تفسير سورة التوبة

زاد المسير
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة التوبة

فصل في نزولها


هي مدنية بإجماعهم، سوى الآيتين اللتين في آخرها ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] فإنها نزلت بمكة. روى البخاري في " صحيحه " من حديث البراء قال : آخر سورة نزلت ( بَرَاءةٌ ). وقد نقل عن بعض العرب أنه سمع قارئا يقرأ هذه السورة فقال الأعرابي : إني لأحسب هذه من آخر ما نزل من القرآن. قيل له : ومن أين علمت ؟ فقال : إني لأسمع عهودا تُنْبَذُ، ووصايا تُنَفَّذ.

فصل : واختلفوا في أول ما نزل من ( بَرَاءةٌ ) على ثلاثة أقوال :


أحدها : أن أول ما نزل منها قوله :﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ في مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ﴾ [ التوبة : ٢٥ ]، قاله مجاهد.
والثاني :﴿ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً ﴾ [ التوبة : ٤١ ]، قاله أبو الضحى، وأبو مالك.
والثالث :﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ ﴾ [ التوبة : ٤٠ ]، قاله مقاتل. وهذا الخلاف إنما هو في أول ما نزل منها بالمدينة، فإنهم قد قالوا : نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكة.
فصل : ولها تسعة أسماء : أحدها : سورة التوبة. والثاني : براءة ؛ وهذان مشهوران بين الناس. والثالث : سورة العذاب، قاله حذيفة. والرابع : المقشقشة، قاله ابن عمر.
والخامس : سورة البحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين، قاله المقداد بن الأسود.
والسادس : الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، قاله ابن عباس. والسابع : المبعثرة، لأنها بعثرت أخبار الناس، وكشفت عن سرائرهم، قاله الحارث ابن يزيد، وابن إسحاق. والثامن : المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم، قاله قتادة.
والتاسع : الحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، قاله الزجاج.

فصل : وفي سبب امتناعهم من كتابة التسمية في أولها ثلاثة أقوال :


أحدها : رواه ابن عباس، قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى ( الأنفال ) وهي من المثاني، وإلى ( بَرَاءةٌ ) وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب، فيقول :( ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا )، ( الأنفال ) من أوائل ما نزل بالمدينة، و( بَرَاءةٌ ) من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ؛ وقُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فظننا أنها منها ؛ فمن ثم قرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما :" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وذكر نحو هذا المعنى عن أبي بن كعب قال الزجاج : والشبه الذي بينهما، أن في ( الأنفال ) ذكر العهود، وفي ( بَرَاءةٌ ) نقضها. وكان قتادة يقول : هما سورة واحدة.
والثاني : رواه محمد ابن الحنفية، قال : قلت لأبي : لِمَ لم تكتبوا في ( براءة ) " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ؟ فقال : يا بني، إن ( براءة ) نزلت بالسيف، وإن " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " أمانٌ. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال : لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين.
والثالث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كتب في صلح الحديبية " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، لم يقبلوها وردوها، فما ردها الله عليهم، قاله عبد العزيز بن يحيى المكي.
فصل : فأما سبب نزولها، فقال المفسرون : أخذت العرب تنقض عهودا بنتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى بإلقاء عهودهم إليهم، فأنزل ( بَرَاءةٌ ) في سنة تسع، فبعث رسول الله أبا بكر أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج في تلك السنة، وبعث معه صدرا من ( بَرَاءةٌ ) ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا، فقال :" اخرج بهذه القصة من صدر ( براءة ) وأذن في الناس بذلك ) فخرج علي على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله، أنزل في شأني شيء ؟ قال :( لا، وَلَكِن لاَّ يَبْلُغَ عَنّي إِلاَّ رَجُلٌ مِنّي، أَمَّا تَرْضَى أنَّكَ كُنتَ صاحبي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض ) ؟ قال : بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر أميرا على الحج، وسار علي ليؤذن ب ( براءة ).

فصل : وفي عدد الآيات التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول ( بَرَاءةٌ ) خمسة أقوال.


أحدها : أربعون آية، قاله علي عليه السلام. والثاني : ثلاثون آية، قاله أبو هريرة. والثالث : عشر آيات، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : سبع آيات، رواه ابن جريج عن عطاء. والخامس : تسع آيات، قاله مقاتل.
فصل : فإن توهم متوهم أن في أخذ ( بَرَاءةٌ ) من أبي بكر، وتسليمها إلى علي، تفضيلا لعلي على أبي بكر، فقد جهل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم. قال الزجاج : وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها، أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها ؛ وجائز أن تقول العرب إذا تلا عليها نقض العهد من ليس من رهط النبي صلى الله عليه وسلم : هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود، فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم العلة بما فعل. وقال عمرو بن بحر : ليس هذا بتفضيل لعلي على أبي بكر، وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حل العقد، وكان لا يتولى ذلك إلا السيد منهم، أو رجل من رهطه دَنِيا، كأخ، أو عم ؛ وقد كان أبو بكر في تلك الحجة الإمام، وعلي يأتم به، وأبو بكر الخطيب، وعلي يسمع. وقال أبو هريرة : بعثني أبو بكر في تلك الحجة مع المؤذنين الذين بعثهم يؤذنون بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ؛ فأذن معنا علي ب ( بَرَاءةٌ ) وبذلك الكلام. وقال الشعبي : بعث رسول الله عليا يؤذن بأربع كلمات :( ألا لا يحج بعد العام مشرك، ألا ولا يطوف بالبيت عريان، ألا ولا يدخل الجنة إلا مسلم، ألا ومن كانت بينه وبين محمد مدة فأجله إلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله ).
سورة التّوبة
[سورة التوبة (٩) : آية ١]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)
فصل في نزولها: هي مدنية باجماعهم، سوى الآيتين اللتين في آخرها لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «١» فانها نزلت بمكة.
(٦٦٢) روى البخاري في «صحيحه» من حديث البراء قال: آخر سورة نزلت براءة. وقد نُقل عن بعض العرب أنه سمع قارئاً يقرأ هذه السورة، فقال الأعرابي: إني لأحسب هذه من آخر ما نزل من القرآن. قيل له: ومن أين علمت؟ فقال: إني لأسمع عهوداً تُنْبَذُ، ووصايا تُنَفَّذ.
فصل: واختلفوا في أول ما نزل من (براءة) على ثلاثة أقوال: أحدها: أن أول ما نزل منها قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ «٢»، قاله مجاهد. والثاني: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «٣»، قاله أبو الضحى وأبو مالك. والثالث: إِلَّا تَنْصُرُوهُ «٤»، قاله مقاتل. وهذا الخلاف إنما هو في أول ما نزل منها بالمدينة، فانهم قد قالوا: نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكة.

فصل: ولها تسعة أسماء: أحدها: سورة التوبة. والثاني: براءة وهذان مشهوران بين الناس.


والثالث: سورة العذاب، قاله حذيفة. والرابع: المُقَشْقِشَة، قاله ابن عمر. والخامس: سورة البَحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين، قاله المقداد بن الأسود. والسادس: الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، قاله ابن عباس. والسابع: المبعثِرة، لأنها بعثرت أخبار الناس وكشفت عن سرائرهم، قاله الحارث بن يزيد وابن إسحاق. والثامن: المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم، قاله قتادة.
والتاسع: الحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، قاله الزّجّاج.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٣٦٤ و ٤٦٠٥ و ٤٦٥٤ و ٦٧٤٤ ومسلم ١٦١٨ ح ١١ و ١٦١٨ ح ١٣. وأبو داود ٢٨٨٨ والترمذي ٣٠٤٤ و ٣٠٤٥ من حديث البراء.
__________
(١) سورة التوبة: ١٢٨.
(٢) سورة التوبة: ٢٥.
(٣) سورة التوبة: ٤١.
(٤) سورة التوبة: ٤٠.
230

فصل: وفي سبب امتناعهم من كتابة التسمية في أولها ثلاثة أقوال:


(٦٦٣) أحدها: رواه ابن عباس، قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى (الأنفال) وهي من المثاني، وإلى (براءة) وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ؟ فقال: كان رسول الله ﷺ إذا أُنزل عليه الشيء يدعو بعضَ مَن يكتب، فيقول: «ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»، وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل بالمدينة، و (براءة) من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقُبِض رسول الله ﷺ ولم يُبيِّن لنا أنها منها، فظننا أنها منها فمن ثَمَّ قرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما: «بسم الله الرحمن الرحيم». وذُكر نحو هذا المعنى عن أُبَيِّ بن كعب. قال الزجاج: والشبه الذي بينهما، أن في (الأنفال) ذكر العهود، وفي (براءة) نقضها. وكان قتادة يقول: هما سورة واحدة.
والثاني: رواه محمد ابن الحنفية، قال: قلت لأبي: لِمَ لم تكتبوا في (براءة) «بسم الله الرحمن الرحيم» ؟ فقال: يا بنيَّ، إن (براءة) نزلت بالسيف، وإن «بسم الله الرحمن الرحيم» أمانٌ. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين.
والثالث: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كتب في صلح الحديبية «بسم الله الرحمن الرحيم»، لم يقبلوها وردُّوها، فما ردها الله عليهم «١»، قاله عبد العزيز بن يحيى المكي.

فصل: فأما سبب نزولها.


(٦٦٤) فقال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً بَنَتْها مع رسول الله ﷺ فأمره الله تعالى بالقاء عهودهم إليهم، فأنزل براءة في سنة تسع، فبعث رسول الله أبا بكر أميراً على الموسم ليقيم للناس
ضعيف، أخرجه أبو داود ٧٨٦ و ٧٨٧ والترمذي ٣٠٨٦ والنسائي في «الكبرى» ٨٠٠٧ وابن حبان ٤٣ والحاكم ٢/ ٢٢١ وابن أبي داود في «المصاحف» ص ٣٩ والبغوي ١٠٢٨- بترقيمي- والبيهقي في «السنن» ٢/ ٤٢ و «الدلائل» ٧/ ١٥٢- ١٥٣ من طرق عن عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن عباس به.
وإسناده ضعيف. مداره على يزيد الفارسي. قال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول. أي حيث يتابع، ولم يتابع على هذا الحديث. وقال العلامة أحمد شاكر في «تخريج المسند» ٣٩٩ ما ملخصه: إنه لا أصل له لأمور:
أولها جهالة يزيد الفارسي حيث تفرد به. ثانيها: فيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي.
ثالثها: فيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان- كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك. فلا علينا إذا قلنا: إنه حديث لا أصل له. ونقل كلامه الشيخ شعيب في «الإحسان» ١/ ٢٣٢ ووافقه.
وذكره الألباني في «ضعيف أبي داود» ٧٨٦ و ٧٨٧. وأما الحاكم فقال: صحيح على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: حديث حسن وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٠٧٥ و ١٠٢٨ و «تفسير الشوكاني» ١٠٧٥ بتخريجنا.
ذكره ابن هشام في «السيرة» ٤/ ١٤٥- ١٤٦ بأتم منه عن ابن إسحاق وهذا معضل. وورد من مرسل السدي، أخرجه الطبري ١٦٣٩٢. وورد من مرسل أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، أخرجه الطبري ١٦٣٩١ بنحوه. فهذه الروايات مرسلة لا تقوم بها حجة، فإن الصحيح أن أبا بكر أتبع بعلي من دون أن يرجع أبو بكر.
وانظر «أحكام القرآن» ١٠٨٤ بتخريجنا.
__________
(١) لا يصح هذا السبب: وهو رأي لعبد العزيز، وليس بشيء وحديث صلح الحديبية متفق عليه. وتقدم.
231
الحج في تلك السنة، وبعث معه صدراً من (براءة) ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار دعا رسول الله ﷺ علياً، فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذِّن في الناس بذلك»، فخرج عليٌّ على ناقة رسول الله ﷺ العضباء حتى أدرك أبا بكر، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله، أُنزِل في شأني شيء؟
قال: «لا، ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني، أما ترضى أنك كنتَ صاحبي في الغار، وأنك صاحبى على الحوض» ؟ قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر أميراً على الحج، وسار علي ليؤذِّن ب «براءة».
فصل: وفي عدد الآيات التي بعثها رسول الله ﷺ من أول براءة خمسة أقوال: أحدها: أربعون آية، قاله عليٌّ عليه السلام. والثاني: ثلاثون آية، قاله أبو هريرة. والثالث: عشر آيات، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: سبع آيات، رواه ابن جريج عن عطاء. والخامس: تسع آيات، قاله مقاتل.
فصل: فان توهَّم مُتَوهِّمٌ أن في أخذ (براءة) من أبي بكر، وتسليمها إلى عليٍّ، تفضيلاً لعليٍّ على أبي بكر، فقد جهل لأن النبي ﷺ أجرى العرب في ذلك على عادتهم. قال الزجاج: وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها، أن يتولىَّ ذلك على القبيلة رجل منها فكان. وجائز أن تقول العرب إذا تلا عليها نقضَ العهد مَن ليس من رهط النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود، فأزاح النبيّ ﷺ العلّة بما فعل. وقال عمرو بن بحر: ليس هذا بتفضيل لعليٍّ على أبي بكر، وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حَلِّ العقد، وكان لا يتولىَّ ذلك إلا السَّيِّدُ منهم، أو رجل من رهطه دَنِيّاً، كأخ، أو عم وقد كان أبو بكر في تلك الحَجة الإمام، وعليٌّ يأتمُّ به، وأبو بكر الخطيب، وعليّ يستمع.
(٦٦٥) وقال أبو هريرة: بعثني أبو بكر في تلك الحجة مع المؤذِّنين الذين بعثهم يؤذِّنون بمنى:
أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان فأذَّن معنا علي ب (براءة) وبذلك الكلام.
(٦٦٦) وقال الشعبي: بعث رسول الله ﷺ علياً يؤذن بأربع كلمات: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ألا ولا يطوف بالبيت عريان، ألا ولا يدخل الجنة إلا مسلم، ألا ومن كانت بينه وبين محمّد
صحيح. أخرجه البخاري ٣١٧٧ و ٤٦٥٥ و ٤٦٥٦ ومسلم ١٣٤٧ وأبو داود ١٩٤٦ والنسائي ٧٦ والبيهقي ٥/ ٨٧ والبغوي في «التفسير» ١٠٣١- بترقيمي- من طرق عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة به، واللفظ للبخاري في روايته: الثانية والثالثة.
جيد. أخرجه الطبري ١٦٣٩، وفي الباب روايات. وللحديث شواهد: أخرجه الترمذي ٣٠٩٢ والحاكم ٣/ ٥٢ والطبري ١٦٣٨٧ و ١٦٣٩٣ من طرق عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي به، وإسناده حسن، زيد بن يثيع، قال عنه الحافظ في «التقريب» : ثقة. وأما الذهبي فقال في «الميزان» ٣٠٣٢: ما روى عنه سوى أبي إسحاق. وهذا منه إشارة إلى جهالته. قلت: ذكره الحافظ في «تهذيب التهذيب ٣/ ١٣٦٩، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث اه ملخصا. فينبغي أن يكون حسن الحديث، لا سيما، وقد توبع على هذا المتن، فقد ورد من طريق الحارث الأعور عن علي. أخرجه الطبري ١٦٣٨٥، وإسناده ضعيف لضعف الحارث، وكرره ١٦٣٨٨ من هذا الوجه. وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد ٢/ ٢٩٩ والحاكم ٢/ ٣٣١ وإسناده لا بأس به، وصححه الحاكم والذهبي. الخلاصة:
هو حديث حسن أو صحيح بمجموع طرقه وشواهده، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني»
١٠٨١ بتخريجي، وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي!. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وانظر أحكام القرآن ١٠٨٣ بتخريجنا.
232
مدَّة فأجله إلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله».
فصل: فأما التفسير، فقوله تعالى: بَراءَةٌ قال الفراء: هي مرفوعة باضمار «هذه»، ومثله سُورَةٌ أَنْزَلْناها «١». وقال الزجاج: يقال: بَرِئْتُ من الرجل والدَّيْن براءةً، وبرئتُ من المرض وبرأتُ أيضاً أبرأُ برءا، وقد رووا: برأت أبرأ بروءا. ولم نجد في ما لامه همزة: فَعَلْتُ أفعل، إلا هذا الحرف. ويقال: بريت القلم، وكل شيء نحتَّه: أبريه بَرْياً، غير مهموز. وقرأ أبو رجاء، ومورق، وابن يعمر: «براءةً» بالنصب. قال المفسرون: والبراءة هاهنا: قطع الموالاة، وارتفاع العصمة، وزوال الأمان. والخطاب في قوله تعالى: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي يتولَّى المعاهدة، وأصحابُه راضون فكأنهم بالرضا عاهدوا أيضاً وهذا عام في كل من عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل: هم ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو جذيمة.
[سورة التوبة (٩) : آية ٢]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
قوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي: انطلقوا فيها آمنين لا يقع بكم مِنَّا مكروه.
إن قال قائل: هذه مخاطبة شاهد، والآية الأولى إخبار عن غائب، فعنه جوابان:
أحدهما: أنه جائز عند العرب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب. قال عنترة:
شَطَّتْ مَزارُ العاشِقينَ فأصبَحتْ عَسِراً عليَّ طِلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ «٢»
هذا قول أبي عبيدة. والثاني: أن في الكلام إضماراً، تقديره: فقل لهم: سيحوا في الارض، أي: اذهبوا فيها، وأقبلوا، وأدبروا، وهذا قول الزجاج.
واختلفوا فيمن جُعلت له هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال «٣» : أحدها: أنها أمان لأصحاب
(١) سورة النور: ٢. [.....]
(٢) البيت منسوب إلى عنترة، في شرح القصائد السبع الطوال ٢٩٩ وقوله: شطت: أي بعدت.
(٣) قال الطبري رحمه الله في تفسيره ٦/ ٣٠٥: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله ﷺ ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه ﷺ بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً... [التوبة: ٤]. فإن ظن ظان أن قول الله تعالى ذكره فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. [التوبة: ٥]. يدل على خلاف ما قلنا في ذلك إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم، قتل كل مشرك فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما ظنه من ظن أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله ﷺ أو لم يكن كان له منه عهد وذلك قوله كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: ٧]. فهؤلاء مشركون، وقد أمر الله نبيه ﷺ والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم، ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم. وبعد نفي الأخبار المتظاهرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم.
«ومن كان بينه وبين رسول الله ﷺ عهد فعهده إلى مدته». أوضح دليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه ﷺ بنقص عهد قوم كان عهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه. وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجل عهده محدودا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا فإن رسول الله ﷺ كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب. ا. هـ.
العهد، فمن كان عهده أكثر منها، حُطَّ إليها، ومن كان عهده أقل منها، رفع إليها، ومن لم يكن له عهد، فأجله انسلاخ المحرَّم خمسون ليلة، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. والثاني: أنها للمشركين كافَّةً، مَنْ له عهد، ومَنْ ليس له عهد، قاله مجاهد، والزهري، والقرظي. والثالث: أنها أجل لمن كان رسول الله ﷺ قد آمنه أقلَّ من أربعة أشهر، أو كان أمانه غير محدود فأما من لا أمان له، فهو حرب، قاله ابن إِسحاق. والرابع: أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد فأما أرباب العهود، فهم على عهودهم إلى حين انقضاء مُددهم، قاله ابن السائب. ويؤكده ما روي أن علياً نادى يومئذ ومَن كان بينه وبين رسول الله عهد، فعهده إلى مدَّته. وفي بعض الألفاظ: فأجله أربعة أشهر.
واختلفوا في مدة هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال «١» : أحدها: أنها الأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله ابن عباس. والثاني: أن أولها يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، قاله مجاهد، والسدي، والقرظي. والثالث: أنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لأن هذه الآية نزلت في شوال، قاله الزهري. قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا أضعف الأقوال، لأنه لو كان كذلك، لم يجز تأخير إعلامهم به إلى ذي الحجة، إذ كان لا يلزمهم الأمر إلا بعد الإعلام. والرابع: أن أولها العاشر من ذي القعدة، وآخرها العاشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك اليوم، ثم صار في السنة الثانية في العشر من ذي الحجة.
(٦٦٧) وفيها حجّ رسول الله ﷺ وقال: «إن الزمان قد استدار»، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي: وإن أُجِّلْتُمْ هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا الله.
قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ قال الزجاج: الأجود فتح «أن» على معنى: اعلموا أن، ويجوز كسرها على الاستئناف. وهذا ضمان من الله نصرة المؤمنين على الكافرين.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)
حديث صحيح. أخرجه البخاري ٣١٩٧ و ٤٦٦٢ و ٥٥٥٠. ومسلم ٢٩١٦٧٩. وأبو داود ١٩٤٧. وأحمد ٥/ ٣٧ والبيهقي ٥/ ١٦٦ من حديث أبي بكرة. وتقدم مطولا.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في تفسيره ٦/ ٣٠٨: وأما الأشهر الأربعة، فإنها كانت أجل وكان ابتداؤها يوم الحج الأكبر، وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الآخر، فذلك أربعة أشهر متتابعة، جعل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم فيها السياحة في الأرض ينجون حيث شاؤوا، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحد بحرب ولا قتل ولا سلب ا. هـ.
234
قوله تعالى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: إعلام ومنه أَذان الصلاة. وقرأ الضحاك، وأبو المتوكل، وعكرمة، والجحدري، وابن يعمر: «وَإِذْنٌ» بكسر الهمزة وقصرها ساكنة الذال من غير ألف.
قوله تعالى: إِلَى النَّاسِ أي: للناس. يقال: هذا إعلام لك، وإليك. والناس ها هنا عامّ في المؤمنين والمشركين. وفي يوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنه يوم عرفة، قاله عمر بن الخطاب، وابن الزبير، وأبو جحيفة، وطاوس، وعطاء. والثاني: يوم النحر، قاله أبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن أبي أوفى، وابن المسيب، وابن جبير، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وابن زيد، والسدي في آخرين. وعن علي، وابن عباس، كالقولين. والثالث: أنه أيام الحج كلُّها، فعبَّر عن الأيام باليوم، قاله سفيان الثوري. قال سفيان. كما يقال: يوم بعاث، ويوم الجمل، ويوم صفِّين يراد به: أيام ذلك، لان كل حرب من هذه الحروب دامت أياماً. وعن مجاهد، كالأقوال الثلاثة. وفي تسميته بيوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنه سمَّاه بذلك لأنه اتفق في سنة حج فيها المسلمون والمشركون، ووافق ذلك عيدَ اليهود والنصارى، قاله الحسن. والثاني: أن الحج الأكبر: هو الحج، والأصغر: هو العمرة، قاله عطاء، والشعبي. والثالث: أن الحج الأكبر: القِران، والأصغر: الإفراد، قاله مجاهد.
قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ وقرأ الحسن، ومجاهد، وابن يعمر: «إِن الله» بكسر الهمزة. مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي: من عهد المشركين، فحذف المضاف. وَرَسُولِهِ رفعٌ على الابتداء، وخبره مضمر على معنى: ورسولُه أيضا بريء. وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن يعمر، وزيد عن يعقوب: «ورسولَه» بالنصب. ثم رجع إلى خطاب المشركين بقوله تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ أي: رجعتم عن الشرك، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الإيمان.
(١) قال الطبري رحمه الله تعالى في «تفسيره» ٦/ ٣١٦: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة قول من قال: «يوم الحج الأكبر، يوم النحر» تظاهرت الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ أن عليا نادى بما أرسله به رسول الله ﷺ من الرسالة إلى المشركين، وتلا عليهم (براءة) يوم النحر، هذا، مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله ﷺ أنه قال يوم النحر: أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر. وبعد فإن «اليوم» إنما يضاف إلى المعنى بالذي يكون فيه، كقول الناس «يوم عرفة» وذلك يوم وقوف الناس بعرفة، «يوم الأضحى» وذلك يوم يضحون فيه، و «يوم الفطر» وذلك يوم يفطرون فيه. وكذلك «يوم الحج» يوم يحجون فيه، وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر، لأن في ليلة نهار يوم النحر، الوقوف بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر، وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج. فأما يوم عرفة، فإنه وإن كان فيه الوقوف بعرفة، فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، والحج كله يوم النحر. وأما ما قال مجاهد: من أن «يوم الحج» إنما هو أيامه كلها، فإن ذلك وإن كان جائزا في كلام العرب، فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معانيه، بل الأغلب على معنى «اليوم» عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتاب بلسانه.
(٢) وقال الطبري رحمه الله تعالى في «تفسيره» ٦/ ٣١٨: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قول من قال «الحج الأكبر» «الحج» لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها، فقيل له: «الأكبر» لذلك، وأما «الأصغر» فالعمرة لأن عملها أقل من عمل الحج، فلذلك قيل لها «الأصغر» لنقصان عملها من عمله.
235

[سورة التوبة (٩) : آية ٤]

إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال أبو صالح عن ابن عباس: فلما قرأ علي (براءة)، قالت بنو ضمرة: ونحن مثلهم أيضاً؟ قال: لا، لأن الله تعالى قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية.
وقال مجاهد: هم قوم كان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد ومدة، فأُمر أن يفي لهم. قال الزجاج: معنى الكلام: وقعت البراءة من المعاهدين الناقضين للعهود، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم، فليسوا داخلين في البراءة ما لم ينقضوا العهد. قال القاضي أبو يعلى: وفضل الخطاب في هذا الباب: أنه قد كان بين رسول الله ﷺ وبين جميع المشركين عهد عامٌّ، وهو أن لا يُصدَّ أحدٌ عن البيت، ولا يُخافَ أحد في الشهر الحرام، فجعل الله عهدهم أربعة أشهر وكان بينه وبين أقوام منهم عهود إلى آجال مسمَّاة، فأُمر بالوفاء لهم وإتمام مدّتهم إذا لم يخش غدرهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فيها قولان: أحدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون. والثاني: أنها الأربعة الأشهر التي جُعلت لهم فيها السياحة، قاله الحسن في آخرين، فعلى هذا، سميت حُرُماً لأن دماء المشركين حرِّمت فيها.
قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ أي: مَن لم يكن له عهد حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قال ابن عباس: في الحلّ والأشهر الحرم. قوله تعالى: وَخُذُوهُمْ أي: ائسروهم والأخيذ: الأسير. وَاحْصُرُوهُمْ أي:
احبسوهم والحصر: الحبس. قال ابن عباس: إن تحصَّنوا فاحصروهم. قوله تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ قال الأخفش: أي: على كل مرصد فألقى «على» وأعمل الفعل، قال الشاعر:
نُغالي اللحمَ للأضيافِ نِيئاً ونرخصه إذ نَضِجَ القُدُور «١»
المعنى: نغالي باللحم، فحذف الباء كما حذف «على». وقال الزجاج: «كل مرصد» ظرف، كقولك: ذهبتُ مذهباً، فلستَ تحتاج أن تقول في هذه إلا ما تقوله في الظروف، مثل: خلف، وقُدّام.
قوله تعالى: فَإِنْ تابُوا أي: من شركهم. وفي قوله تعالى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ قولان: أحدهما: اعترفوا بذلك. والثاني: فعلوه.
فصل: واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن حكم الأسارى كان وجوبَ قتلهم، ثم نسخ بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً «٢»، قاله الحسن، وعطاء في آخرين. والثاني: بالعكس، وأنه كان الحكم في الأسارى: أنه لا يجوز قتلهم صبرا، وإنما يجوز المنّ
(١) البيت غير منسوب في «اللسان» غلى. نغالي للحم: نشتريه غاليا ثم نبذله ونطعمه إذا نضج في قدورنا.
(٢) سورة محمد: ٤.
أو الفداء بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ثم نُسخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، قاله مجاهد، وقتادة. والثالث: أن الآيتين محكمتان، والأسير إذا حصل في يد الإمام، فهو مخيَّر، إن شاءَ مَنَّ عليه، وإن شاء فاداه، وإن شاء قتله صبراً، أيَّ ذلك رأى فيه المصلحة للمسلمين فعلَ، هذا قول جابر بن زيد، وعليه عامة الفقهاء، وهو قول الإمام أحمد.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ قال المفسرون: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتلهم استأمنك يبتغي أن يسمع القرآن وينظر فيما أُمر به ونُهي عنه، فأَجِرْه، ثم أبلغه الموضع الذي يأمن فيه. وفي قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: أن المعنى: ذلك الذي أمرناك به من أن يُعرَّفوا ويُجاروا لجهلهم بالعلم. والثاني: ذلك الذي أمرناك به من ردِّه إلى مأمنه إذا امتنع من الإيمان، لأنهم قوم جهلة بخطاب الله.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)
قوله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ أي: لا يكون لهم ذلك، إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وفيهم ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنهم بنو ضمرة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم قريش، قاله ابن عباس أيضاً. وقال قتادة: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبيُّ الله ﷺ زمن الحديبية، فنكثوا وظاهروا المشركين. والثالث: أنهم خزاعة، قاله مجاهد.
(٦٦٨) وذكر أهل العلم بالسِّيَر أنّ رسول الله ﷺ لما صالح سهيل بن عمرو في غزوة الحديبية، كتب بينه وبينه: «هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكفُّ بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال، وأن بيننا عيبةً مكفوفةً، وأنَّه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش
انظر السيرة النبوية ٤/ ٢٦- ٣١.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره»
٦/ ٣٢٤: وأولى الأقوال عندي، قول من قال: هم بعض بني بكر من كنانة، ممن كان أقام على عهده، ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله ﷺ وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش، حين نقضوه بمعونتهم حلفاء من بني الدّئل، على حلفاء رسول الله ﷺ من خزاعة. وإنما قلت: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام، ما استقاموا على عهدهم، وقد بينا أن هذه الآيات إنما نادى بها علي في سنة تسع من الهجرة، وذلك بعد فتح مكة بسنة، فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافر يومئذ بينه وبين رسول الله ﷺ عهد، فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده، لأن من كان منهم من ساكني مكة، كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول الآيات.
وعقدها فعل، وأنَّه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه ردَّه إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يردُّوه، وأن محمداً يرجع عنَّا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا في قابل في أصحابه، فيقيم بها ثلاثاً لا يدخل علينا بسلاح، إلا سلاح المسافر، السيوفَ في القُرب»، فوثبتْ خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل في عهد قريش وعقدها. ثم إن قريشاً أعانت بني بكر على خزاعة بالرجال والسلاح فبيَّتوا خزاعة ليلاً، فقتلوا منهم عشرين رجلاً. ثم إن قريشاً ندمت على ما صَنَعَتْ، وعلموا أنَّ هذا نقضٌ للعهد والمدة التي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج قوم من خزاعة إلى رسول الله ﷺ فأخبروه بما أصابهم، فخرج إليهم وكانت غزاة الفتح. قال أبو عبيدة:
الإسلال: السرقة، والإغلال: الخيانة. قال ابن الأعرابي: وقوله: «وأن بيننا عيبة مكفوفة» مَثَل، أراد:
أنَّ صُلْحَنَا مُحْكَم مُسْتَوْثَقٌ منه، كأنه عيبة مشرجة. وزعم بعض المفسّرين أنّ قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نُسخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
[سورة التوبة (٩) : آية ٨]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨)
قوله تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ قال الزجاج: المعنى: كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم، فحذف ذلك، لأنه قد سبق، قال الشاعر:
وخَبَّرُتماني أنَّما الموتُ بالقُرى فكيفَ وهذي هضبةٌ وقليبُ «١»
أي فكيف مات وليس بقرية؟ ومثله قول الحطيئة:
فكيف ولم أَعْلَمْهُمُ خذلوكُمُ على مُعظَمٍ ولا أديمَكُمُ قَدُّوا «٢»
أي: فكيف تلومونني على مدح قوم؟ واستغنى عن ذكر ذلك، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدلّ على ما أضمر. وقوله تعالى: يَظْهَرُوا يعني: يقدروا ويظفروا.
وفي قوله تعالى: لا يَرْقُبُوا ثلاثة أقوال: أحدها: لا يحفظوا، قاله ابن عباس. والثاني: لا يخافوا، قاله السدي. والثالث: لا يراعوا، قاله قطرب.
وفي الإلِّ خمسة أقوال «٣» : أحدها: أنه القرابة، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والسدي، ومقاتل، والفراء، وأنشدوا:
إنَّ الوشاة كثيرٌ إن أطعتهمُ لا يرقبون بنا إلاً ولا ذِمَمَا
وقال الآخر:
(١) البيت لكعب بن سعد الغنوي من مرثيته الشهيرة في «الأصمعيات» ٩٩.
(٢) البيت للحطيئة، ديوانه: ١٤٠ وقوله خذلوكم على معظم أي: لم يخذلوكم في أمر حدث، وقوله: ولا أديمكم قدّوا، أي: لم يقعوا في حبكم.
(٣) قال ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٤٢٠: الصواب قول من قال إلّا: الله عز وجل. هذا القول هو الأشهر والأظهر وعليه الأكثر اه.
لعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيش كالِّ السَّقْبِ من رَأْلِ النَّعامِ «١»
والثاني: أنه الجوار، قاله الحسن. والثالث: أنه الله عزّ وجلّ، رواه ابن أبي نجيج عن مجاهد، وبه قال عكرمة. والرابع: أنه العهد، رواه خصيف عن مجاهد، وبه قال ابن زيد، وأبو عبيدة.
والخامس: أنه الحِلْف، قاله قتادة. وقرأ عبد الله بن عمرو وعكرمة وأبو رجاء وطلحة بن مصرّف:
«إيلاً» بياء بعد الهمزة. وقرأ ابن السميفع والجحدري: «ألاً» بفتح الهمزة وتشديد اللام.
وفي المراد بالذمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها العهد، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك في آخرين. والثاني: التذمم ممن لا عهد له، قاله أبو عبيدة، وأنشد:
لاَ يَرْقُبُوْنَ بِنَا إلاً ولا ذِمَمَا
والثالث: الأمان، قاله اليزيديّ، واستشهد بقوله صلى الله عليه وسلم:
(٦٦٩) «ويسعى بذمتهم أدناهم».
قوله تعالى: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يرضونكم بأفواههم في الوفاء، وتأبى قلوبهم إلا الغدر. والثاني: يرضونكم بأفواههم في العِدَة بالإيمان، وتأبى قلوبهم إلا الشرك. والثالث:
يرضونكم بأفواههم في الطاعة، وتأبى قلوبهم إلا المعصية، ذكرهنَّ الماوردي.
قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ قال ابن عباس: خارجون عن الصّدق، ناكثون للعهد.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩ الى ١١]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
قوله تعالى: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه، قاله مجاهد. والثاني: أنهم قوم من اليهود، قاله أبو صالح. فعلى الأول، آيات الله: حججه. وعلى الثاني: هي آيات التوراة. والثمن القليل: ما حصَّلوه بدلاً من الآيات. وفي وصفه بالقليل وجهان: أحدهما: لأنه حرام، والحرام قليل. والثاني: لأنه من عَرَض الدنيا الذي بقاؤه قليل. وفي قوله تعالى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: عن بيته، وذلك حين منعوا النبيّ ﷺ بالحديبية دخول مكّة. والثاني: عن دينه بمنع الناس منه. والثالث: عن طاعته في الوفاء بالعهد.
صحيح. أخرجه أبو داود ٤٥٣٠ والنسائي ٨/ ٢٣ وأحمد ١/ ١١٩ و ١٢٢ وأبو يعلى ٣٣٨ من حديث علي وهو حديث صحيح، وتقدم.
__________
(١) البيت منسوب إلى حسان بن ثابت، ديوانه ٤٠٧، و «اللسان». ألل.
السقب: ولد الناقة ساعة يولد. الرأل: ولد النعام.

[سورة التوبة (٩) : آية ١٢]

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
قوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ. قال ابن عباس:
(٦٧٠) نزلت في أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله ﷺ أن يسير إليهم فينصر خزاعة، وهم الذين همّوا بإخراج الرّسول صلى الله عليه وسلم. فأما النّكث، فمعناه: النّقض. والأيمان ها هنا: العهود. والطعن في الدِّين: أن يعاب، وهذا يوجب قتل الذميّ إذا طعن في الإسلام، لأن المأخوذ عليه أن لا يطعن فيه «١».
قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أئمة» بتحقيق الهمزتين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: بتحقيق الأولى وتليين الثانية. والمراد بأئمة الكفر:
رؤوس المشركين وقادتهم. إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي: لا عهود لهم صادقة هذا على قراءة من فتح الألف، وهم الأكثرون. وقرأ ابن عامر «لا إِيمان لهم» بالكسر وفيها وجهان ذكرهما الزجاج:
أحدهما: أنه وصف لهم بالكفر ونفي الإيمان. والثاني: لا أمان لهم، تقول: آمنته إيماناً، والمعنى:
فقد بطل أمانكم لهم بنقضهم.
وفي قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ قولان: أحدهما: عن الشّكر. والثاني: عن نقض العهود.
عزاه المصنف لابن عباس، ولم أقف على إسناده وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٠ بدون إسناد عن ابن عباس. وأخرجه الطبري ١٦٥٤٠ من حديث قتادة مرسلا بنحوه. وقال ابن كثير في «تفسيره» ٢/ ٤٢٠:
والصحيح أن الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم اه.
__________
(١) قال القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» ٨/ ٧٧- ٧٩: استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين، إذ هو كافر، والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يتعرض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه. فذهب مالك والشافعي وابن المنذر إلى قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم. وحكي عن النعمان أنه قال: لا يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الذمي إذا طعن في الدين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك لقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الآية فأمر بقتلهم وقتالهم، وهو مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: إنه يستتاب، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النكث، لأن الله عز وجل إنما أمر بقتلهم بشرطين أحدهما نقضهم العهد. والثاني طعنهم في الدين.
وأكثر العلماء على أن من سب النبي ﷺ من أهل الذمة، أو عرّض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فإنه يقتل. فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا. إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة فإنهم قالوا لا يقتل ما هو عليه من الشرك أعظم. ولكن يؤدب ويعزر والحجة عليه قوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا الآية.
وقوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ. المراد صناديد قريش- في قول بعض العلماء- كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف، وهذا بعيد، فإن الآية في سورة (براءة) وحين نزلت وقرئت على الناس كان قد استأصل شأفة قريش فلم يبق إلا مسلم أو مسالم. فيحتمل أن يكون المراد فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين يكون أصلا ورأسا في الكفر فهو من أئمة الكفر على هذا. ويحتمل أن يعني به المتقدمون والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال لأتباعهم وأنهم لا حرمة لهم. ا. هـ.
وفي «لعل» قولان: احدهما: أنها بمعنى الترجِّي، المعنى: ليرجى منهم الانتهاء، قاله الزجاج.
والثاني: أنها بمعنى: «كي»، قاله أبو سليمان الدمشقي.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٣ الى ١٥]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
قوله تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً قال الزجاج: هذا على وجه التوبيخ، ومعناه الحضّ على قتالهم. قال المفسرون: وهذا نزل في نقض قريش عهد رسول الله ﷺ الذي عاهدهم بالحديبية حيث أعانوا على خزاعة.
وفي قوله تعالى: وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ قولان: أحدهما: أنهم أبو سفيان في جماعة من قريش، كانوا فيمن همّ بإخراج الرّسول ﷺ من مكة. والثاني: انهم قوم من اليهود، غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهده وهمَّوا بمعاونة المنافقين على إخراجه من المدينة.
قوله تعالى: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه قولان: أحدهما: بدءوكم باعانتهم على حلفائكم، قاله ابن عباس. والثاني: بالقتال يوم بدر، قاله مقاتل.
قوله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ قال الزجاج: أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه؟! فمكروه عذاب الله أحق أن يُخشى إن كنتم مصدِّقين بعذابه وثوابه.
قوله تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال ابن عباس، ومجاهد: يعني خزاعة.
قوله تعالى: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ أي: كَربها وَوجْدها بمعونة قريشٍ بني بكر عليها.
قوله تعالى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ قال الزجاج: هو مستأنف وليس بجواب «قاتِلوهم».
وفيمن عُنِي به قولان: أحدهما: بنو خزاعة، والمعنى: ويتوب الله على من يشاء من بني خزاعة، قاله عكرمة. والثاني: أنه عام في المشركين كما تاب على أبي سفيان، وعكرمة، وسهيل. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بنيّات المؤمنين، حَكِيمٌ فيما قضى.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٦]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا في المخاطب بهذا قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون، خوطبوا بهذا حين شق على بعضهم القتال، قاله الأكثرون. والثاني: أنهم قوم من المنافقين كانوا يسألون رسول الله ﷺ الخروج معه إلى الجهاد تعذيراً، قاله ابن عباس. وإنما دخلت الميم في الاستفهام، لأنه استفهام معترض في وسط الكلام، فدخلت لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. قال الفراء: ولو أُريد به الابتداء، لكان إما بالألف، أو ب «هل»، ومعنى الكلام: أن يتركوا بغير امتحان يبَين به الصادق من
الكاذب. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ أي: ولمّا تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم وقد كان يعلم ذلك غيباً، فأراد إظهار ما علم ليجازي على العمل. فأما الوليجة، فقال ابن قتيبة: هي البطانة من غير المسلمين، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطاً ووادّاً وأصله من الولوج. قال أبو عبيدة: وكل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة فيهم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٧ الى ١٨]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
قوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «مسجد الله» على التوحيد، «إنما يعمر مساجدَ الله» على الجمع. وقرأ عاصم، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي على الجمع فيهما.
(٦٧١) وسبب نزولها أن جماعة من رؤساء قريش أُسروا يوم بدر فيهم العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله ﷺ فعيَّروهم بالشِّرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبّخ العبّاس بقتال رسول الله ﷺ وقطيعة الرّحم، فقال العبّاس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقالوا:
وهل لكم من محاسن؟ قالوا: نعم، لنحن أفضل منكم أجراً إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل في جماعة.
وفي المراد بالعِمارة قولان: أحدهما: دخوله والجلوس فيه. والثاني البناء له وإصلاحه فكلاهما محظور على الكافر. والمراد من قوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أي: يجب على المسلمين منعهم من ذلك. قال الزّجّاج: وقوله تعالى: شاهِدِينَ حال. المعنى: ما كانت لهم عمارته في حال إقرارهم بالكفر، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لأن كفرهم أذهب ثوابها.
فان قيل: كيف يشهدون على أنفسهم بالكفر، وهم يعتقدون أنهم على الصواب؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه قول اليهودي: أنا يهودي، وقول النصراني: أنا نصراني، قاله السدي. والثاني:
أنهم ثبَّتوا على أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو حق لا يخفى على مميِّز، فكانوا بمنزلة من شهد على نفسه. والثالث: أنهم آمنوا بأنبياء شهدوا لمحمّد ﷺ بالتصديق، وحرَّضوا على اتِّباعه، فلما آمنوا بهم وكذِّبوه، دلُّوا على كفرهم، وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم بالكفر، لأن الشهادة هي تبيين وإظهار، ذكرهما ابن الأنباري.
فان قيل: ما وجه قوله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ولم يذكر الرسول، والإيمانُ لا يتم إلا به؟ فالجواب: أن فيه دليلاً على الرّسول، لقوله تعالى: وَأَقامَ الصَّلاةَ
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩١ من غير غزو لأحد. وانظر ما يأتي.
أي: الصلاة التي جاء بها الرسول، قاله الزجاج. فان قيل: فَعَسى ترجّ، وفاعل هذه الخصال مهتد بلا شك. فالجواب أن «عسى» من الله واجبة، قاله ابن عباس. فان قيل: قد يعمر مساجد الله من ليس فيه هذه الصفات. فالجواب: أن المراد أنه من كان على هذه الصفات المذكورة، كان من أهل عمارتها وليس المراد أن من عمرها كان بهذه الصّفة.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ في سبب نزولها ستة أقوال:
(٦٧٢) أحدها: رواه مسلم في «صحيحه» من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الاسلام إلا أن أسقيَ الحاجَّ، وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الاسلام إلا أن أعْمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ وهو يوم الجمعة، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله ﷺ فيما اختلفتم فيه، فنزلت هذه الآية.
(٦٧٣) والثاني: أن العباس بن عبد المطلب قال يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نَعمُر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني»
، فنزلت هذه الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(٦٧٤) والثالث: أنّ المشركين قالوا: عمارة البيت الحرام، والقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله، فنزلت هذه الآية، رواه عطية العوفي عن ابن عباس.
(٦٧٥) والرابع: أن علياً والعباس وطلحة- يعني سادن الكعبة- افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب
صحيح أخرجه مسلم ١٨٧٩ وابن حبان ٤٥٩١ والطبري ١٦٥٥٧ عن النعمان بن بشير به.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٦٥٧٢ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وفيه إرسال بينهما.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٣ من رواية الوالبي عن ابن عباس.
ضعيف جدا، لكن يشهد لأصله، ما بعده. أخرجه الطبري ١٦٥٧٣ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي- وهو ضعيف- عن ابن عباس.
ورد من وجوه مرسلة متعددة. أخرجه الطبري ١٦٥٧٧ عن محمد بن كعب القرظي مرسلا. وأخرجه ١٦٥٧٨ عن الحسن. وبرقم ١٦٥٧٦ عن الشعبي، وبرقم ١٦٥٧٩ عن السدي. وذكره الواحدي في «أسباب النزول»
__________
(١) العاني: الأسير. [.....]
البيت، بيدي مفتاحه، ولو أشاء بتُّ فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية، والقائم عليها، ولو أشاء بتُّ في المسجد. وقال علي: ما أدري ما تقولون، لقد صليت ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، والشعبي، والقرظي.
(٦٧٦) والخامس: أنهم لما أُمروا بالهجرة قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة: أنا صاحب الكعبة فلا نهاجر، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله مجاهد.
(٦٧٧) والسادس: أن علياً قال للعباس: ألا تلحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألستُ في أفضلَ من الهجرة، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله مُرَّة الهَمْداني، وابن سيرين.
قال الزجاج: ومعنى الآية: أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله؟
فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. قال الحسن: كان يُنبذ زبيبٌ، فيسقُون الحاج في الموسم.
وقال ابن عباس: عمارة المسجد: تجميره، وتخليقه، فأخبر الله أن أفعالهم تلك لا تنفعهم مع الشرك، وسماهم ظالمين لشركهم.
قوله تعالى: أَعْظَمُ دَرَجَةً قال الزجاج: هو منصوب على التمييز. والمعنى: أعظم من غيرهم درجة. والفائز: الذي يظفر بأمنيته من الخير. فأما النعيم، فهو لين العيش. والمقيم: الدّائم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(٦٧٨) أحدها: أنه لما أُمر المسلمون بالهجرة، جعل الرجل يقول لأهله: إنا قد أُمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك، ومنهم من يتعلق به عياله وزوجته فيقولون: نَنْشُدك الله أن تدعنا إلى غير شيء، فيرقُّ قلبه فيجلس معهم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٦٧٩) والثاني: أنه لما أمر الله المؤمنين بالهجرة، قال المسلمون: يا نبي الله، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك عن ابن عباس.
٤٩٤ عن الحسن والشعبي والقرظي، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها وانظر ما يأتي. وانظر تفسير «ابن كثير» ٢/ ٤٢٤.
مرسل. أخرجه الطبري ١٦٥٨٢ عن مجاهد فهو ضعيف ويشهد لأصله ما قبله.
أخرجه الفريابي كما في «الدر» ٣/ ٣٩٥ عن ابن سيرين. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٥ عن ابن سيرين ومرّة بدون إسناد وانظر ما قبله.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة لأن روايه عن أبي صالح هو الكلبي، وقد كذبه غير واحد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٦ عن الكلبي مرسلا بدون إسناد.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية الضحاك، وهو لم يسمع من ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، فالخبر لا شيء.
(٦٨٠) والثالث: أنه لما قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة: أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر، نزلت هذه الآية والتي قبلها، هذا قول قتادة، وقد ذكرناه عن مجاهد.
(٦٨١) والرابع: أن نفراً ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، فنهى الله عن ولايتهم، وأنزل هذه الآية، قاله مقاتل.
(٦٨٢) والخامس: أنّ النبيّ ﷺ لما أمر الناس بالجهاز لنصرة خزاعة على قريش، قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، نعاونهم على قومنا؟ فنزلت هذه الآية، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٤]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الآية، في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٦٨٣) أحدها: أنها نزلت في الذين تخلَّفوا مع عيالهم بمكة ولم يهاجروا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٦٨٤) والثاني: أن علي بن أبي طالب قدم مكة، فقال لقوم: ألا تهاجرون؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن سيرين.
(٦٨٥) والثالث: أنه لما نزلت الآية التي قبلها، قالوا: يا رسول الله، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وعشيرتنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسرين في هذه الآية، وذكره بعضهم في الآية الأولى كما حكيناه عن ابن عباس.
فأما العشيرة، فهم الأقارب الأدنون. وروى أبو بكر عن عاصم «وعشيراتُكم» على الجمع. قال أبو علي: وجهه أن كل واحد من المخاطَبين له عشيرة، فاذا جمعت قلت: عشيراتكم وحجة من افرد: أن العشيرة واقعة على الجمع، فاستغنى بذلك عن جمعها. وقال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة: عشيرات، إنما يجمعونها على عشائر. والاقتراف بمعنى الاكتساب. والتربص: الانتظار.
وفي قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ قولان: أحدهما: أنه فتح مكة، قاله مجاهد والأكثرون، ومعنى الآية: إن كان المُقام في أهاليكم، وكانت الأموال التي اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها لفراقكم بلدكم وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ من الهجرة، فأقيموا غير مثابين، حتى
أثر قتادة لم أره، وأثر مجاهد أخرجه الطبري ١٦٥٨٢.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب.
لم أقف عليه.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٤٩٦ عن الكلبي بدون إسناد. وهو يضع الحديث.
مرسل تقدم قبل أحاديث.
عزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢/ ٢٥٧ للثعلبي عن مقاتل، وهذا معضل، ومقاتل متهم بالكذب.
تُفتح مكة، فيسقط فرض الهجرة. والثاني: أنه العقاب، قاله الحسن.
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٥]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)
قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي: في أماكن. قال الفراء: وكل جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان لم يُجْرَ، مثل، صوامع، ومساجد: وجُريَ «حنين» لأنه اسم لمذكَّر، وهو وادٍ بين مكة والطائف، وإذا سمَّيتَ ماءً أو وادياً أو جبلاً باسم مذكَّر لا علَّة فيه، أجريته، من ذلك: حنين، وبدر، وحِراء، وثَبِير، ودابق. ومعنى الآية: أنّ الله عزّ وجلّ أعلمهم أنهم إنما يغلبون بنصر الله لا بكثرتهم. وفي عددهم يوم حنين أربعة أقوال: أحدها: أنهم كانوا ستة عشر ألفاً، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: عشرة آلاف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: كانوا اثني عشر ألفاً، قاله قتادة، وابن زيد، وابن إسحاق، والواقدي. والرابع: أحد عشر ألفا وخمسمائة، قاله مقاتل. قال ابن عباس:
(٦٨٦) فقال ذلك اليوم سلمة بن سلامة بن وقش، وقد عجب لكثرة الناس: لن نُغلَب اليوم من قلّة، فساء رسول الله ﷺ كلامُه، ووُكلِوا إلى كلمة الرجل، فذلك قوله تعالى إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً. وقال سعيد بن المسيب: القائل لذلك أبو بكر الصديق. وحكى ابن جرير أنّ القائل لذلك رسول الله ﷺ «١». وقيل: بل العباس. وقيل: رجل من بني بكر.
قوله تعالى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي: برحبها. قال الفراء: والباء هاهنا بمنزلة «في» كما تقول: ضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها.
(الإشارة إلى القصة) قال أهل العلم بالسيرة: لما فتح رسول الله ﷺ مكة، تآمر عليه أشراف هوازن وثقيف، فجاؤوا حتى نزلوا أوطاس «٢»، وأجمعوا المسير إليه، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما التقَوا أعجبتهم كثرتُهم فهُزموا.
(٦٨٧) وقال البراء بن عازب: لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فأقبلوا بالسهام، فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عزاه البغوي في «التفسير» ٢/ ٣٢٨ للكلبي، وهو متهم بالكذب. وورد من مرسل قتادة دون ذكر القائل، أخرجه الطبري ١٦٥٨٨. وورد من مرسل السدي ١٦٥٩٠ وفيهما «أن رجلا... ».
صحيح. أخرجه البخاري ٢٠٤٢ ومسلم ١٧٧٦ والترمذي ١٦٨٨ والطيالسي ٢/ ١٠٨ وأحمد ٤/ ٢٨١ وأبي يعلى ١٧٢٧ والبيهقي في «السنن» ٩/ ١٥٥ والطبري ١٦٥٩٤ من حديث البراء.
__________
(١) كذا ذكره المصنف رحمه الله، ومثله الزمخشري في «الكشاف» ٢/ ٢٥٩. فقال الحافظ في تخريجه: لم أجده بهذا السياق ولم أجده من كلام أبي بكر.
(٢) أوطاس: واد في هوازن كانت وقعة حنين للنبي صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم يقول: ثبت مع النبيّ ﷺ يومئذ جماعة من أصحابه منهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث. وبعضهم يقول: لم يبق معه سوى العباس وأبي سفيان.
(٦٨٨) فجعل النبي يقول للعباس: «نادِ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة» فنادى، وكان صيِّتاً، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنَّت إلى أولادها، يقولون: يا لبّيك، فنظر النبيّ ﷺ إلى قتالهم، فقال: «الآن حمي الوطيس، أنا النبي لا كذب، انا ابن عبد المطلب» ثم قال للعباس: «ناولني حَصَيات» فناوله، فقال: «شاهت الوجوه» ورمى بها، وقال: «انهزموا وربِّ الكعبة»، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا.
(٦٨٩) وقيل: أخذ رسول الله ﷺ كفاً من تراب، فرماهم به فانهزموا. وكانوا يقولون: ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه بالتّراب.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي: بعد الهزيمة. قال أبو عبيدة: هي فعيلة من السكون، وأنشد:
لِلّهِ قَبْرٌ غَالَها ماذا يُجِنُّ لقد أَجَنَّ سكينةً وَوَقارا «١»
وكذلك قال المفسرون: الأمن والطمأنينة.
قوله تعالى: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها قال ابن عباس: يعني الملائكة. وفي عددهم يومئذ ثلاثة أقوال: أحدها: ستة عشر ألفاً، قاله الحسن. والثاني: خمسة آلاف، قاله سعيد بن جبير. والثالث:
ثمانية، قاله مجاهد، يعني: ثمانية آلاف. وهل قاتلت الملائكة يومئذ، أم لا؟ فيه قولان. وفي قوله تعالى: وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أربعة أقوال: أحدها: بالقتل، قاله ابن عباس والسدي. والثاني:
بالقتل والهزيمة، قاله ابن أبزى ومقاتل. والثالث: بالخوف والحذر، ذكره الماوردي. والرابع: بالقتل والأسر وسبي الأولاد وأخذ الأموال، ذكره بعض ناقلي التفسير.
قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ أي: يوفِّقه للتوبة من الشّرك.
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
صحيح. أخرجه مسلم ١٧٧٥ والنسائي في «الكبرى» ٨٦٥٣ وعبد الرزاق في «المصنف» ٩٧٤١ وأحمد ١/ ٢٠٧ وابن حبان ٧٠٤٩ والطبري ١٦٥٩١ وابن سعد في الطبقات ٤/ ١٨ و ١٩ والبغوي في «شرح السنة» ٣٧١٠ من حديث العباس.
صحيح. أخرجه الطبري ١٦٥٩٣ عن أبي عبد الرحمن الفهري به وأتم وأخرجه مسلم ١٧٧٧ وابن حبان ٦٥٢٠ من حديث سلمة بن الأكوع. وله شواهد.
__________
(١) البيت لأبي عريف الكلبي «مجاز القرآن» ١/ ٢٥٥ و «اللسان» سكن.
247
قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال أبو عبيدة: معناه: قذر. قال الزجاج: يقال لكل شيء مستقذَر: نجَسٌ. وقال الفراء: لا تكاد العرب تقول: نِجْسٌ، إلا وقبلها رِجْسٌ، فاذا أفردوها قالوا:
نَجَس. وفي المراد بكونهم نجساً ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنهم أنجاس الأبدان، كالكلب والخنزير، حكاه الماوردي عن الحسن، وعمر بن عبد العزيز. وروى ابن جرير عن الحسن قال: من صافحهم فليتوضأ. والثاني: أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة، وإن لم تكن أبدانهم أنجاساً، قاله قتادة. والثالث: أنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاسُ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح.
قوله تعالى فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ قال أهل التفسير: يريد جميع الحرم. بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهو سنة تسع من الهجرة، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر الصّديق وقرئت (براءة). وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بظاهر الآية، وأنه يحرم عليهم دخول الحرم، وهو قول مالك، والشافعي.
واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد الحرام من المساجد، فروي عنه المنع أيضاً إلا لحاجة، كالحرم، وهو قول مالك. وروي عنه جواز ذلك، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز لهم دخول المسجد الحرام، وسائر المساجد «٢».
قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، والشعبي، وابن السميفع: «عايلة».
(٦٩٠) قال سعيد بن جبير: لما نزلت إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا
أخرجه الطبري ١٦٦١٥ عن سعيد بن جبير مرسلا. وأخرجه من مرسل عكرمة، برقم ١٦٦١٣ و ١٦٦١٤.
__________
(١) قال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» ١/ ٢١٠: النجاسة ضربان: مرئية، وغير مرئية. فما كان منها مرئيا فطهارته زوال عينها لأن النجاسة حلت المحل باعتبار العين فتزول بزوالها، إلا أن يبقى من أثرها ما تشق إزالته لأن الحرج مدفوع. وما ليس بمرئي: فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر اه. وانظر «مراقي الفلاح» ١/ ١٩١- ١٩٦ للعلامة الشرنبلالي الحنفي.
- قلت: والحنيفة: يقولون بأن الكافر نجس حكما لا حقيقة.
(٢) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «التفسير» ٨/ ١٠٤- ١٠٥- عند الحديث ٣٣٢٢ بترقيمي ما ملخصه: اختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال: فقال أهل المدينة: الآية عامة في سائر المشركين، وسائر المساجد، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ونزع بهذه الآية. وفي صحيح مسلم وغيره «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر» والكافر لا يخلو عن ذلك وقال صلى الله عليه وسلم: «لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب» والكافر جنب. وقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فسماه الله تعالى نجسا، فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم. وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب، لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجودة في المسجد. وقال الشافعي رحمه الله: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره. وهذا قول يرده ما ذكرنا من الآية وغيره. وقال الكيا الطبري:
ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة. وقال الشافعي تعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام. وقال عطاء: الحرم كله قبلة ومسجد، فينبغي أن يمنعوا الحرم. وقال قتادة:
لا يقرب المسجد الحرام مشرك، إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا كافرا لمسلم. وبهذا قال جابر.
248
شقَّ على المسلمين، وقالوا: مَنْ يأتينا بطعامنا؟ وكانوا يَقْدَمون عليهم بالتجارة، فنزلت وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً قال الأخفش: العيلة: الفقر. يقال: عال يعيل عَيْلة: إذا افتقر. وأعال إعالة فهو يُعيل:
إذا صار صاحب عيال. وقال أبو عبيدة: العيلة ها هنا مصدر عالَ فلانٌ: إذا افتقر، وأنشد:
وَمَا يَدري الفقيرُ مَتى غِناه وما يَدري الغنيُّ متى يَعيل «١»
وللمفسرين في قوله: «وإنْ» قولان: أحدهما: أنها للشرط، وهو الأظهر. والثاني: أنها بمعنى «وإذ»، قاله عمرو بن فائد. قالوا: وإنما خاف المسلمون الفقر، لأن المشركين كانوا يحملون التجارات إليهم، ويجيئون بالطعام وغيره. وفي قوله تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم، فكثر خيرهم، قاله عكرمة. والثاني:
أنه أغناهم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب، قاله قتادة، والضحاك. والثالث: أن أهل نجد، وجُرَشَ، وأهل صنعاء أسلموا، فحملوا الطعام إلى مكة على الظَّهْرِ، فأغناهم الله به، قاله مقاتل. قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قال ابن عباس: عليم بما يصلحكم حَكِيمٌ فيما حكم في المشركين.
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٩]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قال المفسرون: نزلت في اليهود والنصارى. قال الزجاج: ومعناها: لا يؤمنون بالله إيمان الموحِّدين، لأنهم أقرُّوا بأنه خالقُهم وأنَّه له ولد، وكذلك إيمانهم بالبعث لأنهم لا يقرُّون بأنَّ أهل الجنة يأكلون ويشربون. وقال الماوردي: إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بحقوقه، وهم لا يقرُّون بها، فكانوا كمن لا يُقِرُّ به.
قوله تعالى: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قال سعيد بن جبير: يعني الخمر والخنزير. قوله تعالى: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ في الحق قولان: أحدهما: أنه اسم الله، فالمعنى: دين الله، قاله قتادة. والثاني: أنه صفة للدين، والمعنى: ولا يدينون الدِّينَ الحقَّ فاضاف الاسم إلى الصفة. وفي معنى «يدينون» قولان: أحدهما: أنه بمعنى الطاعة، والمعنى: لا يطيعون الله طاعةَ حقٍّ، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنه من: دان الرجل يدين كذا: إذا التزمه. ثم في جملة الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى: لا يدخلون في دين محمّد صلى الله عليه وسلم، لأنه ناسخ لما قبله. والثاني: لا يعملون بما في التّوراة من اتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ قال ابن الأنباري: الجزية: الخراج المجعول عليهم سميت جزية، لانها قضاء لما عليهم أُخذ من قولهم: جَزى يَجْزي: إذا قضى ومنه قوله تعالى: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً «٢».
وأخرجه برقم ١٦٦٢ و ١٦٦٢١ عن الضحاك. أخرجه ١٦٦٢٢ عن مجاهد. وأخرجه ١٦٦١٧ عن عطية العوفي. والخلاصة: هذه الروايات وإن كانت مراسيل فإنها تتأيد بمجموعها، والله أعلم.
__________
(١) البيت لأحيحة بن الجلاح. «مجاز القرآن» ١/ ٢٥٥، «اللسان» عيل.
(٢) سورة البقرة: ٤٨.
249
(٦٩١) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تَجْزِي عن أحدٍ بعدَك».
وفي قوله تعالى: عَنْ يَدٍ ستة أقوال: أحدها: عن قهر، قاله قتادة، والسدي. وقال الزجاج:
عن قهر وذُلٍّ. والثاني: أنه النقد العاجل، قاله شريك، وعثمان بن مقسم. والثالث: أنه إعطاء المبتدئ بالعطاء، لا إعطاء المكافئ، قاله ابن قتيبة. والرابع: أن المعنى: عن اعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم. والخامس: عن إنعام عليهم بذلك لأن قبول الجزية منهم إنعام عليهم، حكاهما الزجاج.
والسادس: يؤدُّونَها بأيديهم، ولا ينفذونها مع رسلهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَهُمْ صاغِرُونَ الصاغر: الذليل الحقير. وفي ما يُكَلَّفونه من الفعل الذي يوجب صغارهم خمسة أقوال: أحدها: أن يمشوا بها ملبّيين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن لا يُحمدوا على إعطائهم، قاله سلمان الفارسي. والثالث: أن يكونوا قياماً والآخذ جالساً، قاله عكرمة.
والرابع: أن دفع الجزية هو الصغار. والخامس: أن إجراء أحكام الإسلام عليهم هو الصغار.
(فصل:) واختُلف في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار، فالمشهور عن أحمد: أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس، وبه قال الشافعي. ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد: أنه من سُبي من أهل الأديان من العرب والعجم، فالعرب إن أسلموا، وإلا السيف، وأولئك إن أسلموا، وإلا الجزية فظاهر هذا أن الجزية تؤخذ من الكل، إلا من عابدي الأوثان من العرب فقط، وهو قول أبي حنيفة، ومالك «١».
(فصل:) فأما صفة الذين تؤخذ منهم الجزية، فهم أهل القتال. فأما الزَّمِنُ، والأعمى، والمفلوج، والشيخ الفاني، والنساء، والصبيان، والراهب الذي لا يخالط الناس، فلا تؤخذ منهم.
(فصل:) فأما مقدارها، فقال أصحابنا: على الموسر: ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط:
أربعة وعشرون، وعلى الفقير المعتمل: اثنا عشر، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعون درهماً، وسواء في ذلك الغني والفقير. وقال الشافعي:
على الغني والفقير دينار. وهل تجوز الزيادة والنقصان مما يؤخذ منهم؟ نقل الأثرم عن أحمد: أنها تزاد وتنقَص على قدر طاقتهم، فظاهر هذا: أنها على اجتهاد الإمام ورأيه. ونقل يعقوب بن بختان: أنه
صحيح. أخرجه البخاري ٩٧٦ ومسلم ١٩٦١ والطبراني في «الأوسط» ٣٠٣٦. كلهم من حديث البراء رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء». فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال: إن عندي جذعة فقال: «اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك». لفظ البخاري.
__________
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٤٣٠: استدل بهذه الآية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من أشبههم كالمجوس، لما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذها من مجوس هجر، وهذا مذهب الشافعي، وأحمد- في المشهور عنه-. وقال أبو حنيفة رحمه الله: بل يؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب وقال الإمام مالك: بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي، ومجوسي ووثني وغير ذلك.
250
لا يجوز للامام أن ينقص من ذلك، وله أن يزيد.
(فصل:) ووقت وجوب الجزية: آخر الحول، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجب في أول الحول. فأما إذا دخلت سنة في سنة، فهل تسقط جزية السنة الماضية؟ عندنا لا تسقط، وقال أبو حنيفة:
تسقط. فأما إذا أسلم، فانها تسقط بالإسلام. فأما إن مات فكان ابن حامد يقول: لا تسقط. وقال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن تسقط.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «عزيرُ ابن الله» بغير تنوين. وقرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب، وعبد الوارث عن أبي عمرو:
منوّناً. قال مكي بن أبي طالب: من نوَّن عزيراً رفعه على الابتداء، و «ابن» خبره. ولا يحسن حذف التنوين على هذا من «عزير» لالتقاء الساكنين. ولا تحذف ألف «ابن» من الخط، ويكسر التنوين لالتقاء الساكنين. ومن لم ينون «عزيراً» جعله أيضاً مبتدأ، و «ابن» صفة له فيُحذف التنوينُ على هذا استخفافاً لالتقاء الساكنين، ولأن الصّفة مع الموصوف الشيء الواحد، وتحذف ألف «ابن» من الخط، والخبر مضمر تقديره: عزير بن الله نبيُّنا وصاحبنا.
(٦٩٢) وسبب نزولها أن سلاَم بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصّيف، أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: كيف نتَّبِعُكَ وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟
فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال ابن عمر، وابن جريج: إن القائل لذلك فنحاص.
فأما عزير، فقال شيخنا أبو منصور اللغوي: هو اسم أعجمي معرب، وإن وافق لفظ العربية، فهو عِبراني كذا قرأته عليه. وقال مكي بن أبي طالب: العزير عند كل النحويين: عربي مشتق من قوله:
يعزِّروه. وقال ابن عباس: إنما قالوا ذلك، لأنهم لما عملوا بغير الحق، أنساهم الله التوراة، ونسخها من صدورهم، فدعا عزير اللهَ تعالى فعاد إليه الذي نسخ من صدورهم، ونزل نور من السماء فدخل جوفه، فأذَّن في قومه فقال: قد آتاني الله التوراة فقالوا: ما أُوتيها إلا لأنه ابن الله. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل، وهدم بيت المقدس، وقتل من قرأ التوراة، كان عزير غلاماً، فتركه. فلما توفي عزير ببابل، ومكث مائة عام، ثم بعثه الله تعالى إلى بني اسرائيل، فقال: أنا عزير فكذَّبوه وقالوا: قد حدَّثنا آباؤنا أن عزيراً مات ببابل، فان كنتَ عزيراً فأملل علينا التوراة فكتبها لهم فقالوا: هذا ابن الله. وفي الذين قالوا هذا عن عزير ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم
ضعيف. أخرجه الطبري ١٦٦٣٥ عن ابن عباس، وإسناده ضعيف فيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول.
وانظر «تفسير البغوي» ١٠٥٧ بتخريجنا.
251
جميع بني اسرائيل، روي عن ابن عباس. والثاني: طائفة من سلفهم، قاله الماوردي. والثالث: جماعة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم قولان: أحدهما: فنحاص وحده، وقد ذكرناه عن ابن عمر، وابن جريج. والثاني: الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس.
فان قيل: إن كان قولَ بعضهم، فلِمَ أُضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة، تقول العرب: جئت من البصرة على البغال، وإن كان لم يركب إلا بغلاً واحداً. والثاني: أن من لم يقله، لم ينكره.
قوله تعالى: وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ في سبب قولهم هذا قولان:
أحدهما: لكونه ولد من غير ذكَر.
والثاني: لأنه أحيى الموتى، وأبرأ الكُمْةَ والبُرص وقد شرحنا هذا المعنى في (المائدة).
قوله تعالى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ إن قال قائل: هذا معلوم، فما فائدته؟ فالجواب: أنّ معنى أنه قول بالفم، لا بيانَ فيه ولا برهانَ ولا تحته معنى صحيح، قاله الزجاج.
قوله تعالى: يُضاهِؤُنَ قرأ الجمهور: من غير همز. وقرأ عاصم: «يضاهئون». قال ثعلب:
لم يتابع عاصماً أحد على الهمز. قال الفراء: وهي لغة. قال الزجاج: يضاهون: يشابهون قولَ من تقدَّمَهم من كَفَرتِهم، فانما قالوه اتباعاً لمتقدِّميهم. وأصل المضاهاة في اللغة: المشابهة والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم: امرأة ضهياء، وهي التي لا ينبت لها ثدي. وقيل: هي التي لا تحيض، والمعنى: أنها قد أشبهت الرجال. قال ابن الأنباري: يقال: ضاهَيت، وضاهأت: إذا شبَّهتَ. وفي الَّذِينَ كَفَرُوا ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم عبدة الأوثان، والمعنى: أن أولئك قالوا: الملائكة بنات الله، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم اليهود، فالمعنى: أن النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، شابهوا اليهود في قولهم: عزير ابن الله، قاله قتادة، والسدي. والثالث: أنهم أسلافهم، تابعوهم في أقوالهم تقليداً، قاله الزجاج، وابن قتيبة. وفي قوله تعالى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: لعنهم الله، قاله ابن عباس: والثاني: قتلهم الله، قاله أبو عبيدة. والثالث: عاداهم الله، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: من أين يصرفون عن الحق.
قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ قد سبق في (المائدة) معنى الأحبار والرهبان.
(٦٩٣) وقد روي عن النبي ﷺ أنه سئل عن هذه الآية، فقال: «أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم،
يشبه الحسن، أخرجه الترمذي ٣٠٩٥ والطبري ١٦٦٤٦ و ١٦٦٤٧ و ١٦٦٤٨ والطبراني ١٧/ ٩٢/ ٢١٨ والبيهقي ١٠/ ١١٦ والسهمي في «تاريخ جرجان» ١١٦٢ من طرق متعددة عن عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين الجزري عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم به، وإسناده ضعيف، مداره على غطيف بن أعين الجزري، وهو ضعيف كما في «التقريب». وقال الذهبي في «الميزان» : ضعفه الدارقطني.
- وضعفه الترمذي بقوله: غريب، وغطيف ليس بمعروف في الحديث. وذكر الحافظ في «التهذيب» ٢٢٥١٨ كلام الترمذي، وقال: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني: ضعيف.
- قلت: حسنه الألباني في «صحيح الترمذي» ٢٤٧١، ولم يعز الكلام عليه إلى موضع آخر، ولم يذكر مستنده
252
ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئاً استحلُّوهْ، واذا حرموا عليهم شيئاً حرّموه» «١». فعلى هذا المعنى: إنهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا: إنهم أرباب.
قوله تعالى: وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ قال ابن عباس: اتخذوه ربّا.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٢]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢)
قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ قال ابن عباس: يخمدوا دين الله بتكذيبهم، يعني:
أنهم يكذبون به ويُعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك. وقال الحسن وقتادة: نور الله: القرآن والإسلام.
فأما تخصيص ذلك بالأفواه، فلما ذكرنا في الآية قبلها. وقيل: إن الله تعالى لم يذكر قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا وهو زور. قوله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ قال الفرّاء: إنّما دخلت «إلا» ها هنا، لأن في الإباء طرفاً من الجحد، ألا ترى أنّ «أبيت» كقولك: «لم أفعل»، فكأنه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد، قال الشاعر:
فَهَلْ لِيَ أُمٌّ غيرُها إن تركتُها أبى الله إلا أن أكُون لَها ابنما «٢»
وقال الزجاج: المعنى: ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره. قال مقاتل: «يتم نوره» أي: يظهر دينه.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٣]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ يعني محمّدا ﷺ بِالْهُدى وفيه ثلاثة أقوال: أحدها:
في تحسينه إياه! إلا أن يكون أخذ بقول ابن كثير في «التفسير» ٢/ ٣٦٢ وفي نسخة ٢/ ٤٣٢ حيث قال: روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم. فذكر ابن كثير حديثا طويلا، وذكر فيه لفظ المصنف. وبحثت في مسند أحمد ومعجم الطبراني حديثا حديثا، فلم أجد في خبر إسلام عدي المطول، ما رواه غطيف هذا. فالصواب أن هذا اللفظ لم يرد من طرق، وليس له إلا هذا الطريق. والذي ورد من طرق إنما هو قصة إسلامه بغير هذا اللفظ. فهذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف. والله أعلم.
- وورد تفسير الآية الكريمة بمثل الحديث المرفوع عن حذيفة بن اليمان من قوله. أخرجه الطبري ١٦٦٤٩ و ١٦٦٥٠ و ١٦٦٥١ و ١٦٦٥٣ من طرق عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري عن حذيفة، وإسناده ضعيف، حبيب كثير الإرسال والتدليس، ولم يصرح في هذه الروايات بالتحديث. ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي ١٠/ ١١٦. لكن تابعه عطاء بن السائب برقم ١٦٦٥٨ وهو ضعيف لكن يصلح للاعتبار بحديثه.
وله شاهد عن ابن عباس قوله، أخرجه الطبري ١٦٦٥٦ وهو منقطع، السدي لم يلق ابن عباس. فلعل من حسنه لأجل هذه الروايات الموقوفة. والله أعلم، والأشبه أنه بين الضعيف والحسن، والله أعلم.
__________
(١) بهذه الآية الكريمة، وبهذا الحديث، وبما ورد عن أئمة التفسير، استدل العلامة الآلوسي رحمه الله وغيره من الأئمة: بأن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده، ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته. واستدلوا بأن العبادة هي الاتباع في الشرائع، سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة، ثم إن الإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة بعد الاعتقاد بألوهيته وحده، فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى، نسأل الله تعالى أن يرحمنا ويهدينا إلى سواء الصراط.
(٢) البيت منسوب إلى المتلمس «معاني القرآن» ١/ ٤٣٣ وقوله ابنما، أراد ابنا، فزاد ميما.
أنه التوحيد. والثاني: القرآن. والثالث: تبيان الفرائض. فأما دين الحق، فهو الإسلام. وفي قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ قولان: أحدهما: أن الهاء عائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: ليعلّمه شرائع الدِّين كلَّها، فلا يخفى عليه منها شيء، قاله ابن عباس. والثاني: أنها راجعة إلى الدين. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: ليظهر هذا الدين على سائر الملل. ومتى يكون ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: عند نزول عيسى عليه السلام، فانه يتبعه أهل كل دين، وتصير المللُ واحدة، فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام أو أدَّوا الجزية، قاله أبو هريرة، والضحاك. والثاني: أنه عند خروج المهدي. قاله السدي.
والقول الثاني: أن إظهار الدِّين إنما هو بالحجج الواضحة، وإن لم يدخل الناس فيه.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤)
قوله تعالى: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى. وفي الباطل أربعة أقوال: أحدها: أنه الظلم، قاله ابن عباس. والثاني: الرشا في الحكم، قاله الحسن.
والثالث: الكذب، قاله أبو سليمان. والرابع: أخذه من الجهة المحظورة، قاله القاضي أبو يعلى:
والمراد: أخذ الأموال، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود من المال. وفي المراد بسبيل الله ها هنا قولان: أحدهما: الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنه الحق في الحكم.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «١» : أحدها:
أنها نزلت عامّة في أهل الكتاب والمسلمين، قاله أبو ذر، والضحاك. والثاني: أنها خاصَّة في أهل الكتاب، قاله معاوية بن أبي سفيان. والثالث: أنها في المسلمين، قاله ابن عباس، والسدي. وفي الكنز المستحقّ عليه هذا الوعيد ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما لم تؤدَّ زكاته.
(٦٩٤) قال ابن عمر: كل مال أُدِّيتْ زكاتُه وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز، وكلّ مال لا
موقوف صحيح. وورد مرفوعا وهو ضعيف جدا. أخرجه البيهقي ٤/ ٨٢ بإسناد صحيح عن ابن عمر موقوفا، وقال هذا هو الصحيح موقوف، وقد روى سويد بن عبد العزيز وليس بالقوي مرفوعا، ثم ساق إسناده اه.
وسويد هذا ضعيف متروك الحديث. وتوبع فقد أخرجه البيهقي ٤/ ٨٣ من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا وقال: ليس هذا بمحفوظ، والمشهور عن ابن عمر موقوفا. اه. وفي إسناده محمد بن كثير المصيصي الثقفي وهو ضعيف، فالراجح الوقف عليه، كما قال البيهقي رحمه الله. وأخرجه الطبري ١٦٦٦٨ عن ابن عمر وكرره ١٦٦٦٦ بنحوه. انظر «تفسير ابن كثير» بتخريجنا عند هذه الآية.
__________
(١) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ٨/ ١١٣: اختلفت الصحابة في المراد بهذه الآية، فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب، وإليه ذهب الأصم، لأن قوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ مذكور بعد قوله إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ.... وقال أبو ذر وغيره: المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين وهو الصحيح، لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال: ويكنزون، بغير «والذين» فلما قال «والذين» فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة، فالذين يكنزون كلام مستأنف وهو رفع على الابتداء.
تؤدَّى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهراً على وجه الأرض، وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور. فعلى هذا، معنى الإنفاق: إخراج الزكاة. والثاني: أنه ما زاد على أربعة آلاف، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: أربعة آلاف نفقة، وما فوقها كنز. والثالث: ما فضل عن الحاجة، وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نُسخ بالزكاة.
فان قيل: كيف قال: «ينفقونها» وقد ذكر شيئين؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن المعنى: يرجع إلى الكنوز والأموال.
والثاني: أنه يرجع إلى الفضة، وحذُف الذهب، لأنه داخل في الفضة، قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا عندك راضٍ والرأي مختلفُ «١»
يريد: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ، ذكر القولين الزجاج. وقال الفراء: إن شئت اكتفيت بأحد المذكورين، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
«٢»، وقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «٣»، وأنشد:
إني ضمنت لمن أتاني ما جَنَى وأبى وكان وكنت غير غَدورِ «٤»
ولم يقل: غدورين، وإنما اكتفى بالواحد لاتفاق المعنى. قال أبو عبيدة: والعرب إذا أشركوا بين اثنين قصروا، فخبَّروا عن أحدهما استغناء بذلك، وتحقيقاً لمعرفة السامع بأن الآخر قد شاركه، ودخل معه في ذلك الخبر، وأنشد:
فمن يك أمسى بالمدينة رحْلُهُ فاني وقيَّارٌ بها لغريب «٥»
والنصب في «قيار» أجود، وقد يكون الرفع. وقال حسان بن ثابت:
إنَّ شرخَ الشبابِ والشّعر الأس ود ما لم يعاص كان جنونا «٦»
ولم يقل: يعاصيا.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٥]
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
قوله تعالى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها أي: على الأموال.
(٦٩٥) قال ابن مسعود: والله ما من رجل يُكوى بكنز، فيوضعُ دينار على دينار ولا درهم على
موقوف صحيح. أخرجه الطبري ١٦٦٩٧ و ١٦٦٩٨ والطبراني ٨٧٥٤ عن ابن مسعود موقوفا وهو صحيح.
__________
(١) البيت قائله عمرو بن امرئ القيس «معاني القرآن» ١/ ٤٣٤.
(٢) سورة النساء: ١١٢.
(٣) سورة الجمعة: ١١. [.....]
(٤) البيت غير منسوب في «معاني القرآن» ١/ ٤٣٤.
(٥) البيت منسوب إلى ضابئ بن الحارث البرجمي وهو في «الأصمعيات» ١٦. «اللسان» قير.
(٦) البيت منسوب إلى حسان بن ثابت ديوان ٣١٢ «اللسان» شرخ.
الشرخ: الحد. أي غاية ارتفاعه، يعني بذلك أقصى قوته ونضارته وعنفوان.
درهم، ولكن يوسَّع جلده، فيوضع كل دينار. ودرهم على حدته. وقال ابن عباس: هي حيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته، فتقول: أنا مالك الذي بخلت به «١».
قوله تعالى: هذا ما كَنَزْتُمْ فيه محذوف تقديره: ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي: عذاب ذلك. فان قيل: لم خصَّ الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن؟
فالجواب: أن هذه المواضع مجوَّفة، فيصل الحر إلى أجوافها، بخلاف اليد والرجل.
(٦٩٦) وكان أبو ذرٍّ يقول: بشر الكنَّازين بكيّ في الجباه وكيّ في الجنوب وكيٍّ في الظهور، حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم. وجواب آخر: وهو أن الغنيَّ إذا رأى الفقير، انقبض وإذا ضمه وإياه مجلس، ازورّ عنه ووِّلاه ظهره، قاله أبو بكر الورّاق.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٦]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ قال المفسرون: نزلت هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله، فربما وقع حجهم في رمضان، وربما وقع في شوال، إلى غير ذلك وكانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً، ويحرِّمون مكانه صفر، وتارة يحرِّمون المحرَّم ويستحلُّون صفر. قال الزّجّاج:
أعلم الله عزّ وجلّ أن عدد شهور المسلمين التي تُعُبِّدوا بأن يجعلوه لسنتهم: اثنا عشر شهراً على منازل القمر فجعل حجهم وأعيادهم على هذا العدد، فتارة يكون الحج والصوم في الشتاء، وتارة في الصيف، بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب، فانهم يعملون على أن السنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوماً وبعض يوم. وجمهور القراء على فتح عين «اثنا عشر». وقرأ أبو جعفر: اثنا عشر، وأحد عْشر، وتسعة عْشر، بسكون العين فيهن.
قوله تعالى: فِي كِتابِ اللَّهِ أي: في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس: في الإمام الذي عند الله، كتبه يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وفيها قولان: أحدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون. وقال القاضي أبو يعلى: إنما سماها حُرُماً لمعنيين.
أحدهما: تحريم القتال فيها، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون ذلك أيضاً. والثاني: لتعظيم انتهاك المحارم فيها أشدَّ من تعظيمه في غيرها، وكذلك تعظيم الطاعات فيها. والثاني: انها الأشهُر التي أُجِّل المشركون فيها للسياحة، ذكره ابن قتيبة.
هو بعض حديث أخرجه البخاري ١٤٠٧ ومسلم ٩٩٢ وأحمد ٥/ ١٦٠ وابن حبان ٣٢٦٠ من حديث أبي ذر وسياقه الوقف لكن أشار أبو ذر عقبة لرفعه، والله أعلم.
__________
(١) أثر ابن عباس لا يصح في تفسير هذه الآية، وإنما ينبغي ذكره في سورة آل عمران عند قوله سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
قوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فيه قولان: أحدهما: ذلك القضاء المستقيم، قاله ابن عباس.
والثاني: ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ اختلفوا في كناية «فيهنَّ» على قولين: أحدهما: أنها تعود على الاثني عشر شهراً، قاله ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى: لا تجعلوا حرامها حلالاً، ولا حلالها حراماً، كفعل أهل النسيء. والثاني: أنها ترجع إلى الأربعة الحرم، وهو قول قتادة، والفراء واحتج بأن العرب تقول لما بين الثلاثة إلى العشرة: لثلاث ليال خَلَوْنَ، وأيام خلون فاذا جُزتَ العشَرة قالوا: خلتْ ومضتْ ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة: هُنَّ، وهؤلاء فاذا جزتَ العشرة، قالوا:
هي، وهذه: إرادةَ أن تُعرف سمة القليل من الكثير. وقال ابن الأنباري: العرب تعيد الهاء والنون على القليل من العدد، والهاء والألف على الكثير منه والقلَّة: ما بين الثلاثة إلى العشرة، والكثرة: ما جاوز العشرة. يقولون: وجهتُ إليك أكبُشاً فاذبحْهُنَّ، وكباشاً فاذبحها فلهذا قال: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وقال: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ لأنه يعني بقوله تعالى: «فيهن» الأربعة. ومن قال من المفسرين: إنه يعني بقوله تعالى «فيهن» الاثني عشر، فانه ممكن لأن العرب ربما جعلت علامة القليل للكثير، وعلامة الكثير للقليل. وعلى قول من قال: ترجع «فيهن» إلى الأربعة يُخرَّج في معنى الظلم فيهن أربعة أقوال:
أحدها: أنه المعاصي فتكون فائدة تخصيص النهي عنه بهذه الأشهر، أن شأن المعاصي يعظُم فيها أشدَّ من تعظيمه في غيرها، وذلك لفضلها على ما سواها، كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «١» وإن كانا قد دخلا في جملة الملائكة، وقوله: فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «٢» وإن كانا قد دخلا في جملة الفاكهة، وقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «٣» وإن كان منهياً عنه في غير الحج، وكما أُمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وإن كان مأموراً بالمحافظة على غيرها، هذا قول الأكثرين. والثاني: أن المراد بالظلم فيهنَّ فعل النسيء، وهو تحليل شهر محرَّم، وتحريم شهر حلال، قاله ابن اسحاق.
والثالث: أنه البداية بالقتال فيهن فيكون المعنى: فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهن إلا أن تُبدَؤوا بالقتال، قاله مقاتل. والرابع: أنه ترك القتال فيهن فيكون المعنى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المحاربة لعدوِّكم، قاله ابن بحر، وهو عكس قول مقاتل. والسرُّ في أن الله تعالى عظَّم بعض الشهور على بعض، ليكون الكفُّ عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها تدريجاً للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعا.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٧]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ الجمهور على همز النسيء ومَدِّه وكسر سينه.
وروى شبل عن ابن كثير: «النِّسْءُ» على وزن النِسْع. وفي رواية أخرى عن شبل: «النَّسِيُّ» مشددة الياء من غير همز، وهي قراءة أبي جعفر والمراد بالكلمة التأخير. قال اللغويون: النّسيء: تأخير الشّيء.
(١) سورة البقرة: ٩٨.
(٢) سورة الرحمن: ٦٨.
(٣) سورة البقرة: ١٩٧.
وكانت العرب تحرِّم الأشهر الأربعة، وكان هذا مما تمسَّكت به من ملة إبراهيم فربما احتاجوا إلى تحليل المحرَّم للحرب تكون بينهم، فيؤخِّرون تحريم المحرَّم إلى صفر، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضاً إلى الشهر الذي بعده ثم تتدافع الشهور شهراً بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنَّة كلِّها، فكأنهم يستنسئون الشهر الحرام ويستقرضونه، فأعلم الله تعالى أن ذلك زيادة في كفرهم لأنهم أحلُّوا الحرام وحرّموا الحلال لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فلا يخرجون من تحريم أربعة، ويقولون: هذه بمنزلة الأربعة الحرم، ولا يبالون بتحليل الحرام وتحريم الحلال. وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم، قال الفراء: كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصَّدَرَ عن مِنًى قام رجل من بني كنانة يقال له: نُعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذي لا أُعابُ ولا أُجابُ ولا يُرَدُّ لي قضاء فيقولون: أنسئنا شهراً يريدون: أخِّر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حُرُم لا يُغِيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة، فتستدير الشهور كما بيَّنَّا. وقيل: إنما كانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً، فاذا كان من قابل ردُّوه إلى تحريمه. قال أبو عبيد: والتفسير الأول أحب إليَّ، لأن هذا القول ليس فيه استدارة.
(٦٩٧) وقال مجاهد: كان أولَ من أظهر النسيء جنادةُ بن عوف الكناني، فوافقت حجَةُ أبي بكر ذا القعدة. ثم حجّ النبيّ ﷺ في العام المقابل في ذي الحجة، فذلك حين قال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض». وقال الكلبي: أول من فعل ذلك نُعيم بن ثعلبة.
قوله تعالى: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «يَضِل» بفتح الياء وكسر الضاد، والمعنى: أنهم يكتسبون الضلال به. وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم: «يُضَلُّ» بضم الياء وفتح الضاد على ما لم يُسم فاعله. وقرأ الحسن البصري، ويعقوب إلا الوليد: «يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: يُضِلُّ الله به. والثاني:
يُضِلّ الشيطان به، ذكرهما ابن القاسم. والثالث: يُضِلّ به الذين كفروا الناس، لأنهم الذين سنُّوه لهم.
قال أبو علي: التقدير: يُضل به الذين كفروا تابعيهم. وقال ابن القاسم: الهاء في «به» راجعة إلى النسيء، وأصل النسيء: المنسوء، أي: المؤخَّر، فينصرف عن «مفعول» إلى «فعيل» كما قيل: مطبوخ وطبيخ، ومقدور وقدير، قال: وقيل: الهاء راجعة إلى الظلم، لأن النسيء كَشَفَ تأويل الظلم، فجرى مجرى المظهر والأوّل اختيارنا.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨)
قوله تعالى: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا.
مرسل. أخرجه الطبري ١٦٧٢٨ عن مجاهد مرسلا. والمرفوع منه أخرجه البخاري ٦٧ و ١٠٥ و ١٧٤١ و ٣١٩٧ و ٤٤٠٦ و ٤٦٦٢ و ٥٥٥٠ و ٧٤٤٧ ومسلم ١٦٧٩ وأبو داود ١٩٤٨ وابن ماجة ٢٣٣ وابن حبان ٤٨٤٨ وأحمد ٥/ ٣٩ من حديث أبي بكرة، وله شواهد كثيرة.
(٦٩٨) قال المفسّرون: لمّا أمر رسول الله ﷺ بغزوة تبوك، وكان في زمن عسرة وجدب وحرٍّ شديد، وقد طابت الثمار، عَظُمَ ذلك على الناس وأحبوا المُقام، فنزلت هذه الآية. وقوله تعالى: ما لَكُمْ استفهام معناه التّوبيخ. وقوله تعالى: انْفِرُوا معناه: اخرجوا، وأصل النفر: مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج إلى ذلك. وقوله تعالى: اثَّاقَلْتُمْ قال ابن قتيبة: أراد:
تثاقلتم، فأدغم التاء في الثاء، وأحدثت الألف ليسكن ما بعدها، وأراد: قعدتم. وفي قراءة ابن مسعود، والأعمش: «تثاقلتم». وفي معنى إِلَى الْأَرْضِ ثلاثة أقوال: أحدها: تثاقلتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمرها، قاله مجاهد. والثاني: اطمأننتم إلى الدنيا، قاله الضحاك. والثالث: تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي: بنعيمها من نعيم الآخرة، فما يُتمتَّع به في الدنيا قليل بالإضافة إلى ما يَتمتَّع به الأولياء في الجنة.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٩]
إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ.
(٦٩٩) سبب نزولها أنّ رسول الله ﷺ لما حثَّهم على غزو الروم تثاقلوا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال قوم: هذه خاصّة فيمن استنفره رسول الله ﷺ فلم ينفر.
(٧٠٠) قال ابن عباس: استنفر رسول الله ﷺ حيّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأُمسك عنهم المطر فكان عذابهم.
وفي قوله تعالى: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وعيد شديد في التخلُّف عن الجهاد، وإعلام بأنه يستبدل لنصر نبيه قوماً غير متثاقلين. ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم يضروه، كما لم يضرُرْه ذلك إذْ كان بمكة. وفي هاء «تضرُّوه» قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الله، والمعنى: لا تضروا الله بترك النفير، قاله الحسن.
والثاني: أنها ترجع إلى رسول الله. فالمعنى: لا تضروه بترك نصره، قاله الزجاج.
(فصل:) وقد روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، قالوا: نسخ قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٠٢ بدون إسناد.
وأخرجه الطبري ١٦٧٣٤ و ١٦٧٣٥ عن مجاهد مرسلا بنحوه.
هو معنى المتقدم، لأن غزوة تبوك كان المراد بها الروم.
باطل. أخرجه أبو داود ٢٥٠٦ والحاكم ٢: ١١٨ والطبري ١٦٧٣٦ والبيهقي ٩: ٤٨ من رواية عبد المؤمن عن نجدة بن نفيع عن ابن عباس، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! ومداره على نجدة، وهو مجهول، والمتن باطل، إذ لم يحصل ذلك، ثم إن العذاب الأليم ليس بحبس المطر، لأنهم يمكنهم الانتقال إلى موضع آخر، والمراد عذاب مهلك، أو عذاب النار.
بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «١». وقال أبو سليمان الدمشقي:
ليس هذا من المنسوخ، إذ لا تنافي بين الآيتين، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها. وذكر القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا: ليس ها هنا نسخ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدوَّ، ففرضٌ على الناس النفير إليهم، ومتى استغنَوا عن إعانة مَن وراءهم، عُذر القاعدون عنهم. وقال قوم: هذا في غزوة تبوك، ففُرِض على الناس النّفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٠]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ أي: بالنفير معه فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إعانةً على أعدائه، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «٢» فأعلمهم أن نصره ليس بهم.
قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ العرب تقول: هو ثاني اثنين، أي: أحد الاثنين، وثالث ثلاثة، أي:
أحد الثلاثة، قال الزّجّاج: وقوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ منصوب على الحال المعنى: فقد نصره الله أحد اثنين، أي: نصره منفرداً إلا من أبي بكر، وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر. وقال ابن جرير: المعنى: أخرجوه وهو أحد الاثنين، وهما رسول الله ﷺ وأبو بكر. فأما الغار، فهو ثَقب في الجبل، وقال ابن فارس: الغار: الكهف، والغار: نبت طيِّب الرِّيح، والغار: الجماعة من الناس، والغاران: البطن والفرج، وهما الأجوفان، يقال: إنما هو عبد غارَيْه قال الشاعر:
ألَم تر أنَّ الدَّهْرَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وأنَّ الفَتَى يَسْعَى لِغَارَيْهِ دَائِبَا «٣»
قال قتادة: وهذا الغار في جبل بمكة يقال له: ثور. قال مجاهد: مكثا فيه ثلاثاً. وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب «الحدائق».
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٣٧٤: ولا خبر بالذي قاله عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية التي ذكرا، يجب التسليم له. ولا حجة ناف لصحة ذلك. وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عدد من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعد، وجائز أن يكون قوله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً. الخاص من الناس، ويكون المراد به من استنفره رسول الله ﷺ فلم ينفر، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس. وإذ كان ذلك كذلك، كان قوله:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: ١٢٢] نهيا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمن مقيم فيها. وإعلاما من الله لهم أن الواجب النفر على بعضهم دون بعض، وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيا فيما عنيت به ا. هـ.
(٢) سورة الأنفال: ٣.
(٣) البيت في «اللسان» غور، غير منسوب.
260
(٧٠١) قال أنس بن مالك: أمر الله عزّ وجلّ شجرة فنبتت في وجه رسول الله ﷺ فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه، وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في فم الغار، فلما دنوا من الغار، عَجِل بعضهم لينظر، فرأى حمامتين، فرجع فقال: رأيت حمامتين على فم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد.
(٧٠٢) وقال مقاتل: جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال: هذه قدم ابن أبي قحافة، والأخرى لا أعرفها، إلا أنها تشبه القدم التي في المقام. وصاحبه في هذه الآية أبو بكر.
(٧٠٣) وكان أبو بكر قد بكى لما مرَّ المشركون على باب الغار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ؟
وفي السكينة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الرحمة، قاله ابن عباس. والثاني: الوقار، قاله قتادة.
والثالث: السكون والطمأنينة، قاله ابن قتيبة، وهو أصح. وفي هاء «عليه» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى أبي بكر، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن عباس، وحبيب بن أبي ثابت. واحتجَ من نصر هذا القول بأن النبيّ ﷺ كان مطمئناً. والثاني: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل. والثالث: أنّ الهاء ها هنا في معنى تثنية، والتقدير: فأنزل الله سكينته عليهما، فاكتفى باعادة الذِّكر على أحدهما من إعادته عليهما، كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «١»، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَأَيَّدَهُ أي: قوّاه، يعني النبيّ ﷺ بلا خلاف. بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة. ومتى كان ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، قاله ابن عباس. والثاني: لما كان في الغار، صَرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته، قاله الزجاج.
فان قيل: إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في «أيده» ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف تفارقها هاء «عليه» وهما متفقان في نظم الكلام؟
فالجواب: أن كل حرف يُردُّ إلى الأليق به، والسكينة إنما يَحتاج إليها المنزعج، ولم يكن النبيّ ﷺ منزعجاً. فأما التأييد بالملائكة، فلم يكن إلا للنبيّ ﷺ ونظير هذا قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ «٢» يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَتُسَبِّحُوهُ يعني الله عزّ وجلّ.
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» ١/ ٢٢٩ عن أبي مصعب المكي عن أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة. وفي سنده ضعيف ومجهول. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٦/ ٥٢- ٥٣ وقال: رواه البزار والطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والخبر باطل.
كون أبي بكر بكى في الغار لم أقف عليه، والذي في «الصحيحين» أن أبا بكر بكى لما تبعهما سراقة.
والمرفوع من هذا الحديث صحيح، أخرجه البخاري ٣٦٥٣ و ٣٩٢٢ ومسلم ٢٣٨١ وابن أبي شيبة ١٢/ ٧ وأحمد ١/ ٤ وابن سعد ٣/ ١٧٣ و ١٧٤ والترمذي ٣٠٩٦ وأبو يعلى ٦٧ وابن حبان ٦٢٧٨ عن أنس: أن أبا بكر حدثهم قال: قلت للنبي ﷺ ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
__________
(١) سورة التوبة: ٦٢.
(٢) سورة الفتح: ٨.
261
قوله تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى فيها قولان: أحدهما: أن كلمة الكافرين الشرك، جعلها الله السفلى لأنها مقهورة، وكلمة الله وهي التوحيد، هي العليا، لأنها ظهرت، هذا قول الأكثرين. والثاني: أن كلمة الكافرين ما قدَّروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله أنه ناصره، رواه عطاء عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، ويعقوب: «وكلمةَ الله» بالنصب.
قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي: في انتقامه من الكافرين حَكِيمٌ في تدبيره.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤١]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا.
(٧٠٤) سبب نزولها أنّ المقداد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عظيماً سميناً، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
وفي معنى «خفافاً وثقالاً» أحد عشر قولاً: أحدها: شيوخاً وشباباً، رواه أنس عن أبي طلحة، وبه قال الحسن، والشعبي، وعكرمة، ومجاهد، وأبو صالح، وشَمْرُ بن عطية، وابن زيد في آخرين.
والثاني: رجّالةً وركباناً، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأوزاعي. والثالث: نِشاطاً وغير نِشاط، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، ومقاتل. والرابع: أغنياء وفقراء، روي عن ابن عباس. ثم في معنى هذا الوجه قولان: أحدهما: أن الخفاف: ذوو العسرة وقلَّة العيال، والثقال: ذوو العيال والميسرة، قاله الفراء. والثاني: أن الخفاف: أهل الميسرة، والثقال: أهل العسرة، حكي عن الزجاج.
والخامس: ذوي عيال، وغير ذوي عيال. قاله زيد بن أسلم. والسادس: ذوي ضياع، وغير ذوي ضياع، قاله ابن زيد. والسابع: ذوي أشغال، وغير ذوي أشغال، قاله الحكم. والثامن: أصحَّاء، ومرضى، قاله مرة الهمداني، وجويبر. والتاسع: عزَّاباً ومتأهِّلين، قاله يمان بن رئاب. والعاشر: خفافاً إلى الطاعة، وثقالاً عن المخالفة، ذكره الماوردي. والحادي عشر: خفافاً من السلاح، وثقالاً بالاستكثار منه، ذكره الثعلبي.
(فصل:) روى عطاء الخراساني عن ابن عباس ان هذه الآية منسوخة بقوله «١» تعالى:
باطل. عزاه المصنف للسدي، وهو ذو مناكير، وخبره معضل، والمتن باطل، فإن المقداد بن الأسود أحد الشجعان الأبطال لم يتخلف عن غزوة دعي إليها. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٠٤ عن السدي.
وذكره السيوطي في «الدر» ٣/ ٤٤٠ وعزاه لأبي الشيخ وابن أبي حاتم عن السدي.
__________
(١) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ٨/ ١٣٨ الآية انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا: اختلف في هذه الآية، فقيل:
إنها منسوخة بقوله تعالى لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: ٩١]. وقيل الناسخ لها قوله فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: ٢٢]. والصحيح أنها ليست بمنسوخة اه.
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «١». وقال السّدّيّ: نسخت بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى «٢».
قوله تعالى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ قال القاضي أبو يعلى: أوجب الجهاد بالمال والنفس جميعاً، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال، فعليه الجهاد بماله، بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قوياً. وإن كان له مال وقوَّة، فعليه الجهاد بالنفس والمال. ومن كان معدماً عاجزاً، فعليه الجهاد بالنّصح لله ورسوله، لقوله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ «٣».
قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ فيه قولان: أحدهما: ذلكم الجهاد خير لكم من تركه والتثاقل عنه. والثاني: ذلكم الجهاد خير حاصل لكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما لكم من الثّواب.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٢]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)
قوله تعالى: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً قال المفسرون: نزلت في المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك. ومعنى الآية: لو كان ما دُعوا إليه عَرَضاً قريباً. والعرض: كلُّ ما عرض لك من منافع الدنيا، فالمعنى: لو كانت غنيمةً قريبة، أو كان سفراً قاصداً، أي: سهلاً قريباً، لاتَّبعوك طمعاً في المال وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ قال ابن قتيبة: الشقة: السفر وقال الزجاج: الشقة: الغاية التي تقصد وقال ابن فارس: الشقة: مصير إلى أرض بعيدة، تقول: شقّة شاقّة.
قوله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يعني المنافقين إذا رجعتم إليهم لَوِ اسْتَطَعْنا وقرأ زائدة عن الأعمش، والأصمعي عن نافع: «لوُ استطعنا» بضم الواو، وكذا أين وقع، مثل: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ «٤»، كأنه لما احتيج إلى حركة الواو، حركت بالضم لأنها أخت الواو، والمعنى: لو قدرنا وكان لنا سَعَةٌ في المال. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالكذب والنفاق وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لأنهم كانوا أغنياء ولم يخرجوا.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٣]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣)
قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ كان عليه السّلام قد أذن لقوم من المنافقين في التخلُّف لمَّا خرج إلى تبوك، قال ابن عباس: ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين.
(٧٠٥) قال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما رسول الله ﷺ ولم يؤمر بهما: أذّنه للمنافقين، وأخذه
مرسل. أخرجه الطبري ١٦٧٨٠ عن عمرو بن ميمون الأودي... وذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٥٧٣ عن عمرو. انظر «تفسير القرطبي» ٨/ ١٣٩ و «تفسير الشوكاني» ٢/ ٤١٩.
__________
(١) سورة التوبة: ١٢٢. [.....]
(٢) سورة التوبة: ٩١.
(٣) سورة التوبة: ٩١.
(٤) سورة الكهف: ١٨.
الفداء من الأسارى فعاتبه الله كما تسمعون. قال مورِّق: عاتبه ربُّه بهذا. وقال سفيان بن عيينة: انظر إلى هذا اللطف، بدأه بالعفو قبل أن يعيِّره بالذَّنْب. وقال ابن الأنباري: لم يخاطَب بهذا لجرم أجرمه، لكنَّ الله وقَّره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريماً عليه: عفا الله عنك، ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك، هلاَّ زرتني.
قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فيه قولان: أحدهما: أن معناه: حتى تعرف ذوي العذر في التخلُّف ممن لا عذر له. والثاني: لو لم تأذن لهم لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم. قال قتادة: ثم إن الله تعالى نسخ هذه الآية بقوله تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «١».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قال ابن عباس: هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود. قال الزجاج: أعلم الله عزّ وجلّ نبيّه ﷺ أنَّ علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان.
(فصل:) وروي عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية بقوله تعالى: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ «٢» إلى آخر الآية. قال أبو سليمان الدّمشقي: وليس للنّسخ ها هنا مدخل، لإمكان العمل بالآيتين، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة، وكان المنافقون إذا كانوا معه فعرضت لهم حاجة، ذهبوا من غير استئذانه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)
قوله تعالى: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ يعني المستأذنين له في القعود. وفي المراد بالعُدَّة قولان:
أحدهما: النية، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: السلاح والمركوب وما يصلح للخروج، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والانبعاث: الانطلاق. والتثبُّط: ردُّك الإنسان عن الشيء يفعله. قوله تعالى:
وَقِيلَ اقْعُدُوا في القائل لهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أُلهموا ذلك خذلاناً لهم. قاله مقاتل.
والثاني: أنّ النبيّ ﷺ قاله غضباً عليهم. والثالث: أنه قول بعضهم لبعض، ذكرهما الماوردي «٣». وفي المراد بالقاعدين قولان: أحدهما: أنهم القاعدون بغير عذر، قاله ابن السائب. والثاني: أنهم القاعدون بعذر، كالنساء والصبيان، ذكره عليّ بن عيسى. قال الزّجّاج: ثم أعلم الله عزّ وجلّ لم كره خروجهم،
(١) سورة النور: ٦٢.
(٢) سورة النور: ٦٢.
(٣) انظر «تفسير القرطبي» ٨/ ١٤٢. و «تفسير الشوكاني» ٢/ ٤١٨.
فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا والخبال: الفساد وذهاب الشيء. وقال ابن قتيبة: الخبال:
الشر.
فان قيل: كأن الصحابة كان فيهم خبال حتى قيل: ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا؟ فالجواب: أنه من الاستثناء المنقطع، والمعنى: ما زادوكم قوَّة، لكن أوقعوا بينكم خبالاً.
(٧٠٦) وقيل: سبب نزول هذه الآية أنّ النبيّ ﷺ لما خرج، ضرب عسكره على ثنيَّة الوداع، وخرج عبد الله بن أُبيّ، فضرب عسكره على أسفل من ذلك فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلَّف ابن أُبي فيمن تخلَّف من المنافقين، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قال الفراء: الإيضاع: السير بين القوم. وقال أبو عبيدة:
لأسرعوا بينكم، وأصله من التخلل. قال الزجاج: يقال: أوضعت في السير: أسرعت.
قوله تعالى: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ قال الفراء: يبغونها لكم. وفي الفتنة قولان: أحدهما: الكفر، قاله الضحاك، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: تفريق الجماعة، وشتات الكلمة. قال الحسن: لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات بينكم.
قوله تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فيه قولان: أحدهما: عيون ينقلون إليهم أخباركم، قاله مجاهد، وابن زيد. والثاني: مَن يسمع كلامهم ويطيعهم، قاله قتادة، وابن إسحاق.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٨]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
قوله تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ في الفتنة قولان: أحدهما: الشر، قاله ابن عباس. والثاني:
الشرك، قاله مقاتل. قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قَبْلِ غزوة تبوك. وفي قوله تعالى: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ خمسة أقوال: أحدها: بَغَوْا لك الغوائل، قاله ابن عباس. وقيل: إن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على طريقه ليلاً ليفتكوا به، فسلَّمه الله منهم. والثاني: احتالوا في تشتُّت أمرك وإبطال دينك، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: وذلك كانصراف ابن أُبيّ يوم أُحد بأصحابه.
والثالث: أنه قولهم ما ليس في قلوبهم. والرابع: أنه ميلهم إليك في الظاهر، وممالأة المشركين في الباطن. والخامس: أنه حلفهم بالله لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي.
قوله تعالى: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ يعني النصر وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ يعني الإسلام.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي
هو بعض حديث، أخرجه الطبري ١٦٧٩٩ من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر.
(٧٠٧) سبب نزولها أنّ رسول الله ﷺ قال للجَدِّ بن قيس: «يا جَدُّ، هل لك في جِلاد بني الأصفر، لعلك أن تغنم بعض بنات الأصفر»، فقال: يا رسول الله، ائذن لي فأقيم، ولا تفتني ببنات الأصفر. فأعرض عنه، وقال: «قد أذنت لك»، ونزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وهذه الآية وما بعدها إلى قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ في المنافقين.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ يعني المنافقين مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي أي: في القعود عن الجهاد، وهو الجد بن قيس. وفي قوله تعالى: وَلا تَفْتِنِّي أربعة أقوال: أحدها: لا تفتنّي بالنساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد. والثاني: لا تُكسبني الإثم بأمرك إيَّايَ بالخروج وهو غير متيسِّر لي، فآثم بالمخالفة، قاله الحسن، وقتادة، والزجاج. والثالث: لا تكفِّرني بإلزامك إيَّايَ الخروج، قاله الضحاك.
والرابع: لا تصرفني عن شغلى، قاله ابن بحر.
قوله تعالى: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا في هذه الفتنة أربعة أقوال: أحدها: أنها الكفر، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الحرج، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: الإثم، قله قتادة، والزجاج. والرابع: العذاب في جهنم، ذكره الماوردي.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)
قوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ أي: نصر وغنيمة. والمصيبة: القتل والهزيمة. يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أي: عَمِلنا بالحزم فلم نخرج. وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ بمصابك وسلامتهم. قوله تعالى: إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما قضى علينا، قاله ابن عباس. والثاني: ما بيَّن لنا في كتابه من أنَّا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا، أو نقتل فتكون الشهادةُ حسنى لنا أيضاً، قاله الزجاج. والثالث: لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا من النصر الذي وُعدنا، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: هُوَ مَوْلانا أي: ناصرنا.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٢]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أي: تنتظرون. والحسنيان: النصر والشهادة. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ في هذا العذاب قولان: أحدهما: الصواعق، قاله ابن عباس. والثاني: الموت، قاله ابن جُرَيج. قوله تعالى: أَوْ بِأَيْدِينا يعني: القتل.
أخرجه الطبراني في «الكبير» ٢١٥٤ و ١٢٦٥٤ من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في المجمع ٧/ ٣٠: وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف اه. قلت: وبشر بن عمارة ضعيف، والضحاك لم يسمع من ابن عباس، وللحديث شواهد. انظر «الدر المنثور» ٣/ ٤٩ و «دلائل النبوة» للبيهقي ٥/ ٢١٣ و ٢١٤.

[سورة التوبة (٩) : آية ٥٣]

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣)
قوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.
(٧٠٨) سبب نزولها أن الجدّ بن قيس قال للنبي ﷺ لما عرض عليه غزو الروم: إذا رأيت النساء افتتنت ولكن هذا مالي أعينك به، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
قال الزجاج: وهذا لفظ أمر، ومعناه معنى الشرط والجزاء، المعنى: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يُتقبَّل منكم. ومثله في الشعر قول كثيِّر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً لَدينا ولا مَقْلِيَّةً إن تَقَلَّتِ «١»
لم يأمرها بالإساءة، ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها. قال الفراء. ومثله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «٢».
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٤]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)
قوله تعالى: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تقبل» بالتاء: وقرأ حمزة، والكسائيّ: «يقبل» بالياء. وقال أبو علي: من أنَّث، فلأن الفعل مسند إلى مؤنَّث في اللفظ ومن قرأ بالياء، فلأنه ليس بتأنيث حقيقي، فجاز تذكيره كقوله تعالى:
فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «٣». وقرأ الجحدري: «أن يَقبل» بياء مفتوحة، «نفقاتِهم» بكسر التاء. وقرأ الأعمش: «نفقتهم» بغير ألف، مرفوعة التاء. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء: «أن يَقبل» بالياء «نفقتهم» بنصب التاء على التوحيد.
قوله تعالى: إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ قال ابن الانباري: «أن» هاهنا مفتوحة، لأنها بتأويل المصدر مرتفعة ب «منعهم»، والتقدير: وما منعهم قبول النفقة منهم إلا كفرهم بالله.
قوله تعالى: إِلَّا وَهُمْ كُسالى قد شرحناه في سورة (النساء) «٤».
قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ لأنهم يعدُّون الإنفاق مغرماً.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٥]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)
قوله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ أي: لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٦٨١٨ عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، ابن جريج لم يسمع ابن عباس.
__________
(١) البيت منسوب إلى كثير عزة، ديوانه: ١/ ٥٣. يقال قلاه: قلاه يقليه قلى كرهه وأبغضه، تقلى تبغض.
(٢) سورة التوبة: ٨٠.
(٣) سورة البقرة: ٢٧٥.
(٤) سورة النساء: ١٤٢.
وفي معنى الآية أربعة أقوال «١» : أحدها: فلا تعجبك أحوالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة. فعلى هذا في الآية تقديم وتأخير، ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها. والثاني: أنها على نظمها، والمعنى: ليُعذبهم بها في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، فهي لهم عذاب، وللمؤمنين أجر، قاله ابن زيد. والثالث: أن المعنى: ليعذبهم بأخذ الزكاة من أموالهم والنفقة في سبيل الله، قاله الحسن. فعلى هذا ترجع الكناية إلى الأموال وحدها. والرابع: ليعذبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم، ذكره الماوردي. فعلى هذا تكون في المشركين.
قوله تعالى: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي: تخرج، يقال: زهق السّهم: إذا جاوز الهدف.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
قوله تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي: مؤمنون، ويَفْرَقُونَ بمعنى يخافون. فأما الملجأ، فقال الزجاج: الملجأ واللَّجأ مقصور مهموز، وهو المكان الذي يُتحصن فيه. والمغارات:
جمع مغارة، وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان، أي: يستتر فيه. وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: «أو مُغارات» بضم الميم لأنه يقال: أغرت وغُرت: إذا دخلتَ الغور. وأصل مدَّخَل: مدتخل، ولكن التاء تبدل بعد الدال دالاً، لأن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والتاء والدال من مكان واحد، فكان الكلام من وجه واحد أخف. وقرأ أُبيٌّ، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «أو مُتَدَخَّلاً» برفع الميم، وبتاء ودال مفتوحتين، مشددة الخاء. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: «مُندخَلاً» بنون بعد الميم المضمومة. وقرأ الحسن، وابن يعمر، ويعقوب: «مدخلاً» بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها. قال الزجاج: من قال: «مَدْخلاً» فهو من دخل يدخل مدخلاً ومن قال: «مُدْخلاً» فهو من أدخلته مُدخلاً، قال الشاعر:
الحمد لله مُمْسَانا ومُصْبَحَنَا بالخير صبَّحنا رَبِّي ومسَّانا «٢»
ومعنى مدّخل: أنهم لو وجدوا قوماً يدخلون في جملتهم لَوَلَّوْا إليه، أي: إلى أحد هذه الأشياء وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: يسرعون إسراعاً لا يرد فيه وجوهَهم شيء. يقال: جمح وطمح: إذا أسرع ولم يردَّ وجهه شيء ومنه قيل: فرس جموح للذي إذا حمل لم يرده اللجام.
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٣٩١: وأولى التأويلين. في ذلك عندنا. التأويل الذي ذكرنا عن الحسن، لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل، فصرف تأويله إلى ما دل عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته. وإنما وجّه من وجّه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا، وجها يوجهه إليه، وقال: كيف يعذبهم بذلك في الدنيا وهي لهم فيها سرور؟ ذهب عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه، إلزامه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيب النفس، ولا راج من الله جزاء، ولا من الأخذ منه حمدا ولا شكرا. على ضجر منه وكره. ا. هـ.
(٢) البيت لأمية بن أبي الصلت في «اللسان» ما.

[سورة التوبة (٩) : آية ٥٨]

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فيمن نزلت فيه قولان:
(٧٠٩) أحدهما: أنه ذو الخويصرة التّميمي، قال للنبيّ ﷺ يوماً: اعدل يا رسول الله، فنزلت هذه الآية. ويقال: أبو الخواصر. ويقال: ابن ذي الخويصرة.
(٧١٠) والثاني: أنه ثعلبة بن حاطب كان يقول: إنما يعطي محمد من يشاء، فنزلت هذه الآية.
قال ابن قتيبة: «يلمزك» يعيبك ويطعن عليك. يقال: همزت فلاناً ولمزته: إذا اغتبته وعبته، والأكثرون على كسر ميم «يلمزك». وقرأ يعقوب، ونظيف عن قنبل، وأبان عن عاصم، والقزّاز عن عبد الوارث: «يلمزون» و «يلمزك» و «لا تلمزوا» بضم الميم فيهنَّ. وقرأ ابن السميفع: «يلامزك» مثل:
يفاعل. وقد رواها حماد بن سلمة عن ابن كثير. قال أبو علي الفارسي: وينبغي أن تكون فاعلت في هذا من واحد، نحو: طارقت النعل، وعافاه الله، لأن هذا لا يكون من النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقرأ الأعمش: «يلمِّزك» بتشديد الميم من غير ألف، مثل: يفعّلك. قال الزجاج: يقال: لمزت الرجل ألمِزُه وألمُزَه، بكسر الميم وضمها: إذا عبته، وكذلك: همزته أهمزه، قال الشاعر:
إذا لقيتُك تُبْدِي لي مُكَاشَرَةً وإن تَغَيَّبْتُ كنتَ الهامز اللّمزه «١»
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي: قنعوا بما أُعطوا. إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في الزيادة، أي: لكان خيراً لهم. وهذا جواب «لو»، وهو محذوف في اللفظ.
ثم بيَّن المستحق للصدقات بقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ اختلفوا في صفة الفقير والمساكين على ستة أقوال «٢» : أحدها: أن الفقير: المتعفف عن السّؤال، والمساكين: الذي يسأل
صحيح. أخرجه البخاري ٣٦١٠ و ٥٠٥٨ و ٦١٦٣ و ٦٩٣١ ومسلم ١٠٦٤ والنسائي في «التفسير» ٢٤٠ وابن ماجة ١٦٩ والطبري ١٦٨٣٢ والواحدي في «الوسيط» ٢/ ٥٠٥ كلهم من حديث أبي سعيد بأتم منه.
باطل لا أصل له، لم أقف له على إسناد والآية في المنافقين، وثعلبة بدري، وسيأتي حديثه مطولا.
__________
(١) البيت لزياد الأعجم: «مجاز القرآن» ١/ ١٦٣ و «اللسان» : همز.
(٢) قال الطبري في تفسيره ٦٥/ ٣٩٦: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: «الفقير» هو ذو الفقر والحاجة ومع حاجته يتعفف عن مسألة الناس والتذلل لهم في هذا الموضع، و «المساكين» هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم. وإنما قلنا إن ذلك كذلك، وإن كان الفريقان لم يعطيا إلا بالفقر والحاجة دون الذلة والمسألة لإجماع الجميع من أهل العلم أن «المساكين» إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر. وأن معنى «المسكنة» عند العرب الذلة، كما قال الله عز وجل وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة: ٦١]. يعني بذلك الهون والذلة، لا الفقر. فإذا كان الله جل ثناؤه قد صنف منهم غير الآخر، وإذا كان ذلك كذلك كان لا شك أن المقسوم له باسم «الفقير» غير المقسوم له باسم المسكنة والفقر هو الجامع إلى فقره المسكنة، وهي الذل بالطلب والمسألة فتأويل الكلام. إذا كان ذلك معناه: إنما الصدقات للفقراء: المتعفف منهم الذي لا يسأل والمتذلل منهم الذي يسأل. اه. [.....]
269
وبه رَمَق، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وجابر بن زيد والزهري والحكم وابن زيد ومقاتل. والثاني:
أن الفقير: المحتاج الذي به زمانة، والمساكين: المحتاج الذي لا زمانة به، قاله قتادة. والثالث: الفقير:
المهاجر، والمساكين: الذي لم يهاجر، قاله الضحاك بن مزاحم والنّخعيّ. والرابع: الفقير: فقير المسلمين، والمساكين: من أهل الكتاب، قاله عكرمة. والخامس: أن الفقير: من له البلغة من الشيء، والمساكين: الذي ليس له شيء، قاله أبو حنيفة ويونس بن حبيب ويعقوب بن السكّيت وابن قتيبة.
واحتجوا بقول الراعي:
أمَّا الفقيرُ الذي كانتْ حَلُوبَتُه وفقَ العيال فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ «١»
فسماه فقيراً، وله حَلوبة تكفيه وعياله. وقال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا والله، بل مساكين يريد: أنا أسوأ حالاً من الفقير. والسادس: أنّ الفقير أمسّ حاجة من المساكين، وهذا مذهب أحمد، لأن الفقير مأخوذ من انكسار الفَقار، والمسكنة مأخوذة من السكون والخشوع، وذلك أبلغ. قال ابن الأنباري: ويروى عن الأصمعيّ أنه قال: المساكين أحسن حالاً من الفقير. وقال أحمد بن عبيد: المساكين أحسن حالاً من الفقير، لأن الفقير أصله في اللغة: المفقور الذي نزعت فَقره من فِقَرِ ظهره، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر، فصُرف عن مفقور إلى فقير، كما قيل: مجروح وجريح، ومطبوخ وطبيخ، قال الشاعر:
لَمّا رأى لُبَدَ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ رَفَعَ القَوادِمَ كالفقيرِ الأعْزَلِ «٢»
قال: ومن الحجة لهذا القول قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ «٣» فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالاً قال: وهو الصحيح عندنا.
قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة لجباية الصدقة، يُعْطَوْنَ منها بقدر أُجُور أمثالهم، وليس ما يأخذونه بزكاة.
قوله تعالى: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم قوم كان رسول الله ﷺ يتألَّفهم على الإسلام بما يعطيهم، وكانوا ذوي شرف، وهم صنفان: مسلمون، وكافرون. فأما المسلمون، فصنفان صنف كانت نِيَّاتُهم في الإسلام ضعيفة، فتألَّفهم تقويةً لِنيَّاتهم، كعُيَيْنة بن حصن، والأقرع وصنف كانت نياتهم حسنة، فأُعطوا تألُّفاً لعشائرهم من المشركين، مثل عدي بن حاتم. وأما المشركون، فصنفان، صنف يقصدون المسلمين بالأذى، فتألَّفهم دفعاً لأذاهم، مثل عامر بن الطفيل وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام،
(١) البيت منسوب إلى الراعي ديوان: ٥٥. الحلوبة: الناقة التي تحلب. وفق العيال: لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه عنهم. السبد: الشعر. وقيل الوبر.
(٢) البيت منسوب إلى لبيد، ديوانه ٢٧٤ و «اللسان». فقر. الأعزل: المائل الذنب توصف به الخيل. القوادم:
أربع ريشات في مقدم الجناح. الفقير: المكسور الفقار وهي ما انتصف من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب.
(٣) سورة الكهف: ٧٩.
270
تألَّفهم بالعطية ليؤمنوا، كصفوان بن أُمية. وقد ذكرت عدد المؤلفة في كتاب «التلقيح». وحكمهم باقٍ عند أحمد في رواية، وقال أبو حنيفة، والشافعي: حكمهم منسوخ. قال الزهري: لا أعلم شيئا نسخَ حكم المؤلَّفة قلوبهم.
قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ قد ذكرناه في سورة (البقرة) «١».
قوله تعالى: وَالْغارِمِينَ وهم الذين لزمهم الدَّين ولا يجدون القضاء. قال قتادة: هم ناس عليهم دَيْنٌ من غير فساد ولا إِسراف ولا تبذير، وإنما قال هذا، لأنه لا يؤمَن في حق المفسد إذا قُضِيَ دَيْنُه أن يعود إلى الاستدانة لذلك ولا خلاف في جواز قضاء دينه ودفع الزكاة إليه، ولكن قتادة قاله على وجه الكراهية.
قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني: الغزاة والمرابطين. ويجوز عندنا أن يعطى الأغنياء منهم والفقراء، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يعطى إلا الفقير منهم. وهل يجوز أن يصرف من الزكاة إلى الحج، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان.
قوله تعالى: وَابْنِ السَّبِيلِ هو المسافر المنقطع به، وإن كان له مال في بلده قاله مجاهد، وقتادة، وأبو حنيفة، وأحمد. فأما إذا أراد أن ينشئ سفراً، فهل يجوز أن يعطى؟ قال الشافعي: يجوز، وعن أحمد نحوه وقد ذكرنا في سورة (البقرة) فيه أقوالاً فيه أقوالاً عن المفسرين.
قوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ يعني أن الله افترض هذا.
(فصل:) وحدُّ الغنى الذي يمنع أخذ الزكاة عند أصحابنا بأحد شيئين: أن يكون مالكاً لخمسين درهماً، أو عِدلها من الذهب، سواء كان ذلك يقوم بكفايته أو لا يقوم، والثاني: أن يكون له كفاية، إمّا بصنعة، أو أجرة عقار، أو عروض للتجارة يقوم ربحها بكفايته. وقال أبو حنيفة: الاعتبار في ذلك أن يكون مالكاً لنصاب تجب عليه فيه الزكاة. فأما ذوو القربى الذين تحرم عليهم الصدقة، فهم بنو هاشم، وبنو المطلب. وقال أبو حنيفة: تحرم على ولد هاشم، ولا تحرم على ولد المطلب. ويجوز أن يعمل على الصدقة من بني هاشم وبني المطلب ويأخذ عمالته منها، خلافاً لأبي حنيفة. فأما موالي بني هاشم وبني المطلب، فتحرم عليهم الصدقة، خلافاً لمالك. ولا يجوز أن يعطيَ صدقته مَنْ تلزمه نفقتُه وبه قال مالك، والثوري. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعطي والداً وإن علا، ولا ولداً وإن سفل، ولا زوجه، ويعطي مَنْ عَداهم. فأما الذميُّ فالأكثرون على أنه لا يجوز إعطاؤه. وقال عبيد الله بن الحسن: إذا لم يجد مسلماً، أعطي الذمي. ولا يجب استيعاب الأصناف ولا اعتبار عدد من كل صنف وهو قول أبي حنيفة، ومالك وقال الشافعي: يجب الاستيعاب من كل صنف ثلاثة.
فأما إذا أراد نقل الصدقة من بلد المال إلى موضع تُقصر فيه الصلاة، فلا يجوز له ذلك، فان نقلها لم يُجزئه وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يكره نقلها، وتجزئه. قال أحمد: ولا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهماً. وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطي رجل واحد من الزكاة مائتي درهم، وإن أعطيته أجزأك. فأما الشافعي، فاعتبر ما يدفع الحاجةَ من غير حدّ. فان أعطى من يظنّه فقيرا، فبان أنه
(١) سورة البقرة: ١٧٧ قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ... وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ.
271
غنيّ، فهل يجزئ، فيه عن أحمد روايتان.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦١]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)
قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٧١١) أحدها: أن خِذام بن خالد، والجُلاس بن سويد، وعبيد بن هلال في آخرين، كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فانا نخاف أن يبلغه فيقع بنا، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا، فانما محمد أُذنٌ سامعة، ثم نأتيه فيصدِّقنا فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٧١٢) والثاني: إن رجلاً من المنافقين يقال له: نَبْتَل بن الحارث، كان ينمّ حديث رسول الله ﷺ إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل فقال: إنما محمد أُذن، مَنْ حدَّثه شيئاً صدقه نقول ما شئنا، ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا، فنزلت هذه الآية قاله محمد بن إسحاق.
(٧١٣) والثالث: أن ناساً من المنافقين منهم جلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، اجتمعوا، فأرادوا أن يقعوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه، فتكلموا وقالوا: لئن كان ما يقوله محمد حقاً، لنحن شر من الحمير، فغضب الغلام، وقال: والله إِن ما يقوله محمد حق، وإنكم لشرٌ من الحمير ثم أتى النبيّ ﷺ فأخبره، فدعاهم فسألهم، فحلفوا أن عامراً كاذب، وحلف عامر أنهم كذبُوا، وقال: اللهم لا تفرِّق بيننا حتى تبيِّنَ صدق الصادق، وكذب الكاذب فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، قاله السدي.
فأما الأذى فهو عيبه ونقل حديثه. ومعنى أُذُنٌ يقبل كل ما قيل له، قال ابن قتيبة: الأصل في هذا أن الأُذُنَ هي السامعة، فقيل لكل من صدَّق بكل خبر يسمعه: أذن. وجمهور القرّاء يقرءون: هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ بالتثقيل. وقرأ نافع: «هو أذنٌّ قل أُذْنُ خير» باسكان الذال فيهما. ومعنى أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي: أذن خير، لا أُذُنُ شرّ يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشرَّ إذا سمعه. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن يعمر، وابن أبي عبلة «أُذُنٌ» بالتنوين، «خيرٌ» بالرفع.
والمعنى: إن كان كما قلتم، يسمع منكم ويصدِّقكم، خيرٌ لكم من أن يكذِّبكم. قال أبو علي: يجوز أن تطلق الأذن على الجملة كما قال الخليل: إنما سميت النابُ من الإبل لمكان الناب البازل، فسميت الجملة كلُّها به، فأجرَوا على الجملة اسم الجارحة لإرادتهم كثرة استعماله لها في الإصغاء بها. ثم بيّن
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ص ٢٥٤ فقال: نزلت في جماعة من المنافقين.
مرسل. أخرجه الطبري ١٦٩١٥ عن ابن إسحاق مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٠٨ بدون إسناد. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢/ ٤٣٠.
أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٣/ ٢٥٣ عن السدي مرسلا. وأخرجه الطبري ١٦٩٢٢ عن قتادة مرسلا.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٠ عن السدي بدون إسناد. وانظر «تفسير القرطبي» ٨/ ١٧٨.
ممن يَقبل، فقال: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ قال ابن قتيبة: الباء واللام زائدتان والمعنى: يصدِّق اللهَ ويصدِّقُ المؤمنين. وقال الزجاج: يسمع ما ينزِّله الله عليه، فيصدِّق به، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به. وَرَحْمَةٌ أي: وهو رحمة، لأنه كان سبب إيمان المؤمنين. وقرأ حمزة «ورحمةٍ» بالخفض. قال أبو علي: المعنى: أُذُنُ خيرٍ ورحمة. والمعنى: مستمعُ خيرٍ ورحمةٍ.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٢]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)
قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ.
(٧١٤) قال ابن السائب: نزلت في جماعة من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم، ويحلفون ويعتلّون. وقال مقاتل: منهم عبد الله بن أُبيّ، حلف لا يتخلّف عن رسول الله ﷺ ولَيكونَنَّ معه على عدوِّه.
وقد ذكرنا في الآية التي قبلها أنهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب. وحكى الزجاج عن بعض النحويين أنه قال: اللام في: «ليرضوكم» بمعنى القسم، والمعنى: يحلفون بالله لكم لنرضينَّكم. قال:
وهذا خطأ، لأنّهم حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليُرضُوا باليمين، ولم يحلفوا أنهم يُرضُون في المستقبل. قلت: وقول مقاتل يؤكد ما أنكره الزجاج، وقد مال إليه الأخفش.
قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ فيه قولان: أحدهما: بالتوبة والإِنابة. والثاني: بترك الطعن والعيب. فان قيل: لم قال: «يُرضُوه» ولم يقل: يرضوهما؟ فقد شرحنا هذا عند قوله تعالى:
وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ «١».
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٣]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا روى أبو زيد عن المفضل «ألم تعلموا» بالتاء. أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ فيه قولان: أحدهما: من يخالف الله، قاله ابن عباس. والثاني: من يعاد الله، كقولك: من يُجانِبِ الله ورسوله، أي: يكون في حدٍّ، واللهُ ورسولُه في حدٍّ.
قوله تعالى: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ قرأ الجمهور: «فأن» بفتح الهمزة، وقرأ أبو رزين، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: بكسرها، فمن كسر، فعلى الاستئناف بعد الفاء، كما تقول: فله نار جهنم.
ودخلت «إِنّ» مؤكدة. ومن قال: «فأَنَّ له» فانما أعاد «أنَّ» الأولى توكيداً لأنه لما طال الكلام، كان إعادتها أوكد.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٤]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤)
عزاه المصنف للكلبي، وهو ممن يضع الحديث فالخبر لا شيء.
__________
(١) سورة التوبة: ٣٤.
قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٧١٥) أحدها: أن المنافقين كانوا يعيبون رسول الله ﷺ فيما بينهم، ويقولون: عسى الله أن لا يفشي سرَّنا فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
(٧١٦) والثاني: أن بعض المنافقين قال: لوددت أني جُلدت مائة جلدة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
(٧١٧) والثالث: أنّ جماعة من المنافقين وقفوا للنبيّ ﷺ في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به، فأخبره جبريل عليه السلام، ونزلت هذه الآية، قاله ابن كيسان.
وفي قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ قولان: أحدهما: أنه إخبار من الله عزّ وجلّ عن حالهم، قاله الحسن، وقتادة واختاره ابن القاسم. والثاني: أنه أمر من الله عزّ وجلّ لهم بالحذر، فتقديره: ليحذر المنافقون، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر، فيقولون:
يرحم الله المؤمن، ويعذب الكافر يريدون: ليرحم وليعذب، فيسقطون اللام ويُجْرُونَه مجرى الخبر في الرفع، وهم لا ينوون إلا الدعاء والدعاء مضارع للأمر.
قوله تعالى: قُلِ اسْتَهْزِؤُا هذا وعيد خرج مخرج الأمر تهديداً. وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وجهان: أحدهما: مظهر ما تُسِرُّون. والثاني: ناصر مَنْ تخذلون، ذكرهما الماوردي.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ في سبب نزولها ستة أقوال:
(٧١٨) أحدهما: أن جَدَّ بنَ قيس، ووديعة بن خذام، والجُهَير بن خُمَير، كانوا يسيرون بين يدي رسول الله ﷺ مرجعه من تبوك، فجعل رجلان منهم يستهزئان برسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث يضحك مما يقولان ولا يتكلم بشيء، فنزل جبريل فأخبره بما يستهزئون به ويضحكون فقال لعمار بن ياسر:
«اذهب فسلهم عما كانوا يضحكون منه، وقل لهم: أحرقكم الله»، فلما سألهم، وقال: أحرقكم الله
أخرجه الطبري ١٦٩٢٣ عن مجاهد مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٠ م عن مجاهد مرسلا.
عزاه المصنف للسدي، وهذا معضل، والمتن غريب، فهو واه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٠ عن السدي مرسلا.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٦ عن الضحاك. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» ٥/ ٢٦٠ و ٢٦١ من حديث حذيفة بنحوه وأتم. وأخرجه أيضا البيهقي في «الدلائل» ٥/ ٢٥٦- ٢٥٧ عن عروة مرسلا بأتم منه.
وأخرجه أحمد ٥/ ٤٥٣ و ٤٥٤ من حديث أبي الطفيل مع اختلاف فيه. الخلاصة هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة لأنها من طريق الكلبي.
274
علموا أنه قد نزل فيهم قرآن، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الجُهَير: والله ما تكلَّمت بشيء، وإنما ضحكت تعجّبا من قولهم فنزل قوله تعالى: لا تَعْتَذِرُوا يعني جَدَّ بن قيس، ووديعة إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ يعني الجهير نُعَذِّبْ طائِفَةً يعني الجدّ ووديعة، وهذا قول أبي صالح عن ابن عباس.
(٧١٩) والثاني: أن رجلاً من المنافقين قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، ولا أرغبَ بطوناً، ولا أكذبَ، ولا أجبنَ عند اللقاء يعني رسول الله ﷺ وأصحابه فقال له عوف بن مالك. كذبت، لكنّك منافق، لأخبرنّ رسول الله ﷺ فذهب ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، هذا قول ابن عمر وزيد بن أسلم والقرظي.
(٧٢٠) والثالث: أن قوماً من المنافقين كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن كان ما يقول هذا حقاً، لنحن شرٌّ من الحمير فأعلم الله نبيه ما قالوا، ونزلت: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ، قاله سعيد بن جبير.
(٧٢١) والرابع: أن رجلاً من المنافقين قال: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، وما يُدريه ما الغيب؟ فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
(٧٢٢) والخامس: أن ناساً من المنافقين قالوا: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات فأطلع الله نبيّه على ذلك، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «احبسوا علي الرَّكب»، فأتاهم، فقال: «قلتم كذا وكذا»، فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
(٧٢٣) والسادس: أن عبد الله بن أُبيٍّ، ورهطاً معه، كانوا يقولون في رسول الله ﷺ وأصحابه ما لا ينبغي، فإذا بلغ رسول الله ﷺ قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فقال الله تعالى: قُلْ لهم أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟ قاله الضّحّاك.
فقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: عما كانوا فيه من الاستهزاء لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أي: نلهو بالحديث. وقوله تعالى: قَدْ كَفَرْتُمْ أي: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان وهذا يدل على أن الجِدَّ واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.
قوله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ قرأ الأكثرون «إن يُعْفَ» بالياء، «تعذّب» بالتاء. وقرأ
أخرجه الطبري ١٦٩٢٨ من حديث عبد الله بن عمر، وفيه هشام بن سعد ضعفه غير واحد. وأخرجه برقم ١٦٩٢٧ عن زيد بن أسلم مرسلا، وهو أصح. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٢ عن زيد بن أسلم ومحمد بن كعب.
ضعيف. أخرجه الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر المنثور» ٣/ ٤٥٦ عن سعيد بن جبير مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
أخرجه الطبري ١٦٩٣٣ عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
- وأخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر كما في «الدر المنثور» ٣/ ٤٥٦ عن مجاهد مرسلا.
أخرجه الطبري ١٦٩٣٠ عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
- وذكره الواحدي في أسباب النزول ٥١١ عن قتادة بدون ذكر السند مرسلا.
عزاه المصنف للضحاك، وهذا مرسل فهو واه.
275
عاصم غير أبان «إن نَعْفُ»، «نُعَذِّبْ»، بالنون فيهما ونصب «طائفةً»، والمعنى: إن نعف عن طائفة منكم بالتوفيق للتوبة، نعذِّب طائفةً بترك التّوبة. وقيل: الطّائفتان ها هنا ثلاثة، فاستهزأ اثنان وضحك واحد.
ثم أنكر عليهم بعض ما سمع. وقد ذكرنا عن ابن عباس أسماء الثلاثة، وأن الضاحك اسمه الجُهَيْر، وقال غيره: هو مَخْشِيُّ بن خُمَيْر. وقال ابن عباس ومجاهد: الطائفة الواحد فما فوقه. وقال الزجاج:
أصل الطائفة في اللغة الجماعة ويجوز أن يقال للواحد طائفة، يراد به نفس طائفة. وقال ابن الأنباري:
إذا أريد بالطائفة الواحد كان أصلها طائفاً، على مثال: قائم وقاعد، فتدخل الهاء للمبالغة في الوصف، كما يقال: راوية، علّامة، نسّابة. قال عمر بن الخطّاب: ما فُرغ من تنزيل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
قوله تعالى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ قال ابن عباس: بعضهم على دين بعض وقال مقاتل: بعضهم أولياء بعض يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وهو الكفر وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وهو الإيمان. وفي قوله تعالى: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ أربعة أقوال: أحدها: يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد. والثاني: عن كل خير، قاله قتادة. والثالث: عن الجهاد في سبيل الله. والرابع: عن رفعها في الدعاء إلى الله، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ قال الزجاج: تركوا أمره، فتركهم من رحمته وتوفيقه. قال:
وقوله تعالى: هِيَ حَسْبُهُمْ أي: هي كفاية ذنوبهم، كما تقول: عذَّبتُك حسبَ فِعلك، وحسبُ فلان ما نزل به، أي: ذلك على قدر فعله. وموضع الكاف في قوله تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
نصب، أي: وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم. وقال غيره: رجع عن الخبر عنهم إلى مخاطبتهم، وشبَّههم في العدول عن أمره بمن كان قبلهم من الأمم الماضية.
قوله تعالى: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ قال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا. وقال الزجاج: بحظهم من الدنيا. قوله تعالى: وَخُضْتُمْ أي: في الطعن على الدِّين وتكذيب نبيكم كما خاضوا. أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا لأنها لم تُقبل منهم، وفي الآخرة، لأنهم لا يثابون عليها، وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ بفوت الثواب وحصول العقاب.
قوله تعالى: وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ قال ابن عباس: يريد نمرود بن كنعان وَأَصْحابِ مَدْيَنَ يعني قوم شعيب وَالْمُؤْتَفِكاتِ قرى لوط. قال الزجاج: وهم جمع مؤتفكة، ائتفكت بهم الأرض، أي:
انقلبت. قال: ويقال إنَّهم جميع من أُهلك، كما يقال للهالك: انقلبت عليه الدنيا. قوله تعالى:
أَتَتْهُمْ يعني هذه الأمم رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فكذَّبوا بها فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ قال ابن عباس:
ليهلكم حتى يبعث فيهم نبياً ينذرهم، والمعنى أنهم أهلكوا باستحقاقهم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي: بعضهم يوالي بعضاً، فهم يد واحدة، يأمرون بالإيمان، وينهون عن الكفر.
قوله تعالى: فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قال أبو عبيدة: في جنات خُلْد، يقال: عَدَن فلان بأرض كذا، أي: أقام ومنه: المْعِدنُ، وهو في مَعْدِن صدق، أي: في أصل ثابت. قال الأعشى:
وإن تَستضيفوا إلى حِلْمه تُضافوا إلى راجح قد عَدَن «١»
أي: رزين لا يُستخف. قال ابن عباس: جنات عدن، هي بُطنان الجنة، وبُطنانها: وسطها، وهي أعلى درجة في الجنة، وهي دار الرّحمن عزّ وجلّ، وسقفها عرشه، خلقها بيده، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها.
قوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عباس: أكبر مما يوصف. وقال الزجاج: أكبر مما هم فيه من النعيم. فان قيل: لم كان الرضوان أكبر من النعيم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن سرور القلب برضى الرب نعيم يختص بالقلب، وذاك أكبر من نعيم الأكل والشرب.
(٧٢٤) وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: «يقول الله عزّ وجلّ لأهل الجنة: يا أهل الجنة، هل رضيتم؟ فيقولون: ربّنا وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك! فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدا».
صحيح. أخرجه البخاري ٧٥١٨ ومسلم ٢٨٢٩ وابن حبان ٧٤٤٠ وابن مندة ٨٢٠ وأبو نعيم في «الحلية» ٦/ ٣٤٢ وفي «صفة الجنة» ٢٨٢ والبيهقي في «البعث» ٤٤٥ من طرق عن ابن وهب عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به.
- وأخرجه البخاري ٦٥٤٩ ومسلم ٢٨٢٩ والترمذي ٢٥٥٥ وأحمد ٣/ ٨٨ وابن مندة ٨٢٠ والبيهقي في «البعث» ٤٤٥ من طريق ابن المبارك عن مالك من حديث أبي سعيد الخدري.
__________
(١) البيت منسوب إلى الأعشى في ديوانه: ١٧ و «اللسان» : وزن. استضاف إليه: لجأ إليه عند الحاجة.
والثاني: أن الموجِب للنعيم الرضوان، والموجَب ثمرة الموجب، فهو الأصل.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٣]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)
قوله تعالى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ أما جهاد الكفار فبالسيف. وفي جهاد المنافقين قولان «١» : أحدهما: أنه باللسان، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس. والثاني:
جهادهم باقامة الحدود عليهم، روي عن الحسن وقتادة. فان قيل: إذا كان رسول الله ﷺ قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم، فكيف تركهم بين أظهر أصحابه فلم يقتلهم «٢» ؟. فالجواب: أنه إنما أُمر بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام عليها، فأما من إذا أُطلع على كفره، أنكر وحلف وقال: إني مسلم، فإنّه أمر أن يأخذ بظاهر أمره، ولا يبحث عن سِرِّه.
قوله تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: يريد شدة الانتهار لهم، والنظر بالبغضة والمقت.
وفي الهاء والميم من «عليهم» قولان: أحدهما: أنه يرجع إلى الفريقين، قاله ابن عباس. والثاني: إلى المنافقين، قاله مقاتل.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٤]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا في سبب نزولها ثلاثة أقوال «٣» :
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٤٥٩: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال والله أعلم.
(٢) قال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» ٢/ ٥٤٤: قال علماء الإسلام ما تقدم، فأشكل ذلك واستبهم ولا أدري صحة هذه الأقوال في السند. أما المعنى فإن من المعلوم في الشريعة أن النبي ﷺ كان يجاهد الكفار بالسيف على اختلاف أنواعهم، حسب ما تقدم بيانه. وأما المنافقون فكان مع علمه بهم يعرض عنهم ويكتفي بظاهر إسلامهم ويسمع أخبارهم فيلغيها بالبقاء عليهم، وانتظار الفيئة إلى الحق بهم، وإبقاء على قومهم، لئلا تثور نفوسهم عند قتلهم، وحذرا من سوء الشنعة في أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، فكان لمجموع هذه الأمور يقبل ظاهر إيمانهم، وبادي صلاتهم، وغزوهم، ويكل سرائرهم إلى ربهم، وتارة كان يبسط لهم وجهه الكريم، وأخرى كان يظهر التغير عليهم. وأما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة، وأما قول من قال: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود فيهم لأن أكثر إصابة الحدود كانت عندهم فإنه دعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه النفاق كامنا، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا، وأخبار المحدودين يشهد مساقها أنهم لم يكونوا منافقين.
(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٤٢٢: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنهم يحلفون بالله كذبا على كلمة كفر تكلموا بها، أنهم لم يقولوها. وجائز أن يكون ذلك القول أن الجلاس قاله، وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبي بن سلول، والقول ما ذكر قتادة عنه أنه قال ولا علم لنا بأي ذلك من أي إذا كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة، ويتوصل به إلى يقين العلم به، وليس مما يدرك علمه بفطرة العقل، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جل ثناؤه: «يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم». ا. هـ.
278
(٧٢٥) أحدها: أنّ رسول الله ﷺ ذكر المنافقين فعابهم فقال الجُلاس بن سويد: إن كان ما يقول على إخواننا حقاً لنحن شرٌّ من الحمير. فقال عامر بن قيس: والله إنه لصادق ولأنتم شرٌّ من الحمير وأخبر رسول الله ﷺ بذلك، فأتى الجلاسُ فقال: ما قلت شيئاً، فحلفا عند المنبر، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وذهب إِلى نحوه الحسن ومجاهد وابن سيرين.
(٧٢٦) والثاني: أن عبد الله بن أُبيٍّ قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليُخرجن الأعزُّ منها الأذل، فسمعه رجل من المسلمين، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
(٧٢٧) والثالث: أن المنافقين كانوا إذا خَلَوْا، سبُّوا رسول الله وأصحابه، وطعنوا في الدين فنقل حذيفة إلى رسول الله ﷺ بعض ذلك، فحلفوا ما قالوا شيئاً، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك.
فأما كلمة الكفر، فهي سبّهم الرّسول ﷺ وطعنهم في الدّين. وفي سبب قوله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا أربعة أقوال:
(٧٢٨) أحدها: أنها نزلت في ابن أُبيّ حين قال: لئن رجعنا إلى المدينة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
(٧٢٩) والثاني: أنها نزلت فيهم حين همّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه مجاهد عن ابن عباس، قال: والذي همَّ رجل يقال له: الأسود. وقال مقاتل: هم خمسة عشر رجلاً، هَمُّوا بقتله ليلة العقبة.
(٧٣٠) والثالث: أنه لما قال بعض المنافقين: إن كان ما يقول محمد حَقّاً، فنحن شرٌّ من الحمير وقال له رجل من المؤمنين: لأنتم شرٌّ من الحمير، همَّ المنافق بقتله فذلك قوله تعالى:
وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا، هذا قول مجاهد.
(٧٣١) والرابع: أنهم قالوا في غزوة تبوك: إذا قدمنا المدينة، عقدنا على رأس عبد الله بن أُبيّ تاجاً نباهي به رسول الله ﷺ فلم ينالوا ما همّوا به.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة، مصدرها الكلبي وهو متهم. وأخرجه الطبري ٢٦٩٨٢ و ١٦٩٨٣ من طريقين عن هشام بن عروة عن أبيه، ومراسيل عروة جياد، والإسناد إليه صحيح، فهو مرسل جيد. وكرره الطبري ١٦٩٨٤ عن ابن إسحاق مختصرا، وهو معضل وله شواهد أخرى مرسلة.
مرسل. أخرجه الطبري ١٦٩٨٩ عن قتادة مرسلا، ولأصله شواهد.
- وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٥ عن قتادة مرسلا.
عزاه المصنف للضحاك، وهو مرسل، والمرسل من قسم الضعيف. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٤ عن الضحاك مرسلا. وانظر «الدر» ٣/ ٤٦٤ و ٤٦٥.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من طريق الكلبي. وأخرجه الطبري ١٦٩٨٩ عن قتادة مرسلا.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٥ عن قتادة مرسلا.
لم أره عن ابن عباس. وأخرجه الطبري ١٦٩٩٣ عن مجاهد مرسلا بنحوه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥١٦ عن الضحاك مرسلا. وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في «الدر المنثور» ٣/ ٤٦٤ عن الضحاك مرسلا.
مرسل. أخرجه الطبري ١٦٩٨٥ عن مجاهد مرسلا. وكرره ٦٩٨٦؟؟؟ و ١٦٩٨٧ عن مجاهد بنحوه.
عزاه البغوي ٢/ ٣٧٠ و ٣٧١ للسدي.
279
قوله تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ قال ابن قتيبة: أي: ليس ينقمون شيئاً، ولا يتعرفون من الله إلا الصنع، ومثله قول الشاعر:
مَا نَقَمَ النَّاسُ مِنْ أُمَيَّة إلاَّ أَنَّهُمْ يَحْلُمونَ إِنْ غَضِبُوا «١»
وأنَّهم سَادَةُ المُلُوْكِ وَلاَ تَصْلُحُ إلاّ عَلَيْهِمُ العَرَبُ
وهذا ليس مما يُنقم وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئاً، وكقول النابغة:
ولا عَيْبَ فِيْهِم غَيْرَ أَنَّ سُيوفَهم بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ «٢»
أي: ليس فيهم عيب. قال ابن عباس: كانوا قبل قدوم النبيّ ﷺ المدينة في ضَنْك من معاشهم، فلما قدم عليهم، غنموا، وصارت لهم الأموال. فعلى هذا، يكون الكلام عامّاً. وقال قتادة: هذا في عبد الله بن أُبيّ.
(٧٣٢) وقال عروة: هو الجلاس بن سويد، قُتل له مولى، فأمر له رسول الله ﷺ بديته، فاستغنى فلما نزلت فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ قال الجلاس: أنا أتوب إلى الله.
قوله تعالى: وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أي: يعرضوا عن الإيمان. قال ابن عباس: كما تولَّى عبد الله بن أُبّي، يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٥]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(٧٣٣) أحدها: أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، ادع الله
مرسل. أخرجه الطبري ١٦٩٩٤ عن عروة مرسلا، وتقدم. انظر «تفسير القرطبي» ٨/ ١٩٠.
باطل. أخرجه الطبري ١٧٠٠٢ والطبراني ٧٨٧٣ وفي «الطوال» ٢٠ والواحدي في «الأسباب» ٥١٧ و «الوسيط» ٢/ ٥١٣ والبيهقي في «الدلائل» ٥/ ٢٨٩- ٢٩٢ والحسن بن سفيان وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، وابن مندة والباوردي وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» وابن عساكر كما في «الدر المنثور» ٣/ ٤٦٧ من طرق عن معان بن رفاعة عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة به مطولا، وهذا إسناد ساقط، وهو مصنوع. وللإسناد علل، وللمتن علل كثيرة. أما علل الإسناد فهي:
١- معان بن رفاعة ضعفه الجوزجاني، ولينه يحيى، ووثقه المديني.
٢- علي بن يزيد. قال عنه البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: ليس بقوي.
وقال الدارقطني: متروك. «الميزان» ٣/ ١٦١.
- ومعلوم أن البخاري رحمه الله قال: كل من قلت عنه منكر الحديث، فلا يحل الرواية عنه.
٣- القاسم بن عبد الرحمن، أبو عبد الرحمن. قال عنه الإمام أحمد: روى عنه علي بن يزيد أعاجيب، وما أراها إلا من قبل القاسم. وقال ابن حبان: كان يزعم أنه لقي أربعين بدريا!!، كان ممن يروي عن أصحاب رسول الله ﷺ المعضلات، ويأتي عن الثقات بالمقلوبات، حتى يسبقك إلى القلب أنه المتعمد لها، ووثقه ابن معين. وقال يعقوب ابن شيبة: منهم من يضعفه، راجع «الميزان» ٣/ ٣٧٣.
__________
(١) البيت لعبد الله بن قيس الرقيات، ديوانه ٤ «مجاز القرآن» ١/ ١٧٠.
(٢) البيت للنابغة في «ديوانه» «مختار الشعر الجاهلي» ١٦١.
280
أن يرزقني مالاً، فقال: «ويحك يا ثعلبة، قليلٌ تؤدي شكرَهُ، خير من كثير لا تطيقه»، قال: ثم قال مرة أخرى، فقال: «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فو الّذي نفسي بيده، لو شئتُ أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة، لسارت» فقال: والذي بعثك بالحق، لئن دعوتَ الله أن يرزقني مالاً، لأوتينّ كلّ ذي حقّ
قلت: عند القاسم أحاديث لا بأس بها غير منكرة. خرج بعضها أصحاب السنن، وعنده أحاديث مناكير وأحاديث موضوعة، ومنها هذا الحديث، وكأنه أخذها عن مجاهيل، والذي نوزع به في هذا الحديث قول الإمام أحمد: روى عن علي بن يزيد أعاجيب، ولا أراها إلا من قبل القاسم. وإليك كلام العلماء في هذا الحديث: قال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢/ ٢٩٢: إسناد ضعيف جدا. وقال الهيثمي رحمه الله في «المجمع» ٧/ ٣١- ٣٢: فيه علي بن يزيد، وهو متروك. وقال ابن حزم رحمه الله في «جوامع السيرة» ص ٩٨: هذا باطل. هذا بالنسبة للإسناد. وأما المتن فهو معلول من وجوه أيضا منها.
١- سباق الآيات وسياقها، يدل على أن المراد بالآية المنافقون، لأن الآيات المتقدمة جميعا تدل على أن الخطاب للمنافقين أصلا، وهذا الحديث فيه أن ثعلبة كان مؤمنا ثم نافق بل ارتد.
٢- الآية الآتية فيها الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ... فكيف يلمز ثعلبة المطّوعين ويهزأ بهم مع أنه منقطع وحيدا في أعالي الجبال وبطون الوديان؟!! ٣- هذه الآية تذكر فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ والحديث يذكر أنه تاب وآمن وأناب، لكن لم يقبل منه.
٤- الحديث يذكر عدم قبول صدقات المنافقين. وهذا كان أوّلا، يدل عليه قوله تعالى وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة: ٥٤]، لكن هذا نسخ في حق من تاب منهم بقوله تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: ١٠٣]. فهذه الآية، تأمر النبي ﷺ بأن يقبل الصدقات ممن تاب من المنافقين. ومعلوم أن الآية لا تخصص في حق رجل أو أكثر إلا بخبر مشهور أو صحيح يرويه الشيخان أو أحدهما بإسناد كالشمس: فأين هذا الحديث من ذلك.
٥- التوبة لا تحجب عن أحد سوى إبليس- والأحاديث في ذلك كثيرة «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وتقدم تخريجه. وهو حديث قوي. وحديث «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» وهذا متفق عليه، وفي الباب أحاديث تبلغ حد التواتر. والآيات متظاهرة على قبول توبة التائب، فهل لهذا الخبر الواهي من مقام هاهنا.
٦- قد تواتر محاربة أبي بكر لمانعي الزكاة، وقال «لأقاتلن من يفرق بين الصلاة والزكاة» فكيف بمن جاء يؤدي الزكاة تائبا من ذنبه، ومن تلقاء نفسه، فهل يرد!!، مع أخذهم الزكاة من غيره بالقوة.
٧- لو كان وقع مثل هذا الخبر، لجاء متواترا لغرابته، ولما فيه من ترهيب، ولكونه بقي في الجبال والوديان وحيدا منبوذا في عهود متطاولة، فلكان ذلك على ألسنة الصحابة والتابعين تحذيرا لمن يفعل فعله، وكل ذلك لم يكن.
٨- هو مردود بآيات كثيرة تقبل التوبة ومن ذلك قوله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وإِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.
الخلاصة: هو حديث باطل لا أصل له. فالإسناد ساقط كما تقدم، والمتن منكر عجيب، وهو مردود بآيات كثيرة من القرآن الكريم، وبأحاديث كثيرة، سواء بقبول التوبة، أو بوجوب أخذ الزكاة، ونحو ذلك والله تعالى أعلم، فلا يفرح بروايات كهذه إلا اثنان، إما رجل لا يبالي برواية الحديث الموضوع وقد تواتر «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» وإما جاهل لا يعرف من هذا الدين إلا اسمه، ولا من العلم إلا رسمه. وانظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية، و «تفسير القرطبي» ٣٤٣٢ و «تفسير الشوكاني» ١٦٢٤ «وأحكام القرآن» ١١٦٩ وهي جميعا بتخريجي ولله الحمد والمنة.
281
حقّه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزق ثعلبة مالاً»، فاتخذ غنماً، فنمت، فضاقت عليه المدينة، فتنحَّى عنها، ونزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نَمت، حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، ثم نمت، فترك الجمعة. فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُخبر خبره، فقال: «يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة»، وأنزل الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «١» وأنزل فرائض الصدقة فبعث رسول الله رجلين على الصدقة، وكتب لهما كتاباً يأخذان الصدقة، وقال:
«مُرّا بثعلبة، وبفلان» رجل من بني سُليم، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله ﷺ فقال: ما هذا إلا جزية، ما هذه إلا أُخت الجزية، ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إليَّ. فانطلقا فأُخبر السُلَميّ، فاستقبلهما بخيار ماله، فقالا: لا يجب هذا عليك فقال: خذاه، فان نفسي بذلك طيبة فأخذا منه. فلما فرغا من صدقتهما، مرّا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فقال: ما هذه إلا أُخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا، فأخبرا رسول الله ﷺ بما كان، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى: وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ، وكان عند رسول الله ﷺ رجل من أقارب ثعلبة، فخرج إلى ثعلبة، فأخبره فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: «إن الله قد منعني أن أقبل صدقتك» فجعل يحثو التراب على رأسه. فقال: «هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني». فرجع إلى منزله، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل منه شيئاً، فلما ولي أبو بكر، سأله أن يقبل منه، فأبى، فلما ولي عمر، سأله أن يقبل منه، فأبى، فلما ولي عثمان، سأله أن يقبلها فقال: لم يقبلها رسول الله ﷺ ولا أبو بكر ولا عمر، فلم يقبلها وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه. روى هذا الحديث القاسم عن أبي أمامة الباهلي.
(٧٣٤) وقال ابن عباس: مرّ ثعلبة على مجلس، فأشهدهم على نفسه: لئن آتاني الله من فضله، آتيت كل ذي حق حقه، وفعلت كذا وكذا. فآتاه الله من فضله، فأخلف ما وعد فقص الله علينا شأنه.
(٧٣٥) والثاني: أن رجلاً من بني عمرو بن عوف، كان له مال بالشام، فأبطأ عنه، فجُهد له جُهداً شديداً، فحلف بالله لئن آتانا من فضله، أي: من ذلك المال، لأصَّدقَّن منه، ولأصِلَنَّ، فأتاه ذلك المال، فلم يفعل، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس: قال ابن السائب:
والرجل حاطب بن أبي بلتعة.
(٧٣٦) والثالث: أن ثعلبة ومُعتِّب بن قُشير، خرجا على ملأٍ، فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصَّدَّقنَّ. فلما رزقهما، بخلا به، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، ومجاهد.
باطل. أخرجه الطبري ١٧٠٠١ بسند فيه مجاهيل عن عطية بن سعد العوفي وهو واه- عن ابن عباس، فهذا الإسناد ساقط، والمتن باطل، ثعلبة صحابي بدري.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح، وهي رواية ساقطة، فالخبر لا شيء.
أخرجه الطبري ٧٠٠٥ عن الحسن مرسلا. وكرره ١٧٠٠٦ و ١٧٠٠٧ عن مجاهد لكن ليس فيه ذكر القائل وهو أصح.
__________
(١) سورة التوبة: ٩.
282
(٧٣٧) والرابع: أن نبتل بن الحارث، وجَدّ بن قيس، وثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، قالوا: لئن آتانا الله من فضله لنصدقن. فلما آتاهم من فضله بخلوا به، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك.
فأما التفسير، فقوله تعالى: وَمِنْهُمْ يعني المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ أي: قال: عليَّ عهدُ الله لَنَصَّدَّقَنَّ الأصل: لنتصدقن، فأدغمت التاء في الصاد لقربها منها. وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أي:
لنعملنَّ ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإِنفاق في الخير. وقد روى كَهْمَس عن معبد بن ثابت أنه قال: إنما هو شيء نوَوْه في أنفسهم، ولم يتكلموا به ألم تسمع إلى قوله تعالى:
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٦]
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦)
قوله تعالى: فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي: ما طلبوا من المال بَخِلُوا بِهِ ولم يفوا بما عاهدوا وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ عن عهدهم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
قوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ أي: صيَّر عاقبة أمرهم النفاق. وفي الضمير في «أعقبهم» قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الله، فالمعنى: جازاهم الله بالنفاق، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
والثاني: أنها ترجع إلى البخل، فالمعنى: أعقبهم بخلُهم بما نذروا نفاقاً، قاله الحسن.
قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا يعني المنافقين أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وهو ما في نفوسهم وَنَجْواهُمْ حديثهم بينهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٩]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ في سبب نزولها قولان:
(٧٣٨) أحدهما: أنه لما نزلت آية الصدقة، جاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لَغَنِيٌّ عن صاع هذا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو مسعود.
(٧٣٩) والثاني: أن عبد الرحمن بن عوف جاء بأربعين أوقية من ذهب، وجاء رجل من الأنصار
عزاه المصنف للضحاك، وهذا مرسل، فهو واه، وذكر ثعلبة في هذا الحديث لا يصح، وأما الباقون فقد اشتهر نفاقهم.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٦٦٨ ومسلم ١٠١٨ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٢٣ وفي «تفسيره» ٢٤٣ وابن ماجة ٤١٥٥ والواحدي في «الأسباب» ٥١٨ كلهم عن أبي مسعود الأنصاري قال: لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه فقال المنافقون. إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ..... لفظ البخاري.
بصاع من طعام فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً، وإنْ كان اللهُ ورسولهُ لَغنيَّين عن هذا الصاع، قاله ابن عباس.
وفي هذا الأنصاري قولان: أحدهما: أنه أبو خيثمة، قاله كعب بن مالك. والثاني: أنه أبو عقيل.
وفي اسم أبي عقيل ثلاثة أقوال: أحدها: عبد الرحمن بن بِيْجَان، رواه أبو صالح عن ابن عباس، ويقال: ابن بِيْحان ويقال: سِيْحَان. وقال مقاتل: هو أبو عقيل بنُ قيس. والثاني: أن اسمه الحَبْحَاب، قاله قتادة. والثالث: الحُبَاب. قال قتادة: جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف، وجاء عاصم بن عدي بن العَجلان بمائة وَسق من تمر. ويَلْمِزُونَ بمعنى يعيبون. والْمُطَّوِّعِينَ أي: المتطوعين، قال الفراء: أدغمت التاء في الطاء، فصارت طاءً مشددة. والجُهد لغة أهل الحجاز، ولغة غيرهم الجَهد.
قال أبو عبيدة: الجهد، بالفتح والضم سواء، ومجازه: طاقتهم. وقال ابن قتيبة: الجُهد: الطاقة والجَهد: المشقة. قال المفسرون: عُني بالمطوِّعين عبدُ الرحمن، وعاصم، وبالذين لا يجدون إلا جهدهم: أبو عقيل. وقوله تعالى: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أي: جازاهم على فعلهم، وقد سبق هذا المعنى.
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٠]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
(٧٤٠) سبب نزولها: أنه لما نزل وعيد اللامزين قالوا: يا رسول الله استغفر لنا، فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين، لعل الله يغفر لهم» فنزل قوله تعالى:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «١»، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وظاهر قوله: «استغفر لهم» الأمر، وليس كذلك إنما المعنى: إن استغفرت، وإن لم تستغفر، لا يغفر لهم، فهو كقوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «٢»، وقد سبق شرح هذا المعنى هناك، هذا قول المحققين. وذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين، رجي لهم الغفران. ثم نسخت بقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
نحوه مختصرا. وورد هذا الخبر بألفاظ مختلفة من وجوه متعددة فقد جاء عن ابن عباس مختصرا، أخرجه الطبري ١٧٠١٨ وفيه انقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وكرره ١٧٠١٩ مطولا عن عطية العوفي عن ابن عباس وعطية ضعيف، ومن دونه مجاهيل، وورد عن مجاهد مرسلا برقم ١٧٠٢٠ وكرره ١٧٠٢١ و ١٧٠٢٢ وورد عن عمر بن أبي سلمة ١٧٠٢٥ مرسلا وورد عن الربيع بن أنس مرسلا عند الطبري أيضا برقم ١٧٠٢٦ وأخرجه أيضا ١٢٠٢٧ عن ابن إسحاق، وهذا معضل وأخرجه ١٧٠٣٢ عن يحيى بن كثير اليمامي مرسلا ورد عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند البزار ٢٢١٦ كشف الأستار، ورجاله ثقات، لكن رواه مرسلا أيضا بدون ذكر أبي هريرة فهذه روايات كثيرة مختلفة الألفاظ والمعنى واحد. وهو التصدق من قبل ابن عوف وغيره، واللمز من قبل المنافقين.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح وهو من رواية الكلبي، فالخبر واه بمرة.
__________
(١) سورة المنافقون: ٦.
(٢) سورة التوبة: ٥٣. [.....]
فان قيل: كيف جاز أن يستغفر لهم، وقد أُخبر بأنهم كفروا؟ فالجواب: أنه إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إِسلامهم من غير أن يتحقق خروجهم عن الإسلام، ولا يجوز أن يقال: علم كفرهم ثم استغفر. فان قيل: ما معنى حصر العدد بسبعين؟ فالجواب: أن العرب تستكثر في الآحاد من سبعة، وفي العشرات من سبعين.
[سورة التوبة (٩) : آية ٨١]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)
قوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ يعني المنافقين الذين تخلَّفوا عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك.
والمخلَّف: المتروك خلفَ من مضى. بِمَقْعَدِهِمْ أي: بقعودهم. وفي قوله تعالى: خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ قولان: أحدهما: أن معناه: بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو عبيدة. والثاني: أن معناه: مخالَفَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منصوب، لأنه مفعول له، فالمعنى: بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج.
وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر، والأعمش، وابن أبي عبلة: «خَلْفَ رسول اللهِ»، ومعناها: أنهم تأخَّروا عن الجهاد. وفي قوله تعالى: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قولان: أحدهما: أنه قول بعضهم لبعض، قاله ابن اسحاق، ومقاتل. والثاني: أنهم قالوه للمؤمنين، ذكره الماوردي. وإنما قالوا هذا، لأن الزمان كان حينئذ شديد الحر. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لمن خالف أمر الله. وقوله تعالى: يَفْقَهُونَ معناه:
يعلمون. قال ابن فارس: الفقه: العلم بالشيء. تقول: فَقِهْتُ الحديث أَفْقَهُهُ وكل علم بشيء: فقه.
ثم اختص به علم الشريعة، فقيل لكل عالم بها: فقيه. قال المصنف: وقال شيخنا علي بن عبيد الله:
الفقه في إطلاق اللغة: الفهم، وفي عرف الشريعة: عبارة عن معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلَّفين، بنحو التحليل، والتحريم، والإيجاب، والإجزاء، والصحة، والفساد، والغرم، والضمان، وغير ذلك. وبعضهم يختار أن يقال: الفِقْه: فَهْمُ الشيء، وبعضهم يختار أن يقال: علم الشيء.
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٢]
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد. وفي قلَّة ضحكهم وجهان:
أحدهما: أن الضحك في الدنيا، لكثرة حزنها وهمومها، قليل، وضحكهم فيها أقل، لِما يتوجه إليهم من الوعيد. والثاني: أنهم إنما يضحكون في الدنيا، وبقاؤها قليل. وَلْيَبْكُوا كَثِيراً في الآخرة. قال أبو موسى الأشعري: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أُجريت السفن في دموعهم لجرت، ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع، فلمثل ما هم فيه فليُبكي.
قوله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: من النّفاق والمعاصي.
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٣]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣)
قوله تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ أي: ردك من غزوة تبوك إلى المدينة إِلى طائِفَةٍ من المنافقين الذين تخلَّفوا بغير عذر. وإنما قال: إِلى طائِفَةٍ لأنه ليس كل من تخلَّف عن تبوك كان منافقاً.
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى الغزو، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً إلى غَزاة، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ عني أَوَّلَ مَرَّةٍ حين لم تخرجوا إلى تبوك. وذكر الماوردي في قوله تعالى: أَوَّلَ مَرَّةٍ قولين:
أحدهما: أول مرة دُعيتم. والثاني: قبل استئذانكم.
وأمّا الخالفون، فقال أبو عبيدة: الخالف: الذي خلف بعد شاخص، فقعد في رحله، وهو الذي يتخلَّف عن القوم. وفي المراد بالخالفين قولان: أحدهما: أنهم الرجال الذين تخلَّفوا لأعذار، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم النّساء قاله الحسن، وقتادة.
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٤]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)
قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ.
(٧٤١) سبب نزولها: أنه لما توفي عبد الله بن أبيّ، جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني قميصك حتى أكفنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له. فأعطاه قميصه فقال: آذِنِّي أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر بن الخطاب، وقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟
فقال: «أنا بين خيرتين» : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «١» فصلى عليه، فنزلت هذه الآية، رواه نافع عن ابن عمر.
(٧٤٢) قال قتادة: ذُكر لنا أنّ نبيّ الله ﷺ كان يقول: «ما يُغْني عنه قميصي من عذاب الله تعالى، والله إني لأرجو أن يُسْلِمَ به ألف من قومه». قال الزجاج: فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لمَّا رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد الصلاة عليه.
فأمّا قوله تعالى: «منهم» فإنه يعني المنافقين. وقوله تعالى: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.
(٧٤٣) قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دُفن الميت، وقف على قبره ودعا له فنهي عن ذلك في حق المنافقين. وقال ابن جرير: معناه: لا تتولَّ دفنه وهو من قولك: قام فلان بأمر فلان.
وقد تقدم تفسيره.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٥ الى ٨٩]
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
صحيح. أخرجه البخاري ١٢٦٩ ومسلم ٢٧٧٤ ص ١٨٦٥ والترمذي ٣٠٩٨ والنسائي ٤/ ٣٧ وفي «التفسير» ٢٤٤ وابن ماجة ١٥٢٣ والواحدي ٥٢٠ والبيهقي ٣/ ٤٠٢ وفي «الدلائل» ٥/ ٢٨٧ من حديث ابن عمر.
غريب هكذا. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢/ ٢٩٩: لم أره هكذا وأصله أخرجه الطبري.... اه.
قلت: هو عند الطبري ١٧٠٧٣ عن قتادة في أثناء حديث وفيه: «وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ كلّم في ذلك فقال: وما يغني عنه قميصي من الله- أو من ربي- وإني لأرجو أن يُسْلِمَ به ألف من قومه» وهذا مرسل ورواه بصيغة التمريض فهو ضعيف.
عزاه المصنف للمفسرين، ولم أقف عليه. وانظر تفسير «القرطبي» ٨/ ٢٠٤.
__________
(١) سورة التوبة: ٨١.
قوله تعالى: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ. سبق تفسيره. قوله تعالى: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ هذا عامّ في كل سورة. وقال مقاتل: المراد بها سورة (براءة). قوله تعالى: أَنْ آمِنُوا أي: بأن آمنوا. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: استديموا الإيمان. والثاني: افعلوا فعل من آمن. والثالث: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم، فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين.
قوله تعالى: اسْتَأْذَنَكَ أي: في التّخلّف. أُولُوا الطَّوْلِ يعني الغنى، وهم الذين لا عذر لهم في التخلُّف. وفي «الخوالف» قولان: أحدهما: أنهم النساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وشمر بن عطية، وابن زيد، والفراء. وقال أبو عبيدة: يجوز أن تكون الخوالف ها هنا النساء، ولا يكادون يجمعون الرجال على تقدير فواعل، غير أنهم قد قالوا: فارس، والجميع: فوارس، وهالك هوالك. قال ابن الأنباري: الخوالف لا يقع إلا على النساء، إذ العرب تجمع فاعلة: فواعل فيقولون:
ضاربة، وضوارب، وشاتمة، وشواتم ولا يجمعون فاعلاً: فواعل، إلا في حرفين: فوارس، وهوالك فيجوز أن يكون مع الخوالف: المتخلفات في المنازل. ويجوز أن يكون: مع المخالفات العاصيات. ويجوز أن يكون: مع النساء العجزة اللاتي لا مدافعة عندهن. والقول الثاني: أن الخوالف:
خساس الناس وأدنياؤهم يقال: فلان خالفة أهله: إذا كان دونهم، ذكره ابن قتيبة. فأما «طَبَع»، فقال أبو عبيدة: معناه: ختم. و «الخيرات» جمع خَيْرة. وللمفسرين في المراد بالخيرات ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الفاضلات من كل شيء، قاله أبو عبيدة. والثاني: الجواري الفاضلات، قاله المبرِّد.
والثالث: غنائم الدنيا ومنافع الجهاد، ذكره الماوردي.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٠]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
قوله تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وقرأ ابن مسعود: «المعتذرون». وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب «المُعْذِرون» بسكون العين وتخفيف الذال. وقرأ ابن السميفع «المعاذرون» بألف. قال أبو عبيدة: المعذِّرون من يعذِّر وليس بجادّ وإنما يعرِّض بما لا يفعله أو يُظهر غير ما في نفسه. وقال ابن قتيبة: يقال: عذَّرتُ في الأمر: إذا قصَّرتَ، وأعذرتُ: جَدَدْتَ. وقال الزجاج: من قرأ «المعذِّرون» بتشديد الذال، فتأويله: المعتذرون الذين يعتذرون، كان لهم عذر، أو لم يكن، وهو ها هنا أشبه بأن يكون لهم عذر، وأنشدوا:
ذكره الواحدي في «أسباب النزول ٥١٩ بقوله قال قتادة وغيره فذكره وقد أخرجه الطبري ٧٠٢٤ عن قتادة
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَليْكُما وَمَنْ يَبْكِ حولا كاملا فقد اعتذر «١»
أي: فقد جاء بعذر، ويجوز أن يكون «المعذِّرون» الذين يعذِّرون، يوهمون أنّ لهم عذرا، ولا
(١) البيت للبيد، ديوانه ٢١٤. وقوله اعتذر هنا، بمعنى: أعذر أي: بلغ أقصى الغاية في العذر.
عذر لهم، ويجوز في النحو: المعِذِّرون بكسر العين، والمعُذِّرون بضم العين، غير أنه لم يُقرأ بهما، لأن اللفظ بهما يثقل. ومن قرأ «المعْذرون» بتسكين العين، فتأويله: الذين أُعذروا وجاءوا بعذر. وقال ابن الأنباري: المعذّرون ها هنا: المعتذرون بالعذر الصحيح. وأصل الكلمة عند أهل النحو:
المعتذرون، فحوِّلت فتحة التاء إلى العين، وأبدلت الذال من التاء وأدغمت في الذال التي بعدها فصارتا ذالاً مشددة، ويقال في كلام العرب: اعتذر، إذا جاء بعذر صحيح، وإذا لم يأت بعذر. قال الله تعالى:
قُلْ لا تَعْتَذِرُوا فدل على فساد العذر، وقال لبيد:
وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَاملاً فَقَد اعْتَذَر أي: فقد جاء بعذر صحيح. وكان ابن عباس يقرأ «المعذِّرون» ويقول: لعن الله المعذِّرين.
يريد: لعن الله المقصِّرين من المنافقين وغيرهم. والمعْذرون: الذين يأتون بالعذر الصحيح فبان من هذا الكلام أن لهم عذراً على قراءة من خفف. وهل يثبت لهم عذر على قراءة من شدد؟ فيه قولان.
قال المفسرون: جاء هؤلاء ليؤذَن لهم في التخلُّف عن تبوك، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علّة، جرأة على الله تعالى.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣)
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في عائذ بن عمرو وغيره من أهل العذر، قاله قتادة. والثاني: في ابن مكتوم، قاله الضحاك. وفي المراد بالضعفاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الزمنى والمشايخ الكبار قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم الصغار. والثالث: المجانين سموا ضعافاً لضعف عقولهم، ذكر القولين الماوردي. والصحيح انهم الذين يضعفون لزَمانةٍ، أو عَمىً، أو سِنٍّ أو ضَعف في الجسم. والمرضى: الذين بهم أعلال مانعة من الخروج للقتال، والَّذِينَ لا يَجِدُونَ هم المُقِلُّون، والحرج: الضيق في القعود عن الغزو بشرط النصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه وجهان: أحدهما: أن المعنى: إذا برئوا من النفاق. والثاني: إذا قاموا بحفظ الذراري والمنازل. فان قيل بالوجه الأول، فهو يعم جميع المذكورين. وإن قيل بالثاني. فهو يخص المقلِّين. وإنما شُرط النصح، لأن من تخلف بقصد السعي بالفساد، فهو مذموم ومن النصح لله: حث المسلمين على الجهاد، والسعي في إصلاح ذات بينهم، وسائر ما يعود باستقامة الدين.
قوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي من طريق بالعقوبة، لأن المحسن قد سد باحسانه باب العقاب. قوله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ نزلت في البكَّائين، واختُلف في عددهم وأسمائهم.
(٧٤٤) فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هم ستة: عبد الله بن مغفَّل، وصخر بن سلمان، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعُلَيَّة بن زيد الانصاري، وسالم بن عُمير، وثعلبة بن عنمة، أتوا رسول الله ﷺ ليحملهم، فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» فانصرفوا باكين. وقد ذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي مكان صخر بن سلمان: سلمة بن صخر، ومكان ثعلبة بن عنمة: عمرو بن عنمة. قال: وقيل:
منهم معقل بن يسار.
(٧٤٥) وروى ابن إسحاق عن أشياخ له أن البكَّائين سبعة من الأنصار: سالم بن عُمير، وعُلَية بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، وعمرو بن الحُمام بن الجموح، وعبد الله بن مغفَّل. وبعض الناس يقول: بل عبد الله بن عمرو المزني، وعِرباض بن سارية، وهرميّ بن عبد الله أخو بني واقف.
(٧٤٦) وقال مجاهد: نزلت في بني مقرّن، وهم سبعة وقد ذكرهم محمد بن سعد، فقال:
النعمان بن عمرو بن مقرن. وقال أبو خيثمة: هو النعمان بن مقرن، وسويد بن مقرن، ومعقل بن مقرّن، وسنان بن مقرّن، وعقيل بن مقرّن، وعبد الرحمن بن مقرن، وعبد الرحمن بن عقيل بن مقرن.
وقال الحسن البصري: نزلت في أبي موسى وأصحابه.
وفي الذي طلبوا من رسول الله ﷺ أن يحملهم عليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الدواب، قاله ابن عباس. والثاني: الزاد، قاله أنس بن مالك. والثالث: النعال، قاله الحسن.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٤]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)
قوله تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ.
(٧٤٧) قال ابن عباس: نزلت في المنافقين، يعتذرون إليكم إذا رجعتم من غزوة تبوك، فلا تعذروهم فليس لهم عذر. فلما رجع رسول الله ﷺ أتوه يعتذرون، فقال الله تعالى: قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لن نصدقكم، قد أخبرنا الله أنه ليس لكم عذر وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ إن عملتم خيراً وتبتم من تخلُّفكم ثُمَّ تُرَدُّونَ بعد الموت إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فيخبركم بما كنتم تعملون في السر والعلانية.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٥]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)
مرسل. أخرجه الطبري ١٧١٠٣ عن محمد بن كعب مرسلا، وله شواهد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٢٢ بدون إسناد.
أخرجه الطبري ١٧١٠٤ عن ابن إسحاق مختصرا. وعزاه في «الدر» ٣/ ٤٨٠ لابن إسحاق وابن المنذر وأبي الشيخ عن الزهري ويزيد بن رومان وغيرهما.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٣ عن مجاهد مرسلا. وأخرجه ابن سعد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» ٣/ ٤٨٠ عن مجاهد مرسلا.
عزاه المصنف لابن عباس، ولم أقف عليه.
قوله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ قال مقاتل: حلف منهم بضعة وثمانون رجلاً، منهم جَدّ بن قيس، ومُعتِّب بن قشير. قوله تعالى: لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: لتصفحوا عن ذنبهم.
والثاني: لأجل إعراضكم. وقد شرحنا في (المائدة) معنى الرّجس.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٦]
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
قوله تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ (٧٤٨) قال مقاتل: حلف عبد الله بن أُبيّ للنبي ﷺ لا أتخلف عنك، ولأكونَنَّ معك على عدوِّك وطلب منه أن يرضى عنه، وحلف عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعمر بن الخطّاب، وجعلوا يترضّون النبيّ ﷺ وأصحابه، وكان رسول الله ﷺ قال لما قدم المدينة: لا تجالسوهم ولا تكلّموهم».
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٧]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)
قوله تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً قال ابن عباس: نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حول المدينة، أخبر الله أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر أهل المدينة، لأنهم أقسى وأجفى من أهل الحضر. قوله تعالى: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا قال الزجاج: «أن» في موضع نصب، لأن الباء محذوفة من «أن»، المعنى: أجدر بترك العلم. تقول: جدير أن تفعل، وجدير بأن تفعل، كما تقول: أنت خليق بأن تفعل، أي: هذا الفعل ميسَّر فيك فاذا حذفت الباء لم يصلح إلا ب «أن»، وإن أتيت بالباء، صلح ب «أن» وغيرها، فتقول: أنت جدير بأن تقوم وجدير بالقيام. فاذا قلت: أنت جديرٌ القيامَ، كان خطأً، وإنما صلح مع «أن» لأن «أن» تدل على الاستقبال، فكأنها عوض من المحذوف. فأما قوله تعالى:
حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ فيعني به الحلال والحرام والفرائض. وقيل: المراد بالآية أن الأعم في العرب هذا.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٨]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)
قوله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ إذا خرج في الغزو، وقيل: ما يدفعه من الصدقة مَغْرَماً لأنه لا يرجو له ثواباً. قال ابن قتيبة: المغرم: هو الغُرم والخُسر. وقال ابن فارس: الغُرم:
ما يلزم أداؤه، والغرام: اللازم، وسمي الغريم لإلحاحه. وقال غيره: وفي الالتزام ما لا يلزم. قوله تعالى: وَيَتَرَبَّصُ أي: وينتظر بِكُمُ الدَّوائِرَ أي: دوائر الزمان بالمكروه، بالموت، أو القتل، أو الهزيمة. وقيل: ينتظر موت الرسول ﷺ وظهور المشركين.
قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بضم السين. وقرأ نافع، وعاصم وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «السّوء» بفتح السين وكذلك قرءوا في سورة (الفتح) «١»، والمعنى:
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، فالخبر لا شيء.
__________
(١) سورة الفتح: ٦.
عليهم يعود ما ينتظرونه لك من البلاء. قال الفراء: وفتح السين من السَّوء هو وجه الكلام. فمن فتح أراد المصدر من: سُؤْتُه سَوْءاً ومَساءَةً، ومن رفع السين، جعله اسما، كقولك: عليهم دائرة البلاء والعذاب. لا يجوز ضمّ السّين في قوله تعالى: ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ «١» ولا في قوله تعالى:
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ «٢» لأنه ضدٌّ لقولك: رجُلُ صِدْق. وليس للسوء ها هنا معنى في عذاب ولا بلاء، فيضمّ.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٩]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
قوله تعالى: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قال ابن عباس: وهم من أسلم من الأعراب، مثل جُهينة، وأسلم، وغِفار. وفي قوله تعالى: وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قولان: أحدهما: في الجهاد.
والثاني: في الصدقة. فأما القربات، فجمع قُربة، وهي: ما يقرِّب العبدَ من رضى الله ومحبته. قال الزجاج: وفي القربات ثلاثة أوجه: ضم الراء، وفتحها، وإسكانها. وفي المراد بصلوات الرسول قولان: أحدهما: استغفاره، قاله ابن عباس. والثاني: دعاؤه، قاله قتادة، وابن قتيبة، والزجاج، وأنشد الزجاج:
عليكِ مثلُ الذي صَلَّيتِ فاغْتَمِضِي نَوْماً، فانَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مضطَجَعا «٣»
قال: إن شئتَ قلتَ: مثلَ الذي، ومثلُ الذي فالأول أَمْرٌ لها بالدعاء، كأنه قال: ادعي لي مثل الذي دعوتِ. والثاني بمعنى: عليكِ مثلُ هذا الدعاء.
قوله تعالى: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «قربةٌ لهم» خفيفة. وروى ورش، وإسماعيل بن جعفر عن نافع، وأبان، والمفضل عن عاصم: «قُرُبةٌ لهم» بضم الراء. وفي المشار إليها وجهان: أحدهما: أن الهاء ترجع إلى نفقتهم وإيمانهم. والثاني: إلى صلوات الرسول.
قوله تعالى: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ قال ابن عباس: في جنّته.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٠]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ فيهم ستة أقوال: أحدها: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وقتادة. والثاني: أنهم الذين بايعوا رسول الله ﷺ بيعة الرضوان، وهي الحديبية، قاله الشعبي. والثالث: أنهم أهل بدر، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع: أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حصل لهم السبق بصحبته. قال محمد بن كعب القرظي: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبيّ ﷺ وأوجب لهم الجنّة محسنهم ومسيئهم
(١) سورة مريم: ٢٨.
(٢) سورة الفتح: ١٢.
(٣) البيت منسوب للأعشى، ديوانه: ١٠١، و «اللسان» صلى.
في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ. والخامس: أنهم السابقون بالموت والشهادة، سبقوا إلى ثواب الله تعالى. ذكره الماوردي. والسادس: أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة، ذكره القاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ قرأ يعقوب: «والأنصارُ» برفع الراء.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ من قال: إن السابقين جميع الصحابة، جعل هؤلاء تابعي الصحابة، وهم الذين لم يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: والذين اتَّبعوهم باحسان إلى أن تقوم الساعة. ومن قال: هم المتقدمون من الصحابة، قال: هؤلاء تبعوهم في طريقهم، واقتدَوْا بهم في أفعالهم، ففضِّل أولئك بالسبق، وإن كانت الصحبة حاصلة للكل. وقال عطاء: اتباعهم إياهم باحسان: أنهم يذكرون محاسنهم ويترحَّمون عليهم.
قوله تعالى: تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ قرأ ابن كثير: «من تحتها» فزاد «من» وكسر التاء الثانية.
وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يعم الكل، قال الزجاج: رضي الله أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠١]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
قوله تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ قال ابن عباس: مُزَينة، وجُهيَنة، وأسلَم، وغِفار، وأشجع، كان فيهم بعد إسلامهم منافقون. قال مقاتل: وكانت منازلهم حول المدينة. وقوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا، منهم عبد الله بن أُبَيّ، وجَدّ بن قيس، والجلاس، ومعتِّب، ووَحْوَح، وأبو عامر الراهب. وقال أبو عبيدة: عَتَوْا ومَرَنُوا عليه، وهو من قولهم: تمرَّد فلان، ومنه: شيطان مريد.
فان قيل: كيف قال: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا، وليس يجوز في الكلام: مِن القوم قعدوا؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن تكون «من» الثانية مردودة على الأولى والتقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون، ثم استأنف «مردوا». والثاني: أن يكون في الكلام «مَنْ» مضمر، تقديره:
ومن أهل المدينة مَنْ مردوا فأُضمرت «مَنْ» لدلالة «من» عليها، كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «١» يريد: إلا مَنْ له مقام معلوم وعلى هذا ينقطع الكلام عند قوله تعالى: «منافقون». والثالث:
أن «مَرَدُوا» متعلق بمنافقين، تقديره: ومِنْ أهل المدينة منافقون مَرَدُوا، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري.
قوله تعالى: لا تَعْلَمُهُمْ فيه وجهان: أحدهما: لا تعلمهم أنت حتى نُعْلِمَكَ بهم. والثاني: لا تعلم عواقبهم.
قوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ فيه عشرة أقوال «٢» : أحدها: أن العذاب الأول في الدنيا، وهو فضيحتهم بالنفاق. والعذاب الثاني: عذاب القبر، قاله ابن عباس.
(١) سورة الصافات: ١٦٤.
(٢) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٤٥٨ و ٤٥٩: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذب هؤلاء الذين مردوا على النفاق مرتين، ولم يضع لنا دليلا يوصل به إلى علم صفة ذينك العذابين، وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم، وليس عندنا علم بأي ذلك من أي، غير أن في قوله جل.
ثناؤه ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ. دلالة على أن العذاب في المرتين كلتيهما قبل دخولهم النار. والأغلب في إحدى المرتين أنها في القبر. اه.
(٧٤٩) قال: وقام رسول الله ﷺ يوم جمعة خطيباً، فقال: «يا فلان اخرج فانك منافق، ويا فلان اخرج» ففضحهم.
والثاني: أن العذاب الأول: إقامة الحدود عليهم، والثاني: عذاب القبر وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. والثالث: أن أحد العذابين: الزكاة التي تؤخذ منهم، والآخر: الجهاد الذي يُّؤْمَرون به، قاله الحسن. والرابع: الجوع، وعذاب القبر، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال أبو مالك. والخامس: الجوع والقتل، رواه سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسادس: القتل والسبي، رواه معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال ابن قتيبة: القتل والأسر. والسابع: أنهم عُذِّبِوا بالجوع مرتين، رواه خُصَيف عن مجاهد. والثامن: أن عذابهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، وفي الآخرة بالنار، قاله ابن زيد. والتاسع: أن الأول: عند الموت، تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، والثاني: في القبر بمنكر ونكير، قاله مقاتل بن سليمان. والعاشر: أن الأول بالسيف، والثاني عند الموت قاله مقاتل بن حيان.
قوله تعالى: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ يعني عذاب جهنّم.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٢]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
(٧٥٠) أحدهما: أنهم عشرة رهط تخلّفوا عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، فلمّا دنا رجوع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعةٌ منهم أنفسَهم بسواري المسجد. فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من هؤلاء» ؟
قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلَّفوا عنك، فأقسموا بالله لا يطلقون أنفسهم حتى تطلقهم أنت وتعذرهم، فقال: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلَّفوا عن الغزو مع المسلمين»، فنزلت هذه الآية، فأرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(٧٥١) وروى العوفي عن ابن عباس أن الذين تخلفوا كانوا ستة، فأوثق أبو لبابة نفسه ورجلان
ضعيف. أخرجه الطبري ١٧١٣٧ والطبراني في «الأوسط» ٧٩٦ من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف حسين بن عمرو العنقزي، وقد ضعفه الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٣٤ به، وفيه السدي فيه ضعف.
أخرجه الطبري ١٧١٥١ والبيهقي في «الدلائل» ٥/ ٢٧١ و ٢٧٢ من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وفيه إرسال بينهما. وكرره الطبري ١٧١٥٢ عن عطية العوفي عن ابن عباس، وعطية هو ابن سعد. ضعيف الحديث، وعنه مجاهيل. وورد من مرسل الضحاك. أخرجه الطبري ١٧١٥٨ ومن مرسل سعيد بن أبي عروبة برقم ١٧١٥٤ لكن باختصار فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم.
أخرجه الطبري ١٧١٥٢ بسند فيه مجاهيل عن ابن عباس، وانظر ما تقدم.
معه، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم، فلما نزلت هذه الآية، أطلقهم رسول الله ﷺ وعذرهم. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن خِذام الأنصاري. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد، وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقال قتادة: ذُكر لنا أنهم كانوا سبعة «١».
والثاني: أنها نزلت في أبي لبابة وحده. واختلفوا في ذنبه على قولين: أحدهما: أنه خان الله ورسوله باشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في النزول على حكم سعد أنه الذبح، وهذا قول مجاهد، وقد شرحناه في سورة الأنفال «٢». والثاني: أنه تخلُّفه عن تبوك. قاله الزهري. فأما الاعتراف، فهو الاقرار بالشيء عن معرفة. والاعتراف بالذنب أدعى إلى صدق التوبة والقبول.
قوله تعالى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً قال ابن جرير: وُضع الواوُ مكان الباء، والمعنى:
بآخر سيء، كما يقال: خلطت الماءَ واللبن. وفي ذلك العمل قولان: أحدهما: أن العمل الصالح: ما سبق من جهادهم، والسّيئ: التأخر عن الجهاد، قاله السدي. والثاني: أن العمل الصالح: توبتهم، والسّيئ: تخلّفهم، ذكره الفرّاء.
وفي قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه واجب من الله تعالى، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه ترديد لهم بين الطمع والإشفاق، وذلك يصد عن اللهو والإهمال.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٣]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)
قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً.
(٧٥٢) قال المفسّرون: لمّا تاب الله عزّ وجلّ على أبي لبابة وأصحابه، قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا فتصدق بها عنا، فقال «ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» فنزلت هذه الآية.
أخرجه الطبري ١٧١٦٧ عن ابن عباس، وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وأخرجه برقم ١٧١٦٨ بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي، وهو ضعيف عن ابن عباس. وأخرجه ١٧١٧٢ عن الضحاك مرسلا.
__________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٤٦٢ و ٤٦٣: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطإ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله ﷺ وتركهم الجهاد معه، والخروج لغزو الروم، حين شخص إلى تبوك، وأن الذين نزل فيهم جماعة. أحدهم أبو لبابة. إنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في ذلك لأن الله جل ثناؤه قال: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم، ولم يكن المعترف بذنبه الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة غير أبي لبابة وحده، فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ بالاعتراف بذنوبهم جماعة. علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست الواحد. فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة، وكان لا جماعة فعلت ذلك، فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل، إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك، صح ما قلنا في ذلك وقلنا: كان منهم أبو لبابة لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
(٢) سورة الأنفال: ٢٧.
وفي هذه الصدقة قولان «١» : أحدهما: أنها الصدقة التي بذلوها تطوعاً، قاله ابن زيد، والجمهور.
والثاني: الزكاة، قاله عكرمة.
قوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وقرأ الحسن «تطهرْهم بها» بجزم الراء. قال الزجاج: يصلح أن يكون قوله: «تطهرهم» نعتاً للصدقة كأنه قال: خذ من أموالهم صدقة مطهّرة. والأجود أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم، المعنى: فانك تطهرهم بها ف «تطهرْهم» بالجزم، على جواب الأمر، المعنى: إن تأخذ من أموالهم، تطهرْهم. ولا يجوز في: «تُزكِّيهم» إلا إثبات الياء. اتّباعاً للمصحف. قال ابن عباس: «تطهرهم» من الذنوب، «وتزكيهم» : تصلحهم. وفي قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ قولان: أحدهما: استغفر لهم، قاله ابن عباس. والثاني: ادع لهم، قاله السدي.
قوله تعالى: إِنَّ صَلاتَكَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «إن صلواتك» على الجمع. وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم «إن صلاتك» على التوحيد. وفي قوله تعالى: سَكَنٌ لَهُمْ خمسة أقوال: أحدها: طمأنينة لهم أن الله قد قَبِلَ منهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وقال أبو عبيدة: تثبيت وسكون. والثاني: رحمة لهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: قُرْبَةٌ لهم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: وَقَارٌ لهم، قاله قتادة. والخامس: تزكية لهم، حكاه الثعلبي. قال الحسن وقتادة: وهؤلاء سوى الثلاثة الذين خلّفوا.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ قرأ الجمهور «يعلموا» بالياء. وروى عبد الوارث «تعلموا» بالتاء. وقوله تعالى: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ قال أبو عبيدة: أي: من عَبيده، تقول: أخذته منك، وأخذته عنك. وقوله تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ قال ابن قتيبة: أي: يقبلها. ومثله: خُذِ الْعَفْوَ «٢» أي: اقبله.
(١) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ٨/ ٢٢٣- ٢٢٤: اختلف في هذه الصدقة المأمور بها فقيل: هي صدقة الفرض، قاله جويبر عن ابن عباس وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري. وقيل هو مخصوص بمن نزلت فيه، فإن النبي ﷺ أخذ منهم ثلث أموالهم وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء. ولهذا قال مالك: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث متمسكا بحديث أبي لبابة.
وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي ﷺ يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته. وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقالوا: إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره. وأما قولهم إن هذا خطاب للنبي ﷺ فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين، فإن الخطاب من القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه. وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه، وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع حسب ما تذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الأموال ا. هـ.
(٢) سورة الأعراف: ١٩٩.
قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا قال ابن زيد: هذا خطاب للذين تابوا.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
قوله تعالى: «وآخرون مرجؤون» وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي مُرْجَوْنَ بغير همز.
(٧٥٣) والآية نزلت في كعب بن مالك، ومُرارةَ بن الربيع، وهلال بن أمية، وكانوا فيمن تخلف عن تبوك من غير عذر، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري فوقف رسول الله ﷺ أمرهم، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم حتى نزل قوله تعالى:
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «١».
قال الزجاج: «وآخرون» عطف على قوله: «ومن أهل المدينة»، فالمعنى: منهم منافقون، ومنهم «آخرون مرجَوْن» أي: مؤخَّرون و «إما» لوقوع أحد الشيئين، والله تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم، لكنه خاطب العباد بما يعلمون، فالمعنى: ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء. قوله تعالى:
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: عليم بما يؤول إليه حالهم، حكيم بما يفعله بهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٧]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
«والذين» بواو، وكذلك هي في مصاحفهم. وقرأ نافع، وابن عامر: «الذين» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام. قال أبو علي: من قرأ بالواو، فهو معطوف على ما قبله، نحو قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ «٢»، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ «٣» وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ «٤»، والمعنى:
ومنهم الذين اتخذوا مسجداً. ومن حذف الواو، فعلى وجهين: أحدهما: أن يضمر- ومنهم الذين اتّخذوا- كقوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ، المعنى: فيقال لهم: أكفرتم. والثاني: أن يضمر الخبر بعدُ، كما أُضمر في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ «٥» المعنى: يُنتقم منهم ويعذَّبون.
(٧٥٤) قال أهل التفسير: لما اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
أخرجه الطبري ١٧١٨٩ عن ابن عباس بسند فيه مجاهيل. ورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه الطبري ١٧١٨٨.
وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٢٦ بدون ذكر السند.
عزاه الحافظ في «تخريجه» ٢/ ٣٠٩ للثعلبي فقال: لم أجده بهذا السياق إنما في الثعلبي بلا إسناد. وليس صدره بصحيح، فإن مسجد قباء كان قد أسس والنبي ﷺ بقباء أول ما هاجر، وبني مسجد الضرار وكان في غزوة تبوك وبينهما تسع سنين ا. هـ وذكره البغوي في «تفسيره» ٢/ ٢٧٤- ٢٧٥ مطولا بدون إسناد ولم يذكر صدره، وبنحوه ورد صدره عن ابن عباس أخرجه الطبري ١٧٢٠٢ وفيه عطية العوفي واه، وعنه مجاهيل
__________
(١) سورة التوبة: ١١٨.
(٢) سورة التوبة: ٧٥. [.....]
(٣) سورة التوبة: ٥٨.
(٤) سورة التوبة: ٦١.
(٥) سورة الحج: ٢٥.
296
فأتاهم، فصلى فيه حسدهم إخوتهم بنو غَنْم بن عَوف، وكانوا من منافقي الأنصار، فقالوا: نبني مسجداً، ونرسل إلى رسول الله فيصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام وكان أبو عامر قد ترهَّب في الجاهلية وتنصَّر، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة، عاداه، فخرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن أعدّوا ما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجداً، فاني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً: خِذام بن خالد ومِن داره أُخرج المسجد، ونَبْتَل بن الحارث، وبِجِاد بن عثمان، وثعلبة بن حاطب، ومُعتِّب بن قُشير، وعبَّاد بن حُنَيف، ووديعة بن ثابت، وأبو حبيبة بن الأزعر، وجارية بن عامر، وابناه يزيد ومُجمِّع وكان مُجمِّع إمامهم فيه، ثم صلحت حاله، وبحزج جد عبد الله بن حنيف، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أردتَ بما أرى» ؟ فقال: والله ما أردت إلا الحسنى، وهو كاذب.
وقال مقاتل: الذي حلف مُجمِّع.
(٧٥٥) وقيل: كانوا سبعة عشر فلمّا فرغوا منه، أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: إنما قد ابتنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصليَ فيه فدعا بقميصه ليلبسه، فنزل عليه القرآن وأخبره الله خبرهم، فدعا معن بن عدي، ومالك بن الدُّخشُم في آخرين، وقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرِقوه»، وأمر به رسول الله ﷺ أن يتُخذ كُناسة تُلقى فيها الجيف.
ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً.
فأما التفسير، فقال الزجاج: «الذين» في موضع رفع، المعنى: ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً. و «ضراراً» انتصب مفعولاً له، المعنى: اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد. فلما حذفت اللام، أفضى الفعل فنَصب. قال المفسرون: والضرار بمعنى المُضارّة لمسجد قباء، وَكُفْراً بالله ورسوله وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لأنهم كانوا يصلُّون في مسجد قباء جميعاً، فأرادوا تفريق جماعتهم، والإرصاد: الانتظار، فانتظروا به مجيء أبي عامر، وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار. وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا أي: ما أردنا إِلَّا الْحُسْنى أي: ما أردنا بابتنائه إلا الحسنى وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: طاعة الله. والثاني: الجنة. والثالث: فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة. وقد ذكرنا اسم الحالف.
فالإسناد واه بمرة، ليس بشيء، وبنحو سياق المصنف أخرجه الطبري ١٧٢٠٠ من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة. وأخرج الطبري ١٧٢٠١ والبيهقي في الدلائل ٥/ ٢٦٢- ٢٦٣ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بعضه وهو منقطع بين ابن عباس وعلي بن أبي طلحة.
أخرجه الطبري ١٧٢٠٠ من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا... فذكره، بأتم منه. وهذا ضعيف، مداره على ابن إسحاق، وهو مدلس لكن أصل الحديث محفوظ فقد ورد من وجوه متعددة فمن ذلك: حديث ابن عباس، أخرجه الطبري ١٧٢٠١ وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وورد عن عطية العوفي عن ابن عباس، أخرجه برقم ١٨٢٠٢ وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي. وورد من مرسل قتادة أخرجه برقم ١٧٢١١. وورد من مرسل ابن زيد، أخرجه برقم ١٧٢١٣. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها. انظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٢١٢ بتخريجنا.
297

[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٨]

لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)
قوله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أي: لا تصلِّ فيه أبداً. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أي: بني على الطاعة، وبناه المتقون مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي: منذ أول يوم. قال الزجاج: «مِنْ» في الزمان، والأصل: منذ ومذ، وهو الأكثر في الاستعمال. وجائز دخول «من» لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير:
لِمَنِ الديارُ بِقُنَّةِ الحِجْرِ أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ شَهْرِ «١»
وقيل معناه: مِن مَرِّ حِجج ومِن مَرِّ شهر. وفي هذا المسجد ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه مسجد رسول الله ﷺ بالمدينة الذي فيه منبره وقبره.
(٧٥٦) روى سهل بن سعد أن رجلين اختلفا في عهد رسول الله في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد الرسول، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «هو مسجدي هذا» وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب.
(٧٥٧) والثاني: أنه مسجد قباء، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير،
صحيح. أخرجه الترمذي ٣٠٩٩ والنسائي ٢/ ٣٦ وفي «التفسير» ٢٤٨ وأحمد ٣/ ٨ وابن حبان ١٦٠٦ من طرق عن الليث بن سعد عن عمران بن أبي أنس عن ابن أبي سعيد الخدري عن أبيه به. وأخرجه مسلم ١٣٩٨ وابن أبي شيبة ٢/ ٣٧٢ والحاكم ٢/ ٣٣٤ من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه. وكرره مسلم ١٣٩٨ وابن أبي شيبة ٢/ ٣٧٢ عن أبي سلمة عن أبي سعيد بدون واسطة. وأبو سلمة سمع من أبي سعيد. وأخرجه الترمذي ٣٢٣ وابن أبي شيبة ٢/ ٣٧٢ وأحمد ٣/ ٢٣- ٩١ والطبري ١٧٢٣٦ و ١٧٢٣٧ و ١٧٢٣٨ وابن حبان ١٦٢٦ من طرق عن أنيس بن أبي يحيى حدثني أبي قال سمعت أبا سعيد... فذكره وآخره «هو مسجدي هذا، وفي كل خير». فهذه الطرق متعاضدة عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ أن المراد بذلك مسجده. وله شاهد من حديث سهل بن سعد، أخرجه أحمد ٥/ ٣٣١ وابن حبان ١٦٠٤ و ١٦٠٥ والطبري ١٧٢٣٢ و ١٧٢٣٣ والحاكم ٢/ ٣٣٤ والطبراني ٦٠٢٥، ورجاله ثقات. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث زيد بن ثابت، أخرجه الطبراني ٤٨٥٤ وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن عامر، والصحيح موقوف. والموقوف أخرجه الطبراني ٤٨٢٨ و ٤٨٥٣ وإسناده الأول على شرط الصحيح كما قال الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٣٤. قال الطبري رحمه الله بإثر الحديث ١٧٢٣١: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال هو مسجد النبي ﷺ لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر «تفسير أحكام القرآن» ١٢١٣ بتخريجنا.
ورد عن ابن عباس، أخرجه الطبري ١٧٢٢٦ وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس. وأخرجه من وجه آخر ١٧٢٢٧ بسند فيه مجاهيل. وورد عن عطية العوفي أخرجه برقم ١٧٢٢٨. وورد عن ابن بريدة، أخرجه برقم ١٧٢٢٩. وورد من مرسل عروة، أخرجه برقم ١٧٢٣١. الخلاصة: هذه الروايات وإن تعددت، لا تقوى على معارضة الصحيح المتقدم. على أن للمتقدم شواهد، والله أعلم.
__________
(١) البيت منسوب لزهير في ديوانه ٨٦. قوله من شهر: أراد به من شهور وأقوين: خلون. والقنة: أعلى الجبل، أو هي الجبل الذي ليس بمنتشر.
298
وقتادة، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، ومقاتل.
والثالث: أنه كل مسجد بني في المدينة، قاله محمد بن كعب.
قوله تعالى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا. سبب نزولها:
(٧٥٨) أن رجالاً من أهل قباء كانوا يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي.
أخرجه الطبري ١٧٢٤٧ عن الشعبي مرسلا. وورد بلفظ مرفوع، وليس بشيء. أخرجه أبو داود ٤٤ والترمذي ٣١٠٠ وابن ماجة ٣٥٧ والبغوي في «التفسير» ١١١٩ وأبو الشيخ وابن مردويه كما في «الدر المنثور» ٣/ ٤٩٧ من طرق عن معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي صالح عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية فيهم». خرجه هؤلاء الأئمة بهذا اللفظ! ولا أصل له بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يرد حديث واحد عنه ﷺ أنه قال «نزلت هذه الآية في فلان... أو في كذا... أو نحو ذلك، وإنما الذي يقول نزلت الآية في كذا وكذا إنما هو الصحابي أو التابعي. ومع ذلك إسناده ساقط.
- وقد رأيت العجب في هذا الخبر. حيث سكت عليه أبو داود! مع أنه معلوم أنه ما سكت عليه، فهو صالح لديه. وضعفه الترمذي بقوله: غريب. وضعفه النووي في «المجموع»
٢/ ٩٩ وكذا الحافظ في «التلخيص» ١/ ١١٢. وقال الحافظ في «فتح الباري» ٧/ ٢٤٥/ ٢٩٠٨: وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: نزلت..» وهذا من العجب، وجل الله ربنا إذ يقول وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. وقال الحافظ ابن كثير ٢/ ٤٨٠: يونس بن الحارث ضعيف.
- قلت: إسناده ضعيف جدا، وله علل ثلاث:
- الأولى: معاوية بن هشام القصار، فهو وإن روى له مسلم، ووثقه أبو داود وابن حبان، وقال أبو حاتم:
صدوق. فقد قال ابن معين: صالح، وليس بذاك. وقال عثمان بن أبي شيبة: رجل صدوق، وليس بحجة.
وقال أحمد بن حنبل: هو كثير الخطأ. وقال ابن الجوزي في الضعفاء: روى ما ليس من سماعه، فتركوه، واعترضه الذهبي بأنه ما تركه أحد. ثم ذكر الذهبي كلام ابن معين المتقدم، وذكر له حديثا عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث إليهما شعيب. فقال الذهبي: هذا خطأ، صوابه ما رواه عمرو بن الحارث عن سعيد عن قتادة: الأيكة: الشجر الملتف. انظر «الميزان» ٤/ ١٣٨ و «التهذيب» ١٠/ ١٩٦- ١٩٧. قلت: وقول الذهبي: ما تركه أحد. فيه نظر. إذ تركه البخاري وغير واحد من الأئمة الثقات. والذي لم يتركه أحد كمالك والثوري وشعبة وأضرابهم، رضي الله عنهم. هذا شيء. والشيء الثاني:
قد أقر الذهبي بأن هشاما هذا وهم في أثر قتادة حيث جعله مرفوعا وبلفظ آخر. وهذا يوافق ما قاله الإمام أحمد: هو كثير الخطأ. فيكون هذا الحديث مما أخطأ فيه فرفعه، وإنما هو من كلام أبي هريرة لا يتعداه البتة.
ولم يتنبه الألباني لهذه العلة في «الإرواء» ١/ ٨٥ حيث ذكر العلة الثانية والثالثة اللّتين سأذكرهما، والله الموفق.
- العلة الثانية: يونس بن الحارث، جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه ولم يتابع على هذا اللفظ، وتقدم أن الحافظ صححه في «الفتح». بل ذكر الذهبي في «الميزان» ٤/ ٤٧٦ حديثا آخر غير هذا، وقال: ومن مناكيره.
ثم نقل عن ابن المديني وقد سئل عن يونس هذا- قوله: كنا نضعف ذاك ضعفا شديدا.
- وهذا الذي يليق به في هذا الخبر. والله أعلم.
- العلة الثالثة: جهالة إبراهيم بن أبي ميمونة. جزم بذلك الحافظ في «التقريب».
- فهذه علل ثلاث تقدح في هذا الحديث، وإذا انضم إلى ذلك نكارة المتن، وذلك بجعل «نزلت هذه الآية....» من كلام النبي ﷺ كما جاء في جميع كتب التخريج المتقدمة، علم أنه لا أصل له في المرفوع، وإنما هو موقوف فحسب لا يتعداه، والله أعلم.
- تنبيه: وقد وهم الألباني في هذا الحديث، حيث ذكره في «صحيح أبي داود» ٣٤ وقال: صحيح. وكذا
299
(٧٥٩) قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، أتاهم رسول الله فقال: «ما الذي أثنى الله به عليكم»
صححه في «الإرواء» ١/ ٨٥ برقم ٤٥، وقد حكم بضعف إسناده، وأعله بضعف يونس وجهالة إبراهيم- وتقدم أن هناك علة أخرى- ثم نقل عن النووي وابن حجر قولهما: إسناده ضعيف. ثم قال: ومن ذلك تعلم أن قول الحافظ في «الفتح» ٧/ ١٩٢ بعد أن عزاه لأبي داود: «إسناده صحيح» غير صحيح. ولو قال: حديث صحيح. كما صدرنا نحن تخريج الحديث لأصاب، لأنه وإن كان ضعيفا بهذا السند، فهو صحيح باعتبار شواهده. ثم ذكر حديث عويم بن ساعدة، وعده شاهدا له، وليس كما قال. فحديث عويم وغيره كما سيأتي، ليس فيه أن لفظ «نزلت... » أصلا. وانظر ذلك مفصلا في الآتي، والله تعالى أعلم.
صحيح بشواهده. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ١١٣١ والطبري ١٤٢٤٠ و ١٤٢٤١ عن قتادة مرسلا.
وأخرجه الطبري ١٧٢٣٩ عن قتادة عن شهر بن حوشب به، وهو مرسل أيضا وله شواهد موصولة وهي:
١- حديث عويم بن ساعدة: أخرجه ابن خزيمة ٨٣ والحاكم ١/ ١٥٥ وأحمد ٣/ ٤٢٢ والطبري ١٧٢٤٥ والطبراني في «الصغير» ٢/ ٢٣ من طرق عن أبي أويس عن شرحبيل بن سعد عن عويم بن ساعدة، أن رسول الله ﷺ قال لأهل قباء، إني أسمع الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما هذا الطهور؟ قالوا: يا رسول الله، ما نعلم شيئا، إلا أن جيرانا لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا» رووه بألفاظ متقاربة، إسناده ضعيف، أبو أويس هو عبد الله بن عبد الله ضعفه الجمهور، وشيخه شرحبيل ضعيف أيضا.
ومع ذلك صححه الحاكم! ووافقه الذهبي! ولعل ذلك بسبب شواهده.
٢- وورد عن عروة مرسلا، أخرجه الطبري ١٧٢٥٢ وفيه ذكر عويم، لكنه مختصر. وفيه ذكر الآية.
٣- وورد من مرسل إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري، أخرجه الطبري ١٧٢٥١ بنحو اللفظ الذي ذكرته آنفا.
٤- وله شاهد من حديث ابن عباس، وفيه ذكر عويم، أخرجه الحاكم ١/ ١٨٧ والطبراني ١١٠٦٥ وإسناده ضعيف، فيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس، وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي! ولم يرو مسلم لابن إسحاق في الأصول، إنما روى له متابعة.
٥- وله شاهد من حديث عبد الله بن سلام، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١/ ٢١٢. وفيه سلام الطويل، قال الهيثمي: أجمعوا على تركه.
٦- وورد عن محمد بن عبد الله بن سلام، أخرجه أحمد ٦/ ٦ والطبري ١٤٢٤٢ و ١٤٢٤٣ وفيه شهر بن حوشب، مدلس وفيه ضعف. وقد اضطرب فيه فقد كرره الطبري ١٤٢٤٤ عنه عن محمد بن عبد الله بن سلام- قال يحيى أحد الرواة- لا أعلمه إلا عن أبيه- فهذا اضطراب، لكن يصلح شاهدا.
٧- وله شاهد من حديث أبي أمامة، أخرجه الطبراني ٧٥٥٥، وفيه شهر بن حوشب أيضا، وفيه ليث بن أبي سليم ضعفه غير واحد.
٨- وله شاهد من حديث أبي أيوب وجابر وأنس، أخرجه ابن ماجة ٣٥٥ وابن الجارود ٤٠ والدارقطني ١/ ٦٢ والحاكم ١/ ١٥٥ والبيهقي ١/ ١٠٥ ومداره على عتبة بن أبي حكيم، ضعفه ابن معين والنسائي. وقال أبو حاتم: صالح. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. ذكر ذلك الزيلعي رحمه في «نصب الراية» ١/ ٢١٩ وقال: سنده حسن. ولعله حسنه لشواهده. وقال الدارقطني: عنبة غير قوي. وأما الحاكم فقال: حديث كبير صحيح في الطهارة! ووافقه الذهبي! ولعله وافقه بسبب شواهده.
٩- وورد من حديث أبي أيوب من وجه آخر، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١/ ٢١٣ وقال الهيثمي: فيه واصل بن عطاء، وهو ضعيف.
١٠- وله شاهد عن خزيمة بن ثابت، وليس فيه اللفظ المرفوع، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١/ ٢١٣ وقال الهيثمي: فيه أبو بكر بن أبي سبرة متروك. فهذا شاهد لا يفرح به.
١١- وصح عن خزيمة من وجه آخر أخرجه الطبري ١٧٢٤٦ قال: نزلت هذه الآية فِيهِ رِجالٌ... قال:
كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط. لم يذكر أهل قباء.
300
فقالوا: إنا نستنجي بالماء. فعلى هذا، المراد به الطهارة بالماء. وقال أبو العالية: أن يتطهروا من الذّنوب.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٩]
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)
قوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «أَسس» بفتح الألف في الحرفين جميعاً وفتح النون فيهما. وقرأ نافع وابن عامر «أُسس» بضم الألف «بنيانُه» برفع النون. والبنيان مصدر يراد به المبني. والتأسيس: إحكام أس البناء، وهو أصله، والمعنى: المؤسِّس بنيانه متقياً يخاف الله ويرجو رضوانه خير، أم المؤسس بنيانه غير متق؟ قال الزجاج: وشفا الشيء:
حرفُه وحدُّه. والشفا مقصور، يكتب بالألف ويثنى شفوان. قوله تعالى: جُرُفٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي «جُرُف» مثقَّلاً. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: «جُرْف» ساكنة الراء. قال أبو علي: فالضم الأصل، والإسكان تخفيف، ومثله: الشُّغُل والشُّغْل. قال ابن قتيبة:
المعنى: على حرف جرف هائر. والجرف: ما يتجرف بالسيول من الأودية. والهائر: الساقط. ومنه:
تهوَّر البناء وانهار: إذا سقط. وقرأ ابن كثير: وحمزة «هار» بفتح الهاء. وأمال الهاء نافع وأبو عمرو.
وعن عاصم كالقراءتين. قوله تعالى: فَانْهارَ بِهِ أي: بالباني فِي نارِ جَهَنَّمَ. قال الزجاج: وهذا مثل، والمعنى: أن بناء هذا المسجد كبناء على جرف جهنم يتهوَّر بأهله فيها. وقال قتادة: ذُكر لنا أنهم حفروا فيه حفرة فرؤي فيها الدخان. قال جابر: رأيت المسجد الذي بني ضراراً يخرج منه الدّخان.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٠]
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
قوله تعالى: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ يعني: مسجد الضرار الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: شكّاً ونفاقاً، لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه، قاله ابن عباس، وابن زيد.
والثاني: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه، قاله ابن السائب ومقاتل. والثالث: أن المعنى: لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظاً في قلوبهم، قاله السدي، والمبرِّد.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قرأ الأكثرون: «إلا» وهو حرف استثناء. وقرأ يعقوب «إلى أن» فجعله حرف جر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تُقَطَّع» بضم التاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: «تَقَطَّع» بفتح التاء. ثم في المعنى قولان:
وللحديث شواهد مراسيل تقدم بعضها، ومنها: مرسل الشعبي، أخرجه الطبري ١٧٢٤٧ و ١٧٢٤٩ من طريقين أحدهما قوي. مرسل موسى بن أبي كثير، أخرجه الطبري ١٧٢٥١. مرسل عبد الرحمن بن زيد، أخرجه الطبري ١٧٢٥٦. مرسل الحسن، أخرجه البلاذري في «فتوح البلدان» ١- ٢- ٣ والإسناد إلى الحسن حسن. وفي الباب روايات موصولة ومرسلة، ذكرها في «الدر المنثور» ٣/ ٤٩٧- ٤٩٩.
الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده الموصولة والمرسلة وقد صححه الحاكم والذهبي، وحسن الزيلعي إحدى رواياته وتقدم بما فيه كفاية، والله أعلم.
أحدهما: إلا أن يموتوا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في آخرين. والثاني: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم، ذكره الزّجّاج.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١١]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.
(٧٦٠) سبب نزولها أن الأنصار لما بايعت رسول الله ﷺ ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلاً، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم»، قالوا: فاذا فعلنا ذلك، فما لنا؟
قال: «الجنة» قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية، قاله محمد بن كعب القرظي.
فأما اشتراء النفس فبالجهاد. وفي اشتراء الأموال وجهان: أحدهما: بالإِنفاق في الجهاد.
والثاني: بالصدقات. وذِكْرُ الشّراء ها هنا مجاز لأن المشتري حقيقة هو الذي لا يملك المشترى، فهو كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ «١» والمراد من الكلام أن الله أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنة فعبَّر عنه بالشراء لِما تضمن من عوض ومعوض. وكان الحسن يقول: لا والله، إنْ في الدنيا مؤمن إلا وقد أُخذت بيعته. وقال قتادة: ثامَنَهم والله فأغلى لهم. قوله تعالى:
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم «فيَقتلون ويُقتَلون» فاعل ومفعول. وقرأ حمزة، والكسائي «فيُقتلون ويَقتُلون» مفعول وفاعل. قال أبو علي: القراءة الأولى بمعنى أنهم يَقتُلون أولاً ويُقتلون، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى كالأولى، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم فان لم يقدَّر فيه التقديم، فالمعنى: يقتُل من بقي منهم بعد قتل من قُتل، كما أن قوله تعالى: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ «٢» ما وهن من بقي بِقَتْلِ من قُتل. ومعنى الكلام: إن الجنة عوض عن جهادهم، قَتَلوا أو قُتلوا. وَعْداً عَلَيْهِ قال الزجاج: نصب «وعداً» بالمعنى، لأن معنى قوله: بِأَنَ
ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٢٨٤ عن محمد بن كعب وغيره مرسلا ومع إرساله فإن في إسناده نجيح بن عبد الرحمن أبو معشر واه وهو مرسل، والوهن في نزول الآية، لأن البيعة كانت في أول الإسلام.
وفي الباب من حديث عبادة بن الصامت «أن النبي ﷺ اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار: «أن يشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والسمع والطاعة، ولا ينازعوا في الأمر أهله ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، قالوا: نعم: قال قائل من الأنصار: نعم، هذا لك يا رسول! فما لنا؟ قال: الجنة». أخرجه ابن سعد في «الطبقات ٣/ ٤٥٧، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف الحديث. وليس فيه ذكر نزول الآية.
__________
(١) سورة البقرة: ٢٤٥.
(٢) سورة آل عمران: ١٤٦.
لَهُمُ الْجَنَّةَ: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا، قال: وقوله تعالى: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يدل على أن أهل كل ملة أُمروا بالقتال ووُعدوا عليه الجنة. قوله تعالى: وَمَنْ أَوْفى أي: لا أحد أوفى بما وعد مِنَ اللَّهِ. فَاسْتَبْشِرُوا أي: فافرحوا بهذا البيع.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٢]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
قوله تعالى: التَّائِبُونَ.
(٧٦١) سبب نزولها: أنه لما نزلت التي قبلها، قال رجل: يا رسول الله، وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
قال الزجاج: يصلح الرفع هاهنا على وجوه أحدها: المدح، كأنه قال: هؤلاء التائبون، أو هم التائبون. ويجوز أن يكون على البدل، والمعنى: يقاتل التائبون فهذا مذهب أهل اللغة، والذي عندي أنه رفعٌ بالابتداء، وخبره مضمر، المعنى: التائبون ومن ذُكر معهم لهم الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد، لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد. وللمفسرين في قوله تعالى: التَّائِبُونَ قولان: أحدهما: الراجعون عن الشرك والنفاق والمعاصي. والثاني: الراجعون إلى الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظر. وفي قوله تعالى: الْعابِدُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: المطيعون لله بالعبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: المقيمون الصلاة، قاله الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: الموحِّدون، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: الْحامِدُونَ قال قتادة: يحمدون الله تعالى على كل حال. وفي السائحين أربعة أقوال: أحدها: الصائمون، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة في آخرين. قال الفراء: ويرى أهل النظر أن الصائم إنما سمي سائحاً تشبيهاً بالسائح، لأن السائح لا زاد معه والعرب تقول للفرس إذا كان قائماً لا علف بين يديه: صائم، وذلك أن له قُوتين، غدوة وعشية، فشُبه به صيام الآدمي لتسحُّره وإفطاره. والثاني: أنهم الغزاة، قاله عطاء. والثالث: طلاب العلم، قاله عكرمة. والرابع: المهاجرون، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني في الصلاة الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وهو طاعة الله وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو معصية الله. فان قيل: ما وجه دخول الواو في قوله تعالى:
وَالنَّاهُونَ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصفة الثامنة، والعرب تعطف بالواو على السّبعة، كقوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «١» وقوله في صفة الجنّة: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «٢»، ذكره جماعة من المفسرين. والثاني: أن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الآمر بالمعروف ناه عن
لم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه، حيث لا ذكر له في كتب الحديث والأثر بهذا اللفظ والسياق.
__________
(١) سورة الكهف: ٢٢.
(٢) سورة الزمر: ٧٣.
المنكر في حال أمره، فكان دخول الواو دلالة على أن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين في بعض الأحوال والأوقات.
قوله تعالى: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ قال الحسن: القائمون بأمر الله.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(٧٦٢) أحدها: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أميّة، فقال: «أي عم، قل معي: لا إله إلا الله، أحاجُّ لك بها عند الله»، فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزالا يكلِّمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به: أنا على ملَّة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرنّ لك ما لم أُنه عنك»، فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، ونزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «١» أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه.
(٧٦٣) وقيل: إنه لمّا مات أبو طالب، جعل النّبيّ ﷺ يستغفر له، فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا، وقد استغفر ابراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه؟ فاستغفروا للمشركين، فنزلت هذه الآية. قال أبو الحسين بن المنادي: هذا لا يصح، إنما قال النبي ﷺ لعمّه «لأستغفرنّ لك ما لم أُنهَ عنك» قبل أن يموت، وهو في السياق، فأما أن يكون استغفر له بعد الموت، فلا، فانقلب ذلك على الرواة، وبقي على انقلابه.
(٧٦٤) والثاني: أنّ النبيّ ﷺ مرَّ بقبر أمه آمنة، فتوضأ وصلى ركعتين، ثمّ بكى فبكى الناس
صحيح. أخرجه البخاري ١٣٦٠ و ٤٧٧٢ و ٤٧٧٦ و ٣٨٨٤ و ٦٦٨١ ومسلم ٢٤ والنسائي ٤/ ٦٠ وفي «التفسير» ٢٥٠ وأحمد ٥/ ٤٣٣ وعبد الرزاق في «التفسير» ١١٣٢ وابن حبان ٩٨٢ والواحدي في «الوسيط» ٢/ ٥٢٧ و «الأسباب» ٥٣٠ والبيهقي في «الصفات ١٧١ و ١٩٥ و «الدلائل» ٢/ ٣٤٢ و ٣٤٣، والبغوي في «التفسير» ١١٢٣ بترقيمي. من طرق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه به.
أخرجه الطبري ١٧٣٤١ عن عمرو بن دينار مرسلا. وله شاهد من مرسل محمد بن كعب، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» ٣/ ٥٠٥. فهذان مرسلان لا تقوم بهما حجة. انظر «أحكام القرآن» ١٢٢٢ بتخريجنا.
عزاه السيوطي في «الدر» ٣/ ٥٠٧ لابن مردويه عن بريدة به. ولم أقف على إسناده. وورد بنحوه أخرجه الطبري ١٧٣٤٤ من حديث بريدة ورجاله ثقات. وورد من وجه آخر أخرجه الحاكم ١/ ٣٧٦ وصححه على
__________
(١) سورة القصص: ٥٦.
304
لبكائه، ثم انصرف إليهم، فقالوا: ما الذي أبكاك؟ فقال: «مررت بقبر أمي فصليت ركعتين، ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها، فنُهيت، فبكيت، ثم عدت فصلّيت ركعتين، واستأذنت ربي أن أستغفر لها، فزُجرت زجراً، فأبكاني»، ثمّ دعا براحلته فركبها فما سار هنيّة، حتى قامت الناقة لثقل الوحي فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا والأية التي بعدها، رواه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٧٦٥) والثالث: أن رجلاً استغفر لأبويه، وكانا مشركين، فقال له علي بن أبي طالب: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكر ذلك عليّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه أبو الخليل عن علي عليه السلام.
(٧٦٦) والرابع: أن رجالا من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الرحم، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ فقال: «بلى، والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه»، فنزلت هذه الآية، وبيَّن عذر إبراهيم، قاله قتادة.
ومعنى قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي: من بعد ما بان أنهم ماتوا كفاراً.
قوله تعالى: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فيه قولان: أحدهما: أن إبراهيم وعد أباه الاستغفار، وذلك قوله تعالى: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي «١»، وما كان يعلم أن الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره الله تعالى بذلك. والثاني: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن فلما تبيَّن لإبراهيم عداوة أبيه لله تعالى بموته على الكفر، ترك الدعاء له. فعلى الأول، تكون هاء الكناية في «إيَّاه» عائدة على آزر، وعلى الثاني، تعود على إبراهيم. وقرأ ابن السميفع، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك: «وعدها أباه» بالباء.
شرطهما! ووافقه الذهبي! وهو كما قال. وله شاهد صحيح من حديث أبي هريرة، أخرجه الترمذي ٩٧٦ وأبو داود ٣٢٣٤ والنسائي ٤/ ٩٠ وابن ماجة ١٥٧٢ وابن أبي شيبة ٣/ ٣٤٣ وأحمد ٢/ ٤٤١ وابن حبان ٣١٦٩ واستدركه الحاكم ١/ ٣٧٥ والبيهقي ٤/ ٧٦ والبغوي ١٥٥٤ من طرق عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة، قال: زار النبي ﷺ قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، «فإنها تذكر الموت». قال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» ٧/ ٤٥: فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة، لأنه إذا جازت زيارتهم بعد، ففي الحياة أولى، وقد قال الله تعالى وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وفيه النهي عن الاستغفار للكفار. ففي هذا الحديث وحديث بريدة المتقدم وكلام النووي هذا دليل على رد قول بعض المتأخرين ومنهم السيوطي بأن الله عز وجل قد أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم. فآمنا به. وليس على ما ذكر هؤلاء دليل سوى أحاديث موضوعة، وأقوال واهية، وقصص عجيبة. نسأل الله السلامة.
أخرجه الترمذي ٣١٠١ والنسائي ٤/ ٩١ وأحمد ١/ ٩٩ و ١٣٠ و ١٣١ وأبو يعلى ٣٣٥ و ٦١٩ والطبري ١٧٣٤٨ و ١٧٣٤٩ من طرق عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الخليل عبد الله بن الخليل عن علي به، وإسناده لين أبو الخليل، مقبول، وقد توبع على معنى هذا الحديث كما تقدم دون لفظه. والله أعلم.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٣٤٧ عن قتادة مرسلا بأتم منه، وهذا ضعيف لإرساله.
__________
(١) سورة مريم: ٤٧.
305
وفي الأوَّاه ثمانية أقوال «١» :
(٧٦٧) أحدها: أنه الخاشع الدَّعَّاء المتضرع، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه الدَّعَّاء، رواه زِرٌّ عن عبد الله، وبه قال عبيد بن عمير. والثالث: الرحيم، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود، وبه قال الحسن، وقتادة، وأبو ميسرة. والرابع: أنه الموقن، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك. والخامس: أنه المؤمن، رواه العوفي، ومجاهد، وابن أبي طلحة عن ابن عباس. والسادس: أنه المسبِّح، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة، وبه قال سعيد بن المسيب، وابن جبير. والسابع: أنه المتأوِّه لذِكر عذاب الله، قاله الشعبي. قال أبو عبيدة: مجاز أواه مجاز فَعّال من التأوّه، ومعناه: متضرِّع شَفَقَاً وفَرَقاً ولزوماً لطاعة ربه، قال المُثَقَّب:
إذا ما قمتُ أرْحَلُها بليل تأَوَّهُ آهةَ الرجل الحزينِ «٢»
والثامن: أنه الفقيه، رواه ابن جريج عن مجاهد. فأما الحليم، فهو الصّفوح عن الذّنوب.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٥ الى ١١٦]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً الآية.
(٧٦٨) سبب نزولها: أنه لما نزلت آية الفرائض، وجاء النسخ، وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر الأول مثل أمر القبلة والخمر، ومات أقوام على ذلك، سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وقال قوم: المعنى: أنه بيَّن أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين قبل تحريمه، فاذا حرَّمه ولم يمتنعوا عنه، فقد ضلوا. وقال ابن الأنباري: في الآية حذف واختصار، والتأويل: حتى يتبين لهم ما يتقون، فلا يتقونه، فعند ذلك يستحقون الضّلال فحذف ما حذف لبيان معناه، كما تقول العرب:
أمرتك بالتجارة فكسبتَ الأموال يريدون: فتجرت فكسبت.
أخرجه الطبري ١٧٤٣٠ و ١٧٤٣١ عن عبد الله بن شداد، وفيه شهر بن حوشب فيه كلام، وهو مدلس، وقد عنعنه. وإسناده ضعيف.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.
__________
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٤٨٨: وأولى الأقوال قول من قال: إنه الدعاء وهو المناسب للسياق، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم عليه السلام إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه في قوله: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا.
فحلم عنه مع أذاه له، ودعا له واستغفر، ولهذا قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ اه.
(٢) البيت منسوب إلى المثقب: مجاز القرآن ١/ ٢٧٠ «اللسان» أوه.

[سورة التوبة (٩) : آية ١١٧]

لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧)
قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ قال المفسرون: تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلُّف.
وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سببَ توبة التّائبين، ذكر معهم، كقوله تعالى:
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ «١». قوله تعالى: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ قال الزجاج: هم الذين اتبعوه في غزوة تبوك، والمراد بساعة العسرة: وقت العسرة، لأن الساعة تقع على كل الزمان، وكان في ذلك الوقت حرٌّ شديدٌ، والقوم في ضيقة شديدة، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه، وكانوا في فقر، فربما اقتسم التمرة اثنان، وربما مص التمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء، وربما نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحر.
(٧٦٩) وقيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن ساعة العسرة فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع، حتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إنّ الله تعالى قد عوَّدك في الدعاء خيراً، فادع لنا. قال: «تحب ذلك» ؟ قال: نعم. فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ قرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «كاد يزيغ» بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: تميل إلى التخلف عنه، وهم ناس من المسلمين هَمُّوا بذلك، ثم لحقوه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن القلوب مالت إلى الرجوع للشدة التي لقوها، ولم تَزِغ عن الإيمان، قاله الزجاج. والثالث: أن القلوب كادت تزيغ تلفاً بالجهد والشدة، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ كرر ذكر التوبة، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم ذِكر التوبة فضلاً منه، ثم ذكر ذنبهم، ثم أعاد ذكر التّوبة.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٨]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر:
أخرجه ابن خزيمة ١/ ٥٢ والحاكم ١/ ٥٩ وابن حبان ١٣٨٣ والبزار ١٨٤١ «كشف» من حديث ابن عمر، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، والصواب أنه على شرط مسلم وحده، حرملة بن يحيى تفرد عنه مسلم.
__________
(١) سورة الأنفال: ٤١.
«خالفوا» بألف. وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وحميد: «خَلَفُوا» بفتح الخاء واللام المخففة. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو العالية: «خَلَّفوا» بفتح الخاء واللام مع تشديدها. وهؤلاء هم المرادون بقوله تعالى:
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ وقد تقدّمت أسماؤهم. وفي معنى «خُلّفوا» قولان: أحدهما: خُلِّفوا عن التوبة، قاله ابن عباس، ومجاهد. فيكون المعنى: خُلِّفوا عن توبة الله على أبي لبابة وأصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك. والثاني: خُلِّفوا عن غزوة تبوك، قاله قتادة. وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك «١»، وقد رويتها في كتاب «الحدائق».
قوله تعالى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي: ضاقت مع سَعَتها.
(٧٧٠) وذلك أن المسلمين مُنعوا من معاملتهم وكلامهم، وأُمروا باعتزال أزواجهم، وكان النّبيّ ﷺ مُعرِضاً عنهم. وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ بالهمِّ والغمِ. وَظَنُّوا أي: أيقنوا أَنْ لا مَلْجَأَ أي: لا معتصَم من الله ومن عذابه إلا هو. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أعاد التوبة تأكيداً، لِيَتُوبُوا قال ابن عباس: ليستقيموا. وقال غيره: وفَّقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها. وسئل بعضهم عن التوبة النصوح، فقال: أن تضيق على التائب الارضُ، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب وصاحبيه.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في سبب نزولها قولان: أحدهما:
أنها نزلت في قصة الثلاثة المتخلِّفين. والثاني: أنها في أهل الكتاب. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في إيمانكم بمحمّد ﷺ وكونوا مع الصادقين.
وفي المراد بالصادقين خمسة أقوال: أحدها: أنه النبيّ ﷺ وأصحابه، قاله ابن عمر. والثاني:
أبو بكر وعمر، قاله سعيد بن جبير، والضحاك. وقد قرأ ابن السّميفع، وأبو المتوكّل، ومعاذ القارئ:
«مع الصَّادِقَيْنِ» بفتح القاف وكسر النون على التثنية. والثالث: أنهم الثلاثة الذين خُلِّفوا، صدقوا النبيّ ﷺ عن تأخُّرهم، قاله السدي. والرابع: أنهم المهاجرون، لأنهم لم يتخلّفوا عن رسول الله ﷺ في الجهاد، قاله ابن جريج. قال أبو سليمان الدمشقي. وقيل: إن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية يوم السقيفة، فقال: يا معشر الأنصار، إن الله يقول في كتابه: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا إلى قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ من هم؟ قالت الأنصار: أنتم هم. قال: فان الله تعالى يقول: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. والخامس: أنه عامّ، قاله قتادة. و «مع» بمعنى: «مِنْ»، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود:
«وكونوا من الصادقين».
صحيح. أخرجه البخاري ٤٤١٨ ومسلم ٢٧٦٩ والترمذي ٣١٠٢ والنسائي في «التفسير» ٢٥٢ وعبد الرزاق ٩٧٤٤ وأحمد ٥/ ٣٨٧ وابن أبي شيبة ١٤/ ٥٤٠ وابن حبان ٣٣٧٠ والواحدي في «الوسيط» ٢/ ٥٣٠ و ٥٣٢ ١١ والطبري ١٧٤٦١ والبيهقي في «الدلائل» ٥/ ٢٧٣ والبغوي ١١٣٤ من حديث كعب بن مالك.
__________
(١) هو الآتي. [.....]

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٠ الى ١٢١]

ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
قوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ قال ابن عباس: يعني: مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ في غزوة غزاها، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ لا يرضَوا لأنفسهم بالخفض والدّعة ورسول الله ﷺ في الحرِّ والمشقة. يقال: رغبت بنفسي عن الشيء: إذا ترفعت عنه.
قوله تعالى: ذلِكَ أي: ذلك النهي عن التخلُّف بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وهو العطش، وَلا نَصَبٌ وهو التّعب، وَلا مَخْمَصَةٌ وهي المجاعة، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أسراً أو قتلا أو هزيمة، فأعلمهم الله أنه يجازيهم على جميع ذلك.
قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً قال ابن عباس: تمرة فما فوقها، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً مقبلين أو مدبرين إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أي: أُثبت لهم أجر ذلك، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ أي: بأحسن ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
فصل: قال شيخنا علي بن عبيد الله: اختلف المفسرون في هذه الآية، فقالت طائفة: كان في أول الأمر لا يجوز التّخلّف عن رسول الله ﷺ حيث كان الجهاد يلزم الكل ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً وقالت طائفة: فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان النبيّ ﷺ ممن لا عذر له الخروج معه لشيئين: أحدهما: أنه من الواجب عليهم أن يَقُوه بأنفسهم.
والثاني: أنه إذا خرج الرسول فقد خرج الدِّين كلُّه، فأُمروا بالتظاهر لئلا يقلَّ العدد، وهذا الحكم باقٍ إلى وقتنا فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد، وجب على عامة المسلمين متابعته لما ذكرنا. فعلى هذا، الآية محكمة. قال أبو سليمان: لكل آية وجهها، وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً في سبب نزولها أربعة أقوال «١» :
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٥١٦: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: تأويله: وما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول الله وحده، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم، ويدعوا رسول الله ﷺ وحيدا. ولكن عليهم إذا سرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينفر معه من كل قبيلة من قبائل العرب طائِفَةٌ وهي الفرقة- وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد، كما قال الله جل.
ثناؤه: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يقول: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة وهذا إلى ها هنا. على أحد الأقوال التي رويت عن ابن عباس وهو قول قتادة والضحاك وإنما قلنا: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب. لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله ﷺ على المؤمنين به من أهل المدينة مدينة الرسول ﷺ ومن الأعراب، لغير عذر يعذرون به، إذا خرج رسول الله ﷺ لغزو وجهاد عدو قبل هذه الآية بقوله: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: ١٢٠]. ثم عقب ذلك جل ثناؤه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر، والمباح لهم من تركه حال غزو رسول الله ﷺ وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم. أن يكون عقيب تعريفهم ذلك، تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله ﷺ بمدينته، وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.
وأما قوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهل دينه وأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك معاينته حقيقة علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان من لم يكن فقهه، ولينذر قومهم فيحذرهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم. لَعَلَّهُمْ يحذرون يقول: لعل قومهم، إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله، حذارا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، وهو قول الحسن البصري لأن «النفر» قد بينا فيما مضى، أنه إذا كان مطلقا بغير صلة بشيء، أن الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو، فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه، وكان جل ثناؤه قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ. علم أن قوله لِيَتَفَقَّهُوا إنما هو شرط للنفر لا لغيره. إذ كان يليه دون غيره من الكلام. فإن قال قائل وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلفون في الدنيا.
قيل: ننكر ذلك لاستحالته. وذلك أن نفر الطائفة النافرة لو كان سببا لتفقه المتخلفة، وجب أن يكون مقامهم معهم سببا لجهلهم وترك التفقه، وقد علمنا أن مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببا لمنعهم من التفقه.
وبعد، فإنه قال جل ثناؤه: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ عطفا به على قوله: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، ولا شك أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدم من الله إليها، وللإنذار وخوف الوعيد نفرت، فما وجه إنذار الطائفة المتخلفة الطائفة النافرة، وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما؟ ولو كانت إحداهما جائز أن توصف بإنذار الأخرى، لكان أحقهما بأن يوصف به، الطائفة النافرة، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به. ما لم تعاين المقيمة. ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا. في أنها تنذر من حيّها وقبيلتها من لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه: أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نظرائه من أهل الشرك. اه.
309
(٧٧١) أحدها: أنه لمّا أنزل الله عزّ وجلّ عيوب المنافقين في غزوة تبوك، قال المؤمنون: والله لا نتخلَّف عن غزوة يغزوها رسول الله ﷺ ولا سريَّة أبداً. فلما أرسل السرايا بعد تبوك، نفر المسلمون جميعاً، وتركوا رسول الله ﷺ وحده، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(٧٧٢) والثاني: أن رسول الله ﷺ لما دعا على مضر، أجدبت بلادهم فكانت القبيلة منهم تقبل
باطل لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٣٣ من رواية الكلبي عن ابن عباس، والكلبي ممن يضع الحديث، والمتن باطل، فإن المسلمين كانوا ينفرون بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٤٨٨ عن ابن عباس، ورجاله ثقات، لكنه منقطع بين ابن عباس وعلي بن أبي طلحة، والآية تخاطب المؤمنين لا الكافرين كما هو سياق الحديث.
310
بأسرها إلى المدينة من الجُهد ويظهرون الإسلام وهم كاذبون فضيَّقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
(٧٧٣) والثالث: أن ناساً أسلموا، وخرجوا إلى البوادي يعلِّمون قومهم، فنزلت: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ «١»، فقال ناس من المنافقين: هلك من لم ينفر من أهل البوادي، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة.
(٧٧٤) والرابع: أن ناساً خرجوا إلى البوادي يعلِّمون الناس ويَهدونهم، ويصيبون من الحطب ما ينتفعون به فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فأقبلوا من البادية كلهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
قال الزجاج: ولفظ الآية لفظ الخبر، ومعناها الأمر، كقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ «٢»، والمعنى: ينبغي أن ينفر بعضهم، ويبقى البعض. قال الفراء: ينفِر وينفُر، بكسر الفاء وضمها، لغتان. واختلف المفسرون في المراد بهذا النفير على قولين: أحدهما: أنه النفير إلى العدو، فالمعنى: ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم، بل تنفر طائفة، وتبقى مع النبيّ ﷺ طائفة.
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يعني الفرقةَ القاعدين. فاذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن أو تجدَّد أمر، أعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني: أنه النفير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تنفر منهم طائفة ليتفقه هؤلاء الذين ينفرون، ولينذروا قومهم المتخلِّفين، هذا قول الحسن، وهو أشبه بظاهر الآية. فعلى القول الأول، يكون نفير هذه الطائفة مع رسول الله ﷺ إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه. وعلى القول الثاني، يكون نفير الطائفة إلى رسول الله ﷺ لاقتباس العلم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قد أُمر بقتال الكفار على العموم، وإنما يُبتدَأ بالأقرب فالأقرب. وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم الروم، قاله ابن عمر. والثاني:
قريظة والنضير وخيبر وفدك، قاله ابن عباس. والثالث: الديلم، قاله الحسن. والرابع: العرب، قاله ابن زيد. والخامس: أنه عام في قتال الأقرب فالأقرب، قاله قتادة. وقال الزّجّاج: وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل أهل كل ثغر الذين يلونهم. قال: وقيل: كان النبيّ ﷺ ربّما تخطّى في حربه الذين
مرسل. أخرجه الطبري ١٧٤٩١ عن عكرمة مرسلا.
مرسل. أخرجه الطبري ١٧٤٨٠ عن مجاهد مرسلا.
__________
(١) سورة التوبة: ٣٩.
(٢) سورة التوبة: ١١٣.
يلونه من الأعداء ليكون ذلك أهْيَبَ له، فأُمر بقتال من يليه ليُستَنَّ بذلك. وفي الغلظة ثلاث لغات:
غِلظة، بكسر الغين وبها قرأ الأكثرون. وغَلظة، بفتح الغين، رواها جبلة عن عاصم، وغُلظة، بضم الغين، رواها المفضل عن عاصم، ومثلها: جِذوة وجَذوة وجُذوة، ووِجنة ووَجنة ووُجنة، ورِغوة ورَغوة ورُغوة، ورِبوة ورَبوة ورُبوة، وقِسوة وقَسوة وقُسوة، وإِلوة وأَلوة وأُلوة، في اليمين. وشاة لِجْبة ولَجْبة ولُجْبة: قد ولىَّ لبنها. قال ابن عباس في قوله «غلظة» : شجاعة. وقال مجاهد: شدة.
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً هذا قول المنافقين بعضهم لبعض استهزاءً بقول الله تعالى. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً لأنهم إذا صدَّقوا بها وعملوا بما فيها، زادتهم إيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي: يفرحون بنزولها وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: شك ونفاق. وفي المراد بالرجس ثلاثة أقوال: أحدها: الشك، قاله ابن عباس. والثاني: الإثم، قاله مقاتل. والثالث:
الكفر، لأنهم كلما كفروا بسورة زاد كفرهم، قاله الزجاج. قوله تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ يعني المنافقين.
وقرأ حمزة: «أولا ترون» بالتاء على الخطاب للمؤمنين. وفي معنى يُفْتَنُونَ ثمانية أقوال «١».
أحدها: يكذبون كذبة أو كذبتين يُضلِّون بها، قاله حذيفة بن اليمان. والثاني: ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: يُبْتَلَوْنَ بالغزو في سبيل الله، قاله الحسن، وقتادة.
والرابع: يُفْتَنون بالسَّنَة والجوع، قاله مجاهد. والخامس: بالأوجاع والأمراض، قاله عطية. والسادس:
يَنقضُون عهدهم مرة أو مرّتين، قاله يمان. والسابع: يكافرون، وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبيّ ﷺ بما تكلَّموا به إذ خَلَوْا، علموا أنه نبي، ثم يأتيهم الشيطان فيقول: إنما بلغه هذا عنكم، فيشركون، قاله مقاتل بن سليمان. والثامن: يُفضَحون باظهار نفاقهم، قاله مقاتل بن حيان.
قوله تعالى: ثُمَّ لا يَتُوبُونَ أي من نفاقهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ أي يعتبرون ويتّعظون.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٧]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
قوله تعالى: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ.
(٧٧٥) قال ابن عباس: كانت إذا أُنزلت سورة فيها عيب المنافقين، وخطبهم رسول الله ﷺ وعرَّض بهم في خطبته، شق ذلك عليهم ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب يقولون: هَلْ
عزاه المصنف لابن عباس، ولم أقف عليه.
__________
(١) قال الطبري في «تفسيره» ٦/ ٥٢٠- ٥٢١: وأولى الأقوال في كذلك بالصحة أن يقال: إن الله عجب عباده المؤمنين من هؤلاء المنافقين، ووبّخ المنافقين في أنفسهم بقلة تذكرهم. وسوء تنبههم لمواعظ الله التي يعظهم بها، وجائز أن تكون تلك المواعظ الشدائد التي ينزلها بهم من الجوع والقحط، وجائز أن تكون ما يريهم من نصرة رسوله على أهل الكفر به، ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم، وجائز أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول الله ﷺ وأصحابه، ولا خبر يوجب صحة بعض ذلك دون بعض من الوجه الذي يجب التسليم له، ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول الله وهو: أو لا يرون أنهم يختبرون في كل عام مرة أو مرتين، بما يكون زاجرا لهم، ثم لا ينزجرون ولا يتعظون؟
يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المؤمنين إن قمتم؟ فان لم يرهم أحد خرجوا من المسجد.
قال الزجاج: كأنهم يقولون ذلك إيماءً لئلا يعلم بهم أحد، ثُمَّ انْصَرَفُوا عن المكان، وجائز عن العمل بما يسمعون. وقال الحسن: ثم انصرفوا على عزم التّكذيب بمحمّد ﷺ وبما جاء به. قوله تعالى: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ قال ابن عباس: عن الإيمان. وقال الزّجّاج: أضلّهم مجازاة على فعلهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٨]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)
قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قرأ الجمهور بضم الفاء. وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن. ومحبوب عن أبي عمرو: بفتحها. وفي المضمومة أربعة أقوال: أحدها: من جميع العرب، قاله ابن عباس وقال: ليس في العرب قبيلة إلّا وقد ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: ممن تعرفون، قاله قتادة. والثالث: من نكاحٍ لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، قاله جعفر الصّادق. والرابع: بشر مثلكم، فهو آكد للحجة، لأنكم تفقهون عمَّن هو مثلكم، قاله الزجاج.
وفي المفتوحة ثلاثة أقوال: أحدها: أفضلكم خُلُقاً. والثاني: أشرفكم نسبا. والثالث: أكثركم طاعة لله عزّ وجلّ. قوله تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ فيه قولان: أحدهما: شديد عليه ما شقَّ عليكم، رواه الضحاك عن ابن عباس. قال الزجاج: شديد عليه عنتكم. والعنت: لقاء الشدة. والثاني: شديد عليه ما آثمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه. وقال أبو عبيدة: «رؤوف» فعول، من الرأفة، وهي أرق من الرحمة ويقال:
«رؤف»، وأنشد:
ترى للمؤمنين عليك حقاً كفعل الوالد الرؤف الرحيم «١»
وقيل: رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٩]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: أعرضوا عن الإيمان فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي: يكفيني رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. وقرأ ابن محيصن: «العظيمُ» برفع الميم. وإنما خص العرش بالذِّكر، لأنه الأعظم، فيدخل فيه الأصغر.
(٧٧٦) قال أُبيّ بن كعب: آخر آية أُنزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ إلى آخر السّورة.
أخرجه أحمد ٥/ ١١٧ والطبري ١٧٥٢٩ و ١٧٥٣٠ ورواه الطبراني في الكبير ٥٣٣ عن أبي بن كعب، وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧/ ٣٦. وقال: رواه عبد الله بن أحمد والطبراني، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ثقة سيء الحفظ وبقية رجاله ثقات.
__________
(١) البيت منسوب لجرير: ديوانه: ٥٠٨، و «اللسان» رأف.
Icon