تفسير سورة التوبة

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ
قوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾ [ التوبة : ١ ].
إن قلتَ : لم ترك البسملة فيها دون غيرها ؟
قلتُ : لاختلاف الصحابة في أنّ " براءة " و " الأنفال " سورتان، أو سورة واحدة، نظرا لأن كلا منهما نزل في القتال، فترك بينهما فُرجة، عملا بالأول، وتُركت البسملة عملا بالثاني.
أو لأن البسملة أمان، وبراءة فيها قتلُ المشركين ومحاربتُهم، فلا مناسبة بينهما.
أو لأن الأنفال، لمّا تضمّنت طلبَ موالاة المؤمنين، بعضهم بعضا، وأن ينقطعوا عن الكفّار بالكليّة، وكان قوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾ تقريراً وتأكيداً، لذلك تُركت البسملة بينهما( ١ ).
١ - الأظهر أن سبب ترك التسمية، أن البسملة آية رحمة، وهذه آيات نزلت بالعذاب، فلا تناسب بين ذكر آية الرحمة والعذاب، كما قاله عليّ رضي الله عنه، والله أعلم..
قوله تعالى :﴿ فاعلموا أنّكم غير معجزي الله وبشّر الذين كفروا بعذاب أليم ﴾ [ التوبة : ٣ ]. كرّره لأن الأول للمكان، والثاني للزمان المذكور قبل، في قوله تعالى :﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ [ التوبة : ٢ ].
قوله تعالى :﴿ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة... ﴾ [ التوبة : ٨ ]. ﴿ إلا ﴾ أي قرابة ﴿ ولا ذمة ﴾ أي عهدا.
كرّر ذلك بإبدال الضمير ب " مؤمن " في قوله تعالى :﴿ لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة ﴾ [ التوبة : ١٠ ] لأن الأول وقع جوابا لقوله :﴿ وإن يظهروا عليكم ﴾ أي الكفار. والثاني وقع إخباراً عن تقبيح حالهم.
قوله تعالى :﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين... ﴾ [ التوبة : ١١ ]. كرّره لاختلاف جزاء الشرط، إذ جزاء الشرط في الأول، تخلية سبيلهم( ١ ) في الدنيا، وفي الثاني أخوّتُهم لنا في الدين، وهي ليست عينُ تخليتهم، بل سببُها.
١ - أشار إلى قوله تعالى في الآية السابقة: ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إن الله غفور رحيم﴾ آية: ٥..
قوله تعالى :﴿ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمّة الكفر ﴾ [ التوبة : ١٢ ]. خصّ فيه " أئمة الكفر " بالذّكر، وهم رؤساء الكفر وقادتُهم، لأنهم الأصل في النكث، والطّعن في الدّين.
قوله تعالى :﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله... ﴾ [ التوبة : ٣٠ ] قائل ذلك في كلّ منهما بعضُهم، لا كلُّهم، ف " أل " فيهما للعهد، لا للاستغراق، كما في قوله تعالى :﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك ﴾ [ آل عمران : ٤٢ ] الآية. إذِ القائل لها ذلك إنما هو جبرئيل عليه السلام.
قوله تعالى :﴿ ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل... ﴾ [ التوبة : ٣٠ ]. فائدة قوله :﴿ بأفواههم ﴾ مع أن القول لا يكون إلا بالفم، الإعلام بأن ذلك مجرّد قول، لا أصل له، مبالغة في الرّدّ عليهم.
قوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق... ﴾ [ التوبة : ٣٣ ] الآية. فائدة ذكر " دين الحق " مع دخوله في الهدى قبله، بيان شرفه وتعظيمه، كقوله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ].
أو أن المراد بالهدى القرآن، وبالدّين الإسلام.
قوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله... ﴾ [ التوبة : ٣٤ ]. أفرد الضمير، مع تقدّم اثنين " الذهب والفضة " نظرا إلى عوده إلى الفضة لقربها، ولأنها أكثر من الذهب.
أو إلى عوده إلى المعنى( ١ )، لأن المكنوز دراهم ودنانير، ونظيره قوله :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ﴾ [ الحجرات : ٩ ].
١ - هذا القول أرجح، فإن الضمير يعود إلى ما كنزوا من أموال، أي والذين يكنزون الأموال ثم لا ينفقونها في سبيل الله..
قوله تعالى :﴿ منها أربعة حرم ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم... ﴾ [ التوبة : ٣٦ ].
إن قلتَ : لم خصّ الأربعة الحرم بذلك، مع أن ظلم النفس منهيّ عنه في كل زمان ؟
قلتُ : لم يخصَّها به، إذ الضمير عائد إلى " اثنا عشر شهرا " كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، لا إلى الأربعة الحُرُم فقط.
أو خصّها به لقربها، أو لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية.
قوله تعالى :﴿ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا... ﴾ [ التوبة : ٤٤ ]. أي لا يستأذنوك في التخلّف عن الجهاد.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن كثيرا من المؤمنين، استأذنوه في ذلك لعذر، أخذا من قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ﴾ [ النور : ٦٢ ].
قلتُ : لا منافاة، لأن ذلك نفي بمعنى النهي كقوله تعالى :﴿ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ] أو هو منسوخ كما قال ابن عباس بقوله :«لم يذهبوا حتى يستأذنوه ».
أو المراد أنهم لا يستأذنوه في ذلك لغير عذر.
قوله تعالى :﴿ ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾ [ التوبة : ٤٦ ].
إن قلتَ : كيف أمرهم بالقعود عن الجهاد، مع أنه ذمّهم عليه ؟
قلتُ : إنما أمرهم بذلك أمر توبيخ، كقوله تعالى :﴿ اعملوا ما شئتم ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] بقرينة قوله :﴿ مع القاعدين ﴾ أي من النّساء، والصّبيان، والزّمنَى، الذين شأنهم القعود في البيوت.
أو الآمر لهم إنما هو الشيطان بالوسوسة، أو بعضهم بعضا.
قوله تعالى :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم... ﴾ [ التوبة : ٤٧ ].
فإن قلتَ : إذا علم الله أن المنافقين، لو خرجوا مع المؤمنين للجهاد، ما زادوهم إلا خبالا أي فساداً، ولأوضعوا خلالهم أي لأسرعوا في السّعي بينهم بالنميمة، فكيف أمرهم بالخروج مع المؤمنين ؟
قلتُ : أمرهم بالخروج لإلزامهم الحجّة، ولإظهار نفاقهم.
قوله تعالى :﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يُتقبّل منكم إنّكم كنتم قوما فاسقين ﴾ [ التوبة : ٥٣ ]. أي كافرين ولو بالنفاق( ١ )، بقرينة قوله :﴿ وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلا أنّهم كفروا بالله وبرسوله ﴾ [ التوبة : ٥٤ ].
قوله تعالى :﴿ إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾ قاله هنا بالباء في المتعاطفين، وقاله ثانيا، وثالثا بحذفها من المعطوف، لأن ما في الأول غاية التوكيد بقوله :﴿ وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا ﴾ فأكّد المتعاطفين بالباء، ليكون الكلام على نسق واحد، بخلاف الثاني( ٢ ) والثالث( ٣ )، لم يتقدمهما ذلك.
١ - المنافق أقبح من الكافر، لذلك كان عذابه أشدّ، حيث جمع بين الكفر والخبث بإظهاره والإيمان..
٢ - في قوله تعالى: ﴿إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله... ﴾..
٣ - في قوله تعالى: ﴿ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله... ﴾..
قوله تعالى :﴿ فلا تُعجبك أموالهم ولا أولادهم... ﴾ [ التوبة : ٥٥ ] الآية. قاله هنا بالفاء، وقاله بعد الواو( ١ ).
لأن الفاء تتضمّن معنى الجزاء، والفعل قبلها في قوله :﴿ ولا يأتون الصلاة ﴾ [ التوبة : ٥٤ ] وقوله :﴿ ولا ينفقون ﴾ [ التوبة : ٥٤ ] لكونه مستقبلا، يتضمّن معنى الشرط، فناسب فيه الفاء، وما بعدُ ذكر قبله ﴿ كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾ [ التوبة : ٨٤ ] والفعل فيهما لكونه ماضيا، لا يتضمّن معنى الشرط، فناسب فيه الواو، وقوله :﴿ ولا أولادهم ﴾ ذكره هنا ب ( لا ) وفيما بعد بدونها، لما في زيادتها هنا من التوكيد المناسب لغاية التوكيد، بالحصر فيما قبلها، وذلك مفقود فيما بعد.
١ - في قوله تعالى: ﴿ولا تُعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون﴾ التوبة: ٨٥..
قوله تعالى :﴿ إنما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها... ﴾ [ التوبة : ٦٠ ] الآية. أضاف فيها الصّدقات، إلى الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك، وإلى الأربعة الأخيرة ب " في " الظرفية، للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأخيرة، حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها استرجع، بخلافه في الأولى، كما هو مقرّر في الفقه، وكُرّر في الأخيرة في قوله :﴿ وفي سبيل الله ﴾ [ التوبة : ٦٠ ] حثّا على الإعانة في الجهاد لشرفه.
قوله تعالى :﴿ قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين... ﴾ [ التوبة : ٦١ ] الآية. عدّى الإيمان إلى الله بالباء، لتضمّنه معنى التصديق، ولموافقته ضدّه وهو الكفر، في قوله تعالى :﴿ من كفر بالله ﴾ [ النحل : ١٠٦ ].
وعدّاه إلى المؤمنين باللام، لتضمّنه معنى الانقياد، وموافقة لكثير من الآيات، كقوله تعالى :﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾ [ يوسف : ١٧ ] وقوله :﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ﴾ [ البقرة : ٧٥ ] وقوله :﴿ أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ] ؟
وأما قوله تعالى في موضع ﴿ قل آمنتم له قبل أن آذن لكم ﴾ [ طه : ٧١ ] وفي آخر ﴿ آمنتم به ﴾ [ يونس : ٥١ ] فمشترك الدلالة، بين الإيمان بموسى، والإيمان بالله، لأن من آمن بموسى حقيقة آمن بالله كعكسه.
قوله تعالى :﴿ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأنّ له نارَ جهنّم خالدا فيها... ﴾ [ التوبة : ٦٣ ] خبر عن المنافقين الذين سبق ذكرهم، فإنهم مخلّدون في النار، فلا يُشكل بأن المؤمن العاصي، لا يخلّد في النار.
قوله تعالى :﴿ يحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم... ﴾ [ التوبة : ٦٤ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن إنزال السورة إنما هو على النبي لا عليهم ؟
قلتُ : " على " بمعنى " في " كما في قوله تعالى :﴿ واتّبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] أو أن الإنزال هنا بمعنى القراءة عليهم.
فإن قلتَ : الحذر واقع منهم على إنزال السورة، فكيف قال :﴿ إن الله مخرج ما تحذرون ﴾ [ التوبة : ٦٤ ] ؟
قلتُ : معناه إن الله مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم، بإنزال هذه السورة، وهو المناسب لقوله :﴿ ننبّئهم بما في قلوبهم ﴾ أو مظهرٌ ما تحذرون من إنزال هذه السورة.
فإن قلتَ :﴿ ننبئهم بما في قلوبهم ﴾ تحصيل الحاصل، لأنهم عالمون به ؟
قلتُ : تنبّئهم بأسرارهم، وما كتموه، شائعة ذائعة، وتفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه غيرهم.
قوله تعالى :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾ [ التوبة : ٦٧ ] الآية.
إن قلتَ : كيف قال ذلك هنا ب " مِنْ " وقال في قوله :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ بلفظ " أولياء " مع أن " مِنْ " أدلّ على المجانسة، لاقتضائها البعضية، فكانت بالمؤمنين أولى، لأنهم أشدّ تجانسا في الصفات ؟   !
قلتُ : المراد بقوله ﴿ بعضهم من بعض ﴾ على دين بعض، لأن " مِنْ " تأتي بمعنى " على " كما في قوله تعالى :﴿ ونصرناه من القوم ﴾ [ الأنبياء : ٧٧ ] وقوله :﴿ للذين يؤلون من نسائهم ﴾ [ البقرة : ٢٢٦ ] أي يحلفون على عدم وطئهنّ، والمراد بقوله :﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ أنصارهم وأعوانهم في الدّين، وعلى ذلك فكلّ من اللفظين يصلح مكان الآخر، لكن للولاية شرف، فكانت أولى بالمؤمنين والمؤمنات.
قوله تعالى :﴿ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ﴾ [ التوبة : ٦٩ ] أي المنافقون والمنافقات حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، أما حبطها في الدنيا، فمن حيث كيدهم ومكرُهم وخداعُهم، التي كانوا يقصدون بها إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يُتم نوره. وأما حبطُها في الآخرة، فمن حيث أن عباداتهم وطاعاتهم، أتوا بها رياءً وسمعةً ونفاقاً، فحبطت أعمالهم من الخبيثات المذكورات، حيث لم يحصل بها غرضهم في الدنيا ولا في الآخرة.
وأما عباداتهم التي تجري بها أحكام المسلمين عليهم، كحقن دمائهم وأموالهم، فينتفعون بها في الدنيا خاصة ولا عبرة به.
قوله تعالى :﴿ وما لهم في الأرض من وليّ ولا نصير ﴾ [ التوبة : ٧٤ ].
إن قلتَ : لم خصّص الأرض بالذكر، مع أنهم لا وليّ لهم في الأرض، ولا في السماء، ولا في الدنيا ولا في الآخرة ؟   !
قلتُ : لمّا كانوا لا يعتقدون الوحدانية، ولا يصدّقون بالآخرة، كان اعتقادهم وجود الوليّ والنّصير، مقصوراً على الدنيا، فعبّر عنها في الأرض.
أو أراد بالأرض أرض الدنيا والآخرة.
قوله تعالى :﴿ إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾ [ التوبة : ٨٠ ] الآية.
إن قلتَ : لم خصّ السّبعين، مع أنهم لا يُغفر لهم أصلا، لقوله تعالى :﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ﴾ [ المنافقون : ٦ ] ولأنهم مشركون، والله لا يغفر أن يشرك به ؟
قلتُ : لأن عادة العرب جرت بضرب المثل في الآحاد بالسبعة، وفي العشرات بالسبعين، استكثاراً ولا يريدون الحصر.
فإن قلتَ : لو كان المراد ذلك، لما خفيَ على أفصح العرب، وأعلمهم بأساليب الكلام، حتى قال لما أُنزلت هذه الآية : لأزيدنّ على السبعين، لعل الله أن يغفر لهم.
قلتُ : لم يَخْفَ عليه ذلك، وإنما أراد بما قال إظهار كمال رأفته، ورحمته بمن بُعث إليهم، وفيه لطف بأمته وحثّ لهم على المراحم، وشفقة بعضهم على بعض، وهذا دأب الأنبياء عليهم السلام، كما قال إبراهيم عليه السلام :﴿ ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ].
قوله تعالى :﴿ وطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ﴾ [ التوبة : ٨٧ ]. قاله هنا بالبناء للمفعول، وقال بعده ﴿ وطَبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾ [ التوبة : ٩٣ ] بالبناء للفاعل، لأن الأول تقدَّمه مبنيّ للمفعول وهو قوله :«وإذا أُنزلت سورة » والثاني تقدَّمه ذكر الله مرّات، فناسب بناء الأول للمفعول، والثاني للفاعل، ليناسب الفاعل ما قبله، ثم ختم كلا منهما بما يناسبه، فقال في الأول " لا يفقهون " وفي الثاني : " لا يعلمون " لأنّ العلم فوق الفقه أي الفهم.
قوله تعالى :﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تُردّون إلى عالم الغيب والشهادة ﴾ [ التوبة : ٩٤ ] قاله هنا ب " ثُمَّ " بحذف " والمؤمنون ". وقاله بعدها بالواو، وبذكر " والمؤمنون " ( ١ ).
لأن الأول : في المنافقين، ولا يطّلع على ضمائرهم إلا الله، ثم رسوله بإطلاع الله إياه عليها. والثاني في المؤمنين، وطاعاتُهم وعباداتُهم ظاهرة لله ولرسوله وللمؤمنين، وختم الأول بقوله :﴿ ثم تردّون ﴾ ليفيد قطعه عمّا قبله، لأنه وعيد... وختم الثاني بقوله :﴿ وستردّون ﴾ [ التوبة : ١٠٥ ] ليفيد وصله بما قبله لأنه وعد، فناسب في الأول " ثُمّ " وحذف " والمؤمنون " وفي الثاني " الواو " وذكر " والمؤمنون ".
فإن قلتَ : السّين في " سيرى الله " للاستقبال، والرؤية بمعنى العلم، والله تعالى عالم بعملهم حالا ومآلا، فكيف جمع بينهما ؟   !
قلتُ : معناه في حقّ الله، أنه سيعلمه واقعا مآلا، كما علمه غير واقع حالا، لأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فيعلم الواقع واقعا، وغير الواقع غير واقع، أمّا في حقّ الرسول فهو ظاهره.
١ - أشار إلى الآية بعدها وهي قوله تعالى: ﴿وقلِ اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ التوبة: ١٠٥..
قوله تعالى :﴿ الأعراب أشدّ كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله... ﴾ [ التوبة : ٩٧ ].
فإن قلتَ : وصفَ العرب بأنهم جاهلون بذلك، ينافي صحّة الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم، على كتاب الله وسنّة نبيه ؟   !
قلتُ : لا منافاة، إذ وصفهم بالجهل إنما هو في أحكام القرآن، لا في ألفاظه، ونحن لا نحتجّ بلغتهم في بيان الأحكام، بل في بيان معاني الألفاظ، لأن القرآن والسّنة جاءا بلغتهم.
قوله تعالى :﴿ ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم... ﴾ [ التوبة : ١٠١ ] الآية، الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قلتَ : كيف نفى عنه علمه بحال المنافقين هنا، وأثبته له في قوله :﴿ ولتعرفنّهم في لحن القول ﴾ [ محمد : ٣٠ ] ؟
قلتُ : آية النّفي نزلت قبل آية الإثبات فلا تنافي.
قوله تعالى :﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا ﴾ [ التوبة : ١٠٢ ] الآية. أي خلطوا كلا منهما بالآخر.
قوله تعالى :﴿ والنّاهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشّر المؤمنين ﴾ [ التوبة : ١١٢ ].
إن قلتَ : لم عطفه دون ما قبله من الصّفات ؟
قلتُ : لأنه وقع بعد سبع صفات، وعادة العرب أن تُدخل الواو بعد السّبعة.
قوله تعالى :﴿ ولا ينالون من عدوّ نّيلا إلا كُتب لهم به عمل صالح... ﴾ [ التوبة : ١٢٠ ] الآية. قال ذلك هنا، وقال بعد :﴿ إلا كُتب لهم ﴾ [ التوبة : ١٢١ ] بدون " عمل صالح "   ! ! لأن ما هنا مشتمل على ما هو من عملهم، وهو قوله :﴿ ولا يطئون موطئا يغيظ الكفّار ﴾ [ التوبة : ١٢٠ ] إلى آخره، وعلى ما ليس من عملهم وهو قوله :﴿ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ﴾ [ التوبة : ١٢٠ ] إلى آخره فتفضّل الله بإجرائه مجرى عملهم في الثواب، فناسب ذلك زيادة قوله :﴿ به عمل صالح ﴾ ولهذا عمّ عقِبَه في قوله :﴿ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ [ التوبة : ١٢٠ ].
وما ذُكر في الآية الثانية : مختصّ بما هو من عملهم، وهو قوله :﴿ ولا ينفقون نفقة صغيرة ﴾ [ التوبة : ١٢١ ] إلى آخره، ليُكتب لهم ذلك بعينه، ولهذا خصّهم عقِبه في قوله :﴿ ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ﴾ [ التوبة : ١٢١ ].
وقوله : " أحسن " أي بأحسن، والمراد بحَسَن عملهم، إذ لا يختصّ جزاؤهم بأحسن عملهم... أو المراد ليجزيهم أحسن من الذي كانوا يعملون.
Icon