقَدْ أَخْرَجَا فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَكَرَّرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كُتُبِ الطَّهَارَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِزْيَةِ وَالْمَغَازِي وَالتَّفْسِيرِ، فَنَذْكُرُ لَفْظَهُ فِي تَفْسِيرِ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ الْآيَةَ. عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. قَالَ حُمَيْدٌ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي أَهْلِ مِنًى بِـ (بَرَاءَةٌ) وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ اهـ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ مَا نَصُّهُ: هُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ، وَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَمَلَ قِصَّةَ تَوَجُّهِ عَلِيٍّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ لَحِقَ بِأَبِي بَكْرٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَمَلَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
139
وَقَوْلُهُ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ إِلَخْ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فِيهِ
إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ)، فَكَيْفَ يُؤَذِّنُ بِأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ؟ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ أَذَّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ). وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (٢٨) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ)، وَبِمَا أُمِرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُؤَذَّنَ بِهِ أَيْضًا. (قُلْتُ) وَفِي قَوْلِهِ: يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبِضْعٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً مُنْتَهَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيًّا بِثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ يُقِيمُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَبَعَثَنِي بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةٌ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَخَطَبَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَأَدِّ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُمْتُ فَقَرَأْتُ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ (بَرَاءَةٌ)، ثُمَّ صَدَرْنَا حَتَّى رَمَيْتُ الْجَمْرَةَ فَطَفِقْتُ أَتَتَبَّعُ بِهَا الْفَسَاطِيطَ أَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ عَرَفَةَ.
ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ كِلَاهُمَا عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ رَجَعَ مِنْ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فَأَقْبَلْنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرَجِ ثَوَّبَ بِالصُّبْحِ فَسَمِعْنَا رَغْوَةَ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِذَا عَلِيٌّ عَلَيْهَا،
فَقَالَ لَهُ: أَمِيرٌ أَوْ رَسُولٌ؟ فَقَالَ: بَلْ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِـ (بَرَاءَةٌ) أَقْرَؤُهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ فَأَمَّ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ بِمَنَاسِكِهِمْ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ (بَرَاءَةٌ) حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَوْمَ النَّفْرِ كَذَلِكَ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّ عَلِيًّا قَرَأَهَا كُلَّهَا فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ إِلَخْ. وَكَانَ يَسْتَعِينُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ فِي الْأَذَانِ بِذَلِكَ.
" وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ)، فَكَيْفَ يُؤَذِّنُ بِأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ؟ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ أَذَّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ). وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (٢٨) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ)، وَبِمَا أُمِرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُؤَذَّنَ بِهِ أَيْضًا. (قُلْتُ) وَفِي قَوْلِهِ: يُؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ) تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبِضْعٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً مُنْتَهَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيًّا بِثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةٌ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ يُقِيمُ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَبَعَثَنِي بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ بَرَاءَةٌ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَخَطَبَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَأَدِّ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُمْتُ فَقَرَأْتُ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ (بَرَاءَةٌ)، ثُمَّ صَدَرْنَا حَتَّى رَمَيْتُ الْجَمْرَةَ فَطَفِقْتُ أَتَتَبَّعُ بِهَا الْفَسَاطِيطَ أَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَكُونُوا حَضَرُوا خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ عَرَفَةَ.
ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ كِلَاهُمَا عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ رَجَعَ مِنْ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فَأَقْبَلْنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرَجِ ثَوَّبَ بِالصُّبْحِ فَسَمِعْنَا رَغْوَةَ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَإِذَا عَلِيٌّ عَلَيْهَا،
فَقَالَ لَهُ: أَمِيرٌ أَوْ رَسُولٌ؟ فَقَالَ: بَلْ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِـ (بَرَاءَةٌ) أَقْرَؤُهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ فَأَمَّ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ بِمَنَاسِكِهِمْ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ (بَرَاءَةٌ) حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَوْمَ النَّفْرِ كَذَلِكَ، فَيُجْمَعُ بِأَنَّ عَلِيًّا قَرَأَهَا كُلَّهَا فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ: أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ إِلَخْ. وَكَانَ يَسْتَعِينُ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ فِي الْأَذَانِ بِذَلِكَ.
" وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
140
بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ - الْحَدِيثَ - وَفِيهِ فَقَامَ عَلِيٌّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَنَادَى: ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ مُؤْمِنٍ. فَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي بِهَا، فَإِذَا بُحَّ قَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَنَادَى بِهَا ".
" وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ بِـ (بَرَاءَةٌ) مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ قَالَ: " لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي " فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيٍّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ يَعْلَى عِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ عَلِيٍّ: لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ (بَرَاءَةٌ) بَعَثَ بِهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: " أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ فَحَيْثُمَا لَقِيتَهُ فَخُذْ مِنْهُ الْكِتَابَ " فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ، فَقَالَ: " لَا " إِلَّا أَنَّهُ لَنْ يُؤَدِّيَ عَنِّي - أَوْ - وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: " لَا يُؤَدِّي عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ " قَالَ الْعِمَادَ بْنُ كَثِيرٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ، بَلِ الْمُرَادُ رَجَعَ مِنْ حَجَّتِهِ (قُلْتُ) : وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَشْرُ آيَاتٍ فَالْمُرَادُ أَوَّلُهَا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (٩: ٢٨) اهـ.
هَذَا مَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ مِنَ الرِّوَايَاتِ. وَأَقُولُ: إِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ
فِي نُزُولِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَخِيرًا - وَقَدْ ذَكَرَ إِسْنَادَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ - هَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ.
وَأَزِيدُ عَلَيْهِ انْتِقَادَ مَتْنِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ مِنْهَا عَشْرُ آيَاتٍ، وَأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عَلِيًّا بِهَا، فَهَذَا مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَضَافِرَةِ الْمُتَّفِقَةِ الَّتِي أُطْلِقَ فِي بَعْضِهَا أَوَّلُ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) - وَفِي بَعْضِهَا عَدَدُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْهَا - أَيْ بِالتَّقْرِيبِ، وَفِي بَعْضِهَا سُورَةُ (بَرَاءَةٌ)، وَهِيَ لَا تَنَافِي بَيْنَهَا، فَقَدْ نَزَلَتْ سُورَةُ (بَرَاءَةٌ) كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا عَقِبَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ كَانَتْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَقَامَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ رَمَضَانَ وَشَوَّالَ وَذَا الْقَعْدَةِ ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. فَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّ حَجَّ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى هَذَا كَانَ صَحِيحًا وَإِلَّا فَلَا.
وَأَمَّا ضَعْفُ إِسْنَادِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فَمِنْ حَنَشِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ الْكِنَانِيِّ الْكُوفِيِّ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ كَثِيرَ الْوَهْمِ فِي الْأَخْبَارِ يَنْفَرِدُ عَنْ عَلِيٍّ بِأَشْيَاءَ لَا تُشْبِهُ حَدِيثَ الثِّقَاتِ حَتَّى صَارَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَ عَنْهُ سِمَاكٌ بِحَدِيثٍ مُنْكَرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى: سَاقِطٌ مُطَّرِحٌ، وَلِأَئِمَّةِ الْجَرْحِ فِي تَضْعِيفِهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى. وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الْمُنْكَرَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ سِمَاكٌ هُوَ هَذَا، عَلَى أَنَّ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ هَذَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ جَرْحٍ، وَإِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ،
" وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ بِـ (بَرَاءَةٌ) مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ قَالَ: " لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي " فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيٍّ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ يَعْلَى عِنْدَ أَحْمَدَ عَنْ عَلِيٍّ: لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ (بَرَاءَةٌ) بَعَثَ بِهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: " أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ فَحَيْثُمَا لَقِيتَهُ فَخُذْ مِنْهُ الْكِتَابَ " فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ، فَقَالَ: " لَا " إِلَّا أَنَّهُ لَنْ يُؤَدِّيَ عَنِّي - أَوْ - وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: " لَا يُؤَدِّي عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ " قَالَ الْعِمَادَ بْنُ كَثِيرٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ، بَلِ الْمُرَادُ رَجَعَ مِنْ حَجَّتِهِ (قُلْتُ) : وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَشْرُ آيَاتٍ فَالْمُرَادُ أَوَّلُهَا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (٩: ٢٨) اهـ.
هَذَا مَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ مِنَ الرِّوَايَاتِ. وَأَقُولُ: إِنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ
فِي نُزُولِ الْعَشْرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَخِيرًا - وَقَدْ ذَكَرَ إِسْنَادَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ - هَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ.
وَأَزِيدُ عَلَيْهِ انْتِقَادَ مَتْنِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ مِنْهَا عَشْرُ آيَاتٍ، وَأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عَلِيًّا بِهَا، فَهَذَا مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَضَافِرَةِ الْمُتَّفِقَةِ الَّتِي أُطْلِقَ فِي بَعْضِهَا أَوَّلُ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) - وَفِي بَعْضِهَا عَدَدُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْهَا - أَيْ بِالتَّقْرِيبِ، وَفِي بَعْضِهَا سُورَةُ (بَرَاءَةٌ)، وَهِيَ لَا تَنَافِي بَيْنَهَا، فَقَدْ نَزَلَتْ سُورَةُ (بَرَاءَةٌ) كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا عَقِبَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَقَدْ كَانَتْ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَقَامَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ رَمَضَانَ وَشَوَّالَ وَذَا الْقَعْدَةِ ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ. فَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّ حَجَّ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى هَذَا كَانَ صَحِيحًا وَإِلَّا فَلَا.
وَأَمَّا ضَعْفُ إِسْنَادِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فَمِنْ حَنَشِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ الْكِنَانِيِّ الْكُوفِيِّ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ كَثِيرَ الْوَهْمِ فِي الْأَخْبَارِ يَنْفَرِدُ عَنْ عَلِيٍّ بِأَشْيَاءَ لَا تُشْبِهُ حَدِيثَ الثِّقَاتِ حَتَّى صَارَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَ عَنْهُ سِمَاكٌ بِحَدِيثٍ مُنْكَرٍ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى: سَاقِطٌ مُطَّرِحٌ، وَلِأَئِمَّةِ الْجَرْحِ فِي تَضْعِيفِهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى. وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الْمُنْكَرَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ سِمَاكٌ هُوَ هَذَا، عَلَى أَنَّ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ هَذَا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ جَرْحٍ، وَإِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ،
141
وَمِمَّا قِيلَ عَنْهُ أَنَّهُ خَرِفَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. وَالْعَجِيبُ مِنَ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ كَيْفَ سَكَتَ عَنْ ضَعْفِ إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ تَذَكُّرِ عِبَارَةِ ابْنِ كَثِيرٍ فِيهِ.
وَأَمَّا يَوْمُ الْحَجِّ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَعْيِينِ الْأَكْبَرِ فَفِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعَثَهَ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَلَّا يَحُجَّنَّ
بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ. فَنَبَذَ أَبُو بَكْرِ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُشْرِكٌ اهـ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى رِوَايَةِ صَالِحٍ مِنَ الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رِوَايَةَ شُعَيْبٍ مَا نَصُّهُ: وَقَوْلُهُ: وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ - هُوَ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (٣) وَمِنْ مُنَادَاةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ النَّحْرِ، وَسِيَاقُ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا نَادَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّ الَّذِي كَانَ يُنَادِي بِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي بَكْرٍ شَيْئَانِ: مَنْعُ حَجِّ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْعُ طَوَافِ الْعُرْيَانِ. وَأَنَّ عَلِيًّا أَيْضًا كَانَ يُنَادِي بِهِمَا، وَكَانَ يَزِيدُ: مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَأَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مُسْلِمٌ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَخِيرَةُ كَالتَّوْطِئَةِ، لِئَلَّا يَحُجَّ الْبَيْتَ مُشْرِكٌ. وَأَمَّا الَّتِي قَبْلَهَا فَهِيَ الَّتِي اخْتُصَّ عَلِيٌّ بِتَبْلِيغِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرْسَالِ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ بِأَلَّا يَنْقُضَ الْعَهْدَ إِلَّا مَنْ عَقَدَهُ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَا يُبَلِّغُ عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحْرِزِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى مَكَّةَ بِـ (بَرَاءَةٌ)، فَكُنَّا نُنَادِي أَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي.
ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا قِيلَ (الْأَكْبَرِ) إِلَخْ. فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ
وَأَمَّا يَوْمُ الْحَجِّ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَعْيِينِ الْأَكْبَرِ فَفِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعَثَهَ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَلَّا يَحُجَّنَّ
بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ. فَنَبَذَ أَبُو بَكْرِ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُشْرِكٌ اهـ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى رِوَايَةِ صَالِحٍ مِنَ الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رِوَايَةَ شُعَيْبٍ مَا نَصُّهُ: وَقَوْلُهُ: وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ - هُوَ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ اسْتَنْبَطَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (٣) وَمِنْ مُنَادَاةِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِذَلِكَ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ النَّحْرِ، وَسِيَاقُ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا نَادَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَضَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّ الَّذِي كَانَ يُنَادِي بِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِي بَكْرٍ شَيْئَانِ: مَنْعُ حَجِّ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْعُ طَوَافِ الْعُرْيَانِ. وَأَنَّ عَلِيًّا أَيْضًا كَانَ يُنَادِي بِهِمَا، وَكَانَ يَزِيدُ: مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَأَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مُسْلِمٌ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَخِيرَةُ كَالتَّوْطِئَةِ، لِئَلَّا يَحُجَّ الْبَيْتَ مُشْرِكٌ. وَأَمَّا الَّتِي قَبْلَهَا فَهِيَ الَّتِي اخْتُصَّ عَلِيٌّ بِتَبْلِيغِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرْسَالِ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ جَرَتْ بِأَلَّا يَنْقُضَ الْعَهْدَ إِلَّا مَنْ عَقَدَهُ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَأَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: لَا يُبَلِّغُ عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحْرِزِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى مَكَّةَ بِـ (بَرَاءَةٌ)، فَكُنَّا نُنَادِي أَلَّا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَلَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي.
ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا قِيلَ (الْأَكْبَرِ) إِلَخْ. فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ
142
وَأَصْلُهُ فِي هَذَا الصَّحِيحِ رَفْعُهُ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: " هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ".
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْحَجِّ الْأَصْغَرِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ الْعُمْرَةُ، وَصَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّازِقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ: الْقِرَانُ، وَالْأَصْغَرُ: الْإِفْرَادُ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَتَكَمَّلُ بَقِيَّةُ الْمَنَاسِكِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَيَّامُ الْحَجِّ تُسَمَّى يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كَمَا يُقَالُ يَوْمُ الْفَتْحِ، وَأَيَّدَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّ عَلِيًّا أُمِرَ بِذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَإِذَا كَانَ صَبِيحَةُ النَّحْرِ وَقَفَ الْجَمِيعُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقِيلَ لَهُ الْأَكْبَرُ: لِاجْتِمَاعِ الْكُلِّ فِيهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاتِّفَاقِ حَجِّ جَمِيعِ الْمِلَلِ فِيهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ يَوْمَ التَّاسِعِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ إِذَا انْسَلَخَ قَبْلَ الْوُقُوفِ لَمْ يَفُتِ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَاشِرِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ إِذَا انْسَلَخَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَاتَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ وَرَجَّحَ الْمَوْقُوفَ. وَقَوْلُهُ: فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَخْ. هُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ مِنْ قَوْلِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْصَحَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى تَبْلِيغِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِـ (بَرَاءَةٌ) ؛ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَدْحَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعُوهَا مِنْ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ قَائِلِهِ حَمَلَهُ عَلَيْهَا ظَنُّهُ أَنَّ الْمُرَادَ تَبْلِيغُ (بَرَاءَةٌ) كُلِّهَا، وَلَيْسَ
الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِتَبْلِيغِهِ مِنْهَا أَوَائِلَهَا فَقَطْ، وَقَدْ قَدَّمْتُ حَدِيثَ جَابِرٍ وَفِيهِ: أَنَّ عَلِيًّا قَرَأَهَا حَتَّى خَتَمَهَا، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ فِيهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَنْقُولِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ النَّقْلَ عَنْهَا بِذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ إِنْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ بِيَوْمِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ صَبِيحَةُ يَوْمِ الْوُقُوفِ سَوَاءٌ كَانَ وَقَعَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ. نَعَمْ، رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ عَامًا شَهْرًا، وَعَامًا شَهْرَيْنِ، يَعْنِي: يَحُجُّونَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ، ثُمَّ يَحُجُّونَ فِي الثَّالِثِ فِي شَهْرٍ آخَرَ غَيْرِهِ. قَالَ: فَلَا يَقَعُ الْحَجُّ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ إِلَّا فِي كُلِّ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. فَلَمَّا كَانَ حَجُّ
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْحَجِّ الْأَصْغَرِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ الْعُمْرَةُ، وَصَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّازِقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ أَحَدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ: الْقِرَانُ، وَالْأَصْغَرُ: الْإِفْرَادُ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَتَكَمَّلُ بَقِيَّةُ الْمَنَاسِكِ. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَيَّامُ الْحَجِّ تُسَمَّى يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كَمَا يُقَالُ يَوْمُ الْفَتْحِ، وَأَيَّدَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّ عَلِيًّا أُمِرَ بِذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَإِذَا كَانَ صَبِيحَةُ النَّحْرِ وَقَفَ الْجَمِيعُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقِيلَ لَهُ الْأَكْبَرُ: لِاجْتِمَاعِ الْكُلِّ فِيهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاتِّفَاقِ حَجِّ جَمِيعِ الْمِلَلِ فِيهِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ يَوْمَ التَّاسِعِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ إِذَا انْسَلَخَ قَبْلَ الْوُقُوفِ لَمْ يَفُتِ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَاشِرِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ إِذَا انْسَلَخَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَاتَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ وَرَجَّحَ الْمَوْقُوفَ. وَقَوْلُهُ: فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَخْ. هُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ مِنْ قَوْلِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْصَحَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتَصِرِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى تَبْلِيغِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ بِـ (بَرَاءَةٌ) ؛ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَدْحَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعُوهَا مِنْ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ قَائِلِهِ حَمَلَهُ عَلَيْهَا ظَنُّهُ أَنَّ الْمُرَادَ تَبْلِيغُ (بَرَاءَةٌ) كُلِّهَا، وَلَيْسَ
الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِتَبْلِيغِهِ مِنْهَا أَوَائِلَهَا فَقَطْ، وَقَدْ قَدَّمْتُ حَدِيثَ جَابِرٍ وَفِيهِ: أَنَّ عَلِيًّا قَرَأَهَا حَتَّى خَتَمَهَا، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ فِيهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَنْقُولِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَقَدْ قَدَّمْتُ النَّقْلَ عَنْهَا بِذَلِكَ فِي الْمَغَازِي، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ إِنْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ بِيَوْمِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ صَبِيحَةُ يَوْمِ الْوُقُوفِ سَوَاءٌ كَانَ وَقَعَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ. نَعَمْ، رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانُوا يَجْعَلُونَ عَامًا شَهْرًا، وَعَامًا شَهْرَيْنِ، يَعْنِي: يَحُجُّونَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ، ثُمَّ يَحُجُّونَ فِي الثَّالِثِ فِي شَهْرٍ آخَرَ غَيْرِهِ. قَالَ: فَلَا يَقَعُ الْحَجُّ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ إِلَّا فِي كُلِّ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. فَلَمَّا كَانَ حَجُّ
143
أَبِي بَكْرٍ وَافَقَ ذَلِكَ الْعَامَ أَشْهُرَ الْحَجِّ فَسَمَّاهُ اللهُ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ فِي تَلْخِيصِ الرِّوَايَاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا بِحُرُوفِهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ رِوَايَاتٍ أُخْرَى فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْهَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةٍ نَقَلَهَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا أَصْلَ لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي الصَّحِيحِ إِلَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِيمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُ آنِفًا، وَقَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالًا أُخْرَى شَاذَّةً مِنْهَا: قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ: كَانَ يَوْمًا وَافَقَ فِيهِ حَجُّ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَجُّ أَهْلِ الْوَبَرِ اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَالْعَوَامُّ يُسَمُّونَ كُلَّ عَامٍ يَكُونُ فِيهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَشَارُوا إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحِجَّةِ الَّتِي حَجَّ فَقَالَ: " أَيُّ يَوْمٍ هَذَا "؟ قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: " هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مَوْصُولًا عَنْهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ.
شُبْهَةٌ لِلشِّيعَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ
إِنَّ بَعْضَ الشِّيعَةِ يُكَبِّرُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ لَعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَعَادَتِهِمْ، وَيُضِيفُونَ إِلَيْهَا مَا لَا تَصِحُّ بِهِ رِوَايَةٌ، وَلَا تُؤَيِّدُهُ دِرَايَةٌ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَزَلَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ تَبْلِيغِ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُبَلِّغُ عَنْهُ إِلَّا رَجُلٌ مِنْهُ، وَلَا يَخُصُّونَ هَذَا النَّفْيَ بِتَبْلِيغِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَلْ يَجْعَلُونَهُ عَامًّا لِأَمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ، مَعَ اسْتِفَاضَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ بِوُجُوبِ تَبْلِيغِ الدِّينِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً كَالْجِهَادِ فِي حِمَايَتِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، وَكَوْنِهِ فَرِيضَةً لَا فَضِيلَةً فَقَطْ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى مَسْمَعِ الْأُلُوفِ مِنَ النَّاسِ: " أَلَا فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " وَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ " فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " إِلَخْ. وَحَدِيثُ بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ الِانْتِشَارَ السَّرِيعَ فِي الْعَالَمِ، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ كَمَا قِيلَ: إِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَزَلَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ إِمَارَةِ الْحَجِّ وَوَلَّاهَا عَلِيًّا، وَهَذَا بُهْتَانٌ صَرِيحٌ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ فِي مَسْأَلَةٍ عَمَلِيَّةٍ عَرَفَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ. وَالْحَقُّ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ كَانَ مُكَلَّفًا بِتَبْلِيغِ أَمْرٍ خَاصٍّ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ تَابِعًا لِأَبِي بَكْرٍ فِي إِمَارَتِهِ الْعَامَّةِ فِي إِقَامَةِ رُكْنِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ رِوَايَاتٍ أُخْرَى فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْهَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ مَرْفُوعَةٍ نَقَلَهَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا أَصْلَ لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي الصَّحِيحِ إِلَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِيمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْهُ آنِفًا، وَقَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ. وَذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَقْوَالًا أُخْرَى شَاذَّةً مِنْهَا: قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ: كَانَ يَوْمًا وَافَقَ فِيهِ حَجُّ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَجُّ أَهْلِ الْوَبَرِ اهـ. أَقُولُ: وَقَدْ كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَالْعَوَامُّ يُسَمُّونَ كُلَّ عَامٍ يَكُونُ فِيهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَشَارُوا إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحِجَّةِ الَّتِي حَجَّ فَقَالَ: " أَيُّ يَوْمٍ هَذَا "؟ قَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ: " هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مَوْصُولًا عَنْهُ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْفَصْلُ.
شُبْهَةٌ لِلشِّيعَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ
إِنَّ بَعْضَ الشِّيعَةِ يُكَبِّرُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ لَعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَعَادَتِهِمْ، وَيُضِيفُونَ إِلَيْهَا مَا لَا تَصِحُّ بِهِ رِوَايَةٌ، وَلَا تُؤَيِّدُهُ دِرَايَةٌ، فَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ مِنْهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَزَلَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ تَبْلِيغِ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يُبَلِّغُ عَنْهُ إِلَّا رَجُلٌ مِنْهُ، وَلَا يَخُصُّونَ هَذَا النَّفْيَ بِتَبْلِيغِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَلْ يَجْعَلُونَهُ عَامًّا لِأَمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ، مَعَ اسْتِفَاضَةِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ بِوُجُوبِ تَبْلِيغِ الدِّينِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً كَالْجِهَادِ فِي حِمَايَتِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ، وَكَوْنِهِ فَرِيضَةً لَا فَضِيلَةً فَقَطْ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى مَسْمَعِ الْأُلُوفِ مِنَ النَّاسِ: " أَلَا فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " وَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ " فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ " إِلَخْ. وَحَدِيثُ بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ الِانْتِشَارَ السَّرِيعَ فِي الْعَالَمِ، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ كَمَا قِيلَ: إِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَزَلَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ إِمَارَةِ الْحَجِّ وَوَلَّاهَا عَلِيًّا، وَهَذَا بُهْتَانٌ صَرِيحٌ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ الرِّوَايَاتِ فِي مَسْأَلَةٍ عَمَلِيَّةٍ عَرَفَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ. وَالْحَقُّ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ كَانَ مُكَلَّفًا بِتَبْلِيغِ أَمْرٍ خَاصٍّ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ تَابِعًا لِأَبِي بَكْرٍ فِي إِمَارَتِهِ الْعَامَّةِ فِي إِقَامَةِ رُكْنِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ
144
الْعَامِّ، حَتَّى كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعَيِّنُ لَهُ الْوَقْتَ الَّذِي يُبَلِّغُ ذَلِكَ فِيهِ فَيَقُولُ: يَا عَلِيُّ قُمْ فَبَلِّغْ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، كَمَا أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِمُسَاعَدَتِهِ عَلَى هَذَا التَّبْلِيغِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
وَلِقَدْ كَانَ تَأْمِيرُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي إِقَامَةِ الْحَجِّ فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ خُلُوصِ السُّلْطَانِ لَهُمْ عَلَى مَكَّةَ، وَمَشَاعِرِ الْحَجِّ كُلِّهَا، كَتَقْدِيمِهِ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ قُبَيْلَ وَفَاتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكِلَاهُمَا تَقْدِيمٌ لَهُ عَلَى جَمِيعِ زُعَمَاءِ الصَّحَابَةِ فِي
إِقَامَةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ يَقُومُ بِهَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَدَّهَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ تَرْشِيحًا لَهُ لِتَوَلِّيَ الْإِمَامَةِ الْعَامَّةِ بَعْدَهُ، فَالْوَاقِعَةُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ لَا عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَقَدْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيَكُونُ إِمَامًا فِي وَقْتِهِ. قَالَ الْآلُوسِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ نُكْتَةً فِي نَصْبِ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرًا لِلنَّاسِ فِي حَجِّهِمْ، وَنَصْبِ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ مُبَلِّغًا نَقْضَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ الْمَحْفَلِ، وَهِيَ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ مَظْهَرًا لِصِفَةِ الرَّحْمَةِ وَالْجَمَالِ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ أَحَالَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ مَوْرِدُ رَحْمَةِ، وَلَمَّا كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ الَّذِي هُوَ أَسَدُ اللهِ مَظْهَرَ جَلَالِهِ، فَوَّضَ إِلَيْهِ نَقْضَ عَهْدِ الْكَافِرِينَ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الْقَهْرِ، فَكَانَا كَعَيْنَيْنِ فَوَّارَتَيْنِ يَفُورُ مِنْ إِحْدَاهُمَا صِفَةُ الْجَمَالِ، وَمِنَ الْأُخْرَى صِفَةُ الْجَلَالِ، فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ أُنْمُوذَجًا لِلْحَشْرِ وَمَوْرِدًا لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. انْتَهَى وَلَا يَخْفَى حُسْنُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَانِ تَعْلِيلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اهـ. وَنَقُولُ: إِذَا كَانَ تَعْلِيلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِتَبْلِيغِ عَلِيٍّ نَبْذَ الْعُهُودِ عَنْهُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُنَافِي أَنْ تَكُونَ النُّكْتَةُ الْمَذْكُورَةُ عِلَّةً، فَهُوَ لَا يَأْبَى أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً.
وَرَأَيْتُ فِي مُصَنَّفٍ جَدِيدٍ لِبَعْضِ الشِّيعَةِ الْمُعَاصِرِينَ ضَرْبًا آخَرَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْبِيرِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا فَعَلَ بِغَيْرِهَا مِنْ مَنَاقِبِهِ كَرَّمُ اللهُ وَجْهَهُ، مِنْ حَيْثُ يُصَغِّرُ مَنَاقِبَ الشَّيْخَيْنِ إِنْ لَمْ يَجِدْ شُبْهَةً أَوْ وَسِيلَةً لِإِنْكَارِهَا، حَتَّى إِنَّهُ جَعَلَ تَنْوِيهَ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِصُحْبَةِ الصَّدِيقِ الْأَكْبَرِ لِلرَّسُولِ الْأَعْظَمِ فِي هِجْرَتِهِ، وَإِثْبَاتَ مَعِيَّتِهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا مَعًا فِي الْغَارِ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا يُعَدُّ مَزِيَّةً لِلصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَدْ نَشِطُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِدَعَايَةِ الرَّفْضِ وَالْبِدَعِ وَالصَّدِّ عَنِ السُّنَّةِ وَالطَّعْنِ فِي أَئِمَّتِهَا لَمَا جَعَلْنَا شُبْهَةَ التَّبْلِيغِ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذْكَرَ وَيُبَيَّنَ وَهَنُهَا.
ذَلِكَ بِأَنَّهُ اقْتَصَرَ مِنْ رِوَايَاتِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ - يَعْنِي مِنْ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) - بَعَثَ بِهِنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّرَهُ عَلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا سَارَ فَبَلَغَ الشَّجَرَةَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ
وَلِقَدْ كَانَ تَأْمِيرُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي إِقَامَةِ الْحَجِّ فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ خُلُوصِ السُّلْطَانِ لَهُمْ عَلَى مَكَّةَ، وَمَشَاعِرِ الْحَجِّ كُلِّهَا، كَتَقْدِيمِهِ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ قُبَيْلَ وَفَاتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكِلَاهُمَا تَقْدِيمٌ لَهُ عَلَى جَمِيعِ زُعَمَاءِ الصَّحَابَةِ فِي
إِقَامَةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ يَقُومُ بِهَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَدَّهَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ تَرْشِيحًا لَهُ لِتَوَلِّيَ الْإِمَامَةِ الْعَامَّةِ بَعْدَهُ، فَالْوَاقِعَةُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ لَا عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَقَدْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيَكُونُ إِمَامًا فِي وَقْتِهِ. قَالَ الْآلُوسِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ نُكْتَةً فِي نَصْبِ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرًا لِلنَّاسِ فِي حَجِّهِمْ، وَنَصْبِ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ مُبَلِّغًا نَقْضَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ الْمَحْفَلِ، وَهِيَ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ مَظْهَرًا لِصِفَةِ الرَّحْمَةِ وَالْجَمَالِ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ أَحَالَ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ مَوْرِدُ رَحْمَةِ، وَلَمَّا كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ الَّذِي هُوَ أَسَدُ اللهِ مَظْهَرَ جَلَالِهِ، فَوَّضَ إِلَيْهِ نَقْضَ عَهْدِ الْكَافِرِينَ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الْقَهْرِ، فَكَانَا كَعَيْنَيْنِ فَوَّارَتَيْنِ يَفُورُ مِنْ إِحْدَاهُمَا صِفَةُ الْجَمَالِ، وَمِنَ الْأُخْرَى صِفَةُ الْجَلَالِ، فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ أُنْمُوذَجًا لِلْحَشْرِ وَمَوْرِدًا لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. انْتَهَى وَلَا يَخْفَى حُسْنُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَانِ تَعْلِيلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اهـ. وَنَقُولُ: إِذَا كَانَ تَعْلِيلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِتَبْلِيغِ عَلِيٍّ نَبْذَ الْعُهُودِ عَنْهُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يُنَافِي أَنْ تَكُونَ النُّكْتَةُ الْمَذْكُورَةُ عِلَّةً، فَهُوَ لَا يَأْبَى أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً.
وَرَأَيْتُ فِي مُصَنَّفٍ جَدِيدٍ لِبَعْضِ الشِّيعَةِ الْمُعَاصِرِينَ ضَرْبًا آخَرَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْبِيرِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا فَعَلَ بِغَيْرِهَا مِنْ مَنَاقِبِهِ كَرَّمُ اللهُ وَجْهَهُ، مِنْ حَيْثُ يُصَغِّرُ مَنَاقِبَ الشَّيْخَيْنِ إِنْ لَمْ يَجِدْ شُبْهَةً أَوْ وَسِيلَةً لِإِنْكَارِهَا، حَتَّى إِنَّهُ جَعَلَ تَنْوِيهَ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِصُحْبَةِ الصَّدِيقِ الْأَكْبَرِ لِلرَّسُولِ الْأَعْظَمِ فِي هِجْرَتِهِ، وَإِثْبَاتَ مَعِيَّتِهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا مَعًا فِي الْغَارِ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَا يُعَدُّ مَزِيَّةً لِلصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَدْ نَشِطُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِدَعَايَةِ الرَّفْضِ وَالْبِدَعِ وَالصَّدِّ عَنِ السُّنَّةِ وَالطَّعْنِ فِي أَئِمَّتِهَا لَمَا جَعَلْنَا شُبْهَةَ التَّبْلِيغِ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُذْكَرَ وَيُبَيَّنَ وَهَنُهَا.
ذَلِكَ بِأَنَّهُ اقْتَصَرَ مِنْ رِوَايَاتِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ إِلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ - يَعْنِي مِنْ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) - بَعَثَ بِهِنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّرَهُ عَلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا سَارَ فَبَلَغَ الشَّجَرَةَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ
145
أَتْبَعَهُ بِعَلِيٍّ فَأَخَذَهَا مِنْهُ. فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَنَزَلَ فِي شَأْنِي شَيْءٌ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ لَا يُبَلِّغُ عَنِّي غَيْرِي أَوْ رَجُلٌ مِنِّي " ثُمَّ اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَ عَلِيٍّ مِنَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَنْزِلَةُ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ خَيْرُ أَصْحَابِهِ وَأَفْضَلُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ الَّذِي يُمَثِّلُ شَخْصَ النَّبِيِّ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى أَنَّ كَوْنَ عَلِيٍّ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَنَفْسِهِ نَفْسَهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ ثَابِتٌ لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِذِكْرِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ عِنْدَ الْعَارِفِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، وَتَرْتِيبِ الْأَشْكَالِ، وَقَدْ عَمَدَ بَعْضُ النَّوَاصِبِ إِلَى الْحَطِّ مِنْ هَذِهِ الْكَرَامَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّمَا أَرَادَ بِأَنَّهُ نَفْسُهُ وَمِنْهُ هُوَ الْقُرْبُ فِي النَّسَبِ دُونَ الْفَضِيلَةِ، مُدَّعِيًا أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَنْبِذَ عَهْدًا نَبَذَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْسَلَ بِهِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ - إِلَى آخِرِ مَا غَالَطَ بِهِ، وَبَنَى عَلَى زَعْمِهِ هَذَا أَنَّ الْعَبَّاسَ أَقْرَبُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ عَلِيٍّ نَسَبًا فَلِمَاذَا لَمْ يُرْسِلْهُ بِهَذَا التَّبْلِيغِ؟ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِمَعْنَى مَا زَعَمَهُ، لَا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْأَقْرَبِ بَلْ قَالُوا: إِنَّ التَّبْلِيغَ فِي مِثْلِهِ لِعَاقِدِ الْعَهْدِ أَوْ لِأَحَدِ عَصَبَتِهِ الْأَقْرَبِينَ.
وَأَقُولُ فِي قَلْبِ شُبْهَتِهِ هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ: (أَوَّلًا) أَنَّ هَذَا الشِّيعِيَّ الْمُتَعَصِّبَ اخْتَارَ رِوَايَةَ السُّدِّيِّ مِنْ رِوَايَاتٍ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَغُلُوِّهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ غَيْرُهَا.
(ثَانِيًا) أَنَّ السُّدِّيَّ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَنَدًا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
(ثَالِثًا) أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ يُخَالِفُ قَوْلَ السُّدِّيِّ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهِيَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّرْجِيحِ.
(رَابِعًا) أَنَّ هَذَا الشِّيعِيَّ الَّذِي يَدَّعِي التَّحْقِيقَ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ السُّدِّيِّ كُلَّهُ بَلْ أَسْقَطَ مِنْهُ قَوْلَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمَرْوِيَّ عَنْ غَيْرِ السُّدِّيِّ أَيْضًا " أَمَا تَرْضَى يَا أَبَا بَكْرٍ أَنْ كُنْتَ مَعِيَ فِي الْغَارِ، وَأَنَّكَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ "؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. فَسَارَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْحَاجِّ وَعَلِيٌّ يُؤَذِّنُ بِـ (بَرَاءَةٌ)، فَقَامَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ: لَا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَلَهُ عَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ. وَإِنَّ هَذِهِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُسْلِمًا. فَقَالُوا: نَحْنُ نَبْرَأُ مِنْ عَهْدِكَ وَعَهْدِ ابْنِ عَمِّكَ إِلَّا مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، فَرَجَعَ الْمُشْرِكُونَ فَلَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَالُوا: مَا تَصْنَعُونَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ؟ فَأَسْلَمُوا انْتَهَى نَصُّ رِوَايَةِ السُّدِّيِّ هَذِهِ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ (ص٢٧ ج ١٠ مِنَ الطَّبْعَةِ الْأَمِيرِيَّةِ)
وَأَقُولُ فِي قَلْبِ شُبْهَتِهِ هَذِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ: (أَوَّلًا) أَنَّ هَذَا الشِّيعِيَّ الْمُتَعَصِّبَ اخْتَارَ رِوَايَةَ السُّدِّيِّ مِنْ رِوَايَاتٍ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ مِنْ تَأْوِيلِهِ وَغُلُوِّهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ غَيْرُهَا.
(ثَانِيًا) أَنَّ السُّدِّيَّ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ سَنَدًا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
(ثَالِثًا) أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ يُخَالِفُ قَوْلَ السُّدِّيِّ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهِيَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّرْجِيحِ.
(رَابِعًا) أَنَّ هَذَا الشِّيعِيَّ الَّذِي يَدَّعِي التَّحْقِيقَ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ السُّدِّيِّ كُلَّهُ بَلْ أَسْقَطَ مِنْهُ قَوْلَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمَرْوِيَّ عَنْ غَيْرِ السُّدِّيِّ أَيْضًا " أَمَا تَرْضَى يَا أَبَا بَكْرٍ أَنْ كُنْتَ مَعِيَ فِي الْغَارِ، وَأَنَّكَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ "؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. فَسَارَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْحَاجِّ وَعَلِيٌّ يُؤَذِّنُ بِـ (بَرَاءَةٌ)، فَقَامَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَقَالَ: لَا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَلَهُ عَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ. وَإِنَّ هَذِهِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَإِنَّ اللهَ لَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُسْلِمًا. فَقَالُوا: نَحْنُ نَبْرَأُ مِنْ عَهْدِكَ وَعَهْدِ ابْنِ عَمِّكَ إِلَّا مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، فَرَجَعَ الْمُشْرِكُونَ فَلَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَالُوا: مَا تَصْنَعُونَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ؟ فَأَسْلَمُوا انْتَهَى نَصُّ رِوَايَةِ السُّدِّيِّ هَذِهِ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ (ص٢٧ ج ١٠ مِنَ الطَّبْعَةِ الْأَمِيرِيَّةِ)
146
فَإِذَا كَانَ هَذَا الشِّيعِيُّ يَعْتَمِدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنِ اخْتِيَارِهِ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَمِنْهُ كَوْنُ الْآيَةِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا (٤٠).
وَلَا يَظْهَرُ لِأَمْرِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِتَبْلِيغِهَا لِلنَّاسِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ مَنْ نَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِهَا إِلَّا بَيَانَ فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ وَمَكَانِهِ الْخَاصِّ مِنَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحِكْمَةِ جَعْلِهِ نَائِبًا عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي إِقَامَةِ رُكْنِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ الْعَامِّ، وَجَعْلِ عَلِيٍّ نَفْسَهُ عَلَى قُرْبِهِ، وَعُلُوِّ مَكَانَتِهِ تَحْتَ إِمَارَتِهِ، حَتَّى فِي تَبْلِيغِهِ هَذِهِ الرِّسَالَةَ الْخَاصَّةَ عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا أَسْقَطَ الرَّافِضِيُّ بَقِيَّةَ الرِّوَايَةِ عَلَى كَوْنِهِ يُنْكِرُ عَلَى الصَّدِيقِ الْأَكْبَرِ مَزِيَّةَ اخْتِيَارِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُ بِأَمْرِ اللهِ عَلَى مُرَافَقَتِهِ لَهُ وَحْدَهُ فِي أَهَمِّ حَادِثَةٍ مِنْ تَارِيخِ حَيَاتِهِ،
وَهِيَ الْهِجْرَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُنْذُ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِشَارِ نُورِهِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصُّحْبَةُ أَمْرًا عَادِيًّا أَوْ صَغِيرَةً لَمَا ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَقْرُونَةً بِتَسْمِيَةِ الصِّدِّيقِ صَاحِبًا لِسَيِّدِ الْبَشَرِ، وَإِثْبَاتِ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لَهُمَا مَعًا، وَفَرَّقَ بَيْنَ وَصْفِ اللهِ تَعَالَى لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِهَذِهِ وَبَيْنَ تَعْبِيرِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ أَتْبَاعِهِ بِالْأَصْحَابِ تَوَاضُعًا مِنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلصِّدِّيقِ: " وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ " يَدُلُّ عَلَى مَا سَيَكُونُ لَهُ مَعَهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ وَالِامْتِيَازِ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ كَانَ شَأْنُهُ فِيهِ كَشَأْنِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَرِدُ الْحَوْضَ لَمَا كَانَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَزِيَّةٌ، وَكَلَامُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُنَزَّهُ عَنِ الْعَبَثِ.
(خَامِسًا) أَنَّ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " أَوْ رَجُلٌ مِنِّي " فِي رِوَايَةٍ قَدْ فَسَّرَتْهَا الرِّوَايَاتُ الْأُخْرَى عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي " وَهَذَا النَّصُّ الصَّرِيحُ يُبْطِلُ تَأْوِيلَ كَلِمَةِ " مِنِّي " بِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ نَفْسَ عَلِيٍّ كَنَفْسِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّهُ مِثْلُهُ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ أَصْحَابِهِ.
(سَادِسًا) أَنَّ مَا عَزَاهُ إِلَى بَعْضِ النَّوَاصِبِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ لَا مَزِيَّةَ لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا أَنَّ سَبَبَ نَوْطِهِ بِهِ الْقَرَابَةُ دُونَ الْفَضِيلَةِ، وَأَنَّهُ تَبْلِيغٌ لَا فَخْرَ فِيهِ، وَلَا فَضْلَ، بَلْ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا اعْتَادَ الرَّوَافِضُ افْتِرَاءَهُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ عِنْدَ نَبْزِهِمْ بِلَقَبِ النَّوَاصِبِ، فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي النَّوَاصِبِ مَنْ يُنْكِرُ مَزِيَّةَ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَفِي الرَّوَافِضِ مَنْ يُنْكِرُ مَا هُوَ أَظْهَرُ
وَلَا يَظْهَرُ لِأَمْرِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِتَبْلِيغِهَا لِلنَّاسِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ مَنْ نَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ مَوْضُوعِهَا إِلَّا بَيَانَ فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ وَمَكَانِهِ الْخَاصِّ مِنَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَحِكْمَةِ جَعْلِهِ نَائِبًا عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي إِقَامَةِ رُكْنِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ الْعَامِّ، وَجَعْلِ عَلِيٍّ نَفْسَهُ عَلَى قُرْبِهِ، وَعُلُوِّ مَكَانَتِهِ تَحْتَ إِمَارَتِهِ، حَتَّى فِي تَبْلِيغِهِ هَذِهِ الرِّسَالَةَ الْخَاصَّةَ عَنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا أَسْقَطَ الرَّافِضِيُّ بَقِيَّةَ الرِّوَايَةِ عَلَى كَوْنِهِ يُنْكِرُ عَلَى الصَّدِيقِ الْأَكْبَرِ مَزِيَّةَ اخْتِيَارِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُ بِأَمْرِ اللهِ عَلَى مُرَافَقَتِهِ لَهُ وَحْدَهُ فِي أَهَمِّ حَادِثَةٍ مِنْ تَارِيخِ حَيَاتِهِ،
وَهِيَ الْهِجْرَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُنْذُ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِشَارِ نُورِهِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصُّحْبَةُ أَمْرًا عَادِيًّا أَوْ صَغِيرَةً لَمَا ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مَقْرُونَةً بِتَسْمِيَةِ الصِّدِّيقِ صَاحِبًا لِسَيِّدِ الْبَشَرِ، وَإِثْبَاتِ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لَهُمَا مَعًا، وَفَرَّقَ بَيْنَ وَصْفِ اللهِ تَعَالَى لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِهَذِهِ وَبَيْنَ تَعْبِيرِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ أَتْبَاعِهِ بِالْأَصْحَابِ تَوَاضُعًا مِنْهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِلصِّدِّيقِ: " وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ " يَدُلُّ عَلَى مَا سَيَكُونُ لَهُ مَعَهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ وَالِامْتِيَازِ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ كَانَ شَأْنُهُ فِيهِ كَشَأْنِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَرِدُ الْحَوْضَ لَمَا كَانَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَزِيَّةٌ، وَكَلَامُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُنَزَّهُ عَنِ الْعَبَثِ.
(خَامِسًا) أَنَّ قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " أَوْ رَجُلٌ مِنِّي " فِي رِوَايَةٍ قَدْ فَسَّرَتْهَا الرِّوَايَاتُ الْأُخْرَى عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي " وَهَذَا النَّصُّ الصَّرِيحُ يُبْطِلُ تَأْوِيلَ كَلِمَةِ " مِنِّي " بِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ نَفْسَ عَلِيٍّ كَنَفْسِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّهُ مِثْلُهُ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ أَصْحَابِهِ.
(سَادِسًا) أَنَّ مَا عَزَاهُ إِلَى بَعْضِ النَّوَاصِبِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ لَا مَزِيَّةَ لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا أَنَّ سَبَبَ نَوْطِهِ بِهِ الْقَرَابَةُ دُونَ الْفَضِيلَةِ، وَأَنَّهُ تَبْلِيغٌ لَا فَخْرَ فِيهِ، وَلَا فَضْلَ، بَلْ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا اعْتَادَ الرَّوَافِضُ افْتِرَاءَهُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ عِنْدَ نَبْزِهِمْ بِلَقَبِ النَّوَاصِبِ، فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي النَّوَاصِبِ مَنْ يُنْكِرُ مَزِيَّةَ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَفِي الرَّوَافِضِ مَنْ يُنْكِرُ مَا هُوَ أَظْهَرُ
147
مِنْهَا مِنْ مَزِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ فِي نِيَابَتِهِ عَنِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي إِمَارَةِ الْحَجِّ، وَإِقَامَةِ رُكْنِهِ، وَتَعْلِيمِ النَّاسِ الْمَنَاسِكَ، وَتَبْلِيغِ الدِّينِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْحَجِّ ذَلِكَ الْعَامَ تَمْهِيدًا لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ، إِذْ كَانَ يَكْرَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَحُجَّ مَعَهُمْ، وَيَرَاهُمْ فِي بَيْتِ اللهِ عُرَاةً نِسَاؤُهُمْ وَرِجَالُهُمْ يُشْرِكُونَ بِاللهِ فِي بَيْتِهِ، وَمَا يَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْإِمَارَةَ مِمَّا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ يَعْتَرِفُونَ بِمَزِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَعَنْ سَائِرِ آلِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ، وَعَنِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُمْ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِهِ لِأَهْلِهِ وَمَحَبَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَقَاتَلَ اللهُ الرَّوَافِضَ وَالنَّوَاصِفَ الَّذِينَ يَطِرُونَ بَعْضًا، وَيُنْكِرُونَ فَضْلَ الْآخَرِ، وَيَعُدُّونَ مَحَبَّتَهُ مُنَافِيَةً لِمَحَبَّتِهِ.
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَذَانِ بِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي الْمُوَقَّتِ مِنْهَا وَغَيْرِ الْمُوَقَّتِ، وَهُوَ مُفَصِّلٌ لِكُلِّ حَالٍ يَكُونُونَ عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْأَذَانِ الْعَامِّ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَوَفَاءٍ وَغَدْرٍ، يَنْتَهِي بِالْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ. وَانْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ انْقِضَاؤُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا، وَهُوَ مَجَازٌ مُسْتَعَارٌ مِنِ انْسِلَاخِ الْحَيَّةِ، وَهُوَ خُرُوجُهَا مِنْ جِلْدِهَا، وَيُسَمَّى بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْهُ الْمِسْلَاخُ، يَقُولُونَ: سَلَخَ فَلَانٌ الشَّهْرَ وَانْسَلَخَ مِنْهُ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ (٣٦: ٣٧). وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْحُرُمُ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ الْحَرَامِ (كَسَحَابٍ وَسُحُبٍ) وَهِيَ الْأَشْهَرُ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ فِيهَا قِتَالَهُمْ فِي الْأَذَانِ وَالتَّبْلِيغِ. الَّذِي بَيَّنَتِ الْآيَةُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ بِقَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَيْ: آمِنِينَ لَا يَعْرِضُ لَكُمْ أَحَدٌ بِقِتَالٍ فِيهَا. فَالتَّعْرِيفُ فِيهَا لِلْعَهْدِ
بَيَانُهُ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ يَعْتَرِفُونَ بِمَزِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَعَنْ سَائِرِ آلِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابِهِ، وَعَنِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُمْ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِهِ لِأَهْلِهِ وَمَحَبَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَقَاتَلَ اللهُ الرَّوَافِضَ وَالنَّوَاصِفَ الَّذِينَ يَطِرُونَ بَعْضًا، وَيُنْكِرُونَ فَضْلَ الْآخَرِ، وَيَعُدُّونَ مَحَبَّتَهُ مُنَافِيَةً لِمَحَبَّتِهِ.
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَذَانِ بِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي الْمُوَقَّتِ مِنْهَا وَغَيْرِ الْمُوَقَّتِ، وَهُوَ مُفَصِّلٌ لِكُلِّ حَالٍ يَكُونُونَ عَلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْأَذَانِ الْعَامِّ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَوَفَاءٍ وَغَدْرٍ، يَنْتَهِي بِالْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ. وَانْسِلَاخُ الْأَشْهُرِ انْقِضَاؤُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا، وَهُوَ مَجَازٌ مُسْتَعَارٌ مِنِ انْسِلَاخِ الْحَيَّةِ، وَهُوَ خُرُوجُهَا مِنْ جِلْدِهَا، وَيُسَمَّى بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْهُ الْمِسْلَاخُ، يَقُولُونَ: سَلَخَ فَلَانٌ الشَّهْرَ وَانْسَلَخَ مِنْهُ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ (٣٦: ٣٧). وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا سَلَخْتُ الشَّهْرَ أَهْلَكْتُ مِثْلَهُ | كَفَى قَاتِلًا سَلْخِي الشُّهُورَ وَإِهْلَالِي |
148
وَلَوْلَا هَذَا السِّيَاقُ لَوَجَبَ تَفْسِيرُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِالْأَرْبَعَةِ الَّتِي
كَانُوا يُحَرِّمُونَ فِيهَا الْقِتَالَ مِنْ قَبْلُ إِذَا لَمْ يَسْتَحِلُّوا شَيْئًا مِنْهَا بِالنَّسِيءِ، وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ ٣٦ و٣٧، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّهَا هِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا أَوِ الثَّلَاثَةُ الْمُتَوَالِيَةُ مِنْهَا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُمْ لِحُرِّيَّةِ السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ هِيَ مِنْ شَوَّالٍ إِلَى الْمُحَرَّمِ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قُلْنَاهُ هُنَا وَهُنَاكَ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَلَكِنَّهُ اعْتَمَدَ قَبْلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ.
قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أَيْ: فَإِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا، فَاقْتُلُوهُمْ فِي أَيِّ مَكَانٍ وَجَدْتُمُوهُمْ فِيهِ مِنْ حِلٍّ وَحَرَمٍ؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَادَتْ حَالَةُ حَرْبٍ كَمَا كَانَتْ، وَإِنَّمَا كَانَ تَأْمِينُهُمْ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْحَةً مِنْكُمْ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا عَدَا أَرْضَ الْحَرَمِ فَهُوَ غَالِطٌ.
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أَيْ: وَافْعَلُوا بِهِمْ كُلَّ مَا تَرَوْنَهُ مُوَافِقًا لِلْمَصْلِحَةِ مِنْ تَدَابِيرِ الْقِتَالِ وَشُئُونِ الْحَرْبِ الْمَعْهُودَةِ، وَأَهَمُّهَا وَأَشْهَرُهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ: وَأَوَّلُهَا: أَخْذُهُمْ أُسَارَى، فَكَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْأَسْرِ بِالْأَخْذِ وَيُسَمُّونَ الْأَسِيرَ (أَخِيذًا) وَالْأَخْذُ أَعَمُّ مِنَ الْأَسْرِ، فَإِنَّ مَعْنَى الثَّانِي الشَّدَّ بِالْأُسَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَالْأَسِيرُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْأَخِيذُ الَّذِي يُشَدُّ. وَقَدْ أُبِيحُ هُنَا الْأَسْرُ الَّذِي حُظِرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (٨: ٦٧) لِحُصُولِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِثْخَانُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَلَبِ وَالْقُوَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَمَنْ يُسَمِّي مِثْلَ هَذَا نَسْخًا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنَ الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْطِ أَوِ الْوَقْتِ أَوِ الْأَذَانِ.
وَالثَّانِي: الْحَصْرُ وَهُوَ حَبْسُ الْعَدُوِّ حَيْثُ يَعْتَصِمُونَ مِنْ مَعْقِلٍ وَحِصْنٍ، بِأَنْ يُحَاطَ بِهِمْ وَيُمْنَعُوا مِنَ الْخُرُوجِ وَالِانْفِلَاتِ إِذَا كَانَ فِي مُهَاجَمَتِهِمْ فِيهِ خَسَارَةٌ كَبِيرَةٌ،
فَاحْصُرُوهُمْ إِلَى أَنْ يُسْلِمُوا، وَيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِكُمْ بِشَرْطٍ تَرْضَوْنَهُ أَوْ بِغَيْرِ شَرْطٍ.
وَالثَّالِثُ: قُعُودُ الْمَرَاصِدِ أَيِ الرَّصْدِ الْعَامِّ، وَهُوَ مُرَاقَبَةُ الْعَدُوِّ بِالْقُعُودِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ يُمْكِنُ الْإِشْرَافُ عَلَيْهِمْ، وَرُؤْيَةُ تَجْوَالِهِمْ وَتَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ مِنْهُ فَالْمَرْصَدُ اسْمُ مَكَانٍ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِطُرُقِ مَكَّةَ، وَالْفِجَاجِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا لِئَلَّا يَعُودُوا إِلَيْهَا لِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، أَوْ لِلشِّرْكِ فِي الْبَيْتِ وَالطَّوَافِ فِيهِ عُرَاةً. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَهَذَا أَهَمُّ أَفْرَادِهِ. وَلَعَلَّ الْقَائِلَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ لَمْ يَذْكُرِ الْمَدِينَةَ وَهِيَ الْعَاصِمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ عَجَزُوا عَنْهَا فِي عَهْدِ قُوَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ.
كَانُوا يُحَرِّمُونَ فِيهَا الْقِتَالَ مِنْ قَبْلُ إِذَا لَمْ يَسْتَحِلُّوا شَيْئًا مِنْهَا بِالنَّسِيءِ، وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ ٣٦ و٣٧، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّهَا هِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا أَوِ الثَّلَاثَةُ الْمُتَوَالِيَةُ مِنْهَا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُمْ لِحُرِّيَّةِ السِّيَاحَةِ فِي الْأَرْضِ هِيَ مِنْ شَوَّالٍ إِلَى الْمُحَرَّمِ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قُلْنَاهُ هُنَا وَهُنَاكَ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَلَكِنَّهُ اعْتَمَدَ قَبْلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ.
قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أَيْ: فَإِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا، فَاقْتُلُوهُمْ فِي أَيِّ مَكَانٍ وَجَدْتُمُوهُمْ فِيهِ مِنْ حِلٍّ وَحَرَمٍ؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَادَتْ حَالَةُ حَرْبٍ كَمَا كَانَتْ، وَإِنَّمَا كَانَ تَأْمِينُهُمْ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْحَةً مِنْكُمْ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا عَدَا أَرْضَ الْحَرَمِ فَهُوَ غَالِطٌ.
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أَيْ: وَافْعَلُوا بِهِمْ كُلَّ مَا تَرَوْنَهُ مُوَافِقًا لِلْمَصْلِحَةِ مِنْ تَدَابِيرِ الْقِتَالِ وَشُئُونِ الْحَرْبِ الْمَعْهُودَةِ، وَأَهَمُّهَا وَأَشْهَرُهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ: وَأَوَّلُهَا: أَخْذُهُمْ أُسَارَى، فَكَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْأَسْرِ بِالْأَخْذِ وَيُسَمُّونَ الْأَسِيرَ (أَخِيذًا) وَالْأَخْذُ أَعَمُّ مِنَ الْأَسْرِ، فَإِنَّ مَعْنَى الثَّانِي الشَّدَّ بِالْأُسَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَالْأَسِيرُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْأَخِيذُ الَّذِي يُشَدُّ. وَقَدْ أُبِيحُ هُنَا الْأَسْرُ الَّذِي حُظِرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (٨: ٦٧) لِحُصُولِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِثْخَانُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْغَلَبِ وَالْقُوَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَمَنْ يُسَمِّي مِثْلَ هَذَا نَسْخًا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنَ الْمُقَيَّدِ بِالشَّرْطِ أَوِ الْوَقْتِ أَوِ الْأَذَانِ.
وَالثَّانِي: الْحَصْرُ وَهُوَ حَبْسُ الْعَدُوِّ حَيْثُ يَعْتَصِمُونَ مِنْ مَعْقِلٍ وَحِصْنٍ، بِأَنْ يُحَاطَ بِهِمْ وَيُمْنَعُوا مِنَ الْخُرُوجِ وَالِانْفِلَاتِ إِذَا كَانَ فِي مُهَاجَمَتِهِمْ فِيهِ خَسَارَةٌ كَبِيرَةٌ،
فَاحْصُرُوهُمْ إِلَى أَنْ يُسْلِمُوا، وَيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِكُمْ بِشَرْطٍ تَرْضَوْنَهُ أَوْ بِغَيْرِ شَرْطٍ.
وَالثَّالِثُ: قُعُودُ الْمَرَاصِدِ أَيِ الرَّصْدِ الْعَامِّ، وَهُوَ مُرَاقَبَةُ الْعَدُوِّ بِالْقُعُودِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ يُمْكِنُ الْإِشْرَافُ عَلَيْهِمْ، وَرُؤْيَةُ تَجْوَالِهِمْ وَتَقَلُّبِهِمْ فِي الْبِلَادِ مِنْهُ فَالْمَرْصَدُ اسْمُ مَكَانٍ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِطُرُقِ مَكَّةَ، وَالْفِجَاجِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا لِئَلَّا يَعُودُوا إِلَيْهَا لِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، أَوْ لِلشِّرْكِ فِي الْبَيْتِ وَالطَّوَافِ فِيهِ عُرَاةً. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَهَذَا أَهَمُّ أَفْرَادِهِ. وَلَعَلَّ الْقَائِلَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ لَمْ يَذْكُرِ الْمَدِينَةَ وَهِيَ الْعَاصِمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ عَجَزُوا عَنْهَا فِي عَهْدِ قُوَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ.
149
وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا آيَةَ السَّيْفِ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّ آيَةَ السَّيْفِ هِيَ قَوْلُهُ الْآتِي: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (٣٦) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ عَلَى كِلْتَيْهِمَا. وَيَكْثُرُ فِي كَلَامِ الَّذِينَ كَثَّرُوا الْآيَاتِ الْمَنْسُوخَةَ أَنَّ آيَةَ كَذَا وَآيَةَ كَذَا مِنْ آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْجَاهِلِينَ وَالْمُسَالَمَةِ وَحَسُنِ الْمُعَامَلَةِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَيْسَ مِنَ النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ فِي شَيْءٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَقْسَامِ النَّسْخِ مِنَ الْإِتْقَانِ مَا نَصُّهُ: (الثَّالِثُ) مَا أُمِرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ، كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّفْحِ. ثُمَّ نُسِخَ بِإِيجَابِ الْقِتَالِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ نَسْخًا، بَلْ هُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُنَسَّأِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (أَوْ نُنْسِهَا) فَالْمُنَسَّأُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، وَبِهَذَا يَضْعُفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنَسَّأِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ الْحُكْمَ، بَلْ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ لِلْحُكْمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنَ الْخِطَابِ مُشْعِرًا بِالتَّوْقِيتِ وَالْغَايَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (٢: ١٠٩) مُحْكَمٌ غَيْرُ
مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ بِأَجَلٍّ، وَالْمُؤَجَّلُ بِأَجَلٍ لَا نَسْخَ فِيهِ اهـ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَعَزَاهُ الْآلُوسِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ بِعُمُومِهَا عَلَى جَوَازِ قِتَالِ التُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاقْتُلُوا الْكُفَّارَ مُطْلَقًا. يَعْنُونَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ أَوْ مُخَصِّصَةٌ لِحَدِيثِ: اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَسْلُبُ أُمَّتِي مُلْكَهُمْ وَمَا خَوَّلَهُمُ اللهُ بَنُو قَنْطُورَاءَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَفِي فَتْحِ الْبَارِّي أَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
وَقِتَالُ الْمُسْلِمِينَ لِلتُّرْكِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ إِلَّا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا يَكُونُ قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، إِذْ يَبْطُلُ أَمْنُ الْحَرَمِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: دَعَوُا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (٣٦) وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَالْحَدِيثَ مُقَيَّدٌ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيُجْعَلُ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْآيَةِ، كَمَا خَصَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ كَفَرَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُمْ
مَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ بِأَجَلٍّ، وَالْمُؤَجَّلُ بِأَجَلٍ لَا نَسْخَ فِيهِ اهـ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَعَزَاهُ الْآلُوسِيُّ إِلَى الْجُمْهُورِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ بِعُمُومِهَا عَلَى جَوَازِ قِتَالِ التُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاقْتُلُوا الْكُفَّارَ مُطْلَقًا. يَعْنُونَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ أَوْ مُخَصِّصَةٌ لِحَدِيثِ: اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَسْلُبُ أُمَّتِي مُلْكَهُمْ وَمَا خَوَّلَهُمُ اللهُ بَنُو قَنْطُورَاءَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَفِي فَتْحِ الْبَارِّي أَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْحَافِظُ: وَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
وَقِتَالُ الْمُسْلِمِينَ لِلتُّرْكِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ إِلَّا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا يَكُونُ قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، إِذْ يَبْطُلُ أَمْنُ الْحَرَمِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: دَعَوُا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (٣٦) وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ، وَالْحَدِيثَ مُقَيَّدٌ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيُجْعَلُ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْآيَةِ، كَمَا خَصَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ كَفَرَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُمْ
150
الْجِزْيَةَ لِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِلْحَدِيثِ لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ.
وَأَقُولُ: قَدْ غَفَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَاوَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ عَنْ كَوْنِ الْآيَةِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَالَّذِينَ نُبِذَتْ عُهُودُهُمْ، وَضُرِبَ لَهُمْ مَوْعِدُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، وَالْحَبَشَةُ نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى (٥: ٨٢) الْآيَاتِ. وَمِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتُّرْكُ كَانُوا وَثَنِيِّينَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ قِتَالِ التُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ
جَاءَ تَحْذِيرًا مِنْ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ، لَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ خَطَرًا عَلَى الْعَرَبِ وَبِلَادِهِمْ سَيَقَعُ مِنْهُمْ، وَالْأَمْرُ بِقِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِمْ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُسْلِمِينَ، وَنَكَثُوا عُهُودَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (١٣) وَعَلَى كَوْنِ قِتَالِهِمْ كَافَّةً جَزَاءً بِالْمِثْلِ كَمَا قَالَ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (٣٦) فَكَيْفَ يَدْخُلُ وَثَنِيُّو التُّرْكِ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ فِي عُمُومِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ حَتَّى نَحْتَاجَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ؟ وَلَا نَأْتِي هُنَا قَاعِدَةَ كَوْنِ الْعِبْرَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا وُضِعَ لَهُ سَوَاءٌ وُجِدَ مَا كَانَ سَبَبًا لِوُرُودِهِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَلَفْظُ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يُوضَعْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْقَطْعِ، وَلَا لِأَمْثَالِهِمْ كَالْمَجُوسِ مَثَلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ أَبْسَطُهَا تَفْسِيرُ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ (ا: ٢٢١) الْآيَةَ. [ص٢٧٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ] ثُمَّ تَفْسِيرُ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ (٥: ٥) الْآيَةَ [١٤٧ - ١٦٢ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ] وَيَلِيهِ مَبَاحِثُ فِي مَوْضُوعِ الْآيَةِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَشُرَّاحَ الْأَحَادِيثِ يَنْظُرُونَ فِي كِتَابِ اللهِ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ مِنْ وَرَاءِ حُجُبِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ لَمَا وَقَعُوا فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَغْلَاطِ الْوَاضِحَةِ، وَلَكُنَّا فِي غِنًى عَنِ الْإِطَالَةِ فِي التَّفْسِيرِ لِبَيَانِهَا.
فَإِنْ تَابُوا أَيْ: فَإِنْ تَابُوا عَنِ الشِّرْكِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى عَدَاوَتِكُمْ وَقِتَالِكُمْ، بِأَنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ - وَعُنْوَانُهُ الْعَامُّ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَكَانَ يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِإِحْدَاهُمَا - وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ مَعَكُمْ كَمَا تُقِيمُونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا الْخَمْسَةِ، وَهِيَ مَظْهَرُ الْإِيمَانِ، وَأَكْبَرُ أَرْكَانِهِ الْمَطْلُوبَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَتَسَاوَى فِي طَلَبِهَا وَجَمَاعَتِهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالْمَأْمُورُ وَالْأَمِيرُ - وَهِيَ حَقُّ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَأَفْضَلُ مُزَكٍّ لِأَنْفُسِهِمْ يُؤَهِّلُهُمْ لِلِقَائِهِ، وَأَفْعَلُ مُهَذِّبٍ لِأَخْلَاقِهِمْ بَعْدَهَا لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِ عِبَادِهِ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ
وَأَقُولُ: قَدْ غَفَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَاوَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ عَنْ كَوْنِ الْآيَةِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ لَا عَهْدَ لَهُمْ، وَالَّذِينَ نُبِذَتْ عُهُودُهُمْ، وَضُرِبَ لَهُمْ مَوْعِدُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، وَالْحَبَشَةُ نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى (٥: ٨٢) الْآيَاتِ. وَمِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتُّرْكُ كَانُوا وَثَنِيِّينَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ قِتَالِ التُّرْكِ وَالْحَبَشَةِ
جَاءَ تَحْذِيرًا مِنْ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ، لَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ خَطَرًا عَلَى الْعَرَبِ وَبِلَادِهِمْ سَيَقَعُ مِنْهُمْ، وَالْأَمْرُ بِقِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِمْ هُمُ الَّذِينَ بَدَءُوا الْمُسْلِمِينَ، وَنَكَثُوا عُهُودَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (١٣) وَعَلَى كَوْنِ قِتَالِهِمْ كَافَّةً جَزَاءً بِالْمِثْلِ كَمَا قَالَ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (٣٦) فَكَيْفَ يَدْخُلُ وَثَنِيُّو التُّرْكِ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ فِي عُمُومِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذُكِرَ حَتَّى نَحْتَاجَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ؟ وَلَا نَأْتِي هُنَا قَاعِدَةَ كَوْنِ الْعِبْرَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا وُضِعَ لَهُ سَوَاءٌ وُجِدَ مَا كَانَ سَبَبًا لِوُرُودِهِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَلَفْظُ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ يُوضَعْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْقَطْعِ، وَلَا لِأَمْثَالِهِمْ كَالْمَجُوسِ مَثَلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ أَبْسَطُهَا تَفْسِيرُ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ (ا: ٢٢١) الْآيَةَ. [ص٢٧٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ] ثُمَّ تَفْسِيرُ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ (٥: ٥) الْآيَةَ [١٤٧ - ١٦٢ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ] وَيَلِيهِ مَبَاحِثُ فِي مَوْضُوعِ الْآيَةِ. وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَشُرَّاحَ الْأَحَادِيثِ يَنْظُرُونَ فِي كِتَابِ اللهِ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ مِنْ وَرَاءِ حُجُبِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ لَمَا وَقَعُوا فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَغْلَاطِ الْوَاضِحَةِ، وَلَكُنَّا فِي غِنًى عَنِ الْإِطَالَةِ فِي التَّفْسِيرِ لِبَيَانِهَا.
فَإِنْ تَابُوا أَيْ: فَإِنْ تَابُوا عَنِ الشِّرْكِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى عَدَاوَتِكُمْ وَقِتَالِكُمْ، بِأَنْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ - وَعُنْوَانُهُ الْعَامُّ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَكَانَ يُكْتَفَى مِنْهُمْ بِإِحْدَاهُمَا - وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ مَعَكُمْ كَمَا تُقِيمُونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا الْخَمْسَةِ، وَهِيَ مَظْهَرُ الْإِيمَانِ، وَأَكْبَرُ أَرْكَانِهِ الْمَطْلُوبَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَتَسَاوَى فِي طَلَبِهَا وَجَمَاعَتِهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالْمَأْمُورُ وَالْأَمِيرُ - وَهِيَ حَقُّ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَأَفْضَلُ مُزَكٍّ لِأَنْفُسِهِمْ يُؤَهِّلُهُمْ لِلِقَائِهِ، وَأَفْعَلُ مُهَذِّبٍ لِأَخْلَاقِهِمْ بَعْدَهَا لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِ عِبَادِهِ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ
151
(٢٩: ٤٥) وَآتَوُا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ وَلِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الرُّكْنُ الْمَالِيُّ الِاجْتِمَاعِيُّ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا نِظَامُهُ الْعَامُّ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فَاتْرُكُوا لَهُمْ طَرِيقَ حُرِّيَّتِهِمْ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ إِذَا كَانُوا مُقَاتِلِينَ، وَعَنْ حَصْرِهِمْ إِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ، وَعَنْ رَصْدِ مَسَالِكِهِمْ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ يَكُونُونَ مُرَاقَبِينَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَبَقَ مِنَ الشِّرْكِ وَأَعْمَالِهِ، وَيَرْحَمُهُمْ فِيمَنْ يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.
وَالْآيَةُ تُفِيدُ دَلَالَةَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتُوجِبُ لِمَنْ يُؤَدِّيهِمَا حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَفِظَ دَمِهِ وَمَالِهِ إِلَّا بِمَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ شَرْعُهُ مِنْ جِنَايَةٍ تَقْتَضِي حَدًّا مَعْلُومًا، أَوْ جَرِيمَةٍ تُوجِبُ تَعْزِيرًا أَوْ تَغْرِيمًا.
وَاسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ، وَيَمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا اشْتَرَطَتْ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ، وَعِصْمَةِ دِمَائِهِمْ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ: تَرْكَ الشِّرْكِ، وَإِقَامَةَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ. فَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْإِسْلَامُ الَّذِي يَعْصِمُ دَمَ الْمُشْرِكِ الْمُقَاتِلِ. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ اللُّغَةِ، وَمِرَاءُ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ مَرْدُودٌ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَكْفُرُ تَارِكُ الصَّلَاةِ دُونَ مَانِعِ الزَّكَاةِ لِإِمْكَانِ أَخْذِهَا مِنْهُ بِالْقَهْرِ، وَوُجُوبِ قِتَالِ مَانِعِيهَا كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ.
وَقَدْ عَزَّزُوا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي مَعْنَاهَا كَحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ وَلَمْ تُذْكَرْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَكِنِ
اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يَذْبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، وَالْمُرَادُ لَازِمُهَا وَهُوَ تَرْكُ ذَبَائِحِ الشِّرْكِ، يَعْنِي إِنْ ذَبَحُوا وَجَبَ أَنْ يَذْبَحُوا بِاسْمِ اللهِ دُونَ اسْمِ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يُهِلُّونَ بِأَسْمَائِهَا عِنْدَ الذَّبْحِ.
وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، بَلْ صَرَّحُوا بِتَوَاتُرِهِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهُوَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ وَفِي بَعْضِهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى كَلِمَةِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ، وَمَنْعَ الزَّكَاةِ
وَالْآيَةُ تُفِيدُ دَلَالَةَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتُوجِبُ لِمَنْ يُؤَدِّيهِمَا حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَفِظَ دَمِهِ وَمَالِهِ إِلَّا بِمَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ شَرْعُهُ مِنْ جِنَايَةٍ تَقْتَضِي حَدًّا مَعْلُومًا، أَوْ جَرِيمَةٍ تُوجِبُ تَعْزِيرًا أَوْ تَغْرِيمًا.
وَاسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ، وَيَمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا اشْتَرَطَتْ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ، وَعِصْمَةِ دِمَائِهِمْ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ: تَرْكَ الشِّرْكِ، وَإِقَامَةَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ. فَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْإِسْلَامُ الَّذِي يَعْصِمُ دَمَ الْمُشْرِكِ الْمُقَاتِلِ. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ اللُّغَةِ، وَمِرَاءُ بَعْضِ الْجَدَلِيِّينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ مَرْدُودٌ لَا قِيمَةَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَكْفُرُ تَارِكُ الصَّلَاةِ دُونَ مَانِعِ الزَّكَاةِ لِإِمْكَانِ أَخْذِهَا مِنْهُ بِالْقَهْرِ، وَوُجُوبِ قِتَالِ مَانِعِيهَا كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ.
وَقَدْ عَزَّزُوا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي مَعْنَاهَا كَحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ وَلَمْ تُذْكَرْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَكِنِ
اشْتَرَطَ فِيهِ أَنْ يَذْبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، وَالْمُرَادُ لَازِمُهَا وَهُوَ تَرْكُ ذَبَائِحِ الشِّرْكِ، يَعْنِي إِنْ ذَبَحُوا وَجَبَ أَنْ يَذْبَحُوا بِاسْمِ اللهِ دُونَ اسْمِ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يُهِلُّونَ بِأَسْمَائِهَا عِنْدَ الذَّبْحِ.
وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، بَلْ صَرَّحُوا بِتَوَاتُرِهِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهُوَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ وَفِي بَعْضِهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى كَلِمَةِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ، وَمَنْعَ الزَّكَاةِ
152
مِنَ الْمَعَاصِي لَا يَخْرُجُ تَارِكُ إِحْدَاهُمَا وَلَا كِلْتَيْهِمَا مِنَ الْإِسْلَامِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّ فِيهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ فِي مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ تَرْكُ الْكُفْرِ وَالدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ صِيغَةٌ وَعُنْوَانٌ يُكْتَفَى بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلَا سِيَّمَا مَوَاقِفُ الْقِتَالِ، وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَقَدْ يُكْتَفَى مِنَ الْمُشْرِكِ بِكَلِمَةِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ "؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهَا، وَهِيَ أَوَّلُ مَا دُعُوا إِلَيْهِ، بَلْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَتْلَ مَنْ قَتَلَ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ " صَبَأْنَا " وَقَالَ: " اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا فَعَلَ خَالِدٌ " وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَبِّرُونَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَيَقُولُونَ: صَبَأَ فُلَانٌ، إِذَا أَسْلَمَ، وَالْحَدِيثُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ يُعْلَمُ مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِ عِلْمًا قَطْعِيًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْكِ الْكُفْرِ، وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ النُّطْقِ بِعُنْوَانِهِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهِمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِلَّا بِإِقَامَةِ أَرْكَانِهِ،
وَالْتِزَامِ أَحْكَامِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، بِحَيْثُ إِذَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ شَيْئًا مِنْهَا بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ غَضَبٍ أَوْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ أَوْ كَسَلٍ تَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاسْتَغْفَرَهُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْيَهُودَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا يَقُولُونَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " فَالنُّطْقُ بِهَا وَحْدَهَا مِنْ أَحَدِهِمْ لَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُ أَحَدِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَهَا، وَوُجِدَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ إِلَى الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ، وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا بِحَقٍّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ " لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِعُمُومِ رِسَالَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (٣٤: ٢٨) وَمَا فِي مَعْنَاهُ.
فَالْإِسْلَامُ هُوَ الْإِذْعَانُ الْعَمَلِيُّ لِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِعْلًا كَانَ أَوْ تَرْكًا. وَلَا يَكُونُ الْإِذْعَانُ بِالْعَمَلِ إِسْلَامًا صَحِيحًا مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ إِذْعَانًا نَفْسِيًّا وِجْدَانِيًّا يَبْعَثُهُ الْإِيمَانُ بِصِحَّةِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ، وَيُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (٦٣. ١) وَمَتَى كَانَ الْإِيمَانُ يَقِينِيًّا، كَانَ الْإِذْعَانُ نَفْسِيًّا وِجْدَانِيًّا، وَتَبِعَهُ الْعَمَلُ بِالضَّرُورَةِ فِي جُمْلَةِ التَّكَالِيفِ وَعَامَّةِ الْأَوْقَاتِ. وَلَا يُنَافِيهِ تَرْكُ وَاجِبٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِصَارِفٍ عَارِضٍ، أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ لِعَارِضٍ غَالِبٍ. بِحَيْثُ إِذَا زَالَ السَّبَبُ نَدِمَ الْمُخَالِفِ. وَلَامَ نَفْسَهُ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ فِي مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ تَرْكُ الْكُفْرِ وَالدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ صِيغَةٌ وَعُنْوَانٌ يُكْتَفَى بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلَا سِيَّمَا مَوَاقِفُ الْقِتَالِ، وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَقَدْ يُكْتَفَى مِنَ الْمُشْرِكِ بِكَلِمَةِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ "؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهَا، وَهِيَ أَوَّلُ مَا دُعُوا إِلَيْهِ، بَلْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَتْلَ مَنْ قَتَلَ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ " صَبَأْنَا " وَقَالَ: " اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا فَعَلَ خَالِدٌ " وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَبِّرُونَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَيَقُولُونَ: صَبَأَ فُلَانٌ، إِذَا أَسْلَمَ، وَالْحَدِيثُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ يُعْلَمُ مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِ عِلْمًا قَطْعِيًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْكِ الْكُفْرِ، وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ النُّطْقِ بِعُنْوَانِهِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهِمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِلَّا بِإِقَامَةِ أَرْكَانِهِ،
وَالْتِزَامِ أَحْكَامِهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، بِحَيْثُ إِذَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ شَيْئًا مِنْهَا بِجَهَالَةٍ مِنْ ثَوْرَةِ غَضَبٍ أَوْ ثَوْرَةِ شَهْوَةٍ أَوْ كَسَلٍ تَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاسْتَغْفَرَهُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْيَهُودَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا يَقُولُونَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ " فَالنُّطْقُ بِهَا وَحْدَهَا مِنْ أَحَدِهِمْ لَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَدُلُّ قَوْلُ أَحَدِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَهَا، وَوُجِدَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ إِلَى الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ، وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا بِحَقٍّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ " لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا إِذَا اعْتَرَفَ بِعُمُومِ رِسَالَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (٣٤: ٢٨) وَمَا فِي مَعْنَاهُ.
فَالْإِسْلَامُ هُوَ الْإِذْعَانُ الْعَمَلِيُّ لِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِعْلًا كَانَ أَوْ تَرْكًا. وَلَا يَكُونُ الْإِذْعَانُ بِالْعَمَلِ إِسْلَامًا صَحِيحًا مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ إِذْعَانًا نَفْسِيًّا وِجْدَانِيًّا يَبْعَثُهُ الْإِيمَانُ بِصِحَّةِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ، وَيُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ وَيُجَاهِدُونَ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (٦٣. ١) وَمَتَى كَانَ الْإِيمَانُ يَقِينِيًّا، كَانَ الْإِذْعَانُ نَفْسِيًّا وِجْدَانِيًّا، وَتَبِعَهُ الْعَمَلُ بِالضَّرُورَةِ فِي جُمْلَةِ التَّكَالِيفِ وَعَامَّةِ الْأَوْقَاتِ. وَلَا يُنَافِيهِ تَرْكُ وَاجِبٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِصَارِفٍ عَارِضٍ، أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ لِعَارِضٍ غَالِبٍ. بِحَيْثُ إِذَا زَالَ السَّبَبُ نَدِمَ الْمُخَالِفِ. وَلَامَ نَفْسَهُ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ
153
(٤: ١٧) إِلَخْ. فَمَنْ تَرَكَ صَلَاةً أَوْ أَكْثَرَ لِبَعْضِ الشَّوَاغِلِ، وَهُوَ يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ مُذْنِبٌ وَيَرْجُو مَغْفِرَةَ اللهِ تَعَالَى وَيَنْوِي الْقَضَاءَ، لَا يَكُونُ تَرْكُهُ هَذَا مُنَافِيًا لِإِذْعَانِهِ النَّفْسِيِّ لِأَصْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ الْيَقِينِيُّ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجَاءُ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ يُعَدُّ مِنَ الْغُرُورِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا. وَأَمَّا عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَأَوَامِرِهِ، وَعَدَمُ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ مِنْ نَوَاهِيهِ - فَإِنَّهُ يُنَافِي الْإِذْعَانَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْقَلُ إِيمَانٌ صَحِيحٌ بِغَيْرِ إِسْلَامٍ، وَلَا إِسْلَامٌ صَحِيحٌ
ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ بِدُونِ إِيمَانٍ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَبَى أَنْ يَلْتَزِمَ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكَ مُحَرَّمَاتِهِ الْقَطْعِيَّةَ مُصَرِّحًا بِذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصَرِّحْ، وَلَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ مُخَادِعٌ قَطْعًا، وَقَدْ يُظْهِرُ الْقِيَامَ بِبَعْضِهَا نِفَاقًا، كَمَا ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ الْإِفْرِنْجِ السِّيَاسِيِّنَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لِدُخُولِ الْحِجَازِ أَوِ اخْتِبَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنِ اشْتِرَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ لِلْكَفِّ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ، وَظُهُورِ الْحُجَّةِ هِيَ تَحَقُّقُ الدُّخُولِ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الشِّرْكِ وَحْدَهَا وَهِيَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لَا تَكْفِي لِتَأْمِينِهِمْ، وَإِبَاحَةِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَجِّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَثْبُتُ لِمَنْ يُقِيمُ فِي الْحِجَازِ وَسَائِرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ بِالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ أَوِ الشَّهَادَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا كَافِيًا فِي مَوْقِفِ الْقِتَالِ لِلْكَفِّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَكْفِي بَعْدَ ذَلِكَ لِمُعَامَلَةِ مَنْ يَنْطِقُ بِهِمَا مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ بَلْ لَا بُدَّ مِنِ الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ فَمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ الْأُولَى لِمَنْ كَانَ صَادِقًا فِي النُّطْقِ بِهَا تَرْكُ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى مِنْ دُعَاءٍ أَوْ ذَبِيحَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ طَاعَةُ الرَّسُولِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الشَّهَادَتَانِ مُؤَيِّدًا لَهُمَا كَانَتَا خِدَاعًا وَغِشًّا، وَلَمَّا كَانَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيَّةُ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ كَثِيرَةً، وَكَانَ الْكَثِيرُ بِاشْتِرَاطِ الرُّكْنَيْنِ الْأَعْظَمَيْنِ، وَهُمَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَجِبُ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ الرَّابِطَةُ الدِّينِيَّةُ الرُّوحِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالزَّكَاةُ وَهِيَ الرَّابِطَةُ الْمَالِيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَمَنْ أَقَامَهُمَا كَانَ أَجْدَرَ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِمَا.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ قَبِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُسْلِمَ وَيُصَلِّيَ وَيُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْإِذْعَانِ لِصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا،
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ قَطْعًا، فَالنَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَقْبَلْ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ مَا شَرَطَهُ فِي إِسْلَامِهِ مِنْ إِبَاحَةِ الزِّنَا لَهُ، وَإِنَّ بَيْنَ اسْتِبَاحَةِ الذَّنْبِ، وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لِحُكْمِ اللهِ فِيهِ، وَبَيْنَ فِعْلِهِ مَعَ الْإِذْعَانِ وَالْإِيمَانِ فَرْقًا وَاضِحًا وَبَوْنًا بَيِّنًا، وَلَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ إِلَى
ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ بِدُونِ إِيمَانٍ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَبَى أَنْ يَلْتَزِمَ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكَ مُحَرَّمَاتِهِ الْقَطْعِيَّةَ مُصَرِّحًا بِذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصَرِّحْ، وَلَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ مُخَادِعٌ قَطْعًا، وَقَدْ يُظْهِرُ الْقِيَامَ بِبَعْضِهَا نِفَاقًا، كَمَا ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ الْإِفْرِنْجِ السِّيَاسِيِّنَ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لِدُخُولِ الْحِجَازِ أَوِ اخْتِبَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنِ اشْتِرَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ لِلْكَفِّ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ، وَظُهُورِ الْحُجَّةِ هِيَ تَحَقُّقُ الدُّخُولِ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الشِّرْكِ وَحْدَهَا وَهِيَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لَا تَكْفِي لِتَأْمِينِهِمْ، وَإِبَاحَةِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَجِّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَثْبُتُ لِمَنْ يُقِيمُ فِي الْحِجَازِ وَسَائِرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ بِالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ أَوِ الشَّهَادَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا كَافِيًا فِي مَوْقِفِ الْقِتَالِ لِلْكَفِّ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَكْفِي بَعْدَ ذَلِكَ لِمُعَامَلَةِ مَنْ يَنْطِقُ بِهِمَا مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ بَلْ لَا بُدَّ مِنِ الْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ فَمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ الْأُولَى لِمَنْ كَانَ صَادِقًا فِي النُّطْقِ بِهَا تَرْكُ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى مِنْ دُعَاءٍ أَوْ ذَبِيحَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ طَاعَةُ الرَّسُولِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الشَّهَادَتَانِ مُؤَيِّدًا لَهُمَا كَانَتَا خِدَاعًا وَغِشًّا، وَلَمَّا كَانَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيَّةُ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ كَثِيرَةً، وَكَانَ الْكَثِيرُ بِاشْتِرَاطِ الرُّكْنَيْنِ الْأَعْظَمَيْنِ، وَهُمَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَجِبُ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ الرَّابِطَةُ الدِّينِيَّةُ الرُّوحِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالزَّكَاةُ وَهِيَ الرَّابِطَةُ الْمَالِيَّةُ السِّيَاسِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَمَنْ أَقَامَهُمَا كَانَ أَجْدَرَ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِمَا.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَنْ قَبِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُسْلِمَ وَيُصَلِّيَ وَيُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْإِذْعَانِ لِصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ لَا يُعْتَدُّ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا،
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ قَطْعًا، فَالنَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَقْبَلْ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ مَا شَرَطَهُ فِي إِسْلَامِهِ مِنْ إِبَاحَةِ الزِّنَا لَهُ، وَإِنَّ بَيْنَ اسْتِبَاحَةِ الذَّنْبِ، وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لِحُكْمِ اللهِ فِيهِ، وَبَيْنَ فِعْلِهِ مَعَ الْإِذْعَانِ وَالْإِيمَانِ فَرْقًا وَاضِحًا وَبَوْنًا بَيِّنًا، وَلَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ إِلَى
154
أَنَّ لِلصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ شَأْنًا لَيْسَ لِغَيْرِهِمَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، حَتَّى الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَنَّ تَرْكَهُمَا يُعَدُّ كُفْرًا بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمِلَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ أَوِ النُّشُوءِ فِيهِ، حَتَّى مَعَ الِاعْتِرَافِ بِحَقِّيَّتِهِ، وَكَوْنِهِمَا مِنْ أَرْكَانِهِ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ تَارِكَهُمَا يُقْتَلُ حَدًّا لَا كُفْرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَحْدَهَا، وَأَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتِ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ لَا يُكَفَّرُ تَارِكُهُمَا إِلَّا إِذَا اسْتَحَلَّ هَذَا التَّرْكَ أَوْ جَحَدَ وُجُوبَهُمَا بَعْدَ الْعِلْمِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، أَيْ: لِأَنَّ الِاسْتِحْلَالَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْضِ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ وَالْفِعْلِيِّ، وَهُوَ كُنْهُ الْإِسْلَامِ، وَالْجُحُودَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِقَادِ أَوِ الِاسْتِكْبَارِ عَنْهُ وَهُوَ كُنْهُ الْإِيمَانِ.
وَالْآيَةُ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي مَعْنَاهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَرَكَ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ لِكَسَلٍ، أَوْ شَاغِلٍ لَا يُعَدُّ عُذْرًا شَرْعِيًّا، يَكُونُ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ إِذَا لَمْ يَتُبْ عَقِبَ أَوَّلِ فَرِيضَةٍ تَرَكَهَا أَوِ الثَّانِيَةِ إِنْ كَانَتْ تُجْمَعَ مَعَهَا بِأَنْ يُجَدِّدَ إِسْلَامَهُ وَيُصَلِّيهَا، وَلَا يَدُلَّانِ كَذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ حَدًّا كَقَتْلِ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، لَا يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِمَا، وَلَا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ عَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ بِحُجِّيَّتِهِ، فَإِنَّ مَوْضُوعَ كُلٍّ مِنْهُمَا بَيَانُ مَا يُشْتَرَطُ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ، لَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَمَا يُنَافِيهِ وَيُعَدُّ ارْتِدَادًا عَنْهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ عَامٌّ فِي قِتَالِ كُلِّ الْكُفَّارِ، لَا فِي الْمُشْرِكِينَ كَالْآيَةِ. قُلْتُ: أَوَّلًا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ غَايَةً أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْغَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ إِعْطَاءُ الْجِزْيَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ نَاسِخَةً، وَلَا مُخَصِّصَةً لِلْآيَةِ لِاخْتِلَافِ مَوْرِدِهِمَا، وَهَذَا يُعَارِضُ عُمُومَ الْحَدِيثِ، فَيَتَرَجَّحُ حَمْلُهُ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَالْآيَةِ، لِيَكُونَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا مُحْكَمًا، وَكَانَ مِنْ فِقْهِ الْبُخَارِيِّ فِي أَبْوَابِ
صَحِيحِهِ إِيرَادُهُ تَابِعًا لِلْآيَةِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ.
ثَانِيًا: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَارِدٌ فِي بَيَانِ الْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا قِتَالُ مَنْ يُقَاتِلُنَا مِنَ الْكُفَّارِ. فَلَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ كَافِرًا.
ثَالِثًا: إِنَّ قِتَالَ الْكَافِرِينَ غَيْرُ قَتْلِ مَنْ عَسَاهُ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُدَقِّقِينَ، فَالْقِتَالُ فِعْلٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ، وَالْقَتْلُ الشَّرْعِيُّ تَنْفِيذُ حُكْمٍ عَلَى مُجْرِمٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ.
رَابِعًا: مَنْ أَرَادَ جَعْلَ هَذَا الْحَدِيثِ دَالًّا عَلَى غَيْرِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ مَنْ حُكْمِ رِدَّةٍ أَوْ حَدٍّ بِقَتْلِ مُسْلِمٍ، يُرَدُّ عَلَيْهِ إِعْلَالُهُ بِمَا يَنْزِلُ بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الصِّحَّةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ، وَهُوَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ مِنَ الْغَرَابَةِ الْمُضَاعَفَةِ مَا اسْتَغْرَبَ مَعَهُ بَعْضُ
وَالْآيَةُ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي مَعْنَاهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَرَكَ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ لِكَسَلٍ، أَوْ شَاغِلٍ لَا يُعَدُّ عُذْرًا شَرْعِيًّا، يَكُونُ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ إِذَا لَمْ يَتُبْ عَقِبَ أَوَّلِ فَرِيضَةٍ تَرَكَهَا أَوِ الثَّانِيَةِ إِنْ كَانَتْ تُجْمَعَ مَعَهَا بِأَنْ يُجَدِّدَ إِسْلَامَهُ وَيُصَلِّيهَا، وَلَا يَدُلَّانِ كَذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ حَدًّا كَقَتْلِ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، لَا يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِمَا، وَلَا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ عَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ بِحُجِّيَّتِهِ، فَإِنَّ مَوْضُوعَ كُلٍّ مِنْهُمَا بَيَانُ مَا يُشْتَرَطُ بِالْكَفِّ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ، لَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الْإِسْلَامِ، وَمَا يُنَافِيهِ وَيُعَدُّ ارْتِدَادًا عَنْهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مُطْلَقٌ عَامٌّ فِي قِتَالِ كُلِّ الْكُفَّارِ، لَا فِي الْمُشْرِكِينَ كَالْآيَةِ. قُلْتُ: أَوَّلًا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ غَايَةً أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْغَايَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ إِعْطَاءُ الْجِزْيَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ نَاسِخَةً، وَلَا مُخَصِّصَةً لِلْآيَةِ لِاخْتِلَافِ مَوْرِدِهِمَا، وَهَذَا يُعَارِضُ عُمُومَ الْحَدِيثِ، فَيَتَرَجَّحُ حَمْلُهُ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَالْآيَةِ، لِيَكُونَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا مُحْكَمًا، وَكَانَ مِنْ فِقْهِ الْبُخَارِيِّ فِي أَبْوَابِ
صَحِيحِهِ إِيرَادُهُ تَابِعًا لِلْآيَةِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ.
ثَانِيًا: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَارِدٌ فِي بَيَانِ الْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا قِتَالُ مَنْ يُقَاتِلُنَا مِنَ الْكُفَّارِ. فَلَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ كَافِرًا.
ثَالِثًا: إِنَّ قِتَالَ الْكَافِرِينَ غَيْرُ قَتْلِ مَنْ عَسَاهُ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُدَقِّقِينَ، فَالْقِتَالُ فِعْلٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ، وَالْقَتْلُ الشَّرْعِيُّ تَنْفِيذُ حُكْمٍ عَلَى مُجْرِمٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ.
رَابِعًا: مَنْ أَرَادَ جَعْلَ هَذَا الْحَدِيثِ دَالًّا عَلَى غَيْرِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ مَنْ حُكْمِ رِدَّةٍ أَوْ حَدٍّ بِقَتْلِ مُسْلِمٍ، يُرَدُّ عَلَيْهِ إِعْلَالُهُ بِمَا يَنْزِلُ بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الصِّحَّةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعَظِيمَةِ الشَّأْنِ، وَهُوَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ مِنَ الْغَرَابَةِ الْمُضَاعَفَةِ مَا اسْتَغْرَبَ مَعَهُ بَعْضُ
155
نُقَّادِ الْحَدِيثِ تَصْحِيحَ الشَّيْخَيْنِ لَهُ مِنِ امْتِنَاعِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ إِيرَادِهِ فِي مَسْنَدِهِ عَلَى سَعَتِهِ، وَإِحَاطَتِهِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ صَرَّحَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِاسْتِبْعَادِ صِحَّتِهِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خَرَّجَهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِتَوَاتُرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ، ثُمَّ إِنَّهُ يُعَارِضُهُ نُصُوصٌ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْجُمْهُورُ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا نُكَفِّرُ مُسْلِمًا إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ لَا خِلَافَ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا فِي دَلَالَتِهِ.
هَذَا - وَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِكُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِأَحَادِيثَ أُخْرَى
هِيَ أَظْهَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ تَكَلُّفِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَعَ هَذَا رَأَيْنَا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ يُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا. أَصْرَحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَفِي رِوَايَةِ " الشِّرْكِ " وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ يَعْنِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكُفَّارِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُمَا حَدِيثُ أَنَسٍ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَلَكِنَّ الْعِتْرَةَ وَجَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بَلْ يَفْسُقُ فَيُسْتَتَابُ، فَإِذَا لَمْ يَتُبْ قُتِلَ حَدًّا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْتَلُ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَحَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ عَلَى الْجَاحِدِ أَوِ الْمُسْتَحِلِّ لِلتَّرْكِ وَعَارَضُوهَا بِبَعْضِ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ، وَحَدِيثِ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِمَا يُفَسِّرُ أَوْ يُخَصِّصُ مَعْنَى الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ بِالْخَارِجِ الْمُقَاتِلِ، وَهُوَ: " وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللهَ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ " وَقَدْ يُقَالُ:
هَذَا - وَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِكُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِأَحَادِيثَ أُخْرَى
هِيَ أَظْهَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ تَكَلُّفِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَعَ هَذَا رَأَيْنَا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ يُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا. أَصْرَحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَفِي رِوَايَةِ " الشِّرْكِ " وَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ يَعْنِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْكُفَّارِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُمَا حَدِيثُ أَنَسٍ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُفْرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَلَكِنَّ الْعِتْرَةَ وَجَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بَلْ يَفْسُقُ فَيُسْتَتَابُ، فَإِذَا لَمْ يَتُبْ قُتِلَ حَدًّا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْتَلُ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَحَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ عَلَى الْجَاحِدِ أَوِ الْمُسْتَحِلِّ لِلتَّرْكِ وَعَارَضُوهَا بِبَعْضِ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ، وَحَدِيثِ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِمَا يُفَسِّرُ أَوْ يُخَصِّصُ مَعْنَى الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ بِالْخَارِجِ الْمُقَاتِلِ، وَهُوَ: " وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللهَ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ " وَقَدْ يُقَالُ:
156
إِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ وَمُفَارَقَةٌ لِلْجَمَاعَةِ فَتَارِكُهَا لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي سِيَاقِ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يَكْفُرُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَزْعُمُ بَعْضُ أَنْصَارِهِمْ حَتَّى مِنَ الْمُسْتَقِلِّينَ كَالشَّوْكَانِيِّ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ يَصْدُقُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مَرْدُودٌ،
فَإِنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ كَالْجِنْسِ لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، فَمَنْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِفَرِيضَةِ الصِّيَامِ مُطْلَقًا، وَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ الدُّرُوسِ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِطَلَبِ الْعِلْمِ.
(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً وَصَلَّى مَا بَعْدَهَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ مَا تَرَكَ، وَيَعُودُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِأَدَاءِ مَا أَدَّى. (قُلْتُ) إِذَا كَانَ تَرْكُ الْأُولَى كُفْرًا بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ فَاعِلِهِ التَّلَبُّسَ بِالثَّانِيَةِ إِلَّا إِذَا جَدَّدَ إِسْلَامَهُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَوْلِ بِكُفْرِهِ أَحْكَامٌ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ، مِنْهَا حُبُوطُ جَمِيعِ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ وَبِرٍّ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ، وَأَنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا لَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ. وَنَاهِيكَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ اسْتِتَابَتُهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ كَمَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّبْكِيُّ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ تَنَاظَرَا فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَا أَحْمَدُ، أَتَقُولُ إِنَّهُ يَكْفُرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِذَا كَانَ كَافِرًا فَبِمَ يُسْلِمُ؟ قَالَ: بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالرَّجُلُ مُسْتَدِيمٌ لِهَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَتْرُكْهُ. قَالَ: يُسْلِمُ بِأَنْ يُصَلِّيَ. قَالَ: صَلَاةُ الْكَافِرِ لَا تَصِحُّ، وَلَا يُحْكَمُ بِالْإِسْلَامِ بِهَا، فَانْقَطَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى).
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَيَقْتَضِيهِ فِقْهُ الدِّينِ وَكَوْنُهُ رَحْمَةً لَا نِقْمَةً، وَمِنْحَةً لَا مِحْنَةً، أَنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ بِتَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ أَكْثَرَ بِعُذْرٍ أَوْ كَسَلٍ فَيَحْبَطُ عَمَلُهُ، وَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا بِأَنْ يَجْعَلَهَا مِنَ الْعَادَاتِ الْقَوْمِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ يُوَافِقُ عَلَيْهَا الْمُعَاشِرِينَ أَحْيَانًا، وَيَتْرُكُهَا أَحْيَانًا، بِحَيْثُ إِذَا صَلَّى لَا يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِبَاعِثِ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ وَنِيَّةِ الْقُرْبَةِ وَالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا تَرَكَهَا يَتْرُكُهَا غَيْرَ مَالٍّ وَلَا مُتَأَثِّمٍ كَمَا يَتْرُكُ عَادَةً مِنَ الْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ، هَذَا شَأْنُ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اللَّقَبُ الْمَوْرُوثُ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَالزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْوَحْيِ، وَلَا بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ،
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (٤: ١٤٢) فَهَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا صَادِقًا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ فِي هَذَا؟
وَيُوجَدُ مِنْ مُسْلِمِي التَّقَالِيدِ الْجَاهِلِينَ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ وَمَا شَرَعَهُ اللهُ لَهُ مِنْ إِصْلَاحِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَيَّامًا وَشُهُورًا، وَرُبَّمَا تَمُرُّ السَّنَةُ وَالسُّنُونَ لَا يُصَلِّي فِيهَا إِلَّا بَعْضَ
فَإِنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ كَالْجِنْسِ لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، فَمَنْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِفَرِيضَةِ الصِّيَامِ مُطْلَقًا، وَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ الدُّرُوسِ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ لَا يُعَدُّ تَارِكًا لِطَلَبِ الْعِلْمِ.
(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً وَصَلَّى مَا بَعْدَهَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ مَا تَرَكَ، وَيَعُودُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِأَدَاءِ مَا أَدَّى. (قُلْتُ) إِذَا كَانَ تَرْكُ الْأُولَى كُفْرًا بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ فَاعِلِهِ التَّلَبُّسَ بِالثَّانِيَةِ إِلَّا إِذَا جَدَّدَ إِسْلَامَهُ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْقَوْلِ بِكُفْرِهِ أَحْكَامٌ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ، مِنْهَا حُبُوطُ جَمِيعِ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ وَبِرٍّ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ، وَأَنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا لَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ. وَنَاهِيكَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ اسْتِتَابَتُهُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ كَمَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّبْكِيُّ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ تَنَاظَرَا فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَا أَحْمَدُ، أَتَقُولُ إِنَّهُ يَكْفُرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِذَا كَانَ كَافِرًا فَبِمَ يُسْلِمُ؟ قَالَ: بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالرَّجُلُ مُسْتَدِيمٌ لِهَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَتْرُكْهُ. قَالَ: يُسْلِمُ بِأَنْ يُصَلِّيَ. قَالَ: صَلَاةُ الْكَافِرِ لَا تَصِحُّ، وَلَا يُحْكَمُ بِالْإِسْلَامِ بِهَا، فَانْقَطَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى).
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَيَقْتَضِيهِ فِقْهُ الدِّينِ وَكَوْنُهُ رَحْمَةً لَا نِقْمَةً، وَمِنْحَةً لَا مِحْنَةً، أَنَّ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ بِتَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ أَكْثَرَ بِعُذْرٍ أَوْ كَسَلٍ فَيَحْبَطُ عَمَلُهُ، وَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا بِأَنْ يَجْعَلَهَا مِنَ الْعَادَاتِ الْقَوْمِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ يُوَافِقُ عَلَيْهَا الْمُعَاشِرِينَ أَحْيَانًا، وَيَتْرُكُهَا أَحْيَانًا، بِحَيْثُ إِذَا صَلَّى لَا يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِبَاعِثِ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ وَنِيَّةِ الْقُرْبَةِ وَالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذَا تَرَكَهَا يَتْرُكُهَا غَيْرَ مَالٍّ وَلَا مُتَأَثِّمٍ كَمَا يَتْرُكُ عَادَةً مِنَ الْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ بَيْنَ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ، هَذَا شَأْنُ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اللَّقَبُ الْمَوْرُوثُ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَالزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْوَحْيِ، وَلَا بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ،
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (٤: ١٤٢) فَهَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا صَادِقًا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ فِي هَذَا؟
وَيُوجَدُ مِنْ مُسْلِمِي التَّقَالِيدِ الْجَاهِلِينَ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ وَمَا شَرَعَهُ اللهُ لَهُ مِنْ إِصْلَاحِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَيَّامًا وَشُهُورًا، وَرُبَّمَا تَمُرُّ السَّنَةُ وَالسُّنُونَ لَا يُصَلِّي فِيهَا إِلَّا بَعْضَ
157
الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَقَلِيلًا مِنَ الْفَرَائِضِ، وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا فِيهِ مِنْ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ إِيمَانًا تَقْلِيدِيًّا نَاقِصًا مَشُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ الْجَهْلِ وَالْخُرَافَاتِ، فَهُوَ فِي تَرْكِهِ لِلصَّلَاةِ، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ آثِمٌ، وَلَكِنَّهُ يَتَّكِلُ عَلَى مَغْفِرَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ أَوْ عَلَى مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ مِنْ حَجٍّ وَغَيْرِهِ أَوْ عَلَى شَفَاعَاتِ الشَّافِعِينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الصَّحِيحُ وَالضَّعِيفُ وَالْمَوْضُوعُ، وَهِيَ تُذْكَرُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَدَاوَلَةِ، وَخُطَبِ الْجُمُعَةِ الْمَطْبُوعَةِ، الَّتِي يَخْتَارُهَا عَلَى غَيْرِهَا خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ، وَالْوُعَّاظُ الْخُرَافِيُّونَ، يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى الْعَوَامِّ، لِيُهَوِّنُوا عَلَيْهِمُ ارْتِكَابَ الْآثَامِ، وَنَاهِيكَ بِحَدِيثِ عَتْقَى الْمَلَايِينِ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَاذَا تَقُولُ فِي حَدِيثِ السِّجِلَّاتِ الَّذِي عُنِيَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ بِإِثْبَاتِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ الْمُجَرِّئَاتِ عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابِ الْمُوبِقَاتِ.
فَهَؤُلَاءِ الْعَوَامُّ الَّذِينَ يَغْتَرُّونَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ إِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِمُ التَّقْلِيدِيِّ مَعْذُورُونَ فِي عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا، وَمَا لَا يَصِحُّ، وَعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا يُعَارِضُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي التَّرْهِيبِ وَالنُّذُرِ، هُمْ مَعْذُورُونَ بِالْجَهْلِ حَتَّى بِمَا كَانَ يُعَدُّ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَعُدْ كَذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ تَعْلِيمُهُمْ مَا يَذْهَبُ بِغُرُورِهِمْ كَتَقْيِيدِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَغْفِرَةِ، بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٢٠: ٨٢) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً لِدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ
رَحِمْتَهُ (٤: ٧ - ٩) وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٤: ١٧ و١٨) وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ أَوْسَعِهَا وَأَهَمِّهَا تَفْسِيرُ آيَتَيِ التَّوْبَةِ هَاتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [فِي ص٣٦٠ - ٣٧٠ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ]، وَمِنْهَا تَفْسِيرُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا (٤: ١٤) [ص٣٥٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ٤ ط الْهَيْئَةِ]، أَيْضًا كُنَّا بَيَّنَّا جَهْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ تَنَالُهُ الشَّفَاعَةُ فِي الْآخِرَةِ مَجْهُولٌ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (٢١: ٢٨).
وَالْعُلَمَاءُ يَخُصُّونَ مَا وَرَدَ فِي مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَتِهَا بِالصَّغَائِرِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ (٤: ٣١) وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ (٥٣: ٣٢) أَيْ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ
فَهَؤُلَاءِ الْعَوَامُّ الَّذِينَ يَغْتَرُّونَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ إِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِمُ التَّقْلِيدِيِّ مَعْذُورُونَ فِي عَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا، وَمَا لَا يَصِحُّ، وَعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا يُعَارِضُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي التَّرْهِيبِ وَالنُّذُرِ، هُمْ مَعْذُورُونَ بِالْجَهْلِ حَتَّى بِمَا كَانَ يُعَدُّ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَعُدْ كَذَلِكَ، فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ تَعْلِيمُهُمْ مَا يَذْهَبُ بِغُرُورِهِمْ كَتَقْيِيدِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَغْفِرَةِ، بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٢٠: ٨٢) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً لِدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ
رَحِمْتَهُ (٤: ٧ - ٩) وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٤: ١٧ و١٨) وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ أَوْسَعِهَا وَأَهَمِّهَا تَفْسِيرُ آيَتَيِ التَّوْبَةِ هَاتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [فِي ص٣٦٠ - ٣٧٠ ج ٤ ط الْهَيْئَةِ]، وَمِنْهَا تَفْسِيرُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا (٤: ١٤) [ص٣٥٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ٤ ط الْهَيْئَةِ]، أَيْضًا كُنَّا بَيَّنَّا جَهْلَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ تَنَالُهُ الشَّفَاعَةُ فِي الْآخِرَةِ مَجْهُولٌ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (٢١: ٢٨).
وَالْعُلَمَاءُ يَخُصُّونَ مَا وَرَدَ فِي مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَتِهَا بِالصَّغَائِرِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ (٤: ٣١) وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ (٥٣: ٣٢) أَيْ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ
158
وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْعِقَابِ عَلَى الذُّنُوبِ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ نُصُوصٌ قَطْعِيَّةٌ لَا يَجُوزُ تَخَلُّفُهَا مُطْلَقًا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ أَنَّ نُفُوذَ الْوَعِيدِ فِي بَعْضِ الْعُصَاةِ حَقٌّ، فَإِذَا عُورِضَتْ نُصُوصُ الْعِقَابِ الْمُطْلَقَةُ بِنُصُوصِ الْمَغْفِرَةِ الْمُطْلَقَةِ، جَاءَتِ النُّصُوصُ الْمُقَيِّدَةُ لَهَا بِالتَّوْبَةِ وَإِصْلَاحِ الْعَمَلِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ حُكْمًا جَامِعًا بَيْنَ الْمُطْلَقَاتَ، وَبَقِيَ الْخَطَرُ عَلَى غَيْرِ التَّائِبِ الْمُصْلِحِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُغَلِّبَ الْخَوْفُ عَلَى الرَّجَاءِ - إِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى غُرُورُهُ بِجَهْلِهِ رَجَاءً - وَمَا الرَّجَاءُ الصَّحِيحُ إِلَّا لِمَنْ سَعَى إِلَى الْمَغْفِرَةِ سَعْيَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ وَرَجَاءِ اللهِ قَبُولَهَا.
وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ عُذْرٍ لِلْجَاهِلِ بِمَا وَرَدَ فِي الْمَغْفِرَةِ وَكَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ، وَأَعْظَمُ الْمُكَفِّرَاتِ لِلذُّنُوبِ، وَقَدْ صَحَّتِ الْأَخْبَارُ النَّبَوِيَّةُ وَالْآثَارُ عَنِ الصَّحَابَةِ بِكُفْرِ تَارِكِهَا، وَمِنْ هَذِهِ
الْآثَارِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُونُوا يَعُدُّونَ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي كُفْرًا إِلَّا تَرْكَ الصَّلَاةِ، وَمَا اعْتَمَدْنَاهُ فِي تَأْوِيلِهَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَتْرُكُهَا فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يُصَلِّيهَا إِلَّا قَلِيلًا لِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ يَتْرُكُ صَلَاةً أَوْ صَلَوَاتٍ قَلِيلَةً مُتَفَرِّقَةً لِأَمْرٍ عَارِضٍ ثُمَّ يَتُوبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ عَلَى الْوُعَّاظِ وَالْخُطَبَاءِ أَنْ يُبَيِّنُوا لِهَؤُلَاءِ الْعَوَامِّ خَطَرَ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ كَافِرٌ كَمَا وَرَدَ فِي أَخْبَارٍ وَآثَارٍ كَثِيرَةٍ اكْتَفَيْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ بِذِكْرِ بَعْضِهَا، وَلِيُرَاجِعْ جُمْلَتَهَا مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ كِتَابِ الزَّوَاجِرِ فَهِيَ مُخِيفَةٌ جِدًّا.
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهَا: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إِلَى آخِرِهِ مِنْ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَهِيَ تَسْتَثْنِي مِنْهُمْ مَنْ طَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ، لِيَعْلَمَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ، وَأَمَرَهُ بِهِ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، ذَلِكَ بِأَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ بَلَاغًا تَامًّا مُقْنِعًا، وَلَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ - وَهُوَ الْآيَةُ الْمُعْجِزَةُ لِلْبَشَرِ الدَّالَّةُ بِذَاتِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، لَا مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَإِنَّمَا أَعْرَضُوا وَعَادَوُا الدَّاعِيَ وَقَاتَلُوهُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِتَفْنِيدِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ طُبِعُوا عَلَى نُعَرَةِ الْعَصَبِيَّةِ لَهُمْ وَالنِّضَالِ دُونَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَتَضَمَّنِ الدَّعْوَةُ الْحُكْمَ بِجَهْلِهِمْ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ، لَمَا احْتَمَوْا عَلَيْهَا كُلَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَاءِ، وَقَابَلُوهَا بِكُلِّ ذَلِكَ الْعَدَاءِ، وَيَلِيهَا فِي ذَلِكَ تَحْقِيرُ آلِهَتِهِمْ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعَقِيدَةِ وَحْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ كُلَّ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٦٨: ٩) وَإِذَا كَانَ تَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَوَّلُ الْأَهَمُّ الْمَقْصُودُ مِنَ الرِّسَالَةِ - وَإِنَّمَا
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا | إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ |
الْآثَارِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُونُوا يَعُدُّونَ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي كُفْرًا إِلَّا تَرْكَ الصَّلَاةِ، وَمَا اعْتَمَدْنَاهُ فِي تَأْوِيلِهَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَتْرُكُهَا فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يُصَلِّيهَا إِلَّا قَلِيلًا لِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ يَتْرُكُ صَلَاةً أَوْ صَلَوَاتٍ قَلِيلَةً مُتَفَرِّقَةً لِأَمْرٍ عَارِضٍ ثُمَّ يَتُوبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ عَلَى الْوُعَّاظِ وَالْخُطَبَاءِ أَنْ يُبَيِّنُوا لِهَؤُلَاءِ الْعَوَامِّ خَطَرَ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ كَافِرٌ كَمَا وَرَدَ فِي أَخْبَارٍ وَآثَارٍ كَثِيرَةٍ اكْتَفَيْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ بِذِكْرِ بَعْضِهَا، وَلِيُرَاجِعْ جُمْلَتَهَا مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ كِتَابِ الزَّوَاجِرِ فَهِيَ مُخِيفَةٌ جِدًّا.
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهَا: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إِلَى آخِرِهِ مِنْ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَهِيَ تَسْتَثْنِي مِنْهُمْ مَنْ طَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ، لِيَعْلَمَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ، وَأَمَرَهُ بِهِ مِنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، ذَلِكَ بِأَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ بَلَاغًا تَامًّا مُقْنِعًا، وَلَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ - وَهُوَ الْآيَةُ الْمُعْجِزَةُ لِلْبَشَرِ الدَّالَّةُ بِذَاتِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، لَا مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَإِنَّمَا أَعْرَضُوا وَعَادَوُا الدَّاعِيَ وَقَاتَلُوهُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِتَفْنِيدِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ طُبِعُوا عَلَى نُعَرَةِ الْعَصَبِيَّةِ لَهُمْ وَالنِّضَالِ دُونَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَتَضَمَّنِ الدَّعْوَةُ الْحُكْمَ بِجَهْلِهِمْ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ، لَمَا احْتَمَوْا عَلَيْهَا كُلَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَاءِ، وَقَابَلُوهَا بِكُلِّ ذَلِكَ الْعَدَاءِ، وَيَلِيهَا فِي ذَلِكَ تَحْقِيرُ آلِهَتِهِمْ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعَقِيدَةِ وَحْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ كُلَّ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٦٨: ٩) وَإِذَا كَانَ تَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَوَّلُ الْأَهَمُّ الْمَقْصُودُ مِنَ الرِّسَالَةِ - وَإِنَّمَا
159
كَانَ وُجُوبُ الْقِتَالِ لِحِمَايَتِهَا، وَالْحُرِيَّةِ فِي تَبْلِيغِهَا، وَالْعَمَلِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ، وَمَنْعِ أَهْلِهَا وَصِيَانَتِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ لِأَجْلِهَا وَجَبَ التَّبْلِيغُ قَبْلَهُ، وَكَفُّ الْقِتَالِ عَمَّنْ يُظْهِرُ الرَّغْبَةَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، لِلْعِلْمِ بِمَضْمُونِهَا، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَا نَهَى وَأَمَرَ، وَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ، وَتَأْمِينِهِ فِي مَجِيئِهِ إِلَى الرَّسُولِ ـ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ الْعَوْدَةِ إِلَى دَارِ قَوْمِهِ حَيْثُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ حُرًّا فِيمَا يَخْتَارُ لَهَا، وَبِهَذَا يَكُونُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ بُلِّغُوا نَبْذَ عُهُودِهِمْ أَوِ انْتِهَاءَ مُدَّتِهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: (١) مُصِرٌ عَلَى الشِّرْكِ وَعَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ. (٢) مُسْتَرْشِدٌ طَالِبٌ لِلْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ. (٣) تَائِبٌ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ. الِاسْتِجَارَةُ: طَلَبُ الْجِوَارِ، وَهُوَ الْحِمَايَةُ وَالْأَمَانُ، فَقَدْ كَانَ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ حِمَايَةُ الْجَارِ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ، حَتَّى صَارُوا يُسَمَّوْنَ النَّصِيرَ جَارًا، وَمِنْهُ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ (٨: ٤٨) وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَإِنِ اسْتَأْمَنَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِكَيْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، وَيَعْلَمَ مِنْهُ حَقِيقَةَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، أَوْ لِيَلْقَاكَ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبًا، فَيَجِبُ أَنْ تُجِيرَهُ وَتُؤَمِّنَهُ لِكَيْ يَسْمَعَ، أَوْ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، فَإِنَّ هَذِهِ فُرْصَةٌ لِلتَّبْلِيغِ وَالِاسْتِمَاعِ، فَإِذَا اهْتَدَى بِهِ، وَآمَنَ عَنْ عِلْمٍ وَاقْتِنَاعٍ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالْجَوَابُ أَنْ تُبَلِّغَهُ الْمَكَانَ الَّذِي يَأْمَنُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ حُرًّا فِي عَقِيدَتِهِ، حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ سُلْطَانُ قَهْرٍ، وَلَا إِكْرَاهٌ عَلَى أَمْرٍ. وَتَعُودُ حَالَةُ الْحَرْبِ إِلَى مَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَسَمَاعُ (كَلَامِ اللهِ) يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ تَعَالَى مَا يَرَاهُ هُوَ وَنَرَاهُ نَحْنُ كَافِيًا لِلْعِلْمِ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، أَوِ الْقَدْرَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ مِنْهُ، وَهُوَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ بُطْلَانَ الشِّرْكِ، وَحَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَصِدْقَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي تَبْلِيغِهِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ الْعَرَبِيُّ مِنْهُمْ يَفْهَمُ الْقُرْآنَ، وَيَشْعُرُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ، وَيَفْهَمُ حُجَجَهُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ، فَإِذَا أَلْقَى إِلَيْهِ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، فَإِنْ لَمْ تَصُدَّهُ الْعَصَبِيَّةُ، وَالْتِزَامُ الْعَدَاوَةِ لِلدَّاعِي لَا يَلْبَثُ أَنْ يُؤْمِنَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ لَهُ شَأْنُهُ وَحُرِّيَّتُهُ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ مُسَاكَنَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْحَالُ وَالدَّارُ مَا عَلِمْنَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ آيَاتُ التَّوْحِيدِ مِنْهُ، وَقِيلَ: سُورَةُ التَّوْبَةِ خَاصَّةً أَوْ مَا بَلَّغُوهُ مِنْهَا فِي الْمَوْسِمِ إِذْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مُشْرِكٍ سَمِعَهُ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ
كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (٩: ٣٦) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مُحْكَمٌ وَهُوَ الْحَقُّ. قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَى إِلَّا لِرَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ عَدَمَ وُجُوبِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ حَتَّى لِطَالِبِهَا، بَلْ مَنْعَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ الْعَوْدَةِ إِلَى دَارِ قَوْمِهِ حَيْثُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ حُرًّا فِيمَا يَخْتَارُ لَهَا، وَبِهَذَا يَكُونُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ بُلِّغُوا نَبْذَ عُهُودِهِمْ أَوِ انْتِهَاءَ مُدَّتِهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: (١) مُصِرٌ عَلَى الشِّرْكِ وَعَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ. (٢) مُسْتَرْشِدٌ طَالِبٌ لِلْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ. (٣) تَائِبٌ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ. الِاسْتِجَارَةُ: طَلَبُ الْجِوَارِ، وَهُوَ الْحِمَايَةُ وَالْأَمَانُ، فَقَدْ كَانَ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ حِمَايَةُ الْجَارِ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ، حَتَّى صَارُوا يُسَمَّوْنَ النَّصِيرَ جَارًا، وَمِنْهُ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ (٨: ٤٨) وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَإِنِ اسْتَأْمَنَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِكَيْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، وَيَعْلَمَ مِنْهُ حَقِيقَةَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، أَوْ لِيَلْقَاكَ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبًا، فَيَجِبُ أَنْ تُجِيرَهُ وَتُؤَمِّنَهُ لِكَيْ يَسْمَعَ، أَوْ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، فَإِنَّ هَذِهِ فُرْصَةٌ لِلتَّبْلِيغِ وَالِاسْتِمَاعِ، فَإِذَا اهْتَدَى بِهِ، وَآمَنَ عَنْ عِلْمٍ وَاقْتِنَاعٍ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالْجَوَابُ أَنْ تُبَلِّغَهُ الْمَكَانَ الَّذِي يَأْمَنُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ حُرًّا فِي عَقِيدَتِهِ، حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ سُلْطَانُ قَهْرٍ، وَلَا إِكْرَاهٌ عَلَى أَمْرٍ. وَتَعُودُ حَالَةُ الْحَرْبِ إِلَى مَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَسَمَاعُ (كَلَامِ اللهِ) يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ تَعَالَى مَا يَرَاهُ هُوَ وَنَرَاهُ نَحْنُ كَافِيًا لِلْعِلْمِ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، أَوِ الْقَدْرَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ مِنْهُ، وَهُوَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ بُطْلَانَ الشِّرْكِ، وَحَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَصِدْقَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي تَبْلِيغِهِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ الْعَرَبِيُّ مِنْهُمْ يَفْهَمُ الْقُرْآنَ، وَيَشْعُرُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ، وَيَفْهَمُ حُجَجَهُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ، فَإِذَا أَلْقَى إِلَيْهِ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، فَإِنْ لَمْ تَصُدَّهُ الْعَصَبِيَّةُ، وَالْتِزَامُ الْعَدَاوَةِ لِلدَّاعِي لَا يَلْبَثُ أَنْ يُؤْمِنَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ لَهُ شَأْنُهُ وَحُرِّيَّتُهُ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ مُسَاكَنَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْحَالُ وَالدَّارُ مَا عَلِمْنَا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْآنِ آيَاتُ التَّوْحِيدِ مِنْهُ، وَقِيلَ: سُورَةُ التَّوْبَةِ خَاصَّةً أَوْ مَا بَلَّغُوهُ مِنْهَا فِي الْمَوْسِمِ إِذْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مُشْرِكٍ سَمِعَهُ، وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ
كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (٩: ٣٦) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مُحْكَمٌ وَهُوَ الْحَقُّ. قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَى إِلَّا لِرَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ عَدَمَ وُجُوبِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ حَتَّى لِطَالِبِهَا، بَلْ مَنْعَ
160
طَالِبَهَا مِنْ سَمَاعِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ لِعَلِيٍّ: إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ مِنَّا أَنْ يَأْتِيَ مُحَمَّدًا بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذَا الْأَجَلِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ أَوْ لِحَاجَةٍ قُتِلَ؟ قَالَ: لَا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ الْآيَةَ. فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْمُشْرِكِ لِلْأَمَانِ وَالْجِوَارِ يُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْحَاجَةَ فِي الرِّوَايَةِ لَا تَعْدُو غَرَضَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ لِقَاءَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا يَكُونُ إِلَّا لِذَلِكَ، أَيْ فَلَا يُجَابُ طَلَبُهُ إِنْ عُلِمَ أَنَّ الْحَاجَةَ دُنْيَوِيَّةٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فَقَدْ كَانُوا يَطْلُبُونَ لِقَاءَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَجْلِ الْكَلَامِ فِي الصُّلْحِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ أَنَّهُ غَايَةٌ أَوْ تَعْلِيلٌ لِلْإِجَارَةِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا وَحْدَهَا، وَأَنَّ الِاسْتِجَارَةَ عَلَى إِطْلَاقِهَا.
وَقَوْلُ أَبِي السُّعُودِ: إِنَّ تَعَلُّقَ الْإِجَارَةِ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ يَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ الِاسْتِجَارَةِ أَيْضًا بِذَلِكَ أَوْ بِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَكِنْ مُحْتَمَلٌ إِذَا جَازَ أَنْ تَتَعَلَّقَ (حَتَّى) بِفِعْلَيِ الِاسْتِجَارَةِ وَالْإِجَارَةِ مَعًا، وَالَّذِي عَلَيْهِ النُّحَاةُ فِي بَابِ تَنَازُعِ الْعَامِلَيْنِ أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الثَّانِي، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ الْأَوَّلُ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى جَعْلِ (حَتَّى) لِلتَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُؤَمِّنَ مُشْرِكًا إِلَّا لِأَجْلِ سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ، وَتَبْلِيغِهِ الدَّعْوَةَ بِهِ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُوَّادِ جُيُوشِهِمْ أَوْلَى وَأَجْدَرُ أَلَّا يَجِبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْمُسْتَجِيرَ يُجَارُ وَيُؤَمَّنُ مَهْمَا يَكُنْ غَرَضُهُ مِنَ الِاسْتِجَارَةِ، وَيَمْتَدُّ جِوَارُهُ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، وَتَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِهِ، فَيَكُونُ وُجُودُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فُرْصَةً لِتَبْلِيغِهِ دَعْوَتَهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ.
وَلَا يَأْبَى هَذَا الْمَعْنَى الْأَمْرُ بِإِبْلَاغِهِ مَأْمَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ، وَلَا يَظْهَرُ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْإِجَارَةِ وَالْأَمَانِ لِلْوُجُوبِ إِلَّا بِهَذَا الْقَصْدِ، وَفِيمَا عَدَاهُ يَكُونُ جَائِزًا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْمَصْلَحَةِ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَايَةِ وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَعْنَيَيِ الْمُشْتَرَكِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُؤَمِّنُ الرُّسُلَ الَّتِي تَرِدُ مِنْ قِبَلِ الْأَعْدَاءِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُجِيرُ مَنْ أَجَارَهُ أَيُّ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ، وَذَكَرَ مِنْ مَزَايَا الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ " تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ " كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ حُكْمَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْيِيدِ إِجَارَةِ مُسْتَجِيرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ خَاصٌّ بِهِمْ، وَالْأَمْرَ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْسَعُ وَهُوَ كَمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْأَمَانَ مِنَ الْفِقْهِ.
قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَالْغَرَضُ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَدَاءِ رِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ طَلَبِ صُلْحٍ أَوْ مُهَادَنَةٍ أَوْ حَمْلِ جِزْيَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ
وَقَوْلُ أَبِي السُّعُودِ: إِنَّ تَعَلُّقَ الْإِجَارَةِ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ يَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ الِاسْتِجَارَةِ أَيْضًا بِذَلِكَ أَوْ بِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَكِنْ مُحْتَمَلٌ إِذَا جَازَ أَنْ تَتَعَلَّقَ (حَتَّى) بِفِعْلَيِ الِاسْتِجَارَةِ وَالْإِجَارَةِ مَعًا، وَالَّذِي عَلَيْهِ النُّحَاةُ فِي بَابِ تَنَازُعِ الْعَامِلَيْنِ أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الثَّانِي، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ الْأَوَّلُ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى جَعْلِ (حَتَّى) لِلتَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُؤَمِّنَ مُشْرِكًا إِلَّا لِأَجْلِ سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ، وَتَبْلِيغِهِ الدَّعْوَةَ بِهِ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُوَّادِ جُيُوشِهِمْ أَوْلَى وَأَجْدَرُ أَلَّا يَجِبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْمُسْتَجِيرَ يُجَارُ وَيُؤَمَّنُ مَهْمَا يَكُنْ غَرَضُهُ مِنَ الِاسْتِجَارَةِ، وَيَمْتَدُّ جِوَارُهُ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، وَتَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِهِ، فَيَكُونُ وُجُودُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فُرْصَةً لِتَبْلِيغِهِ دَعْوَتَهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ.
وَلَا يَأْبَى هَذَا الْمَعْنَى الْأَمْرُ بِإِبْلَاغِهِ مَأْمَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ، وَلَا يَظْهَرُ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْإِجَارَةِ وَالْأَمَانِ لِلْوُجُوبِ إِلَّا بِهَذَا الْقَصْدِ، وَفِيمَا عَدَاهُ يَكُونُ جَائِزًا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْمَصْلَحَةِ. وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَايَةِ وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَعْنَيَيِ الْمُشْتَرَكِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُؤَمِّنُ الرُّسُلَ الَّتِي تَرِدُ مِنْ قِبَلِ الْأَعْدَاءِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُجِيرُ مَنْ أَجَارَهُ أَيُّ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ، وَذَكَرَ مِنْ مَزَايَا الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ " تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ " كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ حُكْمَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْيِيدِ إِجَارَةِ مُسْتَجِيرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ خَاصٌّ بِهِمْ، وَالْأَمْرَ فِي مُعَامَلَةِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْسَعُ وَهُوَ كَمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْأَمَانَ مِنَ الْفِقْهِ.
قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: وَالْغَرَضُ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَدَاءِ رِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ طَلَبِ صُلْحٍ أَوْ مُهَادَنَةٍ أَوْ حَمْلِ جِزْيَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ
161
الْأَسْبَابِ، وَطَلَبَ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَمَانًا، أُعْطِيَ أَمَانًا مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا فِي الْإِسْلَامِ، وَحَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَأْمَنِهِ وَوَطَنِهِ. لَكِنْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ سَنَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الْإِقَامَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَنَقَصَ عَنْ سَنَةٍ قَوْلَانِ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَصْحَابِهِ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي التَّرْغِيبِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ عَدَمُ الضَّرَرِ عَلَيْنَا، وَأَلَّا تَزِيدَ مُدَّتُهُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ، وَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِمْ بِدَارِنَا هَذِهِ الْمُدَّةَ بِلَا جِزْيَةٍ وَجْهَانِ. انْتَهَى مِنْ كِتَابِ الْفُرُوعِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا مِنَ الشَّارِعِ تُنَاطُ بِالْمَصْلَحَةِ، وَتُفَوَّضُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَقُوَّادِ الْجُيُوشِ.
قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ بِإِجَارَةِ الْمُسْتَجِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ أَوْ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ جَاهِلُونَ لَا يَدْرُونَ مَا الْكِتَابُ، وَمَا الْإِيمَانُ، فَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِجَهْلٍ وَعَصَبِيَّةٍ، وَكَانُوا مُغْتَرِّينَ بِقُوَّتِهِمْ، مُصِرِّينَ عَلَى جَفْوَتِهِمْ، فَإِذَا كَانَ شُعُورُهُمْ بِضَعْفِهِمْ لَصِدْقِ
وَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ قَدْ أَعَدَّهُمْ لِلْعِلْمِ بِمَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَوْ لِغَرَضٍ آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِمْكَانُ تَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ وَإِسْمَاعِهِمْ كَلَامَهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالشِّفَاءُ لِمَا فِي الصُّدُورِ لِمَنْ سَمِعَهُ بِاسْتِقْلَالِ فِكْرٍ - أُجِيبُوا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِتَعْلِيمِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ، وَإِنَّمَا بُعِثْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَرَءُوفًا رَحِيمًا.
وَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ بِأَصْلِ الدِّينِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلْمًا يَقِينِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا احْتِمَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْطِقِيًّا. وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ كَالْفُرُوعِ الْعِلْمِيَّةِ، وَلَا بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَالْآيَاتُ الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ مُتَعَدِّدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٥٣: ٢٨) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (١٠: ٣٦) وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٤٥: ٢٤).
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ كَافِيًا لَوَجَبَ أَلَّا يُمْهَلَ هَذَا الْكَافِرُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ نَقْتُلُكَ. فَلَمَّا لَمْ يُقَلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ أَمْهَلْنَا وَأَزَلْنَا الْخَوْفَ عَنْهُ، وَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُبَلِّغَهُ مَأْمَنَهُ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، فَأَمْهَلْنَاهُ وَأَخَّرْنَاهُ، لِيَحْصُلَ لَهُ مُهْلَةُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُهْلَةِ كَمْ يَكُونُ، وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ إِلَّا بِالْعُرْفِ، فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا لِلْحَقِّ
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَصْحَابِهِ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي التَّرْغِيبِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ عَدَمُ الضَّرَرِ عَلَيْنَا، وَأَلَّا تَزِيدَ مُدَّتُهُ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ، وَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِمْ بِدَارِنَا هَذِهِ الْمُدَّةَ بِلَا جِزْيَةٍ وَجْهَانِ. انْتَهَى مِنْ كِتَابِ الْفُرُوعِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا مِنَ الشَّارِعِ تُنَاطُ بِالْمَصْلَحَةِ، وَتُفَوَّضُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَقُوَّادِ الْجُيُوشِ.
قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرُ بِإِجَارَةِ الْمُسْتَجِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ أَوْ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ جَاهِلُونَ لَا يَدْرُونَ مَا الْكِتَابُ، وَمَا الْإِيمَانُ، فَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِجَهْلٍ وَعَصَبِيَّةٍ، وَكَانُوا مُغْتَرِّينَ بِقُوَّتِهِمْ، مُصِرِّينَ عَلَى جَفْوَتِهِمْ، فَإِذَا كَانَ شُعُورُهُمْ بِضَعْفِهِمْ لَصِدْقِ
وَعْدِ اللهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ قَدْ أَعَدَّهُمْ لِلْعِلْمِ بِمَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَوْ لِغَرَضٍ آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِمْكَانُ تَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ وَإِسْمَاعِهِمْ كَلَامَهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالشِّفَاءُ لِمَا فِي الصُّدُورِ لِمَنْ سَمِعَهُ بِاسْتِقْلَالِ فِكْرٍ - أُجِيبُوا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِتَعْلِيمِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ، وَإِنَّمَا بُعِثْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَرَءُوفًا رَحِيمًا.
وَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ بِأَصْلِ الدِّينِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلْمًا يَقِينِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا احْتِمَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْطِقِيًّا. وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ كَالْفُرُوعِ الْعِلْمِيَّةِ، وَلَا بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَالْآيَاتُ الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ مُتَعَدِّدَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٥٣: ٢٨) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (١٠: ٣٦) وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٤٥: ٢٤).
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ كَافِيًا لَوَجَبَ أَلَّا يُمْهَلَ هَذَا الْكَافِرُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ نَقْتُلُكَ. فَلَمَّا لَمْ يُقَلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ أَمْهَلْنَا وَأَزَلْنَا الْخَوْفَ عَنْهُ، وَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُبَلِّغَهُ مَأْمَنَهُ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، فَأَمْهَلْنَاهُ وَأَخَّرْنَاهُ، لِيَحْصُلَ لَهُ مُهْلَةُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُهْلَةِ كَمْ يَكُونُ، وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ إِلَّا بِالْعُرْفِ، فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا لِلْحَقِّ
162
بَاحِثًا عَنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ أُمْهِلَ وَتُرِكَ، وَمَتَى ظَهَرَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُعْرِضًا عَنِ الْحَقِّ دَافِعًا لِلزَّمَانِ بِالْأَكَاذِيبِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ.
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ
لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَأَمْهَلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ أَحْرَارًا آمِنِينَ، وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالْأَذَانِ الْعَامِ إِلَى النَّاسِ فِي يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ مِنَ الْمَوْسِمِ الْعَامِّ بِبَرَاءَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَدَعَوْتِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ، وَعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْذَارِهِمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْإِعْرَاضِ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْمُعَاهِدِينَ الَّذِينَ نُبِذَتْ إِلَيْهِمْ عُهُودُهُمْ مَنْ وَفَّوْا بِعَهْدِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَحَدًا مِنْ أَعْدَائِهِمْ، فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النَّبْذِ وَالتَّوْقِيتِ فِيهِ، وَعَوْدِ حَالَةِ الْحَرْبِ مَعَهُمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي وُقِّتَتْ بِهَا الْعُهُودُ، وَهُوَ مُنَاجَزَةُ الْمُشْرِكِينَ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مَنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَحَصْرٍ وَقَطْعِ طُرُقِ الْمُوَاصَلَاتِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيرُ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَرَهُ بِإِجَارَتِهِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْعُهُودِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَعُدَّ الْوَفَاءُ بِهَا مِنْ أُصُولِ الْبِرِّ، وَمُقْتَضَى الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْبِرِّ وَأَهْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ١٧٧) بَعْدَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَكَمَا قَالَ فِي الْوَصَايَا الْأَسَاسِيَّةِ لِهَذَا الدِّينِ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (١٧: ٣٤) إِلَى آيَاتٍ أُخْرَى ذَكَّرْنَا قَارِئَ تَفْسِيرِنَا بِهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْعَهْدِ - وَالْمُنَاسِبُ مِنْهَا لِمَا هُنَا مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ كَالْآيَةِ ٥٦ و٥٨ وَفِي مَعْنَاهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ حَسْبُكُ مِنْهَا حَدِيثُ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ
لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَاهَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَأَمْهَلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ أَحْرَارًا آمِنِينَ، وَأَمَرَهُ تَعَالَى بِالْأَذَانِ الْعَامِ إِلَى النَّاسِ فِي يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ مِنَ الْمَوْسِمِ الْعَامِّ بِبَرَاءَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَدَعَوْتِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ، وَعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْذَارِهِمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْإِعْرَاضِ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْمُعَاهِدِينَ الَّذِينَ نُبِذَتْ إِلَيْهِمْ عُهُودُهُمْ مَنْ وَفَّوْا بِعَهْدِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُصُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَحَدًا مِنْ أَعْدَائِهِمْ، فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النَّبْذِ وَالتَّوْقِيتِ فِيهِ، وَعَوْدِ حَالَةِ الْحَرْبِ مَعَهُمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي وُقِّتَتْ بِهَا الْعُهُودُ، وَهُوَ مُنَاجَزَةُ الْمُشْرِكِينَ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مَنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَحَصْرٍ وَقَطْعِ طُرُقِ الْمُوَاصَلَاتِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَجِيرُ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَرَهُ بِإِجَارَتِهِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْعُهُودِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَعُدَّ الْوَفَاءُ بِهَا مِنْ أُصُولِ الْبِرِّ، وَمُقْتَضَى الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْبِرِّ وَأَهْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ١٧٧) بَعْدَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَكَمَا قَالَ فِي الْوَصَايَا الْأَسَاسِيَّةِ لِهَذَا الدِّينِ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (١٧: ٣٤) إِلَى آيَاتٍ أُخْرَى ذَكَّرْنَا قَارِئَ تَفْسِيرِنَا بِهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْعَهْدِ - وَالْمُنَاسِبُ مِنْهَا لِمَا هُنَا مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ مِنْ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ كَالْآيَةِ ٥٦ و٥٨ وَفِي مَعْنَاهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ حَسْبُكُ مِنْهَا حَدِيثُ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ
163
مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا
وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا.
وَلَمَّا كَانَ لِلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ كُلُّ هَذَا الشَّأْنِ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ نَبْذُ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ مِمَّا قَدْ يَظُنُّ بَادِيَ الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخِلٌّ بِهِ، أَوْ مِمَّا قَدْ يَظُنُّ قَلِيلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِهِ بِالْفَهْمِ الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا النَّبْذَ نَاسِخٌ لِوُجُوبِهِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ لِلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَتَأْكِيدِهِ كَانَ مُقَيَّدًا بِحَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ آخَرُونَ مِثْلَ هَذَا فِي آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ كَانَ هَذَا النَّبْذُ مِمَّا يَفْتَحُ بَابَ الدَّسِّ أَوِ الطَّعْنِ لِلْمُنَافِقِينَ وَالتَّأْوِيلِ لِلْمُرْجِفِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ يَعْظُمُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْفَى عَلَيْهِمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي هِيَ نُصُوصٌ فِي أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنْ فَضَائِلِ الدِّينِ الْأَسَاسِيَّةِ - لَمَّا كَانَ كُلُّ مَا ذُكِرَ كَمَا ذَكَرَ - بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُمَا كَوْنَ هَذَا النَّبْذِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي وَلَا يُجَافِي شَيْئًا مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَامَلَةٌ لِلْأَعْدَاءِ بِمِثْلِ مَا عَامَلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِدُونِهِ فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ؟ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ الْمُشْرَبِ لِمَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَسَخَ خُلُقُ الْوَفَاءِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ عُرْضَةً لِقَبُولِ كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ فِي إِنْكَارِ النَّبْذِ، وَالْمَعْنَى: بِأَيَّةِ صِفَةٍ وَأَيَّةِ كَيْفِيَّةٍ يَثْبُتُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ مِنَ الْعُهُودِ عِنْدَ اللهِ يُقِرُّهُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَفِي لَهُمْ بِهِ وَتَفُونَ بِهِ اتِّبَاعًا لَهُ - وَحَالُهُمِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ الْآيَةُ التَّالِيَةُ تَأْبَى ثُبُوتَ ذَلِكَ لَهُمْ؟ - إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اسْتَثْنَى تَعَالَى هَؤُلَاءِ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ انْتِفَاءِ ثُبُوتِ الْعَهْدِ لِغَيْرِهِمْ بِأَيَّةِ صِفَةٍ تَثْبُتُ بِهَا الْعُهُودُ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيهِمْ فِي تَفْسِيرِهَا، وَزَادَ هُنَا: عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيْ: بِجِوَارِهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْعَهْدِ بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ هُنَاكَ وَهُنَا.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ كَانُوا وَأَنْتُمْ عَلَى الْعَهْدِ الْعَامِّ، بِأَلَا تَمْنَعُوهُمْ وَلَا يَمْنَعُوكُمْ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ - عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهِيَ قَبَائِلُ بَنِي بَكْرٍ، الَّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَكُنْ نَقَضَهَا إِلَّا هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنُو الدِّيلِ مَنْ بَكْرٍ، فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ نَقَضَ عَهْدَهُ مَنْ بَنِي بَكْرٍ إِلَى مُدَّتِهِ.
وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا.
وَلَمَّا كَانَ لِلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ كُلُّ هَذَا الشَّأْنِ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ نَبْذُ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ مِمَّا قَدْ يَظُنُّ بَادِيَ الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخِلٌّ بِهِ، أَوْ مِمَّا قَدْ يَظُنُّ قَلِيلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ نُصُوصِهِ بِالْفَهْمِ الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا النَّبْذَ نَاسِخٌ لِوُجُوبِهِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ لِلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَتَأْكِيدِهِ كَانَ مُقَيَّدًا بِحَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ آخَرُونَ مِثْلَ هَذَا فِي آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ كَانَ هَذَا النَّبْذُ مِمَّا يَفْتَحُ بَابَ الدَّسِّ أَوِ الطَّعْنِ لِلْمُنَافِقِينَ وَالتَّأْوِيلِ لِلْمُرْجِفِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ يَعْظُمُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْفَى عَلَيْهِمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي هِيَ نُصُوصٌ فِي أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مِنْ فَضَائِلِ الدِّينِ الْأَسَاسِيَّةِ - لَمَّا كَانَ كُلُّ مَا ذُكِرَ كَمَا ذَكَرَ - بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُمَا كَوْنَ هَذَا النَّبْذِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي وَلَا يُجَافِي شَيْئًا مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَامَلَةٌ لِلْأَعْدَاءِ بِمِثْلِ مَا عَامَلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِدُونِهِ فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ؟ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ الْمُشْرَبِ لِمَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ رَسَخَ خُلُقُ الْوَفَاءِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ عُرْضَةً لِقَبُولِ كَلَامِ الْمُنَافِقِينَ فِي إِنْكَارِ النَّبْذِ، وَالْمَعْنَى: بِأَيَّةِ صِفَةٍ وَأَيَّةِ كَيْفِيَّةٍ يَثْبُتُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ مِنَ الْعُهُودِ عِنْدَ اللهِ يُقِرُّهُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَفِي لَهُمْ بِهِ وَتَفُونَ بِهِ اتِّبَاعًا لَهُ - وَحَالُهُمِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ الْآيَةُ التَّالِيَةُ تَأْبَى ثُبُوتَ ذَلِكَ لَهُمْ؟ - إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اسْتَثْنَى تَعَالَى هَؤُلَاءِ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ انْتِفَاءِ ثُبُوتِ الْعَهْدِ لِغَيْرِهِمْ بِأَيَّةِ صِفَةٍ تَثْبُتُ بِهَا الْعُهُودُ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيهِمْ فِي تَفْسِيرِهَا، وَزَادَ هُنَا: عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيْ: بِجِوَارِهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَقْتَضِي تَأْكِيدَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْعَهْدِ بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ هُنَاكَ وَهُنَا.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ كَانُوا وَأَنْتُمْ عَلَى الْعَهْدِ الْعَامِّ، بِأَلَا تَمْنَعُوهُمْ وَلَا يَمْنَعُوكُمْ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ - عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهِيَ قَبَائِلُ بَنِي بَكْرٍ، الَّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَكُنْ نَقَضَهَا إِلَّا هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنُو الدِّيلِ مَنْ بَكْرٍ، فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ نَقَضَ عَهْدَهُ مَنْ بَنِي بَكْرٍ إِلَى مُدَّتِهِ.
164
ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمْ بَعْضُ بَنِي بَكْرٍ مِنْ كِنَانَةَ مِمَّنْ كَانَ أَقَامَ عَلَى عَهْدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِي نَقْضِ مَا كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْعَهْدِ مَعَ قُرَيْشٍ. وَإِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ كَانُوا عَاهَدُوهُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى عَهْدِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِنَّمَا نَادَى بِهَا عَلِيٌّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسَنَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَا مِنْ خُزَاعَةَ كَافِرٌ يَوْمَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَهْدٌ فَيُؤْمَرُ بِالْوَفَاءِ لَهُ بِعَهْدِهِ مَا اسْتَقَامَ عَلَى عَهْدِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ سَاكِنِي مَكَّةَ كَانَ قَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَحُورِبَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ اهـ. وَهُوَ رَدٌّ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أَيْ: فَمَهْمَا يَسْتَقِمْ لَكُمْ هَؤُلَاءِ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، أَوْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ مُدَّةَ اسْتِقَامَتِهِمْ لَكُمْ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَدْرُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ مِنْ قِبَلِكُمْ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ قَطْعَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَحَارِمِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الْغَدْرُ وَنَقْضُ الْعُهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ، فَالظَّاهِرُ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَاهِدِينَ الْمَذْكُورِينَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ هُنَالِكَ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ ذِكْرُ اسْتِثْنَائِهِمْ لِتَأْكِيدِهِ بِشَرْطِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِبَيَانِ السَّبَبِ
الْمُوجِبِ لِلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهِ مَرْعِيَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّتِهِ، وَهَذَا زَائِدٌ عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُصُوا مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ شَيْئًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا، وَتَمْهِيدٌ لِبَيَانِ اسْتِبَاحَةِ نَبْذِ عُهُودِ الَّذِينَ لَا يَسْتَقِيمُونَ لِلْمُعَاهِدِ لَهُمْ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْغَدْرِ حَتَّى إِذَا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وَقَوْلِهِ الْمُفَسِّرِ لَهُ: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَرَّبْتُمْ وَفَاءَهُمْ عَهْدٌ مَشْرُوعٌ عِنْدَ اللهِ مَرْعِيٌّ بِالْوَفَاءِ عِنْدَ رَسُولِهِ، وَالْحَالُ الْمَعْهُودُ مِنْهُمُ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ فِي الْقُوَّةِ وَالْغَلَبِ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً؟ فَالِاسْتِفْهَامُ وَاحِدٌ، وَوَجْهُ إِنْكَارِ الْعَهْدِ وَنَفْيِهِ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَإِنَّمَا أُعِيدَتْ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلْفَصْلِ الْمَذْكُورِ.
يُقَالُ ظَهَرَ عَلَيْهِ: غَلَبَهُ وَظَفِرَ بِهِ، وَأَصْلُهُ عَلَاهُ، وَأَظْهَرَهُ عَلَيْهِ أَعْلَاهُ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ فَوْقَهُ وَمِنْهُ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (٩: ٣٣) وَكَذَا أَعْلَمَهُ بِهِ. وَرَقَبَ الشَّيْءَ رَعَاهُ وَحَاذَرَهُ
فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أَيْ: فَمَهْمَا يَسْتَقِمْ لَكُمْ هَؤُلَاءِ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، أَوْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ مُدَّةَ اسْتِقَامَتِهِمْ لَكُمْ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَدْرُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ مِنْ قِبَلِكُمْ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ قَطْعَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَحَارِمِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الْغَدْرُ وَنَقْضُ الْعُهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ، فَالظَّاهِرُ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَاهِدِينَ الْمَذْكُورِينَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ هُنَالِكَ، وَإِنَّمَا أُعِيدَ ذِكْرُ اسْتِثْنَائِهِمْ لِتَأْكِيدِهِ بِشَرْطِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِبَيَانِ السَّبَبِ
الْمُوجِبِ لِلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَيْهِ مَرْعِيَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّتِهِ، وَهَذَا زَائِدٌ عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُصُوا مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ شَيْئًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا، وَتَمْهِيدٌ لِبَيَانِ اسْتِبَاحَةِ نَبْذِ عُهُودِ الَّذِينَ لَا يَسْتَقِيمُونَ لِلْمُعَاهِدِ لَهُمْ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْغَدْرِ حَتَّى إِذَا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ أَحْلَافِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وَقَوْلِهِ الْمُفَسِّرِ لَهُ: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَرَّبْتُمْ وَفَاءَهُمْ عَهْدٌ مَشْرُوعٌ عِنْدَ اللهِ مَرْعِيٌّ بِالْوَفَاءِ عِنْدَ رَسُولِهِ، وَالْحَالُ الْمَعْهُودُ مِنْهُمُ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ فِي الْقُوَّةِ وَالْغَلَبِ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً؟ فَالِاسْتِفْهَامُ وَاحِدٌ، وَوَجْهُ إِنْكَارِ الْعَهْدِ وَنَفْيِهِ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَإِنَّمَا أُعِيدَتْ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلْفَصْلِ الْمَذْكُورِ.
يُقَالُ ظَهَرَ عَلَيْهِ: غَلَبَهُ وَظَفِرَ بِهِ، وَأَصْلُهُ عَلَاهُ، وَأَظْهَرَهُ عَلَيْهِ أَعْلَاهُ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ فَوْقَهُ وَمِنْهُ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (٩: ٣٣) وَكَذَا أَعْلَمَهُ بِهِ. وَرَقَبَ الشَّيْءَ رَعَاهُ وَحَاذَرَهُ
165
وَانْتَظَرَهُ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَرَقَبَهُ وَرَاقَبَهُ: حَاذَرَهُ؛ لِأَنَّ الْخَائِفَ يَرْقُبُ الْعِقَابَ وَيَتَوَقَّعُهُ وَمِنْهُ، فُلَانٌ لَا يُرَاقِبُ اللهَ فِي أُمُورِهِ: لَا يَنْظُرُ إِلَى عِقَابِهِ فَيَرْكَبُ رَأْسَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَبَاتَ يَرْقُبُ النُّجُومَ وَيُرَاقِبُهَا كَقَوْلِكَ: يَرْعَاهَا وَيُرَاعِيهَا اهـ. وَالْإِلُّ: الْقَرَابَةُ. وَالذِّمَّةُ وَالذِّمَامُ الْعَهْدُ الَّذِي يُلْزِمُ مَنْ ضَيَّعَهُ الذَّمَّ كَمَا فِي الْأَسَاسِ، وَكَانَ خَفْرُ الذِّمَامِ وَنَقْضُ الْعَهْدِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَارِ، هَذَا أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ الْمَأْثُورَةِ فِي تَفْسِيرِهَا هُنَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْإِلَّ اسْمُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَرْقُبُونَ اللهَ فِي نَقْضِ عَهْدِهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ إِلٍّ وَإِيلٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَشَقِيقَتَيْهَا السُّرْيَانِيَّةِ وَالْعِبْرَانِيَّةِ،
وَهُوَ اسْمُ إِلَهٍ مِنْ آلِهَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ كَمَا بَيَّنَاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي فَصْلِ الْمَسَائِلِ الْمُتَمِّمَةِ لِلْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ فِي أَرْبَابِهِمْ وَشِرْكِهِمْ [ص٤٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ] وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ تَفْسِيرُ الْإِلِّ بِالْحِلْفِ وَالْعَقْدِ وَالْعَهْدِ وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِهِمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَحَصْرِهِمْ وَالْقُعُودِ لَهُمْ عَلَى كُلَّ مَرْصَدٍ - أَنَّهُمْ لَوْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَرْقُبُوا فِيهِمْ إِلًّا، وَالْإِلُّ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ: الْعَهْدُ وَالْعَقْدُ، وَالْحِلْفُ، وَالْقَرَابَةُ وَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى اللهِ فَإِذَا كَانَتِ الْكَلِمَةُ تَشْمَلُ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةَ، وَلَمْ يَكُنِ اللهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، فَالصَّوَابُ أَنْ يَعُمَّ ذَلِكَ كَمَا عَمَّ بِهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَعَانِيهَا الثَّلَاثَةَ فَقَالَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ اللهَ، وَلَا قَرَابَةً وَلَا عَهْدًا وَلَا مِيثَاقًا. وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ:
بِمَعْنَى قَطَعُوا الْقَرَابَةَ، وَقَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:
لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ كَإِلِّ السَّيْفِ مِنْ رَأْلِ النَّعَامِ
وَأَمَّا مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْعَهْدِ فَقَوْلُ الْقَائِلِ:
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْإِلَّ وَالْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَالْيَمِينَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الذِّمَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ التَّذَمُّمِ مِمَّنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَالْجَمْعُ: ذِمَمٌ. وَكَانَ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولُ: عَنَى بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَهْلَ الْعَهْدِ الْعَامِّ اهـ.
وَهُوَ اسْمُ إِلَهٍ مِنْ آلِهَةِ الْكَلْدَانِيِّينَ كَمَا بَيَّنَاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي فَصْلِ الْمَسَائِلِ الْمُتَمِّمَةِ لِلْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ فِي أَرْبَابِهِمْ وَشِرْكِهِمْ [ص٤٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ] وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ تَفْسِيرُ الْإِلِّ بِالْحِلْفِ وَالْعَقْدِ وَالْعَهْدِ وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الرِّوَايَاتِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِهِمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَحَصْرِهِمْ وَالْقُعُودِ لَهُمْ عَلَى كُلَّ مَرْصَدٍ - أَنَّهُمْ لَوْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَرْقُبُوا فِيهِمْ إِلًّا، وَالْإِلُّ اسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ: الْعَهْدُ وَالْعَقْدُ، وَالْحِلْفُ، وَالْقَرَابَةُ وَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى اللهِ فَإِذَا كَانَتِ الْكَلِمَةُ تَشْمَلُ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةَ، وَلَمْ يَكُنِ اللهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، فَالصَّوَابُ أَنْ يَعُمَّ ذَلِكَ كَمَا عَمَّ بِهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَعَانِيهَا الثَّلَاثَةَ فَقَالَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ اللهَ، وَلَا قَرَابَةً وَلَا عَهْدًا وَلَا مِيثَاقًا. وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ:
أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خُلِّفُوا | قَطَّعُوا الْإِلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمْ |
لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ كَإِلِّ السَّيْفِ مِنْ رَأْلِ النَّعَامِ
وَأَمَّا مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْعَهْدِ فَقَوْلُ الْقَائِلِ:
وَجَدْنَاهُمْ كَاذِبًا إِلُّهُمْ | وَذُو الْإِلِّ وَالْعَهْدِ لَا يَكْذِبُ |
166
وَأَقُولُ: أَلْفَاظُ الْإِلِّ وَالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ وَالْيَمِينِ يَخْتَلِفُ مَفْهُومُهَا اللُّغَوِيُّ. وَقَدْ
تَتَوَارَدُ مَعَ هَذَا عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّخْصِيصِ، فَالْعَهْدُ مَا يَتَّفِقُ رَجُلَانِ أَوْ فَرِيقَانِ مِنَ النَّاسِ عَلَى الْتِزَامِهِ بَيْنَهُمَا لِمَصْلَحَتِهِمَا الْمُشْتَرِكَةِ، فَإِنْ أَكَّدَاهُ وَوَثَّقَاهُ بِمَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْعِنَايَةِ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ سُمِّيَ مِيثَاقًا، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَثَاقِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْحَبْلُ وَالْقَيْدُ، وَإِنْ أَكَّدَاهُ بِالْيَمِينِ خَاصَّةً سُمِّي يَمِينًا، وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ لِوَضْعِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ الْآخَرِ عِنْدَ عَقْدِهِ، وَالْيَمِينُ فِي الْأَصْلِ الْيَدُ الْمُقَابِلَةُ لِلشِّمَالِ، وَالْحَلِفُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنِ اسْتَعْمَلَ الْإِلَّ بِمَعْنَى الْعَهْدِ أَرَادَ بِهِ الْمُطْلَقَ مِنْهُ، وَمِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْحِلْفِ - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الْمُحَالَفَةُ أَصْلُهُ مِنْ مَادَّةِ الْحَلِفِ أَيِّ الْيَمِينِ. وَقَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامِّ أَرَادَ بِهِمْ غَيْرَ مَنِ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَالْآيَةِ الرَّابِعَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَشْمَلُ أَهْلَ الْعَهْدِ الَّذِينَ غَدَرُوا، وَيَشْمَلُ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُرِيدُوا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَنْ يُقَيِّدُوا أَنْفُسَهُمْ مَعَهُمْ بِعَهْدِ سَلْمٍ مُطْلَقٍ وَلَا مُؤَقَّتٍ، فَإِنْ لَمْ يَشْمَلْهُمْ بِالنَّصِّ شَمِلَهُمْ بِالْحُكْمِ.
يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ أَيْ: يُخَادِعُونَكُمْ فِي حَالِ الضَّعْفِ بِمَا يَنْبِذُونَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْعَذْبِ الَّذِي يَرَوْنَ أَنَّهُ يُرْضِيكُمْ سَوَاءٌ كَانَ عَهْدًا أَوْ وَعَدًا أَوْ يَمِينًا مُؤَكِّدًا لَهُمَا وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ الْمَمْلُوءَةُ بِالْحِقْدِ وَالضِّغْنِ أَنْ تُصَدِّقَ أَفْوَاهَهُمْ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (٤٨: ١١) فَهُمْ إِنْ ظَهَرُوا عَلَيْكُمْ نَكَثُوا الْعُهُودَ، وَحَنِثُوا بِالْأَيْمَانِ، وَفَتَكُوا بِكُمْ جُهْدَ طَاقَتِهِمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ أَيْ: خَارِجُونَ مِنْ قُيُودِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ مُتَجَاوِزُونَ لِحُدُودِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ فَالْفِسْقُ عَلَى مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ الْخُرُوجُ وَالِانْفِصَالُ، يَقُولُونَ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرَتِهَا، وَيُفَسَّرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَإِنَّمَا وَصَفَ أَكْثَرَهُمْ بِالْفُسُوقِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ النَّاكِثُونَ النَّاقِضُونَ لِعُهُودِهِمْ، وَأَقَلُّهُمُ الْمُوفُونَ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِقَامَةِ لَهُمْ مَا اسْتَقَامُوا لَهُمْ.
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ
تَتَوَارَدُ مَعَ هَذَا عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّخْصِيصِ، فَالْعَهْدُ مَا يَتَّفِقُ رَجُلَانِ أَوْ فَرِيقَانِ مِنَ النَّاسِ عَلَى الْتِزَامِهِ بَيْنَهُمَا لِمَصْلَحَتِهِمَا الْمُشْتَرِكَةِ، فَإِنْ أَكَّدَاهُ وَوَثَّقَاهُ بِمَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْعِنَايَةِ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ سُمِّيَ مِيثَاقًا، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَثَاقِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْحَبْلُ وَالْقَيْدُ، وَإِنْ أَكَّدَاهُ بِالْيَمِينِ خَاصَّةً سُمِّي يَمِينًا، وَقَدْ يُسَمَّى بِذَلِكَ لِوَضْعِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ الْآخَرِ عِنْدَ عَقْدِهِ، وَالْيَمِينُ فِي الْأَصْلِ الْيَدُ الْمُقَابِلَةُ لِلشِّمَالِ، وَالْحَلِفُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنِ اسْتَعْمَلَ الْإِلَّ بِمَعْنَى الْعَهْدِ أَرَادَ بِهِ الْمُطْلَقَ مِنْهُ، وَمِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْحِلْفِ - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الْمُحَالَفَةُ أَصْلُهُ مِنْ مَادَّةِ الْحَلِفِ أَيِّ الْيَمِينِ. وَقَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامِّ أَرَادَ بِهِمْ غَيْرَ مَنِ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَالْآيَةِ الرَّابِعَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَشْمَلُ أَهْلَ الْعَهْدِ الَّذِينَ غَدَرُوا، وَيَشْمَلُ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُرِيدُوا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَنْ يُقَيِّدُوا أَنْفُسَهُمْ مَعَهُمْ بِعَهْدِ سَلْمٍ مُطْلَقٍ وَلَا مُؤَقَّتٍ، فَإِنْ لَمْ يَشْمَلْهُمْ بِالنَّصِّ شَمِلَهُمْ بِالْحُكْمِ.
يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ أَيْ: يُخَادِعُونَكُمْ فِي حَالِ الضَّعْفِ بِمَا يَنْبِذُونَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْعَذْبِ الَّذِي يَرَوْنَ أَنَّهُ يُرْضِيكُمْ سَوَاءٌ كَانَ عَهْدًا أَوْ وَعَدًا أَوْ يَمِينًا مُؤَكِّدًا لَهُمَا وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ الْمَمْلُوءَةُ بِالْحِقْدِ وَالضِّغْنِ أَنْ تُصَدِّقَ أَفْوَاهَهُمْ، يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (٤٨: ١١) فَهُمْ إِنْ ظَهَرُوا عَلَيْكُمْ نَكَثُوا الْعُهُودَ، وَحَنِثُوا بِالْأَيْمَانِ، وَفَتَكُوا بِكُمْ جُهْدَ طَاقَتِهِمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ أَيْ: خَارِجُونَ مِنْ قُيُودِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ مُتَجَاوِزُونَ لِحُدُودِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ فَالْفِسْقُ عَلَى مَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ الْخُرُوجُ وَالِانْفِصَالُ، يَقُولُونَ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرَتِهَا، وَيُفَسَّرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَإِنَّمَا وَصَفَ أَكْثَرَهُمْ بِالْفُسُوقِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ النَّاكِثُونَ النَّاقِضُونَ لِعُهُودِهِمْ، وَأَقَلُّهُمُ الْمُوفُونَ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِقَامَةِ لَهُمْ مَا اسْتَقَامُوا لَهُمْ.
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ
هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَنْ عَسَاهُ يَسْتَغْرِبُ غَلَبَةَ الْفِسْقِ وَالْخُرُوجِ مِنْ دَائِرَةِ الْفَضَائِلِ الْفِطْرِيَّةِ وَالتَّقْلِيدِيَّةِ عَلَى أَكْثَرِهِمْ حَتَّى مُرَاعَاةِ الْقَرَابَةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ الْمَمْدُوحَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَيَسْأَلُ عَنْ سَبَبِهِ، وَجَوَابُهُ: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَيْ: إِنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَعَلَى بَعْثِهِ لِلنَّاسِ، وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَعَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْهِدَايَةِ، ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ، وَكَثِيرُهُ عِنْدَ كُبَرَائِهِمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ أُمَمِ الْحَضَارَةِ، وَمَا عِنْدَ أَغْنَى هَؤُلَاءِ قَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لَهُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْعُهُودُ وَالْأَيْمَانُ أَوْ مَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا مِنْ كِتَابِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا أَرَادَ حَمْلَ قُرَيْشٍ وَحُلَفَائِهَا عَلَى نَقْضِ عَهْدِ الْحُدَيْبِيَةِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا اسْتَمَالَهُمْ بِهِ فَأَجَابُوهُ إِلَيْهِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالثَّمَنِ الْقَلِيلِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ أَمَدُّوهُمْ بِالْمَالِ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا بَعْدَهُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِلَخْ. وَصَدَّ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا فَيُقَالُ: صَدَّ فُلَانٌ عَنِ الشَّيْءِ صُدُودًا بِمَعْنَى أَعْرَضَ عَنْهُ وَانْصَرَفَ فَلَمْ يَلْوِ عَلَيْهِ، وَمُتَعَدِّيًا فَيُقَالُ: صَدَّهُ عَنْهُ إِذَا صَرَفَهُ وَلَفَتَهُ عَنْهُ وَزَهَّدَهُ فِيهِ، أَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ بِالْقُوَّةِ، وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنِيِّينَ هُنَا، أَيْ فَصَدُّوا بِسَبَبِ هَذَا الشِّرَاءِ الْخَسِيسَ، وَأَعْرَضُوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ وَصَرَفُوهُمْ عَنْهُ أَيْضًا، إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: إِنَّهُمْ سَاءَ عَمَلُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنِ اشْتِرَاءِ
الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ وَالضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، وَالصُّدُودُ وَالصَّدُّ عَنْ دِينِ اللهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْحَقِّ.
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً أَيْ: مِنْ أَجْلِ هَذَا الْكُفْرِ وَالصُّدُودِ، وَالصَّدِّ عَنِ الْإِيمَانِ لَا يَرْعَوْنَ فِي مُؤْمِنٍ يَظْهَرُونَ عَلَيْهِ، وَيَقْدِرُونَ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ رَبًّا يُحَرِّمُ الْغَدْرَ، وَلَا قَرَابَةً تَقْتَضِي الْوُدَّ، وَلَا ذِمَّةً تُوجِبُ الْوَفَاءَ اتِّقَاءً لِلذَّمِّ؛ لِأَنَّ ذَنْبَ الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا عِنْدَهُمْ كَوْنُهُ مُؤْمِنًا، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ عَهْدًا، وَلَا يَسْتَحِلُّ غَدْرًا، وَلَا يَقْطَعُ رَحِمًا، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِالظُّهُورِ وَالْغَلَبِ، وَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَذَاكَ خَاصٌّ بِالْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانَ مِنَ الْحُرُوبِ وَالدِّمَاءِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ لِحُدُودِ الْعُهُودِ مِنْ دُونِكُمْ، وَالْبَادِئُونَ لَكُمْ بِالْقِتَالِ كَمَا فَعَلُوا فِيمَا مَضَى، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِيمَا يَأْتِي، وَالْعِلَّةُ فِي اعْتِدَائِهِمْ وَتَجَاوُزِهِمْ هُوَ رُسُوخُهُمْ فِي الشِّرْكِ
الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ وَالضَّلَالَةِ بِالْهُدَى، وَالصُّدُودُ وَالصَّدُّ عَنْ دِينِ اللهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْحَقِّ.
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً أَيْ: مِنْ أَجْلِ هَذَا الْكُفْرِ وَالصُّدُودِ، وَالصَّدِّ عَنِ الْإِيمَانِ لَا يَرْعَوْنَ فِي مُؤْمِنٍ يَظْهَرُونَ عَلَيْهِ، وَيَقْدِرُونَ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ رَبًّا يُحَرِّمُ الْغَدْرَ، وَلَا قَرَابَةً تَقْتَضِي الْوُدَّ، وَلَا ذِمَّةً تُوجِبُ الْوَفَاءَ اتِّقَاءً لِلذَّمِّ؛ لِأَنَّ ذَنْبَ الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا عِنْدَهُمْ كَوْنُهُ مُؤْمِنًا، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ عَهْدًا، وَلَا يَسْتَحِلُّ غَدْرًا، وَلَا يَقْطَعُ رَحِمًا، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِالظُّهُورِ وَالْغَلَبِ، وَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَذَاكَ خَاصٌّ بِالْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانَ مِنَ الْحُرُوبِ وَالدِّمَاءِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ لِحُدُودِ الْعُهُودِ مِنْ دُونِكُمْ، وَالْبَادِئُونَ لَكُمْ بِالْقِتَالِ كَمَا فَعَلُوا فِيمَا مَضَى، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِيمَا يَأْتِي، وَالْعِلَّةُ فِي اعْتِدَائِهِمْ وَتَجَاوُزِهِمْ هُوَ رُسُوخُهُمْ فِي الشِّرْكِ
وَكَرَاهَتُهُمْ لِلْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ لَا لَكُمْ وَحْدَكُمْ، فَلَا عِلَاجَ لَهُمْ إِذًا إِلَّا الرُّجُوعُ عَنْ كُفْرِهِمْ وَالِاعْتِصَامُ مَعَكُمْ بِعُرْوَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ.
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ هَذَا بَيَانٌ لِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ لِلْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ، وَهُوَ لَا يَعْدُو أَمْرَيْنِ فَصَّلَهُمَا تَعَالَى، وَبَيَّنَ حُكْمَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، قَالَ: فَإِنْ تَابُوا عَنْ شِرْكِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ بِالْفِعْلِ، وَمَنْ يُرِيدُ الْإِيمَانَ أَوْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ، وَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْعُهُودِ وَخَفْرِ الذِّمَمِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ بِدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ إِلَّا بِإِقَامَةِ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ أَيْ: فَهُمْ حِينَئِذٍ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ لَهُمْ مَا لَكُمْ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْكُمْ، وَبِهَذِهِ الْأُخُوَّةِ يُهْدَمُ كُلُّ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَدَاوَةٍ. وَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّ أُخُوَّةَ الدِّينِ تَثْبُتُ بِهَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَلَا تَثْبُتُ بِغَيْرِهِمَا مِنْ دُونِهِمَا، وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ بِشَرْطِهِ وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ مُدَّةَ الْحَوْلِ، وَالْكَلَامُ فِي جُمْلَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَهَلْ يَتَعَارَفُ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ إِلَّا بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ وَسَائِرِ الْمَعَاهِدِ، وَبِأَدَاءِ الصَّدَقَاتِ لِلْمُوَاسَاةِ بَيْنَهُمْ، وَلِإِقَامَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْمَصَالِحِ؟ وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ أَوَّلُ مَزِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ لِلْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، بَعْضُهُمْ حَرْبٌ لِبَعْضٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَّا مَا يَكُونُ مِنْ عَهْدٍ أَوْ جِوَارٍ قَلَّمَا يَفِي بِهِ الْقَوِيُّ لِلضَّعِيفِ دَائِمًا وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ: وَنُبَيِّنُ الْآيَاتِ الْمُفَصِّلَةَ لِلدَّلَائِلِ، الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُفَرِّقَةَ بَيْنَ الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وُجُوهَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهَا دُونَ الْجَاهِلِينَ مِنْ مُتَّبِعِي الظُّنُونِ وَالْمُقَلِّدِينَ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَرَّمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: افْتُرِضَتِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ جَمِيعًا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ هَذَا بَيَانٌ لِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ لِلْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ، وَهُوَ لَا يَعْدُو أَمْرَيْنِ فَصَّلَهُمَا تَعَالَى، وَبَيَّنَ حُكْمَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، قَالَ: فَإِنْ تَابُوا عَنْ شِرْكِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ بِالْفِعْلِ، وَمَنْ يُرِيدُ الْإِيمَانَ أَوْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ، وَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ نَقْضِ الْعُهُودِ وَخَفْرِ الذِّمَمِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ بِدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ إِلَّا بِإِقَامَةِ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ أَيْ: فَهُمْ حِينَئِذٍ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ لَهُمْ مَا لَكُمْ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْكُمْ، وَبِهَذِهِ الْأُخُوَّةِ يُهْدَمُ كُلُّ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَدَاوَةٍ. وَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّ أُخُوَّةَ الدِّينِ تَثْبُتُ بِهَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَلَا تَثْبُتُ بِغَيْرِهِمَا مِنْ دُونِهِمَا، وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ بِشَرْطِهِ وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ مُدَّةَ الْحَوْلِ، وَالْكَلَامُ فِي جُمْلَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَهَلْ يَتَعَارَفُ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ إِلَّا بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ وَسَائِرِ الْمَعَاهِدِ، وَبِأَدَاءِ الصَّدَقَاتِ لِلْمُوَاسَاةِ بَيْنَهُمْ، وَلِإِقَامَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْمَصَالِحِ؟ وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ أَوَّلُ مَزِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ لِلْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، بَعْضُهُمْ حَرْبٌ لِبَعْضٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَّا مَا يَكُونُ مِنْ عَهْدٍ أَوْ جِوَارٍ قَلَّمَا يَفِي بِهِ الْقَوِيُّ لِلضَّعِيفِ دَائِمًا وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ: وَنُبَيِّنُ الْآيَاتِ الْمُفَصِّلَةَ لِلدَّلَائِلِ، الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُفَرِّقَةَ بَيْنَ الْفَضَائِلِ وَالرَّذَائِلِ، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وُجُوهَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهَا دُونَ الْجَاهِلِينَ مِنْ مُتَّبِعِي الظُّنُونِ وَالْمُقَلِّدِينَ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَرَّمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: افْتُرِضَتِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ جَمِيعًا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا.
169
وَقَرَأَ: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ الصَّلَاةَ إِلَّا بِالزَّكَاةِ: وَقَالَ رَحِمَ اللهُ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ أَفْقَهُهُ. وَرُوِيَ
عَنْ عَبْدِ اللهِ (أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ) قَالَ: أُمِرْتُمْ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صَلَاةَ لَهُ. وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَمَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ بَعْدَهُ: رَحِمَ اللهُ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ أَفْقَهُهُ. يَعْنِي بِهَذَا قَوْلَهُ: وَاللهِ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمَا.
وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ: (الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا كَالشَّرْطِ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَرَدَتْ تِلْكَ الْآيَةُ تَالِيَةً تِلْوَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ فِيهَا الْأَمْرَ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ (٥) وَوَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تِلْوَ إِثْبَاتِ رُسُوخِ الْمُشْرِكِينَ فِي كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَكَوْنِهِ هُوَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ ابْتِدَاءً ثُمَّ عَلَى نَقْضِ عُهُودِهِمْ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ فِي جَوَابِ شَرْطِهَا فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَهَذِهِ أَجْلَبُ لِقُلُوبِهِمْ، وَأَشَدُّ اسْتِمَالَةً لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
(الْمَبْحَثُ الثَّانِي) اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَا عَلَى كُفْرِ كُلٍّ مِنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَمَانِعِ الزَّكَاةِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى اشْتَرَطَ فِيهَا لِتَحَقُّقِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَالدُّخُولِ فِي جَمَاعَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ، وَإِقَامَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ، فَانْتِفَاءُ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَا جُعِلَتْ شَرْطًا لَهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا بِادِّعَاءِ أَنَّ الْعِبَارَةَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْإِسْلَامِ بِحُصُولِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَطْ دُونَ انْتِفَائِهِ بِانْتِفَائِهَا فَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَأَرْجَعَ ذَلِكَ إِلَى مَا زَعَمَهُ مِنْ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِكَلِمَةِ " إِنْ " إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِلْزَامِ الْمُعَلِّقِ لِلْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ حُصُولًا لَا انْتِفَاءً، فَهُوَ لَا يَقْتَضِي انْعِدَامَهُ بِانْعِدَامِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّقُ لَازِمًا أَعَمَّ فَيَتَحَقَّقُ بِدُونِ مَا جُعِلَ مَلْزُومًا لَهُ. وَهَذَا مِنَ الْجَدَلِيَّاتِ اللَّفْظِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، فَلَيْسَ فِي الْمَقَامِ إِلَّا مَسْأَلَةُ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ اللُّغَةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ، وَمَا أَوْرَدُوا عَلَى اطِّرَادِهِ مِنْ بَعْضِ النُّصُوصِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ فِيهَا الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ، فَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ ضَعْفُ الْفَهْمِ، وَمِنْهُ مَا لَهُ سَبَبٌ خَارِجٌ عَنْ مَدْلُولِ اللُّغَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا (٢٤: ٣٣) بِنَاءً
عَلَى أَنَّ مَفْهُومَهُ عَدَمُ النَّهْيِ عَنْ إِكْرَاهِهِنَّ إِنْ لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ - وَهُوَ غَفْلَةٌ ظَاهِرَةٌ عَنْ كَوْنِ الْإِكْرَاهِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَلَا يُعْقَلُ عِنْدَ عَدَمِهَا وَهُوَ بَذْلُ الْعِرْضِ، وَبَيْعُ الْبُضْعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٤: ٣١) اسْتَشْكَلَ الْأَشَاعِرَةُ الْقَوْلَ بِمَفْهُومِهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَمَا هُوَ بِمُشْكِلٍ إِلَّا مِنْ حَيْثُ يَكُونُ حُجَّةً لِخُصُومِهِمُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى عَدَمِ مَغْفِرَةِ الْكَبَائِرِ، وَمَا زَالَ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْمَذَاهِبِ يَجْنُونَ عَلَى اللُّغَةِ وَعَلَى نُصُوصِ
عَنْ عَبْدِ اللهِ (أَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ) قَالَ: أُمِرْتُمْ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صَلَاةَ لَهُ. وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَمَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ بَعْدَهُ: رَحِمَ اللهُ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ أَفْقَهُهُ. يَعْنِي بِهَذَا قَوْلَهُ: وَاللهِ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمَا.
وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ: (الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا كَالشَّرْطِ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِمُنَاسَبَةِ السِّيَاقِ، وَرَدَتْ تِلْكَ الْآيَةُ تَالِيَةً تِلْوَ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ فِيهَا الْأَمْرَ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ (٥) وَوَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تِلْوَ إِثْبَاتِ رُسُوخِ الْمُشْرِكِينَ فِي كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَكَوْنِهِ هُوَ الْبَاعِثُ لَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ ابْتِدَاءً ثُمَّ عَلَى نَقْضِ عُهُودِهِمْ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ فِي جَوَابِ شَرْطِهَا فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَهَذِهِ أَجْلَبُ لِقُلُوبِهِمْ، وَأَشَدُّ اسْتِمَالَةً لَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
(الْمَبْحَثُ الثَّانِي) اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَا عَلَى كُفْرِ كُلٍّ مِنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَمَانِعِ الزَّكَاةِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى اشْتَرَطَ فِيهَا لِتَحَقُّقِ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَالدُّخُولِ فِي جَمَاعَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ، وَإِقَامَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ، فَانْتِفَاءُ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَا جُعِلَتْ شَرْطًا لَهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَتَفَصَّى بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا بِادِّعَاءِ أَنَّ الْعِبَارَةَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْإِسْلَامِ بِحُصُولِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَطْ دُونَ انْتِفَائِهِ بِانْتِفَائِهَا فَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَأَرْجَعَ ذَلِكَ إِلَى مَا زَعَمَهُ مِنْ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِكَلِمَةِ " إِنْ " إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِلْزَامِ الْمُعَلِّقِ لِلْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ حُصُولًا لَا انْتِفَاءً، فَهُوَ لَا يَقْتَضِي انْعِدَامَهُ بِانْعِدَامِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّقُ لَازِمًا أَعَمَّ فَيَتَحَقَّقُ بِدُونِ مَا جُعِلَ مَلْزُومًا لَهُ. وَهَذَا مِنَ الْجَدَلِيَّاتِ اللَّفْظِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، فَلَيْسَ فِي الْمَقَامِ إِلَّا مَسْأَلَةُ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ اللُّغَةِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ، وَمَا أَوْرَدُوا عَلَى اطِّرَادِهِ مِنْ بَعْضِ النُّصُوصِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ فِيهَا الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ، فَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ ضَعْفُ الْفَهْمِ، وَمِنْهُ مَا لَهُ سَبَبٌ خَارِجٌ عَنْ مَدْلُولِ اللُّغَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا (٢٤: ٣٣) بِنَاءً
عَلَى أَنَّ مَفْهُومَهُ عَدَمُ النَّهْيِ عَنْ إِكْرَاهِهِنَّ إِنْ لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ - وَهُوَ غَفْلَةٌ ظَاهِرَةٌ عَنْ كَوْنِ الْإِكْرَاهِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَلَا يُعْقَلُ عِنْدَ عَدَمِهَا وَهُوَ بَذْلُ الْعِرْضِ، وَبَيْعُ الْبُضْعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٤: ٣١) اسْتَشْكَلَ الْأَشَاعِرَةُ الْقَوْلَ بِمَفْهُومِهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَمَا هُوَ بِمُشْكِلٍ إِلَّا مِنْ حَيْثُ يَكُونُ حُجَّةً لِخُصُومِهِمُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى عَدَمِ مَغْفِرَةِ الْكَبَائِرِ، وَمَا زَالَ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْمَذَاهِبِ يَجْنُونَ عَلَى اللُّغَةِ وَعَلَى نُصُوصِ
170
التَّنْزِيلِ لِإِبْطَالِ حُجَجِ خُصُومِهِمْ، عَلَى أَنَّ الْمُعَلِّقَ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ هُنَا أَخَصُّ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ أَمْرَانِ: تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ، وَالْمُدْخَلُ الْكَرِيمُ. وَأَيْنَ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنِ اشْتِرَاطِ شُرُوطٍ لِلِانْتِقَالِ مَنْ أَمْرٍ إِلَى ضِدِّهِ الْمُسَاوِي لِنَقِيضِهِ، أَيْ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ؟ هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَحْصُلُ بِحُصُولِ شُرُوطِهِ، وَإِقَامَةِ أَعْظَمِ أَرْكَانِهِ، وَلَا يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا؟ أَلَا إِنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي حَالِ النَّظَرِ إِلَى الْحَقِيقَةِ نَفْسِهَا، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ لَا حِجَابَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ مِمَّنْ صَرَفَ بَصَرَهُ عَنْهَا وَأَرَادَ مَعْرِفَتَهَا بِالِاصْطِلَاحَاتِ الْجَدَلِيَّةِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ أَوِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَالْحَقُّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي شَرْطِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا هُنَا؛ لِأَنَّ الَّذِي أَوْرَدَ التَّفَصِّي الْمَذْكُورَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ هُوَ إِمَامُ الْجَدَلِيِّينَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَنَقَلَهُ الْآلُوسِيُّ عَازِيًا إِيَّاهُ إِلَى بَعْضِ جُلَّةِ الْأَفَاضِلِ، وَفَصَّلَهُ بِأَوْسَعَ مِمَّا قَالَهُ الرَّازِيُّ، فَأَرَدْنَا أَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ يَغْتَرُّونَ عَادَةً بِكُلِّ مَبَاحِثِ هَؤُلَاءِ الْأَفَاضِلِ، وَالَّذِي دَعَا الرَّازِيَّ وَغَيْرَهُ إِلَى التَّفَصِّي مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى انْتِفَاءِ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ بِانْتِفَاءِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ اسْتِشْكَالُهُ إِيَّاهُ بِالْفَقِيرِ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا تَقَعُ مِنْهُ، وَبِالْغَنِيِّ قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ بِمُرُورِ الْحَوْلِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ فِي حَالِ عَدَمِ تَسْلِيمِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَيُكْتَفَى مِنْهُ بِأَنْ يُقِرَّ بِحُكْمِهَا وَيَلْتَزِمَهُ عِنْدَ وُجُوبِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا
الْمَقَامِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُشْتَرَطُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْهَا وَدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْإِذْعَانُ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَالِ، وَلِفَرِيضَتَيِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِالتَّعْيِينِ وَالتَّفْصِيلِ، وَأَمَّا أَفْرَادُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا يُطَالَبُونَ بِكُلٍّ مِنْ فَرِيضَتَيِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ تَحَقُّقِ فَرَضِيَّتِهِمَا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تُفْرَضُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تُفْرَضُ عَلَيْهِ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِثْلُهُ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ إِلَّا بِدُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَكْفِي فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَبْلَ افْتِرَاضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَا يَقْتَضِيَانِهِ مِنْ عَمَلٍ بَدَنِيٍّ وَنَفْسِيٍّ بِالْإِجْمَالِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ أَيْضًا وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
(الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) وَهُوَ لُغَوِيٌّ مَحْضٌ، أَنَّ لَفْظَ أَخٍ أَصْلُهُ أَخَوٌ وَمُثَنَّاهُ أَخَوَانِ، وَفِي لُغَةٍ: أَخَانِ. وَيُجْمَعُ عَلَى إِخْوَةٍ وَإِخْوَانٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أُخُوَّةِ النَّسَبِ الْقَرِيبِ، أَيِّ الْأُخُوَّةِ مِنْ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَالنَّسَبِ الْبَعِيدِ كَالْجِنْسِ وَالْقَبِيلَةِ، وَفِي أُخُوَّةِ الرَّضَاعِ، وَأُخُوَّةِ الدِّينِ، وَأُخُوَّةِ الصَّدَاقَةِ، وَقَدْ نَطَقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْإِخْوَانِ فِي أُخُوَّةِ الدِّينِ وَمِثْلِهَا فِي الْمَوَالِي فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَجَاءَ فِي أُخُوَّةِ الْكُفْرِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (٥٩: ١١) إِلَخْ.
وَالْحَقُّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي شَرْطِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا هُنَا؛ لِأَنَّ الَّذِي أَوْرَدَ التَّفَصِّي الْمَذْكُورَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ هُوَ إِمَامُ الْجَدَلِيِّينَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا، وَنَقَلَهُ الْآلُوسِيُّ عَازِيًا إِيَّاهُ إِلَى بَعْضِ جُلَّةِ الْأَفَاضِلِ، وَفَصَّلَهُ بِأَوْسَعَ مِمَّا قَالَهُ الرَّازِيُّ، فَأَرَدْنَا أَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ يَغْتَرُّونَ عَادَةً بِكُلِّ مَبَاحِثِ هَؤُلَاءِ الْأَفَاضِلِ، وَالَّذِي دَعَا الرَّازِيَّ وَغَيْرَهُ إِلَى التَّفَصِّي مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى انْتِفَاءِ أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ بِانْتِفَاءِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ اسْتِشْكَالُهُ إِيَّاهُ بِالْفَقِيرِ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا تَقَعُ مِنْهُ، وَبِالْغَنِيِّ قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ بِمُرُورِ الْحَوْلِ، وَأَجَابُوا عَنْهُ فِي حَالِ عَدَمِ تَسْلِيمِ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَيُكْتَفَى مِنْهُ بِأَنْ يُقِرَّ بِحُكْمِهَا وَيَلْتَزِمَهُ عِنْدَ وُجُوبِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا
الْمَقَامِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يُشْتَرَطُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْهَا وَدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْإِذْعَانُ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَالِ، وَلِفَرِيضَتَيِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِالتَّعْيِينِ وَالتَّفْصِيلِ، وَأَمَّا أَفْرَادُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا يُطَالَبُونَ بِكُلٍّ مِنْ فَرِيضَتَيِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ تَحَقُّقِ فَرَضِيَّتِهِمَا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تُفْرَضُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تُفْرَضُ عَلَيْهِ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِثْلُهُ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ إِلَّا بِدُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَكْفِي فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَبْلَ افْتِرَاضِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَا يَقْتَضِيَانِهِ مِنْ عَمَلٍ بَدَنِيٍّ وَنَفْسِيٍّ بِالْإِجْمَالِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ أَيْضًا وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ.
(الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) وَهُوَ لُغَوِيٌّ مَحْضٌ، أَنَّ لَفْظَ أَخٍ أَصْلُهُ أَخَوٌ وَمُثَنَّاهُ أَخَوَانِ، وَفِي لُغَةٍ: أَخَانِ. وَيُجْمَعُ عَلَى إِخْوَةٍ وَإِخْوَانٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أُخُوَّةِ النَّسَبِ الْقَرِيبِ، أَيِّ الْأُخُوَّةِ مِنْ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَالنَّسَبِ الْبَعِيدِ كَالْجِنْسِ وَالْقَبِيلَةِ، وَفِي أُخُوَّةِ الرَّضَاعِ، وَأُخُوَّةِ الدِّينِ، وَأُخُوَّةِ الصَّدَاقَةِ، وَقَدْ نَطَقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْإِخْوَانِ فِي أُخُوَّةِ الدِّينِ وَمِثْلِهَا فِي الْمَوَالِي فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَجَاءَ فِي أُخُوَّةِ الْكُفْرِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (٥٩: ١١) إِلَخْ.
171
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ جَمْعِ إِخْوَةٍ فِي أُخُوَّةِ الدِّينِ فَفِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (٤٩: ١٠) وَسَائِرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي أُخُوَّةِ النَّسَبِ.
(الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ) هَذِهِ الْأُخُوَّةُ الدِّينِيَّةُ مِمَّا يَحْسُدُنَا عَلَيْهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَهِيَ لَا تَزَالُ أَقْوَى فِينَا مِنْهَا فِيهِمْ تَرَافُدًا وَتَعَاوُنًا، وَعَاصِمَةً لَنَا مِنْ فَوْضَى الشُّيُوعِيَّةِ، وَأَثَرَةِ الْمَادِّيَّةِ وَغَيْرِهَا، عَلَى مَا مُنِيَتْ بِهِ شُعُوبُنَا مِنَ الضَّعْفِ وَاخْتِلَالِ النِّظَامِ، وَاخْتِلَافِ الْجِنْسِيَّاتِ وَالْأَحْكَامِ، وَلَقَدْ كَانَتْ فِي عَصْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ اشْتِرَاكِيَّةً اخْتِيَارِيَّةً أَوْسَطُ أَحْوَالِهَا مُسَاوَاةُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَأَعْلَاهَا إِيثَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي أَنْصَارِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (٥٩: ٩) وَأَمَّا الْمُوَاسَاةُ بِمَا دُونَ الْمُسَاوَاةِ فَقَدْ كَانَتْ عَامَّةً فِي خَيْرِ الْقُرُونِ، ثُمَّ صَارَتْ تَضْعُفُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَلَا يَزَالُ لَهَا بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ هَذَا بَيَانٌ لِلْأَمْرِ الثَّانِي مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ. نَكْثُ الْغَزْلِ أَوِ الْحَبْلِ ضِدُّ إِبْرَامِهِ، وَهُوَ نَقْضُ فَتْلِهِ، وَحَلُّ الْخُيُوطِ الَّتِي تَأَلَّفَ مِنْهَا، وَإِرْجَاعُهَا إِلَى أَصْلِهَا، وَمِنْهُ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا (١٦: ٩٢) وَالْأَيْمَانُ الْعُهُودُ، يَضَعُ كُلٌّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ لِلْعَهْدِ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ الْآخَرِ، أَوْ مَا يُوَثَّقُ مِنْهَا بِالْقَسَمِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَنَكْثُ الْأَيْمَانِ هُنَا يُقَابِلُ فِيمَا قَبْلَهُ اسْتِقَامَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَالطَّعْنُ فِي دِينِنَا فِي الْجُمْلَةِ التَّالِيَةِ يُقَابِلُ فِيمَا فَرَضَ تَوْبَتَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ بِدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَتِهِ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ نَكَثَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَا أَبْرَمَتْهُ أَيْمَانُهُمْ أَوْ مَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ أَيْمَانَهُمْ مِنَ الْوَفَاءِ بَعْدَ عَهْدِهِمُ الَّذِي عَقَدُوهُ مَعَكُمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أَيْ: عَابُوهُ وَثَلَبُوهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي عَابَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَاتِ الْمُقَابِلَةَ لِهَذِهِ، وَمِنْهُ الطَّعْنُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ شُعَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ أَهْدَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دِمَاءَهُمْ، فَهَذَا الْعَطْفُ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْإِسْلَامِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ نَكْثِ الْأَيْمَانِ، وَنَقْضِ السَّلْمِ وَالْوَلَاءِ، كَالْقِتَالِ وَمُظَاهَرَةِ الْأَعْدَاءِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَقْيِيدَ حِلِّ قِتَالِهِمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا (٩: ٤) فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فَقَاتِلُوهُمْ فَهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ أَيْ قَادَةُ أَهْلِهِ وَحَمَلَةُ لِوَائِهِ، فَوَضَعَ الِاسْمَ الظَّاهِرَ الْمُبَيِّنَ لِشَرِّ صِفَاتِهِمْ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَئِمَّةِ الكفرِ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَصَنَادِيدُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ بِعَدَاوَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَقُودُونَهُمْ لِقِتَالِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ قَالَ هَذَا مِنْهُمْ أَبَا سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ مِمَّنْ كَانَ قُتِلَ فِي بَدْرٍ أَوْ بَعْدَهَا، وَذَلِكَ
مِنَ الْغَفْلَةِ بِمَكَانٍ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ
(الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ) هَذِهِ الْأُخُوَّةُ الدِّينِيَّةُ مِمَّا يَحْسُدُنَا عَلَيْهَا جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ، فَهِيَ لَا تَزَالُ أَقْوَى فِينَا مِنْهَا فِيهِمْ تَرَافُدًا وَتَعَاوُنًا، وَعَاصِمَةً لَنَا مِنْ فَوْضَى الشُّيُوعِيَّةِ، وَأَثَرَةِ الْمَادِّيَّةِ وَغَيْرِهَا، عَلَى مَا مُنِيَتْ بِهِ شُعُوبُنَا مِنَ الضَّعْفِ وَاخْتِلَالِ النِّظَامِ، وَاخْتِلَافِ الْجِنْسِيَّاتِ وَالْأَحْكَامِ، وَلَقَدْ كَانَتْ فِي عَصْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ اشْتِرَاكِيَّةً اخْتِيَارِيَّةً أَوْسَطُ أَحْوَالِهَا مُسَاوَاةُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَأَعْلَاهَا إِيثَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي أَنْصَارِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (٥٩: ٩) وَأَمَّا الْمُوَاسَاةُ بِمَا دُونَ الْمُسَاوَاةِ فَقَدْ كَانَتْ عَامَّةً فِي خَيْرِ الْقُرُونِ، ثُمَّ صَارَتْ تَضْعُفُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَلَا يَزَالُ لَهَا بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ هَذَا بَيَانٌ لِلْأَمْرِ الثَّانِي مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ. نَكْثُ الْغَزْلِ أَوِ الْحَبْلِ ضِدُّ إِبْرَامِهِ، وَهُوَ نَقْضُ فَتْلِهِ، وَحَلُّ الْخُيُوطِ الَّتِي تَأَلَّفَ مِنْهَا، وَإِرْجَاعُهَا إِلَى أَصْلِهَا، وَمِنْهُ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا (١٦: ٩٢) وَالْأَيْمَانُ الْعُهُودُ، يَضَعُ كُلٌّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ لِلْعَهْدِ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ الْآخَرِ، أَوْ مَا يُوَثَّقُ مِنْهَا بِالْقَسَمِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَنَكْثُ الْأَيْمَانِ هُنَا يُقَابِلُ فِيمَا قَبْلَهُ اسْتِقَامَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَالطَّعْنُ فِي دِينِنَا فِي الْجُمْلَةِ التَّالِيَةِ يُقَابِلُ فِيمَا فَرَضَ تَوْبَتَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ بِدُخُولِهِمْ فِي جَمَاعَتِهِ، وَالْمَعْنَى: وَإِنْ نَكَثَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَا أَبْرَمَتْهُ أَيْمَانُهُمْ أَوْ مَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ أَيْمَانَهُمْ مِنَ الْوَفَاءِ بَعْدَ عَهْدِهِمُ الَّذِي عَقَدُوهُ مَعَكُمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أَيْ: عَابُوهُ وَثَلَبُوهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي عَابَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَاتِ الْمُقَابِلَةَ لِهَذِهِ، وَمِنْهُ الطَّعْنُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ شُعَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ أَهْدَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ دِمَاءَهُمْ، فَهَذَا الْعَطْفُ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْإِسْلَامِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ نَكْثِ الْأَيْمَانِ، وَنَقْضِ السَّلْمِ وَالْوَلَاءِ، كَالْقِتَالِ وَمُظَاهَرَةِ الْأَعْدَاءِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَقْيِيدَ حِلِّ قِتَالِهِمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا (٩: ٤) فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فَقَاتِلُوهُمْ فَهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ أَيْ قَادَةُ أَهْلِهِ وَحَمَلَةُ لِوَائِهِ، فَوَضَعَ الِاسْمَ الظَّاهِرَ الْمُبَيِّنَ لِشَرِّ صِفَاتِهِمْ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَئِمَّةِ الكفرِ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَصَنَادِيدُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ بِعَدَاوَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَيَقُودُونَهُمْ لِقِتَالِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ قَالَ هَذَا مِنْهُمْ أَبَا سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ مِمَّنْ كَانَ قُتِلَ فِي بَدْرٍ أَوْ بَعْدَهَا، وَذَلِكَ
مِنَ الْغَفْلَةِ بِمَكَانٍ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ
172
تَبُوكَ وَبَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ (وَفِي أَثْنَائِهِ أَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ)، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ تَارِيخِ تَبْلِيغِهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الْخَوَارِجِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ بِجَعْلِ الضَّمَائِرِ فِيهَا رَاجِعَةً إِلَى الَّذِينَ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِلَخْ. وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ إِذْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ: فَقَاتِلُوهُمْ. فَوَضَعَ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ إِذَا نَكَثُوا فِي حَالِ الشِّرْكِ تَمَرُّدًا وَطُغْيَانًا وَطَرْحًا لِعَادَاتِ الْكِرَامِ الْأَوْفِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ، ثُمَّ آمَنُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَصَارُوا إِخْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَنَكَثُوا مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَعَدُوا يَطْعَنُونَ فِي دِينِ اللهِ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ دِينُ مُحَمَّدٍ بِشَيْءٍ، فَهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ، وَذَوُو الرِّيَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِيهِ، لَا يَشُقُّ كَافِرٌ غُبَارَهُمْ. وَقَالُوا: إِذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ طَعْنًا ظَاهِرًا جَازَ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ مَعْقُودٌ مَعَهُ عَلَى أَلَّا يَطْعَنَ، فَإِذَا طَعَنَ فَقَدْ نَكَثَ عَهْدَهُ وَخَرَجَ مِنَ الذِّمَّةِ اهـ.
وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي حَمَلَ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا، حَتَّى إِنَّهُمْ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُمَا قَالَا: مَا قُوتِلَ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ. يَعْنُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يَأْتُونَ بَعْدُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمُ الدَّجَّالُ وَقَوْمُهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَصْحَابِ الْعُهُودِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ حَالُهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَحَالِهِمْ. فَكُلُّ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ عَدَاوَتِهِمْ بِنَكْثِ عُهُودِهِمْ، وَالطَّعْنِ فِي دِينِهِمْ فَيَجِبُ عَدُّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَلَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُمْ أَهْلًا لِعَقْدِ الْعَهْدِ مَعَهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْمُسَاوَاةِ فَهُوَ أَعْدَى وَأَظْلَمُ مِمَّنْ يَنْكُثُونَ الْأَيْمَانَ، وَذَلِكَ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْجَامِعَيْنِ بَيْنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى شُعُوبِنَا وَبِلَادِنَا، وَبَثِّ الدُّعَاةِ فِيهَا لِلطَّعْنِ فِي دِينِنَا، لِصَدِّنَا عَنْهُ، وَاسْتِبْدَالِ دِينِهِمْ بِهِ أَوْ جَعْلِنَا مُعَطَّلِينَ لَا دِينَ لَنَا.
وَقَدْ عَلَّلَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ أَيْ: إِنَّ عُهُودَهُمْ كَلَا عُهُودَ؛ لِأَنَّهَا مُخَادَعَةٌ لِسَانِيَّةٌ لَمْ يَقْصِدُوا الْوَفَاءَ بِهَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (٤٨: ١١) فَهُمْ يَنْقُضُونَهَا فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ يَسْتَطِيعُونَ فِيهَا ذَلِكَ بِالظُّهُورِ أَوِ الْمُظَاهَرَةِ عَلَيْكُمْ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " إِيمَانَ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرُ آمَنَهُ إِيمَانًا بِمَعْنَى إِعْطَاءِ الْأَمَانِ. وَقَرَأَ هُوَ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ (أَئِمَّةَ) بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْبَاقُونَ بِتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا قَلْبُهَا يَاءً فَلَيْسَ قِرَاءَةً وَلَا لُغَةً، بَلْ هُوَ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ. كَمَا قَالُوا: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَيْ: قَاتِلُوهُمْ رَاجِينَ بِقِتَالِكُمْ إِيَّاهُمْ أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَنْ نَكْثِ أَيْمَانَهُمْ، وَنَقْضِ عُهُودِهِمْ، وَالضَّرَاوَةِ بِقِتَالِكُمْ كُلَّمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْقِتَالِ اتِّبَاعًا لِهَوَى النَّفْسِ أَوْ إِرَادَةَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا مِنْ سَلْبٍ وَكَسْبٍ وَانْتِقَامٍ مَحْضٍ بِالْأَوْلَى، وَتَقَدَّمَ
وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي حَمَلَ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى إِخْرَاجِ الْآيَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا، حَتَّى إِنَّهُمْ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُمَا قَالَا: مَا قُوتِلَ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ. يَعْنُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يَأْتُونَ بَعْدُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمُ الدَّجَّالُ وَقَوْمُهُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَصْحَابِ الْعُهُودِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ حَالُهُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَحَالِهِمْ. فَكُلُّ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ عَدَاوَتِهِمْ بِنَكْثِ عُهُودِهِمْ، وَالطَّعْنِ فِي دِينِهِمْ فَيَجِبُ عَدُّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَلَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُمْ أَهْلًا لِعَقْدِ الْعَهْدِ مَعَهُ عَلَى قَاعِدَةِ الْمُسَاوَاةِ فَهُوَ أَعْدَى وَأَظْلَمُ مِمَّنْ يَنْكُثُونَ الْأَيْمَانَ، وَذَلِكَ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْجَامِعَيْنِ بَيْنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى شُعُوبِنَا وَبِلَادِنَا، وَبَثِّ الدُّعَاةِ فِيهَا لِلطَّعْنِ فِي دِينِنَا، لِصَدِّنَا عَنْهُ، وَاسْتِبْدَالِ دِينِهِمْ بِهِ أَوْ جَعْلِنَا مُعَطَّلِينَ لَا دِينَ لَنَا.
وَقَدْ عَلَّلَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِقِتَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ أَيْ: إِنَّ عُهُودَهُمْ كَلَا عُهُودَ؛ لِأَنَّهَا مُخَادَعَةٌ لِسَانِيَّةٌ لَمْ يَقْصِدُوا الْوَفَاءَ بِهَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ (٤٨: ١١) فَهُمْ يَنْقُضُونَهَا فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ يَسْتَطِيعُونَ فِيهَا ذَلِكَ بِالظُّهُورِ أَوِ الْمُظَاهَرَةِ عَلَيْكُمْ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ " إِيمَانَ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرُ آمَنَهُ إِيمَانًا بِمَعْنَى إِعْطَاءِ الْأَمَانِ. وَقَرَأَ هُوَ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ (أَئِمَّةَ) بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْبَاقُونَ بِتَلْيِينِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا قَلْبُهَا يَاءً فَلَيْسَ قِرَاءَةً وَلَا لُغَةً، بَلْ هُوَ لَحْنٌ لَا يَجُوزُ. كَمَا قَالُوا: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَيْ: قَاتِلُوهُمْ رَاجِينَ بِقِتَالِكُمْ إِيَّاهُمْ أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَنْ نَكْثِ أَيْمَانَهُمْ، وَنَقْضِ عُهُودِهِمْ، وَالضَّرَاوَةِ بِقِتَالِكُمْ كُلَّمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْقِتَالِ اتِّبَاعًا لِهَوَى النَّفْسِ أَوْ إِرَادَةَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا مِنْ سَلْبٍ وَكَسْبٍ وَانْتِقَامٍ مَحْضٍ بِالْأَوْلَى، وَتَقَدَّمَ
173
نَظِيرُهُ فِي تَفْسِيرِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٨: ٥٧) وَهَذَا مِمَّا امْتَازَ بِهِ الْإِسْلَامُ عَلَى جَمِيعِ شَرَائِعِ الْأُمَمِ وَقَوَانِينهَا مِنْ جَعْلِ الْحَرْبِ ضَرُورَةً مُقَيَّدَةً بِإِرَادَةِ مَنْعِ الْبَاطِل، وَتَقْرِيرِ الْحَقِّ وَالْفَضَائِلِ.
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْكَافِرِ لَا تَنْعَقِدُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ عَلَيْنَا الْوَفَاءُ لِمَنْ وَفَّى بِهَا مِنْهُمْ وَاسْتَقَامَ عَلَى وَفَائِهِ وَالْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا نَفَاهَا عَنِ النَّاكِثِينَ، وَأَعْلَمَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى النَّكْثِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَيْمَانٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمَا كَانَ لَهُمْ نَكْثٌ وَقَدْ أَثْبَتَتْهُمَا لَهُمُ الْآيَةُ التَّالِيَةُ.
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
لَعَلَّ اللهَ عَلِمَ أَنَّ فِي نَفْسِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كُرْهًا لِقِتَالِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ لِأَمْنِهِمْ مِنْ ظُهُورِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَرَجَائِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي سَرَائِرِهِمْ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ، وَلَا مَصْلَحَةٍ لِلْإِسْلَامِ، وَعَلِمَ اللهُ أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ مَنْ يُزَيِّنُ ذَلِكَ لَهُمْ. وَاللهُ يُرِيدُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ تَطْهِيرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِهِ، وَتَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النِّفَاقِ وَدَنَاءَاتِهِ، لِهَذَا أَعَادَ الْكَرَّةَ إِلَى إِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ النَّاكِثِينَ الْمُعْتَدِينَ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْجَامِعَةِ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى قِتَالِهِمْ بِأَوْجَهِ وُجُوهِ الْأَدِلَّةِ وَأَقْوَاهَا، وَأَوْضَحِ أَسَالِيبِ الْبَيَانِ وَأَسْمَاهَا، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي يُحِيلُ النَّفْيَ إِثْبَاتًا كَمَا يُحَوِّلُ الْإِثْبَاتَ إِلَى النَّفْيِ، وَقَدْ دَخَلَ هُنَا عَلَى نَفْيِ الْقِتَالِ فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى إِثْبَاتِهِ وَوُجُوبِهِ، وَأَقَامَ عَلَى هَذَا الْوُجُوبِ ثَلَاثَ حُجَجٍ
(إِحْدَاهَا) نَكْثُهُمْ لِأَيْمَانِهِمُ الَّتِي حَلَفُوهَا، لِتَأْكِيدِ عَهْدِهِمُ الَّذِي عَقَدُوهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْكَافِرِ لَا تَنْعَقِدُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ عَلَيْنَا الْوَفَاءُ لِمَنْ وَفَّى بِهَا مِنْهُمْ وَاسْتَقَامَ عَلَى وَفَائِهِ وَالْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا نَفَاهَا عَنِ النَّاكِثِينَ، وَأَعْلَمَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى النَّكْثِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَيْمَانٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمَا كَانَ لَهُمْ نَكْثٌ وَقَدْ أَثْبَتَتْهُمَا لَهُمُ الْآيَةُ التَّالِيَةُ.
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
لَعَلَّ اللهَ عَلِمَ أَنَّ فِي نَفْسِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كُرْهًا لِقِتَالِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ لِأَمْنِهِمْ مِنْ ظُهُورِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَرَجَائِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي سَرَائِرِهِمْ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ، وَلَا مَصْلَحَةٍ لِلْإِسْلَامِ، وَعَلِمَ اللهُ أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ مَنْ يُزَيِّنُ ذَلِكَ لَهُمْ. وَاللهُ يُرِيدُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ تَطْهِيرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِهِ، وَتَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النِّفَاقِ وَدَنَاءَاتِهِ، لِهَذَا أَعَادَ الْكَرَّةَ إِلَى إِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ النَّاكِثِينَ الْمُعْتَدِينَ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْجَامِعَةِ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى قِتَالِهِمْ بِأَوْجَهِ وُجُوهِ الْأَدِلَّةِ وَأَقْوَاهَا، وَأَوْضَحِ أَسَالِيبِ الْبَيَانِ وَأَسْمَاهَا، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي يُحِيلُ النَّفْيَ إِثْبَاتًا كَمَا يُحَوِّلُ الْإِثْبَاتَ إِلَى النَّفْيِ، وَقَدْ دَخَلَ هُنَا عَلَى نَفْيِ الْقِتَالِ فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى إِثْبَاتِهِ وَوُجُوبِهِ، وَأَقَامَ عَلَى هَذَا الْوُجُوبِ ثَلَاثَ حُجَجٍ
(إِحْدَاهَا) نَكْثُهُمْ لِأَيْمَانِهِمُ الَّتِي حَلَفُوهَا، لِتَأْكِيدِ عَهْدِهِمُ الَّذِي عَقَدُوهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
174
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ - أَوْ لِعَهْدِهِمُ الَّذِي عَقَدَتْهُ أَيْمَانُهُمْ - عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ بِهَا النَّاسُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا فِي دِينِهِمْ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ نَكَثُوا بِمُظَاهَرَةِ حُلَفَائِهِمْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ حُلَفَاءِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَاءٍ يُسَمَّى الْهَجِيرَ، فَكَانَ نَكْثُهُمْ هَذَا مِنْ أَفْظَعِ مَا عُهِدَ مِنَ الْغَدْرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الشِّعْرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ كَانَ جَاءَهُ لِيُنْبِئَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ:
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ " وَتَجَهَّزَ إِلَى مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْبَغَوَيِّ وَغَيْرِهِ.
(ثَانِيَتُهَا) هَمُّهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ وَطَنِهِ، أَوْ حَبْسِهِ حَيْثُ لَا يَرَى أَحَدًا، وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ حَتَّى لَا يُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ، أَوْ قَتْلِهِ بِأَيْدِي عُصْبَةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ شُبَّانِ بُطُونِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، لِيَتَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ فَتَتَعَذَّرُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. ائْتَمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ فِي دَارِ نَدْوَتِهِمْ فَكَانَ هُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ هَاهُنَا عَلَى ذِكْرِ هَمِّهِمْ بِإِخْرَاجِهِ دُونَ هَمِّهِمْ بِحَبْسِهِ، وَهَمِّهِمْ بِقَتْلِهِ الَّذِي كَانَ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (٨: ٣٠) بَلْ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ إِخْرَاجَهُ وَإِخْرَاجَ مِنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ (٦٠: ١).
لَاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا | حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا |
كُنْتَ لَنَا أَبًا وَكُنَّا وَلَدًا | ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا |
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْرًا أَيَّدَا | وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا |
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا | فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبَدَا |
أَبْيَضَ مِثْلَ الشَّمْسِ يَسْمُو صَعِدَا | إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا |
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا | وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا |
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْهَجِيرِ هُجَّدًا | وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدًا |
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَرْعَى أَحَدَا | وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا |
(ثَانِيَتُهَا) هَمُّهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ وَطَنِهِ، أَوْ حَبْسِهِ حَيْثُ لَا يَرَى أَحَدًا، وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ حَتَّى لَا يُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ، أَوْ قَتْلِهِ بِأَيْدِي عُصْبَةٍ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ شُبَّانِ بُطُونِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، لِيَتَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ فَتَتَعَذَّرُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ. ائْتَمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ فِي دَارِ نَدْوَتِهِمْ فَكَانَ هُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ هَاهُنَا عَلَى ذِكْرِ هَمِّهِمْ بِإِخْرَاجِهِ دُونَ هَمِّهِمْ بِحَبْسِهِ، وَهَمِّهِمْ بِقَتْلِهِ الَّذِي كَانَ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ (٨: ٣٠) بَلْ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ إِخْرَاجَهُ وَإِخْرَاجَ مِنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ (٦٠: ١).
175
(ثَالِثَتُهَا) كَوْنُهُمْ كَانُوا هُمُ الْبَادِئِينَ بِقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَدْرٍ، إِذْ قَالُوا بَعْدَ الْعِلْمِ بِنَجَاةِ الْعِيرِ الَّتِي كَانُوا خَرَجُوا لِإِنْقَاذِهَا: لَا نَنْصَرِفُ حَتَّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَنُقِيمَ فِي بَدْرٍ أَيَّامًا نَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَى رُءُوسِنَا الْقِيَانُ. وَكَذَا فِي أُحُدٍ
وَالْخَنْدَقِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ بِغَدْرِهِمْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْمُؤْمِنُ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي جَوَامِعِ كَلِمِهِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي قَوَاعِدِ الْعَدْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْجَزَاءَ وَاحِدَةٌ بِوَاحِدَةٍ وَأَنَّ الْبَادِئَ أَظْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْحُجَجِ: أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ أَيْ أَتَتْرُكُونَ قِتَالَهُمْ خَشْيَةً لَهُمْ، وَجُبْنًا مِنْكُمْ؟ إِنْ كَانَتِ الْخَشْيَةُ هِيَ الْمَانِعَةُ لَكُمْ مِنْ قِتَالِهِمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ حَقَّ الْإِيمَانِ لَا يَخَافُ، وَلَا يَخْشَى إِلَّا اللهَ تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنْ خَشِيَ غَيْرَهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي أَسْبَابِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، فَلَا يُرَجِّحُ خَشْيَتَهُ عَلَى خَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى عِصْيَانِهِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، بَلْ يُرَجِّحُ خَشْيَتَهُ تَعَالَى عَلَى خَشْيَةِ غَيْرِهِ، بَلْ لَا يَخْشَى غَيْرَهُ حَقَّ الْخَشْيَةِ.
قِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الِامْتِنَاعَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ خَوْفًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَالِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِيهَا هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهَدْمِ دَوْلَةِ الشِّرْكِ، وَقَدْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُمْ بِغَيْرِ جُبْنٍ وَلَا إِحْجَامٍ وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ فِي عُنْفُوَانِ قُوَّتِهِمْ دَوْلَةً وَكَثْرَةً وَثَرْوَةً. وَإِنَّمَا هَذَا احْتِجَاجٌ آخَرُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَخْلُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ، وَالسَّمَّاعِينَ لَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ مَا عَظَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَمْرِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَيَكْرَهُونَ الْقِتَالَ لِذَاتِهِ إِذَا لَمْ تُوجِبْهُ الضَّرُورَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (٢: ٢١٦) الْآيَةَ. أَوْ لِرَجَاءِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بِدُونِهِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَهَدْمِ دَوْلَةِ الشِّرْكِ - فَهَذَا الَّذِي اقْتَضَى كُلَّ هَذِهِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ
عَلَى كَوْنِ نَبْذِ عُهُودِ جُمْهُورِ الْمُشْرِكِينَ دُونَ مَنْ وَفَّى مِنْهُمْ بِعَهْدِهِ حَقًّا وَعَدَلًا، لَا يَتَضَمَّنُ خِيَانَةً وَلَا غَدْرًا، وَأَنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ - وَهَذِهِ حَالُهُمْ - خَطَرٌ لَا تُؤْمَنُ عَاقِبَتُهُ فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ سَوْقِ تِلْكَ الْحُجَجَ الثَّلَاثِ الَّتِي تَكْفِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِإِيجَابِ قِتَالِهِمْ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ قِيَامِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ مَنْ سَبَبٍ يَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَشْيَةَ لَهُمْ وَالْخَوْفَ مِنْ قُوَّتِهِمْ، وَخَشْيَةُ اللهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ خَشْيَتِهِمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ فِي إِيمَانِكُمْ فَاخْشَوْهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ رَأَيْتُمْ كَيْفَ نَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الْكَثِيرَةِ، إِذْ كُنْتُمْ
وَالْخَنْدَقِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ بِغَدْرِهِمْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْمُؤْمِنُ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي جَوَامِعِ كَلِمِهِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي قَوَاعِدِ الْعَدْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْجَزَاءَ وَاحِدَةٌ بِوَاحِدَةٍ وَأَنَّ الْبَادِئَ أَظْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْحُجَجِ: أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ أَيْ أَتَتْرُكُونَ قِتَالَهُمْ خَشْيَةً لَهُمْ، وَجُبْنًا مِنْكُمْ؟ إِنْ كَانَتِ الْخَشْيَةُ هِيَ الْمَانِعَةُ لَكُمْ مِنْ قِتَالِهِمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ حَقَّ الْإِيمَانِ لَا يَخَافُ، وَلَا يَخْشَى إِلَّا اللهَ تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنْ خَشِيَ غَيْرَهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي أَسْبَابِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، فَلَا يُرَجِّحُ خَشْيَتَهُ عَلَى خَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى عِصْيَانِهِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، بَلْ يُرَجِّحُ خَشْيَتَهُ تَعَالَى عَلَى خَشْيَةِ غَيْرِهِ، بَلْ لَا يَخْشَى غَيْرَهُ حَقَّ الْخَشْيَةِ.
قِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الِامْتِنَاعَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ خَوْفًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَالِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِيهَا هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهَدْمِ دَوْلَةِ الشِّرْكِ، وَقَدْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُمْ بِغَيْرِ جُبْنٍ وَلَا إِحْجَامٍ وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ فِي عُنْفُوَانِ قُوَّتِهِمْ دَوْلَةً وَكَثْرَةً وَثَرْوَةً. وَإِنَّمَا هَذَا احْتِجَاجٌ آخَرُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَخْلُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ، وَالسَّمَّاعِينَ لَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ مَا عَظَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَمْرِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَيَكْرَهُونَ الْقِتَالَ لِذَاتِهِ إِذَا لَمْ تُوجِبْهُ الضَّرُورَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (٢: ٢١٦) الْآيَةَ. أَوْ لِرَجَاءِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ بِدُونِهِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَهَدْمِ دَوْلَةِ الشِّرْكِ - فَهَذَا الَّذِي اقْتَضَى كُلَّ هَذِهِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ
عَلَى كَوْنِ نَبْذِ عُهُودِ جُمْهُورِ الْمُشْرِكِينَ دُونَ مَنْ وَفَّى مِنْهُمْ بِعَهْدِهِ حَقًّا وَعَدَلًا، لَا يَتَضَمَّنُ خِيَانَةً وَلَا غَدْرًا، وَأَنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ - وَهَذِهِ حَالُهُمْ - خَطَرٌ لَا تُؤْمَنُ عَاقِبَتُهُ فَهُوَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ سَوْقِ تِلْكَ الْحُجَجَ الثَّلَاثِ الَّتِي تَكْفِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِإِيجَابِ قِتَالِهِمْ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ قِيَامِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ مَنْ سَبَبٍ يَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَشْيَةَ لَهُمْ وَالْخَوْفَ مِنْ قُوَّتِهِمْ، وَخَشْيَةُ اللهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ خَشْيَتِهِمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ فِي إِيمَانِكُمْ فَاخْشَوْهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ رَأَيْتُمْ كَيْفَ نَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الْكَثِيرَةِ، إِذْ كُنْتُمْ
176
ضُعَفَاءَ وَكَانُوا أَقْوِيَاءَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ حَقَّ الْإِيمَانِ يَكُونُ أَشْجَعَ النَّاسِ وَأَعْلَاهُمْ هِمَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْشَى إِلَّا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ إِقَامَةِ هَذِهِ الْحُجَجِ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِهِمْ، وَدَحْضِ شُبْهَةِ الْمَانِعِ مِنْهُ، صَرَّحَ بِالْأَمْرِ الْقَطْعِيِّ بِهِ مَعَ الْوَعْدِ الْقَطْعِيِّ، بِإِظْهَارِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ الظُّهُورِ وَأَتَمَّهُ، وَهَذَا الْوَعْدُ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ التَّفْصِيلِيَّةِ فِي حَالٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهُوَ لَيْسَ كَالْوَعْدِ الْعَامِّ الْمُجْمَلِ فِي نَصْرِ اللهِ لِرُسُلِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ تَكُونُ لَهُمْ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ قَبْلَهَا سِجَالًا لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُهُ تَعَالَى مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا. فَقَوْلُهُ: قَاتِلُوهُمْ مَعْنَاهُ: بَاشِرُوا قِتَالَهُمْ كَمَا أُمِرْتُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ بِتَمْكِينِهَا مِنْ رِقَابِهِمْ قَتْلًا، وَمِنْ صُدُورِهِمْ وَنُحُورِهِمْ طَعْنًا، يُعْقِبُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ يَأْسًا، لَا يَدَعُ فِي أَنْفُسِهِمْ بَأْسًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْنَدَ التَّعْذِيبَ إِلَى اسْمِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَسْبَابِهِ مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَمَا يُفْضِيَانِ إِلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، وَكُلُّ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَ فَإِنَّهُمْ يُصَابُونَ بِالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَيُقْتَلُ بَعْضُهُمْ وَيُجْرَحُ بَعْضٌ، وَلَا يُسَمُّونَ مُعَذَّبِينَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْغَالِبَ وَالْمَغْلُوبَ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ هَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيُحْدِثُ فِي أَنْفُسِ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذَا الْقِتَالِ أَلَمًا نَفْسِيًّا لَعَلَّ أَظْهَرَ أَسْبَابِهِ الْيَأْسُ وَسَلْبُ الْبَأْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُخْزِهِمْ بِذُلِّ الْأَسْرِ وَالْقَهْرِ وَالْفَقْرِ لِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ النَّصْرِ وَأَتَمَّهُ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ قُوَّةٌ وَلَا سُلْطَانٌ يَعُودُونَ بِهِ إِلَى قِتَالِكُمْ كَمَا كَانَ شَأْنُهُمْ بَعْدَ نَصْرِكُمْ
عَلَيْهِمْ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِهَا وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قَدْ نَالُوا مِنْهُمْ مَا نَالُوا فِي سُلْطَانِهِمْ، فَكَانَ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ مَوْجِدَةِ الْقَهْرِ وَالذُّلِّ مَا لَا شِفَاءَ لَهُ إِلَّا بِهَذَا النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ غَدَرَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ كَخُزَاعَةَ، وَالَّذِينَ كَانُوا فِي دَارِ الشِّرْكِ عَاجِزِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ الَّذِي كَانَ وَقَرَ فِيهَا إِلَى هَذَا الْعَهْدِ مِنْ غَدْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ ظُلْمِهِمْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُجِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَشِفَاءُ الصُّدُورِ بِعِزِّ الْإِسْلَامِ بِالنَّصْرِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِهَؤُلَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ هُوَ غَيْرُ ذَهَابِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحِقْدِ عَلَى مَنْ غَدَرَهُمْ وَظَلَمَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ كَرَاهَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِقِتَالِهِمْ حِرْصُهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِفَتْحِ مَكَّةَ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِالْإِقْنَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، أَخْبَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا التَّعْذِيبَ وَالْخِزْيَ الَّذِي سَيُنْزِلُهُ بِهِمْ لَا يَعُمُّهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بِمَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ، وَأَحَاطَ بِهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلْإِيمَانِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ سَيَتُوبُ مِنْ شِرْكِهِ، وَيَقْبَلُ اللهُ تَوْبَتَهُ فَقَالَ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ فَيُوَفِّقُهُ لِلْإِيمَانِ وَيَقْبَلُهُ مِنْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنِ اسْتِعْدَادِهِمْ فِي حَالِهِمْ، وَمُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ، وَيَشْرَعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيهِمْ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِ، وَإِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. فَمَشِيئَتُهُ فِي التَّائِبِينَ وَالْمُصِرِّينَ تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِشُئُونِ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ فِي السُّنَنِ الَّتِي وَضَعَهَا لِسَيْرِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَفِي الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا لِهِدَايَةِ
ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ إِقَامَةِ هَذِهِ الْحُجَجِ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِهِمْ، وَدَحْضِ شُبْهَةِ الْمَانِعِ مِنْهُ، صَرَّحَ بِالْأَمْرِ الْقَطْعِيِّ بِهِ مَعَ الْوَعْدِ الْقَطْعِيِّ، بِإِظْهَارِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ الظُّهُورِ وَأَتَمَّهُ، وَهَذَا الْوَعْدُ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ التَّفْصِيلِيَّةِ فِي حَالٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهُوَ لَيْسَ كَالْوَعْدِ الْعَامِّ الْمُجْمَلِ فِي نَصْرِ اللهِ لِرُسُلِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ أَنَّ الْعَاقِبَةَ تَكُونُ لَهُمْ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ قَبْلَهَا سِجَالًا لِتَرْبِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُهُ تَعَالَى مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا. فَقَوْلُهُ: قَاتِلُوهُمْ مَعْنَاهُ: بَاشِرُوا قِتَالَهُمْ كَمَا أُمِرْتُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ بِتَمْكِينِهَا مِنْ رِقَابِهِمْ قَتْلًا، وَمِنْ صُدُورِهِمْ وَنُحُورِهِمْ طَعْنًا، يُعْقِبُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ يَأْسًا، لَا يَدَعُ فِي أَنْفُسِهِمْ بَأْسًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَسْنَدَ التَّعْذِيبَ إِلَى اسْمِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَسْبَابِهِ مِنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَمَا يُفْضِيَانِ إِلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، وَكُلُّ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَ فَإِنَّهُمْ يُصَابُونَ بِالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَيُقْتَلُ بَعْضُهُمْ وَيُجْرَحُ بَعْضٌ، وَلَا يُسَمُّونَ مُعَذَّبِينَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْغَالِبَ وَالْمَغْلُوبَ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ هَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيُحْدِثُ فِي أَنْفُسِ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذَا الْقِتَالِ أَلَمًا نَفْسِيًّا لَعَلَّ أَظْهَرَ أَسْبَابِهِ الْيَأْسُ وَسَلْبُ الْبَأْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُخْزِهِمْ بِذُلِّ الْأَسْرِ وَالْقَهْرِ وَالْفَقْرِ لِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أَكْمَلَ النَّصْرِ وَأَتَمَّهُ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ لَهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ قُوَّةٌ وَلَا سُلْطَانٌ يَعُودُونَ بِهِ إِلَى قِتَالِكُمْ كَمَا كَانَ شَأْنُهُمْ بَعْدَ نَصْرِكُمْ
عَلَيْهِمْ فِي بَدْرٍ وَغَيْرِهَا وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قَدْ نَالُوا مِنْهُمْ مَا نَالُوا فِي سُلْطَانِهِمْ، فَكَانَ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ مَوْجِدَةِ الْقَهْرِ وَالذُّلِّ مَا لَا شِفَاءَ لَهُ إِلَّا بِهَذَا النَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِينَ غَدَرَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ كَخُزَاعَةَ، وَالَّذِينَ كَانُوا فِي دَارِ الشِّرْكِ عَاجِزِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ الَّذِي كَانَ وَقَرَ فِيهَا إِلَى هَذَا الْعَهْدِ مِنْ غَدْرِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ ظُلْمِهِمْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُجِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَشِفَاءُ الصُّدُورِ بِعِزِّ الْإِسْلَامِ بِالنَّصْرِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِهَؤُلَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ هُوَ غَيْرُ ذَهَابِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحِقْدِ عَلَى مَنْ غَدَرَهُمْ وَظَلَمَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ كَرَاهَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِقِتَالِهِمْ حِرْصُهُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِفَتْحِ مَكَّةَ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِالْإِقْنَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، أَخْبَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا التَّعْذِيبَ وَالْخِزْيَ الَّذِي سَيُنْزِلُهُ بِهِمْ لَا يَعُمُّهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بِمَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ، وَأَحَاطَ بِهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلْإِيمَانِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ سَيَتُوبُ مِنْ شِرْكِهِ، وَيَقْبَلُ اللهُ تَوْبَتَهُ فَقَالَ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ فَيُوَفِّقُهُ لِلْإِيمَانِ وَيَقْبَلُهُ مِنْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنِ اسْتِعْدَادِهِمْ فِي حَالِهِمْ، وَمُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ، وَيَشْرَعُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ فِيهِمْ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِ، وَإِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. فَمَشِيئَتُهُ فِي التَّائِبِينَ وَالْمُصِرِّينَ تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِشُئُونِ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ فِي السُّنَنِ الَّتِي وَضَعَهَا لِسَيْرِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَفِي الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا لِهِدَايَةِ
177
النَّاسِ.
وَمِنْ سُنَنِهِ تَفَاوَتُ الْبِشْرِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَقَابِلِيَّةُ التَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ كَدَرَجَاتِ تَأْثِيرِ الشِّرْكِ فِي أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ مِنْ قُوَّةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِصْرَارُ إِلَى الْمَمَاتِ، وَضَعْفٍ قَابِلٍ لِلزَّوَالِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، بِمَا يَطْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ، وَلَيْسَتْ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ إِكْرَاهًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ كَمَا تَزْعُمُهُ الْجَبْرِيَّةُ، وَلَا مِنَ الْخُلُقِ الْأَنِفِ الَّذِي تَزْعُمُهُ الْقَدَرِيَّةُ، بَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْمَقَادِيرِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِآيَاتِ التَّنْزِيلِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَلَوْ كَانَ بِالْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ اخْتِيَارٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ،
وَلَوْ كَانَ بِالْخُلُقِ الْمُسْتَأْنَفِ لَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَابَاةِ فِي التَّفْصِيلِ الْإِلَهِيِّ الْمَحْضِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْحِكْمَةَ. وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يُحَابِيَ أَعْدَى أَعْدَاءِ رَسُولِهِ وَأَبْغَضَهُمْ إِلَيْهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَوَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ أَخِيهِ فِي الرَّضَاعِ وَعَمِّهِ وَأَبِي سُفْيَانَ الْمُحَرِّضِ الْأَكْبَرِ لِلْعَرَبِ عَلَى قِتَالِهِ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَخْلُقُ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَيُجْبِرُهُمْ عَلَيْهِ، مِنْ حَيْثُ يَحْرِمُ مِنْهُ أَبَا طَالِبٍ عَمَّهُ وَنَاصِرَهُ بِعَصَبَةِ النَّسَبِ وَهُوَ أَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُجْبِرَةُ وَمِنْهُمْ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْجَبْرِ وَنَفْيِ الِاخْتِيَارِ فِيمَا هُوَ أَظْهَرُ مِمَّا ذُكِرَ، وَهُوَ إِخْبَارُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلُ بَعْضَهُمْ، وَيَجْرَحُ آخَرِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا يَدُلُّ بِزَعْمِهِمْ عَلَى أَنَّ أَيْدِيَهُمْ كَسُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ لَيْسَتْ إِلَّا آلَاتٌ لَا تَأْثِيرَ لَهَا أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّ الْكَسْبَ الَّذِي هُوَ مُنَاطُ التَّكْلِيفِ اسْمٌ لَا مُسَمَّى لَهُ، وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمْ أَقْوَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (٨: ١٧) فَإِنَّ فِي هَذَا إِثْبَاتًا لِإِسْنَادِ الرَّمْي إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ جِهَةِ مُبَاشَرَتِهِ لِأَخْذِ التُّرَابِ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِلْقَائِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ فِي جِهَتِهِمْ، مَعَ نَفْيِهِ عَنْهُ ثُمَّ إِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ أَثَرِهِ وَهُوَ وُصُولُ التُّرَابِ إِلَى وُجُوهِهِمْ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ أُسْنِدَ التَّعْذِيبُ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُهُ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا آنِفًا أَنَّ لِهَذَا التَّعْذِيبِ مَعْنًى وَرَاءَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ الَّذِي هُوَ كَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَمَلُهُمْ هُوَ فِعْلُ اللهِ وَحْدَهُ، عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فَوْقَ الْمَذْهَبَيْنِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّعْذِيبِ الْقَتْلُ وَالْجَرْحُ كَمَا تَعْلَمُ مِنْ قَوْلِ كَبِيرِي نُظَّارِهِمْ وَمَا نُقَفِّي بِهِ عَلَيْهِ تَأْيِيدًا لِلْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ.
أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ إِمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ عَنِ الْآيَةِ مُحْتَجًّا عَلَى الْمُجْبِرَةِ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيْدِي الْكَافِرِينَ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُكَذِّبُ أَنْبِيَاءَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكُفَّارِ، وَيَلْعَنُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُجْبِرَةِ عُلِمَ أَنَّهُ
تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا نَسَبَ مَا ذَكَرَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَصَلَ بِأَمْرِهِ وَأَلْطَافِهِ كَمَا يُضِيفُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ إِلَيْهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ اهـ.
وَمِنْ سُنَنِهِ تَفَاوَتُ الْبِشْرِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَقَابِلِيَّةُ التَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ كَدَرَجَاتِ تَأْثِيرِ الشِّرْكِ فِي أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ مِنْ قُوَّةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِصْرَارُ إِلَى الْمَمَاتِ، وَضَعْفٍ قَابِلٍ لِلزَّوَالِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، بِمَا يَطْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ، وَلَيْسَتْ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ يَتُوبُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ إِكْرَاهًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ كَمَا تَزْعُمُهُ الْجَبْرِيَّةُ، وَلَا مِنَ الْخُلُقِ الْأَنِفِ الَّذِي تَزْعُمُهُ الْقَدَرِيَّةُ، بَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْمَقَادِيرِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِآيَاتِ التَّنْزِيلِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَلَوْ كَانَ بِالْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ اخْتِيَارٌ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ،
وَلَوْ كَانَ بِالْخُلُقِ الْمُسْتَأْنَفِ لَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَابَاةِ فِي التَّفْصِيلِ الْإِلَهِيِّ الْمَحْضِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْحِكْمَةَ. وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يُحَابِيَ أَعْدَى أَعْدَاءِ رَسُولِهِ وَأَبْغَضَهُمْ إِلَيْهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَوَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ أَخِيهِ فِي الرَّضَاعِ وَعَمِّهِ وَأَبِي سُفْيَانَ الْمُحَرِّضِ الْأَكْبَرِ لِلْعَرَبِ عَلَى قِتَالِهِ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَخْلُقُ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَيُجْبِرُهُمْ عَلَيْهِ، مِنْ حَيْثُ يَحْرِمُ مِنْهُ أَبَا طَالِبٍ عَمَّهُ وَنَاصِرَهُ بِعَصَبَةِ النَّسَبِ وَهُوَ أَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْمُجْبِرَةُ وَمِنْهُمْ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْجَبْرِ وَنَفْيِ الِاخْتِيَارِ فِيمَا هُوَ أَظْهَرُ مِمَّا ذُكِرَ، وَهُوَ إِخْبَارُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلُ بَعْضَهُمْ، وَيَجْرَحُ آخَرِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا يَدُلُّ بِزَعْمِهِمْ عَلَى أَنَّ أَيْدِيَهُمْ كَسُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ لَيْسَتْ إِلَّا آلَاتٌ لَا تَأْثِيرَ لَهَا أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّ الْكَسْبَ الَّذِي هُوَ مُنَاطُ التَّكْلِيفِ اسْمٌ لَا مُسَمَّى لَهُ، وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمْ أَقْوَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (٨: ١٧) فَإِنَّ فِي هَذَا إِثْبَاتًا لِإِسْنَادِ الرَّمْي إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ جِهَةِ مُبَاشَرَتِهِ لِأَخْذِ التُّرَابِ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِلْقَائِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ فِي جِهَتِهِمْ، مَعَ نَفْيِهِ عَنْهُ ثُمَّ إِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ أَثَرِهِ وَهُوَ وُصُولُ التُّرَابِ إِلَى وُجُوهِهِمْ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ أُسْنِدَ التَّعْذِيبُ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُهُ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا آنِفًا أَنَّ لِهَذَا التَّعْذِيبِ مَعْنًى وَرَاءَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ الَّذِي هُوَ كَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَمَلُهُمْ هُوَ فِعْلُ اللهِ وَحْدَهُ، عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فَوْقَ الْمَذْهَبَيْنِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّعْذِيبِ الْقَتْلُ وَالْجَرْحُ كَمَا تَعْلَمُ مِنْ قَوْلِ كَبِيرِي نُظَّارِهِمْ وَمَا نُقَفِّي بِهِ عَلَيْهِ تَأْيِيدًا لِلْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ.
أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ إِمَامُ الْمُعْتَزِلَةِ عَنِ الْآيَةِ مُحْتَجًّا عَلَى الْمُجْبِرَةِ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيْدِي الْكَافِرِينَ، وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُكَذِّبُ أَنْبِيَاءَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكُفَّارِ، وَيَلْعَنُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُجْبِرَةِ عُلِمَ أَنَّهُ
تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا نَسَبَ مَا ذَكَرَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَصَلَ بِأَمْرِهِ وَأَلْطَافِهِ كَمَا يُضِيفُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ إِلَيْهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ اهـ.
178
حَكَى عَنْهُ هَذَا الْجَوَابَ الرَّازِيُّ مُدْرِهُ الْأَشَاعِرَةِ فِي تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ وَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَهُ يُجِيبُونَ عَنْهُ بِمَا خُلَاصَتُهُ أَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ كُلَّ مَا أَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ اعْتِقَادًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْطِقُونَ بِهِ أَدَبًا مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَالرَّازِيُّ جَبْرِيٌّ قُحٌّ، وَلَا يَلْتَزِمُ كُلُّ الْأَشَاعِرَةِ مَا يَلْتَزِمُهُ، وَيُسْنِدُهُ إِلَيْهِمْ، فَهَذَا الْبَيْضَاوِيُّ مِنْ فَحُولِهِمْ يُفَسِّرُ تَعْذِيبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ تَفْنِيدُ الْمَذْهَبَيْنِ، وَبَيَانُ أَنَّ خَلْقَهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يُنَافِي خَلْقَهُ الْإِرَادَةَ وَالِاخْتِيَارَ لِلْعِبَادِ فِيمَا أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَإِنَّمَا أَعَدْنَاهُ هُنَا؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الْمُجْبِرَةِ فِي جُمْلَةِ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ أَقْوَى مِنْهَا فِي كُلِّ مَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى الْجَبْرِ، وَسَيَأْتِي مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٥٦: ٦٣ و٦٤) وَفَهْمُ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَخْتَلِفُ التَّعْبِيرُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الَّتِي ضَلَّتِ الْفِرَقُ بِنَظَرِ كُلٍّ مِنْهَا إِلَى إِحْدَاهَا دُونَ الْأُخْرَى مُطْلَقًا، أَوْ جَعْلِهَا مَا وَافَقَ مَذْهَبَهَا أَصْلًا يَرُدُّ غَيْرَهُ إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا، وَمَثَلُ الْجَبْرِيَّةِ مَعَ الْقَدَرِيَّةِ هُنَا كَمَثَلِ الْمُرْجِئَةِ مَعَ الْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (١٥: ٩١) وَضَرَبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ.
وَالَّذِي حَقَّقْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِرَارًا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ، وَبِالْمِئَاتِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَنَّ لِلنَّاسِ أَفْعَالًا يَأْتُونَهَا بِإِرَادَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ تُسْنَدُ إِلَيْهِمْ، وَيُشْتَقُّ مِنْهَا صِفَاتٌ لَهُمْ، وَيَسْتَحِقُّونَ الْجَزَاءَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالِاخْتِيَارَ، كَمَا أَعْطَاهُمُ الْأَعْضَاءَ وَالْحَوَاسَّ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَهُمْ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَهُوَ يُسْنِدُ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ، وَيَصِفُهُمْ بِهَا فِي
مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَقَامَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي هَذَا الْإِسْنَادَ أَوِ الْوَصْفَ، وَيُسْنِدُ بَعْضَهَا إِلَى ذَاتِهِ وَإِلَى مَشِيئَتِهِ، وَيَصِفُ نَفْسَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَصْفُهُ مِنْهَا فِي الْمَقَامَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٥٦: ٦٤) قَالَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ (٤٨: ٢٩) وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَوَصْفُ الزَّارِعِ لَمْ يَرِدْ فِي أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى، وَلَا فِي صِفَاتِهِ مُسْتَقِلًّا. كَمَا أَنَّهُ لَا يُوصَفُ تَعَالَى بِأَمْثَالِهِ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلَا تُسْنَدُ إِلَيْهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَأَخَصِّ أَفْعَالِ الضَّعْفِ وَالنَّقْصِ كَالنَّوْمِ وَالتَّعَبِ وَالْأَلَمِ، وَإِنَّمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ تَعَالَى بَعْضُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي لَا نَقُصُّ فِيهَا بِأُسْلُوبِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَتَقْرِيرِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَقَوْلِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى بَعْثِهِمْ مِنْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٦: ٥٨ و٥٩) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. فَاسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِخَلْقِهِ لِلْمَنِيِّ الَّذِي يُولَدُونَ مِنْهُ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ فِعْلَ إِخْرَاجِهِ بِالْجِمَاعِ وَإِلَى ذَاتِهِ خَلْقَ
وَالَّذِي حَقَّقْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِرَارًا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ، وَبِالْمِئَاتِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَنَّ لِلنَّاسِ أَفْعَالًا يَأْتُونَهَا بِإِرَادَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ تُسْنَدُ إِلَيْهِمْ، وَيُشْتَقُّ مِنْهَا صِفَاتٌ لَهُمْ، وَيَسْتَحِقُّونَ الْجَزَاءَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالِاخْتِيَارَ، كَمَا أَعْطَاهُمُ الْأَعْضَاءَ وَالْحَوَاسَّ، وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَهُمْ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَهُوَ يُسْنِدُ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَعْمَالَ، وَيَصِفُهُمْ بِهَا فِي
مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَقَامَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي هَذَا الْإِسْنَادَ أَوِ الْوَصْفَ، وَيُسْنِدُ بَعْضَهَا إِلَى ذَاتِهِ وَإِلَى مَشِيئَتِهِ، وَيَصِفُ نَفْسَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَصْفُهُ مِنْهَا فِي الْمَقَامَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٥٦: ٦٤) قَالَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ (٤٨: ٢٩) وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ. وَوَصْفُ الزَّارِعِ لَمْ يَرِدْ فِي أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى، وَلَا فِي صِفَاتِهِ مُسْتَقِلًّا. كَمَا أَنَّهُ لَا يُوصَفُ تَعَالَى بِأَمْثَالِهِ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَلَا تُسْنَدُ إِلَيْهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَأَخَصِّ أَفْعَالِ الضَّعْفِ وَالنَّقْصِ كَالنَّوْمِ وَالتَّعَبِ وَالْأَلَمِ، وَإِنَّمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ تَعَالَى بَعْضُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي لَا نَقُصُّ فِيهَا بِأُسْلُوبِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَتَقْرِيرِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَقَوْلِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى بَعْثِهِمْ مِنْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٦: ٥٨ و٥٩) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. فَاسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِخَلْقِهِ لِلْمَنِيِّ الَّذِي يُولَدُونَ مِنْهُ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ فِعْلَ إِخْرَاجِهِ بِالْجِمَاعِ وَإِلَى ذَاتِهِ خَلْقَ
179
مَادَّتِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالنَّبَاتِ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ حَرْثَهُ، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ زَرْعَهُ، أَيْ إِنْبَاتَهُ وَجَعْلَهُ حَبًّا وَثَمَرًا يُؤْكَلُ، فَيَتَوَلَّدُ ذَلِكَ الْمَنِيُّ مِنْهُ بِدُونِ فِعْلٍ لَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ بِالْمَاءِ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ شُرْبَهُ، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ إِنْزَالَهُ، ثُمَّ بِالنَّارِ الَّتِي يُعَالِجُونَ بِهَا طَعَامَهُمُ الْمُؤَلَّفَ غَالِبًا مِنَ النَّبَاتِ وَالْمَاءِ، فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ إِيرَاءَهَا وَإِيقَادَهَا بِحَكِّ الزَّنْدَيْنِ مِنْ شَجَرَتِهَا، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ إِنْشَاءَ الشَّجَرَةِ. فَعُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ كُلِّهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّرْعِ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٥٦: ٦٤) ؟ الْإِنْبَاتُ لِمَا يُزْرَعُ حَتَّى يَصِيرَ حَبًّا وَثَمَرًا يُؤْكَلُ، وَلَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، لِتُقَرِّبَ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَهُ مِنَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْفِي عَنْهُمْ فِعْلَ زَرْعِ الْحُبُوبِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَحْرُثُونَهَا، وَيُثْبِتُهَا لِذَاتِهِ وَحْدَهُ، أَوْ يُرِيدُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحَرِّكُ أَيْدِيَهُمْ بِفِعْلِ الزَّرْعِ بِدُونِ إِرَادَةٍ لَهُمْ لَا اخْتِيَارَ فِيهِ كَمَا يُحَرِّكُ الدَّمَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَيُحَرِّكُ أَعْضَاءَ الْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ مِنَ الْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ فِي هَضْمِ طَعَامِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنْهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْأَرْضَ مُنْبِتَةً مَا يَبْذُرُونَهُ فِيهَا، بَلْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَالْحَبَّ وَالْمَاءَ وَالْهَوَاءَ، وَسَخَّرَ هَذِهِ
الْأَسْبَابَ لَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَزْرَعُوا، وَلَوْلَا أَنَّهُ يُزِيلُ مَوَانِعَ الْإِنْبَاتِ وَالْآفَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الزَّرْعَ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهُ بَعْدَ زَرْعِهِ وَنَبَاتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٥٦: ٦٥ - ٦٧) وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمْ فِي الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ مِمَّا يُجْعَلُ حُطَامًا فَإِنَّهُ عَرَضٌ زَالَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْحَاصِلُ مِنْهُ الَّذِي يُؤْكَلُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُ " تَزْرَعُونَهُ " بِقَوْلِهِ: تُنْبِتُونَهُ. وَبِهِ أَخَذَ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُهُ لَهُ بِمَا لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: أَأَنْتُمْ تُصَيِّرُونَهُ زَرْعًا أَمْ نَحْنُ نَجْعَلُهُ كَذَلِكَ؟ اهـ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَرُوَاتِهِ لَمْ يَقُولُوا: إِنَّ فِي الْآيَةِ كَلِمَةً تَدُلُّ عَلَى الْجَبْرِ، وَكَذَلِكَ فُحُولُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَعُقُولِ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الزَّرْعَ أُطْلِقَ عَلَى غَايَتِهِ وَهُوَ إِخْرَاجُ نَبْتِهِ وَسَلَامَتُهُ مِنَ الْهَلَاكِ، لَا عَلَى بَدْئِهِ الَّذِي هُوَ شَقُّ الْأَرْضِ، وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ فِيهَا.
وَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْذِيبِ غَايَةُ الْقِتَالِ، وَفَائِدَتُهُ وَهُوَ فِعْلُ اللهِ وَحْدَهُ، لَا مَبْدَؤُهُ وَهُوَ كَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَتْلٍ وَجَرْحٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ (٨: ١٧) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى بِدْعَةِ الْجَبْرِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ تَخْطُرْ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ ج٩) عَلَى أَنَّ مَعْنَى التَّعْذِيبِ إِيجَادُ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ الشُّعُورُ بِالْأَلَمِ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ اللهِ لَا مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْعَدُ مِنْ آيَةِ الْأَنْفَالِ عَنِ الْجَبْرِ وَأَهْلِهِ، وَلِلْعَذَابِ هُنَا مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الشُّعُورِ بِالْأَلَمِ - خَطَرَ لَنَا الْآنَ - وَهُوَ أَنَّ مَا يُصِيبُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمَ مِنَ الْآلَامِ وَالشَّدَائِدِ يَكُونُ لِبَعْضِهَا تَرْبِيَةً وَتَمْحِيصًا تَتَهَذَّبُ بِهِ أَفْرَادُهَا، وَيَرْتَقِي بِهِ مَجْمُوعُهَا
الْأَسْبَابَ لَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَزْرَعُوا، وَلَوْلَا أَنَّهُ يُزِيلُ مَوَانِعَ الْإِنْبَاتِ وَالْآفَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الزَّرْعَ مَا أَمْكَنَ أَنْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهُ بَعْدَ زَرْعِهِ وَنَبَاتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٥٦: ٦٥ - ٦٧) وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمْ فِي الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ مِمَّا يُجْعَلُ حُطَامًا فَإِنَّهُ عَرَضٌ زَالَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْحَاصِلُ مِنْهُ الَّذِي يُؤْكَلُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُ " تَزْرَعُونَهُ " بِقَوْلِهِ: تُنْبِتُونَهُ. وَبِهِ أَخَذَ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُهُ لَهُ بِمَا لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: أَأَنْتُمْ تُصَيِّرُونَهُ زَرْعًا أَمْ نَحْنُ نَجْعَلُهُ كَذَلِكَ؟ اهـ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ وَرُوَاتِهِ لَمْ يَقُولُوا: إِنَّ فِي الْآيَةِ كَلِمَةً تَدُلُّ عَلَى الْجَبْرِ، وَكَذَلِكَ فُحُولُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْمَعُقُولِ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الزَّرْعَ أُطْلِقَ عَلَى غَايَتِهِ وَهُوَ إِخْرَاجُ نَبْتِهِ وَسَلَامَتُهُ مِنَ الْهَلَاكِ، لَا عَلَى بَدْئِهِ الَّذِي هُوَ شَقُّ الْأَرْضِ، وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ فِيهَا.
وَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْذِيبِ غَايَةُ الْقِتَالِ، وَفَائِدَتُهُ وَهُوَ فِعْلُ اللهِ وَحْدَهُ، لَا مَبْدَؤُهُ وَهُوَ كَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَتْلٍ وَجَرْحٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ (٨: ١٧) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى بِدْعَةِ الْجَبْرِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ تَخْطُرْ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ ج٩) عَلَى أَنَّ مَعْنَى التَّعْذِيبِ إِيجَادُ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ الشُّعُورُ بِالْأَلَمِ، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ اللهِ لَا مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْعَدُ مِنْ آيَةِ الْأَنْفَالِ عَنِ الْجَبْرِ وَأَهْلِهِ، وَلِلْعَذَابِ هُنَا مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الشُّعُورِ بِالْأَلَمِ - خَطَرَ لَنَا الْآنَ - وَهُوَ أَنَّ مَا يُصِيبُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمَ مِنَ الْآلَامِ وَالشَّدَائِدِ يَكُونُ لِبَعْضِهَا تَرْبِيَةً وَتَمْحِيصًا تَتَهَذَّبُ بِهِ أَفْرَادُهَا، وَيَرْتَقِي بِهِ مَجْمُوعُهَا
180
وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى رَحْمَةً لَا عَذَابًا، وَيَكُونُ لِبَعْضٍ آخَرَ نِقْمَةً وَقِصَاصًا عَادِلًا يُمْحَى بِهِ بَاطِلُ الْجَمَاعَةِ، وَيُمْحَقُ بِهِ طُغَاتُهَا الْفَاسِدُونَ وَالْمُفْسِدُونَ، وَهُوَ الْجَدِيرُ بِاسْمِ الْعَذَابِ، الَّذِي وَعَدَ اللهُ هُنَا بِجَعْلِهِ عَاقِبَةَ الْقِتَالِ لِمَنْ يُقْتَلُ فَقَطْ، دُونَ
مَنْ يَتُوبُ وَيُؤْمِنُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّهُ كَانَ الْأَكْثَرَ. وَهُوَ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ وَصْفِ أَكْثَرِهِمْ بِالْفِسْقِ فِي هَذَا السِّيَاقِ نَفْسِهِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حَالَ أَكْثَرِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ بَعْدَ تَرْبِيَةِ مَجْمُوعِهِمْ بِالْقِتَالِ.
وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ تَعْذِيبَ اللهِ إِيَّاهُمْ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ (٨: ٣٣) وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ الْمَنْفِيِّ هُنَالِكَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَنَقُولُ: إِنَّهُ لَا مَحَلَّ لِلِاسْتِشْكَالِ؛ لِأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُنْ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَعَدَ تَعَالَى هُنَا بِتَعْذِيبِهِمْ كَمَا كَانَ فِي مَكَّةَ بَيْنَ مُشْرِكِيهَا حِينَ قَالُوا: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨: ٣٢) يَعْنُونَ عَذَابًا كَعَذَابِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَذَّبُوا جُحُودًا وَعِنَادًا، وَخَوَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِمِثْلِهِ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي نَفَى اللهُ وُقُوعَهُ كَمَا قَالَ الْمُسْتَشْكِلُ هُنَا حَيْثُ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِشْكَالِ، فَإِنَّ التَّعْذِيبَ هُنَالِكَ نِقْمَةٌ مَحْضَةٌ، وَمَا كَانَ لِيَقَعَ عَلَى قَوْمِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ. وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّهُ انْتِقَامٌ مِنْ بَعْضِهِمْ بِمَا هُوَ رَحْمَةٌ لِمَجْمُوعِهِمْ، فَهُوَ كَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمَجْذُومِ مِنَ الْجَسَدِ لِأَجْلِ سَلَامَةِ جُمْلَتِهِ، كَمَا قَالَ فِي حِكْمَةِ مَا لَقُوا مِنَ الشَّدَائِدِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (٣: ١٤١) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْبَاقِينَ مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ قَدْ صَارُوا سَادَةَ الْبَشَرِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ الْجِهَادُ الَّذِي ذَاقُوا شِدَّتَهُ وَآلَامَهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا مَا صَارُوا أَهْلًا لِذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ هَذِهِ الْآيَةُ خَاتِمَةُ هَذَا السِّيَاقِ فِي الْحَثِّ عَلَى جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ، لِتَطْهِيرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ وَطُغْيَانِهِ وَخُرَافَاتِهِ، وَإِصْرَارِ الرَّاسِخِينَ فِيهِ عَلَى عَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُوَاصَلَةِ مَا بَدَءُوا
بِهِ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، وَقِتَالِ هَؤُلَاءِ لَهُمْ إِلَى حَدِّ الْفَصْلِ التَّامِّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ
مَنْ يَتُوبُ وَيُؤْمِنُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّهُ كَانَ الْأَكْثَرَ. وَهُوَ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ وَصْفِ أَكْثَرِهِمْ بِالْفِسْقِ فِي هَذَا السِّيَاقِ نَفْسِهِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حَالَ أَكْثَرِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ بَعْدَ تَرْبِيَةِ مَجْمُوعِهِمْ بِالْقِتَالِ.
وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ تَعْذِيبَ اللهِ إِيَّاهُمْ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ (٨: ٣٣) وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ الْمَنْفِيِّ هُنَالِكَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَنَقُولُ: إِنَّهُ لَا مَحَلَّ لِلِاسْتِشْكَالِ؛ لِأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَكُنْ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَعَدَ تَعَالَى هُنَا بِتَعْذِيبِهِمْ كَمَا كَانَ فِي مَكَّةَ بَيْنَ مُشْرِكِيهَا حِينَ قَالُوا: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨: ٣٢) يَعْنُونَ عَذَابًا كَعَذَابِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَذَّبُوا جُحُودًا وَعِنَادًا، وَخَوَّفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِمِثْلِهِ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي نَفَى اللهُ وُقُوعَهُ كَمَا قَالَ الْمُسْتَشْكِلُ هُنَا حَيْثُ لَا مَجَالَ لِلِاسْتِشْكَالِ، فَإِنَّ التَّعْذِيبَ هُنَالِكَ نِقْمَةٌ مَحْضَةٌ، وَمَا كَانَ لِيَقَعَ عَلَى قَوْمِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ. وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّهُ انْتِقَامٌ مِنْ بَعْضِهِمْ بِمَا هُوَ رَحْمَةٌ لِمَجْمُوعِهِمْ، فَهُوَ كَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمَجْذُومِ مِنَ الْجَسَدِ لِأَجْلِ سَلَامَةِ جُمْلَتِهِ، كَمَا قَالَ فِي حِكْمَةِ مَا لَقُوا مِنَ الشَّدَائِدِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (٣: ١٤١) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْبَاقِينَ مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ قَدْ صَارُوا سَادَةَ الْبَشَرِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ الْجِهَادُ الَّذِي ذَاقُوا شِدَّتَهُ وَآلَامَهُ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا مَا صَارُوا أَهْلًا لِذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ هَذِهِ الْآيَةُ خَاتِمَةُ هَذَا السِّيَاقِ فِي الْحَثِّ عَلَى جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ، لِتَطْهِيرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنَ الشِّرْكِ وَطُغْيَانِهِ وَخُرَافَاتِهِ، وَإِصْرَارِ الرَّاسِخِينَ فِيهِ عَلَى عَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي مُوَاصَلَةِ مَا بَدَءُوا
بِهِ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ دِينِهِمْ، وَقِتَالِ هَؤُلَاءِ لَهُمْ إِلَى حَدِّ الْفَصْلِ التَّامِّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ
181
الْحُجَجُ النَّاصِعَةُ عَلَى كَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْحَقِّ فِي هَذَا الْقِتَالِ، الَّتِي لَوْ عُرِضَتْ عَلَى الْمُنْصِفِينَ مِنْ أَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ لَحَكَمُوا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَسَطْتُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِالتَّفْصِيلِ الْمُسْهِبِ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ غَايَةٌ، وَإِنَّنِي لَا أَذْكُرُ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ سِيَاقٌ فِيهِ مِنَ الْإِسْهَابِ وَالتَّأْكِيدِ وَالتَّكْرَارِ مِثْلَ مَا فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَلَمْ أَرَ فِيمَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَاسِيرِ مِنْ سَبْقٍ إِلَى مَا وَفَّقَنِي تَعَالَى لَهُ مِنْ بَيَانِ نُكْتَتِهِ، وَالْإِفْصَاحِ بِحِكْمَتِهِ، وَالتَّكْرَارُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْبَلَاغَةِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَسْبَابِ إِقْنَاعِ الْعَقْلِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْوِجْدَانِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ فِي بَيَانِ حَالِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَشَأْنِهِمْ فِي الْجِهَادِ الْحَقِّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَمَحُصُّهُمْ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَالْهَوَادَةِ فِي حُقُوقِ الْإِسْلَامِ.
وَيَقُولُ الْجُمْهُورُ: إِنَّ (أَمْ) فِي مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي تُفِيدُ مَعْنَى الْإِضْرَابِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِضْرَابِ هُنَا تَحْوِيلُ سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ بَيَانِ مَا يُوجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَ الْكَافِرِينَ مِنْ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ لِمَحْضِ عَدَاوَةِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ، وَمِنْ نِكْثِهِمْ لِلْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ بَعْدَ إِبْرَامِهَا وَتَوْثِيقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ - وَالِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا لَهُمْ مِنَ الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْجِهَادِ الْحَقِّ لِلْمُشْرِكِينَ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ (٢: ٢١٤) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ شَيْخَنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ (أَمْ) فِيهَا لِمَحْضِ الِاسْتِفْهَامِ، مُرَاعًى فِيهَا مُعَادَلَتُهُ لِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ يُؤْخَذُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِضْرَابِ شَيْءٌ. ثُمَّ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (٣: ١٤٢) وَرَأَيْنَا أَبَا جَعْفَرِ بْنَ جَرِيرٍ قَدْ جَرَى فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ
فِي مُقَابَلَةِ اسْتِفْهَامٍ آخَرَ. وَنَفْيُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُرَادُ بِهِ نَفْيَ الْمَعْلُومِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُهُ بِالطَّرِيقَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَالْوَلِيجَةُ مَا يَلِجُ فِي الْأَمْرِ أَوِ الْقَوْمِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ أَوْ مِنْهُمْ كَالدَّخِيلَةِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ - وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى وَلَائِجَ - وَيَشْمَلُ السَّرِيرَةَ الْفَاسِدَةَ وَالنِّيَّةَ الْخَبِيثَةَ، وَبِطَانَةَ السُّوءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُتَّخَذُ. وَالْخِطَابُ لِمَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا لَا يَخْلُونَ مِنْ بَقِيَّةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ يُثَبِّطُونَ عَنِ الْقِتَالِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: هَلْ جَاهَدْتُمِ الْمُشْرِكِينَ حَقَّ الْجِهَادِ وَأَمِنْتُمْ عَوْدَتَهُمْ إِلَى قِتَالِكُمْ كَمَا بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَمِنْتُمْ نَكْثَ مَنْ عَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ لِأَيْمَانِهِمْ كَمَا نَكَثُوا مِنْ قَبْلُ؟ وَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الطَّعْنَ فِي دِينِكُمْ وَصَدَّ النَّاسِ عَنْهُ كَمَا هُوَ دَأْبُهُمْ مُنْذُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ؟ وَهَلْ نَسِيتُمْ مَا اعْتَذَرَ بِهِ
وَيَقُولُ الْجُمْهُورُ: إِنَّ (أَمْ) فِي مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي تُفِيدُ مَعْنَى الْإِضْرَابِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِضْرَابِ هُنَا تَحْوِيلُ سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْ بَيَانِ مَا يُوجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَ الْكَافِرِينَ مِنْ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ لِمَحْضِ عَدَاوَةِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِهِ، وَمِنْ نِكْثِهِمْ لِلْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ بَعْدَ إِبْرَامِهَا وَتَوْثِيقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ - وَالِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا لَهُمْ مِنَ الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْجِهَادِ الْحَقِّ لِلْمُشْرِكِينَ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ (٢: ٢١٤) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ شَيْخَنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ (أَمْ) فِيهَا لِمَحْضِ الِاسْتِفْهَامِ، مُرَاعًى فِيهَا مُعَادَلَتُهُ لِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ يُؤْخَذُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِضْرَابِ شَيْءٌ. ثُمَّ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (٣: ١٤٢) وَرَأَيْنَا أَبَا جَعْفَرِ بْنَ جَرِيرٍ قَدْ جَرَى فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ
فِي مُقَابَلَةِ اسْتِفْهَامٍ آخَرَ. وَنَفْيُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يُرَادُ بِهِ نَفْيَ الْمَعْلُومِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُهُ بِالطَّرِيقَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَالْوَلِيجَةُ مَا يَلِجُ فِي الْأَمْرِ أَوِ الْقَوْمِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ أَوْ مِنْهُمْ كَالدَّخِيلَةِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ - وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى وَلَائِجَ - وَيَشْمَلُ السَّرِيرَةَ الْفَاسِدَةَ وَالنِّيَّةَ الْخَبِيثَةَ، وَبِطَانَةَ السُّوءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُتَّخَذُ. وَالْخِطَابُ لِمَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا لَا يَخْلُونَ مِنْ بَقِيَّةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ يُثَبِّطُونَ عَنِ الْقِتَالِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: هَلْ جَاهَدْتُمِ الْمُشْرِكِينَ حَقَّ الْجِهَادِ وَأَمِنْتُمْ عَوْدَتَهُمْ إِلَى قِتَالِكُمْ كَمَا بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَمِنْتُمْ نَكْثَ مَنْ عَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ لِأَيْمَانِهِمْ كَمَا نَكَثُوا مِنْ قَبْلُ؟ وَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الطَّعْنَ فِي دِينِكُمْ وَصَدَّ النَّاسِ عَنْهُ كَمَا هُوَ دَأْبُهُمْ مُنْذُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ؟ وَهَلْ نَسِيتُمْ مَا اعْتَذَرَ بِهِ
182
الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْخُرُوجِ مَعَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى تَبُوكَ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُلَفَّقَةِ الْبَاطِلَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خُبْثِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَكُمْ إِلَيْهَا، وَتَثْبِيطِهِمْ إِيَّاكُمْ عَنِ الْقِتَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فَضَحَتْهُمْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ؟ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَشَأْنُكُمْ بِغَيْرِ امْتِحَانٍ وَلَا افْتِتَانٍ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيكُمْ إِلَى الْآنِ مَا يَمْتَازُ بِهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أَيْ: وَلَمْ يَتَّخِذُوا لِأَنْفُسِهِمْ دَخِيلَةً، وَبِطَانَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ تَعَالَى بِالشِّرْكِ بِهِ، وَيُحَادُّونَ رَسُولَهُ بِالصَّدِّ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَيُقَاتِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْصَارَ اللهِ وَرَسُولِهِ، يُطْلِعُونَ أُولَئِكَ الْوَلَائِجَ عَلَى أَسْرَارِ الْمِلَّةِ، وَيَقِفُونَهُمْ عَلَى سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ كَمَا فَعَلَ وَيَفْعَلُ الْمُنَافِقُونَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ فِيكُمْ. فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ (٣: ١١٨) عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ ظُهُورِ هَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدِينَ الصَّادِقِينَ، وَتَمَيُّزِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ بِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِمْ؛ لِأَنَّ عَدَمَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالشَّيْءِ بُرْهَانٌ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ
أَوْ وُجُودِهِ، وَلَا يُوجِدُ هَؤُلَاءِ مُمْتَازِينَ ظَاهِرِينَ إِلَّا بِمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي الِاجْتِمَاعِ مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالشَّدَائِدِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٢٩: ١ - ٣).
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَدْ تَوَدَّدَ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا يُخْبِرُهُمْ بِهِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ قِتَالِهِمْ بَعْدَ نَقْضِهِمْ لِعَهْدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، لِيُكَافِئُوهُ عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا كَانَ لَهُ لَدَيْهِمْ فِي مَكَّةَ مَنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، فَمَا الْقَوْلُ فِي الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ دُونَ مِثْلِ حَاطِبٍ مِنْ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَا فَشَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنْ كَرَاهَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ كُلُّ سَبَبِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْقِتَالِ بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، بَلْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِهِ دَسَائِسُ يُلْقِيهَا الْمُشْرِكُونَ إِلَى أَصْدِقَاءٍ لَهُمْ أَوْ أُولِي قُرْبَى مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ. حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، ذَكَّرَ بِهِ الْغَافِلَ، وَأَنْذَرَ بِهِ الْمُنَافِقَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَّخِذُ وَلَيَّهُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ مِنْهُمْ، بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّفْيُ بـ " لَمَّا " الدَّالُّ عَلَى تَوَقُّعِ الْمَنْفِيِّ لِقُرْبِ وُقُوعِهِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْإِخْبَارَ وَالْإِنْذَارَ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أَيْ: عَالِمٌ بِخَفَايَا مَا تَعْمَلُونَ الْآنَ وَبَعْدَ الْآنِ مُحِيطٌ بِدَقَائِقِهِ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْأَنْفُسِ هُوَ الَّذِي يُمَحِّصُ مَا فِي الْقُلُوبِ، وَيُطَهِّرُ السَّرَائِرَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ
أَوْ وُجُودِهِ، وَلَا يُوجِدُ هَؤُلَاءِ مُمْتَازِينَ ظَاهِرِينَ إِلَّا بِمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي الِاجْتِمَاعِ مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالشَّدَائِدِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٢٩: ١ - ٣).
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَدْ تَوَدَّدَ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا يُخْبِرُهُمْ بِهِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ قِتَالِهِمْ بَعْدَ نَقْضِهِمْ لِعَهْدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، لِيُكَافِئُوهُ عَلَى ذَلِكَ بِعَدَمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا كَانَ لَهُ لَدَيْهِمْ فِي مَكَّةَ مَنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، فَمَا الْقَوْلُ فِي الْمُنَافِقِينَ وَمَنْ دُونَ مِثْلِ حَاطِبٍ مِنْ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَا فَشَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنْ كَرَاهَةِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ كُلُّ سَبَبِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْقِتَالِ بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، بَلْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِهِ دَسَائِسُ يُلْقِيهَا الْمُشْرِكُونَ إِلَى أَصْدِقَاءٍ لَهُمْ أَوْ أُولِي قُرْبَى مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ. حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، ذَكَّرَ بِهِ الْغَافِلَ، وَأَنْذَرَ بِهِ الْمُنَافِقَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَّخِذُ وَلَيَّهُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ مِنْهُمْ، بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّفْيُ بـ " لَمَّا " الدَّالُّ عَلَى تَوَقُّعِ الْمَنْفِيِّ لِقُرْبِ وُقُوعِهِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْإِخْبَارَ وَالْإِنْذَارَ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أَيْ: عَالِمٌ بِخَفَايَا مَا تَعْمَلُونَ الْآنَ وَبَعْدَ الْآنِ مُحِيطٌ بِدَقَائِقِهِ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْأَنْفُسِ هُوَ الَّذِي يُمَحِّصُ مَا فِي الْقُلُوبِ، وَيُطَهِّرُ السَّرَائِرَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِ
183
مَعْدِنِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبْرِزُ السَّرَائِرَ الْخَبِيثَةَ، وَيُظْهِرُ سُوءَ مَعْدِنِهَا، وَ " الْوَاوُ " فِي الْجُمْلَةِ حَالِيَّةٌ أَيْ أَحَسِبْتُمْ وَظَنَنْتُمْ أَنَّ تُتْرَكُوا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ هَذَا التَّمْحِيصُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي جِهَادِهِمْ وَالْكَاذِبِينَ مِنْ فَاسِدِي السَّرِيرَةِ، وَمُتَّخِذِي الْوَلِيجَةِ، وَهُوَ إِلَى الْآنَ لَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَيَّزُوا مِنْ غَيْرِهِمْ بِالْفِعْلِ،
وَأَنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ اللهُ هُوَ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَكَيْفَ ذَلِكَ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ بِمَعْنَى آيَاتِ أَوَّلِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَآيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ اللَّتَيْنِ أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِهِمَا، فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ الْوُقُوفَ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعِبْرَةِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مُسْلِمِي عَصْرِنَا، وَمُسْلِمِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّ لِلْحُرُوبِ - عَلَى مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْعُدْوَانِ وَالشُّرُورِ - فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ فِي تَرْقِيَةِ الْأُمَمِ، وَرَفْعِ شَأْنِهَا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهَا، وَنَاهِيكَ بِالْحَرْبِ إِذَا الْتُزِمَ فِيهَا مَا قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَمُرَاعَاةِ قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ. كَاحْتِرَامِ الْعُهُودِ، وَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ، وَتَقْدِيرِ الضَّرُورَةِ فِيهَا بِقَدْرِهَا، وَوَضْعِ كُلٍّ مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّحْمَةِ فِي مَوْضِعِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَآيَاتِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ قَبْلَهَا، وَكَذَا آيَاتِ الْقِتَالِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ فِي جَمِيعِ حُرُوبِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ وَالِاجْتِمَاعِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ الْمُنْصِفِينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ، حَتَّى قَالَ حَكِيمٌ كَبِيرٌ مِنْهُمْ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ.
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
لِلتَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ (وَمَا بَعَدَهُمَا إِلَى الْآيَةِ ٢٢) وَمَا قَبْلَهُمَا وَجْهٌ
وَأَنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ اللهُ هُوَ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَكَيْفَ ذَلِكَ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ بِمَعْنَى آيَاتِ أَوَّلِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَآيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ اللَّتَيْنِ أَشَرْنَا إِلَيْهِمَا وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْسِيرِهِمَا، فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ الْوُقُوفَ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعِبْرَةِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مُسْلِمِي عَصْرِنَا، وَمُسْلِمِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ أَنَّ لِلْحُرُوبِ - عَلَى مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْعُدْوَانِ وَالشُّرُورِ - فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ فِي تَرْقِيَةِ الْأُمَمِ، وَرَفْعِ شَأْنِهَا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهَا، وَنَاهِيكَ بِالْحَرْبِ إِذَا الْتُزِمَ فِيهَا مَا قَرَّرَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَمُرَاعَاةِ قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ. كَاحْتِرَامِ الْعُهُودِ، وَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ، وَتَقْدِيرِ الضَّرُورَةِ فِيهَا بِقَدْرِهَا، وَوَضْعِ كُلٍّ مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّحْمَةِ فِي مَوْضِعِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَآيَاتِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ قَبْلَهَا، وَكَذَا آيَاتِ الْقِتَالِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ فِي جَمِيعِ حُرُوبِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ وَالِاجْتِمَاعِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ الْمُنْصِفِينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ، حَتَّى قَالَ حَكِيمٌ كَبِيرٌ مِنْهُمْ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ.
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
لِلتَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ (وَمَا بَعَدَهُمَا إِلَى الْآيَةِ ٢٢) وَمَا قَبْلَهُمَا وَجْهٌ
184
وَجِيهٌ وَاضِحٌ وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ الرَّازِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ وَأَمْثَالُهُمَا مِمَّنْ يَعْنُونَ بِالْغَوْصِ عَلَى التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ، وَهَاكَ بَيَانُهُ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٣: ٦٩) وَقَالَ: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢: ١٢٥) وَقَصَّ عَلَيْنَا تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَبَرَ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لِهَذَا الْبَيْتِ، وَمَا كَانَا يَدْعُوَانِ بِهِ عِنْدَ رَفْعِ قَوَاعِدِهِ مِنْ جَعْلِهِمَا مُسْلِمَيْنِ لَهُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَهُ، وَبَعْثِ رَسُولٍ مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَقَدِ اسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى دُعَاءَهُمَا كُلَّهُ فَكَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أُمَّةً مُسْلِمَةً مُوَحِّدَةً لَهُ تَعَالَى تُقِيمُ دِينَهُ فِي بَيْتِهِ وَفِي غَيْرِهِ كَمَا أَمَرَ، ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَطَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ، وَتَرَكَ جَمَاهِيرُهُمْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةَ، حَتَّى بَعَثَ فِيهِمْ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، تَكْمِلَةً لِدَعْوَةِ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَاوَمَ الْمُشْرِكُونَ دَعَوْتَهُ، وَصَدُّوهُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ بِجِوَارِهِ، ثُمَّ مَا زَالُوا يُقَاتِلُونَهُمْ فِي دَارِ هِجْرَتِهِمْ إِلَى أَنْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَدَالَ لِلتَّوْحِيدِ مِنَ الشِّرْكِ، وَلِلْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ.
فِلَمَّا زَالَتْ وِلَايَةُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَطَهَّرَهُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، بَقِيَ أَنْ يُطَهِّرَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَأْتُونَهَا فِيهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ لَهُمُ الْوَجْهَ فِي كَوْنِ الْمُسْلِمِينَ أَحَقَّ بِهِمْ، فَلَمَّا آذَنَهُمْ بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ، وَأَمَرَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنْ يَتْلُوَ أَوَائِلَ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) عَلَى مَسَامِعِ وُفُودِهِمْ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ، كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْبَلَاغِ الْعَامِّ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَتَهُمُ الشِّرْكِيَّةَ سَتُمْنَعُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ بِالتَّبَعِ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِمُ الْعَارِضَةِ عَلَيْهِ، فَكَانَ عَلِيٌّ وَأَعْوَانُهُ يُنَادُونَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَإِنَّمَا أَمْهَلَهُمْ إِلَى مَوْسِمِ
السَّنَةِ التَّالِيَةِ لِفَتْحِ مَكَّةَ لِسَبَبَيْنِ فِيمَا يَظْهَرُ: (أَحَدِهِمَا) أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَصْحَابُ عَهْدٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، كَانَ مِنْ شُرُوطِهِ أَلَّا يُمْنَعَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مِنْ أَهَمِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَأَمْهَلَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ عُهُودِهِمْ بِنَبْذِ مَا جَازَ نَبْذُهُ، وَإِتْمَامِ مَا وَجَبَ إِتْمَامُهُ، وَلَمْ يَكُنْ إِعْلَامُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا فِي مَوْسِمِ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى: (وَثَانِيهِمَا) أَنَّهُ كَانَ يَتَعَذَّرُ مَنْعُ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُمْ فِي مَوْسِمَيِ الْعَامَيْنِ الثَّامِنِ وَالتَّاسِعِ بِدُونِ قِتَالٍ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِمُقْتَضَى التَّقَالِيدِ يَأْتُونَ لِلْحَجِّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ وَهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُشْرِكِ وَالْمُسْلِمِ، وَلَا الْمُعَاهِدِ وَغَيْرِ الْمُعَاهِدِ إِلَّا بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَى الْبَيْتِ، وَشُرُوعِهِمْ فِي الطَّوَافِ فِيهِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى مَنْعِ الْمُشْرِكِ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قِتَالٍ فِيهِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْحَرَمِ - وَالْقِتَالُ مُحَرَّمٌ فِيهِ؟ وَقَدْ قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّهَا أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ
فِلَمَّا زَالَتْ وِلَايَةُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَطَهَّرَهُ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، بَقِيَ أَنْ يُطَهِّرَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَأْتُونَهَا فِيهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَ لَهُمُ الْوَجْهَ فِي كَوْنِ الْمُسْلِمِينَ أَحَقَّ بِهِمْ، فَلَمَّا آذَنَهُمْ بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ، وَأَمَرَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنْ يَتْلُوَ أَوَائِلَ سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) عَلَى مَسَامِعِ وُفُودِهِمْ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ، كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ هَذَا الْبَلَاغِ الْعَامِّ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَتَهُمُ الشِّرْكِيَّةَ سَتُمْنَعُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ بِالتَّبَعِ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِمُ الْعَارِضَةِ عَلَيْهِ، فَكَانَ عَلِيٌّ وَأَعْوَانُهُ يُنَادُونَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَإِنَّمَا أَمْهَلَهُمْ إِلَى مَوْسِمِ
السَّنَةِ التَّالِيَةِ لِفَتْحِ مَكَّةَ لِسَبَبَيْنِ فِيمَا يَظْهَرُ: (أَحَدِهِمَا) أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ أَصْحَابُ عَهْدٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، كَانَ مِنْ شُرُوطِهِ أَلَّا يُمْنَعَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مِنْ أَهَمِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَأَمْهَلَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ عُهُودِهِمْ بِنَبْذِ مَا جَازَ نَبْذُهُ، وَإِتْمَامِ مَا وَجَبَ إِتْمَامُهُ، وَلَمْ يَكُنْ إِعْلَامُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا فِي مَوْسِمِ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى: (وَثَانِيهِمَا) أَنَّهُ كَانَ يَتَعَذَّرُ مَنْعُ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُمْ فِي مَوْسِمَيِ الْعَامَيْنِ الثَّامِنِ وَالتَّاسِعِ بِدُونِ قِتَالٍ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِمُقْتَضَى التَّقَالِيدِ يَأْتُونَ لِلْحَجِّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ وَهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُشْرِكِ وَالْمُسْلِمِ، وَلَا الْمُعَاهِدِ وَغَيْرِ الْمُعَاهِدِ إِلَّا بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَى الْبَيْتِ، وَشُرُوعِهِمْ فِي الطَّوَافِ فِيهِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى مَنْعِ الْمُشْرِكِ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قِتَالٍ فِيهِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْحَرَمِ - وَالْقِتَالُ مُحَرَّمٌ فِيهِ؟ وَقَدْ قَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّهَا أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ
185
نَهَارٍ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ؟ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْعَ عِبَادَةِ الشِّرْكِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِبْطَالَ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَدَّعُونَهُ وَيَفْخَرُونَ بِهِ مَنْ حَقِّ عِمَارَتِهِ الْحِسِّيَّةِ وَإِيئَاسِهِمْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِيهَا، كَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ نَبْذِ عُهُودِهِمْ، وَمِنَ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ فِي الْإِسْلَامِ إِعْلَامُهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ تَنْفِيذِهِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ يَكْفِي لِعِلْمِ الْجَمَاهِيرِ مِنْهُمْ بِهِ، وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَفَسَّرَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ، فَحَسُنَ أَنْ يُوضَعَ هُوَ وَمَا يَتْلُوهُ بَعْدَ آيَاتِ ذَلِكَ النَّبْذِ وَالْأَذَانِ، وَمَا تَلَاهُ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقِتَالِ بَعْدَ عَوْدِ حَالَتِهِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعُهُودِ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ بِقِسْمَيْهِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ وَسَيَأْتِي النَّهْيُ عَنْ تَمْكِينِهِمْ مِنَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيْضًا فِي الْآيَةِ (٢٨) قَالَ تَعَالَى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ النَّفْيُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ يُسَمَّى نَفْيَ الشَّأْنِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي نَظَائِرِهِ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لَهُ بِالدَّلِيلِ، وَالْمَسَاجِدُ: جَمْعُ مَسْجِدٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَكَانُ السُّجُودِ، وَقَدْ
صَارَ اسْمًا لِلْبُيُوتِ الَّتِي يُعْبَدُ فِيهَا اللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا (٧٢: ١٨) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ (مَسْجِدَ اللهِ) بِالْإِفْرَادِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَهُمْ أَكْبَرُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَآخَرُونَ (مَسَاجِدَ اللهِ) بِالْجَمْعِ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْإِفْرَادِ إِرَادَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ الْمُفْرَدُ الْعَلَمُ الْأَكْمَلُ الْأَفْضَلُ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَكُلُّهَا لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي الْأَصْلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَسَاجِدِ جِنْسُهَا الَّذِي يَصْدُقُ بِأَيِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا، كَمَا يَقُولُونَ: فُلَانٌ يَخْدِمُ الْمُلُوكَ وَإِنْ لَمْ يَخْدِمْ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَفُلَانٌ يَرْكَبُ الْبَرَاذِينَ أَوِ الْحَمِيرَ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهَا، وَمِنْهُ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا (١٦: ٨) عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَيْضًا وَعَلَّلُوهُ بِقَوْلِ الْحَسَنِ: إِنَّمَا قَالَ: (مَسَاجِدَ) ؛ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَرَكِيكٌ، وَيَقْتَضِي أَنَّ النَّفْيَ وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمَنْعِ خَاصٌّ بِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ إِجْمَاعًا. وَتَفْسِيرُهُ الْمُفْرَدَ بِالْجَمْعِ لِإِفَادَتِهِ الْعُمُومَ بِالْإِضَافَةِ أَصَحُّ لَفْظًا وَمَعْنًى لَوْلَا أَنَّهُمَا تَكْرَارٌ لَا تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ: فَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مَقْصُودٌ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْمُفْرَدِ مَعَ الْجَمْعِ التَّنْوِيهُ بِمَكَانَتِهِ، وَكَوْنِهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَسَبَبَ الْقِتَالِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ فِي اللُّغَةِ لُزُومُهُ، وَالْإِقَامَةُ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، أَوْ لِخِدْمَتِهِ بِالتَّرْمِيمِ وَالتَّنْظِيفِ وَنَحْوِهِمَا، وَعِبَادَةُ اللهِ فِيهِ، وَزِيَارَتُهُ لِلْعِبَادَةِ، وَمِنْهَا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: عَمَرَ الرَّجُلُ مَالَهُ وَبَيْتَهُ يَعْمُرُهُ (بِالضَّمِّ) عِمَارَةً وَعُمُورًا وَعُمْرَانًا لَزِمَهُ.... يُقَالُ لِسَاكِنِ الدَّارِ: عَامِرٌ وَالْجَمْعُ عُمَّارٌ (وَهُنَا ذَكَرَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: وَالْمَعْمُورُ الْمَخْدُومُ) ثُمَّ ذَكَرَ:
صَارَ اسْمًا لِلْبُيُوتِ الَّتِي يُعْبَدُ فِيهَا اللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا (٧٢: ١٨) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ (مَسْجِدَ اللهِ) بِالْإِفْرَادِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَهُمْ أَكْبَرُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَآخَرُونَ (مَسَاجِدَ اللهِ) بِالْجَمْعِ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْإِفْرَادِ إِرَادَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ الْمُفْرَدُ الْعَلَمُ الْأَكْمَلُ الْأَفْضَلُ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَكُلُّهَا لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي الْأَصْلِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَسَاجِدِ جِنْسُهَا الَّذِي يَصْدُقُ بِأَيِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا، كَمَا يَقُولُونَ: فُلَانٌ يَخْدِمُ الْمُلُوكَ وَإِنْ لَمْ يَخْدِمْ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَفُلَانٌ يَرْكَبُ الْبَرَاذِينَ أَوِ الْحَمِيرَ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهَا، وَمِنْهُ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا (١٦: ٨) عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَيْضًا وَعَلَّلُوهُ بِقَوْلِ الْحَسَنِ: إِنَّمَا قَالَ: (مَسَاجِدَ) ؛ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَرَكِيكٌ، وَيَقْتَضِي أَنَّ النَّفْيَ وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمَنْعِ خَاصٌّ بِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ إِجْمَاعًا. وَتَفْسِيرُهُ الْمُفْرَدَ بِالْجَمْعِ لِإِفَادَتِهِ الْعُمُومَ بِالْإِضَافَةِ أَصَحُّ لَفْظًا وَمَعْنًى لَوْلَا أَنَّهُمَا تَكْرَارٌ لَا تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَةٌ: فَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ مَقْصُودٌ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْمُفْرَدِ مَعَ الْجَمْعِ التَّنْوِيهُ بِمَكَانَتِهِ، وَكَوْنِهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَسَبَبَ الْقِتَالِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ فِي اللُّغَةِ لُزُومُهُ، وَالْإِقَامَةُ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، أَوْ لِخِدْمَتِهِ بِالتَّرْمِيمِ وَالتَّنْظِيفِ وَنَحْوِهِمَا، وَعِبَادَةُ اللهِ فِيهِ، وَزِيَارَتُهُ لِلْعِبَادَةِ، وَمِنْهَا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: عَمَرَ الرَّجُلُ مَالَهُ وَبَيْتَهُ يَعْمُرُهُ (بِالضَّمِّ) عِمَارَةً وَعُمُورًا وَعُمْرَانًا لَزِمَهُ.... يُقَالُ لِسَاكِنِ الدَّارِ: عَامِرٌ وَالْجَمْعُ عُمَّارٌ (وَهُنَا ذَكَرَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَمَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: وَالْمَعْمُورُ الْمَخْدُومُ) ثُمَّ ذَكَرَ:
186
عَمَرَ الرَّجُلُ اللهَ بِمَعْنَى عَبَدَهَ، قَالَ: وَالْعِمَارَةُ (بِالْكَسْرِ) مَا يَعْمُرُ بِهِ الْمَكَانُ، وَالْعُمَارَةُ (بِالضَّمِّ) أُجْرَةُ الْعِمَارَةِ. (قَالَ) وَالْعُمْرَةُ (بِالضَّمِّ) طَاعَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَعْرُوفَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الِاعْتِمَارِ وَهُوَ الزِّيَارَةُ وَالْقَصْدُ... وَهُوَ فِي الشَّرْعِ زِيَارَةُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِالشُّرُوطِ الْمَخْصُوصَةِ الْمَعْرُوفَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمْ يَجِئْ فِيمَا أَعْلَمُ عَمَرَ بِمَعْنَى اعْتَمَرَ، وَلَكِنْ
عَمَرَ اللهَ إِذَا عَبَدَهُ، وَعَمَرَ فُلَانٌ رَكْعَتَيْنِ إِذَا صَلَّاهُمَا، وَهُوَ يَعْمُرُ رَبَّهُ يُصَلِّي وَيَصُومُ اهـ. مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعِمَارَةُ نَقِيضُ الْخَرَابِ يُقَالُ: عَمَرَ أَرْضَهُ يَعْمُرُهَا. قَوْلُهُ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ (٩: ١٨) إِمَّا مِنَ الْعِمَارَةِ الَّتِي هِيَ حِفْظُ الْبِنَاءِ أَوْ مِنَ الْعُمْرَةِ الَّتِي هِيَ الزِّيَارَةُ أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَمَرْتُ بِمَكَانِ كَذَا أَيْ أَقَمْتُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: عَمَرْتُ الْمَكَانَ وَعَمَرْتُ بِالْمَكَانِ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ عَمَرَ بِمَعْنَى اعْتَمَرَ فَلْيُتَحَرَّ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ تُطْلَقُ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ فِيهِ مُطْلَقًا، وَعَلَى النُّسُكِ الْمَخْصُوصِ الْمُسَمَّى بِالْعُمْرَةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَلَى لُزُومِهِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِ لِخِدْمَتِهِ الْحِسِّيَّةِ، وَعَلَى بُنْيَانِهِ وَتَرْمِيمِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مُرَادٌ هُنَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعَانِيهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ تَبَعًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ عَيَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَأَغْلَظَ عَلِيٌّ لَهُ الْقَوْلَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا لَكُمْ تَذْكُرُونَ مَسَاوِينَا، وَلَا تَذْكُرُونَ مَحَاسِنَنَا؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّنَا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ، وَنَسَقِي الْحَاجَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَدًّا عَلَى الْعَبَّاسِ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ إِلَخْ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي كَانَ يَقُولُهُ وَيَفْخَرُ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ عِنْدَمَا قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ لِأَجْلِ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ بَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، بَلْ نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: مَا كَانَ يَنْبَغِي، وَلَا يَصِحُّ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَا مِنْ شَأْنِهِمُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ
شِرْكُهُمْ، أَوِ الَّذِي يَشْرَعُهُ أَوْ يَرْضَاهُ اللهُ مِنْهُمْ أَوْ يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللهِ الْأَعْظَمَ وَبَيْتَهُ الْمُحَرَّمَ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ أَوِ الْخِدْمَةِ لَهُ، وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَا أَنْ يَزُورُوهُ حُجَّاجًا
عَمَرَ اللهَ إِذَا عَبَدَهُ، وَعَمَرَ فُلَانٌ رَكْعَتَيْنِ إِذَا صَلَّاهُمَا، وَهُوَ يَعْمُرُ رَبَّهُ يُصَلِّي وَيَصُومُ اهـ. مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعِمَارَةُ نَقِيضُ الْخَرَابِ يُقَالُ: عَمَرَ أَرْضَهُ يَعْمُرُهَا. قَوْلُهُ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ (٩: ١٨) إِمَّا مِنَ الْعِمَارَةِ الَّتِي هِيَ حِفْظُ الْبِنَاءِ أَوْ مِنَ الْعُمْرَةِ الَّتِي هِيَ الزِّيَارَةُ أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَمَرْتُ بِمَكَانِ كَذَا أَيْ أَقَمْتُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: عَمَرْتُ الْمَكَانَ وَعَمَرْتُ بِالْمَكَانِ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ عَمَرَ بِمَعْنَى اعْتَمَرَ فَلْيُتَحَرَّ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ تُطْلَقُ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ فِيهِ مُطْلَقًا، وَعَلَى النُّسُكِ الْمَخْصُوصِ الْمُسَمَّى بِالْعُمْرَةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَلَى لُزُومِهِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِ لِخِدْمَتِهِ الْحِسِّيَّةِ، وَعَلَى بُنْيَانِهِ وَتَرْمِيمِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مُرَادٌ هُنَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعَانِيهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ تَبَعًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ عَيَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَأَغْلَظَ عَلِيٌّ لَهُ الْقَوْلَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا لَكُمْ تَذْكُرُونَ مَسَاوِينَا، وَلَا تَذْكُرُونَ مَحَاسِنَنَا؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّنَا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ، وَنَسَقِي الْحَاجَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَدًّا عَلَى الْعَبَّاسِ: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ إِلَخْ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي كَانَ يَقُولُهُ وَيَفْخَرُ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ عِنْدَمَا قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ لِأَجْلِ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ بَدْرٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، بَلْ نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: مَا كَانَ يَنْبَغِي، وَلَا يَصِحُّ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَا مِنْ شَأْنِهِمُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ
شِرْكُهُمْ، أَوِ الَّذِي يَشْرَعُهُ أَوْ يَرْضَاهُ اللهُ مِنْهُمْ أَوْ يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللهِ الْأَعْظَمَ وَبَيْتَهُ الْمُحَرَّمَ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ أَوِ الْخِدْمَةِ لَهُ، وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، وَلَا أَنْ يَزُورُوهُ حُجَّاجًا
187
أَوْ مُعْتَمِرِينَ، وَلَا شَيْئًا مِنْ سَائِرِ مَسَاجِدِهِ كَذَلِكَ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أَيْ: مَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ كَافِرِينَ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ قَوْلًا وَعَمَلًا؛ لِأَنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، فَإِنَّ عِمَارَةَ مَسَاجِدِ اللهِ الْحِسِّيَّةِ إِنَّمَا تَكُونُ لِعِمَارَتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ بِعِبَادَتِهِ فِيهَا وَحْدَهُ، وَلَا تَصِّحُ وَلَا تَقَعُ إِلَّا مِنَ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدِ لَهُ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْكُفْرِ بِهِ، وَأَيُّ كُفْرٍ بِاللهِ أَظْهَرُ وَأَشَدُّ مِنَ الشِّرْكِ بِهِ وَمُسَاوَاتِهِ بِبَعْضِ خَلْقِهِ فِي الْعِبَادَةِ؟ وَهُوَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِالِاسْتِشْفَاعِ بِهَا، وَالسُّجُودِ لِمَا وَضَعُوهُ فِي الْبَيْتِ مِنْهَا عَقِبَ كُلِّ شَوْطٍ مِنْ طَوَافِهِمْ فِيهِ، وَأَيُّ اعْتِرَافٍ بِهِ أَصْرَحُ مِنْ نَصِّ تَلْبِيَتِهَا لَهُ تَعَالَى وَهِيَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَكَانُوا يَكْفُرُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَيْضًا، وَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ كَفَرُوا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، كَفَرَ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ جُحُودًا وَعِنَادًا وَتَبِعَهُمْ دَهْمَاؤُهُمْ خُضُوعًا لَهُمْ وَتَقْلِيدًا، وَمِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى جُحُودِهِمْ آيَةُ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦: ٣٣) وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى عِنَادِهِمْ آيَةُ: وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨: ٣٢).
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: شَاهِدِينَ إِلَخْ. قَيْدٌ لِلنَّفْيِ قَبْلَهُ مُبَيِّنٌ لِعِلَّتِهِ، وَالْعِلَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ نَفْسُ الْكُفْرِ لَا الشَّهَادَةُ بِهِ، وَنُكْتَةُ تَقْيِيدِهِ بِهَا بَيَانُ أَنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ مُعْتَرَفٌ بِهِ لَا يُمْكِنُ الْمُكَابَرَةُ فِيهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَخْدِمُوا الْكُفَّارَ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعِمَارَةِ الْحِسِّيَّةِ الْمَمْنُوعَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، وَالِاسْتِقْلَالُ بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهَا، كَأَنْ يَكُونَ نَاظِرُ الْمَسْجِدِ وَأَوْقَافِهِ كَافِرًا، وَأَمَّا اسْتِخْدَامُ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَافِرِ فِي عَمَلٍ لَا وِلَايَةَ فِيهِ، كَنَحْتِ الْحِجَارَةِ، وَالْبِنَاءِ وَالنِّجَارَةِ، فَلَا يَظْهَرُ دُخُولُهُ فِي الْمَنْعِ، وَلَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ نَفْيِ الشَّأْنِ، فَإِنَّ نَفْيَ الشَّأْنِ
الْمَذْكُورِ دَلِيلٌ عَلَى التَّشْرِيعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَوْنِهِ حَقًّا مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسٍ ثَابِتٍ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ، وَلَيْسَ تَشْرِيعًا لَهَا، وَالدَّلَالَةُ فِيهِ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ.
(فَإِنْ قِيلَ) قَدْ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْحُكَّامِ وَالْأَفْرَادِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِعِمَارَةِ مَسْجِدٍ لَهُمْ لِمَصْلَحَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ. (قُلْتُ) : إِنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ مَا فَسَّرْنَا بِهِ نَفْيَ الشَّأْنِ، وَلَا مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا مِثْلَ هَذَا الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ فِيهِمَا ضَرَرٌ آخَرُ دِينِيٌّ وَلَا سِيَاسِيٌّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَوْ عَرَضَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يَعْمُرُوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِتَرْمِيمِ مَا كَانَ تَدَاعَى أَوْ ضَعُفَ مِنْ بِنَائِهِ أَوْ بَذَلُوا لَهُمْ مَالًا لِذَلِكَ لِمَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا هَذَا وَلَا ذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّ الْيَهُودُ الْعَمَلَ
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: شَاهِدِينَ إِلَخْ. قَيْدٌ لِلنَّفْيِ قَبْلَهُ مُبَيِّنٌ لِعِلَّتِهِ، وَالْعِلَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ نَفْسُ الْكُفْرِ لَا الشَّهَادَةُ بِهِ، وَنُكْتَةُ تَقْيِيدِهِ بِهَا بَيَانُ أَنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ مُعْتَرَفٌ بِهِ لَا يُمْكِنُ الْمُكَابَرَةُ فِيهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَخْدِمُوا الْكُفَّارَ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعِمَارَةِ الْحِسِّيَّةِ الْمَمْنُوعَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، وَالِاسْتِقْلَالُ بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهَا، كَأَنْ يَكُونَ نَاظِرُ الْمَسْجِدِ وَأَوْقَافِهِ كَافِرًا، وَأَمَّا اسْتِخْدَامُ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَافِرِ فِي عَمَلٍ لَا وِلَايَةَ فِيهِ، كَنَحْتِ الْحِجَارَةِ، وَالْبِنَاءِ وَالنِّجَارَةِ، فَلَا يَظْهَرُ دُخُولُهُ فِي الْمَنْعِ، وَلَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ نَفْيِ الشَّأْنِ، فَإِنَّ نَفْيَ الشَّأْنِ
الْمَذْكُورِ دَلِيلٌ عَلَى التَّشْرِيعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَوْنِهِ حَقًّا مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسٍ ثَابِتٍ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ، وَلَيْسَ تَشْرِيعًا لَهَا، وَالدَّلَالَةُ فِيهِ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لَهُ.
(فَإِنْ قِيلَ) قَدْ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْحُكَّامِ وَالْأَفْرَادِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِعِمَارَةِ مَسْجِدٍ لَهُمْ لِمَصْلَحَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ. (قُلْتُ) : إِنَّ هَذَا لَا يُعَارِضُ مَا فَسَّرْنَا بِهِ نَفْيَ الشَّأْنِ، وَلَا مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا مِثْلَ هَذَا الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ فِيهِمَا ضَرَرٌ آخَرُ دِينِيٌّ وَلَا سِيَاسِيٌّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَوْ عَرَضَ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يَعْمُرُوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِتَرْمِيمِ مَا كَانَ تَدَاعَى أَوْ ضَعُفَ مِنْ بِنَائِهِ أَوْ بَذَلُوا لَهُمْ مَالًا لِذَلِكَ لِمَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا هَذَا وَلَا ذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّ الْيَهُودُ الْعَمَلَ
188
لِمَا عُلِمَ مِنْ طَمَعِهِمْ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ، وَالتَّوَسُّلِ لَهُ بِمَا يَجْعَلُونَهُ ذَرِيعَةً لِادِّعَاءِ حَقٍّ مَا لَهُمْ فِيهِ، عَلَى كُفْرِهِمْ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكِتَابَيْهِمَا، وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا.
أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أَيْ: أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ الْكَافِرُونَ بِاللهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَفْخَرُونَ بِهَا مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَقِرَى الضَّيْفِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، أَيْ: بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهَا أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِي صَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ مَعَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَمَفَاسِدِهِمَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَبَطِ وَهُوَ - بِالتَّحْرِيكِ - أَنْ تَأْكُلَ الْبَهِيمَةُ حَتَّى تَنْتَفِخَ وَيَفْسَدَ جَوْفُهَا. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٩: ٦٥) وَوَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦: ٨٨) وَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٨: ١٠٥).
وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ أَيْ: وَهُمْ مُقِيمُونَ فِي دَارِ الْعَذَابِ الَّتِي تُسَمَّى النَّارَ دُونَ غَيْرِهَا إِقَامَةَ خُلُودٍ وَبَقَاءٍ، لِكُفْرِهِمُ الْمُحْبِطِ لِأَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ حَتَّى لَا أَثَرَ لَهَا فِي
تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِحَاطَةِ خَطِيئَاتِهِمْ بِهَا وَتَدْسِيَتِهَا لَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا أَدْنَى اسْتِعْدَادٍ لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى فِي دَارِ الْكَرَامَةِ - وَمَا ثَمَّةَ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٤٢: ٧).
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ الْمُشْرِكِينَ لِعِمَارَةِ مَسَاجِدِ اللهِ أَثْبَتَهَا لِلْمُسْلِمِينَ الْكَامِلِينَ، وَجَعَلَهَا مَقْصُورَةً عَلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّأْنِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَقَامُ الْإِيجَابِ، وَهُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يُحَاسِبُ اللهُ فِيهِ الْعِبَادَ، وَيَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ، وَبَيْنَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ بِأَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا وَتَدَبُّرِ تِلَاوَتِهَا وَأَذْكَارِهَا الَّتِي تُكْسِبُ مُقِيمَهَا مُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى وَحُبَّهُ، وَالْخُشُوعَ لَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ - وَإِعْطَاءِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ مِنْ نَقْدٍ وَزَرْعٍ وَتِجَارَةٍ لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَبَيْنَ خَشْيَةِ اللهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ كَالْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ خَوْفًا مِنْ ضَرَرِهِ أَوْ رَجَاءً فِي نَفْعِهِ فَالْمُرَادُ بِالْخَشْيَةِ الدِّينِيُّ مِنْهَا دُونَ الْغَرِيزِيِّ كَخَشْيَةِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي خَشْيَةَ اللهِ، وَلَا يَقْتَضِي خَشْيَةَ الطَّاغُوتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ رَضِيَ النَّاسُ أَمْ سَخِطُوا.
أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أَيْ: أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ الْكَافِرُونَ بِاللهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَفْخَرُونَ بِهَا مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ كَقِرَى الضَّيْفِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، أَيْ: بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهَا أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِي صَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ مَعَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَمَفَاسِدِهِمَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَبَطِ وَهُوَ - بِالتَّحْرِيكِ - أَنْ تَأْكُلَ الْبَهِيمَةُ حَتَّى تَنْتَفِخَ وَيَفْسَدَ جَوْفُهَا. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٩: ٦٥) وَوَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦: ٨٨) وَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٨: ١٠٥).
وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ أَيْ: وَهُمْ مُقِيمُونَ فِي دَارِ الْعَذَابِ الَّتِي تُسَمَّى النَّارَ دُونَ غَيْرِهَا إِقَامَةَ خُلُودٍ وَبَقَاءٍ، لِكُفْرِهِمُ الْمُحْبِطِ لِأَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ حَتَّى لَا أَثَرَ لَهَا فِي
تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِحَاطَةِ خَطِيئَاتِهِمْ بِهَا وَتَدْسِيَتِهَا لَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا أَدْنَى اسْتِعْدَادٍ لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى فِي دَارِ الْكَرَامَةِ - وَمَا ثَمَّةَ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٤٢: ٧).
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ الْمُشْرِكِينَ لِعِمَارَةِ مَسَاجِدِ اللهِ أَثْبَتَهَا لِلْمُسْلِمِينَ الْكَامِلِينَ، وَجَعَلَهَا مَقْصُورَةً عَلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّأْنِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَقَامُ الْإِيجَابِ، وَهُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يُحَاسِبُ اللهُ فِيهِ الْعِبَادَ، وَيَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ، وَبَيْنَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ بِأَرْكَانِهَا وَآدَابِهَا وَتَدَبُّرِ تِلَاوَتِهَا وَأَذْكَارِهَا الَّتِي تُكْسِبُ مُقِيمَهَا مُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى وَحُبَّهُ، وَالْخُشُوعَ لَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ - وَإِعْطَاءِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ مِنْ نَقْدٍ وَزَرْعٍ وَتِجَارَةٍ لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - وَبَيْنَ خَشْيَةِ اللهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ كَالْأَصْنَامِ وَسَائِرِ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ خَوْفًا مِنْ ضَرَرِهِ أَوْ رَجَاءً فِي نَفْعِهِ فَالْمُرَادُ بِالْخَشْيَةِ الدِّينِيُّ مِنْهَا دُونَ الْغَرِيزِيِّ كَخَشْيَةِ أَسْبَابِ الضَّرَرِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَافِي خَشْيَةَ اللهِ، وَلَا يَقْتَضِي خَشْيَةَ الطَّاغُوتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ رَضِيَ النَّاسُ أَمْ سَخِطُوا.
189
فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَيْ: فَأُولَئِكَ الْجَامِعُونَ لِهَذِهِ الْخَمْسِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّتِي يَلْزَمُهَا سَائِرُ أَرْكَانِهَا هُمُ الَّذِينَ يَرْجُونَ بِحَقٍّ، أَوْ يُرْجَى لَهُمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي أَعْمَالِ الْبَشَرِ وَتَأْثِيرِهَا فِي إِصْلَاحِهِمْ، أَنْ يَكُونُوا مِنْ جَمَاعَةِ الْمُهْتَدِينَ إِلَى مَا يُحِبُّ اللهُ وَيَرْضَى مِنْ عِمَارَةِ مَسَاجِدِهِ حِسًّا وَمَعْنًى، وَاسْتِحْقَاقِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِالْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْجَامِعِينَ لِأَضْدَادِهَا مِنَ الْإِيمَانِ بِالطَّاغُوتِ، وَالشِّرْكِ بِاللهِ، وَالْكُفْرِ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ، الَّذِينَ دَنَّسُوا مَسْجِدَهُ
الْحَرَامَ بِالْأَصْنَامِ وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَصَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَجِّ وَالِاعْتِمَارِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ. وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَهُ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً كَعَبَثِ الْأَطْفَالِ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْعِ النَّاسِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَتَقَدَّمَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (٨: ٣٤ - ٣٦) فَشُرُورُ هَؤُلَاءِ وَضَلَالُهُمْ وَطُغْيَانُهُمُ الَّتِي هِيَ لَوَازِمُ الشِّرْكِ تُحْبِطُ كُلَّ عَمَلٍ حَسَنٍ عَمِلُوهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
كَلِمَةُ " عَسَى " تُفِيدُ الرَّجَاءَ دُونَ الْقَطْعِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا لِلتَّقْرِيبِ وَالْإِطْمَاعِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ بِمَعْنَى " لَعَلَّ " أَيْ لِلرَّجَاءِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَعَلَّ كَلِمَةُ تَرْجِيَةٍ وَتَطْمِيعٍ أَيْ لِلْمُخَاطَبِ بِهَا، فَالرَّجَاءُ هُنَا مَا يَكُونُ لِلْمُتَّصِفِينَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ مِنَ الْأَمَلِ وَالطَّمَعِ بِالْفِعْلِ أَوِ الشَّأْنِ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَقَامِ الْمُتَّقِينَ الْكَامِلِينَ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا كَوْنُ الرَّجَاءِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرْجَى وَلَا يَرْجُو، وَحَقِيقَةُ الرَّجَاءِ ظَنٌّ بِحُصُولِ أَمْرٍ وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ وَاتُّخِذَتْ وَسَائِلُهُ مِنْ مُبْتَغِيهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِحُصُولِهِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِهَا الْمُؤَدِّي إِلَى الْغَايَةِ، وَأَلَّا تُعَارِضَهَا الْمَوَانِعُ الَّتِي تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى الْمُقْتَضَى، كَالزَّارِعِ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَيَبْذُرُ الْحَبَّ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ، وَيَتَعَاهَدُ زَرْعَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عَزْقٍ وَسَقْيٍ وَسَمَادٍ، فَيَكُونُ مِنَ الْمَظْنُونِ الرَّاجِحِ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ لِمَا يُخْشَى مِنْ وُقُوعِ الْجَوَائِحِ الْمُهْلِكَةِ لَهُ مَثَلًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى بِفِعْلِ الْمُسْتَطَاعِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَرْجُوَ بِذَلِكَ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ، وَرَفْعَهَا إِلَى مَقَامِ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَثُوبَتِهِ وَرِضْوَانِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْزِمَ بِذَلِكَ لِمَا يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ مِنَ التَّقْصِيرِ وَشَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوْ عَدَمِ الثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ أَوْ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهَا، وَالْخَيْرُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ الَّذِي يَصُدُّهُ عَنِ التَّقْصِيرِ، وَالرَّجَاءِ الَّذِي يَبْعَثُهُ
عَلَى التَّشْمِيرِ، وَأَنْ يُرَجِّحَ الْخَوْفَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالرَّجَاءَ فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَلَا سِيَّمَا مَرَضُ الْمَوْتِ، وَمَنْ أَرَادَ نَعِيمَ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَسْعَ لَهَا سَعْيَهَا الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لَهَا فَهُوَ مِنَ الْحَمْقَى أَصْحَابِ الْأَمَانِيِّ لَا مِنْ أَصْحَابِ الرَّجَاءِ، فَهُوَ
الْحَرَامَ بِالْأَصْنَامِ وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَصَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَجِّ وَالِاعْتِمَارِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ. وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَهُ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً كَعَبَثِ الْأَطْفَالِ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْعِ النَّاسِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَتَقَدَّمَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ (٨: ٣٤ - ٣٦) فَشُرُورُ هَؤُلَاءِ وَضَلَالُهُمْ وَطُغْيَانُهُمُ الَّتِي هِيَ لَوَازِمُ الشِّرْكِ تُحْبِطُ كُلَّ عَمَلٍ حَسَنٍ عَمِلُوهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
كَلِمَةُ " عَسَى " تُفِيدُ الرَّجَاءَ دُونَ الْقَطْعِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا لِلتَّقْرِيبِ وَالْإِطْمَاعِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ بِمَعْنَى " لَعَلَّ " أَيْ لِلرَّجَاءِ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَعَلَّ كَلِمَةُ تَرْجِيَةٍ وَتَطْمِيعٍ أَيْ لِلْمُخَاطَبِ بِهَا، فَالرَّجَاءُ هُنَا مَا يَكُونُ لِلْمُتَّصِفِينَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ مِنَ الْأَمَلِ وَالطَّمَعِ بِالْفِعْلِ أَوِ الشَّأْنِ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَقَامِ الْمُتَّقِينَ الْكَامِلِينَ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَلَا يَصِحُّ هُنَا كَوْنُ الرَّجَاءِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرْجَى وَلَا يَرْجُو، وَحَقِيقَةُ الرَّجَاءِ ظَنٌّ بِحُصُولِ أَمْرٍ وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ وَاتُّخِذَتْ وَسَائِلُهُ مِنْ مُبْتَغِيهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِحُصُولِهِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِهَا الْمُؤَدِّي إِلَى الْغَايَةِ، وَأَلَّا تُعَارِضَهَا الْمَوَانِعُ الَّتِي تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى الْمُقْتَضَى، كَالزَّارِعِ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَيَبْذُرُ الْحَبَّ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ، وَيَتَعَاهَدُ زَرْعَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عَزْقٍ وَسَقْيٍ وَسَمَادٍ، فَيَكُونُ مِنَ الْمَظْنُونِ الرَّاجِحِ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ لِمَا يُخْشَى مِنْ وُقُوعِ الْجَوَائِحِ الْمُهْلِكَةِ لَهُ مَثَلًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى بِفِعْلِ الْمُسْتَطَاعِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَرْجُوَ بِذَلِكَ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ، وَرَفْعَهَا إِلَى مَقَامِ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَثُوبَتِهِ وَرِضْوَانِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْزِمَ بِذَلِكَ لِمَا يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ مِنَ التَّقْصِيرِ وَشَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوْ عَدَمِ الثَّبَاتِ عَلَى الطَّاعَةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ أَوْ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهَا، وَالْخَيْرُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ الَّذِي يَصُدُّهُ عَنِ التَّقْصِيرِ، وَالرَّجَاءِ الَّذِي يَبْعَثُهُ
عَلَى التَّشْمِيرِ، وَأَنْ يُرَجِّحَ الْخَوْفَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالرَّجَاءَ فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَلَا سِيَّمَا مَرَضُ الْمَوْتِ، وَمَنْ أَرَادَ نَعِيمَ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَسْعَ لَهَا سَعْيَهَا الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لَهَا فَهُوَ مِنَ الْحَمْقَى أَصْحَابِ الْأَمَانِيِّ لَا مِنْ أَصْحَابِ الرَّجَاءِ، فَهُوَ
190
كَمَنْ أَحَبَّ أَنْ تُنْبِتَ لَهُ أَرْضُهُ غَلَّةً حَسَنَةً كَثِيرَةً وَلَمْ يَزْرَعْهَا... إِلَخْ. فَسُنَّةُ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاحِدَةٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ " عَسَى " هُنَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى: قَالُوا: إِنَّهَا مِنْهُ تَعَالَى لِلْإِيجَابِ وَالْقَطْعِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّوَقُّعِ وَالظَّنِّ وَعَنِ الْإِطْمَاعِ فِي الشَّيْءِ، وَإِخْلَافِهِ بَعْدَ تَقْرِيبِهِ، وَرَوَوْا هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَخَبَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ (٥: ٥٢) وَقَوْلُهُ: عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً (٦٠: ٧) فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ وَعْدٌ قَطْعِيٌّ عِنْدَهُ تَعَالَى فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعَسَى: إِبْهَامُهُ وَعَدَمُ إِعْلَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ، وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ رَأَى أَنَّ هَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى مَا فَسَّرَ بِهِ " عَسَى " هُنَا، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَدَمُ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ وُقُوعِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ عَادَوْهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قَرِيبُ الْوُقُوعِ، فَهُوَ مَرْجُوٌّ وَمُتَوَقَّعٌ فِي نَفْسِهِ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وَيَحْسِبُوا لَهُ حِسَابًا فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّ مَعْنَى " لَعَلَّ " فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى: الْإِعْدَادُ لِمُتَعَلَّقِهَا. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ رَاجِعْ (ص١٥٥ وَمَا بَعْدَهَا ج ١ ط الْهَيْئَةِ).
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ وَصْفَ عَمَارِ الْمَسَاجِدِ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُشْرَعُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِبَارَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحُضُورُ فِيهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ فَتَحْصُلُ بِهِ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا كَانَ مُؤْتِيًا لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ طَوَائِفُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِطَلَبِ أَخْذِ الزَّكَاةِ فَتَحْصُلُ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ بِهِ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا
الْعِمَارَةَ عَلَى مَصَالِحِ الْبِنَاءِ، فَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَاجِبٌ، وَبِنَاءَ الْمَسْجِدِ نَافِلَةٌ، وَالْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنِ الْوَاجِبِ لَا يُشْغَلُ بِالنَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لِلزَّكَاةِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، انْتَهَى بِنَصِّهِ.
وَالَّذِي نَرَاهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ بَيَانُ الْإِسْلَامِ الْكَامِلِ الَّذِي يَقُومُ أَهْلُهُ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ بِالْفِعْلِ، كَمَا أَنَّهُمْ هُمْ أَصْحَابُ الْحَقِّ فِيهَا، وَهَذِهِ أُسُسُهُ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهَا مَدَارُ النَّجَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢: ٦٢) وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَعْظَمَ أَرْكَانِهِ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ مُجَرَّدِينَ مِنْهَا، وَاشْتَرَطَ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِمْ قَبُولَهَا كُلَّهَا، أَوْ مَا عَدَا الْبَاطِنَ مِنْهَا، وَهُوَ الْخَشْيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الصَّلَاةُ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ " عَسَى " هُنَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى: قَالُوا: إِنَّهَا مِنْهُ تَعَالَى لِلْإِيجَابِ وَالْقَطْعِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّوَقُّعِ وَالظَّنِّ وَعَنِ الْإِطْمَاعِ فِي الشَّيْءِ، وَإِخْلَافِهِ بَعْدَ تَقْرِيبِهِ، وَرَوَوْا هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَخَبَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ (٥: ٥٢) وَقَوْلُهُ: عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً (٦٠: ٧) فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ وَعْدٌ قَطْعِيٌّ عِنْدَهُ تَعَالَى فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعَسَى: إِبْهَامُهُ وَعَدَمُ إِعْلَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ، وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ رَأَى أَنَّ هَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى مَا فَسَّرَ بِهِ " عَسَى " هُنَا، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَدَمُ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ وُقُوعِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ عَادَوْهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قَرِيبُ الْوُقُوعِ، فَهُوَ مَرْجُوٌّ وَمُتَوَقَّعٌ فِي نَفْسِهِ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وَيَحْسِبُوا لَهُ حِسَابًا فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّ مَعْنَى " لَعَلَّ " فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى: الْإِعْدَادُ لِمُتَعَلَّقِهَا. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ رَاجِعْ (ص١٥٥ وَمَا بَعْدَهَا ج ١ ط الْهَيْئَةِ).
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ وَصْفَ عَمَارِ الْمَسَاجِدِ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُشْرَعُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِبَارَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحُضُورُ فِيهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ فَتَحْصُلُ بِهِ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا كَانَ مُؤْتِيًا لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ طَوَائِفُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِطَلَبِ أَخْذِ الزَّكَاةِ فَتَحْصُلُ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ بِهِ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا
الْعِمَارَةَ عَلَى مَصَالِحِ الْبِنَاءِ، فَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَاجِبٌ، وَبِنَاءَ الْمَسْجِدِ نَافِلَةٌ، وَالْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنِ الْوَاجِبِ لَا يُشْغَلُ بِالنَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لِلزَّكَاةِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، انْتَهَى بِنَصِّهِ.
وَالَّذِي نَرَاهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ بَيَانُ الْإِسْلَامِ الْكَامِلِ الَّذِي يَقُومُ أَهْلُهُ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ بِالْفِعْلِ، كَمَا أَنَّهُمْ هُمْ أَصْحَابُ الْحَقِّ فِيهَا، وَهَذِهِ أُسُسُهُ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهَا مَدَارُ النَّجَاةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢: ٦٢) وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَعْظَمَ أَرْكَانِهِ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ مُجَرَّدِينَ مِنْهَا، وَاشْتَرَطَ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِمْ قَبُولَهَا كُلَّهَا، أَوْ مَا عَدَا الْبَاطِنَ مِنْهَا، وَهُوَ الْخَشْيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الصَّلَاةُ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ
191
وَالزَّكَاةُ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ - وَخَشْيَةُ اللهِ وَحْدَهُ أَعْظَمُ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَاتِ النَّفْسِيَّةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ؛ لِأَنَّ رِسَالَتَهُمْ وَسِيلَةٌ إِلَى هَذِهِ الْمَقَاصِدِ، وَلَا تَحْصُلُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ بِدُونِهَا فَهِيَ تَسْتَلْزِمُهَا، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ فَرَائِضِهَا، وَمِنْ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ لَهَا، وَقَوْلُ الرَّازِيِّ: إِنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ لَا يَبْنِي الْمَسَاجِدَ حَقٌّ كَقَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ: إِنَّ الَّذِي يُزَكِّي لَا يَسْرِقُ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا وَذَاكَ فِيمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا بِالْمَالِ الْحَرَامِ، وَهُوَ لَا يُصَلِّي، وَإِنَّمَا يَبْنِيهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، أَوْ لِيَجْعَلَ فِيهِ أَوْ فِي قُبَّةٍ بِجَانِبِهِ قَبْرًا لَهُ يُذْكَرُ بِهِ اسْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَيُسَاعِدُ الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةِ بِالْمَالِ الْحَرَامِ وَيَأْكُلُ الْحَرَامَ، وَلَا يُؤَدِّي جَمِيعَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُرَاءٍ يَبْتَغِي بِإِنْفَاقِهِ السُّمْعَةَ وَالصِّيتَ الْحَسَنَ لَا مَثُوبَةَ اللهِ وَمَرْضَاتَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ لَمَّا بَنَى
مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَامَهُ النَّاسُ قَالَ: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْسِيعَ الْمَسْجِدِ كَابْتِدَائِهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ بِدُونِ وَصْفٍ لِلْمَسْجِدِ، وَرُوِيَ بِلَفْظِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا أَوْسَعَ مِنْهُ وَبِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا، وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - وَأَنْ تُطَيَّبَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَيْ تَكْنِسُهُ فَمَاتَتْ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ مَاتَتْ فَقَالَ: " أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهَا؟ " أَيْ أَعْلَمْتُمُونِي بِمَوْتِهَا لِأُصَلِّيَ عَلَيْهَا دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا " فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَعْضِ السُّنَنِ أَيْضًا أَنَّ الْبُزَاقَ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَأَى نُخَامَةً فِي الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا، وَرُئِيَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِزَالَةُ الْقَذَرِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَتَطْهِيرُهُ وَاجِبٌ، وَاتِّبَاعُ أَثَرِ الْقَذَرِ بِالطِّيبِ مُسْتَحَبٌّ.
وَمِنْهَا فِي الْمَعْنَى الثَّانِي مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا صَلَاةُ الْجَمِيعِ - وَفِي رِوَايَةٍ - الْجَمَاعَةُ تَزِيدُ عَلَى صِلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصِلَاتِهِ فِي سُوقِهِ
وَقَدْ وَرَدَ فِي عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ لَمَّا بَنَى
مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَامَهُ النَّاسُ قَالَ: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْسِيعَ الْمَسْجِدِ كَابْتِدَائِهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ بِدُونِ وَصْفٍ لِلْمَسْجِدِ، وَرُوِيَ بِلَفْظِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا أَوْسَعَ مِنْهُ وَبِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا، وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - وَأَنْ تُطَيَّبَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَيْ تَكْنِسُهُ فَمَاتَتْ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ مَاتَتْ فَقَالَ: " أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهَا؟ " أَيْ أَعْلَمْتُمُونِي بِمَوْتِهَا لِأُصَلِّيَ عَلَيْهَا دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا " فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَعْضِ السُّنَنِ أَيْضًا أَنَّ الْبُزَاقَ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَأَى نُخَامَةً فِي الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا، وَرُئِيَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِزَالَةُ الْقَذَرِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَتَطْهِيرُهُ وَاجِبٌ، وَاتِّبَاعُ أَثَرِ الْقَذَرِ بِالطِّيبِ مُسْتَحَبٌّ.
وَمِنْهَا فِي الْمَعْنَى الثَّانِي مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا صَلَاةُ الْجَمِيعِ - وَفِي رِوَايَةٍ - الْجَمَاعَةُ تَزِيدُ عَلَى صِلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصِلَاتِهِ فِي سُوقِهِ
192
خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ وَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُؤْذِ بِحَدَثٍ أَيْ بِحَدَثٍ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَمِنْهُ رَائِحَةُ الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَنَحْوُهُمَا كَالدُّخَانِ الْمَعْرُوفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ
الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهِ عَلَى مَنْعِ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَنَحْوَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، إِلَّا أَنْ يُزِيلَ الرَّائِحَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرِيَّةُ يُحَرِّمُونَ أَكْلَ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ فَرْضُ عَيْنٍ كَالْحَنَابِلَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ فَرْضِيَّتَهَا لَا تَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا ذُكِرَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَكْلُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا جَمَاعَةَ فِيهَا كَأَوَّلِ النَّهَارِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ، إِذْ تَزُولُ الرَّائِحَةُ فِي الْغَالِبِ قَبْلَ الظُّهْرِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى وَقَبْلَ الْفَجْرِ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُمْكِنُ إِزَالَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِتَنْظِيفِ الْفَمِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، وَأَكْلِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمُعَطِّرَةِ كَأَقْرَاصِ النَّعْنَعِ الْمَعْرُوفَةِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُبُوبِ الْعِطْرِيَّةِ الَّتِي تُمْتَصُّ لِتَطْيِيبِ الْفَمِ.
وَجَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهمْ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهَا خَضْرَوَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ فَقَالَ: " قَرِّبُوهَا " (وَأَشَارَ) إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: " كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي " وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ صُنِعَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّاحِبِ الَّذِي أَمَرَهُ بِأَكْلِهِ هُوَ ضَائِفُهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَفِيهِ أَنَّ الطَّعَامَ كَانَ فِيهِ ثُومٌ (لَمْ تَذْهَبْ رَائِحَتُهُ) وَأَنَّهُ قَالَ: أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ " وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا قَالَ: لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ " الثُّومِ " وَالنَّاسُ جِيَاعٌ فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الرِّيحَ فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلَا يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ، حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ
الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهِ عَلَى مَنْعِ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَنَحْوَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، إِلَّا أَنْ يُزِيلَ الرَّائِحَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرِيَّةُ يُحَرِّمُونَ أَكْلَ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ فَرْضُ عَيْنٍ كَالْحَنَابِلَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ فَرْضِيَّتَهَا لَا تَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا ذُكِرَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَكْلُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا جَمَاعَةَ فِيهَا كَأَوَّلِ النَّهَارِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ، إِذْ تَزُولُ الرَّائِحَةُ فِي الْغَالِبِ قَبْلَ الظُّهْرِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى وَقَبْلَ الْفَجْرِ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُمْكِنُ إِزَالَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِتَنْظِيفِ الْفَمِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، وَأَكْلِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمُعَطِّرَةِ كَأَقْرَاصِ النَّعْنَعِ الْمَعْرُوفَةِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُبُوبِ الْعِطْرِيَّةِ الَّتِي تُمْتَصُّ لِتَطْيِيبِ الْفَمِ.
وَجَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهمْ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهَا خَضْرَوَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ فَقَالَ: " قَرِّبُوهَا " (وَأَشَارَ) إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: " كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي " وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ صُنِعَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّاحِبِ الَّذِي أَمَرَهُ بِأَكْلِهِ هُوَ ضَائِفُهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَفِيهِ أَنَّ الطَّعَامَ كَانَ فِيهِ ثُومٌ (لَمْ تَذْهَبْ رَائِحَتُهُ) وَأَنَّهُ قَالَ: أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ " وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا قَالَ: لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ " الثُّومِ " وَالنَّاسُ جِيَاعٌ فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الرِّيحَ فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلَا يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ، حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ
193
أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدُ فَاشْهَدُوا
لَهُ بِالْإِيمَانِ وَتَلَا: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ الْآيَةَ. وَهُوَ نَصٌّ فِي الْعِمَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْحَافِظَ الذَّهَبِيَّ أَنْكَرَ عَلَى الْحَاكِمِ تَصْحِيحَهُ. وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ وَمُنْكَرَةٌ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا. وَسَيَأْتِي حُكْمُ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمَسَاجِدَ فِي تَفْسِيرِ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (٩: ٢٨).
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ هَذِهِ الْآيَاتُ تَكْمِلَةٌ لِمَوْضُوعِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا فِي بَيَانِ كَوْنِ الْحَقِّ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِنَوْعَيْهَا لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَوْنِ إِيمَانِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يَفْخَرُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِمَارَتِهِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ فِيهِ، وَإِنْ قَامَ بِهِمَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسُهُمْ خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَبَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ لِلَّهِ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ آخَرُ: بَلِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ. فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ. وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ
الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. (فَدَخَلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَاسْتَفْتَاهُ) فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَرَوَى الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
لَهُ بِالْإِيمَانِ وَتَلَا: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ الْآيَةَ. وَهُوَ نَصٌّ فِي الْعِمَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْحَافِظَ الذَّهَبِيَّ أَنْكَرَ عَلَى الْحَاكِمِ تَصْحِيحَهُ. وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ وَمُنْكَرَةٌ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا. وَسَيَأْتِي حُكْمُ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمَسَاجِدَ فِي تَفْسِيرِ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (٩: ٢٨).
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ هَذِهِ الْآيَاتُ تَكْمِلَةٌ لِمَوْضُوعِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا فِي بَيَانِ كَوْنِ الْحَقِّ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِنَوْعَيْهَا لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَوْنِ إِيمَانِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ يَفْخَرُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِمَارَتِهِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ فِيهِ، وَإِنْ قَامَ بِهِمَا الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسُهُمْ خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَبَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ لِلَّهِ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ آخَرُ: بَلِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ. فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ. وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ
الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. (فَدَخَلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَاسْتَفْتَاهُ) فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَرَوَى الْفِرْيَابِيُّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
194
مَكَّةَ فَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: أَيْ عَمِّ أَلَا تُهَاجِرُ؟ أَلَا تَلْحَقُ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَعْمُرُ الْمَسْجِدَ وَأَحْجُبُ الْبَيْتَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ الْآيَةَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ: إِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَسَقِي الْحَاجَّ، وَنَفُكُّ الْعَانِيَ (أَيِ الْأَسِيرَ) فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ.
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: افْتَخَرَ طَلْحَةُ بْنُ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ مَعِي مِفْتَاحُهُ، وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِيهِ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ النَّاسِ وَأَنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ. فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ الْآيَةَ كُلَّهَا. فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ وَقَائِعٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا.
وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ حَدِيثُ النُّعْمَانِ؛ لِصِحَّةِ سَنَدِهِ وَمُوَافَقَةِ مَتْنِهِ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ كَوْنِ مَوْضُوعِهَا فِي الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَحُجَّاجِهِ - مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الْبَدَنِيَّةِ الْهَيِّنَةِ الْمُسْتَلَذَّةِ - وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْهِجْرَةِ وَهِيَ أَشَقُّ الْعِبَادَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَالِيَّةِ، وَالْآيَاتُ تَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَيْهَا كُلَّهَا. وَفِي أَثَرِ عَلِيٍّ أَنَّ الْعَبَّاسَ ذَكَرَ حِجَابَةَ الْبَيْتِ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ لَهُ دُونَ السِّقَايَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ، وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ.
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ. وَالسِّقَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي
يُسْقَى فِيهِ الْمَاءُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا الْإِنَاءُ الَّذِي يُسْقَى بِهِ، وَمِنْهُ: جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ (١٢: ٧٠) سُمِّيَتْ سِقَايَةً؛ لِأَنَّهَا يُسْقَى بِهَا، وَصُوَاعًا لِأَنَّهَا يُكَالُ بِهَا كَالصَّاعِ وَهُوَ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ. قَالَ فِي اللِّسَانِ (كَغَيْرِهِ) وَالسِّقَايَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُتَّخَذُ فِيهِ الشَّرَابُ فِي الْمَوَاسِمِ وَغَيْرِهَا. (ثُمَّ قَالَ) وَفِي الْحَدِيثِ كُلُّ مَأْثُرَةٍ مِنْ مَآثِرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِيَّ إِلَّا سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَسِدَانَةَ الْبَيْتِ هِيَ مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَسْقِيهِ الْحُجَّاجَ مِنَ الزَّبِيبِ الْمَنْبُوذِ فِي الْمَاءِ، وَكَانَ يَلِيهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ اهـ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ خُطْبَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ مَا نَصُّهُ: سِقَايَةُ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مَوْضِعٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ زَادَهُ اللهُ تَعَالَى شَرَفًا، يَسْتَقِي فِيهَا الْمَاءَ؛ لِيَشْرَبَهُ النَّاسُ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ زَمْزَمَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، حَكَى الْأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِهِ تَارِيخِ مَكَّةَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ السِّقَايَةَ حِيَاضٌ مِنْ أَدَمٍ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ تُوضَعُ بِفَنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَيُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنَ الْآبَارِ عَلَى الْإِبِلِ وَيُسْقَاهُ
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: افْتَخَرَ طَلْحَةُ بْنُ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ مَعِي مِفْتَاحُهُ، وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِيهِ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ النَّاسِ وَأَنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ. فَأَنْزَلَ اللهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ الْآيَةَ كُلَّهَا. فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ وَقَائِعٌ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا.
وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ حَدِيثُ النُّعْمَانِ؛ لِصِحَّةِ سَنَدِهِ وَمُوَافَقَةِ مَتْنِهِ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ كَوْنِ مَوْضُوعِهَا فِي الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَحُجَّاجِهِ - مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الْبَدَنِيَّةِ الْهَيِّنَةِ الْمُسْتَلَذَّةِ - وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالْهِجْرَةِ وَهِيَ أَشَقُّ الْعِبَادَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَالِيَّةِ، وَالْآيَاتُ تَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَيْهَا كُلَّهَا. وَفِي أَثَرِ عَلِيٍّ أَنَّ الْعَبَّاسَ ذَكَرَ حِجَابَةَ الْبَيْتِ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ لَهُ دُونَ السِّقَايَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ، وَأَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ.
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ. وَالسِّقَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي
يُسْقَى فِيهِ الْمَاءُ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا الْإِنَاءُ الَّذِي يُسْقَى بِهِ، وَمِنْهُ: جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ (١٢: ٧٠) سُمِّيَتْ سِقَايَةً؛ لِأَنَّهَا يُسْقَى بِهَا، وَصُوَاعًا لِأَنَّهَا يُكَالُ بِهَا كَالصَّاعِ وَهُوَ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ. قَالَ فِي اللِّسَانِ (كَغَيْرِهِ) وَالسِّقَايَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُتَّخَذُ فِيهِ الشَّرَابُ فِي الْمَوَاسِمِ وَغَيْرِهَا. (ثُمَّ قَالَ) وَفِي الْحَدِيثِ كُلُّ مَأْثُرَةٍ مِنْ مَآثِرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِيَّ إِلَّا سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَسِدَانَةَ الْبَيْتِ هِيَ مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَسْقِيهِ الْحُجَّاجَ مِنَ الزَّبِيبِ الْمَنْبُوذِ فِي الْمَاءِ، وَكَانَ يَلِيهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ اهـ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ خُطْبَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ مَا نَصُّهُ: سِقَايَةُ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مَوْضِعٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ زَادَهُ اللهُ تَعَالَى شَرَفًا، يَسْتَقِي فِيهَا الْمَاءَ؛ لِيَشْرَبَهُ النَّاسُ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ زَمْزَمَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، حَكَى الْأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِهِ تَارِيخِ مَكَّةَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ السِّقَايَةَ حِيَاضٌ مِنْ أَدَمٍ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ تُوضَعُ بِفَنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَيُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنَ الْآبَارِ عَلَى الْإِبِلِ وَيُسْقَاهُ
195
الْحَاجُّ، فَجَعَلَ قُصَيٌّ عِنْدَ مَوْتِهِ أَمْرَ السِّقَايَةِ لِابْنِهِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَمْ تَزَلْ مَعَ عَبْدِ مَنَافٍ يَقُومُ بِهَا فَكَانَ يَسْقِي الْمَاءَ مِنْ بِئْرِ كَرَادِمَ وَغَيْرِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَمِنْ حُصُونِ خَيْبَرَ اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَنَى هَذَا الْمَكَانَ الْمُسَمَّى بِسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ، وَلَا يَزَالُ مَاثِلًا إِلَى الْآنِ، وَهُوَ حَجَرَةٌ كَبِيرَةٌ فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ وَصَفَ مُؤَرِّخُو مَكَّةَ مِسَاحَتَهَا وَبُعْدَهَا عَنْ زَمْزَمَ وَعَنِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ.
وَيُؤْخَذُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْكَلِمَةِ أَنَّهَا صَارَتِ اسْمَ حِرْفَةٍ، وَكَذَا الْحِجَابَةُ، وَهِيَ سِدَانَةُ الْبَيْتِ، وَهُمَا أَفْضَلُ مَآثِرِ قُرَيْشٍ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُمَا الْإِسْلَامُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ قَوْلَ الْعَبَّاسِ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ، وَقَوْلَ النَّاسِ فِيهِ كَقَوْلِهِ لَا يُرَادُ بِهِ
أَنَّهُ صَاحِبُ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُحَلَّى بِالزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ الْمَنْبُوذِ فِيهِ، وَلَا ذَلِكَ الْمَاءُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى إِدَارَةَ هَذَا الْعَمَلِ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ وَنَبْذُهُ بِالْمَاءِ وَوَضْعُ أَوَانِيهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّتِي يَرِدُهَا الْحُجَّاجُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَغْفُلَ أَيُّ لُغَوِيٍّ أَوْ مُفَسِّرٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا اسْمٌ لِمَكَانِ السَّقْيِ، وَبَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَصْدَرُ سَقَى أَوْ أَسْقَى إِلَخْ.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ مُقْتَضَى حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا: أَيَّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ وَمُقْتَضَى حَدِيثَيْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالِاسْتِفْهَامَ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ، وَتَشْبِيهُ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ وَالصِّفَةِ بِالذَّاتِ كَإِسْنَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الْمَعْهُودَةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ (٢: ١٧٧) إِلَخْ. وَطَرِيقَةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ تَحْوِيلُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ لِيَتَّحِدَ الْمُشَبَّهُ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ، وَالْمُسْنَدُ وَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ هُنَا: أَجَعَلْتُمْ أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَأَهْلَ الْعِمَارَةِ لِلْبَيْتِ، أَوْ فَاعِلَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمُتَوَلِّيَهُ، كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِبَقِيَّةِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. أَوْ يَقُولُونَ: أَجَعَلْتُمْ هَذِهِ السِّقَايَةَ وَالْعِمَارَةَ كَالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى النَّهْيِ. أَيْ: لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُ خَطَأٌ ظَاهِرٌ كَمَا بَيَّنَهُ مَا بَعْدَهُ. وَنُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ كَالْفِعْلِ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَيْسَ كَالْآخَرِ بَلْ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ وَالدَّرَجَاتِ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ إِلَى قَوْلِهِ: أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ: لَا يُسَاوِي الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ فِي صِفَتِهِ، وَلَا فِي عَمَلِهِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَلَا فِي مَثُوبَتِهِ وَجَزَائِهِ عِنْدَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُفَضِّلَهُ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا يَزْعُمُ كُبَرَاءُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَجَّحُونَ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ
أَقُولُ: وَقَدْ بَنَى هَذَا الْمَكَانَ الْمُسَمَّى بِسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ، وَلَا يَزَالُ مَاثِلًا إِلَى الْآنِ، وَهُوَ حَجَرَةٌ كَبِيرَةٌ فِي جِهَةِ الْجَنُوبِ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ وَصَفَ مُؤَرِّخُو مَكَّةَ مِسَاحَتَهَا وَبُعْدَهَا عَنْ زَمْزَمَ وَعَنِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ.
وَيُؤْخَذُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْكَلِمَةِ أَنَّهَا صَارَتِ اسْمَ حِرْفَةٍ، وَكَذَا الْحِجَابَةُ، وَهِيَ سِدَانَةُ الْبَيْتِ، وَهُمَا أَفْضَلُ مَآثِرِ قُرَيْشٍ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُمَا الْإِسْلَامُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ قَوْلَ الْعَبَّاسِ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ، وَقَوْلَ النَّاسِ فِيهِ كَقَوْلِهِ لَا يُرَادُ بِهِ
أَنَّهُ صَاحِبُ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُحَلَّى بِالزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ الْمَنْبُوذِ فِيهِ، وَلَا ذَلِكَ الْمَاءُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى إِدَارَةَ هَذَا الْعَمَلِ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ وَنَبْذُهُ بِالْمَاءِ وَوَضْعُ أَوَانِيهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّتِي يَرِدُهَا الْحُجَّاجُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَغْفُلَ أَيُّ لُغَوِيٍّ أَوْ مُفَسِّرٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا اسْمٌ لِمَكَانِ السَّقْيِ، وَبَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَصْدَرُ سَقَى أَوْ أَسْقَى إِلَخْ.
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ مُقْتَضَى حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا: أَيَّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ وَمُقْتَضَى حَدِيثَيْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالِاسْتِفْهَامَ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ، وَتَشْبِيهُ الْفِعْلِ بِالْفَاعِلِ وَالصِّفَةِ بِالذَّاتِ كَإِسْنَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الْمَعْهُودَةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ (٢: ١٧٧) إِلَخْ. وَطَرِيقَةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ تَحْوِيلُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ لِيَتَّحِدَ الْمُشَبَّهُ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ، وَالْمُسْنَدُ وَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ هُنَا: أَجَعَلْتُمْ أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَأَهْلَ الْعِمَارَةِ لِلْبَيْتِ، أَوْ فَاعِلَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمُتَوَلِّيَهُ، كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ. وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِبَقِيَّةِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. أَوْ يَقُولُونَ: أَجَعَلْتُمْ هَذِهِ السِّقَايَةَ وَالْعِمَارَةَ كَالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى النَّهْيِ. أَيْ: لَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُ خَطَأٌ ظَاهِرٌ كَمَا بَيَّنَهُ مَا بَعْدَهُ. وَنُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ كَالْفِعْلِ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لَيْسَ كَالْآخَرِ بَلْ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ وَالدَّرَجَاتِ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ إِلَى قَوْلِهِ: أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ: لَا يُسَاوِي الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ فِي صِفَتِهِ، وَلَا فِي عَمَلِهِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَلَا فِي مَثُوبَتِهِ وَجَزَائِهِ عِنْدَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُفَضِّلَهُ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمَا يَزْعُمُ كُبَرَاءُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا يَتَبَجَّحُونَ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ
196
وَيَسْتَكْبِرُونَ
عَلَى النَّاسِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٢٣: ٦٧). عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي (بِهِ) لِلْبَيْتِ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبِلَ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: ؛ لِأَنَّ اشْتِهَارَ اسْتِكْبَارِهِمْ وَافْتِخَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ قُوَّامُهُ وَسَدَنَتُهُ وَعُمَّارُهُ أَغْنَى عَنْ سَبْقِ ذِكْرِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَدِينُ لَهُمْ بِذَلِكَ، لِامْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَبِسِقَايَةِ حُجَّاجِهِ، وَكَذَا ضِيَافَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَامَّةً كَالسِّقَايَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا لَمْ تَكُنْ عَامَّةً، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحُجَّاجَ كَانُوا وَمَا زَالُوا أَحْوَجَ إِلَى الْمَاءِ فِي الْحَرَمِ مِنَ الزَّادِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَاجٍّ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَ مِنَ الزَّادِ مَا يَكْفِيهِ مُدَّةَ سَفَرِهِ إِلَى الْحَرَمِ، وَعَوْدَتِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَلَا سِيَّمَا الْعَرَبِيُّ الْقَنُوعُ الْقَلِيلُ الْأَكْلِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ كُلَّ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَا نِصْفَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ شُرُوطِ اسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ الزَّادُ لِإِمْكَانِهِ مَعَ كَفَالَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْحَرَمِ لِتَوْفِيرِ الْمَاءِ فِيهِ، وَحُكُومَةُ السُّنَّةِ السُّعُودِيَّةِ فِي هَذَا الْعَهْدِ تَزْدَادُ عِنَايَتُهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ بِتَوْفِيرِ الْمَاءِ وَنَظَافَتِهِ لِمِئَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ الْحُجَّاجِ، وَأَمَّا سَقْيُهُمُ الْمَاءَ الْمُحَلَّى فَقَدْ بَطَلَ مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَذَّرًا لِكَثْرَتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ رِيعُ أَوْقَافِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُضْبَطُ وَيُرْسَلُ إِلَى حُكُومَةِ الْحِجَازِ لَأَمْكَنَهَا إِعَادَتُهُ، وَوَضْعُ نِظَامٍ لِتَعْمِيمِهِ فِي مَكَّةَ أَوْ مِنًى.
هَذَا - وَإِنَّ فَضِيلَةَ الْبَيْتِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي بُنِيَ لِأَجْلِهَا هِيَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ فِيهِ بِمَا شَرَعَهُ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَقَدْ جَنَى عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَدَنَّسُوهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، ثُمَّ بِصَدِّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ لَهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ (٤٨: ٢٥) ثُمَّ إِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْ جِوَارِهِ، لِإِيمَانِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ دُونَ مَا أَشْرَكُوهُ مَعَهُ كَمَا قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ (٦٠: ١) وَقَالَ فِيهِمْ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ (٢٢: ٤٠) فَأَيُّ مَزِيَّةٍ تَبْقَى مَعَ هَذِهِ الْجَرَائِمِ لِخِدْمَةِ حِجَارَتِهِ، وَاحْتِكَارِ مِفْتَاحِهِ، وَسِقَايَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ حُجَّاجِهِ؟ وَأَيُّ ظُلْمٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الظُّلْمِ فِي مَوْضُوعِهِ؟ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إِلَى الْحَقِّ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَلَا إِلَى الْحُكْمِ
الْعَدْلِ فِي أَعْمَالِ غَيْرِهِمْ، أَيْ: لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمْ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ مُهْدِيًا إِلَى مَا هُوَ ضِدُّ صِفَةِ الظُّلْمِ، وَمُنَافٍ لَهَا وَهُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ بِمَعْنَى النَّقِيضَيْنِ، وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أَشَدُّ إِسْرَافًا فِي الظُّلْمِ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الْهُدَى بِغُرُورِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ وَتَنَاصُرِهِمْ. وَمِنْ أَقْبَحِ هَذَا الظُّلْمِ تَفْضِيلُ خِدْمَةِ حِجَارَةِ الْبَيْتِ، وَحِفْظِ مِفْتَاحِهِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ الْمُطَهِّرِ لِلْأَنْفُسِ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَأَوْهَامِهِ - وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يَزَعُهَا أَنْ تَبْغِيَ وَتَظْلِمَ، وَيُحَبِّبَ إِلَيْهَا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَيُرَغِّبَهَا فِي الْخَيْرِ وَعَمَلِ الْبِرِّ، ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ لَا لِلْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ - وَعَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، لِإِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَتَرْقِيَةِ شُئُونِ الْبَشَرِ فِي مَدَارِجِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.
عَلَى النَّاسِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٢٣: ٦٧). عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي (بِهِ) لِلْبَيْتِ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبِلَ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: ؛ لِأَنَّ اشْتِهَارَ اسْتِكْبَارِهِمْ وَافْتِخَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ قُوَّامُهُ وَسَدَنَتُهُ وَعُمَّارُهُ أَغْنَى عَنْ سَبْقِ ذِكْرِهِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَدِينُ لَهُمْ بِذَلِكَ، لِامْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَبِسِقَايَةِ حُجَّاجِهِ، وَكَذَا ضِيَافَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَامَّةً كَالسِّقَايَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا لَمْ تَكُنْ عَامَّةً، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحُجَّاجَ كَانُوا وَمَا زَالُوا أَحْوَجَ إِلَى الْمَاءِ فِي الْحَرَمِ مِنَ الزَّادِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَاجٍّ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَ مِنَ الزَّادِ مَا يَكْفِيهِ مُدَّةَ سَفَرِهِ إِلَى الْحَرَمِ، وَعَوْدَتِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَلَا سِيَّمَا الْعَرَبِيُّ الْقَنُوعُ الْقَلِيلُ الْأَكْلِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ كُلَّ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَا نِصْفَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ شُرُوطِ اسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ الزَّادُ لِإِمْكَانِهِ مَعَ كَفَالَةِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْحَرَمِ لِتَوْفِيرِ الْمَاءِ فِيهِ، وَحُكُومَةُ السُّنَّةِ السُّعُودِيَّةِ فِي هَذَا الْعَهْدِ تَزْدَادُ عِنَايَتُهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ بِتَوْفِيرِ الْمَاءِ وَنَظَافَتِهِ لِمِئَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ الْحُجَّاجِ، وَأَمَّا سَقْيُهُمُ الْمَاءَ الْمُحَلَّى فَقَدْ بَطَلَ مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَذَّرًا لِكَثْرَتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ رِيعُ أَوْقَافِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُضْبَطُ وَيُرْسَلُ إِلَى حُكُومَةِ الْحِجَازِ لَأَمْكَنَهَا إِعَادَتُهُ، وَوَضْعُ نِظَامٍ لِتَعْمِيمِهِ فِي مَكَّةَ أَوْ مِنًى.
هَذَا - وَإِنَّ فَضِيلَةَ الْبَيْتِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي بُنِيَ لِأَجْلِهَا هِيَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ فِيهِ بِمَا شَرَعَهُ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَقَدْ جَنَى عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَدَنَّسُوهُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، ثُمَّ بِصَدِّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ لَهُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ (٤٨: ٢٥) ثُمَّ إِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْ جِوَارِهِ، لِإِيمَانِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ دُونَ مَا أَشْرَكُوهُ مَعَهُ كَمَا قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ (٦٠: ١) وَقَالَ فِيهِمْ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ (٢٢: ٤٠) فَأَيُّ مَزِيَّةٍ تَبْقَى مَعَ هَذِهِ الْجَرَائِمِ لِخِدْمَةِ حِجَارَتِهِ، وَاحْتِكَارِ مِفْتَاحِهِ، وَسِقَايَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ حُجَّاجِهِ؟ وَأَيُّ ظُلْمٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الظُّلْمِ فِي مَوْضُوعِهِ؟ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إِلَى الْحَقِّ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَلَا إِلَى الْحُكْمِ
الْعَدْلِ فِي أَعْمَالِ غَيْرِهِمْ، أَيْ: لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمْ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ مُهْدِيًا إِلَى مَا هُوَ ضِدُّ صِفَةِ الظُّلْمِ، وَمُنَافٍ لَهَا وَهُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ بِمَعْنَى النَّقِيضَيْنِ، وَالْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أَشَدُّ إِسْرَافًا فِي الظُّلْمِ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الْهُدَى بِغُرُورِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ وَتَنَاصُرِهِمْ. وَمِنْ أَقْبَحِ هَذَا الظُّلْمِ تَفْضِيلُ خِدْمَةِ حِجَارَةِ الْبَيْتِ، وَحِفْظِ مِفْتَاحِهِ، وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ الْمُطَهِّرِ لِلْأَنْفُسِ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَأَوْهَامِهِ - وَالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يَزَعُهَا أَنْ تَبْغِيَ وَتَظْلِمَ، وَيُحَبِّبَ إِلَيْهَا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَيُرَغِّبَهَا فِي الْخَيْرِ وَعَمَلِ الْبِرِّ، ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ لَا لِلْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ - وَعَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، لِإِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَتَرْقِيَةِ شُئُونِ الْبَشَرِ فِي مَدَارِجِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.
197
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْجِهَادَ يَشْمَلُ الْقِتَالَ وَالنَّفَقَةَ فِيهِ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، لِإِبْلَاغِهَا مَقَامَ الْكَمَالِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ ظَاهِرَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَإِبْطَالِ تَبَجُّحِهِمْ وَفَخْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَلَمَّا كَانَ نَفْيُ اسْتِوَاءِ الْفَرِيقَيْنِ، وَنَفْيُ اهْتِدَاءِ الظَّالِمِينَ إِلَى الْحُكْمِ الصَّحِيحِ فِي مَوْضُوعِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمَا - وَإِنِ اقْتَضَيَا بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ تَفْضِيلَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى فَرِيقِ السَّدَنَةِ وَالسَّقَّائِينَ - لَا يُعْرَفُ مِنْهُمَا كُنْهُ هَذَا الْفَضْلِ، وَلَا دَرَجَةُ أَهْلِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَشْرِفُ لَهُ التَّالِي وَالسَّامِعُ، بَيَّنَهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَيُّ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ "؟ فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ حُكْمِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَمَكَانِيَّةٌ جَزَائِيَّةٌ، أَيْ: أَعْظَمُ دَرَجَةً وَأَعْلَى مَقَامًا فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَأَكْبَرُ مَثُوبَةً فِي جِوَارِ اللهِ مِنْ أَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، الَّذِي رَأَى بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَمَلَهُمْ أَفْضَلُ الْقُرُبَاتِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ، الَّذِينَ
لَمْ يَنَالُوا فَضْلَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ بِنَوْعَيْهِ الْمَالِيِّ وَالنَّفْسِيِّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ فِي التَّفْضِيلِ عَدَمُ ذِكْرِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ.
(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ لَهُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ دَرَجَةُ الْإِيمَانِ مَعَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَعْظَمُ - وَقَدْ سَبَقَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبِلَ هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافُ ذَلِكَ. (قُلْنَا) لَا مِرَاءَ فِي كَوْنِ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَكُونُ لِصَاحِبِهَا دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِذَا فُعِلَا كَمَا يَرْضَى اللهُ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُمَا الْإِسْلَامُ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ وَظَائِفِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى يُحْبِطُهُمَا وَيُحْبِطُ غَيْرَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ أَيْ: وَأُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُهَاجِرُونَ الْمُجَاهِدُونَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِمَثُوبَةِ اللهِ الْفُضْلَى، وَكَرَامَتِهِ الْعُلْيَا الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ دُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَجْمِعًا لِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ سَقَى الْحَاجَّ، وَعَمَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَثَوَابُ الْمُؤْمِنِ عَلَى هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ، دُونَ ثَوَابِهِ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَا ثَوَابَ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ يُحْبِطُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِنْ فُرِضَ فِيهَا حُسْنُ النِّيَّةِ، وَقَلَّمَا يَفْعَلُهَا الْكَافِرُ إِلَّا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ.
وَهَا هُنَا تَسْتَشْرِفُ النَّفْسُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْفَوْزِ الْمُجْمَلِ فَبَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ، ثُمَّ عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أَيْ: رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ لَدُنْهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرِضْوَانٍ أَيْ: نَوْعٍ مِنَ الرِّضَى التَّامِّ الْكَامِلِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ، وَلَا يَعْقُبُهُ سَخَطٌ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ لَفْظِ رِضْوَانٍ فِي الْمَبْنَى عَلَى لَفْظِ
وَلَمَّا كَانَ نَفْيُ اسْتِوَاءِ الْفَرِيقَيْنِ، وَنَفْيُ اهْتِدَاءِ الظَّالِمِينَ إِلَى الْحُكْمِ الصَّحِيحِ فِي مَوْضُوعِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَهُمَا - وَإِنِ اقْتَضَيَا بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ تَفْضِيلَ فَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى فَرِيقِ السَّدَنَةِ وَالسَّقَّائِينَ - لَا يُعْرَفُ مِنْهُمَا كُنْهُ هَذَا الْفَضْلِ، وَلَا دَرَجَةُ أَهْلِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَشْرِفُ لَهُ التَّالِي وَالسَّامِعُ، بَيَّنَهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَنَازَعُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَيُّ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ "؟ فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ هَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ حُكْمِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَمَكَانِيَّةٌ جَزَائِيَّةٌ، أَيْ: أَعْظَمُ دَرَجَةً وَأَعْلَى مَقَامًا فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فِي حُكْمِ اللهِ، وَأَكْبَرُ مَثُوبَةً فِي جِوَارِ اللهِ مِنْ أَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، الَّذِي رَأَى بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عَمَلَهُمْ أَفْضَلُ الْقُرُبَاتِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ، الَّذِينَ
لَمْ يَنَالُوا فَضْلَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ بِنَوْعَيْهِ الْمَالِيِّ وَالنَّفْسِيِّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ فِي التَّفْضِيلِ عَدَمُ ذِكْرِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ.
(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ لَهُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ دَرَجَةُ الْإِيمَانِ مَعَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَعْظَمُ - وَقَدْ سَبَقَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبِلَ هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافُ ذَلِكَ. (قُلْنَا) لَا مِرَاءَ فِي كَوْنِ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَكُونُ لِصَاحِبِهَا دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى إِذَا فُعِلَا كَمَا يَرْضَى اللهُ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّهُمَا الْإِسْلَامُ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ وَظَائِفِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى يُحْبِطُهُمَا وَيُحْبِطُ غَيْرَهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ أَيْ: وَأُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُهَاجِرُونَ الْمُجَاهِدُونَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِمَثُوبَةِ اللهِ الْفُضْلَى، وَكَرَامَتِهِ الْعُلْيَا الْمُبَيَّنَةِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ دُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَجْمِعًا لِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ سَقَى الْحَاجَّ، وَعَمَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَثَوَابُ الْمُؤْمِنِ عَلَى هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ، دُونَ ثَوَابِهِ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَا ثَوَابَ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ يُحْبِطُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِنْ فُرِضَ فِيهَا حُسْنُ النِّيَّةِ، وَقَلَّمَا يَفْعَلُهَا الْكَافِرُ إِلَّا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ.
وَهَا هُنَا تَسْتَشْرِفُ النَّفْسُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا الْفَوْزِ الْمُجْمَلِ فَبَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ، ثُمَّ عَلَى لِسَانِ مَلَائِكَتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أَيْ: رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ لَدُنْهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرِضْوَانٍ أَيْ: نَوْعٍ مِنَ الرِّضَى التَّامِّ الْكَامِلِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ، وَلَا يَعْقُبُهُ سَخَطٌ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ لَفْظِ رِضْوَانٍ فِي الْمَبْنَى عَلَى لَفْظِ
رِضًى مَعَ تَنْكِيرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْآتِي وَجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَجِوَارِ الرَّحْمَنِ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَيْ: لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ عَظِيمٌ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ،
وَلَمْ يُهَاجِرْ هِجْرَتَهُمْ، وَلَمْ يُجَاهِدْ جِهَادَهُمْ، مُقِيمٌ دَائِمٌ لَا يَزُولُ عَلَى عِظَمِهِ وَكَمَالِهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ لَفْظِهِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَيْضًا.
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ: مُقِيمِينَ فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ إِقَامَةً أَبَدِيَّةً. أَكَّدَ الْخُلُودَ بِالْأَبَدِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ طُولُ الْمُكْثِ وَالْإِقَامَةِ، كَمَا قَالَ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١١: ١٠٨) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ وَالْأَبَدِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ مِرَارًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ: لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ - وَأَعْظَمُهُ وَأَنْفَعُهُ وَأَشَقُّهُ الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ - عَظِيمٌ جِدًّا لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ، وَنَاهِيكَ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ الْبَاعِثِ عَلَى هَجْرِ الْوَطَنِ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالسَّكَنِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ رَغَائِبِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا، وَبَذْلِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لِلْبَشَرِ مِنْ وُجُودِهِمْ، جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي شَرَعَهَا، وَالسُّنَنُ الَّتِي سَنَّهَا، لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ، وَإِقَامَةِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ لِعِبَادِهِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَجْرِ وَالْجَزَاءِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ. فَالْأَجْرُ الرُّوحَانِيُّ قِسْمَانِ، عَبَّرَ عَنْهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَهُمَا رُتْبَتَانِ أَوْ دَرَجَتَانِ، نَكَّرَهُمَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْوِيعِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ، تَشْمَلُ مَا يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنَ الْعَطْفِ وَالْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِمَّا هُوَ فَوْقَ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ الْخَلْقِ، الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَمَّا الرِّضْوَانُ وَهُوَ الِاسْمُ لِكَمَالِ الرِّضَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ فَوْقَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ كُلِّهِ فَإِنَّ اللهَ يَرْحَمُ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ أَعْلَى وَأَعْظَمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الرِّضْوَانَ أَعْلَى النَّعِيمِ وَأَكْمَلُ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ أَكْبَرُ نَعِيمِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) فَقَدْ عَطَفَ الرِّضْوَانَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ لَا عَطْفَ مُفْرَدٍ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ فَضْلٌ مُسْتَقِلٌّ فَوْقَ الْجَزَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ فِي الْوَعْدِ وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا فِيهَا -
فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْلَغَ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ الرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ آيَةِ هَذَا السِّيَاقِ، وَمِنْ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَهُمَا: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٣: ١٥) وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ رِضْوَانَ اللهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ نَعِيمِهَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ،
وَلَمْ يُهَاجِرْ هِجْرَتَهُمْ، وَلَمْ يُجَاهِدْ جِهَادَهُمْ، مُقِيمٌ دَائِمٌ لَا يَزُولُ عَلَى عِظَمِهِ وَكَمَالِهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ لَفْظِهِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَيْضًا.
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أَيْ: مُقِيمِينَ فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ إِقَامَةً أَبَدِيَّةً. أَكَّدَ الْخُلُودَ بِالْأَبَدِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ طُولُ الْمُكْثِ وَالْإِقَامَةِ، كَمَا قَالَ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١١: ١٠٨) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ وَالْأَبَدِ فِي مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ مِرَارًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ: لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ - وَأَعْظَمُهُ وَأَنْفَعُهُ وَأَشَقُّهُ الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ - عَظِيمٌ جِدًّا لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَمَّ نَوَالُهُ، وَنَاهِيكَ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ الْبَاعِثِ عَلَى هَجْرِ الْوَطَنِ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالسَّكَنِ، وَإِنْفَاقِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ رَغَائِبِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا، وَبَذْلِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لِلْبَشَرِ مِنْ وُجُودِهِمْ، جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي شَرَعَهَا، وَالسُّنَنُ الَّتِي سَنَّهَا، لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ، وَإِقَامَةِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ لِعِبَادِهِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَجْرِ وَالْجَزَاءِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ. فَالْأَجْرُ الرُّوحَانِيُّ قِسْمَانِ، عَبَّرَ عَنْهُمَا بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَهُمَا رُتْبَتَانِ أَوْ دَرَجَتَانِ، نَكَّرَهُمَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْوِيعِ وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ، تَشْمَلُ مَا يَخُصُّهُمْ بِهِ مِنَ الْعَطْفِ وَالْإِحْسَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِمَّا هُوَ فَوْقَ رَحْمَتِهِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ الْخَلْقِ، الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَمَّا الرِّضْوَانُ وَهُوَ الِاسْمُ لِكَمَالِ الرِّضَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ فَوْقَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ كُلِّهِ فَإِنَّ اللهَ يَرْحَمُ مَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ أَعْلَى وَأَعْظَمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الرِّضْوَانَ أَعْلَى النَّعِيمِ وَأَكْمَلُ الْجَزَاءِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ أَكْبَرُ نَعِيمِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) فَقَدْ عَطَفَ الرِّضْوَانَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفَ جُمْلَةٍ لَا عَطْفَ مُفْرَدٍ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ فَضْلٌ مُسْتَقِلٌّ فَوْقَ الْجَزَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ فِي الْوَعْدِ وَهُوَ الْجَنَّاتُ وَمَا فِيهَا -
فَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْلَغَ فِي تَعْظِيمِ شَأْنِ الرِّضْوَانِ الْإِلَهِيِّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ آيَةِ هَذَا السِّيَاقِ، وَمِنْ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَهُمَا: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٣: ١٥) وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ رِضْوَانَ اللهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ نَعِيمِهَا كُلِّهِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ: فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ،
قَالُوا: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا.
وَمِنْ تَنَطُّعِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ فِي فَلْسَفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنَ اللهِ النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، وَلَا الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ النَّعِيمَ الرُّوحَانِيَّ الْأَعْلَى فَقَطْ، وَهُوَ لِقَاؤُهُ وَرِضْوَانُهُ وَرُؤْيَتُهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهَا لَفَلْسَفَةٌ جَهْلِيَّةٌ مِنْ نَزَعَاتِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ، مُخَالِفَةٌ لِنُصُوصِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَهَدْيِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَكْبَرُ الْعِبَرِ لِلْمُسْلِمِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ الْبِدَعَ الطَّارِئَةَ عَلَى الدِّينِ يُقْصَدُ بِهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا أَنْ تَكُونَ مَزِيدَ كَمَالٍ فِي الدِّينِ تُقَوِّي أُصُولَهُ، وَمَا شُرِعَ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ يَنْتَهِي ذَلِكَ بِهَدْمِ أُصُولِهِ وَمَا شُرِعَ لَهُ. وَإِقَامَةِ الْبِدْعَةِ مَقَامَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ عِبَادَةِ قَوْمِ نُوحٍ " لِوَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ " مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ، فَصَوَّرُوهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِأَجْلِ الذِّكْرَى وَالِاتِّبَاعِ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ وَعَبَدُوا صُوَرَهُمْ بِالتَّعْظِيمِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ صَارَتْ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ مُنْكَرَةٌ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ الشِّرْكُ فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى مَنْعِ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِي بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَمَنْعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
دُخُولِهِ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ - وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ بِدْعَةٍ: يَئُولُ أَمْرُ أَهْلِهَا إِلَى مُحَارَبَةِ السُّنَّةِ، وَعَدَاوَةِ مَنْ يَعْتَصِمُ بِهَا، وَيُنْكِرُ الْبِدَعَ الْمُحْدَثَةَ الَّتِي لَعَنَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَهْلَهَا، كَمَا فَعَلَ وَيَفْعَلُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي تَكْفِيرِ الْوَهَّابِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ دُعَاةِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَصِمِينَ بِهَا أَوْ تَضْلِيلِهِمْ، وَقِتَالِهِمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
وَمِنْ تَنَطُّعِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ فِي فَلْسَفَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنَ اللهِ النَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، وَلَا الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ النَّعِيمَ الرُّوحَانِيَّ الْأَعْلَى فَقَطْ، وَهُوَ لِقَاؤُهُ وَرِضْوَانُهُ وَرُؤْيَتُهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهَا لَفَلْسَفَةٌ جَهْلِيَّةٌ مِنْ نَزَعَاتِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ، مُخَالِفَةٌ لِنُصُوصِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَهَدْيِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَكْبَرُ الْعِبَرِ لِلْمُسْلِمِ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ الْبِدَعَ الطَّارِئَةَ عَلَى الدِّينِ يُقْصَدُ بِهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا أَنْ تَكُونَ مَزِيدَ كَمَالٍ فِي الدِّينِ تُقَوِّي أُصُولَهُ، وَمَا شُرِعَ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ يَنْتَهِي ذَلِكَ بِهَدْمِ أُصُولِهِ وَمَا شُرِعَ لَهُ. وَإِقَامَةِ الْبِدْعَةِ مَقَامَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ عِبَادَةِ قَوْمِ نُوحٍ " لِوَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ " مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ، فَصَوَّرُوهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِأَجْلِ الذِّكْرَى وَالِاتِّبَاعِ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ وَعَبَدُوا صُوَرَهُمْ بِالتَّعْظِيمِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ صَارَتْ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ مُنْكَرَةٌ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ الشِّرْكُ فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى مَنْعِ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِي بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَمَنْعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
دُخُولِهِ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ - وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ بِدْعَةٍ: يَئُولُ أَمْرُ أَهْلِهَا إِلَى مُحَارَبَةِ السُّنَّةِ، وَعَدَاوَةِ مَنْ يَعْتَصِمُ بِهَا، وَيُنْكِرُ الْبِدَعَ الْمُحْدَثَةَ الَّتِي لَعَنَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَهْلَهَا، كَمَا فَعَلَ وَيَفْعَلُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي تَكْفِيرِ الْوَهَّابِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ دُعَاةِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَصِمِينَ بِهَا أَوْ تَضْلِيلِهِمْ، وَقِتَالِهِمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
200
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَعْلَنَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهُ وَبَرَاءَةَ رَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَآذَنَهُمْ بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ وَبِعَوْدِ حَالَةِ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَتْ، بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّهُمْ لَا عُهُودَ لَهُمْ يُوَفَّى بِهَا، وَلَا أَيْمَانَ يَبَرُّونَهَا، بَلْ يَعْقِدُونَهَا عِنْدَ الْخَوْفِ، وَيَنْقُضُونَهَا عِنْدَ الشُّعُورِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفَتْكِ - كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُفَصَّلًا - عَزَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَفُتِحَ بِهِ بَابٌ لِدَسَائِسِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَبَرُّمِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ - وَكَانَ أَكْثَرُهُمَا مِنَ الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَانَ هُوَ السَّبَبَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَكْرَارِ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الشِّرْكِ، النَّاقِضِينَ لِلْعَهْدِ، وَتَأْكِيدِهِ، وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُوبِهِ، وَكَوْنِهِ مُقْتَضَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ،
وَإِنَّمَا كَانَ مَوْضِعُ الضَّعْفِ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ نَعْرَةَ الْقَرَابَةِ، وَرَحْمَةَ الرَّحِمِ، وَبَقِيَّةَ عَصَبِيَّةِ النَّسَبِ ; إِذْ كَانَ لَا يَزَالُ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ أُولُو قُرْبَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَكْرَهُونَ قِتَالَهُمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ إِيمَانَهُمْ، وَيَرْجُونَهُ إِذَا تُرِكُوا وَشَأْنَهُمْ، بَلْ كَانَ لِبَعْضِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِطَانَةٌ وَوَلِيجَةٌ مِنْهُمْ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَقَفَّى عَلَيْهِ بِفَضْلِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ، وَحُبُوطِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا خَيْرًا فِي نَفْسِهِ كَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالْعِمَارَةِ الصُّورِيَّةِ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - بَعْدَ هَذَا - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ فَضْلِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَمَا بَشَّرَ بِهِ أَهْلَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْهُ رُضْوَانٌ وَجَنَّاتٌ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَرْكِ وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ، وَإِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالسَّكَنِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ أَيْ: لَا يَتَّخِذْ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ أَبٍ أَوْ أَخٍ وَلِيًّا لَهُ يَنْصُرُهُ فِي الْقِتَالِ، أَوْ يُظَاهِرُ لِأَجْلِهِ الْكُفَّارَ، بِأَنْ يَتَّخِذَهُ بِطَانَةً وَوَلِيجَةً يُخْبِرُهُ بِأَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يَسْتَعِدُّونَ بِهِ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا عُلِمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ آيَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً (١٦) إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ أَيْ: إِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَآثَرُوهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْحُبِّ وَمَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْحُبُّ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَدَاوَتِهِمْ، كَمَا عُلِمَ مِنْ شَأْنِهِمْ مُنْذُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ إِلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَا سِيَّمَا جُمُوعُهُمْ فِي حُنَيْنٍ الْآتِي ذِكْرُهَا. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِهَا أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَدِ اسْتَخَفَّتْهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ فَكَتَبَ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ سِرًّا يُعْلِمُهُمْ فِيهِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ قِتَالِهِمْ ; لِيَتَّخِذَ لَهُ بِذَلِكَ يَدًا عِنْدَهُمْ يُكَافِئُونَهُ عَلَيْهَا بِحِمَايَةِ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ قَرَابَةٍ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِمْ وَعَنْ مُوَادَّتِهِمْ، فَتَرَاجَعَ، فَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ تَعْلِيلٍ وَتَقْيِيدٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمَوَدَّةِ وَالْمُوَالَاةِ فَهُوَ
هُنَا، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّتِهِ، وَقِيلَ: فِيمَا تَقَدَّمَ مِنِ امْتِنَاعِ الْعَبَّاسِ مِنَ الْهِجْرَةِ لَمَّا دُعِيَ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: فِي كُلِّ مَنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ عِنْدَ مَا دُعُوا إِلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقِيلَ: فِي الَّذِينَ شَكَوْا
وَإِنَّمَا كَانَ مَوْضِعُ الضَّعْفِ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ نَعْرَةَ الْقَرَابَةِ، وَرَحْمَةَ الرَّحِمِ، وَبَقِيَّةَ عَصَبِيَّةِ النَّسَبِ ; إِذْ كَانَ لَا يَزَالُ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ أُولُو قُرْبَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَكْرَهُونَ قِتَالَهُمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ إِيمَانَهُمْ، وَيَرْجُونَهُ إِذَا تُرِكُوا وَشَأْنَهُمْ، بَلْ كَانَ لِبَعْضِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِطَانَةٌ وَوَلِيجَةٌ مِنْهُمْ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَقَفَّى عَلَيْهِ بِفَضْلِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ، وَحُبُوطِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا خَيْرًا فِي نَفْسِهِ كَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالْعِمَارَةِ الصُّورِيَّةِ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - بَعْدَ هَذَا - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ فَضْلِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَمَا بَشَّرَ بِهِ أَهْلَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْهُ رُضْوَانٌ وَجَنَّاتٌ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَرْكِ وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ، وَإِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالسَّكَنِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ أَيْ: لَا يَتَّخِذْ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ أَبٍ أَوْ أَخٍ وَلِيًّا لَهُ يَنْصُرُهُ فِي الْقِتَالِ، أَوْ يُظَاهِرُ لِأَجْلِهِ الْكُفَّارَ، بِأَنْ يَتَّخِذَهُ بِطَانَةً وَوَلِيجَةً يُخْبِرُهُ بِأَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يَسْتَعِدُّونَ بِهِ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا عُلِمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ آيَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً (١٦) إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ أَيْ: إِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَآثَرُوهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْحُبِّ وَمَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْحُبُّ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَدَاوَتِهِمْ، كَمَا عُلِمَ مِنْ شَأْنِهِمْ مُنْذُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ إِلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَا سِيَّمَا جُمُوعُهُمْ فِي حُنَيْنٍ الْآتِي ذِكْرُهَا. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِهَا أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَدِ اسْتَخَفَّتْهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ فَكَتَبَ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ سِرًّا يُعْلِمُهُمْ فِيهِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ قِتَالِهِمْ ; لِيَتَّخِذَ لَهُ بِذَلِكَ يَدًا عِنْدَهُمْ يُكَافِئُونَهُ عَلَيْهَا بِحِمَايَةِ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ قَرَابَةٍ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِمْ وَعَنْ مُوَادَّتِهِمْ، فَتَرَاجَعَ، فَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ تَعْلِيلٍ وَتَقْيِيدٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمَوَدَّةِ وَالْمُوَالَاةِ فَهُوَ
هُنَا، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّتِهِ، وَقِيلَ: فِيمَا تَقَدَّمَ مِنِ امْتِنَاعِ الْعَبَّاسِ مِنَ الْهِجْرَةِ لَمَّا دُعِيَ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: فِي كُلِّ مَنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ عِنْدَ مَا دُعُوا إِلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقِيلَ: فِي الَّذِينَ شَكَوْا
201
مِمَّا أَوْجَبَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَحَدَّثُوا بِاسْتِنْكَارِهِ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نُزُولِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُمْ شَكَوْا مِنْهُ.
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ وَالْحَالُ مَا ذُكِرَ فَأُولَئِكَ الْمُتَوَلُّونَ لَهُمْ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِجَمَاعَتِهِمْ، الْعَرِيقُونَ فِي الظُّلْمِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ بِوَضْعِ الْوِلَايَةِ فِي مَوْضِعِ الْبَرَاءَةِ، وَالْمَوَدَّةِ فِي مَحَلِّ الْعَدَاوَةِ، دُونَ مَنْ لَمْ تَسْتَخِفَّهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ النَّسَبِيَّةُ إِلَى أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى وِلَايَةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ وَمُظَاهَرَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٦٠: ٨ و٩) فَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنْ وِلَايَةِ الْحَرْبِ وَالنُّصْرَةِ لِلْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ لَنَا لِأَجْلِ دِينِنَا. وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ تَوَلِّي أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَوْلُهُ فِيهَا: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥: ٥١) فَالظُّلْمُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ وَالْوِلَايَةُ وَاحِدَةٌ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الظُّلْمَ فِي آيَةِ: " بَرَاءَةٍ " بِالشِّرْكِ; لِأَنَّ مُتَوَلِّيَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ. كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي آيَةِ " الْمِائِدَةِ ": وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي الْوِلَايَةِ التَّامَّةِ دُونَ مِثْلِ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ مُتَأَوِّلًا.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الدَّرَكَةِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ إِلَى الدَّرَكَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لَهَا فَقَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَجَّهَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخِطَابَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَرِيمَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ وِلَايَةُ الْكَافِرِينَ الْمُعَادِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِعُنْوَانِهِمْ مُبَاشَرَةً، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ فِي أَمْرِ الْجَرِيمَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَعْطِفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ خِطَابًا مِنْهُ بِعُنْوَانِ صِفَةِ الْإِيمَانِ الْمُنَافِي لِمَضْمُونِهِ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي وُقُوعِهِ أَوْ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ وَهِيَ (إِنْ) وَلَمْ يُرَتِّبْ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى أَصْلِ الْحُبِّ، لِمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مِنْ مَجَامِعِ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا; لِأَنَّهُ غَرِيزِيٌّ، بَلْ رَتَّبَهُ عَلَى تَفْضِيلِ هَذِهِ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي الْحُبِّ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا مَا دُونَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ كَلِمَةِ " جِهَادٍ " هُنَا. وَذِكْرُ الْأَبْنَاءِ وَالْأَرْوَاحِ هُنَا دُونَ آيَةِ النَّهْيِ عَنِ الْوِلَايَةِ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَلَّى فِي الْحَرْبِ مَنْ فَوْقَهُ كَالْأَبِ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ كَالْأَخِ
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ وَالْحَالُ مَا ذُكِرَ فَأُولَئِكَ الْمُتَوَلُّونَ لَهُمْ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِجَمَاعَتِهِمْ، الْعَرِيقُونَ فِي الظُّلْمِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ بِوَضْعِ الْوِلَايَةِ فِي مَوْضِعِ الْبَرَاءَةِ، وَالْمَوَدَّةِ فِي مَحَلِّ الْعَدَاوَةِ، دُونَ مَنْ لَمْ تَسْتَخِفَّهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ النَّسَبِيَّةُ إِلَى أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى وِلَايَةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ وَمُظَاهَرَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٦٠: ٨ و٩) فَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنْ وِلَايَةِ الْحَرْبِ وَالنُّصْرَةِ لِلْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ لَنَا لِأَجْلِ دِينِنَا. وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ تَوَلِّي أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَوْلُهُ فِيهَا: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥: ٥١) فَالظُّلْمُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ وَالْوِلَايَةُ وَاحِدَةٌ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الظُّلْمَ فِي آيَةِ: " بَرَاءَةٍ " بِالشِّرْكِ; لِأَنَّ مُتَوَلِّيَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ. كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي آيَةِ " الْمِائِدَةِ ": وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي الْوِلَايَةِ التَّامَّةِ دُونَ مِثْلِ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ مُتَأَوِّلًا.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الدَّرَكَةِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ إِلَى الدَّرَكَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لَهَا فَقَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَجَّهَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخِطَابَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَرِيمَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ وِلَايَةُ الْكَافِرِينَ الْمُعَادِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِعُنْوَانِهِمْ مُبَاشَرَةً، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ فِي أَمْرِ الْجَرِيمَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَعْطِفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ خِطَابًا مِنْهُ بِعُنْوَانِ صِفَةِ الْإِيمَانِ الْمُنَافِي لِمَضْمُونِهِ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي وُقُوعِهِ أَوْ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ وَهِيَ (إِنْ) وَلَمْ يُرَتِّبْ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى أَصْلِ الْحُبِّ، لِمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مِنْ مَجَامِعِ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا; لِأَنَّهُ غَرِيزِيٌّ، بَلْ رَتَّبَهُ عَلَى تَفْضِيلِ هَذِهِ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي الْحُبِّ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا مَا دُونَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ كَلِمَةِ " جِهَادٍ " هُنَا. وَذِكْرُ الْأَبْنَاءِ وَالْأَرْوَاحِ هُنَا دُونَ آيَةِ النَّهْيِ عَنِ الْوِلَايَةِ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَلَّى فِي الْحَرْبِ مَنْ فَوْقَهُ كَالْأَبِ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ كَالْأَخِ
202
دُونَ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ كَابْنِهِ وَزَوْجِهِ، وَلَكِنَّهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي الْحُبِّ، وَإِنَّنَا نُبَيِّنُ مَرَاتِبَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الْحُبِّ، وَنُقَفِّي عَلَيْهَا بِمَعْنَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكَوْنِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِمَا شَيْئَانِ مِنْهَا، وَلَا يَعْلُو حُبَّهُمَا عِنْدَهُ حُبُّ شَيْءٍ سِوَاهُمَا: (١) حُبُّ الْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ لَهُ مَنَاشِئُ مِنْ غَرَائِزِ النَّفْسِ وَشُعُورِهَا وَعَوَاطِفِهَا وَعَوَارِفِهَا وَمَعَارِفِهَا وَطِبَاعِهَا، وَمِنْ عُرْفِ الْأَقْوَامِ وَآدَابِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَشَرَائِعِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَالْوَلَدُ بِضْعَةٌ مِنْ أَبِيهِ يَرِثُ بَعْضَ صِفَاتِهِ وَطِبَاعِهِ وَشَمَائِلِهِ مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَشْعُرُ بِهِ، وَيُنَمَّى فِي نَفْسِهِ بِنَمَاءِ تَمْيِيزِهِ وَعَقْلِهِ، إِحْسَانُ وَالِدَيْهِ إِلَيْهِ، وَاقْتِرَانُ صُورَتِهِمَا فِي خَيَالِهِ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ لَهُ، وَيَتْلُو هَذَا شُعُورُهُ بِمَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَنَانِ وَالْعَطْفِ وَالْحَدَبِ عَلَيْهِ وَالْحُبِّ الْخَالِصِ لَهُ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ رِيَاءٌ وَلَا تُهَمَةٌ،
وَلِلْوَالِدَةِ الْقَدْحُ الْمُعَلَّى فِي هَذَيْنِ - وَيَفُوقُهَا الْوَالِدُ بِمَا يَحْدُثُ لِلْوَلَدِ بَعْدَ هَذَا مِنْ شُعُورِ الْإِعْجَابِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْقُدْرَةِ وَهُوَ مِنَ الْغَرَائِزِ، وَالطِّفْلُ يَشْعُرُ بِأَنَّ أَبَاهُ أَعْظَمُ النَّاسِ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. وَهَذَا الشُّعُورُ إِمَّا أَنْ يُنَمَّى وَيَزْدَادَ فِي الْكِبَرِ إِذَا كَانَ الْوَالِدُ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِمَّا أَنْ يَضْعُفَ، وَلَكِنَّهُ قَلَّمَا يَزُولُ عَيْنًا وَأَثَرًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَتَفَاخَرُونَ بِآبَائِهِمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَفِي مَعَاهِدِ الْحَجِّ حَتَّى قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (٢: ٢٠٠) يَتْلُو ذَلِكَ شُعُورُهُ عِزَّةَ الْحِمَايَةِ وَالصِّيَانَةِ لَهُ مِنْ وَالِدِهِ وَالذَّوْدَ عَنْهُ وَالِانْتِقَامَ لَهُ إِذَا ضِيمَ، وَفَوْقَ هَذَا شُعُورُ الشَّرَفِ، فَهُوَ يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ، وَيُحْقَرُ بِضِعَتِهِ وَخِسَّتِهِ. فَإِنْ أُهِينَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ تَرْجُفُ أَعْصَابُهُ وَيَتَبَيَّغُ دَمُهُ، وَلَا تَكَادُ تَهْدَأُ ثَائِرَتُهُ إِلَّا بِالِانْتِقَامِ لَهُ.
تُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الشُّعُورِ وَالْغَرَائِزِ مَلَكَاتٌ تَطْبَعُهَا الْحُقُوقُ الْعُرْفِيَّةُ وَالْآدَابُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَالشَّرَائِعُ الدِّينِيَّةُ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ قَرَنَ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (١٧: ٢٣) إِلَخْ. وَقَرَنَ شُكْرَهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (٣١: ١٤) ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِمُعَامَلَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، مَعَ نَهْيِهِ عَنْ طَاعَتِهِمَا إِذَا دَعَوَاهُ إِلَى الشِّرْكِ فَقَالَ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (٣١: ١٥).
فَهَذِهِ مَجَامِعُ نَوَازِعِ حُبِّ الْوَلَدِ الْوَالِدَ، وَالْوَالِدَةُ تَفُوقُهُ فِي بَعْضِهَا، وَتَتَخَلَّفُ عَنْهُ فِي بَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَ الْوَالِدُونَ هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الْمُوَالَاةِ وَالْمُنَاصَرَةِ دُونَ الْوَالِدَاتِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمْ، تَبَعًا لِنَهْيهِ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ ; لِأَنَّ مُوَالَاتَهُمْ لَهُمْ مِنْ قَبِيلِ طَاعَتِهِمْ فِي الشِّرْكِ الَّذِي
وَلِلْوَالِدَةِ الْقَدْحُ الْمُعَلَّى فِي هَذَيْنِ - وَيَفُوقُهَا الْوَالِدُ بِمَا يَحْدُثُ لِلْوَلَدِ بَعْدَ هَذَا مِنْ شُعُورِ الْإِعْجَابِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْقُدْرَةِ وَهُوَ مِنَ الْغَرَائِزِ، وَالطِّفْلُ يَشْعُرُ بِأَنَّ أَبَاهُ أَعْظَمُ النَّاسِ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. وَهَذَا الشُّعُورُ إِمَّا أَنْ يُنَمَّى وَيَزْدَادَ فِي الْكِبَرِ إِذَا كَانَ الْوَالِدُ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِمَّا أَنْ يَضْعُفَ، وَلَكِنَّهُ قَلَّمَا يَزُولُ عَيْنًا وَأَثَرًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَتَفَاخَرُونَ بِآبَائِهِمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَفِي مَعَاهِدِ الْحَجِّ حَتَّى قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (٢: ٢٠٠) يَتْلُو ذَلِكَ شُعُورُهُ عِزَّةَ الْحِمَايَةِ وَالصِّيَانَةِ لَهُ مِنْ وَالِدِهِ وَالذَّوْدَ عَنْهُ وَالِانْتِقَامَ لَهُ إِذَا ضِيمَ، وَفَوْقَ هَذَا شُعُورُ الشَّرَفِ، فَهُوَ يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ، وَيُحْقَرُ بِضِعَتِهِ وَخِسَّتِهِ. فَإِنْ أُهِينَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ تَرْجُفُ أَعْصَابُهُ وَيَتَبَيَّغُ دَمُهُ، وَلَا تَكَادُ تَهْدَأُ ثَائِرَتُهُ إِلَّا بِالِانْتِقَامِ لَهُ.
تُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الشُّعُورِ وَالْغَرَائِزِ مَلَكَاتٌ تَطْبَعُهَا الْحُقُوقُ الْعُرْفِيَّةُ وَالْآدَابُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَالشَّرَائِعُ الدِّينِيَّةُ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ قَرَنَ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (١٧: ٢٣) إِلَخْ. وَقَرَنَ شُكْرَهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (٣١: ١٤) ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِمُعَامَلَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، مَعَ نَهْيِهِ عَنْ طَاعَتِهِمَا إِذَا دَعَوَاهُ إِلَى الشِّرْكِ فَقَالَ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (٣١: ١٥).
فَهَذِهِ مَجَامِعُ نَوَازِعِ حُبِّ الْوَلَدِ الْوَالِدَ، وَالْوَالِدَةُ تَفُوقُهُ فِي بَعْضِهَا، وَتَتَخَلَّفُ عَنْهُ فِي بَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَ الْوَالِدُونَ هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الْمُوَالَاةِ وَالْمُنَاصَرَةِ دُونَ الْوَالِدَاتِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمْ، تَبَعًا لِنَهْيهِ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ ; لِأَنَّ مُوَالَاتَهُمْ لَهُمْ مِنْ قَبِيلِ طَاعَتِهِمْ فِي الشِّرْكِ الَّذِي
203
نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَنَصْرُ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ لِأَجْلِهِ شِرْكٌ، بَلِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّضَاءَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، فَكَيْفَ يَنْصُرُ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ
بِمُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ وَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؟ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ حُبِّ آبَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ حَذَّرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهَادٍ مَا فِي سَبِيلِهِ ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي. كَذَلِكَ نَهَاهُمْ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ عَنْ مُوَادَّةِ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ إِذَا كَانَتْ لِأَجْلِ الْمُحَادَّةِ، كَمَا يُفِيدُهُ تَرْتِيبُ النَّهْيِ عَلَى فِعْلِهَا، فَإِنَّ الْمَوَدَّةَ هِيَ الْمُعَامَلَةُ الْحَبِيَّةُ، وَالْمُحَادَّةُ شِدَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَاشْتِرَاكُ الْمُؤْمِنِ الْمُحِبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ الْمُحَادِّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْمَوَدَّةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى صِفَتَيْهِمَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى مُوَالَاتِهِمْ بَلْ أَخَصُّ مِنْهَا.
(٢) حُبُّ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ لَهُ جَمِيعُ تِلْكَ الْمَنَاشِئِ الْغَرِيزِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ، وَأَنْوَاعِ الشُّعُورِ وَالْعَوَاطِفِ النَّفْسِيَّةِ، وَبَعْضِ تِلْكَ الْحُقُوقِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْآدَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا جَمِيعِهَا، وَلَكِنَّ حُبَّ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ أَحَرُّ وَأَقْوَى وَأَنْمَى وَأَبْقَى مِنْ عَكْسِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ شُعُورًا بِمَعْنَى كَوْنِ وَلَدِهِ بِضْعَةً مِنْهُ، وَكَوْنِ وُجُودِهِ مُسْتَمَدًّا مِنْ وُجُودِهِ، وَيَشْعُرُ مَا لَا يَشْعُرُ مِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ نُسْخَةً ثَانِيَةً مِنْهُ يُرْجَى لَهَا مِنَ الْبَقَاءِ مَا لَا يُرْجَى لِلنُّسْخَةِ الْأُولَى، فَهُوَ يَحْرِصُ عَلَى بَقَائِهِ كَمَا يَحْرِصُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَشَدَّ، وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ إِيثَارًا لَهُ بِهَا فِي حَاضِرِ أَمْرِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ، وَيُكَابِدُ الْأَهْوَالَ وَيَرْكَبُ الصِّعَابَ، وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِفُ الْحَرَامَ فِي سَبِيلِ السَّعْيِ وَالِادِّخَارِ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (٦: ١٥١) الْآيَةَ، أَنَّ عَاطِفَةَ الْبُنُوَّةِ وَنَعْرَتَهَا مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يُنَمِّيهَا فِي النَّفْسِ مِنْ قِيَامِ الْوَالِدِ بِشُئُونِ الْوَلَدِ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَمَا يُحْدِثُهُ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَاطِفِ فِي الْحَالِ، وَالذِّكْرَيَاتِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَكَوْنِهِ مَنَاطَ الْآمَالِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (١٨: ٤٦) قَالُوا: الْمَعْنَى أنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي يَبْقَى ثَوَابُهَا لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْ زِينَةِ الْمَالِ فِيهَا ثَوَابًا، وَخَيْرٌ مِنَ
الْبَنِينَ فِيهَا أَمَلًا، فَهُوَ نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ حُبِّ الْآبَاءِ لِلْبَنِينَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ (٣: ١٤) إِلَخْ.
(٣) حُبُّ الْأُخُوَّةِ يَلِي فِي الرُّتْبَةِ حَبَّ الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ، وَالْأَخَوَانِ صِنْوَانِ فِي وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، فَالْأَخُ الصَّغِيرُ كَالْوَلَدِ، وَالْكَبِيرُ كَالْوَالِدِ، وَيَخْتَلِفَانِ عَنْهُمَا بِشُعُورِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَنْبَتِ وَطَبَقَةِ الْقَرَابَةِ. وَقَدْ يُمَارِي فِيهِ بَعْضُ الَّذِينَ أَفْسَدَتْ فِطْرَتَهُمْ نَزَعَاتُ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنَ التَّقَالِيدِ الْعَادِيَّةِ لَا مَنْشَأَ لَهُ مِنْ غَرَائِزِ النَّفْسِ، وَلَا مُقْتَضَيَاتِ الطَّبْعِ، بَلْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَدَاوَةَ الْأُخُوَّةِ أَعْرَقُ فِي الْغَرِيزَةِ مِنْ مَحَبَّتِهَا، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ
بِمُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ وَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؟ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ حُبِّ آبَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ حَذَّرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهَادٍ مَا فِي سَبِيلِهِ ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي. كَذَلِكَ نَهَاهُمْ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ عَنْ مُوَادَّةِ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ إِذَا كَانَتْ لِأَجْلِ الْمُحَادَّةِ، كَمَا يُفِيدُهُ تَرْتِيبُ النَّهْيِ عَلَى فِعْلِهَا، فَإِنَّ الْمَوَدَّةَ هِيَ الْمُعَامَلَةُ الْحَبِيَّةُ، وَالْمُحَادَّةُ شِدَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَاشْتِرَاكُ الْمُؤْمِنِ الْمُحِبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ الْمُحَادِّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْمَوَدَّةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى صِفَتَيْهِمَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى مُوَالَاتِهِمْ بَلْ أَخَصُّ مِنْهَا.
(٢) حُبُّ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ لَهُ جَمِيعُ تِلْكَ الْمَنَاشِئِ الْغَرِيزِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ، وَأَنْوَاعِ الشُّعُورِ وَالْعَوَاطِفِ النَّفْسِيَّةِ، وَبَعْضِ تِلْكَ الْحُقُوقِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْآدَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا جَمِيعِهَا، وَلَكِنَّ حُبَّ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ أَحَرُّ وَأَقْوَى وَأَنْمَى وَأَبْقَى مِنْ عَكْسِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ شُعُورًا بِمَعْنَى كَوْنِ وَلَدِهِ بِضْعَةً مِنْهُ، وَكَوْنِ وُجُودِهِ مُسْتَمَدًّا مِنْ وُجُودِهِ، وَيَشْعُرُ مَا لَا يَشْعُرُ مِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ نُسْخَةً ثَانِيَةً مِنْهُ يُرْجَى لَهَا مِنَ الْبَقَاءِ مَا لَا يُرْجَى لِلنُّسْخَةِ الْأُولَى، فَهُوَ يَحْرِصُ عَلَى بَقَائِهِ كَمَا يَحْرِصُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَشَدَّ، وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ إِيثَارًا لَهُ بِهَا فِي حَاضِرِ أَمْرِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ، وَيُكَابِدُ الْأَهْوَالَ وَيَرْكَبُ الصِّعَابَ، وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِفُ الْحَرَامَ فِي سَبِيلِ السَّعْيِ وَالِادِّخَارِ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (٦: ١٥١) الْآيَةَ، أَنَّ عَاطِفَةَ الْبُنُوَّةِ وَنَعْرَتَهَا مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يُنَمِّيهَا فِي النَّفْسِ مِنْ قِيَامِ الْوَالِدِ بِشُئُونِ الْوَلَدِ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَمَا يُحْدِثُهُ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَاطِفِ فِي الْحَالِ، وَالذِّكْرَيَاتِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَكَوْنِهِ مَنَاطَ الْآمَالِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (١٨: ٤٦) قَالُوا: الْمَعْنَى أنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي يَبْقَى ثَوَابُهَا لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْ زِينَةِ الْمَالِ فِيهَا ثَوَابًا، وَخَيْرٌ مِنَ
الْبَنِينَ فِيهَا أَمَلًا، فَهُوَ نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ حُبِّ الْآبَاءِ لِلْبَنِينَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ (٣: ١٤) إِلَخْ.
(٣) حُبُّ الْأُخُوَّةِ يَلِي فِي الرُّتْبَةِ حَبَّ الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ، وَالْأَخَوَانِ صِنْوَانِ فِي وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، فَالْأَخُ الصَّغِيرُ كَالْوَلَدِ، وَالْكَبِيرُ كَالْوَالِدِ، وَيَخْتَلِفَانِ عَنْهُمَا بِشُعُورِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَنْبَتِ وَطَبَقَةِ الْقَرَابَةِ. وَقَدْ يُمَارِي فِيهِ بَعْضُ الَّذِينَ أَفْسَدَتْ فِطْرَتَهُمْ نَزَعَاتُ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنَ التَّقَالِيدِ الْعَادِيَّةِ لَا مَنْشَأَ لَهُ مِنْ غَرَائِزِ النَّفْسِ، وَلَا مُقْتَضَيَاتِ الطَّبْعِ، بَلْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَدَاوَةَ الْأُخُوَّةِ أَعْرَقُ فِي الْغَرِيزَةِ مِنْ مَحَبَّتِهَا، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ
204
مِنْ قَتْلِ أَحَدِ وَلَدَيْ آدَمَ لِأَخِيهِ فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ، وَعَهْدِ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ مِنْ تَأْثِيرِ التَّنَازُعِ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَمِنْ فِعْلَةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ بِهِ وَهُمْ مِنْ أَسْلَمِ النَّاسِ أَخْلَاقًا وَخَيْرِهِمْ وِرَاثَةً.
وَالْحَقُّ فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا الْوَحْيُ مِنْ قَتْلِ قَابِيلَ لِأَخِيهِ هَابِيلَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِي اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ مِنَ التَّنَازُعِ بَيْنَ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ عَاطِفَةٍ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ، وَالِامْتِيَازِ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي رَغَائِبِ النَّفْسِ وَمَنَافِعِهَا، وَمَا قَدْ يَلِدُ مِنَ الْحَسَدِ، وَمَا قَدْ يَتْبَعُ الْحَسَدَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. فَضَرَبَ اللهُ لَنَا مَثَلًا لِبَيَانِ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ ; لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ بَيَانَ كَوْنِ غَرِيزَةِ الدِّينِ بَلْ هِدَايَتِهِ هِيَ الْمُهَذِّبَةَ لِلْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِتَرْجِيحِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، فَكَانَ قَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ النَّزْعَةُ الثَّانِيَةُ، وَهَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْأَوْلَى بِتَرْجِيحِ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٥: ٢٨ و٢٩) وَالدَّلِيلُ عَلَى مَحَبَّةِ
الْأُخُوَّةِ، وَوَشِيجَةِ الرَّحِمِ فِي نَفْسِ قَابِيلَ، وَتَنَازُعِهَا مَعَ حُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ عَلَى أَخِيهِ أَوْ مُسَاوَاتِهِ وَحَسَدِهِ لِتَقَبُّلِ قُرْبَانِهِ دُونَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥: ٣٠) فَإِنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ تَرْجِيحِ دَاعِيَةِ الشَّرِّ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْحَسَدِ الْعَارِضِ عَلَى عَاطِفَةِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ وَرَحْمَةِ الرَّحِمِ " بِالتَّطْوِيعِ " مِنْ أَبْلَغِ تَحْدِيدِ الْقُرْآنِ لِدَقَائِقِ الْحَقَائِقِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، فَإِنَّ مَعْنَى صِيغَةِ التَّفْعِيلِ التَّكْرَارُ وَالتَّدْرِيجُ فِي مُحَاوَلَةِ الشَّيْءِ كَتَرْوِيضِ الْفَرَسِ الْجَمُوحِ، وَتَذْلِيلِ الْبَعِيرِ الصَّعْبِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَابِيلَ كَانَ يَجِدُ مِنْ نَوَازِعِ الْفِطْرَةِ فِي نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ مَانِعًا يَصُدُّهَا عَمَّا زَيَّنَهُ لَهُ الْحَسَدُ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ، وَأَنَّهَا مَا زَالَتْ تَأْمُرُهُ وَيَعْصِيهَا حَتَّى حَمَلَتْهُ عَلَى طَاعَتِهَا بَعْدَ جَهْدٍ وَعَنَاءٍ. وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى شَرْحًا وَاسِعًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ [ص٢٨٥ ج٦ ط الْهَيْئَةِ].
وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْحَسَدِ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: كَبُرَ عَلَيْهِمْ إِقْبَالُ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ بِكُلِّ وَجْهِهِ وَكُلِّ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا الِابْنِ الصَّغِيرِ، الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَنْفَعَهُ أَوْ يَنْفَعَ الْأُسْرَةَ بِخِدْمَةٍ وَلَا حِمَايَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ آمَالِ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ عَلَى قُوَّتِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَبُ وَالْأُسْرَةُ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الْحَسَدُ أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُغَرِّبُوهُ; لِيَجْتَمِعَ الشَّمْلُ، وَيَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُوا بِذَلِكَ قَوْمًا صَالِحِينَ بِزَوَالِ سَبَبِ الشِّقَاقِ وَالْفَسَادِ فِيهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ التَّشَاوُرِ رَجَّحُوا تَغْرِيبَهُ وَإِبْعَادَهُ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَمَا أَشَارَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَلَوْلَا عَاطِفَةُ الرَّحِمِ، وَهِدَايَةُ الدِّينِ لَمَا رَضِيَ الْعَشَرَةُ بِرَأْيِ الْوَاحِدِ فِي تَرْكِ قَتْلِهِ. وَلِمَاذَا نَحْفَظُ هَذِهِ الْوَقَائِعَ الشَّاذَّةَ، وَنَنْسَى الْأَمْرَ الْغَالِبَ الْأَعَمَّ، وَهُوَ تَوَادُّ الْأُخُوَّةِ وَتَعَاوُنُهُمْ وَتَنَاصُرُهُمْ بِبَاعِثِ الْغَرِيزَةِ وَلَوَازِمِهَا؟ ! وَمِنْهُ مَا كَانَ مِنْ إِحْسَانِ يُوسُفَ إِلَى إِخْوَتِهِ، ثُمَّ عَفْوِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ مَعِيشَتِهِ مَعَهُمْ؟ بَعْدَ هَذَا أُذَكِّرُ الْقَارِئَ الَّذِي أَخَافُ عَلَيْهِ فَسَادَ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ الْمُغْرِيَةِ بِعَدَاوَةِ الْأُخُوَّةِ
وَالْحَقُّ فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا الْوَحْيُ مِنْ قَتْلِ قَابِيلَ لِأَخِيهِ هَابِيلَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِي اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ مِنَ التَّنَازُعِ بَيْنَ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ عَاطِفَةٍ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ، وَالِامْتِيَازِ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي رَغَائِبِ النَّفْسِ وَمَنَافِعِهَا، وَمَا قَدْ يَلِدُ مِنَ الْحَسَدِ، وَمَا قَدْ يَتْبَعُ الْحَسَدَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. فَضَرَبَ اللهُ لَنَا مَثَلًا لِبَيَانِ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ ; لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ بَيَانَ كَوْنِ غَرِيزَةِ الدِّينِ بَلْ هِدَايَتِهِ هِيَ الْمُهَذِّبَةَ لِلْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِتَرْجِيحِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، فَكَانَ قَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ النَّزْعَةُ الثَّانِيَةُ، وَهَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْأَوْلَى بِتَرْجِيحِ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٥: ٢٨ و٢٩) وَالدَّلِيلُ عَلَى مَحَبَّةِ
الْأُخُوَّةِ، وَوَشِيجَةِ الرَّحِمِ فِي نَفْسِ قَابِيلَ، وَتَنَازُعِهَا مَعَ حُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ عَلَى أَخِيهِ أَوْ مُسَاوَاتِهِ وَحَسَدِهِ لِتَقَبُّلِ قُرْبَانِهِ دُونَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥: ٣٠) فَإِنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ تَرْجِيحِ دَاعِيَةِ الشَّرِّ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْحَسَدِ الْعَارِضِ عَلَى عَاطِفَةِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ وَرَحْمَةِ الرَّحِمِ " بِالتَّطْوِيعِ " مِنْ أَبْلَغِ تَحْدِيدِ الْقُرْآنِ لِدَقَائِقِ الْحَقَائِقِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، فَإِنَّ مَعْنَى صِيغَةِ التَّفْعِيلِ التَّكْرَارُ وَالتَّدْرِيجُ فِي مُحَاوَلَةِ الشَّيْءِ كَتَرْوِيضِ الْفَرَسِ الْجَمُوحِ، وَتَذْلِيلِ الْبَعِيرِ الصَّعْبِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَابِيلَ كَانَ يَجِدُ مِنْ نَوَازِعِ الْفِطْرَةِ فِي نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ مَانِعًا يَصُدُّهَا عَمَّا زَيَّنَهُ لَهُ الْحَسَدُ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ، وَأَنَّهَا مَا زَالَتْ تَأْمُرُهُ وَيَعْصِيهَا حَتَّى حَمَلَتْهُ عَلَى طَاعَتِهَا بَعْدَ جَهْدٍ وَعَنَاءٍ. وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى شَرْحًا وَاسِعًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ [ص٢٨٥ ج٦ ط الْهَيْئَةِ].
وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْحَسَدِ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: كَبُرَ عَلَيْهِمْ إِقْبَالُ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ بِكُلِّ وَجْهِهِ وَكُلِّ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا الِابْنِ الصَّغِيرِ، الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَنْفَعَهُ أَوْ يَنْفَعَ الْأُسْرَةَ بِخِدْمَةٍ وَلَا حِمَايَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ آمَالِ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ عَلَى قُوَّتِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَبُ وَالْأُسْرَةُ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الْحَسَدُ أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُغَرِّبُوهُ; لِيَجْتَمِعَ الشَّمْلُ، وَيَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُوا بِذَلِكَ قَوْمًا صَالِحِينَ بِزَوَالِ سَبَبِ الشِّقَاقِ وَالْفَسَادِ فِيهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ التَّشَاوُرِ رَجَّحُوا تَغْرِيبَهُ وَإِبْعَادَهُ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَمَا أَشَارَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَلَوْلَا عَاطِفَةُ الرَّحِمِ، وَهِدَايَةُ الدِّينِ لَمَا رَضِيَ الْعَشَرَةُ بِرَأْيِ الْوَاحِدِ فِي تَرْكِ قَتْلِهِ. وَلِمَاذَا نَحْفَظُ هَذِهِ الْوَقَائِعَ الشَّاذَّةَ، وَنَنْسَى الْأَمْرَ الْغَالِبَ الْأَعَمَّ، وَهُوَ تَوَادُّ الْأُخُوَّةِ وَتَعَاوُنُهُمْ وَتَنَاصُرُهُمْ بِبَاعِثِ الْغَرِيزَةِ وَلَوَازِمِهَا؟ ! وَمِنْهُ مَا كَانَ مِنْ إِحْسَانِ يُوسُفَ إِلَى إِخْوَتِهِ، ثُمَّ عَفْوِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ مَعِيشَتِهِ مَعَهُمْ؟ بَعْدَ هَذَا أُذَكِّرُ الْقَارِئَ الَّذِي أَخَافُ عَلَيْهِ فَسَادَ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ الْمُغْرِيَةِ بِعَدَاوَةِ الْأُخُوَّةِ
205
لِلْجَهْلِ بِالدِّينِ، وَالْحِرْمَانِ مِنْ هِدَايَتِهِ، بِمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ
مِنْ إِهْمَالِ تَعْلِيمِهِ وَتَرْبِيَتِهِ - أُذَكِّرُهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ لِلْعَالَمِ الْمَادِّيِّ إِنْكَارَهُ أَوِ الْمُكَابَرَةَ فِيهِ مِنْ مَنْشَأِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ فِي النَّفْسِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ التَّوَادِّ وَالتَّنَاصُرِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَدَوِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَآدَابِهِمْ وَعَادَاتِهِمُ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ طِبَاعِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْعَطْفَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ مَا بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ الْمَوْرُوثَةِ وَعَوَاطِفِهَا الْمُكْتَسَبَةِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَفِي شُئُونِ الْحَيَاةِ مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، وَفِي الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ، وَلِلْإِخْوَةِ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا لَيْسَ لِمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ، بَلْهَ مَنْ بَعُدَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ، فَالْأَخُ صِنْوُ أَخِيهِ، مَنْبَتُهُمَا وَاحِدٌ، وَدَمُهُمَا وَاحِدٌ، وَوِرَاثَتُهُمَا النَّفْسِيَّةُ وَالْجَسَدِيَّةُ تَتَسَلْسَلُ مِنْ أَرُومَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِيهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَشْعُرُ بِالِاعْتِزَازِ بِعِزَّةِ الْآخَرِ إِلَى أَنْ يُفْسِدَ فِطْرَتَهُ الْحَسَدُ، وَيَحْفَظَ مِنْ ذِكْرَيَاتِ الطُّفُولَةِ وَالصِّبَا مَا لَهُ سُلْطَانٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّفْسِ، وَتَأْثِيرٌ كَبيرٌ فِي آصِرَةِ الرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ، وَمَا زَالَ أَهْلُ الْوَسَطِ مِنْ بُيُوتِ النَّاسِ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَكَرُمَتْ أَخْلَاقُهُمْ، يُحِبُّونَ إِخْوَتَهُمْ كَحُبِّهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَيُوَقِّرُونَ كَبِيرَهُمْ تَوْقِيرَهُمْ لِأَبِيهِمْ، وَيَرْحَمُونَ صَغِيرَهُمْ رَحْمَتَهُمْ لِأَبْنَائِهِمْ، وَيَكْفُلُونَ مَنْ يَتْرُكُهُ وَالِدُهُ صَغِيرًا فَيَتَرَبَّى مَعَ أَوْلَادِهِمْ كَأَحَدِهِمْ، وَقَدْ تَكُونُ الْعِنَايَةُ بِهِ أَشَدَّ، وَمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ هَذِهِ الْإِطَالَةَ النِّسْبِيَّةَ إِلَّا لِيَكُونَ تَفْسِيرُ كِتَابِ اللهِ الَّذِي أُنْزِلَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ دَرْءِ مَفَاسِدِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلْأَرْحَامِ، الْمُفْسِدَةِ لِلِاجْتِمَاعِ.
(٤) حُبُّ الزَّوْجِيَّةِ ضَرْبٌ خَاصٌّ مِنْ شُعُورِ النَّفْسِ لَيْسَ لَهُ فِي أَنْوَاعِهَا ضُرَيْبٌ، فَهُوَ الَّذِي يَسْكُنُ بِهِ اضْطِرَابُ النَّفْسِ مِنْ ثَوْرَةِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي تُهَيِّجُهَا دَاعِيَةُ النَّسْلِ، وَغَرِيزَةُ بَقَاءِ النَّوْعِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ بِهِ بَشَرَانِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمِّمًا لِوُجُودِ الْآخَرِ يُنْتِجَانِ بِاتِّحَادِهِمَا بَشَرًا مِثْلَهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ (٣: ١٤) إِلَى آخِرِهِ وَفِي مَقَالَاتِ (الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ)
مِنَ الْمَنَارِ (الْمُجَلَّدُ الثَّامِنُ) وَإِنَّمَا قَدَّمَهُ هُنَالِكَ عَلَى حُبِّ الْبَنِينَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ عَلَى حُبِّ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ أَقْوَى الشَّهَوَاتِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَخَّرَهُ هُنَا; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْحُبِّ الْمُعَارِضِ لِحُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَمَا يَخْشَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مُوَالَاةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْحَرْبِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَلَّمَا تَكُونُ زَوْجُ الرَّجُلِ مُعَارِضَةً لَهُ فِي دِينِهِ وَوِلَايَةِ مَنْ يَدِينُ اللهُ بِوِلَايَتِهِ، كَمَا يُعَارِضُهُ أَبُوهُ وَابْنُهُ وَأَخُوهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دُونَ امْرَأَتِهِ. وَرُوعِيَ التَّرْتِيبُ الطَّبِيعِيُّ فِي عَلَاقَةِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ بِالْمَرْءِ، وَدَرَجَاتِ لُصُوقِهَا بِهِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
مِنْ إِهْمَالِ تَعْلِيمِهِ وَتَرْبِيَتِهِ - أُذَكِّرُهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ لِلْعَالَمِ الْمَادِّيِّ إِنْكَارَهُ أَوِ الْمُكَابَرَةَ فِيهِ مِنْ مَنْشَأِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ فِي النَّفْسِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ التَّوَادِّ وَالتَّنَاصُرِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَدَوِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَآدَابِهِمْ وَعَادَاتِهِمُ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ طِبَاعِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْعَطْفَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ مَا بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ الْمَوْرُوثَةِ وَعَوَاطِفِهَا الْمُكْتَسَبَةِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَفِي شُئُونِ الْحَيَاةِ مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، وَفِي الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ، وَلِلْإِخْوَةِ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا لَيْسَ لِمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ، بَلْهَ مَنْ بَعُدَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ، فَالْأَخُ صِنْوُ أَخِيهِ، مَنْبَتُهُمَا وَاحِدٌ، وَدَمُهُمَا وَاحِدٌ، وَوِرَاثَتُهُمَا النَّفْسِيَّةُ وَالْجَسَدِيَّةُ تَتَسَلْسَلُ مِنْ أَرُومَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِيهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَشْعُرُ بِالِاعْتِزَازِ بِعِزَّةِ الْآخَرِ إِلَى أَنْ يُفْسِدَ فِطْرَتَهُ الْحَسَدُ، وَيَحْفَظَ مِنْ ذِكْرَيَاتِ الطُّفُولَةِ وَالصِّبَا مَا لَهُ سُلْطَانٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّفْسِ، وَتَأْثِيرٌ كَبيرٌ فِي آصِرَةِ الرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ، وَمَا زَالَ أَهْلُ الْوَسَطِ مِنْ بُيُوتِ النَّاسِ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَكَرُمَتْ أَخْلَاقُهُمْ، يُحِبُّونَ إِخْوَتَهُمْ كَحُبِّهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَيُوَقِّرُونَ كَبِيرَهُمْ تَوْقِيرَهُمْ لِأَبِيهِمْ، وَيَرْحَمُونَ صَغِيرَهُمْ رَحْمَتَهُمْ لِأَبْنَائِهِمْ، وَيَكْفُلُونَ مَنْ يَتْرُكُهُ وَالِدُهُ صَغِيرًا فَيَتَرَبَّى مَعَ أَوْلَادِهِمْ كَأَحَدِهِمْ، وَقَدْ تَكُونُ الْعِنَايَةُ بِهِ أَشَدَّ، وَمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ هَذِهِ الْإِطَالَةَ النِّسْبِيَّةَ إِلَّا لِيَكُونَ تَفْسِيرُ كِتَابِ اللهِ الَّذِي أُنْزِلَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ دَرْءِ مَفَاسِدِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلْأَرْحَامِ، الْمُفْسِدَةِ لِلِاجْتِمَاعِ.
(٤) حُبُّ الزَّوْجِيَّةِ ضَرْبٌ خَاصٌّ مِنْ شُعُورِ النَّفْسِ لَيْسَ لَهُ فِي أَنْوَاعِهَا ضُرَيْبٌ، فَهُوَ الَّذِي يَسْكُنُ بِهِ اضْطِرَابُ النَّفْسِ مِنْ ثَوْرَةِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي تُهَيِّجُهَا دَاعِيَةُ النَّسْلِ، وَغَرِيزَةُ بَقَاءِ النَّوْعِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ بِهِ بَشَرَانِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمِّمًا لِوُجُودِ الْآخَرِ يُنْتِجَانِ بِاتِّحَادِهِمَا بَشَرًا مِثْلَهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ (٣: ١٤) إِلَى آخِرِهِ وَفِي مَقَالَاتِ (الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ)
مِنَ الْمَنَارِ (الْمُجَلَّدُ الثَّامِنُ) وَإِنَّمَا قَدَّمَهُ هُنَالِكَ عَلَى حُبِّ الْبَنِينَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ عَلَى حُبِّ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ أَقْوَى الشَّهَوَاتِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَخَّرَهُ هُنَا; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْحُبِّ الْمُعَارِضِ لِحُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَمَا يَخْشَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مُوَالَاةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْحَرْبِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَلَّمَا تَكُونُ زَوْجُ الرَّجُلِ مُعَارِضَةً لَهُ فِي دِينِهِ وَوِلَايَةِ مَنْ يَدِينُ اللهُ بِوِلَايَتِهِ، كَمَا يُعَارِضُهُ أَبُوهُ وَابْنُهُ وَأَخُوهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دُونَ امْرَأَتِهِ. وَرُوعِيَ التَّرْتِيبُ الطَّبِيعِيُّ فِي عَلَاقَةِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ بِالْمَرْءِ، وَدَرَجَاتِ لُصُوقِهَا بِهِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
206
(٨٠: ٣٤ - ٣٦) وَهَذِهِ الْفُرُوقُ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَاخْتِلَافِهَا فِي الْمَقَامَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ هِيَ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَنِدُّ عَنْ سَلَائِقِ الْبَشَرِ، وَمَعَارِفِهِمْ فِي بَلَاغَةِ الْكَلَامِ.
(٥) حُبُّ الْعَشِيرَةِ حُبُّ عَصَبِيَّةٍ وَتَعَاوُنٍ وَاعْتِزَازٍ، وَوِلَايَةٍ وَنَصْرٍ فِي الْقِتَالِ، وَيَكُونُ عَلَى أَشُدِّهِ فِي أَهْلِ الْبَدَاوَةِ، وَمَنْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ، وَقَدْ أَضْعَفَ الْإِسْلَامُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُبِّ وَالْوِلَايَةِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ مِنَ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِتَحْرِيمِ الدَّعْوَةِ إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَالْقِتَالِ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، كَمَا أَضْعَفَتْهُ الْحَيَاةُ الْحَضَرِيَّةُ التَّامَّةُ الَّتِي تُوكَلُ فِيهَا حِمَايَةُ الْأَفْرَادِ إِلَى دَوْلَةِ الرَّجُلِ دُونَ عَشِيرَتِهِ وَقَبِيلِهِ، وَتُجْمَعُ الْعَشِيرَةُ عَلَى عَشِيرَاتٍ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ، وَبِهِ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ.
(٦) حُبُّ الْأَمْوَالِ الْمُقْتَرَفَةِ - أَيِ الْمُكْتَسَبَةِ - طَبِيعِيٌّ أَيْضًا، وَهُوَ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ حُبِّ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ ; لِأَنَّ عَنَاءَ الْإِنْسَانِ فِي اقْتِرَافِهَا يَجْعَلُ لَهَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْقِيمَةِ وَالْمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ لِمَا جَاءَهُ عَفْوًا، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ النَّاسِ عِلْمًا وَعَمَلًا،
وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ حُبِّ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ (٣: ١٤) الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا.
(٧) حُبُّ التِّجَارَةِ الَّتِي يُخْشَى كَسَادُهَا، يُرَادُ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ عَرُوضُ التِّجَارَةِ الَّتِي يُخْشَى كَسَادُهَا فِي حَالَةِ الْحَرْبِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تُجَّارًا كَمَا وَرَدَ، وَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ شَيْءٌ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ يَخْشَى كَسَادَهَا فِي أَوْقَاتِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مُسْتَهْلِكِيهَا كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ أَسْوَاقُهَا تُنْصَبُ فِي أَيَّامِ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَقَدْ مُنِعَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ بِمُقْتَضَى الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَاهِيكَ بِحُبِّ أَبِي سُفْيَانَ وَوَلَدِهِ لِلْمَالِ، وَوَلُوعِهِ بِالتِّجَارَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْلِيبِهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَجْلِ تِجَارَتِهِ، وَقَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الشَّامِتِينَ بِهَزِيمَةِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَتَأَلَّفَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِكَثْرَةِ الْعَطَاءِ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ، كَمَا اسْتَمَالَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِقَوْلِهِ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(٨) حُبُّ الْمَسَاكِنِ الْمَرْضِيَّةِ طَبِيعِيٌّ أَيْضًا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ مَسْكَنًا يَأْوِيهِ، أَوْ يَمْلِكُ قَصْرًا لَا يُرْضِيهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا فِيمَا يَظْهَرُ وَاللهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنَ الدُّورِ الْحَسَنَةِ الَّتِي كَانُوا يَرْضَوْنَهَا لِلْإِقَامَةِ وَالسُّكْنَى بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَرَافِقِ وَأَسْبَابِ الرَّاحَةِ، وَيَكُونُونَ فِي مُدَّةِ خُرُوجِهِمْ لِلْجِهَادِ مَحْرُومِينَ مِنْهَا - وَمَا كَانَ لِبَعْضٍ آخَرَ فِي مَكَّةَ يُعِدُّونَهَا
(٥) حُبُّ الْعَشِيرَةِ حُبُّ عَصَبِيَّةٍ وَتَعَاوُنٍ وَاعْتِزَازٍ، وَوِلَايَةٍ وَنَصْرٍ فِي الْقِتَالِ، وَيَكُونُ عَلَى أَشُدِّهِ فِي أَهْلِ الْبَدَاوَةِ، وَمَنْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ، وَقَدْ أَضْعَفَ الْإِسْلَامُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُبِّ وَالْوِلَايَةِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ مِنَ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِتَحْرِيمِ الدَّعْوَةِ إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَالْقِتَالِ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، كَمَا أَضْعَفَتْهُ الْحَيَاةُ الْحَضَرِيَّةُ التَّامَّةُ الَّتِي تُوكَلُ فِيهَا حِمَايَةُ الْأَفْرَادِ إِلَى دَوْلَةِ الرَّجُلِ دُونَ عَشِيرَتِهِ وَقَبِيلِهِ، وَتُجْمَعُ الْعَشِيرَةُ عَلَى عَشِيرَاتٍ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ، وَبِهِ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ.
(٦) حُبُّ الْأَمْوَالِ الْمُقْتَرَفَةِ - أَيِ الْمُكْتَسَبَةِ - طَبِيعِيٌّ أَيْضًا، وَهُوَ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ حُبِّ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ ; لِأَنَّ عَنَاءَ الْإِنْسَانِ فِي اقْتِرَافِهَا يَجْعَلُ لَهَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْقِيمَةِ وَالْمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ لِمَا جَاءَهُ عَفْوًا، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ النَّاسِ عِلْمًا وَعَمَلًا،
وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ حُبِّ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ (٣: ١٤) الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا.
(٧) حُبُّ التِّجَارَةِ الَّتِي يُخْشَى كَسَادُهَا، يُرَادُ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ عَرُوضُ التِّجَارَةِ الَّتِي يُخْشَى كَسَادُهَا فِي حَالَةِ الْحَرْبِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تُجَّارًا كَمَا وَرَدَ، وَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ شَيْءٌ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ يَخْشَى كَسَادَهَا فِي أَوْقَاتِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مُسْتَهْلِكِيهَا كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ أَسْوَاقُهَا تُنْصَبُ فِي أَيَّامِ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَقَدْ مُنِعَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ بِمُقْتَضَى الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَاهِيكَ بِحُبِّ أَبِي سُفْيَانَ وَوَلَدِهِ لِلْمَالِ، وَوَلُوعِهِ بِالتِّجَارَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْلِيبِهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَجْلِ تِجَارَتِهِ، وَقَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الشَّامِتِينَ بِهَزِيمَةِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَتَأَلَّفَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِكَثْرَةِ الْعَطَاءِ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ، كَمَا اسْتَمَالَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِقَوْلِهِ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(٨) حُبُّ الْمَسَاكِنِ الْمَرْضِيَّةِ طَبِيعِيٌّ أَيْضًا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ مَسْكَنًا يَأْوِيهِ، أَوْ يَمْلِكُ قَصْرًا لَا يُرْضِيهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا فِيمَا يَظْهَرُ وَاللهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنَ الدُّورِ الْحَسَنَةِ الَّتِي كَانُوا يَرْضَوْنَهَا لِلْإِقَامَةِ وَالسُّكْنَى بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَرَافِقِ وَأَسْبَابِ الرَّاحَةِ، وَيَكُونُونَ فِي مُدَّةِ خُرُوجِهِمْ لِلْجِهَادِ مَحْرُومِينَ مِنْهَا - وَمَا كَانَ لِبَعْضٍ آخَرَ فِي مَكَّةَ يُعِدُّونَهَا
207
لِلِاسْتِغْلَالِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ إِذْ يَظْهَرُ مِنْ طَبِيعَةِ الْأَحْوَالِ أَنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ، وَهَذَا النَّوْعُ يَكُونُ مُعَطَّلًا بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ وَهُوَ مَا بَلَغُوهُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ حُبِّ الْقَرَابَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ مَعَايِشِ النَّاسِ، قَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَجْعَلَ الْقِتَالَ مَكْرُوهًا فَوْقَ الْكُرْهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ ذَاتُهُ الْوَحْشِيَّةُ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مُفَارَقَةِ هَذِهِ الْمَحْبُوبَاتِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُشْرَعْ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي يُرَجَّحُ بِهَا الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ عَلَى الْإِحْجَامِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ (٢: ٢١٦) الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (٢: ٢٥١) وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ حِكْمَةِ تَشْرِيعِ الْقِتَالِ، وَكَوْنِهِ بِحُسْنِ الْقَصْدِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْإِسْلَامُ أَعْظَمَ مُزِيلٍ لِلْفَسَادِ، وَمُصْلِحٍ لِأَمْرِ الْعِبَادِ، فَرَاجِعْهُ إِنْ كَانَ غَابَ عَنْكَ فَهُوَ يُفِيدُ فِي فَهْمِ مَا هُنَا. وَزِدْ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ إِيثَارُهُ مِنْ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى كُلِّ حُبٍّ، وَتَقْدِيمِ كُلِّ جِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ عَلَى كُلِّ مَنْفَعَةٍ فِي الْأَرْضِ.
أَمَّا حُبُّ اللهِ تَعَالَى - أَيْ حُبُّ عَبْدِهِ لَهُ - فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ كُلِّ حُبٍّ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُتَّصِفُ وَحْدَهُ بِكُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُحَبَّ مِنْ جَمَالٍ وَكَمَالٍ، وَبِرٍّ وَإِحْسَانٍ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ وَمَا يُحَبُّ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ صُنْعِهِ وَفَيْضِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمَظْهَرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ، فَمِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ حُبُّ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ عَطْفٍ وَأَمَلٍ، شُعْبَةً مِنْ حُبِّ وَاهِبِهِ، وَمُودِعِ الْعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِ وَالِدَيْهِ لَهُ. وَأَنْ يَكُونَ حُبُّ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَمُرَبِّيهِ عِنْدَمَا يَعْقِلُ جُزْءًا مِنْ حُبِّ رَبِّهِ الَّذِي سَخَّرَهُ لَهُ، وَسَاقَهُ بِغَرِيزَةِ الْفِطْرَةِ وَحُكْمِ الشَّرِيعَةِ لِتَرْبِيَتِهِ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، الْمُرَبِّي الْحَقُّ لِكُلِّ حَيٍّ، بِسُنَنِهِ فِي الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى وَالْأَخْلَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْخَلَفُ وَالْعِوَضُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ لِيَتِيمِهِ، وَمَنْ كُلِّ وَلَدٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَمِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ حُبُّ الْأَخِ لِأَخِيهِ كَذَلِكَ بِالْأَوْلَى، وَكَذَلِكَ حُبُّ الزَّوْجِ لِلزَّوْجِ لَا يَشِذُّ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَهُوَ الَّذِي أَوْدَعَ الْمَحَبَّةَ الزَّوْجِيَّةَ فِي الْأَنْفُسِ، وَلَمْ يَخُصَّهَا بِفَرْدٍ مُعَيَّنٍ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (٣٠: ٢١) وَحُبُّ الْعَشِيرَةِ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي عُمُومِهَا، فَإِنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ التَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ بِوَشِيجَةِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ حَلَّ مَحَلَّهَا فِي الْإِسْلَامِ مَا هُوَ أَقْوَى
وَأَعْظَمُ، وَهُوَ تَنَاصُرُ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْكَبِيرَةِ بِمُقْتَضَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَصِيرُهُمْ بِوَجْهٍ أَخَصَّ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (٣: ١٢٦) بِالْوَجْهِ الْأَعَمِّ.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ حُبِّ الْقَرَابَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ مَعَايِشِ النَّاسِ، قَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَجْعَلَ الْقِتَالَ مَكْرُوهًا فَوْقَ الْكُرْهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ ذَاتُهُ الْوَحْشِيَّةُ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مُفَارَقَةِ هَذِهِ الْمَحْبُوبَاتِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُشْرَعْ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ الَّتِي يُرَجَّحُ بِهَا الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ عَلَى الْإِحْجَامِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ (٢: ٢١٦) الْآيَةَ، وَكَقَوْلِهِ: وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (٢: ٢٥١) وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ حِكْمَةِ تَشْرِيعِ الْقِتَالِ، وَكَوْنِهِ بِحُسْنِ الْقَصْدِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْإِسْلَامُ أَعْظَمَ مُزِيلٍ لِلْفَسَادِ، وَمُصْلِحٍ لِأَمْرِ الْعِبَادِ، فَرَاجِعْهُ إِنْ كَانَ غَابَ عَنْكَ فَهُوَ يُفِيدُ فِي فَهْمِ مَا هُنَا. وَزِدْ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ إِيثَارُهُ مِنْ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى كُلِّ حُبٍّ، وَتَقْدِيمِ كُلِّ جِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ عَلَى كُلِّ مَنْفَعَةٍ فِي الْأَرْضِ.
أَمَّا حُبُّ اللهِ تَعَالَى - أَيْ حُبُّ عَبْدِهِ لَهُ - فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ كُلِّ حُبٍّ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُتَّصِفُ وَحْدَهُ بِكُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُحَبَّ مِنْ جَمَالٍ وَكَمَالٍ، وَبِرٍّ وَإِحْسَانٍ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ وَمَا يُحَبُّ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مِنْ صُنْعِهِ وَفَيْضِ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمَظْهَرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ، فَمِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ حُبُّ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ عَطْفٍ وَأَمَلٍ، شُعْبَةً مِنْ حُبِّ وَاهِبِهِ، وَمُودِعِ الْعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِ وَالِدَيْهِ لَهُ. وَأَنْ يَكُونَ حُبُّ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَمُرَبِّيهِ عِنْدَمَا يَعْقِلُ جُزْءًا مِنْ حُبِّ رَبِّهِ الَّذِي سَخَّرَهُ لَهُ، وَسَاقَهُ بِغَرِيزَةِ الْفِطْرَةِ وَحُكْمِ الشَّرِيعَةِ لِتَرْبِيَتِهِ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، الْمُرَبِّي الْحَقُّ لِكُلِّ حَيٍّ، بِسُنَنِهِ فِي الْغَرَائِزِ وَالْقُوَى وَالْأَخْلَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْخَلَفُ وَالْعِوَضُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ لِيَتِيمِهِ، وَمَنْ كُلِّ وَلَدٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَمِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ حُبُّ الْأَخِ لِأَخِيهِ كَذَلِكَ بِالْأَوْلَى، وَكَذَلِكَ حُبُّ الزَّوْجِ لِلزَّوْجِ لَا يَشِذُّ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَهُوَ الَّذِي أَوْدَعَ الْمَحَبَّةَ الزَّوْجِيَّةَ فِي الْأَنْفُسِ، وَلَمْ يَخُصَّهَا بِفَرْدٍ مُعَيَّنٍ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (٣٠: ٢١) وَحُبُّ الْعَشِيرَةِ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي عُمُومِهَا، فَإِنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ التَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ بِوَشِيجَةِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ حَلَّ مَحَلَّهَا فِي الْإِسْلَامِ مَا هُوَ أَقْوَى
وَأَعْظَمُ، وَهُوَ تَنَاصُرُ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْكَبِيرَةِ بِمُقْتَضَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَصِيرُهُمْ بِوَجْهٍ أَخَصَّ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ (٣: ١٢٦) بِالْوَجْهِ الْأَعَمِّ.
208
وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا عُرُوضُ التِّجَارَةِ الَّتِي يُرْجَى رَوَاجُهَا، وَيُخْشَى كَسَادُهَا - كُلُّهَا مِنْ جُودِهِ وَعَطَائِهِ وَتَسْخِيرِهِ - وَحُبُّهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دُونَ حُبِّهِ بَلْ هُوَ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْحُبِّ وَإِنْ فُتِنَ بِهِ أَكْثَرُ الْمَادِّيِّينَ، وَكَثِيرٌ مِنَ الَّذِينَ حُرِمُوا تَهْذِيبَ الدِّينِ، فَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ مِنْ أَسْبَابِ شَقَائِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَبْخَلُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَالْمَسَاكِنُ دُونَ الْأَمْوَالِ ; لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْنِيَ مِنْهَا مِثْلَ مَا يَفْقِدُهُ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ، وَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ عَنْ كُلِّ مَا فَقَدُوا أَوْ خَافُوا أَنْ يَفْقِدُوا بِنَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَعَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَبَ وَهْمُ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ. وَإِيهَامُ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ بِأَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ سَبَبُ الْكَسَادِ وَالْخُسْرَانِ، وَصَدَقَ وَعْدُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِخْلَافِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَتَمْكِينِهِمْ فِيهَا، وَجَعْلِهِمْ أَغْنَى أَهْلِهَا مَا دَامُوا مُهْتَدِينَ بِهِ كَمَا وَعَدَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ (٢٤: ٥٥) إِلَخْ وَلَوْ عَادُوا إِلَى تِلْكَ الْهِدَايَةِ، لَعَادَتْ إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْخِلَافَةُ.
وَإِنَّ فَوْقَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ حُبِّهِ تَعَالَى لِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ فِي الدُّنْيَا، وَتَسْخِيرِ قُوَاهَا وَمَنَافِعِهَا لِلنَّاسِ، وَحُبِّهِ لِمَا وَعَدَ بِهِ مِمَّا يُشْبِهُهُ، وَلَكِنْ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ نَوْعٌ آخَرُ هُوَ حُبُّ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ وَالْمَعْرُوفَةِ الْعُلْيَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ وَسَبَبَهُ فِي تَفْسِيرِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (٢: ١٦٥) وَبَيَّنَّا خَطَأَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِ أَنْدَادِهِمْ مَعَهُ فِيهِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُمْ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ وَشُفَعَاءُ عِنْدَهُ يُقَرِّبُونَ مَنْ تَوَسَّلَ بِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى. وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ مِنْهُمْ حُبًّا لِلَّهِ ; لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِنْ تَوَحُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ - وَمِنْ آثَارِهَا التَّدْبِيرُ وَالنَّفْعُ وَالضُّرُّ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي هُوَ خَالِقُهَا وَمُسَخِّرُهَا وَبِغَيْرِ الْأَسْبَابِ إِنْ شَاءَ وَانْفِرَادُهُ
بِالْأُولُوهِيَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْحَقَّ وَحْدَهُ، فَحُبُّهُمْ إِيَّاهُ مُجْتَمِعٌ ثَابِتٌ كَامِلٌ لَا شَائِبَةَ لِلْإِشْرَاكِ فِيهِ، وَبَيَّنَّا فِي مُقَابَلَةِ هَذَا كَوْنَ حُبِّ الْمُشْرِكِينَ لِلْأَنْدَادِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ نَهْيًا مُقَسَّمًا عَلَى مَعْبُودَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ حُبَّ الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ لِلَّهِ تَعَالَى لَهُ دَرَجَاتٌ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَعَارِفِهِ بِآيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِقْدَارِ إِدْرَاكِهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ كَمَا قَالَ: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (٢٧: ٨٨) وَقَالَ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (٣٢: ٧) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (٣: ٣١) كَمَا بَيَّنَّا فِيهِ مَعْنَى حُبِّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى وَالْفُرْقَانِ. وَقَدْ جَهِلَ عُلَمَاءُ الْأَلْفَاظِ وَالتَّقَالِيدِ كُنْهَ هَذَا
وَإِنَّ فَوْقَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ حُبِّهِ تَعَالَى لِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ فِي الدُّنْيَا، وَتَسْخِيرِ قُوَاهَا وَمَنَافِعِهَا لِلنَّاسِ، وَحُبِّهِ لِمَا وَعَدَ بِهِ مِمَّا يُشْبِهُهُ، وَلَكِنْ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ نَوْعٌ آخَرُ هُوَ حُبُّ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ وَالْمَعْرُوفَةِ الْعُلْيَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ وَسَبَبَهُ فِي تَفْسِيرِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (٢: ١٦٥) وَبَيَّنَّا خَطَأَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِ أَنْدَادِهِمْ مَعَهُ فِيهِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُمْ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ وَشُفَعَاءُ عِنْدَهُ يُقَرِّبُونَ مَنْ تَوَسَّلَ بِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى. وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ مِنْهُمْ حُبًّا لِلَّهِ ; لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِنْ تَوَحُّدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ - وَمِنْ آثَارِهَا التَّدْبِيرُ وَالنَّفْعُ وَالضُّرُّ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي هُوَ خَالِقُهَا وَمُسَخِّرُهَا وَبِغَيْرِ الْأَسْبَابِ إِنْ شَاءَ وَانْفِرَادُهُ
بِالْأُولُوهِيَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْحَقَّ وَحْدَهُ، فَحُبُّهُمْ إِيَّاهُ مُجْتَمِعٌ ثَابِتٌ كَامِلٌ لَا شَائِبَةَ لِلْإِشْرَاكِ فِيهِ، وَبَيَّنَّا فِي مُقَابَلَةِ هَذَا كَوْنَ حُبِّ الْمُشْرِكِينَ لِلْأَنْدَادِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ نَهْيًا مُقَسَّمًا عَلَى مَعْبُودَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ حُبَّ الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ لِلَّهِ تَعَالَى لَهُ دَرَجَاتٌ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَعَارِفِهِ بِآيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَاتِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِقْدَارِ إِدْرَاكِهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ كَمَا قَالَ: صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (٢٧: ٨٨) وَقَالَ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (٣٢: ٧) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (٣: ٣١) كَمَا بَيَّنَّا فِيهِ مَعْنَى حُبِّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى وَالْفُرْقَانِ. وَقَدْ جَهِلَ عُلَمَاءُ الْأَلْفَاظِ وَالتَّقَالِيدِ كُنْهَ هَذَا
209
الْحَبِّ فَتَأَوَّلُوهُ كَمَا تَأَوَّلُوا غَيْرَهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَشُئُونِهِ الْكَمَالِيَّةِ، تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّهَا تُعَارِضُ تَنَزُّهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ النَّاسِ فِي صِفَاتِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ، فَكَانَ حَظُّهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَإِلَهِهِمُ التَّعْطِيلَ بِشُبْهَةِ التَّنْزِيهِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى سَلْبِيٌّ مَحْضٌ ثُمَّ أَعَدْنَا بَيَانَ مَا ذُكِرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ (٥: ٥٤).
وَأَمَّا حُبُّ رَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ فَهُوَ دُونُ حُبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَوْقَ حُبِّ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ يُحِبُّ مِنَ الْخَلْقِ كَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالْمُرْشِدِينَ الْمُرَبِّينَ، وَالْفَنَّانِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالزُّعَمَاءِ السِّيَاسِيِّينَ، وَالْأَغْنِيَاءِ الْمُحْسِنِينَ فَإِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ الْمُثْلَى، فِي أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ وَفَضَائِلِهِ وَفَوَاضِلِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَرِيَاسَتِهِ وَسَائِرِ هَدْيِهِ، قَدْ خَصَّهُ اللهُ بِجَعْلِهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَإِرْسَالِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ اتِّبَاعَهُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُبِّ مُتَّبَعِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَجَعَلَ جَزَاءَهُ عِنْدَهُ حُبَّهُ تَعَالَى لِمُتَّبِعِهِ، وَمَغْفِرَتَهُ لِجَمِيعِ ذُنُوبِهِ، وَذَلِكَ نَصُّ آيَةِ (٣: ٣١) آلِ عِمْرَانَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَسَنَزِيدُ هَذَا الْحُبَّ وَحُبَّ اللهِ تَعَالَى بَيَانًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَدْ عَطَفَ عَلَيْهِمَا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ مُنْكِرًا; لِأَنَّهُ أَظْهَرَ آيَاتِهِمَا وَنُكْتَةَ تَنْكِيرِهِ وَإِبْهَامِهِ إِفَادَةُ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ تَارِكَهُ لِأَجْلِ حُبِّ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَتَفْضِيلِهَا عَلَيْهِ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الَّذِي فِي الْآيَةِ، وَالْجِهَادُ أَنْوَاعٌ تَرْجِعُ إِلَى جِنْسَيْنِ: الْجِهَادُ بِالْمَالِ، وَالْجِهَادُ بِالنَّفْسِ. وَالْقِتَالُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ الثَّانِي، وَمِنْهَا أَنْوَاعٌ أُخْرَى عِلْمِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ. فَمُهَنْدِسُ الْحَرْبِ الْحَقِّ الْعَادِلَةِ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَوَاضِعُ الرُّسُومِ لِمَوَاطِنِهَا وَطُرُقِهَا كَذَلِكَ، إِلَخْ.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ - وَهُوَ كَذَلِكَ - فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَهُوَ غَيْرُ تَامِّ الْإِيمَانِ أَوْ غَيْرُ صَحِيحِهِ كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ آيَةُ الْمَائِدَةِ (٥: ٥٤) الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا آنِفًا. فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَ... أَبْهَمَ لِتَذْهَبَ أَنْفُسُهُمْ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَأَقْرَبُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ قَوْلَهُ فِي وَعِيدِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا (٥٢) وَمَا كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ حُبَّ أَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُثَبِّطُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَيُوحُونَ إِلَيْهِمْ زُخْرُفَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى نَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِعْلَانِ حَالَةِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمَعْنَى
وَأَمَّا حُبُّ رَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ فَهُوَ دُونُ حُبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَوْقَ حُبِّ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ يُحِبُّ مِنَ الْخَلْقِ كَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالْمُرْشِدِينَ الْمُرَبِّينَ، وَالْفَنَّانِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالزُّعَمَاءِ السِّيَاسِيِّينَ، وَالْأَغْنِيَاءِ الْمُحْسِنِينَ فَإِنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ الْمُثْلَى، فِي أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ وَفَضَائِلِهِ وَفَوَاضِلِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَرِيَاسَتِهِ وَسَائِرِ هَدْيِهِ، قَدْ خَصَّهُ اللهُ بِجَعْلِهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَإِرْسَالِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ اتِّبَاعَهُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُبِّ مُتَّبَعِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَجَعَلَ جَزَاءَهُ عِنْدَهُ حُبَّهُ تَعَالَى لِمُتَّبِعِهِ، وَمَغْفِرَتَهُ لِجَمِيعِ ذُنُوبِهِ، وَذَلِكَ نَصُّ آيَةِ (٣: ٣١) آلِ عِمْرَانَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَسَنَزِيدُ هَذَا الْحُبَّ وَحُبَّ اللهِ تَعَالَى بَيَانًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَدْ عَطَفَ عَلَيْهِمَا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ مُنْكِرًا; لِأَنَّهُ أَظْهَرَ آيَاتِهِمَا وَنُكْتَةَ تَنْكِيرِهِ وَإِبْهَامِهِ إِفَادَةُ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَإِنَّ تَارِكَهُ لِأَجْلِ حُبِّ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَتَفْضِيلِهَا عَلَيْهِ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الَّذِي فِي الْآيَةِ، وَالْجِهَادُ أَنْوَاعٌ تَرْجِعُ إِلَى جِنْسَيْنِ: الْجِهَادُ بِالْمَالِ، وَالْجِهَادُ بِالنَّفْسِ. وَالْقِتَالُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ الثَّانِي، وَمِنْهَا أَنْوَاعٌ أُخْرَى عِلْمِيَّةٌ وَعَمَلِيَّةٌ. فَمُهَنْدِسُ الْحَرْبِ الْحَقِّ الْعَادِلَةِ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَوَاضِعُ الرُّسُومِ لِمَوَاطِنِهَا وَطُرُقِهَا كَذَلِكَ، إِلَخْ.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ - وَهُوَ كَذَلِكَ - فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ كَانَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَهُوَ غَيْرُ تَامِّ الْإِيمَانِ أَوْ غَيْرُ صَحِيحِهِ كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ آيَةُ الْمَائِدَةِ (٥: ٥٤) الَّتِي اسْتَشْهَدْنَا بِهَا آنِفًا. فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَ... أَبْهَمَ لِتَذْهَبَ أَنْفُسُهُمْ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَأَقْرَبُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ قَوْلَهُ فِي وَعِيدِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا (٥٢) وَمَا كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ حُبَّ أَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُثَبِّطُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجِهَادِ، وَيُوحُونَ إِلَيْهِمْ زُخْرُفَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى نَبْذِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِعْلَانِ حَالَةِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْمَعْنَى
210
حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِالْأَمْرِ بِالْهِجْرَةِ، وَأَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ - فَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ (وَكَذَا السُّورَةُ جُلُّهَا أَوْ كُلُّهَا) بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَغَزْوَةِ حُنَيْنٍ وَتَبُوكَ، وَأَنَّهَا مِمَّا بُلِّغَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي مَوْسِمِ سَنَةِ تِسْعٍ بَعْدَ سُقُوطِ فَرِيضَةِ الْهِجْرَةِ بِنَصِّ حَدِيثِ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
حَدِيثِ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى بِلَفْظِ " بَعْدَ الْفَتْحِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَالْوَعِيدُ هُنَا عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ دُونَ الْهِجْرَةِ.
وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ الْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ: خُرُوجُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ عَمَّا كَانَ فِيهِ أَوْ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بِحَسَبِ الْخِلْقَةِ أَوِ الْعُرْفِ أَوِ الشَّرِيعَةِ قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَيُقَالُ أَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، يُقَالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ فَقَدْ فَسَقَ، قَالَهُ السَّرَقُسْطِيُّ، وَقِيلَ لِلْحَيَوَانَاتِ الْخَمْسِ فَوَاسِقُ; اسْتِعَارَةً وَامْتِهَانًا لَهُنَّ لِكَثْرَةِ خُبْثِهِنَّ وَأَذَاهُنَّ، حَتَّى قِيلَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَفِي الْحَرَمِ، وَفِي الصَّلَاةِ وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ. اهـ. وَهُوَ فِي الِاسْتِعَارَةِ الْخُرُوجُ مِنْ حُدُودِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ بِالْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ أَوْ فِيمَا دُونَهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ تَخْصِيصُهُ بِالْأَخِيرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ إِلَى فَسَادِ الطِّبَاعِ، وَمِنْ نُورِ الْعَقْلِ إِلَى ظُلْمَةِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٢: ٩٩) بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَمَرِّدًا لَا يَقْبَلُ هِدَايَةَ الدِّينِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ الْمَارِقِينَ مِنَ الدِّينِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ كَالْمُنَافِقِينَ أَوْ يَكُونُوا مَحْرُومِينَ مِنَ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا النَّاسُ بِالْعَقْلِ السَّلِيمِ وَالْوِجْدَانِ الصَّحِيحِ، فَلَا يَعْرِفُونَ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ، فَيُؤْثِرُونَ حُبَّ الْقَرَابَةِ وَالْمَنْفَعَةَ الْعَارِضَةَ كَالْمَالِ وَالتِّجَارَةِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ الْمَفْرُوضِ فِي سَبِيلِهِ، وَيَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِمُقَابِلِهِ وَعَكْسِهِ فَيُقَالُ:
وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ مِنْ مُحِيطِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَنُورِ الْعَقْلِ الرَّاجِحِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى أَوِ التَّقْلِيدِ أَوْ يُحْرَمُوا مِنْ فِقْهِ هِدَايَةِ الدِّينِ فَلَا يَعْقِلُونَهَا وَأَهَمُّهَا الْعِلْمُ بِمَا فِي إِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَحُبِّ رَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ. وَالْفَوْزِ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْوَلَاءُ وَالِاتِّحَادُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِزَالَةِ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَمَفَاسِدِهِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُمَا مِنْ ثَبَاتِ الْمُلْكِ.
حَدِيثِ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى بِلَفْظِ " بَعْدَ الْفَتْحِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَالْوَعِيدُ هُنَا عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ دُونَ الْهِجْرَةِ.
وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ الْفِسْقُ فِي اللُّغَةِ: خُرُوجُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ عَمَّا كَانَ فِيهِ أَوْ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بِحَسَبِ الْخِلْقَةِ أَوِ الْعُرْفِ أَوِ الشَّرِيعَةِ قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَيُقَالُ أَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ، يُقَالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ فَقَدْ فَسَقَ، قَالَهُ السَّرَقُسْطِيُّ، وَقِيلَ لِلْحَيَوَانَاتِ الْخَمْسِ فَوَاسِقُ; اسْتِعَارَةً وَامْتِهَانًا لَهُنَّ لِكَثْرَةِ خُبْثِهِنَّ وَأَذَاهُنَّ، حَتَّى قِيلَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَفِي الْحَرَمِ، وَفِي الصَّلَاةِ وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ. اهـ. وَهُوَ فِي الِاسْتِعَارَةِ الْخُرُوجُ مِنْ حُدُودِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ بِالْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ أَوْ فِيمَا دُونَهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ تَخْصِيصُهُ بِالْأَخِيرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنْ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ إِلَى فَسَادِ الطِّبَاعِ، وَمِنْ نُورِ الْعَقْلِ إِلَى ظُلْمَةِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٢: ٩٩) بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَمَرِّدًا لَا يَقْبَلُ هِدَايَةَ الدِّينِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ الْمَارِقِينَ مِنَ الدِّينِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ كَالْمُنَافِقِينَ أَوْ يَكُونُوا مَحْرُومِينَ مِنَ الْهِدَايَةِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا النَّاسُ بِالْعَقْلِ السَّلِيمِ وَالْوِجْدَانِ الصَّحِيحِ، فَلَا يَعْرِفُونَ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ، فَيُؤْثِرُونَ حُبَّ الْقَرَابَةِ وَالْمَنْفَعَةَ الْعَارِضَةَ كَالْمَالِ وَالتِّجَارَةِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ الْمَفْرُوضِ فِي سَبِيلِهِ، وَيَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِمُقَابِلِهِ وَعَكْسِهِ فَيُقَالُ:
وَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ مِنْ مُحِيطِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَنُورِ الْعَقْلِ الرَّاجِحِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى أَوِ التَّقْلِيدِ أَوْ يُحْرَمُوا مِنْ فِقْهِ هِدَايَةِ الدِّينِ فَلَا يَعْقِلُونَهَا وَأَهَمُّهَا الْعِلْمُ بِمَا فِي إِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَحُبِّ رَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ. وَالْفَوْزِ بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْوَلَاءُ وَالِاتِّحَادُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِزَالَةِ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَمَفَاسِدِهِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُمَا مِنْ ثَبَاتِ الْمُلْكِ.
211
وَصْلٌ فِي كَمَالِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَطَرِيقِ اكْتِسَابِهِ
مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي دِينِ الْفِطْرَةِ أَنَّهُ لَمْ يَذُمَّ حُبَّ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَزْوَاجِ، وَلَا حُبَّ الْمَالِ وَالْكَسْبِ وَالاتِّجَارِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ إِيثَارَ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى حُبِّ مَا ذَكَرَ، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ إِذَا وَجَبَ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا مُنْتَهَى التَّسَامُحِ فِي الدِّينِ دُونَ تَكْلِيفِ بُغْضِ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ وَقَدْ أَبَاحَ الْإِسْلَامُ مَعَهُ بِرَّ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، وَالْعَدْلَ وَالْقِسْطَ فِي مُعَامَلَتِهِ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ (٦٠: ٨، ٩) وَتَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَخَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَأْلُونَهُمْ خَبَالًا إِلَخْ: هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (٣: ١١٩) وَأَبَاحَ لَهُمْ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ عَلَى مَا فَطَرَ عَلَيْهِ الْقُلُوبَ مِنْ حُبِّ الزَّوْجِيَّةِ وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (٣٠: ٢١).
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْحُبِّ الْمَشْرُوحِ فِي الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا - وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ - مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ
وَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ " فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الْآنَ يَا عُمَرُ ".
وَقَدْ حَمَلُوا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حُبُّ الطَّبْعِ الَّذِي لَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ حُبَّ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِجْلَالِ شَرْطٌ أَوْ شَطْرٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرِسَالَتِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا صَيْرُورَتُهُ وِجْدَانًا مِنْ قَبِيلِ حُبِّ الطَّبْعِ، وَغَلَبَتِهِ عَلَى حُبِّ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى النَّفْسُ، فَهُوَ كَمَالٌ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الرُّسُوخِ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْعُشَّاقِ لِلْحِسَانِ يَصِلُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْحِسَانِ غَيْرُ أَهْلٍ لِعُشْرِ هَذَا الْحُبِّ، لَوْلَا أَنَّهُ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ، فَأَيْنَ مِنْهُ حُبُّ مَنْ هُوَ مَصْدَرٌ لِكُلِّ جَمَالٍ وَكَمَالٍ وَحُسْنٍ وَإِحْسَانٍ، يَتَجَلَّى فِي كُلِّ مَا عَرَفَ الْبَشَرُ مِنْ نِظَامِ الْأَكْوَانِ، وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلَ؟ !.
مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي دِينِ الْفِطْرَةِ أَنَّهُ لَمْ يَذُمَّ حُبَّ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَزْوَاجِ، وَلَا حُبَّ الْمَالِ وَالْكَسْبِ وَالاتِّجَارِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ إِيثَارَ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى حُبِّ مَا ذَكَرَ، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ إِذَا وَجَبَ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا مُنْتَهَى التَّسَامُحِ فِي الدِّينِ دُونَ تَكْلِيفِ بُغْضِ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ وَقَدْ أَبَاحَ الْإِسْلَامُ مَعَهُ بِرَّ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ، وَالْعَدْلَ وَالْقِسْطَ فِي مُعَامَلَتِهِ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ (٦٠: ٨، ٩) وَتَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَخَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يَأْلُونَهُمْ خَبَالًا إِلَخْ: هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (٣: ١١٩) وَأَبَاحَ لَهُمْ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ عَلَى مَا فَطَرَ عَلَيْهِ الْقُلُوبَ مِنْ حُبِّ الزَّوْجِيَّةِ وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (٣٠: ٢١).
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الْحُبِّ الْمَشْرُوحِ فِي الْآيَةِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا - وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ - مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ
وَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ " فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الْآنَ يَا عُمَرُ ".
وَقَدْ حَمَلُوا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حُبُّ الطَّبْعِ الَّذِي لَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ حُبَّ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِجْلَالِ شَرْطٌ أَوْ شَطْرٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرِسَالَتِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا صَيْرُورَتُهُ وِجْدَانًا مِنْ قَبِيلِ حُبِّ الطَّبْعِ، وَغَلَبَتِهِ عَلَى حُبِّ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى النَّفْسُ، فَهُوَ كَمَالٌ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الرُّسُوخِ فِي الْإِيمَانِ، وَهُوَ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْعُشَّاقِ لِلْحِسَانِ يَصِلُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْحِسَانِ غَيْرُ أَهْلٍ لِعُشْرِ هَذَا الْحُبِّ، لَوْلَا أَنَّهُ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ، فَأَيْنَ مِنْهُ حُبُّ مَنْ هُوَ مَصْدَرٌ لِكُلِّ جَمَالٍ وَكَمَالٍ وَحُسْنٍ وَإِحْسَانٍ، يَتَجَلَّى فِي كُلِّ مَا عَرَفَ الْبَشَرُ مِنْ نِظَامِ الْأَكْوَانِ، وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلَ؟ !.
212
وَالطَّرِيقُ إِلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْحُبِّ كَثْرَةُ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ، وَتَدَبُّرُ الْقُرْآنِ مَعَ الْتِزَامِ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا الذِّكْرُ ذِكْرُ الْقَلْبِ، مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ وَصِحَّةِ الْقَصْدِ، وَتَأَمُّلِ سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي الْخَلْقِ، بِأَنْ تَذْكُرَ عِنْدَ رُؤْيَةِ كُلِّ حَسَنٍ وَجَمَالٍ وَكَمَالٍ فِي الْكَوْنِ أَنَّهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ تَذْكُرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ صَوْتٍ مِنْ نَاطِقٍ مَفْهُومٍ، وَصَامِتٍ مَعْلُومٍ، كَخَرِيرِ الْمِيَاهِ، وَهَزِيزِ الرِّيَاحِ، وَحَفِيفِ الْأَشْجَارِ، وَتَغْرِيدِ الْأَطْيَارِ. وَكَذَا نَغَمَاتُ الْأَوْتَارِ. وَتَتَذَكَّرَ أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللهِ، وَمِنْ صُنْعِ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَسْبِيحِ نَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فِي زَبُورِهِ: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (٣٨: ١٨، ١٩).
وَالْمَحْفُوظُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي خَاتِمَةِ الزَّبُورِ وَهُوَ الْمَزْمُورُ الْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ: " سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ، سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ، سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ، سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ، سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ، سَبِّحُوهُ بِدُفٍّ وَرَقْصٍ، سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيتِ، سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَافِ، كُلُّ نَسَمَةٍ فَلْتُسَبِّحِ الرَّبَّ هَلِّلُوا " اهـ.
وَفِي الْمَزَامِيرِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ التَّسَابِيحِ فِي الْمَعَازِفِ، وَكَانَ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِنَا، وَشَعَائِرِ شَرِيعَتِنَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَلَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَنْ نُحْدِثَ شَيْئًا فِي دِينِهِ بِآرَائِنَا وَأَهْوَائِنَا، وَهُوَ قَدْ أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَبَلَّغَنَا رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَقَالَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدِ ابْتَدَعَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إِدْخَالَ الْمَعَازِفِ وَالرَّقْصِ فِي ذِكْرِ اللهِ بِمَا يَجْتَمِعُونَ لَهُ فَيَجْعَلُونَهُ مِنْ قَبِيلِ الشَّعَائِرِ، وَإِنَّمَا الَّذِي نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللهِ، إِثْبَاتُ تَسْبِيحِ كُلِّ شَيْءٍ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (١٧: ٤٤).
فَالَّذِي يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَسْتَفِيدَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ فِي قُلُوبِنَا عِنْدَ رُؤْيَةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ صُنْعِ اللهِ، وَسَمَاعِ كُلِّ صَوْتٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللهِ، أَنَّهُ يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللهِ بِدَلَالَتِهِ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّ لَهَا تَسْبِيحًا آخَرَ غَيْبِيًّا لَا نَفْقَهُهُ بِكَسْبِنَا; لِأَنَّنَا لَا نُدْرِكُ حَيَاتَهَا، وَقَدْ يَكُونُ إِدْرَاكُهُ ثَمَرَةً رُوحِيَّةً لِمَنْ زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ إِلَى نُورِ قُدْسِهِ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
فِي زَبُورِهِ: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (٣٨: ١٨، ١٩).
وَالْمَحْفُوظُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي خَاتِمَةِ الزَّبُورِ وَهُوَ الْمَزْمُورُ الْمِائَةُ وَالْخَمْسُونَ: " سَبِّحُوا اللهَ فِي قُدْسِهِ، سَبِّحُوهُ فِي فَلَكِ قُوَّتِهِ، سَبِّحُوهُ عَلَى قُوَّاتِهِ، سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ، سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ، سَبِّحُوهُ بِدُفٍّ وَرَقْصٍ، سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيتِ، سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَافِ، كُلُّ نَسَمَةٍ فَلْتُسَبِّحِ الرَّبَّ هَلِّلُوا " اهـ.
وَفِي الْمَزَامِيرِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ التَّسَابِيحِ فِي الْمَعَازِفِ، وَكَانَ مِنْ شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِنَا، وَشَعَائِرِ شَرِيعَتِنَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَلَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَنْ نُحْدِثَ شَيْئًا فِي دِينِهِ بِآرَائِنَا وَأَهْوَائِنَا، وَهُوَ قَدْ أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَبَلَّغَنَا رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَقَالَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدِ ابْتَدَعَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إِدْخَالَ الْمَعَازِفِ وَالرَّقْصِ فِي ذِكْرِ اللهِ بِمَا يَجْتَمِعُونَ لَهُ فَيَجْعَلُونَهُ مِنْ قَبِيلِ الشَّعَائِرِ، وَإِنَّمَا الَّذِي نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللهِ، إِثْبَاتُ تَسْبِيحِ كُلِّ شَيْءٍ لِلَّهِ، قَالَ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (١٧: ٤٤).
فَالَّذِي يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَسْتَفِيدَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ فِي قُلُوبِنَا عِنْدَ رُؤْيَةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ صُنْعِ اللهِ، وَسَمَاعِ كُلِّ صَوْتٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللهِ، أَنَّهُ يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللهِ بِدَلَالَتِهِ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنَّ لَهَا تَسْبِيحًا آخَرَ غَيْبِيًّا لَا نَفْقَهُهُ بِكَسْبِنَا; لِأَنَّنَا لَا نُدْرِكُ حَيَاتَهَا، وَقَدْ يَكُونُ إِدْرَاكُهُ ثَمَرَةً رُوحِيَّةً لِمَنْ زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ إِلَى نُورِ قُدْسِهِ، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
213
(٣٣: ٤١ - ٤٣).
وَمَنْ أَقَامَ فَرَائِضَ اللهِ تَعَالَى كَمَا أَمَرَهُ، وَتَرَكَ مَعَاصِيَهُ كَمَا نَهَى، وَدَاوَمَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ كَمَا نَدَبَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ كَمَا أَحَبَّ، فَإِنَّهُ يَصِلُ بِفَضْلِ اللهِ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ: " وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " الْحَدِيثَ، تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَفِي سَنَدِهِ كَمَتْنِهِ غَرَابَةٌ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ ذَاتَ اللهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ صِفَةً أَوْ عُضْوًا لِغَيْرِهِ - وَلَا ذَاتَ الْمَخْلُوقِ أَيْضًا - وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى يَكُونُ هُوَ الشَّاغِلَ الْأَعْظَمَ لِسَمْعِ مَنْ أَحَبَّهُ إِذَا سَمِعَ، وَبَصَرِهِ إِذَا أَبْصَرَ إِلَخْ. وَلِهَذَا مَرَاتِبُ: (أَوَّلُهَا) أَنَّهُ لَا يُوَجِّهُ سَمْعَهُ إِلَّا لِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ. (ثَانِيهَا) أَنَّهُ يَذْكُرُهُ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ عِنْدَ كُلِّ إِدْرَاكٍ وَكُلِّ عَمَلٍ فَيَزْدَادُ بِهِ مَعْرِفَةً وَعِلْمًا، وَهُوَ مَا كَانَ مَوْضُوعُ كَلَامِنَا فِي السَّمَاعِ آنِفًا. (ثَالِثُهَا) أَنَّهُ يَكُونُ مَوْضُوعَ عِنَايَةِ اللهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا يَسْمَعُهُ عَلَى حَدٍّ: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ (٨: ٢٣) أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ لَهُ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يَسْمَعُ، وَرُؤْيَةِ مَا يُبْصِرُ مِنَ الْعِلْمِ بِصِفَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، فَيَطْلُبُهُ وَيَقْصِدُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي الْمَرْتَبَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الْكَسْبِيَّتَيْنِ. (رَابِعُهُمَا) مَا يُسَمُّونَهُ الْفَنَاءَ فِي اللهِ، وَهُوَ أَنْ يَغِيبَ الْعَبْدُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَالشُّعُورِ بِإِرَادَتِهِ وَحِسِّهِ، وَيَبْقَى لَهُ الشُّعُورُ بِأَنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ بَعْضِ صِفَاتِ رَبِّهِ، وَمَوْضِعٌ تَجَلِّي مَا شَاءَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٢: ٢١) وَهَذَا الْفَنَاءُ وَالشُّعُورُ لَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ، بِقَطْعِ الْمَرَاحِلِ، وَالتَّنَقُّلِ فِي الْمَرَاتِبِ الَّتِي مِنْ قَبْلِهِ، إِلَّا اللَّمْحَةَ بَعْدَ اللَّمْحَةِ، وَالْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ وَحْدَةُ الشُّهُودِ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَرْتَبَةٍ وَرَاءَ هَذِهِ تُسَمَّى وَحْدَةَ الْوُجُودِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ وُجُودِ الْخَلْقِ عَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ، وَكَوْنِ ذَاتِ الْعَبْدِ هِيَ ذَاتَ الرَّبِّ أَوْ لَا عَبْدَ وَلَا رَبَّ،
وَمَا ثَمَّ إِلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ مَظَاهِرُ وَأَطْوَارٌ، كَظُهُورِ الْمَاءِ فِي صُوَرِ الثَّلْجِ الْجَامِدِ وَالسَّائِلِ وَالْبُخَارِ، وَقَدْ يَحْتَجِبُ بِالِانْحِلَالِ إِلَى عُنْصُرِيَّةِ (الْأُكْسُجِينِ وَالْأَدْرُجِينِ) عَنِ الْأَبْصَارِ، فَهَذِهِ فَلْسَفَةٌ مَادِّيَّةٌ بَاطِلَةٌ، اخْتَرَعَتْهَا مُخَيِّلَاتُ صُوفِيَّةِ الْبُوذِيَّةِ وَالْبَرَاهِمَةِ وَهِيَ كُفْرٌ بِاللهِ، وَخُرُوجٌ مِنْ مِلَلِ جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ، وَقَدْ فُتِنَ بِهَا بَعْضُ صُوفِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَهُمْ فِيهَا مِنَ الشِّعْرِيَّاتِ الْمَنْظُومَةِ وَالْمَنْثُورَةِ، وَتَأْوِيلِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ، مَا أَضَلَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِهِمْ وَبِهَا كَمَا ضَلَّ آخَرُونَ بِالْفَلْسَفَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْإِعْجَابِ بِأَهْلِهَا، وَقَدْ كَشَفَ شُبُهَاتِ الْفَرِيقَيْنِ، وَفَنَّدَهَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَبَيَّنَ تِلْمِيذُهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ حَقَائِقَ التَّصَوُّفِ
وَمَنْ أَقَامَ فَرَائِضَ اللهِ تَعَالَى كَمَا أَمَرَهُ، وَتَرَكَ مَعَاصِيَهُ كَمَا نَهَى، وَدَاوَمَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ كَمَا نَدَبَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ كَمَا أَحَبَّ، فَإِنَّهُ يَصِلُ بِفَضْلِ اللهِ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ: " وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " الْحَدِيثَ، تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَفِي سَنَدِهِ كَمَتْنِهِ غَرَابَةٌ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ ذَاتَ اللهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ صِفَةً أَوْ عُضْوًا لِغَيْرِهِ - وَلَا ذَاتَ الْمَخْلُوقِ أَيْضًا - وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى يَكُونُ هُوَ الشَّاغِلَ الْأَعْظَمَ لِسَمْعِ مَنْ أَحَبَّهُ إِذَا سَمِعَ، وَبَصَرِهِ إِذَا أَبْصَرَ إِلَخْ. وَلِهَذَا مَرَاتِبُ: (أَوَّلُهَا) أَنَّهُ لَا يُوَجِّهُ سَمْعَهُ إِلَّا لِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ. (ثَانِيهَا) أَنَّهُ يَذْكُرُهُ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ عِنْدَ كُلِّ إِدْرَاكٍ وَكُلِّ عَمَلٍ فَيَزْدَادُ بِهِ مَعْرِفَةً وَعِلْمًا، وَهُوَ مَا كَانَ مَوْضُوعُ كَلَامِنَا فِي السَّمَاعِ آنِفًا. (ثَالِثُهَا) أَنَّهُ يَكُونُ مَوْضُوعَ عِنَايَةِ اللهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا يَسْمَعُهُ عَلَى حَدٍّ: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ (٨: ٢٣) أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ لَهُ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يَسْمَعُ، وَرُؤْيَةِ مَا يُبْصِرُ مِنَ الْعِلْمِ بِصِفَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، فَيَطْلُبُهُ وَيَقْصِدُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي الْمَرْتَبَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الْكَسْبِيَّتَيْنِ. (رَابِعُهُمَا) مَا يُسَمُّونَهُ الْفَنَاءَ فِي اللهِ، وَهُوَ أَنْ يَغِيبَ الْعَبْدُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَالشُّعُورِ بِإِرَادَتِهِ وَحِسِّهِ، وَيَبْقَى لَهُ الشُّعُورُ بِأَنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ بَعْضِ صِفَاتِ رَبِّهِ، وَمَوْضِعٌ تَجَلِّي مَا شَاءَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٢: ٢١) وَهَذَا الْفَنَاءُ وَالشُّعُورُ لَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ، بِقَطْعِ الْمَرَاحِلِ، وَالتَّنَقُّلِ فِي الْمَرَاتِبِ الَّتِي مِنْ قَبْلِهِ، إِلَّا اللَّمْحَةَ بَعْدَ اللَّمْحَةِ، وَالْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ وَحْدَةُ الشُّهُودِ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَرْتَبَةٍ وَرَاءَ هَذِهِ تُسَمَّى وَحْدَةَ الْوُجُودِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ وُجُودِ الْخَلْقِ عَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ، وَكَوْنِ ذَاتِ الْعَبْدِ هِيَ ذَاتَ الرَّبِّ أَوْ لَا عَبْدَ وَلَا رَبَّ،
وَمَا ثَمَّ إِلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ مَظَاهِرُ وَأَطْوَارٌ، كَظُهُورِ الْمَاءِ فِي صُوَرِ الثَّلْجِ الْجَامِدِ وَالسَّائِلِ وَالْبُخَارِ، وَقَدْ يَحْتَجِبُ بِالِانْحِلَالِ إِلَى عُنْصُرِيَّةِ (الْأُكْسُجِينِ وَالْأَدْرُجِينِ) عَنِ الْأَبْصَارِ، فَهَذِهِ فَلْسَفَةٌ مَادِّيَّةٌ بَاطِلَةٌ، اخْتَرَعَتْهَا مُخَيِّلَاتُ صُوفِيَّةِ الْبُوذِيَّةِ وَالْبَرَاهِمَةِ وَهِيَ كُفْرٌ بِاللهِ، وَخُرُوجٌ مِنْ مِلَلِ جَمِيعِ رُسُلِ اللهِ، وَقَدْ فُتِنَ بِهَا بَعْضُ صُوفِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَهُمْ فِيهَا مِنَ الشِّعْرِيَّاتِ الْمَنْظُومَةِ وَالْمَنْثُورَةِ، وَتَأْوِيلِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ، مَا أَضَلَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِهِمْ وَبِهَا كَمَا ضَلَّ آخَرُونَ بِالْفَلْسَفَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالْإِعْجَابِ بِأَهْلِهَا، وَقَدْ كَشَفَ شُبُهَاتِ الْفَرِيقَيْنِ، وَفَنَّدَهَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَبَيَّنَ تِلْمِيذُهُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ حَقَائِقَ التَّصَوُّفِ
214
الْمُوَافِقَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي كِتَابِهِ (مَدَارِجِ السَّالِكِينَ) الَّذِي شَرَحَ بِهِ كِتَابَ (مَنَازِلِ السَّائِرِينَ) تَأْلِيفَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ قَدَّسَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَإِنَّنَا نُتِمُّ فَائِدَةَ هَذَا الْبَحْثِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ; لِزَيْغِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ عَنْ صِرَاطِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، مَعَ اعْتِرَافِ جَمِيعِ أَئِمَّةِ شُيُوخِهِمْ بِأَنَّهُمَا أَصْلُ طَرِيقَتِهِمْ، وَالْبَحْرُ الَّذِي تُسْتَخْرَجُ مِنْهُ جَمِيعُ دُرَرِ حَقَائِقِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَحُبِّهِ يَحْصُلُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ الْكَوْنِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَالْأَذْوَاقِ الرُّوحِيَّةِ مَا يَفْتِنُهُ بِنَفْسِهِ وَبِخَوَاطِرِهِ وَذَوْقِهِ، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَشْعُرُ بِهِ وَيَتَخَيَّلُهُ حَقِيقَةٌ أَثْبَتَهَا الْكَشْفُ، كَمَا يَفْتِنُهُ بِنَفْسِهِ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْفَلْسَفَةِ النَّظَرِيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ فِي هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا حَقَائِقُ أَثْبَتَهَا الْعَقْلُ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمَفْتُونَيْنِ يَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَإِنْ خَالَفَ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا فَيَكُونَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهَا فَيَكُونَ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَأَنَّ كَلَامَهُمْ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا، حَتَّى مَا يُسَمُّونَهُ كَشْفًا، أَوْ تَلَقِيًّا مِنْ مَلَكِ الْإِلْهَامِ،
أَوْ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْيَقَظَةِ أَوِ الْمَنَامِ. وَقَدْ أَبْطَلَتِ الْعُلُومُ الْعَصْرِيَّةُ أُصُولَ فَلْسَفَتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ.
وَلِلصُّوفِيَّةِ الشَّرْعِيِّينَ فِي حُبِّ اللهِ مَنَازِلُ عَالِيَةٌ وَمَقَامَاتٌ رَاسِخَةٌ. وَمَعَارِفُ وَاسِعَةٌ فِي حُبِّ كُلِّ شَيْءٍ بِحُبِّ اللهِ مَعَ إِعْطَاءِ الشَّرْعِ حَقَّهُ فِيمَا يُبْغِضُ اللهُ: وَمَا يُحِبُّ اللهُ. قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ رَحِمَهَا اللهُ:
وَالَّذِي نَفْهَمُهُ مِنْ هَذَا الشِّعْرِ أَنَّ الْحُبَّ الْأَوَّلَ هُوَ حُبُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَهِيَ حَيْرَةٌ شَاغِلَةٌ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهَا. وَالثَّانِي حُبُّ الْمَعْرِفَةِ وَغَايَتُهَا رَفْعُ الْحُجُبِ الْكَثِيرَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ كَمَالِهَا إِلَى أَنْ تَكْمُلَ بِكَرَامَةِ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى وَهَذِهِ الْحُجُبَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الرُّؤْيَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ كَتَكْبِيرَاتِ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ وَيَقُولُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يَعُدُّهُ كَالْمَيِّتِ حَتَّى لَا يُنَازِعَ حُبُّهُ حُبَّ اللهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا أَحْبَبْتَ أَنْ تَعْرِفَ الصَّحِيحَ الشَّرْعِيَّ مِنْ هَذَا الْحُبِّ فَعَلَيْكَ بِمَدَارِجِ السَّالِكِينَ لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَإِنَّنَا نُتِمُّ فَائِدَةَ هَذَا الْبَحْثِ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ; لِزَيْغِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ عَنْ صِرَاطِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، مَعَ اعْتِرَافِ جَمِيعِ أَئِمَّةِ شُيُوخِهِمْ بِأَنَّهُمَا أَصْلُ طَرِيقَتِهِمْ، وَالْبَحْرُ الَّذِي تُسْتَخْرَجُ مِنْهُ جَمِيعُ دُرَرِ حَقَائِقِهِمْ، وَهُوَ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَحُبِّهِ يَحْصُلُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ الْكَوْنِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَالْأَذْوَاقِ الرُّوحِيَّةِ مَا يَفْتِنُهُ بِنَفْسِهِ وَبِخَوَاطِرِهِ وَذَوْقِهِ، فَيَتَوَهَّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَشْعُرُ بِهِ وَيَتَخَيَّلُهُ حَقِيقَةٌ أَثْبَتَهَا الْكَشْفُ، كَمَا يَفْتِنُهُ بِنَفْسِهِ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْفَلْسَفَةِ النَّظَرِيَّةِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ فِي هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهَا حَقَائِقُ أَثْبَتَهَا الْعَقْلُ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمَفْتُونَيْنِ يَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَإِنْ خَالَفَ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا فَيَكُونَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهَا فَيَكُونَ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَأَنَّ كَلَامَهُمْ يُنَاقِضُ بَعْضَهُ بَعْضًا، حَتَّى مَا يُسَمُّونَهُ كَشْفًا، أَوْ تَلَقِيًّا مِنْ مَلَكِ الْإِلْهَامِ،
أَوْ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْيَقَظَةِ أَوِ الْمَنَامِ. وَقَدْ أَبْطَلَتِ الْعُلُومُ الْعَصْرِيَّةُ أُصُولَ فَلْسَفَتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ.
وَلِلصُّوفِيَّةِ الشَّرْعِيِّينَ فِي حُبِّ اللهِ مَنَازِلُ عَالِيَةٌ وَمَقَامَاتٌ رَاسِخَةٌ. وَمَعَارِفُ وَاسِعَةٌ فِي حُبِّ كُلِّ شَيْءٍ بِحُبِّ اللهِ مَعَ إِعْطَاءِ الشَّرْعِ حَقَّهُ فِيمَا يُبْغِضُ اللهُ: وَمَا يُحِبُّ اللهُ. قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ رَحِمَهَا اللهُ:
أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ حُبَّ الْهَوَى | وَحُبًّا لِأَنَّكَ أَهْلٌ لِذَاكَا |
فَأَمَّا الَّذِي هُوَ حُبُّ الْهَوَى | فَشَيْءٌ شُغِلْتُ بِهِ عَنْ سِوَاكَا |
وَأَمَّا الَّذِي أَنْتَ أَهْلٌ لَهُ | فَكَشْفُكَ لِيَ الْحُجْبَ حَتَّى أَرَاكَا |
215
هَذَا - وَإِنَّ لَهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الرَّقِيقَةِ فِي صِفَاتِ الْمَثَلِ الْأَعْلَى لِلْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْخَلِيقَةِ، وَالْمَدَدِ الْأَكْمَلِ فِي الشَّرِيعَةِ الشَّامِلَةِ لِلطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ، خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَالتَّشْرِيعِ السَّمَاوِيِّ، وَمُشْرِقِ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْعِرْفَانِ الْإِلَهِيِّ، الرَّحْمَةِ الْمُرْسَلَةِ لِلْعَالِمِينَ، مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، مَا يَجْعَلُ حُبَّهُ هُوَ الْمِعْرَاجَ الْأَعْلَى إِلَى حُبِّ الْعَبْدِ لِلَّهِ، وَاتِّبَاعَهُ هُوَ الْوَسِيلَةَ الْوَحِيدَةَ إِلَى نَيْلِ مَقَامِ الْحُبِّ مِنَ اللهِ، بِنَصِّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ (٣: ٣١) مَعَ التَّفْرِقَةِ التَّامَّةِ بَيْنَ حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ
وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، فَلَا يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا لَا يَطْلُبُ إِلَّا مِنَ اللهِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لِلَّهِ بَلْ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا اللهَ، كَمَا نُورِدُ فِي مَنَاقِبِ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَلَا الدُّعَاءَ.
وَإِذَا صَحَّ لِلْإِنْسَانِ حُبُّ اللهِ وَحُبُّ رَسُولِهِ وَكَمُلَ فِيهِمَا، صَارَتْ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحُبِّ الْحَيَوَانِيِّ وَالنَّفْسِيِّ وَالْمُنَادَى تَابِعَةً وَمُمِدَّةً لَهُمَا، حَتَّى تَغْرَقَ أَوْ تَفْنَى فِيهِمَا، فَهُوَ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ الْفِطْرِيِّ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ بَذْلَ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، تَوَسُّلًا بِهِ إِلَى لِقَاءِ اللهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَتَأَمَّلْ مَا كَانَ مِنْ تَحْرِيضِ الْخَنْسَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ لِأَوْلَادِهَا عَلَى الْجِهَادِ بِشِعْرِهَا حَتَّى قُتِلُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَقَالَتْ وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحُزْنِهَا عَلَى أَخَوَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنِي بِشَهَادَتِهِمْ. وَمَا فَقَدَ الْمُسْلِمُونَ السِّيَادَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالِاسْتِعْدَادَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِالْحُبِّ الْمَادِّيِّ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِشَهَوَاتِهِمْ، وَإِيثَارِهِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ سَعَادَتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ أَعْدَائِهِمْ، وَلَا نَجَاةَ لَهُمْ إِلَّا بِتَرْبِيَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى تَوْطِينِهَا عَلَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَمَنْ لَمْ يُتَحْ لَهُ الْمَوْتُ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ فَعَلَيْهِ بِطَلَبِ الْمَوْتِ الْإِرَادِيِّ فِي جِهَادِ النَّفْسِ، فَلَا حَيَاةَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتٍ، وَالْمَوْتُ آيَةُ الْحُبِّ الصَّادِقِ.
وَلَهُ مِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ مَا يَجْعَلُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمَعْقُولَةَ مُشَاهَدَةً مَاثِلَةً، وَالدَّلَائِلَ الشَّرْعِيَّةَ وَقَائِعَ حِسِّيَّةً، فِي آثَارِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَإِيثَارِ الْأَنْصَارِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الرَّاسِخِينَ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَبَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْمُنَافِقِينَ، فِيمَا كَانَ مِنْ خِذْلَانٍ وَهَزِيمَةٍ، وَمِنْ نَصْرٍ وَغَنِيمَةٍ.
وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ، فَلَا يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا لَا يَطْلُبُ إِلَّا مِنَ اللهِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لِلَّهِ بَلْ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا اللهَ، كَمَا نُورِدُ فِي مَنَاقِبِ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَلَا الدُّعَاءَ.
وَإِذَا صَحَّ لِلْإِنْسَانِ حُبُّ اللهِ وَحُبُّ رَسُولِهِ وَكَمُلَ فِيهِمَا، صَارَتْ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحُبِّ الْحَيَوَانِيِّ وَالنَّفْسِيِّ وَالْمُنَادَى تَابِعَةً وَمُمِدَّةً لَهُمَا، حَتَّى تَغْرَقَ أَوْ تَفْنَى فِيهِمَا، فَهُوَ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ الْفِطْرِيِّ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ بَذْلَ مَالِهِ وَنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، تَوَسُّلًا بِهِ إِلَى لِقَاءِ اللهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَتَأَمَّلْ مَا كَانَ مِنْ تَحْرِيضِ الْخَنْسَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ لِأَوْلَادِهَا عَلَى الْجِهَادِ بِشِعْرِهَا حَتَّى قُتِلُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَقَالَتْ وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحُزْنِهَا عَلَى أَخَوَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنِي بِشَهَادَتِهِمْ. وَمَا فَقَدَ الْمُسْلِمُونَ السِّيَادَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالِاسْتِعْدَادَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِالْحُبِّ الْمَادِّيِّ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِشَهَوَاتِهِمْ، وَإِيثَارِهِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ سَعَادَتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ أَعْدَائِهِمْ، وَلَا نَجَاةَ لَهُمْ إِلَّا بِتَرْبِيَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى تَوْطِينِهَا عَلَى الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَمَنْ لَمْ يُتَحْ لَهُ الْمَوْتُ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ فَعَلَيْهِ بِطَلَبِ الْمَوْتِ الْإِرَادِيِّ فِي جِهَادِ النَّفْسِ، فَلَا حَيَاةَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتٍ، وَالْمَوْتُ آيَةُ الْحُبِّ الصَّادِقِ.
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَمُتْ بِهِ | شَهِيدًا وَإِلَّا فَالْغَرَامُ لَهُ أَهْلُ |
216
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
هَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ اللهِ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فِي مَوَاطِنِ الْقِتَالِ الْكَثِيرَةِ مَعَهُمْ، إِذْ كَانَ عَدَدُهُمْ وَعَتَادُهُمْ قَلِيلًا لَا يُرْجَى مَعَهُ النَّصْرُ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ وَالْعَادَةِ، وَابْتِلَائِهِ إِيَّاهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْهَزِيمَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى عَجَبِهِمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ عَنْهَا، وَنَصْرِهِمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ لَدُنْهُ - ; لِيَتَذَكَّرُوا أَنَّ عِنَايَتَهُ تَعَالَى وَتَأْيِيدَهُ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ، أَعْظَمُ شَأْنًا وَأَدْنَى إِلَى النَّصْرِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ، كَالْكَثْرَةِ الْعَدَدِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَجَعَلَ هَذَا التَّذْكِيرَ تَالِيًا لِلنَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ آبَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِلْوَعِيدِ عَلَى إِيثَارِ حُبِّ الْقَرَابَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْعَشِيرَةِ " وَلَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ " وَالْمَالُ وَالسَّكَنُ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، تَفْنِيدًا لِوَسْوَسَةِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ - مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ - لَهُمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِاسْتِنْكَارِ عَوْدِ حَالَةِ الْحَرْبِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَنْفِيرِهِمْ مِنْ قِتَالِهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَلِقَرَابَةِ بَعْضِهِمْ، وَلِكَسَادِ التِّجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا، وَسَنُبَيِّنُ الْمُهِمَّ مِنْهُ فِي إِثْرِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مِمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَقُولَهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّبَعِ لِمَا قَبْلَهُ، وَفِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ
الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَبْلَهُ مِنْ نَهْيٍ وَوَعِيدٍ، وَأَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ لِلْمُؤْمِنِ فِي تَرْكِ وِلَايَةِ أُولِي الْقُرْبَى مِنَ الْكَافِرِينَ، وَفِي إِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ أُولِي الْقُرْبَى وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالسَّكَنِ مِمَّا يُحِبُّ لِلْقُوَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَلِلتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِ
هَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ اللهِ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فِي مَوَاطِنِ الْقِتَالِ الْكَثِيرَةِ مَعَهُمْ، إِذْ كَانَ عَدَدُهُمْ وَعَتَادُهُمْ قَلِيلًا لَا يُرْجَى مَعَهُ النَّصْرُ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ وَالْعَادَةِ، وَابْتِلَائِهِ إِيَّاهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْهَزِيمَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى عَجَبِهِمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ عَنْهَا، وَنَصْرِهِمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ لَدُنْهُ - ; لِيَتَذَكَّرُوا أَنَّ عِنَايَتَهُ تَعَالَى وَتَأْيِيدَهُ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ، أَعْظَمُ شَأْنًا وَأَدْنَى إِلَى النَّصْرِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ، كَالْكَثْرَةِ الْعَدَدِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَجَعَلَ هَذَا التَّذْكِيرَ تَالِيًا لِلنَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ آبَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِلْوَعِيدِ عَلَى إِيثَارِ حُبِّ الْقَرَابَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْعَشِيرَةِ " وَلَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ " وَالْمَالُ وَالسَّكَنُ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، تَفْنِيدًا لِوَسْوَسَةِ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ - مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ - لَهُمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِاسْتِنْكَارِ عَوْدِ حَالَةِ الْحَرْبِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَنْفِيرِهِمْ مِنْ قِتَالِهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَلِقَرَابَةِ بَعْضِهِمْ، وَلِكَسَادِ التِّجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا، وَسَنُبَيِّنُ الْمُهِمَّ مِنْهُ فِي إِثْرِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مِمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَقُولَهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّبَعِ لِمَا قَبْلَهُ، وَفِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ
الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَبْلَهُ مِنْ نَهْيٍ وَوَعِيدٍ، وَأَنَّ الْخَيْرَ وَالْمَصْلَحَةَ لِلْمُؤْمِنِ فِي تَرْكِ وِلَايَةِ أُولِي الْقُرْبَى مِنَ الْكَافِرِينَ، وَفِي إِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ أُولِي الْقُرْبَى وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالسَّكَنِ مِمَّا يُحِبُّ لِلْقُوَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَلِلتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِ
217
الدُّنْيَا، فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الْكَثِيرَةِ لَمْ يَكُنْ بِقُوَّةِ عَصَبِيَّةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا بِقُوَّةِ الْمَالِ، وَمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الزَّادِ وَالْعَتَادِ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُهُ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ السِّيَادَةِ وَالْمُلْكِ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ، ثُمَّ يَكُونُ لَهُ مِنَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَدْوَمُ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ.
وَالْمُوَاطِنُ جَمْعُ مَوْطِنٍ، وَهِيَ مَشَاهِدُ الْحَرْبِ وَمَوَاقِعُهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَقَرُّ الْإِنْسَانِ وَمَحَلُّ إِقَامَتِهِ كَالْوَطَنِ. وَوَصَفَهَا بِالْكَثِيرَةِ; لِأَنَّهَا تَشْمَلُ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَكْثَرَ سَرَايَاهُ الَّتِي أَرْسَلَ فِيهَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ، وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْغَزْوَةِ - وَمِثْلُهَا الْغَزَاةُ وَالْمَغْزَى - إِلَّا عَلَى مَا تَوَلَّاهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَفْسِهِ مِنْ قَصْدِ الْكُفَّارِ إِلَى حَيْثُ كَانُوا مِنْ بِلَادِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: كَمْ غَزَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ غَزْوَةٍ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ. وَسَأَلَهُ: كَمْ غَزَا مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ: كَذَا قَالَ، وَمُرَادُهُ الْغَزَوَاتُ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، لَكِنْ رَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَدَدَ الْغَزَوَاتِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ. فَعَلَى هَذَا، فَفَاتَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ذِكْرُ ثِنْتَيْنِ مِنْهَا، وَلَعَلَّهَا الْأَبْوَاءُ وَبُوَاطٍ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ خَفِيَ عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ فِي ثَمَانٍ: بَدْرٍ ثُمَّ أُحُدٍ ثُمَّ الْأَحْزَابِ ثُمَّ الْمُصْطَلِقِ ثُمَّ خَيْبَرَ ثُمَّ مَكَّةَ ثُمَّ حُنَيْنٍ ثُمَّ الطَّائِفِ، (قَالَ) وَأَهْمَلَ غَزْوَةَ قُرَيْظَةَ ; لِأَنَّهُ ضَمَّهَا إِلَى الْأَحْزَابِ; لِكَوْنِهَا كَانَتْ فِي أَثَرِهَا، وَأَفْرَدَهَا غَيْرُهُ لِوُقُوعِهَا مُنْفَرِدَةً بَعْدَ هَزِيمَةِ الْأَحْزَابِ. وَكَذَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ عَدُّ الطَّائِفِ وَحُنَيْنٍ وَاحِدَةً لِتَقَارُبِهِمَا، فَيَجْتَمِعُ عَلَى هَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَقَوْلُ جَابِرٍ. وَقَدْ تَوَسَّعَ ابْنُ سَعْدٍ فَبَلَغَ عَدَدُ الْمَغَازِي الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَفْسِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الْوَاقِدَيَّ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا عَدَّهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُفْرِدْ وَادِيَ الْقُرَى مِنْ خَيْبَرَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ، وَكَأَنَّ السِّتَّةَ الزَّائِدَةَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. إِلَخْ. وَوَضَّحَ الْحَافِظُ هَذَا الْبَسْطَ مِنْ جَانِبٍ، وَتَدْخُلُ بَعْضُ الْمَغَازِي الْمُتَقَارِبَةِ فِي بَعْضٍ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَكَانَ خَيْرَ جَمْعٍ بَيْنَ الْأَقْوَالِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْبُعُوثُ وَالسَّرَايَا فَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ
وَالْمُوَاطِنُ جَمْعُ مَوْطِنٍ، وَهِيَ مَشَاهِدُ الْحَرْبِ وَمَوَاقِعُهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَقَرُّ الْإِنْسَانِ وَمَحَلُّ إِقَامَتِهِ كَالْوَطَنِ. وَوَصَفَهَا بِالْكَثِيرَةِ; لِأَنَّهَا تَشْمَلُ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَكْثَرَ سَرَايَاهُ الَّتِي أَرْسَلَ فِيهَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ، وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْغَزْوَةِ - وَمِثْلُهَا الْغَزَاةُ وَالْمَغْزَى - إِلَّا عَلَى مَا تَوَلَّاهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَفْسِهِ مِنْ قَصْدِ الْكُفَّارِ إِلَى حَيْثُ كَانُوا مِنْ بِلَادِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: كَمْ غَزَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ غَزْوَةٍ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ. وَسَأَلَهُ: كَمْ غَزَا مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تِسْعَ عَشْرَةَ: كَذَا قَالَ، وَمُرَادُهُ الْغَزَوَاتُ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، لَكِنْ رَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَدَدَ الْغَزَوَاتِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ. فَعَلَى هَذَا، فَفَاتَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ذِكْرُ ثِنْتَيْنِ مِنْهَا، وَلَعَلَّهَا الْأَبْوَاءُ وَبُوَاطٍ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ خَفِيَ عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ فِي ثَمَانٍ: بَدْرٍ ثُمَّ أُحُدٍ ثُمَّ الْأَحْزَابِ ثُمَّ الْمُصْطَلِقِ ثُمَّ خَيْبَرَ ثُمَّ مَكَّةَ ثُمَّ حُنَيْنٍ ثُمَّ الطَّائِفِ، (قَالَ) وَأَهْمَلَ غَزْوَةَ قُرَيْظَةَ ; لِأَنَّهُ ضَمَّهَا إِلَى الْأَحْزَابِ; لِكَوْنِهَا كَانَتْ فِي أَثَرِهَا، وَأَفْرَدَهَا غَيْرُهُ لِوُقُوعِهَا مُنْفَرِدَةً بَعْدَ هَزِيمَةِ الْأَحْزَابِ. وَكَذَا وَقَعَ لِغَيْرِهِ عَدُّ الطَّائِفِ وَحُنَيْنٍ وَاحِدَةً لِتَقَارُبِهِمَا، فَيَجْتَمِعُ عَلَى هَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَقَوْلُ جَابِرٍ. وَقَدْ تَوَسَّعَ ابْنُ سَعْدٍ فَبَلَغَ عَدَدُ الْمَغَازِي الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِنَفْسِهِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الْوَاقِدَيَّ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا عَدَّهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُفْرِدْ وَادِيَ الْقُرَى مِنْ خَيْبَرَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ، وَكَأَنَّ السِّتَّةَ الزَّائِدَةَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. إِلَخْ. وَوَضَّحَ الْحَافِظُ هَذَا الْبَسْطَ مِنْ جَانِبٍ، وَتَدْخُلُ بَعْضُ الْمَغَازِي الْمُتَقَارِبَةِ فِي بَعْضٍ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَكَانَ خَيْرَ جَمْعٍ بَيْنَ الْأَقْوَالِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْبُعُوثُ وَالسَّرَايَا فَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ
218
ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ (كَذَا) وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّلْقِيحِ سِتًّا وَخَمْسِينَ، وَعِنْدَ الْمَسْعُودِيِّ سِتِّينَ، وَبَلَغَهَا شَيْخُنَا زِيَادَةً عَلَى السَّبْعِينَ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْإِكْلِيلِ أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ ضَمَّ الْمَغَازِي إِلَيْهَا. اهـ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُغَازِيَ وَالسَّرَايَا كُلَّهَا ثَمَانُونَ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهَا كُلُّهَا قِتَالٌ فَيُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ فِيهَا، كَمَا أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ فِي كُلِّ قِتَالٍ إِمَّا نَصْرًا عَزِيزًا مُؤَزَّرًا كَامِلًا وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَلَاسِيَّمَا بَدْرٌ وَالْخَنْدَقُ وَغَزَوَاتُ الْيَهُودِ وَالْفَتْحُ، وَإِمَّا نَصْرًا مَشُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ التَّرْبِيَةِ عَلَى ذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا كَمَا وَقَعَ فِي أُحُدٍ إِذْ نَصَرَهُمُ اللهُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَظْهَرَ الْعَدُوَّ عَلَيْهِمْ بِمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ الْقَائِدِ الْأَعْظَمِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ مِنْ أَهَمِّ أَوَامِرِ الْحَرْبِ، وَهُوَ حِمَايَةُ الرِّمَايَةِ لِظُهُورِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَفْسِيرِهَا - وَكَمَا
كَانَ فِي حُنَيْنٍ مِنَ الْهَزِيمَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمَعْرَكَةِ، وَالنَّصْرِ الْعَزِيزِ التَّامِّ فِي آخِرِهَا، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْ: وَنَصَرَكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا، وَهُوَ وَادٍ إِلَى جَانِبِ ذِي الْمَجَازِ قَرِيبٌ مِنَ الطَّائِفِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلًا مِنْ جِهَةِ عَرَفَاتٍ، هَذَا مَا اعْتَمَدَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ سِتَّ لَيَالٍ. وَعَنِ الْوَاقِدِيِّ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي لِلْآلُوسِيِّ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الطَّائِفِ. وَتُسَمَّى هَذِهِ الْغَزْوَةُ أَوْطَاسًا وَغَزْوَةَ هَوَازِنَ. وَأَوْطَاسٌ كَمَا فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ وَادٍ فِي أَرْضِ هَوَازِنَ كَانَتْ فِيهِ وَقْعَةُ حُنَيْنٍ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِبَنِي هَوَازِنَ، وَمِثْلُهُ فِي الْقَامُوسِ، وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابًا لِغَزْوَةِ أَوْطَاسٍ بَعْدَ سُوقِ الرِّوَايَاتِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ: قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ وَادٍ فِي دَارِ هَوَازِنَ، وَهُوَ مَوْضِعُ حَرْبِ حُنَيْنٍ. اهـ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ وَادِيَ أَوْطَاسٍ غَيْرُ وَادِي حُنَيْنٍ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ فِي وَادِي حُنَيْنٍ، وَأَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمُوا صَارَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الطَّائِفِ، وَطَائِفَةٌ إِلَى بَجِيلَةَ، وَطَائِفَةٌ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَسْكَرًا مُقَدَّمَهُمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى مَنْ مَضَى إِلَى أَوْطَاسٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ إِلَى الطَّائِفِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ اللهِ الْبَكْرِيُّ: أَوْطَاسٌ وَادٍ فِي دَارِ هَوَازِنَ، وَهُنَاكَ عَسْكَرُوا هُمْ وَثَقِيفٌ ثُمَّ الْتَقَوْا بِحُنَيْنٍ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الِاسْمَيْنِ: وَهُمَا مَوْضِعَانِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَسُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ
بِاسْمِ مَكَانِهَا، وَتُسَمَّى غَزْوَةً; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اهـ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهَا كُلُّهَا قِتَالٌ فَيُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ فِيهَا، كَمَا أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَرَهُمْ فِي كُلِّ قِتَالٍ إِمَّا نَصْرًا عَزِيزًا مُؤَزَّرًا كَامِلًا وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَلَاسِيَّمَا بَدْرٌ وَالْخَنْدَقُ وَغَزَوَاتُ الْيَهُودِ وَالْفَتْحُ، وَإِمَّا نَصْرًا مَشُوبًا بِشَيْءٍ مِنَ التَّرْبِيَةِ عَلَى ذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا كَمَا وَقَعَ فِي أُحُدٍ إِذْ نَصَرَهُمُ اللهُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَظْهَرَ الْعَدُوَّ عَلَيْهِمْ بِمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ الْقَائِدِ الْأَعْظَمِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ مِنْ أَهَمِّ أَوَامِرِ الْحَرْبِ، وَهُوَ حِمَايَةُ الرِّمَايَةِ لِظُهُورِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَفْسِيرِهَا - وَكَمَا
كَانَ فِي حُنَيْنٍ مِنَ الْهَزِيمَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمَعْرَكَةِ، وَالنَّصْرِ الْعَزِيزِ التَّامِّ فِي آخِرِهَا، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْ: وَنَصَرَكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا، وَهُوَ وَادٍ إِلَى جَانِبِ ذِي الْمَجَازِ قَرِيبٌ مِنَ الطَّائِفِ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلًا مِنْ جِهَةِ عَرَفَاتٍ، هَذَا مَا اعْتَمَدَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ سِتَّ لَيَالٍ. وَعَنِ الْوَاقِدِيِّ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي لِلْآلُوسِيِّ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الطَّائِفِ. وَتُسَمَّى هَذِهِ الْغَزْوَةُ أَوْطَاسًا وَغَزْوَةَ هَوَازِنَ. وَأَوْطَاسٌ كَمَا فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ وَادٍ فِي أَرْضِ هَوَازِنَ كَانَتْ فِيهِ وَقْعَةُ حُنَيْنٍ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِبَنِي هَوَازِنَ، وَمِثْلُهُ فِي الْقَامُوسِ، وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابًا لِغَزْوَةِ أَوْطَاسٍ بَعْدَ سُوقِ الرِّوَايَاتِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ التَّرْجَمَةِ: قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ وَادٍ فِي دَارِ هَوَازِنَ، وَهُوَ مَوْضِعُ حَرْبِ حُنَيْنٍ. اهـ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ وَادِيَ أَوْطَاسٍ غَيْرُ وَادِي حُنَيْنٍ. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الْوَاقِعَةَ كَانَتْ فِي وَادِي حُنَيْنٍ، وَأَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمُوا صَارَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الطَّائِفِ، وَطَائِفَةٌ إِلَى بَجِيلَةَ، وَطَائِفَةٌ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَسْكَرًا مُقَدَّمَهُمْ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى مَنْ مَضَى إِلَى أَوْطَاسٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ إِلَى الطَّائِفِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ اللهِ الْبَكْرِيُّ: أَوْطَاسٌ وَادٍ فِي دَارِ هَوَازِنَ، وَهُنَاكَ عَسْكَرُوا هُمْ وَثَقِيفٌ ثُمَّ الْتَقَوْا بِحُنَيْنٍ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الِاسْمَيْنِ: وَهُمَا مَوْضِعَانِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَسُمِّيَتِ الْغَزْوَةُ
بِاسْمِ مَكَانِهَا، وَتُسَمَّى غَزْوَةً; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اهـ.
219
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بِأَرْضِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا جُمُوعَ الْعَرَبِ مِنَ الْقَبَائِلِ الْأُخْرَى لِقِتَالِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَكَانُوا هُمُ الْمُوقِدِينَ لِنَارِ الْحَرْبِ وَالْمَقْصُودِينَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بَدَلٌ مِنْ " يَوْمِ حُنَيْنٍ " أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ مَعَ مَا سَبَقَهُ أَنَّهُ نَصَرَكُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مَا كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ فِيهَا بِالنَّصْرِ بِمَحْضِ اسْتِعْدَادِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ; لِقِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَعَتَادِكُمْ، وَنَصَرَكُمْ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَعْجَبَتْكُمْ فِيهِ كَثْرَتُكُمْ إِذْ كُنْتُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَكَانَ الْكَافِرُونَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَقَطْ، فَقَالَ قَاتِلُكُمْ مُعَبِّرًا عَنْ رَأْيِ الْكَثِيرِينَ الَّذِينَ غَرَّتْهُمُ الْكَثْرَةُ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ رُوَاةِ السِّيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَرَدَّهُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَنَرُدُّهُ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَاتِ الْمَغَازِي عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ. اهـ. أَيْ وَقَعَتْ بِأَسْبَابِهَا فَكَانَتْ عُقُوبَةً عَلَى هَذَا الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ، وَتَرْبِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى الْغُرُورِ بِالْكَثْرَةِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ الْكَثِيرَةِ لِلنُّصْرَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَعْظَمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ قِيمَةَ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالصَّبْرِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢: ٢٤٩) وَكَذَلِكَ وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ بِأَسْبَابِهَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ عُقُوبَةً وَتَرْبِيَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ.
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا أَيْ: فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْكَثْرَةُ الَّتِي أَعْجَبَتْكُمْ وَغَرَّتْكُمْ كَافِيَةً لِانْتِصَارِكُمْ بَلْ لَمْ تَدْفَعْ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ عَارِ الْغَلَبِ وَالْهَزِيمَةِ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ أَيْ: ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِرَحْبِهَا وَسِعَتِهَا فَلَمْ تَجِدُوا لَكُمْ فِيهَا مَذْهَبًا وَلَا مُلْتَحَدًا ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أَيْ وَلَّيْتُمْ ظُهُورَكُمْ لِعَدُوِّكُمْ مُدْبِرِينَ لَا تَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ السِّكِّينَةُ: اسْمٌ لِلْحَالَةِ وَالْهَيْئَةِ النَّفْسِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَهِيَ ضِدُّ الِاضْطِرَابِ وَالِانْزِعَاجِ، وَتُطْلَقُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ عَلَى الرَّزَانَةِ وَالْمَهَابَةِ وَالْوَقَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَفْرَغَ مِنْ سَمَاءِ عِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ سَكِينَتَهُ اللَّدُنِّيَّةَ عَلَى رَسُولِهِ بَعْدَ أَنْ عَرَضَ لَهُ مَا عَرَضَ مِنَ الْأَسَفِ وَالْحُزْنِ عَلَى أَصْحَابِهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْهَزِيمَةِ لَهُمْ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ كَالطَّوْدِ الرَّاسِي نَفَسًا، وَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا وَبَأْسًا
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بَدَلٌ مِنْ " يَوْمِ حُنَيْنٍ " أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ مَعَ مَا سَبَقَهُ أَنَّهُ نَصَرَكُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مَا كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ فِيهَا بِالنَّصْرِ بِمَحْضِ اسْتِعْدَادِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ; لِقِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَعَتَادِكُمْ، وَنَصَرَكُمْ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَعْجَبَتْكُمْ فِيهِ كَثْرَتُكُمْ إِذْ كُنْتُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَكَانَ الْكَافِرُونَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَقَطْ، فَقَالَ قَاتِلُكُمْ مُعَبِّرًا عَنْ رَأْيِ الْكَثِيرِينَ الَّذِينَ غَرَّتْهُمُ الْكَثْرَةُ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ رُوَاةِ السِّيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَرَدَّهُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَنَرُدُّهُ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَاتِ الْمَغَازِي عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ. اهـ. أَيْ وَقَعَتْ بِأَسْبَابِهَا فَكَانَتْ عُقُوبَةً عَلَى هَذَا الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ، وَتَرْبِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى الْغُرُورِ بِالْكَثْرَةِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ الْكَثِيرَةِ لِلنُّصْرَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَعْظَمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ قِيمَةَ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالصَّبْرِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢: ٢٤٩) وَكَذَلِكَ وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ بِأَسْبَابِهَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ عُقُوبَةً وَتَرْبِيَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ.
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا أَيْ: فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْكَثْرَةُ الَّتِي أَعْجَبَتْكُمْ وَغَرَّتْكُمْ كَافِيَةً لِانْتِصَارِكُمْ بَلْ لَمْ تَدْفَعْ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ عَارِ الْغَلَبِ وَالْهَزِيمَةِ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ أَيْ: ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِرَحْبِهَا وَسِعَتِهَا فَلَمْ تَجِدُوا لَكُمْ فِيهَا مَذْهَبًا وَلَا مُلْتَحَدًا ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أَيْ وَلَّيْتُمْ ظُهُورَكُمْ لِعَدُوِّكُمْ مُدْبِرِينَ لَا تَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ السِّكِّينَةُ: اسْمٌ لِلْحَالَةِ وَالْهَيْئَةِ النَّفْسِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَهِيَ ضِدُّ الِاضْطِرَابِ وَالِانْزِعَاجِ، وَتُطْلَقُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ عَلَى الرَّزَانَةِ وَالْمَهَابَةِ وَالْوَقَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَفْرَغَ مِنْ سَمَاءِ عِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ سَكِينَتَهُ اللَّدُنِّيَّةَ عَلَى رَسُولِهِ بَعْدَ أَنْ عَرَضَ لَهُ مَا عَرَضَ مِنَ الْأَسَفِ وَالْحُزْنِ عَلَى أَصْحَابِهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْهَزِيمَةِ لَهُمْ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ كَالطَّوْدِ الرَّاسِي نَفَسًا، وَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا وَبَأْسًا
220
وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ وَأَحَاطُوا بِبَغْلَتِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ اللُّهَامِ كَمَا يُعْلَمُ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْآتِيَةِ، ثُمَّ عَلَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فَأَذْهَبَ رَوْعَهُمْ، وَأَزَالَ حَيْرَتَهُمْ وَاضْطِرَابَهُمْ، وَعَادَ إِلَيْهِمْ مَا كَانَ زَالَ أَوْ زُلْزِلَ مِنْ ثَبَاتِهِمْ وَشَجَاعَتِهِمْ، وَلَاسِيَّمَا عِنْدَ مَا سَمِعُوا نِدَاءَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَنِدَاءَ الْعَبَّاسِ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَبِيِّهِمْ بِأَمْرِهِ كَمَا يَأْتِي، وَإِنَّمَا قَالَ: وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ " وَعَلَيْكُمْ " ; لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْجَمَاعَةِ وَفِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَتَأْتِي شَوَاهِدُهُ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ. فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الدِّقَّةِ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا أَيْ: وَأَنْزَلَ مَعَ هَذِهِ السِّكِّينَةِ جُنُودًا رُوحَانِيَّةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ تَرَوْهَا بِأَبْصَارِكُمْ، وَإِنَّمَا وَجَدْتُمْ أَثَرَهَا فِي قُلُوبِكُمْ، بِمَا عَادَ إِلَيْهَا مِنْ ثَبَاتِ الْجَأْشِ، وَشِدَّةِ الْبَأْسِ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الدُّنْيَا بِكُفْرِهِمْ، مَا دَامُوا يَسْتَحِبُّونَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَيُعَادُونَ أَهْلَهُ وَيُقَاتِلُونَهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا وَعَدَكُمْ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَوِ الْبَلَاغِ: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ
وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ (١٤) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَزَاءِ مَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فِي قِتَالِ مَنْ كَانَ عَلَى هَدْيِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا التَّعْذِيبِ الَّذِي يَكُونُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْكَافِرِينَ فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ تُحِطْ بِهِمْ خَطِيئَاتُ جَهَالَةِ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَخْتِمْ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ، أَوِ الْجُمُودِ عَلَى مَا أَلِفُوا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ، وَاللهُ غَفُورٌ لِمَنْ يَتُوبُ عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي رَحِيمٌ بِهِمْ. وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وَمَا يَتْلُوهَا مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ " يَتُوبُ " إِعْلَامُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا وَقَعَ فِي حُنَيْنٍ مِنْ إِيمَانِ أَكْثَرِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الَّذِينَ غُلِبُوا وَعُذِّبُوا بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، سَيَقَعُ مِثْلُهُ لِكُلِّ الَّذِينَ يُقْدِمُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ عَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَمَا مِنْ حَرْبٍ مِنْ حُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا وَكَانَ عَاقِبَتُهَا كَذَلِكَ. وَلَمَّا صَارَ الْإِسْلَامُ جِنْسِيَّةً، وَحُرُوبُ أَهْلِهِ أَهْوَاءً دُنْيَوِيَّةً فَقَدُوا ذَلِكَ.
(فَصْلٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، الْمُفَسِّرَةِ لِإِجْمَالِيِّ هَذِهِ الْآيَاتِ)
الْخُرُوجُ إِلَى حُنَيْنٍ وَالْقِتَالِ وَالْهَزِيمَةِ:
قَالَ الْحَافِظُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنَ الْفَتْحِ: قَالَ أَهْلُ الْمَغَازِي: خَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى حُنَيْنٍ لَسِتٍّ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ، وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ بَدَأَ بِالْخُرُوجِ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ، وَسَارَ سَادِسَ شَوَّالٍ، وَكَانَ وُصُولُهُ
وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ (١٤) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَزَاءِ مَنْ كَانَ حَالُهُ مِثْلَ حَالِ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ فِي قِتَالِ مَنْ كَانَ عَلَى هَدْيِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا التَّعْذِيبِ الَّذِي يَكُونُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْكَافِرِينَ فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ تُحِطْ بِهِمْ خَطِيئَاتُ جَهَالَةِ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَخْتِمْ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْجُحُودِ وَالتَّكْذِيبِ، أَوِ الْجُمُودِ عَلَى مَا أَلِفُوا بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ، وَاللهُ غَفُورٌ لِمَنْ يَتُوبُ عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي رَحِيمٌ بِهِمْ. وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وَمَا يَتْلُوهَا مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ " يَتُوبُ " إِعْلَامُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ مَا وَقَعَ فِي حُنَيْنٍ مِنْ إِيمَانِ أَكْثَرِ مَنْ بَقِيَ مِنَ الَّذِينَ غُلِبُوا وَعُذِّبُوا بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، سَيَقَعُ مِثْلُهُ لِكُلِّ الَّذِينَ يُقْدِمُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ عَوْدَةِ حَالِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَمَا مِنْ حَرْبٍ مِنْ حُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا وَكَانَ عَاقِبَتُهَا كَذَلِكَ. وَلَمَّا صَارَ الْإِسْلَامُ جِنْسِيَّةً، وَحُرُوبُ أَهْلِهِ أَهْوَاءً دُنْيَوِيَّةً فَقَدُوا ذَلِكَ.
(فَصْلٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ، الْمُفَسِّرَةِ لِإِجْمَالِيِّ هَذِهِ الْآيَاتِ)
الْخُرُوجُ إِلَى حُنَيْنٍ وَالْقِتَالِ وَالْهَزِيمَةِ:
قَالَ الْحَافِظُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنَ الْفَتْحِ: قَالَ أَهْلُ الْمَغَازِي: خَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى حُنَيْنٍ لَسِتٍّ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ، وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ بَدَأَ بِالْخُرُوجِ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ، وَسَارَ سَادِسَ شَوَّالٍ، وَكَانَ وُصُولُهُ
221
إِلَيْهَا فِي عَاشِرِهِ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّصْرِيَّ جَمَعَ الْقَبَائِلَ مِنْ هَوَازِنَ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الثَّقَفِيُّونَ، وَقَصَدُوا مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي كِتَابِ مَكَّةَ: حَدَّثَنَا الْحِزَامِيُّ
يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُنْذِرِ - حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ قِصَّةِ الْفَتْحِ - فَذَكَرَ لَهُ وَقْتَهَا - فَأَقَامَ عَامَئِذٍ بِمَكَّةَ نِصْفَ شَهْرٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَتَاهُ أَنَّ هَوَازِنَ وَثَقِيفًا قَدْ نَزَلُوا حُنَيْنًا يُرِيدُونَ قِتَالَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَانُوا قَدْ جَمَعُوا إِلَيْهِ وَرَئِيسُهُمْ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ. وَلِأَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى حُنَيْنٍ فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا بِهَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظَعْنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَ: " تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى " وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ اهـ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ حَدِيثَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بَكْرٍ، وَزَادَ فِيهِ أَنَّهُمْ أَيِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْهُمْ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. أَقُولُ: وَأَمَّا الْعَشَرَةُ الْآلَافِ فَهُمْ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ فَتَحَ بِهِمْ مَكَّةَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ عِبَارَةٌ مُبْهَمَةٌ بَلْ غَلَطٌ فِي هَذَا الْعَدَدِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بِنَعَمِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَمَعَ النَّبِيِّ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الطُّلَقَاءِ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ " فَقَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ مَعَكَ، ثُمَّ الْتَفَتْ عَنْ يَسَارِهِ (فَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ) إِلَخْ، فَقَوْلُهُ: مِنَ الطُّلَقَاءِ غَلَطٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَمِنَ الطُّلَقَاءِ. وَهِيَ مُبْهَمَةٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَهِيَ " وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ " إِلْخَ. وَمِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ الَّتِي تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَهَؤُلَاءِ الطُّلَقَاءُ كَانُوا أَلْفَيْنِ. وَكَانَ حَالُ بَعْضِ الْأَلْفَيْنِ وَخِفَّةُ بَعْضِ الشُّبَّانِ هُمَا السَّبَبَ الْأَوَّلَ لِلْهَزِيمَةِ، إِذْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُنَافِقًا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لَمَّا غُلِبَ عَلَى أَمْرِهِ وَوَطَنِهِ وَمَهْدِ دِينِهِ وَمَعْهَدِ عِزِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَبَعْضُهُمْ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَأَلَّفُهُمْ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ نُورُ الْإِسْلَامِ وَفَضْلُهُ
بِالْعَمَلِ وَمُعَاشَرَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَيَزُولُ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أُلْفَةِ الشِّرْكِ وَعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَظْهَرَ الشَّمَاتَةَ - بَلِ الْكُفْرَ - عِنْدَ مَا وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْوِي قَتْلَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا أَمْكَنَتْهُ الْفُرْصَةُ. كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْآتِيَةِ فِي الْقِصَّةِ.
وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي لِلْهَزِيمَةِ فَهُوَ مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ مِنْ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُنْذِرِ - حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ قِصَّةِ الْفَتْحِ - فَذَكَرَ لَهُ وَقْتَهَا - فَأَقَامَ عَامَئِذٍ بِمَكَّةَ نِصْفَ شَهْرٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَتَاهُ أَنَّ هَوَازِنَ وَثَقِيفًا قَدْ نَزَلُوا حُنَيْنًا يُرِيدُونَ قِتَالَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَانُوا قَدْ جَمَعُوا إِلَيْهِ وَرَئِيسُهُمْ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ. وَلِأَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى حُنَيْنٍ فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا بِهَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظَعْنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَالَ: " تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى " وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ اهـ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ حَدِيثَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بَكْرٍ، وَزَادَ فِيهِ أَنَّهُمْ أَيِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْهُمْ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. أَقُولُ: وَأَمَّا الْعَشَرَةُ الْآلَافِ فَهُمْ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ فَتَحَ بِهِمْ مَكَّةَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ عِبَارَةٌ مُبْهَمَةٌ بَلْ غَلَطٌ فِي هَذَا الْعَدَدِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ وَغَيْرُهُمْ بِنَعَمِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، وَمَعَ النَّبِيِّ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الطُّلَقَاءِ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ " فَقَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ مَعَكَ، ثُمَّ الْتَفَتْ عَنْ يَسَارِهِ (فَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ) إِلَخْ، فَقَوْلُهُ: مِنَ الطُّلَقَاءِ غَلَطٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: وَمِنَ الطُّلَقَاءِ. وَهِيَ مُبْهَمَةٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَهِيَ " وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ " إِلْخَ. وَمِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ الَّتِي تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَهَؤُلَاءِ الطُّلَقَاءُ كَانُوا أَلْفَيْنِ. وَكَانَ حَالُ بَعْضِ الْأَلْفَيْنِ وَخِفَّةُ بَعْضِ الشُّبَّانِ هُمَا السَّبَبَ الْأَوَّلَ لِلْهَزِيمَةِ، إِذْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُنَافِقًا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لَمَّا غُلِبَ عَلَى أَمْرِهِ وَوَطَنِهِ وَمَهْدِ دِينِهِ وَمَعْهَدِ عِزِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَبَعْضُهُمْ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَأَلَّفُهُمْ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ نُورُ الْإِسْلَامِ وَفَضْلُهُ
بِالْعَمَلِ وَمُعَاشَرَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَيَزُولُ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أُلْفَةِ الشِّرْكِ وَعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَظْهَرَ الشَّمَاتَةَ - بَلِ الْكُفْرَ - عِنْدَ مَا وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْوِي قَتْلَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا أَمْكَنَتْهُ الْفُرْصَةُ. كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْآتِيَةِ فِي الْقِصَّةِ.
وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي لِلْهَزِيمَةِ فَهُوَ مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ مِنْ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
222
وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْغَنَائِمِ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِهَا عَنِ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَتْهُمْ هَوَازِنُ وَبَنُو نَصْرٍ بِالسِّهَامِ، وَكَانُوا رُمَاةً لَا يَكَادُ يُخْطِئُ لَهُمْ سَهْمٌ.
رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مَنْ قَيْسٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَفِرَّ، كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ - وَأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا - وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاءِ فَقَالَ: أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَبَا عُمَارَةَ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا وَلَّى. وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخَفَاءً مِنَ النَّاسِ وَحَسْرَةً؟ إِلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ هَوَازِنَ، وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ فَرَمَوْهُمْ بِرَشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ " اللهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ " قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهَنَا الْعَدُوُّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْعَدُوِّ فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ فَتَوَارَى عَنِّي فَمَا دَرِيتُ مَا أَصْنَعُ، وَنَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى فَالْتَقَوْا هُمْ وَصَحَابَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِأَحَدِهِمَا مُرْتَدِيًا بِالْأُخْرَى، فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعًا، وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُنْهَزِمًا وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ
رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مَنْ قَيْسٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمْ يَفِرَّ، كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ - وَأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا - وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاءِ فَقَالَ: أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَبَا عُمَارَةَ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا وَلَّى. وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخَفَاءً مِنَ النَّاسِ وَحَسْرَةً؟ إِلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ هَوَازِنَ، وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ فَرَمَوْهُمْ بِرَشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ " اللهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ " قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهَنَا الْعَدُوُّ تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْعَدُوِّ فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ فَتَوَارَى عَنِّي فَمَا دَرِيتُ مَا أَصْنَعُ، وَنَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى فَالْتَقَوْا هُمْ وَصَحَابَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَوَلَّى صَحَابَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِأَحَدِهِمَا مُرْتَدِيًا بِالْأُخْرَى، فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعًا، وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُنْهَزِمًا وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ
223
اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " لَقَدْ رَأَى ابْنُ الْأَكْوَعِ فَزَعًا " فَلَمَّا غَشَوْا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ اهـ.
عَدَدُ مَنْ ثَبَتَ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حُنَيْنٍ:
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ الْحَارِثَ هَذَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا نَصُّهُ: وَعِنْدَ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: لَمَّا فَرَّ النَّاسُ
يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَرَجُلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ: عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِالْعِنَانِ وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ (قَالَ) وَلَيْسَ يُقْبِلُ نَحْوَهُ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّ النَّاسَ لَمُوَلُّونَ وَمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِائَةُ رَجُلٍ. وَهَذَا أَكْثَرُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ عَدَدِ مَنْ ثَبَتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ، وَثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، فَكُنَّا عَلَى أَقْدَامِنَا، وَلَمْ نُوَلِّهِمُ الدُّبُرَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ. وَهَذَا لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونُوا مِائَةً، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَثْبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِينَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ وَابْنُهُ الْفَضْلُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُرْسَلِ الْحَاكِمِ فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ، وَوَقَعَ فِي شِعْرِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ كَانُوا عَشَرَةً فَقَطْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الثَّبْتُ، وَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ عَجَلَ فِي الرُّجُوعِ فَعُدَّ فِيمَنْ
لَمْ يَنْهَزِمْ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بِكَّارٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ
عَدَدُ مَنْ ثَبَتَ مَعَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حُنَيْنٍ:
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ الْحَارِثَ هَذَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا نَصُّهُ: وَعِنْدَ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: لَمَّا فَرَّ النَّاسُ
يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَرَجُلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ: عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِالْعِنَانِ وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ (قَالَ) وَلَيْسَ يُقْبِلُ نَحْوَهُ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وَإِنَّ النَّاسَ لَمُوَلُّونَ وَمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِائَةُ رَجُلٍ. وَهَذَا أَكْثَرُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ عَدَدِ مَنْ ثَبَتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ، وَثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، فَكُنَّا عَلَى أَقْدَامِنَا، وَلَمْ نُوَلِّهِمُ الدُّبُرَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ. وَهَذَا لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونُوا مِائَةً، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَثْبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِينَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ أَنَّهُ ثَبَتَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ وَابْنُهُ الْفَضْلُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَخُوهُ مِنْ أُمِّهِ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مُرْسَلِ الْحَاكِمِ فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ، وَوَقَعَ فِي شِعْرِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ كَانُوا عَشَرَةً فَقَطْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ:
نَصْرنَا رَسُولَ اللهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةً | وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا |
وَعَاشَرَنَا وَافِيَ الْحَمَامِ بِنَفْسِهِ | لِمَا مَسَّهُ فِي اللهِ لَا يَتَوَجَّعُ |
لَمْ يَنْهَزِمْ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بِكَّارٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ
224
وَقُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَعُتْبَةُ وَمُعَتَّبٌ ابْنَا أَبِي لَهَبٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ الْحَجَبِيُّ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدِ انْهَزَمُوا اسْتَدْبَرَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِيَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ لَهُ: " قَاتِلِ الْكُفَّارَ " فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى انْهَزَمُوا اهـ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إِنَّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا قَالَ: وَفِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إِلَى الْوَادِي فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَجْنَابِهِ وَمَضَايِقِهِ قَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيَّئُوا وَأَعَدُّوا، فَوَاللهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطُّونَ إِلَّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَهِدُوا عَلَيْنَا شِدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَانْشَمَرَ النَّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ، وَانْحَازَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمَّ قَالَ: " إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ " وَبَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ: عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ - وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ.
ظُهُورُ شَمَاتَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْهَزِيمَةِ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلَّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الطَّعْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَإِنَّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ. وَصَرَّحَ جِبِلَّةُ بْنُ الْجُنَيْدِ - وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ صَوَابُهُ كَلَدَةُ - أَلَا قَدْ بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ وَكَانَ بَعْدُ مُشْرِكًا: اسْكُتْ فَوَاللهِ لَأَنْ يَرِبْنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرِبْنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ.
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَكَّةَ عَنْوَةً، قُلْتُ: أَسِيرُ مَعَ قُرَيْشٍ إِلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، فَعَسَى إِنِ اخْتَلَطُوا أَنْ أُصِيبَ مِنْ مُحَمَّدٍ غُرَّةً فَأَثْأَرَ مِنْهُ، فَأَكُونَ أَنَا الَّذِي قُمْتُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَحَدٌ إِلَّا اتَّبَعَ مُحَمَّدًا مَا اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا، وَكُنْتُ مُرْصِدًا لِمَا خَرَجْتُ لَهُ لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ فِي نَفْسِي إِلَّا قُوَّةً، فَلِمَا اخْتَلَطَ النَّاسُ اقْتَحَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ بَغْلَتِهِ فَأَصَلْتُ السَّيْفَ فَدَنَوْتُ أُرِيدُ مَا أُرِيدُ مِنْهُ، وَرَفَعْتُ سَيْفِي حَتَّى كِدْتُ أُشْعِرُهُ إِيَّاهُ، فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَالْبَرْقِ يَكَادُ يُمْحِشُنِي، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى بَصَرِي خَوْفًا عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَنَادَانِي " يَا شَيْبُ ادْنُ مِنِّي " فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَمَسَحَ
وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إِنَّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا قَالَ: وَفِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إِلَى الْوَادِي فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَجْنَابِهِ وَمَضَايِقِهِ قَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيَّئُوا وَأَعَدُّوا، فَوَاللهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطُّونَ إِلَّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَهِدُوا عَلَيْنَا شِدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَانْشَمَرَ النَّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ، وَانْحَازَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمَّ قَالَ: " إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إِلَيَّ أَنَا رَسُولُ اللهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ " وَبَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ: عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ - وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ.
ظُهُورُ شَمَاتَةِ الْمُنَافِقِينَ بِالْهَزِيمَةِ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلَّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الطَّعْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَإِنَّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ. وَصَرَّحَ جِبِلَّةُ بْنُ الْجُنَيْدِ - وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ صَوَابُهُ كَلَدَةُ - أَلَا قَدْ بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ أَخُوهُ لِأُمِّهِ وَكَانَ بَعْدُ مُشْرِكًا: اسْكُتْ فَوَاللهِ لَأَنْ يَرِبْنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرِبْنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ.
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَكَّةَ عَنْوَةً، قُلْتُ: أَسِيرُ مَعَ قُرَيْشٍ إِلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، فَعَسَى إِنِ اخْتَلَطُوا أَنْ أُصِيبَ مِنْ مُحَمَّدٍ غُرَّةً فَأَثْأَرَ مِنْهُ، فَأَكُونَ أَنَا الَّذِي قُمْتُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَأَقُولُ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَحَدٌ إِلَّا اتَّبَعَ مُحَمَّدًا مَا اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا، وَكُنْتُ مُرْصِدًا لِمَا خَرَجْتُ لَهُ لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ فِي نَفْسِي إِلَّا قُوَّةً، فَلِمَا اخْتَلَطَ النَّاسُ اقْتَحَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ بَغْلَتِهِ فَأَصَلْتُ السَّيْفَ فَدَنَوْتُ أُرِيدُ مَا أُرِيدُ مِنْهُ، وَرَفَعْتُ سَيْفِي حَتَّى كِدْتُ أُشْعِرُهُ إِيَّاهُ، فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَالْبَرْقِ يَكَادُ يُمْحِشُنِي، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى بَصَرِي خَوْفًا عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَنَادَانِي " يَا شَيْبُ ادْنُ مِنِّي " فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَمَسَحَ
225
صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: " اللهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ " قَالَ: فَوَاللهِ لَهْوَ كَانَ سَاعَتَئِذٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي وَنَفْسِي، وَأَذْهَبَ اللهُ مَا كَانَ فِي نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: " ادْنُ فَقَاتِلْ " فَتَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ أَضْرِبُ بِسَيْفِي - اللهُ أَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ أَقِيَهُ بِنَفْسِي كُلَّ شَيْءٍ، وَلَوْ لَقِيتُ تِلْكَ السَّاعَةِ أَبِي لَوْ كَانَ حَيًّا لَأَوْقَعْتُ بِهِ السَّيْفَ، فَجَعَلْتُ أَلْزَمُهُ فِيمَنْ لَزِمَهُ حَتَّى تَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ فَكَرُّوا كَرَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَقَرُبَتْ بَغْلَةُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاسْتَوَى عَلَيْهَا وَخَرَجَ فِي إِثْرِهِمْ حَتَّى تَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَرَجَعَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَدَخَلَ خِبَاءَهُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرِي حُبًّا لِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ وَسُرُورًا بِهِ، فَقَالَ: " يَا شَيْبُ الَّذِي أَرَاكَ اللهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ لِنَفْسِكَ " ثُمَّ حَدَّثَنِي بِكُلِّ مَا أَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ أَكُنْ أَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ قَطُّ. (قَالَ) فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لِي فَقَالَ: " غَفَرَ اللهُ لَكَ " اهـ. وَرُوِيَ نَحْوٌ مَنْ هَذَا عَنِ النَّضْرِ أَوِ النَّضِيرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ وَهُوَ كَافِرٌ يُرِيدُ أَنْ يُعِينَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَرَّحَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْجِعْرَانَةِ بِمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ
فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. ذَكَرَ الْحَافِظُ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ نَضِيرٍ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ لَمْ يَذْكُرْ تَارِيخَهُ.
تَرَاجَعُ الْمُسْلِمُونَ وَنَصَرَ اللهُ لَهُمْ:
رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَزِمْتُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نَفَّاثَةَ الْجُذَامِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قَبْلَ الْكُفَّارِ، قَالَ عَبَّاسٌ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَكُفُّهَا إِرَادَةً أَنْ لَا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ " فَقَالَ عَبَّاسٌ (وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا) فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ
فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. ذَكَرَ الْحَافِظُ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ نَضِيرٍ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ لَمْ يَذْكُرْ تَارِيخَهُ.
تَرَاجَعُ الْمُسْلِمُونَ وَنَصَرَ اللهُ لَهُمْ:
رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَزِمْتُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نَفَّاثَةَ الْجُذَامِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قَبْلَ الْكُفَّارِ، قَالَ عَبَّاسٌ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَكُفُّهَا إِرَادَةً أَنْ لَا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ " فَقَالَ عَبَّاسٌ (وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا) فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارَ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ
226
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: " انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ " قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ زِيَادَةٌ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ كَلِمَةِ الْعَبَّاسِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِرَارَهُمْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الْفِرَارُ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا فَتَحَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْ مُسْلِمَةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَمُشْرِكِيهَا الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ فَجْأَةً لانْصِبَابِهِمْ عَلَيْهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَرَشْقِهِمْ بِالسِّهَامِ، وَلِاخْتِلَاطِ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، وَمِمَّنْ يَتَرَبَّصُ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ، وَفِيهِمْ نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ خَرَجُوا لِلْغَنِيمَةِ إِلَخْ. وَفِي السِّيَرِ أَنَّ خَبَرَ الْهَزِيمَةِ بَلَغَ مَكَّةَ فَشَمِتَ مُنَافِقُوهَا.
وَفْدُ هَوَازِنَ وَإِسْلَامُهُمْ وَغَنَائِمُهُمْ وَسَبْيُهُمْ:
رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَامَ حِينَ جَاءَ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ " وَكَانَ أَنْظَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَيْرُ رَادٍّ لَهُمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ " فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ " فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. هَذَا الَّذِي عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ اهـ. وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ هُوَ الزُّهْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَتَطَيُّبُ ذَلِكَ مَعْنَاهُ إِعْطَاؤُهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ
بِلَا مُقَابِلٍ، وَالْعُرَفَاءُ: جَمْعُ عَرِيفٍ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ كَلِمَةِ الْعَبَّاسِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِرَارَهُمْ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الْفِرَارُ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا فَتَحَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْ مُسْلِمَةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَمُشْرِكِيهَا الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ فَجْأَةً لانْصِبَابِهِمْ عَلَيْهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَرَشْقِهِمْ بِالسِّهَامِ، وَلِاخْتِلَاطِ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، وَمِمَّنْ يَتَرَبَّصُ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ، وَفِيهِمْ نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ خَرَجُوا لِلْغَنِيمَةِ إِلَخْ. وَفِي السِّيَرِ أَنَّ خَبَرَ الْهَزِيمَةِ بَلَغَ مَكَّةَ فَشَمِتَ مُنَافِقُوهَا.
وَفْدُ هَوَازِنَ وَإِسْلَامُهُمْ وَغَنَائِمُهُمْ وَسَبْيُهُمْ:
رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَامَ حِينَ جَاءَ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ " وَكَانَ أَنْظَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَيْرُ رَادٍّ لَهُمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ " فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ " فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا. هَذَا الَّذِي عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ اهـ. وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ هُوَ الزُّهْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَتَطَيُّبُ ذَلِكَ مَعْنَاهُ إِعْطَاؤُهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ
بِلَا مُقَابِلٍ، وَالْعُرَفَاءُ: جَمْعُ عَرِيفٍ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ
227
وَيَتَعَرَّفُ أُمُورَهُمْ ; لِيُخْبِرَ بِهَا مَنْ فَوْقَهُ مِنْ أُمَرَائِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ، وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَحَسُنَ. وَإِنَّمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ لِأَجْلِ عِتْقِ السَّبْيِ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ: سَاقَ الزُّهْرِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرَةً، وَقَدْ سَاقَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي مُطَوَّلَةً، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ إِلَى الْجِعْرَانَةِ وَبِهَا السَّبْيُ - يَعْنِي سَبْيَ هَوَازِنَ - وَقَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فِيهِمْ تِسْعَةُ نَفَرٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَأَسْلَمُوا وَبَايَعُوا ثُمَّ كَلَّمُوهُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فِيمَنْ أَصَبْتُمُ الْأُمَّهَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَهُنَّ مَخَازِي الْأَقْوَامِ فَقَالَ: " سَأَطْلُبُ لَكُمْ وَقَدْ وَقَعَتِ الْمَقَاسِمُ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَلسَّبْيُ أَمِ الْمَالُ؟ " قَالُوا: خَيَّرْتَنَا يَا رَسُولَ اللهِ بَيْنَ الْحَسَبِ وَالْمَالِ فَالْحَسَبُ أَحَبُّ إِلَيْنَا وَلَا نَتَكَلَّمُ فِي شَاةٍ وَلَا بَعِيرٍ. فَقَالَ: " أَمَّا الَّذِي لِبَنِي هَاشِمٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَسَوْفَ أُكَلِّمُ لَكُمُ الْمُسْلِمِينَ فَكَلِّمُوهُمْ وَأَظْهِرُوا إِسْلَامَكُمْ " فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْهَاجِرَةَ قَامُوا فَتَكَلَّمَ خُطَبَاؤُهُمْ فَأَبْلَغُوا وَرَغِبُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ رَدَّ سَبْيَهُمْ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ فَرَغُوا فَشَفَعَ لَهُمْ وَحَضَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَقَالَ: " لَقَدْ رَدَدْتُ الَّذِي لِبَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِمْ " فَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَدَدُ الْوَفْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ رِوَايَةَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ: وَأَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ قَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ. وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللَّوَاتِيَ فِي الْحَظَائِرِ مِنَ السَّبَايَا خَالَاتُكَ وَعَمَّاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَكْفُولٍ. ثُمَّ أَنْشَدَ الْأَبْيَاتَ الْمَشْهُورَةَ أَوَّلُهَا:
وَيَقُولُ فِيهَا:
ثُمَّ سَاقَ الْقِصَّةَ نَحْوَ سِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ اهـ. وَيَعْنِي الشَّاعِرُ الْخَطِيبُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ قَرَابَةِ السَّبَايَا لِلْمُصْطَفَى ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَرَابَةَ الرَّضَاعِ، فَقَدْ كَانَ بَنُو سَعْدٍ مِنْ هَوَازِنَ وَكَانَ فِي السَّبَايَا أُخْتُهُ (الشَّيْمَاءُ) وَقَدْ أَكْرَمَهَا وَحَبَاهَا، وَقِيلَ: كَانَ فِيهِمْ (حَلِيمَةُ) مُرْضِعَتُهُ أَيْضًا، وَكَانَ مِنْ رِجَالِ الْوَفْدِ عَمُّهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَبُو مَرْوَانَ، وَيُقَالُ: ثَرَوَانُ وَبُرْقَانُ، كَمَا كَانَ هَذَا الْخَطِيبُ مِنْهُمْ أَيْضًا.
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ: سَاقَ الزُّهْرِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُخْتَصَرَةً، وَقَدْ سَاقَهَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي مُطَوَّلَةً، وَلَفْظُهُ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ إِلَى الْجِعْرَانَةِ وَبِهَا السَّبْيُ - يَعْنِي سَبْيَ هَوَازِنَ - وَقَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فِيهِمْ تِسْعَةُ نَفَرٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَأَسْلَمُوا وَبَايَعُوا ثُمَّ كَلَّمُوهُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فِيمَنْ أَصَبْتُمُ الْأُمَّهَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَهُنَّ مَخَازِي الْأَقْوَامِ فَقَالَ: " سَأَطْلُبُ لَكُمْ وَقَدْ وَقَعَتِ الْمَقَاسِمُ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَلسَّبْيُ أَمِ الْمَالُ؟ " قَالُوا: خَيَّرْتَنَا يَا رَسُولَ اللهِ بَيْنَ الْحَسَبِ وَالْمَالِ فَالْحَسَبُ أَحَبُّ إِلَيْنَا وَلَا نَتَكَلَّمُ فِي شَاةٍ وَلَا بَعِيرٍ. فَقَالَ: " أَمَّا الَّذِي لِبَنِي هَاشِمٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَسَوْفَ أُكَلِّمُ لَكُمُ الْمُسْلِمِينَ فَكَلِّمُوهُمْ وَأَظْهِرُوا إِسْلَامَكُمْ " فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْهَاجِرَةَ قَامُوا فَتَكَلَّمَ خُطَبَاؤُهُمْ فَأَبْلَغُوا وَرَغِبُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ رَدَّ سَبْيَهُمْ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ فَرَغُوا فَشَفَعَ لَهُمْ وَحَضَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَقَالَ: " لَقَدْ رَدَدْتُ الَّذِي لِبَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِمْ " فَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَدَدُ الْوَفْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى اهـ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ رِوَايَةَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَفْظُهُ: وَأَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ قَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ. وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللَّوَاتِيَ فِي الْحَظَائِرِ مِنَ السَّبَايَا خَالَاتُكَ وَعَمَّاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَكْفُولٍ. ثُمَّ أَنْشَدَ الْأَبْيَاتَ الْمَشْهُورَةَ أَوَّلُهَا:
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللهِ فِي كَرَمٍ | فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ |
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا | إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ |
228
وَفِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّ رِجَالَ الْوَفْدِ كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَأَنَّ مِمَّا قَالَهُ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فِي السَّبَايَا: وَأَنَّ أَبْعَدَهُنَّ قَرِيبٌ مِنْكَ، حِضْنُكَ فِي حُجُورِهِنَّ، وَأَرْضَعْنَكَ بِثَدْيِهِنَّ، وَتَوَرَّكْنَكَ عَلَى أَوْرَاكِهِنَّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ.
قِسْمَةُ غَنَائِمُ حُنَيْنٍ
(وَإِيثَارُ قُرَيْشٍ وَلَاسِيَّمَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَحِرْمَانِ الْأَنْصَارِ) كَانَ السَّبْيُ سِتَّةَ آلَافِ نَفْسٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ الَّذِينَ قَضَى عُرْفُ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ اسْتِرْقَاقَهُمْ، وَأَعْتَقَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِاسْتِرْضَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الْغَانِمِينَ، فَجَمَعَ بَيْنَ سِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ فِي التَّوَسُّلِ إِلَى تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ بِجَمِيعِ الْوَسَائِلِ، وَاتِّقَاءِ تَنْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَاسِيَّمَا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ. وَكَانَتِ الْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا وَالْغَنَمُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَاةٍ وَقِيلَ أَكْثَرُ، وَالْفِضَّةُ أَرْبَعَةُ آلَافِ أُوقِيَّةٍ. وَسَبَبُ هَذِهِ الْكَثْرَةِ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّصْرِيَّ الَّذِي جَمَعَ الْقَبَائِلَ لِلْقِتَالِ، سَاقَ مَعَ الْمُقَاتِلَةِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَثْبُتُوا وَلَا يَفِرُّوا، فَكَانَ ذَلِكَ تَسْخِيرًا مِنَ اللهِ تَعَالَى; لِيَكُونُوا غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا قَسَّمَهَا وَأَفَاضَ فِي الْعَطَاءِ عَلَى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ طُلَقَاءِ يَوْمِ الْفَتْحِ وَجَدَ الْأَنْصَارُ وَتَحَدَّثَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ، فَجَمَعَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
وَخَطَبَ فِيهِمْ فَأَرْضَاهُمْ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَغَازِي فَنَذْكُرُ أَصَحَّ الرِّوَايَاتِ فِيهِ.
رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، وَاللَّفْظُ هُنَا لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَّمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! " أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قَالَ: " مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللهِ كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قَالَ: " لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ جِئْنَا كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبِهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ".
وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حِين أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ فَطَفِقَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ
قِسْمَةُ غَنَائِمُ حُنَيْنٍ
(وَإِيثَارُ قُرَيْشٍ وَلَاسِيَّمَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَحِرْمَانِ الْأَنْصَارِ) كَانَ السَّبْيُ سِتَّةَ آلَافِ نَفْسٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ الَّذِينَ قَضَى عُرْفُ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ اسْتِرْقَاقَهُمْ، وَأَعْتَقَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِاسْتِرْضَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الْغَانِمِينَ، فَجَمَعَ بَيْنَ سِيَاسَةِ الْإِسْلَامِ فِي التَّوَسُّلِ إِلَى تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ بِجَمِيعِ الْوَسَائِلِ، وَاتِّقَاءِ تَنْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَاسِيَّمَا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ. وَكَانَتِ الْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا وَالْغَنَمُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَاةٍ وَقِيلَ أَكْثَرُ، وَالْفِضَّةُ أَرْبَعَةُ آلَافِ أُوقِيَّةٍ. وَسَبَبُ هَذِهِ الْكَثْرَةِ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّصْرِيَّ الَّذِي جَمَعَ الْقَبَائِلَ لِلْقِتَالِ، سَاقَ مَعَ الْمُقَاتِلَةِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَثْبُتُوا وَلَا يَفِرُّوا، فَكَانَ ذَلِكَ تَسْخِيرًا مِنَ اللهِ تَعَالَى; لِيَكُونُوا غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا قَسَّمَهَا وَأَفَاضَ فِي الْعَطَاءِ عَلَى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ طُلَقَاءِ يَوْمِ الْفَتْحِ وَجَدَ الْأَنْصَارُ وَتَحَدَّثَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ، فَجَمَعَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
وَخَطَبَ فِيهِمْ فَأَرْضَاهُمْ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَغَازِي فَنَذْكُرُ أَصَحَّ الرِّوَايَاتِ فِيهِ.
رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، وَاللَّفْظُ هُنَا لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَّمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! " أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قَالَ: " مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللهِ كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. قَالَ: " لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ جِئْنَا كَذَا وَكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبِهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ".
وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حِين أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ فَطَفِقَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعْطِي رِجَالًا الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ
229
دِمَائِهِمْ. (قَالَ أَنَسٌ) : فَحُدِّثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَقَالَتِهِمْ فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مَنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: " مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ " فَقَالَ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ: أَمَّا رُؤَسَاؤُنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا نَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثَ عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاللهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا
يَنْقَلِبُونَ بِهِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " سَتَجِدُونَ أَثْرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ " قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ يَصْبِرُوا اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمْ نَصْبِرْ ; لِأَنَّهُ مِنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: " إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ - كَذَا فِيهِمَا - بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُجْبِرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ " إِلَخْ.
وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ وَهُوَ أَخْصَرُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَاسًا: أَعْطَى الْأَقْرَعَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى نَاسًا فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَجْهَ اللهِ. فَقُلْتُ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: " رَحِمَ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ الْحَافِظُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَيْ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرِ بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
يَنْقَلِبُونَ بِهِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ رَضِينَا، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " سَتَجِدُونَ أَثْرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ " قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ يَصْبِرُوا اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمْ نَصْبِرْ ; لِأَنَّهُ مِنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: " إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ - كَذَا فِيهِمَا - بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُجْبِرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ " إِلَخْ.
وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ وَهُوَ أَخْصَرُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَاسًا: أَعْطَى الْأَقْرَعَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى نَاسًا فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُرِيدُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ وَجْهَ اللهِ. فَقُلْتُ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: " رَحِمَ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ الْحَافِظُ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَيْ عَنْهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرِ بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: