تفسير سورة التوبة

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ
في حكم البسملةِ بينَ كلِّ سورتينِ سوى براءةَ عندَ الكلامِ في البسملة أولَ التفسير، ومُلَخَّصُه: أنَّ مذهبَ الشّافعيِّ رضي الله عنه أن البسملةَ آيةٌ من الفاتحةِ ومن كلِّ سورةٍ سوى براءةَ، ومذهبُ أحمدَ وأبي حنيفةَ أنّها آيةٌ مستقلةٌ بينَ كلِّ سورتينِ سوى براءةَ، فيكره ابتداؤها بها، ومذهبُ مالكٍ أنّها ليستْ بآيةٍ من الفاتحة، ولا من غيرِها، وإنّما كُتبت للتيمُّن والتبرُّك بها معَ إجماعهم على أنّها بعضُ آيةٍ من سورةِ النمل، وأنَّ بعضَها آيةٌ من الفاتحة.
وأمّا مذاهبُ (١) القراء فيها، فقد أجمعوا على حذفِها بينَ الأنفالِ وبراءةَ، وكذلكَ في الابتداءِ ببراءةَ، وأمّا الابتداءُ بالآي وسطَ براءة، ففيه خلافٌ، ويجوزُ بينَ الأنفالِ وبراءةَ كلّ من الوصلِ والسكتِ والوقفِ لجميعِ القراء إذا لم يقطعْ على آخرِ الأنفالِ، فالقطعُ: هو قطع القراءةِ رأسًا، فهو كالانتهاء، والوقفُ: هو قطعُ الصوتِ على الكلمةِ زمنًا يتنفَّس فيه عادةً بنيةِ استئنافِ القراءة، والسكتُ: هو قطعُ الصوتِ زمنًا دونَ زمنِ الوقفِ عادةً من غيرِ تنفُّسٍ، والله أعلمُ.
* * *
﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)﴾.
[١] قوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ﴾ خروجٌ من الشيءِ، ومفارقةٌ له بشدَّةٍ، والتقديرُ: هذِه براءةٌ ﴿مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ مبتدأٌ، خبرُه ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ﴾ أيُّها المؤمنون.
﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ والمعنى: أن الله ورسوله قد برءا من العهد الّذي عاهدتم به المشركين، رُوي أنّه لما خرجَ رسولُ اللهِ - ﷺ - إلى تبوكَ، كان المنافقون يُرْجِفون الأراجيفَ، وجعلَ المشركونَ ينقُضون عهودًا كانت
(١) في "ت": "مذهب".
بينَهم وبينَ رسولِ اللهِ - ﷺ -، فأمرَ اللهُ بنقضِ عهودِهم، وكانَ رسولُ اللهِ - ﷺ - هو الّذي عاهدَهم عامًا على ألَّا يُصَدَّ أحدٌ عن البيت الحرام، ونحو هذا من الموادَعات، وأصحابُه كلُّهم راضونَ بذلكَ، فكأنّهم عاهدوا، فَنُسِبَ العهدُ إليهم، وكذلك ما عقدَهُ أئمةُ الكفرِ على قومِهم منسوبٌ إِليهم يُؤاخذونَ به؛ إذ لا يمكنُ غيرُ ذلك؛ لأن تحصيلَ الرضا من الجميعِ متعذرٌ، فإذا عقدَ الإمامُ لما يرى من المصلحةِ أمرًا، لزمَ جميعَ الرعايا.
* * *
﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢)﴾.
[٢] ﴿فَسِيحُوا﴾ رجع من الخبر إلى الخطاب؛ أي: قل لهم: سِيحُوا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ أى: سيروا فيها آمنينَ.
﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ تأجيلٌ من اللهِ للمشركين، فمن كانتْ مدةُ عهدِهِ أقلَّ من أربعةِ أشهرٍ، رُفِعَ إليها، ومن كانت مدَّتُه أكثرَ منها، حُطَّ إليها، ومن كانت مدةُ عهدِه بغيرِ أجلٍ محدودٍ، حَدَّهُ بأربعةِ أشهرٍ، ثمّ هو حربٌ بعدَ ذلكَ للهِ ورسوله يُقتل حيث أُدْرِكَ، ويؤسرُ، إِلَّا أن يتوب، وابتداءُ هذا الأجل يومَ الحجِّ الأكبرِ، وانقضاؤه إلى عشرٍ من ربيعٍ الآخرِ، فأمّا من لم يكنْ له عهدٌ، فإنما أجلُه انسلاخُ المحرَّمِ، وذلك خمسون يومًا، وقيل: الأشهرُ الأربعةُ: شوالٌ وذو القعدةِ، وذو الحجَّةِ، والمحرَّمُ، والأول أصوبُ، وعليه الأكثرُ.
﴿وَاعْلَمُوا﴾ أيّها الناكثون ﴿أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي﴾ أي: فائتي ﴿اللَّهَ﴾ بعدَ الأربعةِ أشهرٍ.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي﴾ مُذِلُّ ﴿الْكَافِرِينَ﴾ بالقتلِ في الدنيا، والعذابِ في الآخرةِ.
* * *
﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣)﴾.
[٣] ونزلت براءةُ سنةَ ثمانٍ من الهجرةِ، وفيها فُتحت مكةُ، فلما كان سنةُ تسعٍ تجهَّزَ النبيُّ - ﷺ -، فقيل له: إنَّ المشركينَ يطوفون بالبيتِ عُراةً فقالَ: "لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَى ذَلِكَ"، فبعثَ أبا بكرٍ أميرًا على الموسمِ ليقيمَ للناسِ الحجَّ، وبعثَ معه بأربعينَ آيةً من صدرِ براءةَ ليقرأها على أهل الموسم، ثمّ بعثَ بعده عليًّا على ناقتِهِ العضْباءِ ليقرأ على النَّاس صدر براءة، وأمره أن يؤذن بمكةَ ومِنًى وعرفةَ: أن قد بَرِئَتْ ذمةُ اللهِ وذمةُ رسوله من كلِّ مشركٍ، ولا يطوفُ بالبيتِ عُريان، فرجعَ أبو بكر وقال: يا رسولَ الله! أنزلَ في شأني شيءٌ؛ قالَ: "لَا، وَلَكِنْ لا يَنْبَغِي أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي، أَمَا تَرْضَى أَنَّكَ كُنْتَ مَعِي فِي الْغَارِ، وأَنَّكَ صاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ؟ "، قال: بلى. فسار أبو بكرٍ أميرًا على الحاجِّ، وعليٌّ ليؤذِّنَ ببراءةَ، وكانَ من عادةِ العربِ في عقدِ العُهودِ ونقضِها ألَّا يتولَّى ذلكَ إِلَّا سيدُهم، أو رجلٌ من قومِه، أقربُهم إليه نَسَبًا، فلما كانَ قبلَ الترويةِ بيوم، خطبَ أبو بكرٍ الناسَ، وحدثهم عن مناسِكِهم، وأقام للناسِ الحجَّ، والعربُ في تلكَ السنةِ على منازِلهم الّتي كانوا عليها في الجاهليةِ من الحجِّ، حتّى إذا كانَ يومُ النَّحر، قام عليٌّ عندَ جمرةِ العقبةِ، وأَذَّنَ في النَّاس بما أُمر به من الآيات، وألَّا
150
يطوفَ بالبيت عُريان، وأن يتمَّ إلى كلِّ عهدٍ عهدَه، وإن لم يكنْ عهدٌ، فعهدُه أربعةُ أشهرٍ، ولا يدخلُ الجنةَ إِلَّا نفسٌ مؤمنةٌ، وألَّا يجتمعَ المسلمون والمشركون بعدَ عامِهم هذا، فقال المشركون الناكثون: أخبرِ ابنَ عَمِّكَ أنا قد نَبَذْنا العهدَ وراءَ ظُهورِنا، وأنْ ليسَ بينَنا وبينَه إِلَّا طعنٌ بالرمحِ وضربٌ بالسيفِ.
﴿وَأَذَانٌ﴾ عطفٌ على قوله: ﴿براءةٌ﴾ أي: وإعلامٌ.
﴿مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ مبتدأٌ، خبرُهُ ﴿إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ هو يومُ عرفةَ، والحجُّ الأصغرُ العمرةُ؛ لنقصِ عملِها.
﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي: من عهودِهم.
﴿وَرَسُولُهُ﴾ قراءةُ العامةِ برفعِ (رَسُولُهُ) مبتدأُ خَبَرٍ؛ أي: ورسولُه بريءٌ أيضًا من المشركين. وقرأ يعقوبُ: (وَرَسُولَهُ) بنصبِ اللام عطفًا على اسمِ (أَنَّ) (١)، ولا يجوزُ عطفهُ على (المشركين)؛ لأنّه كفرٌ، وتقدَّم في أول التفسير عندَ شكلِ القرآنِ ونقطِه أنَّ سببَ وضعِ الإعرابِ في المصاحفِ أن أبا الأسودِ الدؤليَّ التابعيَّ البصريَّ حكي أنّه سمعَ قارئًا يقرأ: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ بكسرِ اللام، فأعظمَه ذلكَ، وقالَ: "عَزَّ وَجْهُ اللهِ أن يبرأَ من رسولِه"، ثمّ جعلَ الإعرابِ في المصاحف (٢)، تلخيصُهُ: براءةٌ وإعلامٌ من اللهِ ورسولهِ بأنْ لا عهدَ لناكثٍ.
(١) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (٥/ ٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٨).
(٢) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (٢٥/ ١٩٢).
151
﴿فَإِنْ تُبْتُمْ﴾ من الكفرِ ونقضِ العهدِ.
﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرَضتُم عن الإيمان.
﴿فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ لا تعجزونه، ولا تفوتونه في الدنيا.
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ في الآخِرةِ.
* * *
﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)﴾.
[٤] ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ استثناءٌ من المشركين، وهم بنو ضَمْرَةَ: حَيٌّ منْ كنانةَ، أَمَرَ - ﷺ - بإتمامِ عهدِهم إلى مُدَّتهم، وكان قد بقيَ منها تسعةُ أشهر، والسببُ فيه أنّهم لم ينقُضوا العهدَ، وثبتوا عليه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا﴾ من عهدِكم.
﴿وَلَمْ يُظَاهِرُوا﴾ يعينوا ﴿عَلَيْكُمْ أَحَدًا﴾ من أعدائِكم.
﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ﴾ أدُّوه إليهم ﴿إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ كملًا، ولا تُجروهم مُجرى الناكثين.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ تنبيهٌ على أن تمامَ عهدِهم من بابِ التقوى.
* * *
﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)﴾.
[٥] ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ﴾ انقضى ﴿الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ الّتي أُبيح للناكثين أن يَسيحوا
فيها، وقيل لها: حُرُمٌ؛ لأنّ اللهَ تعالى حَرَّمَ فيها على المؤمنينَ دماءَ المشركين والتعرُّضَ لهم، المعنى: إذا مضتِ المدةُ المضروبةُ الّتي يكونُ معها انسلاخُ الأشهرِ الحرمِ، وأصلُ الانسلاخ، خروجُ الشيءِ ممّا لابَسَه؛ من سَلْخِ الشاة.
﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ الناكثينَ ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ من حِلٍّ وحرمٍ.
﴿وَخُذُوهُمْ﴾ وأْسِرُوهم، والأَخيذُ: الأسيرُ ﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾ احْبِسوهم.
﴿وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ على كلِّ طريقٍ، والمرصدُ، كلُّ مكانٍ يُرْصَدُ منه العدوُّ؛ أي: يرقَبُ فيه؛ لتأخذوهم من أيِّ وجهةٍ توجَّهوا.
﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ من الشركِ.
﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ تصديقًا لتوبتِهم وإيمانِهم.
﴿فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ اتركوهم يدخلون مكةَ، ويتصرَّفون في البلاد، وفيه دليلٌ على أن تاركَ الصّلاةِ ومانعَ الزكاةِ لا يخلَّى سبيلُه، فالكفَّارُ مخاطَبون بالإيمان بالاتفاق، وبالفروعِ عندَ الشّافعيِّ وأحمدَ، وقالَ أكثرُ الحنفيةِ: ليسوا مخاطَبين بالفروعِ، وهو قولُ مالكٍ، ويأتي ذكرُ حكمِ تاركِ الصّلاةِ ومانعِ الزكاةِ في سورةِ الماعونِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لمن تابَ ﴿رَحِيمٌ﴾ به.
* * *
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَإِنْ أَحَدٌ﴾ أي: وإن جاءكَ أحدٌ.
﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ المأمورِ بقتلِهم ﴿اسْتَجَارَكَ﴾ استأمَنَكَ بعدَ انسلاخِ الأشهُرِ الحرُمِ.
﴿فَأَجِرْهُ﴾ فَأَمِّنْهُ ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ أي: قراءتَكَ كلامَ الله؛ ليعلم شرائعَ الإسلامِ.
﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ الموضعَ الّذي يأمَنُ فيه، وهو دارُ قومه إنْ لم يُسْلِمْ، فإنْ قاتلكَ بعدُ، فاقتلْه.
﴿ذَلِكَ﴾ المأمورُ به من الإجارة ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ﴾ جَهَلَةٌ.
﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ دينَ الله، فهم محتاجون إلى سماعِ كلامِه.
ولا خلافَ بينَ الأئمةِ في جواز أمانِ السلطان؛ لأنّه مقدَّمٌ للنظرِ والمصلحةِ، وكذا أمانُ الحرِّ جائزٌ بالاتفاقِ، وأمّا العبدُ المسلمُ إذا أَمَّنَ شخصًا أو مدينةً، فقال الثلاثة: يَمْضي أمانُه مطلَقًا، وقال أبو حنيفةَ: لا يَمْضي إِلَّا أن يكونَ سيدُه أذنَ له في القتال.
* * *
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)﴾.
[٧] ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ﴾ استفهامٌ بمعنى الإنكارِ والاستبعادِ، المعنى: ممتنعٌ ثبوتُ عهدٍ للمشركين.
﴿عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ وهم يغدرونَ وينقضونَ العهدَ، ثمّ استثنى فقال:
﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وهم قبائلُ بني بكرٍ، وبنو خُزيمةَ، وبنو مدلجٍ، وبنو ضَمْرَةَ، وبنو الدَّيلِ، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهدِ قريشٍ يومَ الحديبيةِ، ولم يكن نقضَ إِلَّا قريشٌ وبنو الديل من بني بكر، فأمرَ بإتمامِ العهدِ لمن لم ينقضْ، وهم بنو ضمرةَ.
﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ﴾ أي: فما قاموا على الوفاء بعهدكم.
﴿فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ أي: فأقيموا لهم على مثلِ ذلك.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ تقدَّمَ تفسيرُه.
* * *
﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿كَيْفَ﴾ أعادَ الإنكارَ والاستبعاد؛ أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ.
﴿وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ يظفروا بكم.
﴿لَا يَرْقُبُوا﴾ يحفضوا ﴿فِيكُمْ إِلًّا﴾ قرابةً ﴿وَلَا ذِمَّةً﴾ عهدًا، والذمَّةُ في اللُّغة: عبارةٌ عن العهدِ، وفي الشرعِ: عبارةٌ عن وصفٍ يصيرُ فيه أهلًا للإيجاب والاستحباب.
﴿يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ يُظْهِرون الجميلَ، ويُضْمرون القبيحَ، ﴿وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ﴾ الإيمانَ ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ ناقضو العهد؛ لأنَّ منهم من وفى.
* * *
﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩)﴾.
[٩] ﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ استبدلوا بالقرآنِ ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ من حُطامِ الدنيا ونيلِ الشهوات، وذلك أنّهم نقضوا العهدَ بأكلةٍ أطعمهم أبو سفيان.
﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾ أي: فمنعوا الناسَ من الدخولِ إلى ديِنه.
﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ عملُهم هذا.
* * *
﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ لا تُبْقوا عليهم أيها المؤمنون؛ فإنهم لا يُبْقون عليكم إنْ ظَفِروا بكم.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ بنقضِ العهد.
* * *
﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)﴾.
[١١] ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ من الشركِ ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي: فهم إخوانُكم ﴿فِي الدِّينِ﴾ لهم ما لَكُم، وعليهم ما عليكم.
﴿وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ نُبَيَّنُها ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ قال ابنُ عباسٍ: "حُرِّمَتْ بهذهِ الآيةِ دماءُ أهلِ القبلةِ" (١).
(١) رواه أبو الشّيخ في "تفسيره"، عن الحسن البصري، كما ذكر السيوطيّ في "الدر =
﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ نقضوا عهودَهم ﴿مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ يعني: مشركي قريش، ﴿وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ﴾ عابوا الإسلامَ.
﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ رؤوسَ المشركين وقادتهم، نزلتْ في أبي سفيانَ وأصحابِه رؤساءِ قريشٍ الذين نقضوا العهد. قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وروحٌ عن يعقوبَ: (أَئِمَّةَ) بهمزتين محققتين على الأصل، والباقون: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثّانية بينَ بينَ، وروي عنهم وجهٌ أنّها تُجعل ياءً خالصةً مكسورة تخفيفًا؛ لاستثقالهم تحقيقَ همزتينِ في كلمةٍ واحدة، وأبو جعفرٍ يدخِلُ بينهما ألفًا مع تسهيل الثّانية، وهشامٌ راوي ابنِ عامرٍ رُوي عنه المدُّ مع تحقيقِ الهمزة الثّانية (١).
﴿إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ حقيقةً؛ لنقضهم العهدَ قراءة العامة: (أَيْمَانَ) بفتح الهمزة، جمعُ يمين، وقرأ ابنُ عامرٍ: بكسر الهمزة بمعنى
= المنثور" (٤/ ١٣٢). وعزاه البغوي في "تفسيره" (٢/ ٢٥٣) إلى ابن عبّاس -رضي الله عنه-.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٧)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٥٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٣٧٨ - ٣٧٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩).
157
التصديق (١)؛ أي: إنَّ لم يفِ لكم المشركون، وعابوا دينَكم، فقاتلوهم.
﴿لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ عمَّا هم عليه.
واختلفوا في يمينِ الكافرِ هل تنعقدُ؟ فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: لا تنعقدُ، وسواءٌ حَنِثَ حالَ كفرِه أو بعدَ إسلامه، ولا يصحُّ منه كفارةٌ؛ استشهادًا بظاهرِ ﴿لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾.
وقال الشّافعيُّ وأحمدُ: تنعقدُ يمينُه؛ بدليلِ وصفِها بالنكثِ، وتلزمه الكفارةُ بالحنث فيها في الموضعين، ويكفِّرُ بغيرِ الصومِ.
وأمّا الذميُّ إذا طعنَ في الدينِ، بأنْ ذكرَ اللهَ سبحانَه بما لا يليقُ بجلاله، أو ذكرَ كتابَه المجيدَ، أو رسولَه الكريمَ ودينَه القويمَ بما لا ينبغي، فإنّه ينتقضُ عهدُه عندَ مالكٍ وأحمدَ، سواءٌ شُرِطَ تركُ ذلكَ عليهم، أو لم يُشْتَرَطْ، وقال الشافعيُّ: إنَّ شُرِطَ انتقاضُ العهد بها، انتقضَ، وإلا فلا، فإذا انتقضَ عهدُه، فقال مالكٌ: يُقتل، وقال الشّافعيُّ وأحمدُ: يخيرُ الإمامُ فيه قتلًا وَرِقًا ومَنًّا وفِداءً، ولا يردُّ إلى مأمنِه، وقال أبو حنيفةَ: لا ينتقضُ عهدُه إِلَّا باللحاقِ بدارِ الحرب، أو أن يغلبوا على موضعٍ فيحاربوا، فيصير أحكامُهم كالمرتدين، إِلَّا أنّه إذا ظفرنا بهم، نسترقُّهم، ولا نجبرُهم على الإسلامِ، ولا على قبولِ الذِّمَّة، فإن أسلمَ، لم يقتلْ بالاتفاق.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٧)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٥٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٠).
158
﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)﴾.
[١٣] ثمّ حَرَّضَ المسلمين على قتالهم، فقال تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ نقضوا عهودَهم، وهم الذين نقضوا عهدَ الصلحِ بالحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعةَ.
﴿وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ من مكةَ حينَ اجتمعوا في دارِ الندوة.
﴿وَهُمْ بَدَءُوكُمْ﴾ بالقتالِ ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يومَ بدرِ، ذلك أنّهم قالوا حين سلم العيرُ: لا ننصرفُ حتّى نستأصلَ محمدًا وأصحابَه، ثمّ وَبَّخهم على خوفِهم منهم فقال:
﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ فتتركون قتالَهم ﴿فَاللَّهُ أَحَقُّ﴾ من غيرِه.
﴿أَنْ تَخْشَوْهُ﴾ فقاتِلوا أعداءه ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
* * *
﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤)﴾.
[١٤] ثمّ شَجَّعهم عليهم فقال: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ﴾ يقتلْهم اللهُ.
﴿بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ﴾ يُذِلَّهم بالأسرِ والقتل. قرأ رُويسٌ عن يعقوبَ: (وَيُخْزِهُمْ) بضم الهاء، والباقون: بالكسر (١).
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٠).
﴿وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ﴾ ويُبْرِئ داءَ قلوبِ.
﴿قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ بما كانوا ينالونَهُ من الأذى منهم.
* * *
﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ كَرْبَها ووجْدَها.
﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ فيهديه للإسلام؛ كأبي سفيانَ، وعكرمةَ بنِ أبي جهل، وسُهيلِ بنِ عمرٍو. وقراءةُ العامَّةِ: (وَيَتُوبُ) برفع الباء استئنافًا إخبارًا عن توبتِه على من أسلم، وقرأ رويسٌ عن يعقوبَ بخلافِ عنه: بنصبِ الباء على تقديرِ وأن (يَتُوبَ) أو حَتَّى (١).
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بما كانَ وسيكونُ ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يفعلُ شيئًا عَبثًا.
* * *
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ أظننتم، خطابٌ للمؤمنين حينَ كرهَ بعضُهم القتالَ ﴿أَنْ تُتْرَكُوا﴾ فلا تؤمَروا بالجهادِ ولا تُمتحنوا ليظهرَ الصادقُ من الكاذبِ.
﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ أي: ولما يَرَى الله.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٨)، و"المحتسب" لابن جني (١/ ٢٨٤ - ٢٨٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٠).
﴿الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ وليًّا خاصًّا من المشركين، وخاصَّةُ الرجلِ وَلِيَجُتُه؛ أي: لا تتركون حتّى يتبينَ المخلصون والمجاهدون منكم. قرأ الكسائيُّ: (وَلِيَجةً) بإمالةِ الجيمِ حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيث (١).
﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يعلمُ غرضَكم منه.
* * *
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧)﴾.
[١٧] ولما أُسر العباسُ يومَ بدرٍ، وَعَيَّرَه المسلمون بالكفرِ وقطيعةِ الرّحمِ، وأغلظَ عليٌّ له القولَ، قال العباسُ: وما لكم تذكرونَ مساوِئَنا، ولا تذكرونَ محاسِنَنا، فقال له عليٌّ: ألكمْ محاسِنُ؟ فقال: نعم، إنا نَعْمُرَ المسجدَ الحرامَ، ونحجُبُ الكعبةَ، ونسقي الحاجَّ، فنزلَ ردًّا عليه: ﴿مَا كَانَ﴾ (٢) ما جازَ ولا ينبغي.
﴿لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ قرأ أبو عمرٍو، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ: (مَسْجِدَ اللهِ) على التّوحيد، والمرادُ: الكعبةُ، والباقون: (مَسَاجِدَ) على الجمع (٣)، والمرادُ: جنسُ المساجدِ، والكعبةُ داخلة فيه، المعنى: ليس
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٠).
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٣٦).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١١).
لهم الجمعُ بين أمرينِ متنافيين: عمارةِ متعبداتِ الله مع الكفرِ.
﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ بإظهارِ الشركِ، وتكذيبِ الرسولِ، وعبادةِ الأصنام، وقولِ النصراني: أنا نصرانيٌّ، وقولِ اليهوديِّ: أنا يهوديٌّ، ونصبُ (شاهدين) على الحالِ.
﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ لأنّها لغيرِ الله.
﴿وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ لكفرِهم.
* * *
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)﴾.
[١٨] ثمّ قال: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ اتفقَ جميعُ القراء على الجمعِ في هذا الحرف؛ لأنّ المرادَ به: جميعُ المساجد.
﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾ لم يتركْ أمرَ اللهِ خشيةً من غيره، وعمارةُ المسجد: بناؤه، ورمُّ متشعثه، وكنسُه، والصلاةُ والذكرُ ودرسُ العلمِ الشرعيِّ فيه، وصيانتُه ممّا لم يُبْنَ له؛ كحديثِ الدنيا ونحوِه (١)، وفي الحديثِ: "يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ فَيَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا، ذِكْرُهُمُ الدُّنْيَا وَحُبُّ الدُّنْيَا، فَلَا تُجَالِسُوهُمْ، فَلَيْسَ للهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ" (٢)، ويحرمُ البصاقُ في
(١) في "ت": "وغيره".
(٢) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١٠٤٥٢)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (٤/ ١٠٩)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (٢/ ٩٨)، =
162
المسجدِ بالاتفاق؛ لأنّ رسولَ اللهِ - ﷺ - سماها خطيئةً وسيئةً، وكفارتُه أن تواريَهُ، ومن يبصقْ في المسجدِ استهزاءً به، كفرَ بغيرِ خلافٍ، وكذا لو بصقَ على القرآنِ بقصدِ الاستهزاءِ، وأمّا حكمُ القاضي في المسجدِ، فسيأتي ذكرُ الحكم فيه في سورةِ الجنِّ إن شاء الله تعالى عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: ١٨].
﴿فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ و (عسى) من اللهِ واجبٌ؛ أي: أولئكَ هم المهتدون.
قال - ﷺ -: "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ، فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيَمانِ" (١).
ورُويَ أن عثمانَ بنَ عفانَ رضي الله عنه أرادَ بناءَ المسجدِ، فكرهَ النّاسُ ذلكَ وأَحَبُّوا أن يدعَه، قالَ عثمان رضي الله عنه: سمعتُ النبيَّ - ﷺ - يقولُ: "مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا، بَنَى اللهُ لهُ كَهَيْئَتِهِ فِي الْجَنَّةِ" (٢).
* * *
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)﴾.
= عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٢/ ٢٤): فيه بزيغ أبو الخليل، ونسب إلى الوضع.
(١) رواه الترمذي (٣٠٩٣)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (٨٠٢)، كتاب: الصّلاة، باب: لزوم المساجد وانتظار الصّلاة، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(٢) رواه البخاريّ (٤٣٩)، كتاب: المساجد، باب: من بنى مسجدًا، ومسلم (٥٣٢)، كتاب: المساجد ومواضع الصّلاة، باب: فضل بناء المساجد والحث عليها.
163
[١٩] رُويَ عن النعمانِ بنِ بشيرٍ قال: "كنتُ عندَ منبرِ النبيِّ - ﷺ -، فقالَ رجلٌ: ما أُبالي أن لا أعملَ عملًا بعدَ أن أسقيَ الحاجَّ، وقال آخرُ: ما أُبالي أن لا أعملَ عملًا بعدَ أن أعمرَ المسجدَ الحرامَ، فقال آخرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضلُ ممّا قلتم، فزجَرَهم عمرُ وقالَ: لا ترفعوا أصواتَكم عندَ منبرِ النبيِّ - ﷺ -، وهو يومُ الجمعةِ، ولكنْ إذا صَلَّيْتُ فاستفتيتُ رسولَ الله - ﷺ - فيما اختلفتم فيه، ففعلَ، فأنزلَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-:
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (١) والسقايةُ والعمارةُ: مَصْدَرا سَقَى وعَمَرَ. ورُوي عن أبي جعفرٍ أنّه قرأ: (سُقَاةَ) بضم السين وحذف الياء بعدَ الألف (وَعَمَرَة) بفتح العين وحذف الألف على جمع ساقي والعامر (٢)، تقديره: أجعلتم أصحابَ سقايةِ الحاجِّ، وأصحابَ عِمارةِ المسجدِ.
﴿كَمَنْ آمَنَ﴾ كإيمان مَنْ آمنَ ﴿بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ المعنى: إنكارٌ أن يشبه المشركين وأعمالُهم المحبَطَةُ بالمؤمنينَ وأعمالِهم المثبتَةِ، ثمّ قَرَّرَ ذلكَ بقولِه:
﴿لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ تنبيهٌ على أن التسويةَ بينَهم ظلمٌ.
(١) رواه مسلم (١٨٧٩)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الشّهادة في سبيل الله تعالى.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٢٥٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١١ - ١٢)، وقد ذكرها البغوي من قراءة ابن الزبير وأبيّ.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾ أعلى رتبةً.
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ممّن افتخروا بعِمارةِ المسجدِ الحرامِ وسقايةِ الحاجِّ.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ الظافرونَ (١) بأمنياتهم.
* * *
﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ دائمٌ. قرأ حمزةٌ: (يَبْشُرُهُمْ) بفتح الياء وتخفيف الشين وضمِّها من البشر، وهو البشرى والبشارة، وقرأ الباقون: بضم الياء وتشديد الشين مكسورةً، من بَشَّرَ المضعَّفِ على التكثير، والبشرُ والتبشيرُ والإبشارُ لغاتٌ فصيحاتٌ (٢)، وقرأ عاصمٌ بروايةِ أبي بكبر: (وَرُضوَانٍ) بضم الراء، والباقون: بكسرها (٣).
* * *
(١) "الظافرون" ساقطة من "ش".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٢).
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٢).
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أكد الخلودَ بالتأبيدِ؛ لأنّه قد يستعمل للمكثِ الطويل ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] عن ابن عبّاس رضي الله عنه: "لما أمرَ رسولُ الله - ﷺ - الناسَ بالهجرةِ إلى المدينة، فمنهم من تعلَّقَ به أهلُه وولدُه يقولون: ننشدُكَ بالله ألَّا تُضَيِّعَنا، فيرقُّ، فيقيمُ عليهم، ويدعُ الهجرةَ، فأنزل اللهُ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ (١) أصفياءَ وبطانةً يمنعونكم عن الإيمان، ويصدُّونكم عن الطاعةِ.
﴿إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ﴾ واختلافُ القراء في الهمزتين من (أَوْلِياءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا) كاختلافِهم فيهما من (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ) في سورة البقرة.
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ﴾ يؤثر المقامَ على الهجرةِ والجهادِ.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون﴾ بوضعِهم الموالاةَ في غيرِ موضعِها، وكان في ذلك الوقتِ لا يُقَبل الإيمانُ إِلَّا من مهاجرٍ.
* * *
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٣٧)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٦٠).
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤)﴾.
[٢٤] نزلت الآية الأولى، قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إنَّ نحنْ هاجرْنا، ضاعتْ أموالُنا، وذهبتْ تجارتنُا، وخربَتْ دورُنا، وقطعْنا أرحامَنا ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ للمتخلِّفينَ عن الهجرةِ:
﴿إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ﴾ قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَعَشِيَراتُكُمْ) بالألف على الجمع، والباقون: بغير ألف (١)؛ أي: قومُكم بمكة.
﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾ اكتسبتموها ﴿وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾ عدمَ نَفاقِها ﴿وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾ تستطيبونَها.
﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ﴾ الحبّ الاختياري دونَ الطبيعيِّ؛ فإنّه لا يدخلُ تحتَ التكليفِ التحفظ عنه.
﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ أي: انتظروا ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ بقضائِه، وهو تهديدٌ لمن يؤثرُ لذاتِ الدنيا على الآخرة.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ لا يرشدُهم، والفسقُ: الخروجُ عن الطّاعة.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٦١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٣).
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ﴾ مشاهدَ.
﴿كَثِيرَةٍ﴾ كبدرٍ، وفتحِ مكةَ، وقريظةَ، والنضيرِ.
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ اسمُ وادٍ بينَ مكَّةَ والطائفِ، بينهما ثلاثةُ أميال.
وملخَّصُ القصةِ: أنَّ رسولَ الله - ﷺ - لما فتحَ مكةَ في شهرِ رمضانَ سنةَ ثمانٍ من الهجرةِ، تجمعَتْ هوازنُ بحريمِهم وأموالِهم لحربِ رسولِ الله - ﷺ -، ومقدَّمُهم مالكُ بنُ عوفٍ النَّصْريُّ، وانضمَّتْ إليه ثقيفُ، وهم أهلُ الطائف، وبنو سعدٍ، وهم الذين كانَ النبيُّ - ﷺ - مرتَضَعًا عندَهم، فلما سمعَ رسولُ الله - ﷺ - باجتماعِهم، وكانوا أربعةَ آلافٍ، خرجَ من مكةَ لِسِتٍّ خَلَوْنَ من شوالٍ، وخرجَ معه اثنا عشرَ ألفًا، منها عشرة آلاف كانتْ معه، وألفانِ من أهلِ مكةَ، وحضر جماعةٌ كثيرةٌ من المشركين، وهم مع رسولِ اللهِ - ﷺ -، وانتهى إلى حُنَيْنٍ، وركبَ بغلتَهَ الدُّلدُل، وقال رجلٌ من الأنصار يقالُ له سلمةُ بنُ سلامةَ لما رأى كثرةَ مَنْ معَ النّبيّ - ﷺ -: لنْ يغلب هؤلاءِ من قلة، فساءَ رسولَ اللهِ - ﷺ - كلامُه، فلما التقى الجمعان، انكشفَ المسلمونَ، لا يَلْوي أحدٌ على أحدٍ، وانحازَ رسولُ اللهِ - ﷺ - في نفرٍ من المهاجرينَ والأنصارِ وأهلِ بيتِه، واستمرَّ رسولُ اللهِ - ﷺ - ثابتًا، وتراجعَ المسلمون، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وأخذ - ﷺ - حَصياتٍ فرمى بها في وَجْهِ المشركينَ، فكانتِ الهزيمةُ، ونصرَ الله المسلمين، واتَّبَع المسلمون المشركين يقتلونهم ويأسرونهم.
168
ولما فرغَ - ﷺ - من حُنين، بعثَ أبا عامرٍ على جيشٍ لغزوةِ أوطاس، فاستُشهد رضي الله عنه، وانهزمت ثقيفُ إلى الطائف، فأغلقوا بابَ مدينتِهم، فسار النبيُّ - ﷺ -، وحاصرهم نيفًا وعشرين يومًا، وقاتلَهم بالمنجنيقِ، وأمر بقطعِ أعنابِهم، ثمّ رحلَ عنهم، ونزلَ بالجعرانةِ، وأتى إليه بعضُ هوازن مسلمين، وسألوه أن يردَّ إليهم أموالَهم وسَبْيَهم، فخيرَّهم بينَ المالِ والسبي، فاختاروا السبيَ، فرد النّاسُ أبناءهم ونساءهم، ثمّ لحقَ مالكُ بن عوفٍ مقدَّم هوازنَ برسولِ الله - ﷺ -، وأسلمَ وحسنَ إسلامُه، واستعملَه رسولُ الله - ﷺ - على قومِه وعلى من أسلمَ من تلكَ القبائل، وكانَ عدةُ السبي الّذي أطلقَه ستةَ آلافٍ، ثمّ قسمَ الأموالَ، وكانت عدةُ الإبلِ أربعةً وعشرينَ ألفَ بعيرٍ، والغنمِ أكثرَ من أربعين ألفَ شاة، ومن الفضةِ أربعه آلافِ أوقيةٍ، وأعطى المؤلَفة قلوبُهم مثلَ أبي سفيان، وابنيه يزيدَ ومعاويةَ، وسهلِ بنِ عمرو، وعكرمةَ بنِ أبي جهلٍ، والحارثِ بنِ هشامٍ أخي أبي جهل، وصفوانَ بنِ أميةَ، وهؤلاء من قريش، وأعطى الأقرعَ بنَ حابسٍ التميميَّ، وعُيَيْنَةَ بنَ حصنٍ، ومالكَ بنَ عوفٍ مقدَّمَ هوازنَ وأمثالَهم، فأعطى لكلِّ واحدٍ من الأشراف مئةً من الإبل، وأعطى الآخرين لكلِّ واحدٍ أربعينَ، وأعطَى العباسَ بنَ مِرْداسَ السلميَّ أباعر لم يرضَها، فقالَ في ذلكَ من أبياتٍ:
169
فرُوي أن رسول الله - ﷺ - قال: "اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ"، فَأُعطيَ حتّى رضي (١).
وفرقَ رسولُ الله - ﷺ - الغنائمَ، ولم يعطِ الأنصارَ شيئًا، فوَجَدُوا في أنفسِهم، فدعاهم رسولُ الله - ﷺ - فقال: "إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلَّفَهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلى بُيُوتكُمْ؟ "، قالوا: بلى، قال: "لَوْ سَلَكَتِ النَّاسِ وَادِيًا وَسَلَكتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِي الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ" (٢).
وقد اتفق الأئمةُ على جوازِ اجتهاده - ﷺ - في أمرِ الدنيا ووقعَ إجماعًا، واختلفوا في المجتهدينَ بعدَه، فقال أبو حنيفةَ: كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ، والحقُّ واحدٌ عندَ الله، وقال الثلاثةُ: المسألةُ الظنيةُ: الحقُّ فيها واحدٌ عندَ الله، وعليه دليلٌ، وعلى المجتهدِ طلبُه، فمن أصابَ فمصيبٌ، وإلا، فَمُخْطيءٌ مثابٌ، والجزئيَّةُ الّتي فيها نصٌّ قاطعٌ: المصيبُ فيها واحدٌ وفاقًا، ولا يأثمُ مجتهدٌ في حكمٍ شرعيٍّ اجتهاديٍّ، ويُثابُ بالاتفاق.
ثمّ بعدَ الفراغ من أمرِ هوازن، اعتمرَ رسولُ الله - ﷺ -، وعادَ إلى المدينة، واستخلفَ على مكةَ عتَّابَ بنَ أسيدِ، وهو شابٌّ لم يبلغْ عشرينَ سنةً، وتركَ
(١) رواه مسلم (١٠٦٠)، كتاب: الزَّكاة، باب: إعطاء المؤلِّفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه، عن رافع بن خديج -رضي الله عنه-.
(٢) رواه البخاريّ (٣٥٦٧)، كتاب: فضائل الصّحابة، باب: مناقب الأنصار، ومسلم (١٠٥٩)، كتاب: الزَّكاة، باب: إعطاء المؤلِّفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
170
معه مُعاذَ بنَ جبلٍ يُفَقِّهُ الناسَ، وحجَّ بالناسِ في هذهِ السُّنَّةِ عتابٌ على ما كانتِ العربُ تحجُّ، وأنزلَ اللهُ في قصةِ حنينٍ: و ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ أي: واذكرْ يومَ حنينٍ.
﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ حتّى قلتم: لن نُغلبَ اليومَ من قلةٍ.
﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ﴾ كثرتُكم ﴿شَيْئًا﴾ من الإغناءِ.
﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ الباء بمعنى مع؛ أي: مع رحبها؛ أي: مع سَعَتِها ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ منهزمين.
* * *
﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ بعدَ الهزيمة ﴿سَكِينَتَهُ﴾ طُمَأْنينَتَهُ ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾ - ﷺ - ﴿وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: أنزل عليهم من يُسَكِّنُهم ويُذهِبُ خَوْفهم.
﴿وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ الملائكةَ لتحييزِ الكفارِ وتشجيعِ المسلمين، وقد تقدَّم في سورةِ الأنفالِ أن الملائكةَ لم يقاتلوا إِلَّا في يوم بدر، وفيما سواه كانوا عددًا ومَدَدًا.
﴿وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالقتلِ والأسرِ والسبيِ.
﴿وَذَلِكَ﴾ الّذي فُعِلَ بهم ﴿جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ في الدنيا، وفي الآخرة النارُ.
* * *
﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي: من بعدِ القتلِ والهزيمةِ.
﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ فيهديه للإسلامِ ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ عليهم.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ قَذَرٌ، والمرادُ: نجاسةُ الحكم، لا نجاسةُ العين، سموا نجسًا على الذمِّ؛ لتركهم غسلَ الجنابةِ والوضوءَ.
﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ والمرادُ: جميعُ الحرمِ؛ لأنّهم إذا دخلوا الحرم، فقد قربوا من المسجدِ الحرام، فيُمنع كلُّ مَنْ كان على غير الإسلام من دخولِ حرمِ مكةَ شرفها الله تعالى، وهو ما أطاف بمكةَ وأحاطَ بها من جوانبها، جعلَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- له حكمَها في الحرمة؛ تشريفًا لها.
وَحَدُّ الحرمِ من طريقِ المدينةِ دونَ التنعيمِ ثلاثةُ أميالٍ عندَ بيوتِ السُّقيا، ومن اليمنِ سبعةٌ عند أضاةِ لين، ومن العراقِ كذلكَ على ثنية زُحَل جبل بالمنقطع، ومن الطائفِ وعرفاتٍ وبطنِ نمرة كذلك عند طرفِ عرفةَ، ومن الجعرانَةِ تسعةٌ في شعبِ عبدِ اللهِ بنِ خالد، ومِنْ جُدَّةَ عشرةٌ عندَ منقطعِ الأعشاش، ومن بطن عُرَنَة أحدَ عشرَ.
172
وأولُ من نصبَ حدودَ الحرمِ إبراهيمُ -عليه السّلام-، ثمّ جدَّدها قصيٌّ، ثمّ جَدَّدَها رسولُ اللهِ - ﷺ - عامَ الفتحِ، ثمّ جَدَّدَها عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه، ثمّ جَدَّدَها معاويةُ رضي الله عنه.
وتقدم ذكرُ حدودِ الأرضِ المقدسةِ في سورةِ المائدة، ويأتي ذكرُ حدودِ حرمِ المدينةِ في سورةِ الأحزابِ إن شاء الله تعالى.
فإن قدمَ رسولٌ من الكفارِ إلى الحرم، لا بدَّ له من لقاءِ الإمامِ، خرجَ إليه إلى الحلِّ، ولم يأذنْ له، فإنْ دخلَ عالمًا بالمنع، عُزِّر، فإن مرضَ بالحرم، أو ماتَ، أُخرجَ، وإن دُفِنَ نُبِشَ وأُخرجَ، فليس لهم الاستيطانُ ولا الاجتيازُ به، وبهذا قالَ مالكٌ والشّافعيُّ وأحمدُ، وقال أبو حنيفة: لهم دخولُ الحرمِ كالحجازِ كُلِّه، ولا يستوطنونه، والمنعُ من الاستيطانِ لا يمنعُ الدخولَ والتصرُّف كالحجازِ.
واتفقوا على أن الكفارَ يُمنعون من استيطانِ الحجازِ كلِّهِ كالمدينةِ ومكةَ واليمامةَ وخَيبر والينبع وقُراها، قالَ مالكٌ والشّافعيُّ وأحمدُ: فإن دخلوا للتجارة، لم يقيموا في موضعٍ أكثرَ من ثلاثةِ أيّام، وعند الشّافعيّ وأحمدَ: لا يدخلون إِلَّا بإذنِ الإمامِ، وسُمِّى الحجازُ حجازًا؛ لأنّه حجز بينَ تهامَة ونجدٍ، وتقدَّم اختلافُهم في دخولِ أهلِ الذمَّة إلى المسجدِ الحرامِ وغيره من مساجدِ الحِلِّ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة: ١١٤].
﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ هو عامُ تسعةٍ من الهجرة الّذي حجَّ فيه أبو بكرٍ بالناس، وفيه أَذَّنَ عليٌّ ببراءةَ.
ولما مُنِعَ المشركون من دخولِ الحرم، خاف المسلمون الفقراءُ لانقطاعِ
173
الميرةِ عنهم، فنزل: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ (١) فقرأ ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ كرمِه وعطائِه ﴿إِنْ شَاءَ﴾ إذْ لا مُكْرِهَ له على فعلِه، فجاءهم المطرُ، وأخصبَتْ بلادهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ﴾ بأحوالِكم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يُعطي ويمنعُ. وتقدَّم التنبيهُ على اختلاف القراء في قوله: (أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا)، وكذلك اختلافُهم في (إِنْ شَاءَ إِنَّ الله).
﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ﴾ لا يعتقدونَ ﴿دِينَ الْحَقِّ﴾ الإسلامَ.
﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ اليهودِ والنصارى.
﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ هي: الخراجُ المضروبُ على رقابهم على وجهِ الصَّغارِ بدلًا عن قتلِهم وإقامتِهم بدارنا، مشتقةٌ من الجزاء، إمّا جزاءً على كفرِهم؛ لأخذها منهم صغارًا، أو جزاءً على أماننا لهم؛ لأخذِها منهم رفقًا.
﴿عَنْ يَدٍ﴾ قهرٍ وذلٍّ ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أذلاءُ مقهورونَ، فيعطونَها من قيام والآخذُ جالسٌ.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٢٦٨).
174
واتفق الأئمةُ على أن الجزيةَ تُضْرَبُ على أهلِ الكتابِ، وهم اليهودُ والنصارى ومَنْ يوافقهم في التديُّنِ بالتوراةِ والإنجيل؛ كالسامرةِ، والفرنج، ومن له شُبْهَةُ كتابٍ، وهم المجوسُ. واختلفوا في عبدةِ الأوثانِ، فقال أبو حنيفة: تُؤْخذُ من أهل العجم منهم دونَ العربِ، وقال مالك: تؤخذُ من عبدة الأوثانِ ونصارى العرب وكلِّ كافرٍ يصحُّ سباهُ سوى قريشٍ، وقال الشّافعيُّ وأحمدُ: لا تؤخذ من عبدةِ الأوثانِ مطلقًا.
واتفقوا على عدمِ قبولها من المرتدِّ، وأنّه لا يُقَرُّ على الردة.
واتفقوا على عدمِ وجوبِها على النساءِ والصبيانِ والعبيدِ.
واختلفوا في الراهبِ والشيخِ والهرمِ والزَّمِنِ والأعمى والفقير الغير معتملٍ، فقال الشّافعيُّ: تجبُ عليهم، وتستقرُّ في ذمةِ الفقيرِ حتّى يوسرَ، وقال الثلاثةُ: لا تجبُ عليهم.
واختلفوا في قدرِها، فقال أبو حنيفةَ: هي ضربان: أحدُهما: ما يوضَعُ بالتراضي، فلا يتعدَّى عنها، والثّاني: يضعُها الإمام إذا غلبَ على الكفارِ، وأقرَّهم على ملكِهم، فيضعُ على الغنيِّ في كلّ سنةٍ ثمانيةً وأربعين درهمًا، وعلى المتوسطِ نصفها، وعلى الفقير المعتمل ربعها، وتجبُ في أول الحول، وتؤخذ في كلِّ شهرٍ بقسطِه، وافقه أحمدُ في تقديرها بذلكَ، وقال: تؤخذ في آخر كلِّ حول، وقالَ مالكٌ: قدرُها أربعون درهمًا على أهلِ الوَرَقِ، وأربعةُ دنانيرَ على أهلِ الذَّهبِ في آخرِ الحول، وقال الشّافعيُّ: أقلُّها دينارٌ، ويستحب للإِمام مماكَسَتُه حتّى يأخذَ من المتوسِّط دينارين، ومن الغنيِّ أربعةً في آخر الحول.
175
واختلفوا في نصارى بني تغلبَ، وهم قوم ذوو شوكةٍ من العرب، انتقلوا في الجاهليةِ إلى النصرانية، فطلب عمرُ رضي الله عنه منهم الجزية، فأبوا، وطلبوا أن يؤخذ منهم كالزكاةِ من المسلمين، فأبى عمرُ، ثمّ خاف أن يلحقوا بالرومِ، فصالحهم على أن يضاعفَ عليهم مثلَ زكاةِ المسلمين بمحضرٍ من الصَّحابةِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ؛ يؤخذ منهم مثلَ ما يؤخَذُ من زكاةِ المسلمين، والمأخوذُ منهم واجبٌ بشرط الزكاةِ وأسبابِها، فلا تؤخذُ من فقير، ولا ممَّنْ مالُه غيرُ زكويٍّ، ومصرفُه مصرفُ الجزيةِ، فأبو حنيفةَ خصَّ الأخذَ بالرجالِ منهم والنساءِ دونَ الصبيانِ، وأحمدُ قال: يؤخذ من نسائِهم ومن صبيانِهم أيضًا، ومجانيِنهم، وكذا الحكمُ عنده في نصارى العرب ويهودِهم ومجوسِهم، وقال مالكٌ والشّافعيُّ: لا يؤخذ من نسائِهم وصبيانِهم، وحكمُهم كغيرِهم في ذلك.
واختلفوا في سقوطِ الجزيةِ بالإسلام والموتِ بعدَ وجوبها، فقال أبو حنيفةَ: تسقطُ بهما، وقال مالكٌ وأحمدُ: تسقطُ بالإسلامِ دونَ الموتِ، وقال الشّافعيّ: لا تسقطُ بهما.
* * *
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ قرأ عاصم، والكسائيُّ، ويعقوبُ: (عُزَيْرٌ) بالتنوين، وكسرِهِ حالةَ الوصل، ولا يجوز ضمُّه في مذهبِ الكسائيِّ، لأنّ الضمةَ في (ابن) ضمةُ إعرابٍ، فهيَ غيرُ لازمةٍ
176
لانتقالها، وقرأ الباقون: بغير تنوين (١)؛ لأنّه اسمٌ أعجميٌّ، ويشبه اسمًا مصغَّرًا، ومَنْ نوَّنَ قالَ: لأنّه اسمٌ خفيفٌ فوجهُه أن ينصرفَ وإنْ كانَ أعجميًّا مثل (نوحٍ وهودٍ وصالحٍ)، واسمُ عزيرٍ بالعبرانيةِ عَزْرا، وهو من ذريةِ هارونَ بنِ عمرانَ، وهو من أنبياءِ بني إسرائيلَ، فلما ظهر بُخْتَ نَصَّر على بني إسرائيل، وقتلَ من قتلَ، وأسرَ من أسرَ، وكان العزيرُ من جملةِ الأسرى وهو صغير، فلما رجعَ بنو إسرائيل من العراقِ إلى القدسِ، رجع العزيرُ من جملتِهم، وقدمَ معه من بني إسرائيل ما يزيدُ على الألفين من العلماءِ وغيرِهم، وتربى مع العزير في القدس مئةٌ وعشرون شيخًا من علماءِ بني إسرائيلَ، وكانت التوراةُ قد عدمت منهم، فمثَّلَها اللهُ تعالى في صدرِ العزيرِ، ووضعَها لبني إسرائيلَ يعرفونها بحلالها وحرامِها، فأحبوه حُبًّا شديدًا، وقالوا: إنَّ اللهَ لم يقذفِ التوراةَ في قلبِ رجلٍ إِلَّا أنّه ابنُه، فعندَ ذلكَ قالتِ اليهود: عُزيرٌ ابنُ الله، والذي قالَ هذه المقالةَ رجلٌ من اليهودِ اسمُه فنخاصُ بنُ عازورا الّذي قال: إنَّ اللهَ فقيرٌ ونحنُ أغنياءُ، ورُوي أنّه لم يبقَ يهوديٌّ يقولها، بل انقرضوا، قالَ ابنُ عطيةَ: فإذا قالها واحدٌ، فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجلِ نباهةِ القائل فيهم، وأقوالُ النبهاءِ أبدًا مشهودة في النَّاس يُحتجُّ بها (٢)، وأقامَ العزيرُ في بيتِ المقدس يدبِّرُ أمرَ بني إسرائيل حتّى تُوفي بعدَ مضيِّ أربعينَ سنة لعمارةِ بيتِ المقدسِ، فتكونُ وفاتُه سنةَ ثلاثين ومئةٍ لابتداءِ ولايةِ بُخْتَ نَصَّرَ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٧١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٤ - ١٥).
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (٣/ ٢٣).
177
﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ قالوا: لأنه لا أبَ له، ولم يكن لهذا القول برهانٌ، ولا معنى له ولا تأثير في القلب.
﴿ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ يقولونه بألسنتِهم من غيرِ علمٍ.
﴿يُضَاهِئُونَ﴾ قرأ عاصمٌ: (يُضَاهئُونَ) بهمزة مضمومةٍ بينَ الهاءِ والواو مع كسرِ الهاء، والباقون: بضم الهاء غير مهموز، وهما لغتان معناهما واحدٌ (١)؛ أي: يشابهون.
﴿قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ أي: يشابه قولُ اليهودِ والنصارى الذين في زمانِكَ في الشركِ قول المشركين قبلَه.
﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ أهلَكَهم ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أي: من أين يُصْرَفون عن الحقِّ بعدَ قيامِ البرهان؟!
* * *
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿اتَّخَذُوا﴾ أي: أهلُ الكتابين ﴿أَحْبَارَهُمْ﴾ علماءَ اليهودِ ﴿وَرُهْبَانَهُمْ﴾ أصحابَ الصوامعِ من النصارى.
﴿أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: هم عندَهُم كالأربابِ؛ لطاعتِهم إياهم في معصيةِ اللهِ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٥).
﴿وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ أي: اتخذوه ربًّا ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا﴾ وهو اللهُ ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ صفةٌ ثابتةُ.
﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ تنزيهٌ له عن أن يكونَ له شريكٌ.
* * *
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾ أي: يُعْدِموا القرآنَ؛ أي: وما فيه من الأحكامِ أو نبوةِ محمدٍ - ﷺ -. قرأ أبو جعفرٍ: (يُطْفُوا) بضمِّ الواوِ بغيرِ همزٍ، والباقون: بكسر الفاء والهمز (١) ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ بباطلِهم وتكذيبِهم.
﴿وَيَأْبَى﴾ ولم يُردِ ﴿اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ يُعْلي دينَه، ويتمَّ الحقَّ الذي بعث به محمدًا - ﷺ - ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ذلكَ.
* * *
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿هُوَ الَّذِي﴾ يعني: الذي يأبى إلا إتمامَ دينه.
﴿أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ محمدًا - ﷺ - ﴿بِالْهُدَى﴾ بالقرآنِ وما فيه من التوحيدِ وغيرِه ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ الإسلامِ.
﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ أي: ليعليَهُ ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ على جميعِ الأديانِ فينسخَها.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٤٩٧)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٦).
﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ وخَصَّ المشركين هنا بالذكرِ لما كانت الكراهيةُ مختصةً بظهورِ محمدٍ - ﷺ -، فذكر المعظمَ الأولَ ممن كرهَ ذلكَ وصدَّ فيه، وذكرَ الكافرين في الآية قبلُ؛ لأنها كراهيةُ إتمامِ نورِ اللهِ في قديمِ الدهرِ وفي باقيه، فعمَّ الكفرةَ من لَدُنْ خَلْقِ الدنيا إلى انقراضِها، وقد وقعتِ الكراهيةُ والإتمامُ مرارًا.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
[٣٤] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ﴾ هم علماءُ اليهودِ.
﴿وَالرُّهْبَانِ﴾ مجتهدو النصارى في العبادةِ بالباطلِ.
﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ أي: يأخذونها بالرُّشا في الحكم.
﴿وَيَصُدُّونَ﴾ يصرفون الناس ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ دينه.
﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ﴾ يجمعونَ ﴿الذَّهَبَ﴾ سُمِّي ذهبًا؛ لأنه يذهبُ ولا يبقى ﴿وَالْفِضَّةَ﴾ لأنها تنفضُّ؛ أي: تتفرَّقُ ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾ أي: الكنوزَ.
﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ عن ابن عباسٍ وابنِ عمرَ: "كُلُّ
مَالٍ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَإِنْ كَانَ مُدَّخَرًا، وَكُلُّ مَالٍ لاَ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، فَهُوَ كَنْزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُونًا" (١).
* * *
﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا﴾ أي: واذكرْ يومَ تُحمى النارُ على الأموالِ، فيوقدُ عليها؛ يعني: الكنوزَ.
﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى﴾ فَتُحْرَقُ ﴿بِهَا جِبَاهُهُمْ﴾ يعني: كانِزِيها.
﴿وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ ويقالُ لهم: ﴿هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ أي: تمنعونَ من حقوقِ الله تعالى.
سُئل أبو بكرٍ الوَرَّاقُ: لِمَ خَصَّ الجباهَ والجنوبَ والظهورَ بالكيِّ؟ قال: "لأنَّ الغنيَّ صاحبَ الكنزِ إذا رأى الفقيرَ، قبضَ جبهتَه، وزوى بها بينَ عينيه، وولَّاهُ ظهره، وأعرضَ عنه بكشحِه" (٢).
* * *
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا
(١) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: ٨٧)، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
ورواه ابن المنذر في "تفسيره" عن ابن عباس -رضي الله عنه-، كما عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (٤/ ١٧٧).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٢٧٨).
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)}.
[٣٦] ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُو﴾ عددَ الشهور، جمعُ شهرٍ.
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ في حكمِ اللهِ من غير زيادةٍ ولا نُقْصانٍ.
﴿اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ قرأ أبو جعفرٍ: بمدِّ ألفِ (اثنا)، وإسكانِ العين، ورُويَ عنه أيضًا: بحذفِ الألف، والباقون: بفتح العين بغير مدٍّ (١)، وهي أشهرُ العربِ المعروفةُ، أولُها المحرَّمُ، وآخرُها ذو الحجة، وخُصَّت باثني عشرَة لأنهم كانوا ربما جعلوها ثلاثةَ عشرَ وأربعةَ عشرَ؛ ليتسعَ لهم الوقت.
﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ في اللوح المحفوظِ ﴿يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ أي: هذا أمر ثابتٌ مذ خلقَ اللهُ الأجرامَ والأزمنةَ، والمرادُ: الشهورُ الهلاليةُ، وهي التي يعتدُّ بها المسلمون في أمورِهم، وبالشهورِ الشمسيةِ تكونُ السنةُ ثلاثَ مئةٍ وخمسةً وستينَ يوما وربعَ يومٍ، والهلاليةُ تنقصُ عن ثلاثِ مئةٍ وستينَ بنقصانِ الأهلَّةِ، والغالبُ أنها تكونُ ثلاثَ مئةٍ وأربعةً وخمسينَ يومًا.
﴿مِنْهَا﴾ أي: من الشهورِ.
﴿أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ وهي: رجبٌ، وذو القعدةِ، وذو الحجةِ، والمحرَّمُ، واحدٌ فردٌ، وثلاثة سردٌ، سُميتْ بذلك؛ لتحريمِ القتالِ فيها؛ المعنى: إن الشهورَ قد رجعتْ إلى وضعِها، وبطل النَّسيءُ، وعاد الحجُّ إلى ذي
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٢٧٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٧).
الحجة، قالَ - ﷺ - في حجةِ الوداعِ: "أَلاَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ: السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَة حُرُمٌ" (١).
﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ أي: الحسابُ المستقيمُ ﴿فَلَا تَظلِمُواْ فِيهِنَّ﴾ في الأشهرِ الحرمِ ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ فلا تجعلوا حرامَها حلالًا، والجمهورُ على أنَّ حرمةَ المقاتلةِ فيها منسوخةٌ بقوله:
﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ مصدرُ كفَّ عن الشيء في موضعِ الحالِ؛ أي: مجتمعينَ في جميع الشهور.
﴿كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ جميعًا.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ بشارة لهم بالنصرِ بسببِ تَقْواهم.
* * *
﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ﴾ هو تأخيرُ تحريمِ المحرَّمِ إلى صَفَرَ؛ لحاجتِهم إلى القتالِ فيه، ومنه النسيئةُ في البيع، يقال: أَنْسَأَ اللهُ أجلَه؛ أي: أَخَّر. قرأ ورشٌ عن نافعٍ، وأبو جعفرٍ: بتشديدِ الياءِ بغير همزٍ، فعيلٌ من أنسأْتُه أَخَّرْتُه، قُلبت الهمزةُ ياءً، وأُدغمتْ فيها الياء، وقرأ الباقون: بالهمزِ والمدِّ،
(١) رواه البخاري (٣٠٢٥)، كتاب: بدء الخلق، باب: بها جاء في سبع أرضين، ومسلم (١٦٧٩)، كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، عن أبي بكرة -رضي الله عنه-.
183
وإذا وقفَ حمزةُ وهشامٌ، وافقا وَرْشًا وأبا جعفرٍ (١)، وأولُ من نَسَّى النَّسِيَّ بنو كنانةَ.
﴿زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ لأن الكافرَ كلما عملَ معصيةً، ازدادَ كفرًا.
﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ، عن عاصمٍ: (يُضَلُّ) بضم الياء وفتح الضاد مجهولًا، وقرأ يعقوبُ: بضمِّ الياءِ وكسرِ الضادِ؛ أي: (يُضِلُّ) الكافرونَ أتباعَهم، والباقونَ: بفتح الياءِ وكسرِ الضاد (٢)؛ لأنهم هم الضالون؛ لقوله:
﴿يُحِلُّونَهُ﴾ أي: النسيءَ من الأشهرِ الحرمِ ﴿عَامًا﴾ ويحرِّمون مكانَه شهرًا آخرَ ﴿وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾ فيتركونه على (٣) حُرمتِهِ.
﴿لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ﴾ أي: ليوافقوا عددَ (٤) ﴿مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ من الأشهرِ الحرمِ؛ أي: لم يُحِلّوا شهرًا إلا حَرَّموا مكانَه من الحلال، والمواطأةُ: الموافقة. قرأ أبو جعفرٍ: (لِيُواطُوا) بضمِّ الطاءِ بغير همزٍ، والباقون: بكسرِ الطاء والهمز (٥).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٧٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٤٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٨).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٨١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٩).
(٣) في "ت": "في".
(٤) "أي: ليوافقوا عدد" سقط من "ت".
(٥) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٩٧)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٠).
184
﴿فَيُحِلُّوا﴾ بتحليلهم القتالَ في الأشهرِ الحرم ﴿مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ فيها.
﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ قالَ ابنُ عباسٍ: يُريد: زَيَّنَ لهم الشيطانُ (١). واختلافُ القراء في الهمزتين من (سُوءُ أَعْمَالِهِمْ) كاختلافِهم فيهما من (السُّفَهَاءُ أَلاَ) في سورة البقرة.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ لا يرشدُهم.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨)﴾.
[٣٨] ولما رجعَ رسولُ اللهِ - ﷺ - من الطائفِ، أمرَ بالجهادِ لغزوِ الرومِ،
وهي غزوةُ تبوكَ، وذلك في زمنِ عُسْرَةٍ من الناسِ، والشدَّةِ، من الحرّ حينَ طابتِ الثمارُ والظلالُ، ولم يكنْ رسولُ الله - ﷺ - يريدُ غزوةً إلا وَرَّى بغيرِها حتى كانت تلكَ الغزوةُ، غزاها في حَرٍّ شديدٍ، واستقبلَ سفرًا بعيدًا، جَلَّى للمسلمين أمرَهم ليتأهَّبوا أُهْبَةَ غزوِهم، فشقَّ عليهم الخروجُ، وتثاقلوا، فأنزل الله تعالى:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ﴾ (٢) أي: قالَ لكم رسولُ الله - ﷺ -: ﴿انْفِرُوا﴾ اخرُجوا ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ﴾ تباطَأْتُم ومِلْتُم عن الجهادِ ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾ أي: لزمْتُمْ مساكِنَكم.
(١) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (٦/ ١٧٩٦)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٨١).
(٢) انظر: "صحيح البخاري" (٢٧٨٨)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٣٨).
﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ولذاتِها بدلًا ﴿مِنَ الْآخِرَةِ﴾ ونعيمِها.
﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: فما التمتُّعُ بها ﴿فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾.
* * *
﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)﴾.
[٣٩] ثم أوعدَهم على تركِ الجهادِ فقال: ﴿إِلَّا﴾ أي: إن لم ﴿تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ﴾ في الآخرةِ ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وقيلَ: هو احتباسُ المطرِ عنهم في الدنيا.
﴿وَيَسْتَبْدِلْ﴾ بكم ﴿قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ خيرًا منكم وأطوعَ؛ كأهلِ اليمنِ وأبناءِ فارس.
﴿وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾ أي: لا يقدحْ تثاقُلُكم في نصرِ دينه؛ فإنه الغنيُّ عن كلِّ شيءٍ ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدرُ على النصرةِ بلا مَدَدٍ.
* * *
﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ﴾ بالنفيرِ معه.
186
﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ هذا إعلامٌ من اللهِ أنه المتكفِّلُ بنصرِه كما نصرَه.
﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من مكةَ حينَ مكروا به، وهَمُّوا بقتلِه.
﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ أحدَ اثنينِ، والمرادُ: النبيُّ - ﷺ -، وأبو بكرٍ رضي الله عنه.
﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ نقبٍ في جبلِ ثورٍ بمكةَ، مكثا فيه ثلاثًا. قرأ أبو عمرو، وورشٌ عن نافعٍ: (الغَارِ) بالإمالة، بخلافٍ عن الدوريِّ وابنِ ذكوان، ورُوي عن قالونَ: الإمالةُ بينَ بينَ (١)، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ في الأنفالِ.
عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما، قالَ رسولُ اللهِ - ﷺ - لأبي بكرٍ: "أَنْتَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ" (٢).
قال الحسينُ بنُ الفضلِ: مَنْ قالَ إن أبا بكرٍ لم يكنْ صاحبَ رسولِ اللهِ - ﷺ - فهو كافرٌ؛ لإنكارِه نصَّ القرآنِ، وفي سائرِ الصحابةِ إذا أنكرَ يكونُ مبتدِعًا، ولا يكونُ كافرًا (٣).
﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ﴾ هو أبو بكرٍ.
﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ أي: بالرعايةِ والحفظِ، رُوي أن المشركين طلعوا فوقَ الغارِ، فأشفقَ أبو بكرٍ رضي الله عنه على رسولِ الله - ﷺ -، وقال:
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٥٤ - ٥٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢١).
(٢) رواه الترمذي (٣٦٧٠)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، عن ابن عمر، وقال: حسن صحيح غريب.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٢٨٣).
187
إنْ أُقتلْ فأنا (١) رجلٌ واحدٌ، وإنْ قُتلت، هَلَكَتِ الأمةُ، فقال: "مَا ظَنُّكَ بِاثنيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟! " (٢)، وأرسلَ اللهُ زوجًا من حمامٍ حتى باضا في أسفل النَّقْبِ، والعنكبوتَ حتى نسجَتْ بيتًا.
﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾ طُمأنينَتَهُ ﴿عَلَيْهِ﴾ على أبي بكرٍ.
﴿وَأَيَّدَهُ﴾ أي: قَوَّى النبيَّ - ﷺ -.
﴿بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ همُ الملائكةُ صرفوا الكفارَ عن رؤيتِهما في الغارِ، وألقوا الرعبَ في قلوبِ الكفارِ يومَ بدرٍ والأحزابِ وحنينٍ.
﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هي دعوتُهم إلى الكفرِ.
﴿السُّفْلَى﴾ المنخفضةَ المغلوبةَ.
﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ﴾ دعوتُه إلى الإيمانِ. قراءة العامة: (وَكَلِمَةُ اللهِ) بالرفعِ مبتدأٌ، خبرُه ﴿هِيَ الْعُلْيَا﴾ العالية. وقرأ يعقوبُ: (وَكَلِمَةَ اللهِ) بالنصبِ عطفًا على (كَلِمَةَ) (٣).
﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ في أمرِه وتدبيره.
* * *
﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)﴾.
(١) في "ت": "فلأنا".
(٢) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٢٨٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢١).
188
[٤١] ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ أي: خَفَّ عليكم ذلك أو ثَقُلَ؛ أي: لا تنأَوْا عن الغزوِ.
﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وصفٌ لأكملِ بها يكون من الجهادِ وأنفعِه عند الله، فحضَّ على كمالِ الأوصافِ، وقُدِّمتِ الأموالُ في الذكرِ؛ إذ هي أولُ مصرَّفٍ (١) وقتَ التجهيزِ، فَرُتِّبَ الأمرُ كما هو في نفسِه.
﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ للفوزِ برضوانِ الله، وغلبةِ العدوِّ، ووراثةِ الأرضِ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ تنبيهٌ وهزٌّ للنفوس، قال السديُّ: هذه الآية منسوخةٌ بقوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ﴾ الآية [التوبة: ٩١] (٢)، وقال القرطبيُّ: الصحيحُ أنها ليستْ بمنسوخةٍ (٣).
واتفق الأئمةُ على أن الجهادَ فرضٌ على الكفايةِ، إذا قامَ به قومٌ من المسلمين، سقطَ عن الباقين، فإذا هجمَ العدوُّ، صارَ فرضَ عينٍ بغير خلافٍ.
* * *
﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٤٢)﴾.
(١) "مصرف" ساقطة من "ت".
(٢) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٦/ ١٨٠٣).
(٣) انظر: "تفسير القرطبي" (٨/ ١٥١).
[٤٢] ونزل في المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوةِ تبوكَ:
﴿لَوْ كَانَ﴾ ما تدعوهم إليه يا محمدُ.
﴿عَرَضًا قَرِيبًا﴾ نفعًا دنيويًّا سَهلَ المأخذِ.
﴿وَسَفَرًا قَاصِدًا﴾ سهلًا غيرَ شاقٍّ.
﴿لَاتَّبَعُوكَ﴾ فخرجوا معك ﴿وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ المسافةُ.
﴿وَسَيَحْلِفُونَ﴾ أي: المخلَّفون.
﴿بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا﴾ لو كانَ لنا استطاعةُ العدَّةِ والبدَنِ.
﴿لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ باليمينِ الكاذبة.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ لأنهم كانوا مستطيعين.
* * *
﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣)﴾.
[٤٣] فأذنَ - ﷺ - لجماعةٍ من المنافقينَ بالتخلُّفِ، فقالَ تعالى مقدِّمًا العفوَ على العَتْبِ تأنيًا وتطيبًا لقلبه - ﷺ -:
﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ﴾ أي: دامَ لكَ العفوُ، وهو افتتاحُ كلامٍ بمنزلةِ: أصلحَكَ اللهُ وأعزَّكَ الله، أخبرَه بالعفوِ قبلَ أن يخبرَهُ بالذنبِ، ولو بدأه - ﷺ - بقوله ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ لخيفَ عليه أن ينشقَّ قلبُه من هَيبةِ هذا الكلام، لكنَّ الله تعالى برحمته أخبرَه بالعفوِ حتى سكنَ قلبُه، ثم قالَ له: ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ بالتخلُّف؟ وهَلَّا أخرتهم ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في اعتذارِهم ﴿وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ أي: تعلمَ مَنْ لا عذرَ له، قال ابنُ
عباسٍ: لم يكنْ رسولُ اللهِ - ﷺ - يعرفُ المنافقين يومئذٍ (١).
* * *
﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ﴾ في التخلُّفِ.
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ أي: لا يُوقِفونه على الإذنِ، فَضْلًا أن يستأذنوك في التخلُّفِ كراهةَ أن يجاهدوا.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ عِدَةٌ لهم بثوابِه.
* * *
﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)﴾.
[٤٥] [إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ] شَكَّتْ.
﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ﴾ في شَكِّهِم ونفاقِهِم ﴿يَتَرَدَّدُونَ﴾ يتحيرون.
* * *
﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ﴾ في الغزوِ.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٢٨٩).
﴿لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾ أهبةً ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ﴾ انطلاقَهم بسرعة.
﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ خَذَلهم، وقيل: أي: قال لهم النبي - ﷺ -: ﴿وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ أي: مع أُولي الضررِ من النساءِ والصبيانِ والمرضى.
* * *
﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ﴾ شيئًا.
﴿إِلَّا خَبَالًا﴾ فسادًا؛ بإيقاعِهم الفشلَ بينَ المؤمنين بتهويلِ الأمرِ.
﴿وَلأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ لأسرَعوا بينَكم بالنمائمِ؛ ليوقعوا الشرَّ بينكم، وكُتِبَ (وَلاَ أَوْضَعُوا) في المصحفِ بزيادةِ ألفٍ (١)، قالوا: وكانتِ الفتحةُ تكتبُ قبلَ الخطِّ العربيِّ ألفًا، والخطُّ العربيُّ اخْتُرِعَ قريبًا من نزولِ القرآنِ، وقد بقيَ من ذلكَ الألف أثرٌ في الطباع، فكتبوا الهمزةَ ألفًا، وفتحتَها ألفًا أخرى؛ نحو: (لاَ أَذْبَحَنَّهُ).
﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ أي: يطلبون لكم بها تُفْتَنون به (٢).
﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ أي: مطيعون، أو متجَسِّسون.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ فيعلمُ ضمائرَهم.
وفي معنى قوله تعالى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ من الأمثالِ الدائرةِ على ألسُنِ الناسِ: للحيطانِ آذانٌ.
(١) انظر: "كتاب المصاحف" لابن أبي داود (١/ ٤٣٤).
(٢) "به" ساقطة من "ش".
﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبلِ غزوةِ تبوكَ وهيَ: تفريقُ شملِكَ بتخذيلِ الناسِ، ورَدِّهِم إلى الكفرِ.
﴿وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ﴾ أي: دَبَّرُوا لكَ الحيلَ.
﴿حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ﴾ النصرُ.
﴿وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ دينُه ﴿وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ أي: على رغمٍ منهم.
* * *
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ونزل في الجَدِّ بنِ قيسٍ المنافقِ حينَ قالَ له النبيُّ - ﷺ -: "هَلْ لَكَ فِي جِلاَدِ بَنِي الأَصْفَرِ؟ "، فقالَ: إني مُغْرَمٌ بالنساءِ، وأخشى أني إِن رأيتُ بناتِ الأصفرِ ألَّا أصبرَ عنهن، فَأْذَنْ لي بالقعودِ، وأُعينكُ بمالي، ولم تكنْ له علةٌ إلا النفاق، فأعرضَ عنه النبيُّ - ﷺ -، وقال: "قَدْ أَذِنْتُ لَكَ" فأنزلَ اللهُ عز وجل:
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي﴾ (١) في التخلُّفِ عن الجهادِ.
﴿وَلَا تَفْتِنِّي﴾ تُوقِعْني في الإثمِ.
(١) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (٦/ ١٨٠٩)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٣٩)، و "الدر المنثور" للسيوطي (٤/ ٢١٣).
﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ أي: في الإثم وقعوا بنفاقِهم وخلافِهم أمرَ اللهِ ورسوله.
﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ جامعةٌ لهم فيها.
* * *
﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ﴾ نصرٌ وغنيمةٌ في بعضِ الغزوات ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ تُحْزِنْهم.
﴿وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ شدةٌ وهزيمةٌ في بعضِها.
﴿يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا﴾ بالحزمِ والاحتياطِ ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: قبلَ هذهِ المصيبة.
﴿وَيَتَوَلَّوْا﴾ يُدْبِروا ﴿وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ مسرورونَ بمُصابِ النبيِّ - ﷺ - بأُحُدٍ.
* * *
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمدُ: ﴿لَنْ يُصِيبَنَا﴾ لن يصلَ إلينا.
﴿إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ إلا بها اختَّصنا اللهُ به مما كُتِبَ علينا في اللوحِ المحفوظِ.
﴿هُوَ مَوْلَانَا﴾ متولِّي أمرِنا.
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ لأن حقَّهم ألَّا يتوكلوا على غيره.
* * *
﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ﴾ تنتظرونَ ﴿بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ تثنيةُ الحسنى، إما النصرُ، أو الشهادةُ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وهشامٌ عن ابنِ عامرٍ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (هَل تَّرَبَّصُونَ) بإدغام اللام في التاء، والباقون: بالإظهار (١).
﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ﴾ إحدى السوءتين، إما ﴿أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ هو الصواعقُ والموتُ ﴿أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ كقتلِنا إياكم إنْ أظهرتُمْ ما في قلوبِكم.
﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ بمواعيدِ الشيطانِ.
﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾ بمواعيدِ الرحمنِ بالنصرِ عليكم.
* * *
﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٣)﴾.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٤٠٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٤).
[٥٣] ونزل في الجدِّ بنِ قيسٍ حينَ استأذنَ في القعودِ وقالَ: أُعينُكم بمالي: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا﴾ في طاعةِ اللهِ تعالى.
﴿طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ أمرٌ بمعنَى الخبر؛ أي: إن أنفقتُم طوعًا أو كرهًا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (كُرْهًا) بضمِّ الكاف، والباقون: بالفتح (١).
﴿لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ﴾ أي: لأنكم.
﴿كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ تعليلٌ به على سبيلِ الاستئنافِ، وما بعدَه بيانٌ وتقريرٌ له.
* * *
﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يُقْبَلَ) بالتذكير، لتقديم الفعل، والباقون: بالتأنيث (٢) ﴿نَفَقَاتُهُمْ﴾ صدقاتُهم، المعنى: وما منعَ قبولَ صدقاتِهم.
﴿إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ﴾ إذا اضطُرُّوا إلى إتيانِها.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٥).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٥).
﴿إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى﴾ متثاقلون؛ لأنهم لا يرجونَ بها ثوابًا، ولا يخافون على تركِها عقابًا.
﴿وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ لأنهم يعدُّونها مغرمًا، ومنعَها مغنمًا.
* * *
﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ﴾ أصلُ الإعجابِ: السرورُ بالشيءِ سرورَ متعجِّبٍ من حسنِه، راضٍ به؛ أي: لا تَمِلْ إليهم، ولا تَحْسُنْ في عينيكَ.
﴿أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ فإن ذلكَ استدراجٌ ووبالٌ لهم؛ كما قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بسببِ ما يكابِدون لجمعِها وحفظِها من المتاعبِ، وما يجدون فيها من الشدائدِ والمصائبِ.
﴿وَتَزْهَقَ﴾ تخرجَ ﴿أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ أي: يموتون على الكفر.
* * *
﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ﴾ على دينِكم.
﴿وَمَا هُمْ مِنْكُمْ﴾ لكفرِ قلوبِهم.
﴿وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ يفزعون أن تفعلوا بهم بها تفعلونَ بالمشركين.
***
﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً﴾ مكانًا يتحَصَّنونَ فيه.
﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ وهي الغارُ يَغورون فيه.
﴿أَوْ مُدَّخَلًا﴾ سَرَبًا تحتَ الأرضِ يدخلون فيه. قرأ يعقوبُ: (مَدْخَلًا) بفتح الميم وإسكان الدال المخففة، والباقون: بضمِّ الميم وفتحِ الدال مشدَّدَةً (١).
﴿لَوَلَّوْا إِلَيْهِ﴾ إليه هَرَبًا منكم.
﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ يُسرعون في إباءٍ، ومنهُ الفرسُ الجموحُ.
* * *
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ يَعيبُك في قِسمَتِها. قرأ يعقوبُ: (يَلْمُزُكَ) بضم الميم، والباقون: بكسرها، وروي عن ابنِ كثيرٍ: (يلامِزُكَ) (٢).
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٢٩٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٦).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٧).
﴿فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ نزلتْ في ذي الخُوَيْصِرَةِ التميميِّ، واسمُه حرقوصُ بنُ زهير أصلُ الخوارج، كانَ رسولُ اللهِ - ﷺ - يقسمُ غنائمَ حُنين، فاستعطفَ قلوبَ أهلِ مكَّةَ بتوفيرِ الغنائمِ عليهم، فقال: اعدلْ يا رسولَ الله، فقال: "وَيْلَكَ! إِنْ لَمْ أَعْدِلْ فَمَنْ يَعْدِلُ؟! " (١) و (٢) قيل: نزلتْ في أبي الجواظِ المنافقِ، قال: ألا ترونَ إلى صاحبِكم، إنما لقيتُم صدقاتِكم في رُعاةِ الغنمِ، ويزعمُ أنه يعدلُ (٣)، (وإذا) للمفاجأةِ جُعِلَتْ جوابًا للشرط، وهي هنا ظرفُ مكانٍ، التقديرُ: إِن لم يُعْطَوا، فاجؤوا السَّخط.
* * *
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ ما أعطاهم الرسولُ من الغنيمةِ والصدقةِ، وذكرُ اللهِ للتعظيم.
﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ كفانا فضلُه.
﴿سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ صدقةً أو غنيمةً أخرى.
﴿وَرَسُولُهُ﴾ فيؤتينا أكثرَ مما آتانا.
(١) رواه البخاري (٣٤١٤)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم (١٠٦٤)، كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(٢) في "ن": "أو".
(٣) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (٢/ ٧٨ - ٧٩): غريب.
﴿إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ في أن يوسِّعَ علينا من فضلِه، وجوابُ (لو) محذوفٌ، تقديره: لكانَ خيرًا لهم.
* * *
﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)﴾.
[٦٠] ثم بَيَّنَ اللهُ مصارِفَ الصدقات، رُويَ عن زيادِ بنِ الحارثِ الصُّدائيُّ قال: أتيتُ رسولَ اللهِ - ﷺ -، فبايعتُه، فأتاه رجل فقال: أَعْطِني من الصدقةِ، فقالَ له رسولُ اللهِ - ﷺ -: "إِنَّ الله (١) لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ، وَلاَ غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا، فَجَرأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَجْزَاءِ، أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ" (٢).
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ﴾ أي: الزكوات، و (إنما) للحصرِ تُثْبِتُ المذكورَ، وتنفي بها عداه.
﴿لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ مذهبُ أبي حنيفةَ ومالكٍ: الفقيرُ: مَنْ له بعضُ ما يكفيهِ، والمسكينُ: مَنْ لا شيءَ لهُ، فالفقيرُ عندَهما أحسنُ حالًا من المسكينِ، ومذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ بعكسِه، وأبو حنيفةَ يمنعُ من الصدقةِ مَنْ يملكُ نِصابًا، فإذا لمن يملكْه، جازَ أن يُعطى نصابًا وأكثرَ، ومالكٌ
(١) "إن الله" ليست في "ن".
(٢) رواه أبو داود (١٦٣٠)، كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة، وحد الغني.
200
يُجَوِّزُ دفعَها لمن له نصابٌ لا كفايةَ له فيه، فَيُعطى نِصابًا وما فوقَه، وعندَ الشافعيِّ وأحمدَ: مَنْ ملكَ بها لا يقومُ بكفايتِهِ مُطْلقًا، فليس بغنيٍّ، فيعطى الفقيرُ والمسكينُ عندَ الشافعيِّ كفايةَ العمرِ الغالبِ، فيشتري بهِ عقارًا يستغلُّه، وعندَ أحمدَ: يُعطى لهما ولعائلتِهما تمامُ كفايتِهم سنةً.
﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾ هم الجباةُ لها ومُفَرِّقوها، يعطَون على قدرِ عَمالتِهم معَ غِناهم بالاتفاقِ.
﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ وهمْ من يُتَأَلَّفُ قلبُه ليخلصَ إيمانه، أو يُرجى بعطيتهِ إسلامُ نظيرِه، أو جبايةُ الزكاةِ ممن لا يُعطيها، أو الدفعُ عن المسلمين، أو من يُتَّقى شرُّه من الكفار، أو يُرْجى إسلامُه. قرأ أبو جعفرٍ، وورشٌ عن نافعٍ: (وَالْمُؤَلَّفَةِ) بفتح الواو بغير همزٍ، والباقون: بالهمز، وحكمُهم غيرُ منسوخ، وسهمُهم ثابتٌ عندَ أحمدَ، وعندَ الشافعيِّ أَن حكمَ المؤلفةِ من المسلمينَ باقٍ، وأَن الكافرَ لا يُعطى تألفًا بحالٍ، وعندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ حكمُهم منسوخٌ، وسهمُهم ساقطٌ، إلا أن مالكًا قال: إنِ احتيجَ إليهم، جازَ الدفعُ لهم.
﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ هم المكاتبُون، يُعْطَون منها عندَ أبي حنيفة ما يُعانونَ به في فَكِّ رقبتِهم، وعندَ الشافعي قدرَ دَيْنهم، وقالَ مالكٌ: لا يُعطى المكاتبَون، وإنما يشتري الإمامُ رقابًا ويعتقُهم، والولاءُ للمسلمين بشرطِ الإسلامِ على المشهور، وقال أحمد بجوازِ الأمرين، ووافق الشافعيَّ في إعطائِهم قدرَ دَيْنهم، وقال أيضا: يجوزُ أن يَفْديَ بها أسيرًا مسلمًا، ورُوي مثله عن مالكٍ، والمشهورُ عنه خلافُه.
﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ هُم الذين عَلَتْهم الديونُ لغيرِ معصيةٍ، فمن غرمَ لإصلاحِ
201
نفسِه في مُباحٍ، أُعطي إِذا لم يكنْ له من المالِ بها يفي بدينِه بالاتفاق، وإن غرمَ لإصلاحِ ذاتِ البَيْنِ، أُعطي مع غِناهُ عندَ الشافعيِّ وأحمدَ، خلافًا لأبي حنيفةَ ومالكٍ فإنهما يشترطانِ أن يكونَ فقيرًا.
﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ همُ الغزاةُ الذين لا ديوانَ لهم، فَيُعْطَون مع غناهم عندَ الثلاثة، وقال أبو حنيفةَ: هو مخصوصٌ بالفقير منهم، وقال أحمدُ: الحجُّ من سبيلِ اللهِ، فيُعطى الفقيرُ ما يحجُّ به الفرضَ، أو يستعينُ به فيه، وافقه محمدُ بنُ الحسنِ، وخالفَ أبو يوسف.
﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هو المسافرُ المنقطعُ دونَ بلدِه، فَيُعطى بها يقطعُ به سفرَهُ عندَ الثلاثة، وعندَ الشافعي لا فرقَ بينَ مُنْشِئ السفرِ والمجتازِ إذا لم يكنْ معه ما يحتاجُ إليه في سفره، ويُشترط في السفر أن يكونَ مباحًا عندَ الثلاثة؛ خلافًا لأبي حنيفة.
﴿فَرِيضَةً﴾ أي: واجبةً.
﴿مِنَ اللَّهِ﴾ مصدرٌ مؤكِّدٌ؛ أي: فرضَ الصدقاتِ فريضةً.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ يضعُ الأشياءَ في مواضِعها.
واختلفَ الأئمةُ في جوازِ صرفِها إلى بعضِ الأصنافِ الثمانيةِ، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: يجوزُ صرفُها إلى صنفٍ واحدٍ، وقال الشافعيُّ: لا يجوزُ صرفُها إلى بعضِهم معَ وجودِ سائرِهم، وقال مالكٌ: يُتَحَرَّى في موضعِ الحاجةِ منهم، ويُقَدَّمُ الأَوْلى فالأولى من أهل الخُلَّةِ والحاجةِ، ومعنى الخلةِ: الفقيرُ.
واتفقَ الأئمةُ رضي الله عنهم على وجوبِ الزكاةِ في أربعةِ أصنافٍ من المالِ: السائمةُ من بهيمةِ الأنعام، وهي التي تَرْعى في أكثرِ الحولِ،
202
والخارجُ من الأرض، والنقدُ، وعروضُ التجارة.
ولا تجبُ إلا بشروطٍ خمسة: الإسلام، والحرية، وملك النصاب، وتمام الملك، فلا تجبُ على مكاتَبٍ، ومضيُّ الحولِ إلا في الخارجِ من الأرضِ، وتقدَّمَ الكلامُ عليه في سورةِ الأنعام عندَ تفسيرِ قوله: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الآية: ١٤١] وهل يُشترَطُ البلوغُ والعقلُ؟ قال الثلاثةُ: لا يُشترط، بل تجبُ في مالِ الصبيِّ والمجنونِ، وقال أبو حنيفة: يُشترط، فلا تجبُ عليهما.
والزكاةُ في اللغة: الزيادةُ، يقال: زكا المالُ: إذا نما وزادَ، وفي الشرعِ: حَقٌّ واجبٌ في مالٍ خاصٍّ لطائفةٍ مخصوصةٍ في وقتٍ مخصوصٍ.
ولا يجوزُ أداؤُها إلا بالنية بالاتفاق.
ويجوز تعجيلُها عندَ أبي حنيفةَ لسنةٍ أو أكثرَ، وعندَ الشافعيِّ لحولٍ واحدٍ، وعندَ أحمدَ لحولينِ، وقال مالكٌ: لا يجوزُ إخراجُ الزكاةِ قبلَ وجوبها.
واتفقوا على أن نصابَ الإبلِ خمسٌ، ففي كُلِّ خمسٍ شاةٌ إلى أربعٍ وعشرينَ، وفي خمسٍ وعشرينَ بنتُ مخاضٍ لها سنةٌ، ثم في سِتٍّ وثلاثينَ بنتُ لَبونٍ لها سنتان، ثم في سِتٍّ وأربعينَ حُقَّةٌ لها ثلاثُ سنينَ، ثم في إحدى وستينَ جَذَعَةٌ لها أربعُ سنين، ثم في سِتٍّ وسبعينَ بِنْتا لَبون، ثم في إحدى وتسعين حُقَّتانِ إلى مئةٍ وعشرين، فإن زادتْ واحدةً، فقال أبو حنيفة: يستأنفُ الفريضةَ، ففي كلِّ خمسٍ شاةٌ كالأول إلى مئةٍ وخمسٍ وأربعين، ففيها حُقَّتان وبنتُ مخاضٍ إلى مئةٍ وخمسين، ففيها ثلاثُ حقاقٍ، ثم في الخمسِ شاةٌ كالأولى إلى مئةٍ وخمسٍ وسبعين، ففيها ثلاثُ حقاقٍ،
203
وبنتُ مخاضٍ، وفي مئةٍ وسِتٍّ وثمانين ثلاثُ حقاقٍ وبنتُ لبون، في كلِّ أربعينَ بنتُ لَبون، وفي كلِّ خمسين حقةٌ، وعن مالكٍ إذا زادت واحدةً، روايتان: أشهرُهما أن الساعيَ بالخِيار بينَ حُقَّتين أو ثلاثِ بناتِ لبون. وفي مئةٍ وستِّ وتسعينَ أربعُ حقاقٍ إلى مئتين، ثم تستأنف أبدًا كما استأنفتَ بعدَ المئةِ وخمسين، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: إن الزيادةَ الواحدةَ تغير الفرضَ، فيكونُ في مئةٍ وإحدى وعشرين ثلاثُ بناتِ لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وعن مالك إذا زادت واحدة روايتان؛ أشهرهما أن الساعي بالخيار بين حقتين أو ثلاث بنات لبون. والروايةُ الأخرى: ليس فيها إلا حُقَّتانِ حتى تبلغَ ثلاثينَ ومئةً، فإذا صارتْ كذلك، أُخِذَ من كلِّ خمسينَ حقةٌ، ومن كل ثمانين بنتا لبون.
واتفقوا على أن نصابَ البقرِ ثلاثون، ففيها تبَيعٌ أو تبَيعةٌ، وهي التي لها سنةٌ عندَ الثلاثةِ، وعندَ مالكٍ التي لها سنتانِ، وفي الأربعينَ مُسِنَّةٌ، وهي التي لها سنتانِ عندَ الثلاثةِ، وعندَ مالكٍ التي لها أربعُ سنينَ إلى تسعٍ وخمسينَ، فإذا بلغتْ ستين، ففيها تَبيعان إلى تسعٍ وستين، فإذا بلغتْ سبعين، ففيها تبيعٌ ومسنةٌ، فإذا بلغت ثمانين، ففيها مُسِنَّتانِ، وفي تسعينَ ثلاثةُ أتبعةٍ، وفي مئةٍ تبيعانِ ومسنةٌ، وعلى هذا أبدًا يعتبر الفرضُ، ففي كلِّ ثلاثين تبيعٌ، وفي كل أربعين مسنَّةٌ.
والجواميسُ نوعٌ منه بالاتفاق. واتفقوا على أن نصابَ الغنمِ أربعونَ، وفيها شاةٌ إلى مئةٍ وعشرين، فإذا زادت واحدةً، ففيها شاتان، ثم في مئتين وواحدةٍ ثلاثُ شياه إلى أربعِ مئةٍ ففيها أربعُ شياهٍ، ثم في كل مئةٍ شاةٌ.
والمعزُ والضأنُ سواءُ بالاتفاق.
واختلفوا فيما يؤخذ من الزكاة، فقال أبو حنيفةَ: أدنى ما تتعلَّقُ به الزكاةُ
204
ويؤخَذُ في الصدقة الثَّنيُّ، وهو ما تَمَّتْ له السنةُ، ولا يجزئُ الجَذَعُ، وهو عندَه الذي أتى عليه أكثرُ السنةِ، وقالَ الثلاثةُ: يؤخذُ الجذعُ من الضأنِ، وهو ما لَهُ سنةٌ عندَ مالكٍ والشافعيِّ، وستةُ أشهرٍ عندَ أحمدَ، والثنيُّ من المعزِ، وهو ما له ثلاثُ سنينَ عندَ مالكٍ، وسنتانِ عندَ الشافعيِّ، وسنة عندَ أحمدَ.
واختلِفَوا في الخيلِ إذا لم تكنْ معدَّةً للتجارةِ، فقالَ الثلاثة: لا زكاةَ فيها، وقال أبو حنيفةَ: فيها الزكاةُ إن كانتْ سائمةً ذكورًا وإناثًا، أو إناثًا، فإن شاءَ أعطى عن كل فرسٍ دينارًا، وإن شاءَ قَوَّمها وأعطى عن كلِّ مئتي درهمٍ خمسةَ دراهمَ، وخالفه صاحباه، فوافقا الجماعةَ.
واختلفوا فيما إذا كانتِ الغنمُ ذُكورًا، أو إناثًا، أو من الصنفينِ، فقال أبو حنيفةَ: يجزئ أخذُ الذكرِ من كلٍّ، وقالَ الثلاثةُ: إن كانتْ كلُّها ذكورًا، أجزأَ الذكرُ، وإن كانتْ إناثًا، أو من الصنفين، فلا يجزئ فيها إلا الأنثى.
واتفقوا على أن نصابَ الفضةِ مئتا درهمٍ، وأما نصابُ الذهب، فقال مالكٌ: هو عشرون دينارًا، وقال الثلاثةُ: هو عشرون مثقالًا، فإذا حالَ الحولُ، ففي كل منهما ربعُ العشرِ بالاتفاق. واختلفوا (١) في الحليِّ المباحِ مما يُلْبَسُ ويُعار، فقال أبو حنيفة: فيه الزكاةُ، وقال الثلاثة: لا زكاةَ فيه، وأما المحرَّمُ والمعدّ للتجارةِ، ففيهما الزكاةُ بغير خلافٍ.
واختلفوا في زكاةِ المعدنِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: تجبُ في كلِّ ما يُستخرَجُ من الأرض من ذهبٍ وفضةٍ وحديدٍ ونحوِها، واختلفا، فقال أبو حنيفةَ: لا يُعتبر فيه النصابُ، بل يجبُ في قليلِه وكثيرِه الخمسُ، وهو فيء، والباقي لمستخرجِه، وقال أحمدُ: يعتبر النصابُ، وفيه ربعُ العشر
(١) في "ش": "اتفقوا"، وهو خطأ.
205
زكاةً في الحال، وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا يتعلَّق بشيء (١) إلا بالذهبِ والفضةِ، ووافقا أحمدَ في اعتبارِ النصابِ ووجوبِ ربعِ العشرِ زكاةً في الحال.
ولا زكاةَ فيما يخرجُ من البحرِ من اللؤلؤ والمرجانِ بالاتفاق.
واختلفوا في الرِّكازِ، وهو دفنُ الجاهليةِ، فقال الثلاثةُ: فيه الخمسُ في الحال، قلَّ أو كثرَ من أيِّ نوعِ كان، والواجدُ كالغانمِ له أربعةُ أخماسٍ، ومصرفُه مصرفُ الفيء، وقال الشافعيُّ: شرطُه النصابُ والنقدُ، لا الحولُ، وفيه الخمسُ يصرَفُ مصرفَ الزكاةِ.
واتفقوا على وجوبِ الزكاة في عُروضِ التجارة إذا بلغَتْ قيمتُها نصابًا من الذهبِ أو (٢) الوَرِقِ ففيها ربعُ العشر.
ثم اختلفوا في استقرارِ وجوبِها بالحولِ، فقال الثلاثةُ: إذا حالَ عليها الحولُ، قَوَّمَها، فإذا بلغتْ نِصابًا، زَكَاها، وقال مالكٌ: لا تجبُ الزكاةُ حتى يبيعَ، فإنْ أقامَ أحوالًا، فلا شيءَ عليه ما دامَ عرضًا، ولا تُقَوَّمُ في كلِّ سنة، فإذا باعَ، زكَّى لسنةٍ واحدةٍ.
واتفقوا على وجوبِ زكاةِ الفطرِ على الأحرارِ المسلمينَ، وتلزمُ عندَ الثلاثة مَنْ ملكَ فاضلًا عن قوتِه وقوتِ عياله يومَ العيدِ وليلَتَه ما يُخرجُه فيها، وقال أبو حنيفة: لا تجبُ إلا على من ملكَ نصابًا، ووقتُ وجوبِها عندَ أبي حنيفةَ طلوعُ الفجرِ يومَ الفطرِ، وعندَ الثلاثةِ غروبُ الشمسِ ليلةَ الفطرِ، ويجوزُ تعجيلُها عند أبي حنيفةَ قبلَ رمضانَ، وعنه خلاف، وعندَ
(١) "بشيء" زيادة من "ش".
(٢) في "ش": "و".
206
مالكٍ وأحمدَ يجوزُ تعجيلُها قبلَ العيدِ بيومٍ ويومينِ، وعندَ الشافعيِّ من أولِ الشهرِ، ويُستحبُّ إخراجُها يومَ الفطرِ قبلَ الخروجِ إلى المصلَّى بالاتفاق.
واتفقوا على جوازِ إخراجِها من خمسةِ أصنافٍ: البُرِّ، والشعيرِ، والتمرِ، والزبيبِ، والأَقِطِ، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: يجزئُ الدقيقُ والسَّويقُ أيضًا، وقال مالكٌ: يجوزُ إخراجُها من الحَبِّ من سائرِ الأقواتِ؛ كالأرزِّ، والذرةِ، والدخنِ.
واتفقوا على أن الواجبَ صاعٌ من كلِّ جنسٍ، سوى أبي حنيفةَ؛ فإنَّه قالَ: يجزئ من البُرِّ خاصَّةً نصفُ صاعٍ.
واختلفوا في قدرِ الصاعِ، فقال أبو حنيفة: ثمانيةُ أرطالٍ بالعراقيِّ، وقال الثلاثةُ وأبو يوسفَ: خمسةُ أرطالٍ وثلثٌ بالعراقيِّ، وهو أربعةُ أرطالٍ وخمسةُ أسباعِ رطلٍ وثلثُ سُبع رطلٍ مصريٍّ، ورطلٌ وسبعُ رطلٍ دمشقيٍّ، وإحدى عشرةَ أوقيةً وثلاثةُ أسباعِ أوقيةٍ حلبيةٍ، وعشرُ أواقٍ وسُبْعا أوقيةٍ قدسيةٍ، وستُّ مئةٍ وخمسةٌ وثمانونَ درهمًا، وخمسةُ أسباعِ درهمٍ، وأربعُ مئةٍ وثمانون مثقالًا.
وتقدَّمَ ذكرُ المدِّ مستوفًى في سورةِ المائدةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [الآية: ٨٩].
واختلفوا في جوازِ إخراج القيمة، فقالَ أبو حنيفةَ: يجوزُ، وخالفَهُ الثلاثةُ.
واختلفوا في الأفضلِ، فقال مالكٌ وأحمدُ: التمرُ أفضلُ، ثم الزبيبُ، وقال الشافعيُّ: البُرُّ أفضلُ، وقالَ أبو حنيفةَ: أفضلُ ذلك أكثرُه نماءً، والله أعلم.
* * *
207
﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١)﴾.
[٦١] ونزل فيمن كان يؤذي النَّبي - ﷺ - من المنافقين، ويقولُ: نأتيه ونُنْكِر ما قلنا، ونحلفُ فيصدِّقُنا؛ فإنَّهُ أُذُن.
﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ (١) أي: يسمعُ كلَّ ما قيلَ له ويقبلُه.
﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾ أي: إذا كان كما تقولون، فهو خيرٌ لكم. قرأ نافعٌ: (أُذْنٌ) بإسكان الذال فيهما، والباقون: بالرفع (٢).
﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: يصدِّقهم، إلا المنافقين.
﴿وَرَحْمَةٌ﴾ قرأ حمزةٌ: (وَرَحْمَةٍ) بالخفض على معنى (أُذُنِ) خيرٍ و (رحمةٍ)، والباقون: بالرفع؛ أي: هو أذنُ خيرٍ، وهو رحمةٌ (٣).
﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ لأنه كان هو سببَ إيمانهم ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٤٠).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٩٩)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٨).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٩٩)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٩).
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ونزلَ فيمن تخلَّف عن غزوةِ تبوكَ واعتذرَ ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ ولما كان رضا الله تعالى رضا نبيه، وبالعكسِ، وَحَّدَ الضمير في (أَنْ يُرْضُوهُ).
﴿إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ صدقًا.
* * *
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ يُعاديهما.
﴿فَأَنَّ لَهُ﴾ فتحًا خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فجزاؤه أنَّ له.
﴿نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾ أي: الفضيحةُ العظيمةُ.
* * *
﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤)﴾.
[٦٤] ثم خَبَّرَ بحالِ المنافقين فقالَ: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ﴾ أي: يخشون.
﴿أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ أي: على المؤمنينَ ﴿سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ﴾ أي: تنبئُ المؤمنينَ.
﴿بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: قلوبِ المنافقين، المعنى: المنافقونَ يحذَرون
من نزولِ سورةٍ على المؤمنين تخبرُ بما يُضمرونَ من النفاق، فَيُفْتَضحون، وهم مع ذلكَ يستهزئون.
﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ من إنزالِ السورةِ فيكم. قرأ أبو جعفرٍ: (اسْتَهْزُوا) بضم الزاي بغيرِ همزٍ، وكذلك في (يَسْتَهْزُؤنَ) في الحرف الآتي، والباقون: بالهمزِ فيهما (١).
* * *
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥)﴾.
[٦٥] وكان جماعةٌ يستهزئون برسولِ الله - ﷺ - لما كانَ في غزوةِ تبوكَ، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريدُ أن يفتحَ قصورَ الشامِ وحصونَه، هيهاتَ هيهاتَ! فأخبرَ اللهُ نبيَّهُ، فدعاهم فقال: "قُلْتُمْ كَذَا؟ "، فأنكروا واعتذروا، وقالوا: إنما كنا نخوضُ ونلعبُ، فنزلَ:
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ﴾ (٢) في الكلام.
﴿وَنَلْعَبُ﴾ كما يفعلُ الركبُ نقطعُ الطريقَ بالحديثِ واللعِب.
﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ﴾ كتابِه.
﴿وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ توبيخًا على استهزانِهم بمن لا يصحُّ الاستهزاءُ به.
* * *
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٠).
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٤١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٠١).
﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿لَا تَعْتَذِرُوا﴾ لا تُظهروا عُذْرَكُم ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ﴾ باستهزائِكم.
﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ بعدَ إظهارِكم الإيمانَ.
﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ﴾ أي: إن نرحم طائفةً منكُم بتوبتِهم وإخلاصِهم.
﴿نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ مصرين على النفاق. قرأ عاصمٌ: (نَعْفُ) بالنونِ وفتحِها، وضمِّ الفاء (نُعَذِّبْ) بالنون وكسر الذال (طَائِفَةً) نصبٌ، وقرأ الباقون: (يُعْفَ) بالياءِ وضمِّها وفتح الفاء (تُعَذَّبْ) بالتاءِ وفتح الذال (طائفةٌ) رفعٌ على غيرِ تسميةِ الفاعل (١).
* * *
﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ في النفاقِ والدِّين.
﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ﴾ بالكفرِ والمعصيةِ.
﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ الإيمانِ والطاعةِ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٦)، و"التيسير" للداني (ص: (١١٨ - ١١٩) و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٠١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٠ - ٣١).
﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ يُمْسِكون عن الصدقاتِ.
﴿نَسُوا اللَّهَ﴾ تركوا أمرَهُ ﴿فَنَسِيَهُمْ﴾ فتركَهم من رحمتِهِ.
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الكاملون في التمرد والفسوق.
* * *
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ﴾ كافِيَتُهم جزاءً على كفِرهم.
﴿وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أبعدَهُم من رحمتِهِ.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ دائمٌ لا ينقطعُ.
* * *
﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿كَالَّذِينَ﴾ خبرُ مبتدأ، أي: أنتمْ مثلُ الذين.
﴿مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ﴾ أي: انتفعوا بنصِيبهم من الدنيا باتّبَاع الشهواتِ.
﴿فَاسْتَمْتَعْتُمْ﴾ أيُّها المنافقونَ.
﴿بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ﴾ وسلكتم مسلكهم.
﴿وَخُضْتُمْ﴾ في الباطل ﴿كَالَّذِي خَاضُوا﴾ أي كما خاضوا.
﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ لم يستحقُّوا عليها ثوابًا.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الذين خسروا الدارَيْنِ.
* * *
﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ﴾ يعني: المنافقين ﴿نَبَأُ﴾ خبرُ.
﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ حينَ عَصَوا رُسُلَنا، وخالفوا أَمْرَنا كيفَ عَذَّبناهم وأَهْلَكْناهم، ثم ذكرَهم فقالَ:
﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾ أُهلكوا بالطوفانِ ﴿وَعَادٍ﴾ أُهلكوا بالريحِ ﴿وَثَمُودَ﴾ بالرجفةِ ﴿وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ﴾ بسلبِ النعمةِ وهلاكِ نمرودَ.
﴿وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ﴾ قومِ شعيبٍ أُهلكوا بالنارِ يومَ الظُّلَّةِ.
﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتِ﴾ مدائنِ قوِم لوطٍ ائتفكت؛ أي: انقلبتْ بهم فصارت عاليَها سافلَها. قرأ قالونُ عن نافعٍ بخلافٍ عنه: (وَالمْوُتَفِكَاتِ) بإسكانِ الواوِ بغيرِ همزٍ (١).
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٩٠ - ٣٩٤)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٢).
﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ فكذَّبوهم وعَصَوْهُم كما فعلْتُم.
﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ أي: ليهلِكَهم حتى يبعثَ إليهم الأنبياءَ.
﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ حيثُ عَرَّضوها للعقابِ بالكفر.
* * *
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ في الدِّينِ واتفاقِ الكلمةِ.
﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بالإيمانِ والطاعةِ.
﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الشركِ والمعصيةِ، والمعروفُ: هو ما عرفَهُ العقلُ والشرعُ بالحُسْنِ، والمنكَرُ: ما أنكَرُه أحدُهما لقبحه، فالأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر فرضُ كفايةٍ باتفاقِ الأئمةِ وإجماعِ الأمة، وهو من أعظمِ قواعدِ الإسلامِ، والنهيُ: هو استدعاءُ تركِ الفعل، وهو أمرٌ بضدِّه، وحقيقتهُ للتحريمِ، وحقيقَة الأمرِ للإيجابِ والقبولِ.
﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ المفروضةَ ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في سائرِ الأمورِ.
﴿أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ لا محالةَ؛ فإن السينَ مؤكِّدةٌ للوقوع ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ لا يمتنعُ عليهِ ما يريدُه ﴿حَكِيمٌ﴾ يضعُ الأشياءَ في محلِّها.
* * *
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾ تستطيبُها النفسُ ﴿فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ بساتينِ خلدٍ.
﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: شيءٌ من رضا الله ﴿أَكْبَرُ﴾ من ذلكَ كله.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: الرضوانُ.
﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ وحدَهُ دونَ ما يعدُّهُ الناسُ فوزًا.
عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ - ﷺ - قال: "يَقُولُ اللهُ عز وجل لِأهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا! وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟! فَيَقُولُ: أَفَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولوُنَ: رَبَّنَا فَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلا أَسْخَطُ عَلَيكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (١).
* * *
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣﴾.
[٧٣] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ﴾ بالسيفِ ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾ بالحجَّةِ.
(١) رواه البخاري (٦١٨٣)، كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، ومسلم (٢٨٢٩)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة، فلا يسخط عليهم أبدًا.
﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ في الجهادَين.
﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ في الآخرة ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ مصيرُهم، قال عطاءُ: نسخَتْ هذه الآيةُ كلَّ شيءٍ من العفوِ والصَّفْحِ (١).
* * *
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا﴾ رُوي أنه عليه السلام أقامَ في غزوةِ تبوكَ شهرين ينزلُ القرآنُ، ويعيبُ المنافقين (٢) المتخلِّفين، فقالَ الجَلَّاسُ بن سُوَيْدٍ: لئنْ كانَ محمدٌ صادِقًا، لنحنُ شَرٌّ من الحميرِ، فبلغَ رسولَ الله - ﷺ -، فاستحضَرَهُ، فحلفَ بالله ما قالَه، فنزلت، فتابَ الجلاسُ وحَسُنَتْ توبتُه (٣).
﴿وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ﴾ سَبُّهم رسولَ اللهِ - ﷺ -.
﴿وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾ أظهروا الكفَر بعدَ إظهارِهم الإيمانَ.
﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ وهو الفتكُ برسولِ اللهِ - ﷺ - حينَ وقفوا له بالعقبةِ عندَ عودِهِ من تبوكَ.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣٠٥).
(٢) "المنافقين" زيادة من "ش".
(٣) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (١٨٣٠٣)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٦/ ١٨٢٦).
﴿وَمَا نَقَمُوا﴾ أنكروا وعابوا على المؤمنينَ.
﴿إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وذلكَ أنَّ أهلَ المدينةِ كانوا قبلَ قدومِ النبيِّ - ﷺ - في ضَنْكٍ من العيش، فلما قدم النبيُّ - ﷺ - استغْنَوا بالغنائمِ، وقيلَ للحسينِ بنِ الفضلِ: هل تجدُ في القرآنِ قولَ الناسِ احذَرْ شَرَّ مَنْ أحسنتَ إليه؟ فقال: نعم، قولهُ تعالى في قصةِ المنافقينَ في التوبة: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (١).
﴿فَإِنْ يَتُوبُوا﴾ من كفرِهم ﴿يَكُ خَيْرًا لَهُمْ﴾ من نفاقِهم وهو الذي حمل الجلاسَ على التوبةِ، فقُتِلَ مولى له، فأمرَ له النبيُّ - ﷺ - بديتِهِ اثني عشرَ ألفَ درهمٍ، فاستغنى.
﴿وَإِنْ يَتَوَلَّوْا﴾ يُعْرِضوا عن الإيمان.
﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا﴾ بالخزيِ ﴿وَالْآخِرَةِ﴾ بالنارِ.
﴿وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ فينجيهم من العذابِ.
* * *
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿وَمِنْهُمْ﴾ يعني: المنافقين.
﴿مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ ولنؤدَينَّ حقَّ اللهِ منه.
﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ نعملُ بعملِ أهلِ الصلاحِ فيه، نزلَتْ في ثعلبةَ بنِ حاطبٍ الأنصاريِّ، أتى النبيَّ - ﷺ - وقالَ: ادعُ اللهَ أن يَرْزقني مالًا،
(١) انظر: "تفسير القرطبي" (٨/ ٢٠٨).
فقال عليه السلام: "قِليلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثيرٍ لاَ تُطِيقُهُ"، فراجعَهُ وقال: والذي بعثَكَ بالحق! لئنْ رزَقني مالًا؛ لأعطينَّ كل ذي حَقٍّ حقَّهُ، فدعا لهُ فاتخذَ غنمًا، فنمَتْ كما ينمى الدودُ، حتى ضاقَتْ بها المدينةُ، فنزلَ واديًا، وانقطعَ عن الجمعةِ والجماعةِ، فسألَ عنه - ﷺ -، فقيل: كثرَ مالهُ حتى لا يسعُه وادٍ، فقال: "يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ! "، فبعث مُصَدِّقَينِ لأخذِ الصدقاتِ، فاستقبلَهما الناسُ بصدقاتِهم، ومرَّا بثعلبةَ فسألاهُ الصدقةَ، وأقرآه الكتابَ الذي فيه الفرائضُ، فقال: ما هذهِ إلا جزيةِ، ما هذهِ إلا أختُ الجزيةِ، فارجِعا حتى أَرى رأيي، فنزلتْ، فجاءَ ثعلبةُ بالصدقةِ فقالَ: "إنَّ اللهَ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ"، فجعلَ يحثو على رأسه الترابَ، فقالَ: "هَذَا عَمَلُكَ؛ فَقَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي"، فَقُبِضَ رسولُ الله - ﷺ -، فجاءَ بها إلى أبي بكرٍ في خلافتهِ، فلم يقبلْها، ثم جاءَ بها إلى عمرَ في خلافتِه، فلم يقبلْها، ثم جاء بها إلى عثمانَ فلم يقبلْها، وهلك في خلافتِه (١).
* * *
﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ﴾ منعوا حق الله منه ﴿وَتَوَلَّوْا﴾ عن طاعة الله ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ وهم قومٌ عادتُهم الإعراضُ عنها.
* * *
(١) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (٤/ ٢٥٠)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٧٨٧٣)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص: ١٤٣)، والبغوي في "تفسيره" (٢/ ٣٠٧)، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-.
﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿فَأَعْقَبَهُمْ﴾ أي: جعلَ اللهُ عاقبةَ ذلكَ ﴿نِفَاقًا﴾ ثابتًا.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ فلا يؤمنون ﴿إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ هو يومُ القيامةِ.
﴿بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ﴾ من التصدُّقِ والصلاحِ.
﴿وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ في يمينِهم.
قالَ - ﷺ -: "آَيةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ" (١).
* * *
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ﴾ ما أَسروه في أنفسهم من النفاق.
﴿وَنَجْوَاهُمْ﴾ حديثَهم فيما كان بينَهم.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ فلا يخفى عليه ذلك. قرأ حمزةُ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (الْغِيُوبِ) بكسر الغين، والباقون: بالضم (٢).
(١) رواه البخاري (٣٣)، كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق، ومسلم (٥٩)، كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٣)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٣).
﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ﴾ قرأ يعقوبُ: (يَلْمُزُونَ) بضمِّ الميم، والباقون: بالكسر (١)؛ أي: يَعيبون ﴿الْمُطَّوِّعِينَ﴾ المتبرِّعيَن.
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ والمرادُ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ، تصدَّقَ بأربعةِ آلافِ درهمٍ، وكانَ مالهُ ثمانيةَ آلافٍ، فقالَ رسولُ اللهِ - ﷺ -: "بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ"، فباركَ اللهُ له، حتى أنه خلفَ امرأتينِ يومَ ماتَ، فبلغ ثُمْنُ مالِه لهما مئةً وستينَ ألفًا، وتصدَّقَ عاصمُ بنُ عديٍّ بمئةِ وسقِ تمرٍ، وجاء أبو عقيلٍ الأنصاريُّ بصاعِ تمرٍ، فقالَ: يا رسولَ الله! بِتُّ ليلتي أجرُّ بالجريدِ الماءَ حتى نلتُ صاعَيْنِ، فتركْتُ صاعًا لعيالي، وجئتُ بصاعٍ، فأمرَهُ رسولُ الله - ﷺ - أن ينثُرَهُ على الصدقاتِ، فلمزَهم المنافقونَ وقالوا: ما أَعْطَى عبدُ الرحمنِ وعاصمٌ إلا رياء، وإن اللهَ ورسولَه لَغَنِيَّانِ عن صاعِ أبي عقيلٍ، ولكنه أحبَّ أن يذكِّرَ بنفسه ليُعطى من الصدقاتِ، فنزلَتْ:
﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾ (٢) بضمِّ الجيم: طاقَتَهم، وبالفتح:
(١) انظر: القراءة عند تفسير الآية (٥٨) من هذه السورة.
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٤٤)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٠٩)، و "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٢/ ٨٩)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٤/ ٢٤٩).
المشقةَ، والتلاوةُ بالأول، والمرادُ بالمطَّوعين: عبدُ الرحمنِ وعاصمٌ، والذين لا يجدون إلا جهدَهم: أبو عقيلٍ.
﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ يستهزئون بهم.
﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ جازاهُم على سُخريتِهم.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ على كفرهم.
* * *
﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ لفظهُ أمرٌ، ومعناهُ خبرٌ، تقديُره: استغفرْتَ لهم أم لم تستغفْر لهم لنْ يغفرَ اللهُ لهم.
﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ وذكرَ عدَد السبعين قَطْعًا لأطماعِهم عن المغفرةِ على عادةِ العربِ، لأنها عندَهم مَثَلٌ لغايةِ الاستقصاء في العدد، فلما نزلَتْ، قالَ - ﷺ -: "إِنَّ اللهَ قد رَخَّصَ لِي، فَلأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِيَن لَعَلَّ اللهَ أنْ يَغْفِرَ لَهُمْ"، فأنزل الله على رسوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ (١).
(١) رواه البخاري (٤٣٩٣)، كتاب: التفسير، باب: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾، ومسلم (٢٤٠٠)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر -رضي الله عنه-، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ المتمرِّدينَ في كفرهم.
* * *
﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ﴾ المتروكون عن غزوةِ تبوكَ.
﴿بِمَقْعَدِهِمْ﴾ بقعودهم ﴿خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ أي: من بعدِه.
﴿وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وكراهتُهم لما ذكر هي شحٌّ؛ إذ لا يؤمنونَ بالثوابِ في سبيلِ الله.
﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ أي: الجهاد؛ لأن غزوةَ تبوكَ كانت في أشدِّ الحرِّ.
﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾ من غزوة تبوكَ ﴿لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ أي: يعلمون، وكذلك هو في مصحفِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ.
* * *
﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)﴾.
[٨٢] ثم قالَ تهديدًا بصيغةِ الأمر: ﴿فَلْيَضْحَكُوا﴾ في الدنيا ﴿قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا﴾ في الآخرة.
﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ نصٌّ في أنَّ التكسُّبَ هو الذي يتعلَّقُ به الثوابُ والعقاب.
﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ﴾ رَدَّكَ يا محمدُ من غزوتك هذهِ.
﴿إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ﴾ يعني: من المخلَّفين، وإنما قال: طائفةٍ منهم؛ لأنه ليس كلُّ من تخلَّف عن غزوةِ تبوكَ كانَ منافقًا.
﴿فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ﴾ معكَ إلى غزوةٍ أخرى.
﴿فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا﴾ في سَفْرَةٍ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (مَعِي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (١).
﴿وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا﴾ قراءةُ العامةِ: (معي) بإسكانِ الياءِ في هذا الحرف، وقرأ حفصٌ عن عاصمٍ: بفتح الياء (٢).
﴿إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ في غزوةِ تبوكَ ﴿فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ أي: المتخلفين من النساءِ والصبيانِ وأهلِ الأعذار.
* * *
﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤)﴾.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٣).
(٢) المصادر السابقة.
[٨٤] ولما حضرَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيّ ابنَ سلولَ المنافقَ الموتُ، بعثَ إلى رسولِ اللهِ - ﷺ -، فدخلَ عليه، فقال: "أَهْلَكَكَ حُبُّ اليهود"، فقالَ: لم أبعثْ إليكَ لتؤنِّبني، بلْ لتستغفرَ لي، وطلبَ منه أن يُكَفِّنَهُ بثوبهِ الذي يلي جسدَه، فكَفَّنه - ﷺ - دفعًا لِمِنَّتِهِ؛ لأنه كانَ قد كسا العباسَ لما أُسِرَ يومَ بدرٍ قَميصًا؛ لأنه لم يكنْ بقدرِه قميصٌ سِوى ثوبِ ابنِ أُبَيٍّ، وصلَّى عليه، فَكُلِّمَ - ﷺ - في ذلك، فقالَ: "وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي وَصَلاَتي مِنَ الله؟ واللهِ إِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أنْ يُسْلِمَ بِهِ أَلْفُ رَجُلٍ لِمَا يَرَوْنَ مِن تَبَرُّكِهِ"، فَرُوي أنه أسلمَ ألفٌ من قومِه لما رأوه يتبرَّكُ بقميصِ النبيِّ - ﷺ -، فنزلَ:
﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا﴾ (١) لا تقفْ عليهِ للدفن، و (مَاتَ) ماضيًا معناه الاستقبالُ؛ لأنه كائنٌ لا محالةَ.
﴿إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ فما صلَّى رسولُ اللهِ - ﷺ - بعدَها على منافقٍ، ولا قامَ على قبرهِ حتى قُبِضَ.
* * *
﴿وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ الخطابُ للنبيِّ - ﷺ -، والمرادُ: أُمَّتُهُ، إذ هو بإجماعٍ مِمَّنْ لا تفتنهُ زخارفُ الدنيا، ووجهُ تكريِرها تأكيدُ هذا المعنى، وأيضًا لأنَّ الناسَ كانوا يُفتنون بصلاحِ حالِ المنافقين في دنياهم.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣١٢ - ٣١٣)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٢/ ٩٣)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٤/ ٢٥٩).
﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ﴾ ذو الغِنى والسَّعَة ﴿وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ الزَّمْنى وأهلِ العذرِ.
* * *
﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧)﴾.
[٨٧] ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ النساءِ، جمعُ خالفَةٍ.
﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ ما في الجهادِ وموافقةِ الرسولِ من السعادة، وما في التخلُّف عنه من الشقاوة.
* * *
﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨﴾.
[٨٨] ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ أي: إن تخلَّفَ هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهدَ مَنْ هو خيرٌ منهم.
﴿وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ﴾ منافعُ الدارينِ: الغنيمةُ (١) في الدنيا، والجنةُ في الآخرةِ.
(١) في "ت": "القيمة".
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزونَ بالمطالبِ.
* * *
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ بيان لما لهم من الخيراتِ الأُخرويَّةِ.
* * *
﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾ قراءة العامة: بفتح العين وتشديدِ الذال؛ أي: الآتونَ بصورةِ العذرِ ولا عذرَ لهم، وقرأ يعقوبُ: بإسكان العين وتخفيف الذال؛ يعني: الذين أتوا بالعذر، وبالغوا فيه (١)، وهم قوم ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾ استأذنوا في التخلُّفِ متعذرين بالجهدِ وكثرةِ العيال، قال ابنُ عباسٍ وقومٌ معه منهم مجاهدٌ: كانوا مؤمنين، وكانت أعذارهم صادقةً، وقالَ قَتادةُ وفرقةٌ معه: بل هم قومٌ كفرةٌ، وقولهُم وعذرُهم كذبٌ (٢).
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣١٤)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٠)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٣٥).
(٢) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (٦/ ١٨٦٠)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٤/ ٢٦٠).
﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَه﴾ يعني: المنافقين، كذبوا اللهَ ورسولَه في ادِّعاءِ الإيمان، ولم يجيئوا، ولم يعتذروا.
﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ﴾ من الأعرابِ.
﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الدنيا بالقتلِ، وفي الآخرةِ بالنارِ.
* * *
﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١)﴾.
[٩١] ثم عذرَ الله تعالى ذوي الأعذارِ فقال: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ﴾ الهَرْمَى والزَّمْنَى.
﴿وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ﴾ لفقرِهم.
﴿حَرَجٌ﴾ إثمٌ ﴿إِذَا نَصَحُوا﴾ أخلصوا ﴿لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ بالإيمانِ والطاعةِ.
﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ في إيمانِهم ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾ طريقِ عتابٍ ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لهم.
* * *
﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)﴾.
[٩٢] ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ معكَ إلى الغزوِ.
﴿قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ المعنى: لا سبيلَ على الأَوَّلِين، ولا على هؤلاءِ، وهم الذين أتوكَ، وهم سبعةُ نفرٍ سُمُّوا البَكَّائِينَ: مَعْقِلُ بنُ يَسارٍ، وصخرُ بنُ خنساء، وعبدُ اللهِ بن كعبٍ الأنصاريُّ، وعليَّةُ بنُ زيدٍ الأنصاريُّ، وسالمُ بنُ عُمَيْرٍ، وثعلبةُ بنُ غنمةَ، وعبدُ اللهِ بنُ مُغَفَّلٍ المزنيُّ، أتوا رسولَ الله - ﷺ - فقالوا: يا رسولَ اللهِ! إنَّ اللهَ قد ندبَنا للخروجِ، فاحملْنا على الخفافِ المرقوعةِ والنعالِ المخصوفة نغزو معكَ، فقالَ: "لاَ أَجِدُ"، فتولَّوا وهم يَبْكون، فذلك قولُه:
﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ﴾ (١) تسيلُ.
﴿مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ في الجهادِ، تلخيصه: ليسَ إلى عقوبةِ هؤلاءِ سبيلٌ.
* * *
﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٩٣)﴾.
[٩٣] ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ﴾ بالمعاتبةِ.
﴿عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ﴾ واجِدُونَ الأُهْبَةَ.
﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ النساءِ والصبيانِ.
﴿وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ تقدمَ تفسيرُ نظيرِ هذهِ الآية قريبًا.
* * *
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣١٥).
﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)﴾.
[٩٤] ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ﴾ في التخلُّفِ.
﴿إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ من هذهِ السَّفْرَةِ.
﴿قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا﴾ بالمعاذيرِ الكاذبةِ؛ لأنه (١):
﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾ لن نصدِّقكم؛ لأنَّه ﴿قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾ وهو ما في ضميرِكم بالوحيِ إلى نبيِّهِ.
﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ أَتُنيبونَ أم تّثْبتونَ على كفرِكُم.
﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ المطَّلِعِ عليكم.
﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بالتوبيخِ والعقابِ عليه.
* * *
﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)﴾.
[٩٥] ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ إذا انصرَفْتُم من غزوِكم.
(١) "لأنه" ساقطة من "ت".
﴿لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ لتصفَحوا، فلا تعاتبوهم.
﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ ولا تُوَبِّخوهم.
﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ نجسٌ لا ينفعُ فيهم التأنيبُ.
﴿وَمَأْوَاهُمْ﴾ في الآخرةِ ﴿جَهَنَّمُ﴾ فَتكفيهم عِتابًا ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
* * *
﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩٦)﴾.
[٩٦] حلفَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ أَلَّا يتخلَّفَ عن رسولِ الله - ﷺ - بعدَ ذلك، وطلبَ أن يرضى عنه، فنزلَ: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾ (١) بحلفِهم.
﴿فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ أي: فإنَّ رضاكم لا يستلزمُ رضا اللهِ، ورضاكم وحدَكُم لا ينفعُهم إِذا كانوا في سخطِ الله وبصدَدِ عقابِه.
* * *
﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿الْأَعْرَابُ﴾ أهلُ البدو ﴿أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا﴾ من أهل الحضر؛ لتوحُّشِهم، وعدمِ مخالطتِهم لأهلِ العلمِ، وبعدِهم عن سماعِ القرآنِ ومعرفةِ السُّنَن.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣١٦ - ٣١٧).
﴿وَأَجْدَرُ﴾ أحقُّ ﴿أَلَّا﴾ أي: بأن لا ﴿يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ من الشرائعِ.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بما في قلوبِ خلقِه ﴿حَكِيمٌ﴾ بما يصيبُ به مسيئَهم ومحسنَهم عقابًا وثوابًا.
وأما إمامةُ الأعرابيِّ للحضريِّين، فهي جائزةٌ بالاتفاقِ إذا أقامَ حدودَ الصلاة، إلا أن أبا حنيفةَ يكرهُ تقديمَهُ على غيره، ومالكٌ يكرَهُ إمامَتَهُ، وإن كانَ أقرأَهم.
واختلفوا في شهادةِ البدويِّ على القَرَويِّ، فقال مالكٌ: لا تُقبل في الحضرِ؛ لما في ذلك من تحقُّقِ التهمةِ، وأجازهَا في السفرِ في المالِ وغيرِه؛ لعدم الرِّيبةِ، وقالَ الثلاثةُ: تقبل مطلقًا إذا كانَ عدلًا مَرْضِيًّا.
* * *
﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)﴾.
[٩٨] ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا﴾ غرامةً، فلا يرجو على إعطائِه ثوابًا، إنما يعطي خوفًا ورياءً.
﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾ دولَ الزمانِ وما يدورُ من آفاتِه لينقلبَ الأمرُ عليكم، ويظهرَ المشركونَ.
﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ عليهم يدورُ البلاءُ والحزنُ، ولا يرونَ في محمدٍ ودينه إلا ما يسوؤهم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (السُّوءِ) بضمِّ السين؛
يعني: الضررَ والبلاءَ، وقرأ الباقون: بالفتح؛ يعني: الفسادَ (١).
﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لما يقولون ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يُضْمِرون، نزلَتْ في أعرابِ أسدٍ وغَطَفانَ وتميمٍ.
* * *
﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)﴾.
[٩٩] ثم استثنى فقال: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ هم بنو مُقَرِّنٍ من مُزينةَ، وغفارٍ وجُهينةَ.
﴿وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ﴾ جمعُ قُرْبَةٍ ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: يطلبُ القربةَ إلى اللهِ.
﴿وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾ أدعيتَه؛ أي: يرغبونَ في دعاءِ النبيِّ - ﷺ -.
﴿ألَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ﴾ شهادةٌ من اللهِ لصحَّةِ مُعْتَقَدِهم، وتصديقٌ لرجائِهم. قرأ ورشٌ عن نافعٍ: (قُرُبَةٌ) بضمِّ الراء، والباقون بسكونها (٢)، والقربةُ: ما يتقرَّبُ بهِ العبدُ إلى الله تعالى من صومٍ أو صدقةٍ أو غيرِهما؛ كبناءِ المساجدِ ونحوِها.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣١٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦ - ٣٧).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣١٨)، و "معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٧ - ٣٨).
﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ وعدٌ لهم بإحاطةِ الرحمةِ عليهم، والسينُ لتحقيقِه، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لتقديرِهِ.
* * *
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ﴾ الذين صَلَّوا إلى القبلتينِ، وهم الذين هَجَروا قومَهم، وفارقوا أوطانَهم.
﴿وَالْأَنْصَارِ﴾ أهلِ بيعةِ العقبةِ الأولى وكانوا سبعةً، وأهلِ بيعةِ العقبةِ الثانيةِ وكانوا سبعين، والذين آمنوا حينَ قدمَ عليهم أَبو زُرارةَ مصعبُ بنُ عُميرٍ يعلِّمُهم القرآنَ، فأسلمَ معه خلقٌ كثيرٌ وجماعةٌ من النساءِ والصِّبيانِ.
قرأ يعقوبُ: (وَالأَنْصَارُ) برفع (١) الراءِ عطفًا على قولِهِ: (وَالسَّابِقُونَ) (٢)، والأنصارُ: همُ الذين نَصَروا رسولَ الله - ﷺ - على أعدائِه، وآوَوْا أصحابَهُ.
﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ هم بقيةُ المهاجرينَ والأنصارِ، أو مَن استنَّ بهم إلى يومِ القيامة.
﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ لطاعتِهم ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ لإفاضَتِهِ عليهِمُ الخيرَ.
﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ﴾ قرأ ابنُ كثير: (مِنْ تَحْتَهَا)
(١) في "ش": "بضم".
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٣١٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨).
233
بزيادةِ كلمة (مِنْ)، وخفضِ: (تَحْتِهَا)، وكذلكَ هي في المصاحفِ المكية، وقرأ الباقونَ بحذفِ لفظةِ (من)، وكذلك هي في مصاحِفهم، واتفقوا على إثبات (من) قبلَ (تَحْتَهَا) في سائرِ القرآنِ (١)، قال ابنُ الجزريِّ في "النَّشْرِ": ويحتملُ أنه إنما لم يكتبْ (من) في هذا الموضع؛ لأن المعنى: ينبعُ الماءُ من تحتِ أشجارِها، لا أَنه يأتي من موضِعٍ ويجري تحتِ هذهِ الأشجارِ، فلاختلافِ المعنى خُولف في الخطِّ، وتكون هذه الجناتُ معدَّةً لمن ذُكر تعظيمًا لأمرِهم، وتنويهًا بفضلِهم، وإظهارًا لمنزلتهم لمبادرتهم لتصديقِ هذا النبيِّ الكريمِ عليهِ من اللهِ تعالى أفضلُ الصَّلاةِ وأكملُ التسليمِ، ولمن تبعَهم بالإحسانِ والتكريمِ، والله أعلمُ، انتهى.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ ومعنى هذهِ الآيةِ الحكمُ بالرضا عنهم بإدخالِهم الجنةَ، وغفرِ ذنوبهِم، والحكمُ برضاهم عنهُ في شكرِهم وحمدِهم على نعمِه، جعلَنا اللهُ منهم برحمتِه.
واختلِفَ في أولِ مَنْ آمنَ برسولِ الله - ﷺ - بعدَ امرأتِه خديجةَ رضي الله عنها، مع اتفاقِهم على أنها أولُ من آمنَ به، فقيل: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وهو ابنُ عشرِ سنينَ، وقيلَ: أبو بكرٍ، وقيل: زيدُ بنُ حارثةَ، وكان إِسحقُ بنُ إبراهيمَ الحنظليُّ يجمعُ بينَ هذهِ الأخبارِ فيقولُ: أولُ مَنْ أسلمَ من الرجالِ أبو بكرٍ الصديقُ، ومن النساءِ خديجةُ، ومن الصبيانِ عليٌّ، ومن العبيدِ زيدُ بنُ حارثةَ رضي الله عنهم أجمعين.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨ - ٣٩).
234
وأكبرُ التابِعينَ: الفقهاءُ السبعةُ من أهلِ المدينة، وهم: عُبيدُ اللهِ بن عتبةَ بنِ مسعودٍ، وهو ابنُ أخي عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ الصحابيِّ، وعروةُ بنُ الزبيرِ بنِ العوامِ أخو عبدِ الله بنِ الزبيرِ الذي تولَّى الخلافةَ، وقاسمُ بنُ محمدِ بنِ أبي بكرٍ الصديقِ، وكانَ من أفضلِ أهلِ زمانه، وسعيدُ بنُ المسيِّبِ القرشيُّ، قالَ عنهُ الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه: إنه أفضلُ التابعينَ، وسليمانُ بنُ سلمةَ، وأبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ الحارثِ المخزوميُّ القرشيُّ، وخارجةُ بنُ زيدِ بنِ ثابتٍ الأنصاريُّ، وأبوه زيدُ بنُ ثابتٍ من أكابرِ الصحابةِ، وهؤلاءِ السبعةُ هم الذين انتشرَ عنهمُ الفقهُ والفُتْيا، وقد نظمَ بعضُ الفضلاءِ أسماءهم في بيتٍ واحدٍ فقال:
فَأَصْبحَ نهبي وَنْهب الْعُبَيْـ ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَة وَالأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ أمْرِئٍ مِنهُما وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَمْ يُرْفَعِ
أَلاَ كُلُّ مَنْ لاَ يَقْتَدِي بِأَئِمَّةٍ فَقِسْمَتُهُ ضِيزَى عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ
فَخُذْهُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ سَعِيدٌ سُلَيْمَان أَبُو بَكْرٍ خَارِجَهْ
* * *
﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (١٠١)﴾.
[١٠١] قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ﴾ أي: حولَ بلدِكم، وهي المدينةُ ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ﴾ وهم مُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ، وأَشْجَعُ وأَسْلَمُ، وَغِفارٌ كانوا نازلينَ حولَ المدينة.
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾ قومٌ منافقون ﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ مَرَنوا وتَمَهَّروا فيه، وهم من الأوسِ والخزرجِ ﴿لَا تَعْلَمُهُمْ﴾ أنتَ يا محمدُ.
﴿نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ الأُولى: فضْيحَتُهم في الدنيا؛ لأنه - ﷺ - قامَ يومَ جمعةٍ خطيبًا فقال: "اخْرُجْ يَا فُلاَنُ وَيَا فُلاَنُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ"، فأخرجَ جماعةً من المسجد (١)، الثانية: عذابُهم في الآخرةِ، وقيل: هما القتلُ وعذابُ القبرِ.
﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيِمِ﴾ بأن يخلَّدوا في جهنمَ.
* * *
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿وَآخَرُونَ﴾ مبتدأٌ ﴿اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ صفتُه، وخبرُه:
﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا﴾ وهو إقرارُهم وتوبتُهم.
﴿وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ هو تخلُّفُهم، وضعَ الواوَ موضعَ الباءِ كما يقالُ: خلطتُ الماءَ واللبنَ؛ أي: باللبنِ.
﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ يقبلَ توبتهم ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يتجاوزُ عن التائب.
* * *
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] فجاؤوا النبيَّ - ﷺ - وقالوا: خذْ أموالَنا التي تخلَّفْنا عنكَ بسببِها،
(١) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (٧٩٢)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٢/ ٩٦ - ٩٧).
فتصدَّقْ ما، واستغفرْ لنا فقال: "لَمْ أُؤْمَرْ بِذَلِكَ" فأنزلَ اللهُ تعالى:
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ (١) من ذنوبهِم.
﴿وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ أي: تنمِّي حسناتِهم، وترفَعُهم من منازلِ المنافقينَ إلى منازلِ المخلِصين.
﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ أي: ادعُ لهم واستغفرْ.
﴿إِنَّ صَلَاتَكَ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (إِنَّ صَلاَتَكَ) على التوحيد، وفتحِ التاءِ، والباقون: بالجمعِ وكسرِ التاء (٢) ﴿سَكَنٌ لَهُمْ﴾ طُمَأْنينةٌ ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لاعترافِهم ﴿عَلِيمٌ﴾ بندامَتِهم.
* * *
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] فلما نزلتْ توبةُ هؤلاءِ، قال الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمسِ لا يُكَلَّمون ولا يُجالَسون، فما لهم؟! فقال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ إذا صحَّتْ.
﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ أي: يقبلُها ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ وأنَّ من شأنِه قبولَ توبةِ التائبينَ، قالَ - ﷺ -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! مَا مِنْ عَبْدٍ يَتَصَدَّقُ
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢١)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٢/ ٩٧).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٩ - ٤٠).
237
بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا طَيِّبًا، وَلاَ يَصْعَدُ إِلىَ السَّمَاءِ إِلَّا طَيِّبٌ، إِلَّا كَأَنَّمَا يَضَعُهَا فِي يَدِ الرَّحْمَنِ، فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامةِ وَإِنَّهَا مِثْلُ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ" (١) قال البغويُّ رحمه الله في "شرح السنة": كلُّ ما جاء به الكتابُ والسنَّةُ من هذا القَبيلِ من صفاتِ الباري تعالى؛ كالنَفْسِ والوجهِ واليدِ والرِّجْلِ، والإتيانِ والمجيءِ والنزولِ إِلى السَّماءِ الدنيا، والاستواءِ على العرشِ، والضحكِ والفرحِ، فهذه ونظائرُها صفاتُ الله تعالى وردَ. ما (٢) الشرعُ يجبُ الإيمانُ ما وإمرارُها على ظاهرِها مُعْرِضًا فيها عن التأويلِ، مُجْتَنبًا عن التشبيهٍ، مُعْتَقِدًا أن الباريَ لا يشبهُ شيءٌ من صفاتِه صفاتِ الخَلْقِ، كما لا تُشبهُ ذاتُه ذاتَ الخلقِ، قالَ الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] وعلى هذا مضى سلفُ الأمةِ وعلماءُ السنَّة، تَلَقَّوها جميعَها بالإيمانِ والقبولِ، وتجنَّبوا فيها من التمثيلِ والتأويلِ، ووَكَلُوا العلمَ فيها إلى اللهِ تعالى كما أخبرَ عن الراسخينَ في العلمِ فقال: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧] انتهى (٣).
* * *
(١) رواه البخاري (١٣٤٤)، كتاب: الزكاة، باب: لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا يقبل إلا من كسب طيب، ومسلم (١٠١٤)، كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(٢) في "ت": "به".
(٣) انظر: "شرح السنة" للبغوي (١/ ١٦٨).
238
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾ ما شئتُمْ ﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ فإنَّه لا يخفى على اللهِ، خيرًا كانَ أو شرًّا.
﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بالمجازاةِ عليه.
* * *
﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)﴾.
[١٠٦] ﴿وَآخَرُونَ﴾ من المتخلِّفينَ التائبينَ ﴿مُرْجَوْنَ﴾ مُؤَخَّرون.
﴿لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ فيهم بما يشاءُ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (مُرْجَؤُونَ) بالهمز، والباقون: بالواو بغير همز (١)، والمرجَؤُون هم الثلاثةُ الذين تأتي قصَّتُهم، وهم كعبُ بنُ مالكٍ، وهلالُ بنُ أميةَ، ومرارةُ بنُ الربيع، لم يبالِغوا في التوبةِ والاعتذار كما فعلَ أبو لُبابةَ، فتوقَّفَ رسولُ الله - ﷺ - في توبَتِهم.
﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُم﴾ إنْ لم يتوبوا ﴿وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ إنْ تابوا.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤١).
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ فيما يفعلُ بهم، فنزلتْ توبتُهم بعدَ خمسينَ ليلةً.
* * *
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرو: (الَّذيِنَ) بغيرِ واوٍ قبلَ الذين، وكذلكَ هو في مصاحِفهم، والباقون: بالواو.
﴿مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾ أي: مضارَّةً، نزلتْ في جماعةٍ من المنافقين بَنَوا مسجِدًا يضارُّونَ به مسجدَ قُباء، وكانوا اثني عشرَ رجلًا، فعلوا ذلكَ مضارَّة للمؤمنين.
﴿كُفْرًا﴾ باللهِ ورسولهِ.
﴿وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين كانوا يجتمعونَ للصلاةِ في مسجدِ قُباء، فلما فرغوا، أتوا الرسولَ - ﷺ - وهو يتجهَّزُ إلى تبوكَ، وقالوا: يا رسولَ الله! إنا قد بنينا مسجِدًا لذي العِلَّةِ والحاجَةِ والليلةِ المَطِيَرةِ، وإنَّا نحبُّ أن تأتيَنا وتصلِّي لنا فيه، وتدعوَ بالبركة، فقالَ رسولُ الله - ﷺ -: "إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، وإِنْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللهُ صَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ"، وكان أبو عامرٍ الراهبُ رَجُلًا منهم قد تنَصَّرَ في الجاهليةِ، وتَرَهَّبَ، ولم يزلْ يقاتلُ النبيَّ - ﷺ - حتى هُزِمَ يومَ حُنين، وسماهُ: أبا عامرٍ الفاسقَ، كان قال لهم:
ابنوا مسجدًا، فإني ذاهبٌ إلى قيصرَ، فآتي بجنودٍ فأُخرجُ محمدًا وأصحابَه من المدينة، فهذا معنى قوله تعالى:
﴿وَإِرْصَادًا﴾ (١) أي: إعدادًا.
﴿لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أي: لأجلِ هذا المنافقِ الذي حاربَ.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبلِ بناءِ مسجدِ الضِّرارِ إلى جنبِ مسجدِ قُباء، ولما خرجَ إلى الشامِ ليأتيَ من قَيْصَرٍ بجنودٍ يحاربُ بهم رسولَ الله - ﷺ -، هَلَكَ بِقِنَّسْرينَ طَريدًا وحيدًا.
﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا﴾ أي: ما أردْنا ﴿إِلَّا﴾ الفعلَةَ ﴿الْحُسْنَى﴾ ببناءِ هذا المسجد، وهي الرفقُ بالمسكينِ والضعيفِ في الليلةِ الشاتيةِ وشدَّةِ الحرِّ، والسَّعَة على المسلمينَ.
﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في حلفِهم.
* * *
﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] فلما خرجَ - ﷺ - إلى تبوكَ، سألوهُ إتيانَ مسجدِهم ليصلِّي فيهِ، فنزلَ: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ لا تصلِّ في مسجدِ الضِّرارِ، وأُخبر بحالِهم فأرسل وَحْشِيًّا بجماعةٍ، فحرقوهُ وهدموهُ، وتفرَّقَ أهلُه فجُعل مكانَه كُناسةٌ تُلْقى فيها (٢) الجِيَفُ.
(١) انظر: "تفسير ابن كثير" (٢/ ٣٨٩)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٢/ ١٠٠)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٤/ ٢٨٦).
(٢) في "ظ": "فيه".
﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ﴾ أي: بني أصلُه ﴿عَلَى التَّقْوَى﴾ واللامُ للابتداء.
﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ وُضِع أساسُه.
﴿أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ مصلِّيًّا، خبرُ الابتداء، والمسجدُ المؤَسَّسُ على التقوى هو مسجدُ رسولِ الله - ﷺ -، وردَ بهِ الحديثُ عنه عليه السلام، وقيل: مسجدُ قُباء؛ لأنه - ﷺ - أَسَّسَه وصلَّى فيهِ أيامَ مُقامِه بقُباء من الاثنينِ إلى الجمعةِ.
﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ بالتوبةِ من المعاصي، وقيلَ: بالماءِ من الأحداث.
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ يَرْضَى عنهم.
* * *
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ: (أُسِّسَ) بضم الهمزة وكسر السين (بُنْيَانُهُ) رفعٌ فيه جميعًا على غير تسميةِ الفاعلِ، والباقون بفتح الهمزةِ والسينِ والنونِ على تسميةِ الفاعلِ (١)، والمرادُ: قواعدُ البنيانِ.
﴿عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ﴾ أي: على طلب التقوى، ورضا الله.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٢).
242
﴿خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ﴾ طرفِ وادٍ مُنْحفِرٍ أصلهُ بالماء.
قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (جُرْفٍ) ساكنة الراء، والباقون: بضم الراء، وهما لغتان (١).
﴿هَارٍ﴾ أي: أشرفَ على السقوط. قرأ أبو عمرو، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (هَارِ) بالإمالة، واختلِفَ عن قالونَ وابنِ ذكوانَ، ورُوي عن يعقوبَ، وقنبلٍ الوقفُ بالياءِ على (هَارِي) (٢).
﴿فَانْهَارَ بِهِ﴾ أي: سقطَ بالباني.
﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ يريدُ: بناءُ هَذا المسجدِ الضِّرارِ كالبناءِ على شفيرِ جهنَّمَ يتهوَّرُ بأهلِها فيها.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ إلى ما فيه نجاتُهم، المعنى: أفمنْ أَسَّسَ دينَه على أثبتِ القواعدِ، وهو الإيمانُ خيرٌ، أم مَنْ أَسَّسه على أضعفِ القواعدِ، وهو الكفرُ، فيسقطُ صاحبُه في النار؟ ورُوي أنه حُفِرَتْ بقعةٌ في مسجدِ الضرار، فرئي الدخانُ يخرجُ منها (٣).
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٣).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٥٥ - ٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٣ - ٤٤).
(٣) رواه الطبري في "تفسيره" (١١/ ٣٢)، عن قتادة.
243
﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)﴾.
[١١٠] ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ﴾ يعني: المنافقينَ البانينَ للمسجدِ، ومَنْ شركَهم في غرضِهم، وقوله: ﴿الَّذِي بَنَوْا﴾ تأكيدٌ وتصريحٌ بأمرِ المسجدِ ورفع الإشكالِ.
﴿رِيبَةً﴾ شَكًّا ونفاقًا ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يحسبون أنهم كانوا في بنائِه مُحسنينَ، ولما هدمَهُ - ﷺ -، ازدادوا تصميمًا على النفاقِ.
﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أي: لا تفارقُهم الريبةُ حتى تُقَطَّعَ قلوبُهم بحيثُ لا يبقى لها قابليةُ الإدراكِ والإضمار. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلفٌ: (إلا) بتشديدِ اللامِ على أنه حرفُ استثناء (تُقَطَّعَ) بضم التاءِ وبناءِ الفعل للمفعول، وقرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وعاصمٌ بروايةِ حفصٍ، وأبو جعفرٍ: (إلا) بالتشديد كما تقدَّم (تَقَطَّعَ) بفتحِ التاء؛ أي: تتقطع، وقرأ يعقوبُ: (إِلىَ) بتخفيفِ اللام، فجعلَه حرفَ جر (تَقَطَّعَ) بفتح التاء كابنِ عامرٍ ومَنْ وافقَهُ، ورُوي عنه أيضًا: بضمِّ التاءِ خفيف من القطع (١).
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بنيَّاتِهم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما أَمَرَ بهدمِ بنائهم.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٤ - ٤٥).
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)﴾.
[١١١] ولما بايعَ رسولُ الله - ﷺ - الأنصارَ ليلةَ العقبةِ أن يعبدوا اللهَ، ولا يُشركوا به شيئًا، وأن يمنعوه ما يمنعونَ منه أنفسَهم وأموالَهم، ولهم إن وفَوا بذلك الجنةُ، فقبلوا وقالوا: لا نقيلُ ولا نستقيلُ، نزل:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (١) قرأ حمزة، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَيُقْتَلُونَ) بتقديِم المفعولِ على الفاعلِ على معنى قُتِلَ بعضُهم، وقاتلَ الباقون منهم، وقرأ الآخرونَ بتقديمِ الفاعل (٢).
﴿وَعْدًا عَلَيْهِ﴾ مصدرٌ مؤكِّدٌ ﴿حَقًّا﴾ صفتُه، المعنى ما وُعِدوا به حقٌّ ثابت ﴿فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ فيه دليلٌ على أن الجهادَ كان في شريعةِ مَنْ تقدَّمنا.
﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ استفهامٌ على جهةِ التقرير؛ أي: لا أحدَ أوفى بعهدِهِ من الله.
(١) انظر: "تفسير الطبري" (١١/ ٣٥)، و "تفسير ابن أبي حاتم" (٦/ ١٨٨٦)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٤٨).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٢)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٦ - ٤٧).
﴿فَاسْتَبْشِرُوا﴾ فافْرَحوا ﴿بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ فإنه أوجبَ لكم عظائمَ المطالب ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ أي: إنه الحصولُ على الحظِّ الأغبط.
* * *
﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)﴾.
[١١٢] ﴿التَّائِبُونَ﴾ رفعٌ على المدحِ؛ أي: هم التائبون، والمرادُ بهم: المؤمنونَ المذكورون الذين تابوا من الشرك.
﴿الْعَابِدُونَ﴾ المخلِصونَ العبادةَ للهِ تعالى.
﴿الْحَامِدُونَ﴾ في السَّراءِ والضَّراءَ.
﴿السَّائِحُونَ﴾ الصائِمونَ؛ سُمُّوا بذلك لتركِهم اللذاتِ؛ المطعمَ والمشربَ والمنكحَ، في الحديثِ: "سِيَاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ" (١).
﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾ في الصلاةِ.
﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الإيمانِ.
﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الشركِ، وتقدَّمَ تفسيرُ المعروفِ والمنكرِ في السورةِ.
﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ القائمونَ بأوامره.
﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: هؤلاء الموصوفينَ بتلكَ الفضائل.
(١) قال المناوي في "الفتح السماوي" (٢/ ٧٠٥): لم أقف عليه.
﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣)﴾.
[١١٣] رُوي أن أبا طالبٍ لما حضرَتْهُ الوفاةُ، جاءَهُ رسولُ الله - ﷺ -، فوجدَ عندَه أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أميةَ بنِ المغيرةِ، فقال: "أَيْ عَمِّ قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ"، فقالَ أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أميةَ: أَتَرْغَبُ عن ملَّةِ عبدِ المطَّلب؟! فلم يزلْ رسولُ اللهِ - ﷺ - يعرضُها عليه، ويعيدانِه بتلكَ المقالةِ حتى قالَ أبو طالبٍ آخرَ ما كلَّمَهُمْ: هو على ملَّةِ عبدِ المطلبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، قالَ رسولُ اللهِ - ﷺ -: "وَاللهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ"، فأنزلَ الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معه (١).
﴿أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ (٢) بأنْ ماتوا كفار.
* * *
﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)﴾.
[١١٤] ثم بينَ عذرَ إبراهيمَ في الاستغفارِ لأبيهِ فقال: {وَمَا كَانَ
(١) "معه" زيادة من "ت".
(٢) رواه البخاري (١٢٩٤)، كتاب: الجنائز، باب: إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، ومسلم (٢٤)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه.
اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ} قرأ هشامٌ عن ابنِ عامرٍ: (أَبْرَاهَامَ) بالألفِ (١).
﴿لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾ بقوله: ﴿لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة: ٤] لأطلبنَّ مغفرتَكَ بالتوفيقِ للإيمانِ.
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ﴾ أي: ظهرَ لإبراهيمَ بطريقِ الوحيِ أن آزرَ.
﴿عَدُوٌّ لِلَّهِ﴾ لموتِه على الكفرِ ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ أضربَ عن الاستغفارِ لأبيه في الدنيا.
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ﴾ مُتَأَوِّهٌ تضرُّعًا ﴿حَلِيمٌ﴾ صفوحٌ عَمَّنْ نالَه بسوءٍ.
* * *
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)﴾.
[١١٥] ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا﴾ أي: ليسمِّيَهم ضُلَّالًا، ويؤاخذَهم مؤاخذَتَهم ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ للإسلامِ.
﴿حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ خطرَ ما يجبُ اتقاؤه، المعنى: ما كانَ ليحكمَ بضلالِ من استغفرَ للمشركينَ قبلَ النهيِ حتى يتبيَّنَ لهم ما يأتون، فإذا بَيَّنَ، ولم يأخذوا به بعدَ ذلكَ يستحقُّون الضلال.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فيعلمُ أمرَهم في الحالين.
* * *
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٥)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٨).
﴿إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير (١١٦)﴾.
[١١٦] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يحكمُ ما يشاء ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير﴾ تقدَّمَ تفسيُره في السورةِ.
* * *
﴿لَّقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١١٧)﴾.
[١١٧] ﴿لَّقَدْ تَابَ اللَّهُ﴾ أي: تجاوزَ وصفحَ.
﴿عَلَى النَّبِيِّ﴾ مِنْ إذنهِ للمنافقينَ في التخلُّف.
﴿وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ فيما ندموا على الخروج؛ لما قاسَوا. قرأ أبو جعفر: (العُسُرَةِ) بضمِّ السينِ، والباقون: بالإسكان (١)، والمرادُ: وقتَ العسرة، وليس المراد ساعةً بعينها، والمرادُ: الذين اتبعوه في غزوةِ تبوكَ، ويسمَّى جيشَ العسرةِ؛ لقلة الظَّهْر، كان العشرةُ يَعْتَقِبون على البعير الواحد، والزاد والماء وشدة الحر، حتى كادتْ أعناقُهم تنقطع عطشًا، ومنهم من نحرَ بعيرَه واعتصرَ ماءَ فرثِه، وجعلَ فرثَهُ: على صدرِه.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ﴾ همَّ ﴿يَزِيغُ﴾ تميلُ.
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٩).
﴿قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ﴾ عن الثباتِ على الإيمانِ، أو اتباع الرسول. قرأ حمزةُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يَزِيغُ) بالياء على التذكير، والباقون: بالتاء على التأنيث (١).
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ تكرير لتأكيدِ التوبة ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (رَؤُوفٌ) بالإشباعِ حيثُ وقعَ على وزن فَعُول، والباقونَ: بالاختلاسِ على وزن فَعُل (٢)، والرأفةُ: أشدُّ الرحمةِ.
* * *
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)﴾.
[١١٨] ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ عن غزوةِ تبوكَ هم: كعبُ بنُ مالكٍ الشاعرُ، ومُرارَةُ بنُ الرَّبيعِ، وهلالُ بنُ أميةَ، وملخَّصُ القِصَّةِ: أنَّ غزوةَ تبوكَ تسمَّى: غزوةَ العُسْرَةِ؛ لوقوعِها في زمنِ الحرِّ، والبلادُ مجدبةٌ، والناس في عسرةٍ، وكانت في السنةِ التاسعةِ من الهجرةِ، فأنفقَ أبو بكرٍ جميعَ مالِه، وأنفقَ عثمانُ نفقةً عظيمةً، وسارَ النبيُّ - ﷺ - إلى تبوكَ، واستخلَفَ عليًّا رضي الله عنه، فقال عليٌّ: أتخلفني في الصبيانِ
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٣٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٩).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٥)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٥٠).
250
والنساءِ؟! قالَ: "أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟! إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي" (١)، وتخلَّفَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ المنافقُ، ومن تبعَه منْ أهلِ النفاقِ، وتخلَّفَ ثلاثةٌ من الصحابة (٢)، وهم: كعبٌ ومرارةُ وهلالٌ، ولم يكن لهم عذرٌ، ثم رجعَ النبيُّ - ﷺ - إلى المدينة بعدَ أن قامَ بتبوكَ بضعَ عشرةَ ليلةً لم يجاوزْها، وكانَ إذا قدمَ من سفرٍ، بدأَ بالمسجدِ، فركعَ فيه ركعتينِ، ثم جلس للناسِ، فلما فعلَ ذلكَ، جاءه المخلَّفون، فطفِقوا يعتذرون إليه، ويحلفون، وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فقبلَ منهم رسولُ الله - ﷺ - علانيتَهم، وبايعَهم واستغفرَ لهم، ووَكَل سرائرَهم إلى الله، ثم جاءه كعبٌ، وكانَ تقدَّمَهُ مرارةُ وهلالٌ، فسألَهم عن سببِ تخلُّفِهم، فاعترفوا أن لا عذرَ لهم، فأمرَهُم بالمضيِّ حتى يقضيَ الله فيهم، ونهى النبيُّ - ﷺ - المسلمينَ عن كلامِهم من بينِ مَنْ تخلَّف عنهُ، فاجتنبَهم الناسُ، فلبثوا على ذلك خمسينَ ليلةً، قال كعبٌ: فبينا أنا أسير في سوقِ المدينة، إذا نبطيٌّ من أنباطِ الشامِ ممَّنْ قدمَ بالطعامِ يبيعُه بالمدينةِ يقولُ: مَنْ يدلُّ على كعبِ بنِ مالكٍ؟ فطفقَ الناسُ يُشيرونَ له إليَّ، حتى إذا جاءني، دفعَ إليَّ كتابًا من ملكِ غَسَّانَ، فإذا فيه: أَمَّا بعدُ: فإنه قد بلغَني أن صاحبكَ قد جفاكَ وأقصاكَ، ولستَ بدارِ هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحقْ بنا نُواسِكَ، فقلتُ: هذا أيضًا من البلاءِ والشرِّ، فسجرتُ التنورَ وأحرقْتُه، ولما مضت أربعونَ من الخمسين، أمرَهم
(١) رواه البخاري (٤١٥٤)، كتاب: المغازي، باب: غزوة تبوك، ومسلم (٢٤٠٤)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.
(٢) في "ش": "الأصحاب".
251
النبيُّ - ﷺ - باعتزالِ نسائِهم، وجاءت امرأةُ هلالٍ رسولَ اللهِ - ﷺ - تستأذنُه في خدمتِه، فأذنَ لها من غيرِ أن يَقْرَبَها، فلما كملَتْ لهم خمسونَ ليلةً من حين نَهى رسولُ الله - ﷺ - عن كلامِهم، آذَنَ رسولُ اللهِ - ﷺ - بتوبةِ اللهِ عليهم، وذهبَ الناسُ يبشرونهم، وجاء كعبٌ إلى النبيِّ - ﷺ -، فسلَّمَ عليه، فقال لهُ وهو يبرُق وجهُه من السرورِ: "أَبْشِرْ بِخَيْرٍ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ"، قالَ: أمنْ عندِكَ يا رسولَ الله، أمْ من عندِ الله؟ قالَ: "لاَ بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ"، وأنزل الله على رسوله عليه السلام:
﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ (١) أي: برَحْبِها وسَعَتِها.
﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ أي: قلوبُهم من فرطِ الوحشةِ والغمِّ. قرأ حمزة: (ضَاقَتْ) بالإمالة (٢).
﴿وَظَنُّوا﴾ أيقنوا.
﴿أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ﴾ من سَخَطِهِ ﴿إِلَّا إِلَيْهِ﴾ إلا إلى الاستغفارِه.
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ ليدوموا على التوبةِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ﴾ لمن تاب ﴿الرَّحِيمُ﴾ متفضلٌ عليهم بالنعم.
* * *
(١) روى قصة كعب بن مالك وصاحبيه: البخاري (٤١٥٦)، كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، ومسلم (٢٧٦٩)، كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٥٩)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٥١).
252
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)﴾.
[١١٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فيما لا يرضاهُ ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ الذين صَدَقوا في إيمانهم، وصدقوا اللهَ نيةً وقولًا وعملًا، قال كعبٌ: "فو اللهِ! ما أنعمَ اللهُ عليَّ نعمةً قَطُّ بعدَ إذ هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي لرسولِ الله - ﷺ - ألَّا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا؛ فإنَّ اللهَ قالَ للذين كذَبوا حينَ أنزلَ الوحيَ شَرَّ ما قالَ لأحدٍ، فقال تبارك وتعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾.
* * *
﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)﴾.
[١٢٠] ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ نهيٌ عُبِّرَ عنه بصيغةِ النفيِ للتأكيدِ.
﴿أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾ - ﷺ - إذا غَزا ﴿وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ أي: لا يصونوا أنفسَهم عَمَّا يصيبُ نفسَه.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ﴾ في سفرِهِم ﴿ظَمَأٌ﴾ عطشٌ.
﴿وَلَا نَصَبٌ﴾ تعبٌ ﴿وَلَا مَخْمَصَةٌ﴾ مجاعةٌ.
﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا﴾ يدوسونَ موضِعًا.
﴿يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾ يُغْضِبُهم. قرأ أبو جعفرٍ: (يَطُونَ) بإسكان الواو (مَوْطِيًا) بنصب الياء بغير همز فيهما وشبهِه حيثُ وقع (١).
﴿وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا﴾ أَسْرًا وقتلًا وهزيمةً.
﴿إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ إلا استوجبوا به الثوابَ.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ على إحسانِهم.
* * *
﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)﴾.
[١٢١] ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً﴾ تمرة ونحوها ﴿وَلَا كَبِيرَةً﴾ كنفقةِ عثمانَ في جيشِ العسرةِ.
﴿وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا﴾ في مسيرِهم في الغزوِ في الذهابِ والمجيءِ.
﴿إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ﴾ بذلكَ.
﴿أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لام قسم تأكيد، تقديُره: واللهِ لَيَجْزِيَنَّهُمُ اللهُ،
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٢٩٦ - ٢٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٥٢).
فحذفتِ النونُ استخفافًا، وكسرت اللامُ وكانت مفتوحة، فأشبهت في اللفظ لامَ (كي) فنصبوا ما (١) كلامِ (كي).
* * *
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)﴾.
[١٢٢] ولما أنزل الله عز وجل عيوبَ المنافقين في غزوةِ تبوكَ، كان النبيُّ - ﷺ - يبعثُ السرايا، فكان المسلمون ينفرون إلى الغزِو ويتركون النبي - ﷺ - وحدَه، فأنزل الله عز وجل:
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ (٢) نفيٌ بمعنى النهيِ.
﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ أي: فحينَ لم يكنْ نفيرٌ للكافةِ، فهلَّا نفرَ من كلِّ فرقةٍ بعضُها، ويبقى مع النبيِّ جماعة.
﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ أي: الباقونَ مع رسولِ الله - ﷺ -.
﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ النافرينَ ويعلِّموهم القرآنَ.
﴿إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ وفيه دليلٌ على أن التفقُّهَ والتذكيرَ من فروضِ الكفايةِ.
﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ ولا يعملون بخلافِه.
قال - ﷺ -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" (٣).
(١) في "ت": "به".
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (١٥٠).
(٣) رواه البخاري (٧١)، كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، =
وقال - ﷺ -: "فَضلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ" (١)
وقالَ - ﷺ -: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ" (٢).
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)﴾.
[١٢٣] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ وهو عامٌّ في قتالِ الأقربِ فالأقربِ.
﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ شِدَّةً عليهم ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ بالنصرِ.
* * *
﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)﴾.
[١٢٤] ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ﴾ أي: المنافقينَ ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ بعضُهم لبعضٍ ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ يقينًا وتصديقًا.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ بزيادةِ العلمِ الحاصلِ.
= ومسلم (١٠٣٧)، كتاب: الزكاة، باب: النهي عن المسألة، عن معاوية -رضي الله عنه-.
(١) رواه الترمذي (٢٦٨٥)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-، وقال: غريب.
(٢) رواه الترمذي (٢٦٨٥)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وقال: غريب، وابن ماجه (٢٢٢) في المقدمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يفرحون؛ لأنه سببٌ لزيادةِ كمالِهم.
* * *
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥)﴾.
[١٢٥] ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ شكٌّ ونفاقٌ.
﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ كُفْرًا إلى كفرِهم، فعندَ نزوِل كلِّ سورةٍ ينكرونها، فيزدادُ كفرُهم.
﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ واستحكمَ ذلكَ فيهم حتى ماتوا عليه.
* * *
﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)﴾.
[١٢٦] ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ﴾ قرأ حمزةُ، ويعقوبُ: (تَرَوْنَ) بالتاء والخطاب للمؤمنين، والباقون: بالغيب على خبر المنافقين (١).
﴿أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ﴾ يُبْتَلَون ﴿فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ بالمرضِ وغيرِه.
﴿ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ﴾ من نفاقِهم ﴿وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ يَتَّعِظون.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٢٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٤٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨١)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٥٣).
﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٢٧)﴾.
[١٢٧] ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ فيها عيبُ المنافقين ﴿نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ عندَ تعريضِ النبيِّ - ﷺ - بنفاقهم يريدونَ الهربَ يقولونَ:
﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ من المؤمنين إنْ قمتُم من المسجد.
﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾ عن مكانِهم خارجين ﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ عن الهدى، وهو يحتملُ الإخبارَ والدعاءَ، ذلك:
﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسببِ أنهم ﴿قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ لسوءِ فهمِهم، والفقهُ لغةً: الفهمُ، وهو إدراكُ معنى الكلامِ، وشرعًا: معرفةُ الأحكامِ الشرعيةِ المتعلقةِ بأفعالِ العبادِ.
قالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: "لا تقولوا إذا صليتُم: انصرفْنا من الصلاةِ، فإنَّ قومًا انصرفوا، فصرفَ اللهُ قلوبهم، ولكنْ قولوا: قد قَضَينا الصلاةَ" (١).
* * *
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)﴾.
[١٢٨] عن أُبيٍّ -رضي الله عنه- أن آخرَ ما نزل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ من جنسِكم عربيٌّ مثلُكم نسبًا وصهرًا وحسبًا، ليس في آبائِه من لَدُنْ آدمَ سِفاحٌ، كلُّهم نكاحٌ. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ،
(١) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، والطبري في "تفسيره" (١١/ ٧٥).
والكسائيُّ، وخلفٌ وهشام: (لَقَد جاءَكُمْ) بإدغامِ الدالِ في الجيم، والباقونَ: بالإظهار (١)، وتقدَّم في سورة البقرة.
﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ﴾ شديدٌ عليه عَنَتكم؛ أي: مَشَقَّتكُم.
﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ حتى لا يخرجَ أحدٌ منكم عن اتباعِه.
﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ومعنى رؤوف: مبالغٌ في الشفقةِ (٢)، وتقدم اختلافُ القراءِ في رؤوف عندَ قوله: ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
* * *
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)﴾.
[١٢٩] ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرَضوا عن الإيمانِ.
﴿فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ كافيَّ وناصرِي.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ واعتمدْتُ، فلا أرجو غَيرَه.
﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ وخُصَّ العرشُ بالذكرِ إذْ هو أعظمُ المخلوقاتِ، فيدخلُ فيه ما دونَهُ إذا ذكره، وهاتان الآيتان لم توجدا حينَ جمعِ المصاحفِ إلا في حفظِ خزيمةَ بن ثابتٍ، فلمَّا جاءَ بهما، تَذَكَّرَهما كثيرٌ من الصحابةِ، وقد كانَ زيدٌ يعرفُهما، ولذلكَ قالَ: "فقدتُ آيتينِ من
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٢٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٢٦)، وتقدم في البقرة الآية (٩٢).
(٢) عند تفسير الآية (١١٧) من هذه السورة.
259
آخرِ سورة التوبةِ" (١)، ولو لم يعرفْهما، لم يدرِ هل فقدَ شيئًا أم لا، فإنما أُثبتتِ الآيتانِ بالإجماعِ لا بخزيمةَ وحدَه.
ورويَ أنَّ رسولَ اللهِ - ﷺ - عاشَ بعدَ نزولها خمسةً وثلاثين يومًا، والله أعلمُ.
* * *
(١) انظر القصة في: "صحيح البخاري" (٤٤٠٢)، كتاب: التفسير، باب قوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...﴾.
260
Icon