تفسير سورة الرعد

المنتخب
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم المعروف بـالمنتخب .
لمؤلفه مجموعة من المؤلفين .

١ - ألف. لام. ميم. راء. هذه حروف صوتية تبدأ بها بعض سور القرآن، وهى تشير إلى أنه معجز مع أنه مكون من الحروف التى تتكون منها كلمات العرب، وهذه الحروف الصوتية كانت تجذب العرب، لسماع القرآن. ذلك أن المشركين تواصوا فيما بينهم ألا يسمعوا هذا القرآن، فكان المؤمنون إذا ابتدأوا بهذه الحروف الصوتية استرعى ذلك أسماع المشركين فيسمعون.
إن تلك الآيات العظيمة هى هذا القرآن، الكتاب العظيم الشأن الذى نزل عليك - أيها النبى - بالحق والصدق من الله الذى خلقك واصطفاك، ولكن أكثر المشركين الذين كفروا بما جاء به من الحق ليس من شأنهم أن يذعنوا للحق، بل هم يعاندون فيه.
٢ - إن الذى أنزل هذا الكتاب هو الله الذى رفع ما ترون من سموات تجرى فيها النجوم بغير أعمدة تُرى ولا يعلمها إلا الله، وإن كان قد ربط بينها وبين الأرض بروابط لا تنقطع إلا أن يشاء الله، وذلل الشمس والقمر بسلطانه لمنفعتكم، وهما يدوران بانتظام لزمن قدّره الله سبحانه وتعالى، وهو سبحانه يُدَبِّر كل شئ فى السموات والأرض، ويُبَيِّن لكم آياته الكونية رجاء أن توقنوا بالوحدانية.
٣ - وهو سبحانه الذى بسط لكم الأرض، وجعلها ذلولاً تسيرون فيها شرقاً وغرباً، وجعل فى هذه الأرض جبالا ثابتة وأنهاراً تجرى فيها المياه العذبة، وجعل من ماء هذه الأنهار الثمرات المختلفة التى تتوالد، والأصناف المتقابلة، منها الحلو والحامض، ومنها الأبيض والأسود، وأنه سبحانه يستر النهار بالليل، وأن فى هذا الكون وعجائبه لعلامات بينة تثبت قدرة الله ووحدانيته لمن يتفكر ويتدبر.
٤ - وإن الأرض ذاتها فيها عجائب، فيها قطع من الأرض يجاور بعضها بعضا، وهى مختلفة التربة مع ذلك، بعضها قاحل، وبعضها خصب، وإن اتحدت التربة، ففيها حدائق مملوءة بكروم العنب، وفيها زرع يحصد، ونخيل مثمر، وهى مجتمعة ومتفرقة، ومع أنها تسقى بماء واحد يختلف طعمها، وإن فى هذه العجائب لدلائل واضحة على قدرة الله لمن له عقل يفكر به.
٥ - وإن أمر المشركين مع هذه الدلائل لعجب، فإن كنت يا محمد تعجب، فالعجب هو قولهم: أبعد الموت وبعد أن نصير تراباً نكون أحياء من جديد؟ وهذا شأن الذين يكفرون بخالقهم، عقولهم قيدت بالضلال، ومآلهم النار التى يخلدون فيها، فهم جاحدون، مع أن مَنْ يقدر على الإنشاء يقدر على الإعادة.
٦ - ويذهب بهم فرط ضلالهم أن يطلبوا إنزال العذاب عاجلا بدل أن يطلبوا الهداية التى تنقذهم، ويتوهمون أن الله لا ينزل بهم العقوبة فى الدنيا إن أراد، وقد مضت عقوبات أمثالهم على ذلك، فيمن أهلكهم الله قبلهم، وشأن الله أن يغفر الظلم لمن يتوب ويعود إلى الحق، وينزل العقاب الشديد بمن يستمر على ضلاله.
٧ - ويقول هؤلاء الجاحدون غير معتدين بالمعجزة الكبرى، وهى القرآن: هلا أنزل عليه ربه علامة على نبوته من الحس كتحريك الجبال، فيبين الله لنبيه الحق فى القضية؟ ويقول له سبحانه: إنما أنت - أيها النبى - منذر لهم بسوء العاقبة، إن استمروا على ضلالهم، ولكل قوم رسول يهديهم إلى الحق، ومعجزة تبين رسالته، وليس لهم أن يختاروا، إنما عليهم أن يجيبوا التحدى وأن يأتوا بمثله.
٨ - الذى أعطى الرسول تلك المعجزة الكبرى هو الذى يعلم كل شئ، ويعلم النفوس الإنسانية من وجودها نطفة فى الرحم إلى موتها، فيعلم ما تحمل كل أنثى من أجنة ليس فقط من ذكورة أو من أنوثة، وإنما يعلم حال الجنين ومستقبله فى حياته الدنيا شقى أم سعيد، مؤمن أم كافر، غنى أم فقير، ومقدار أجله فى الدنيا وكل ما يتصل بشئونه فى الحياة.
٩ - هو الذى يعلم ما يغيب عن حسنا، ويعلم ما نشاهده علماً، أعظم مما نشاهد ونرى، وهو سبحانه العظيم الشأن الذى يعلم كل ما فى الوجود.
١٠ - يعلم كل أحوالكم فى حياتكم، وكل أقوالكم وأعمالكم، فيعلم ما تسرون، وما تعلنون من أفعال وأقوال، ويعلم استخفاءكم بالليل وبروزكم بالنهار، والكل فى علمه سواء.
١١ - وأن الله سبحانه هو الذى يحفظكم، فكل واحد من الناس له ملائكة تحفظه بأمر الله وتتناوب على حفظه من أمامه ومن خلفه، وأن الله سبحانه لا يغير حال قوم من شدة إلى رخاء، ومن قوة إلى ضعف، حتى يغيروا ما بأنفسهم بما يتناسب مع الحال التى يصيرون إليها، وإذا أراد الله أن ينزل بقوم ما يسوؤهم فليس لهم ناصر يحميهم من أمره، ولا من يتولى أمورهم فيدفع عنهم ما ينزل بهم.
١٢ - وإن قدرة الله تعالى فى الكون بارزة آثارها ظاهرة، فهو الذى يريكم البرق فترهبون منظره، أو تخافون أن ينزل عليكم المطر من غير حاجة إليه فيفسد الزرع، أو تطمعون من وراء البرق فى مطر غزير تحتاجون إليه ليصلح الزرع. وهو الذى يكوِّن السحب المملوءة بالأمطار.
١٣ - وإن الرعد خاضع لله سبحانه وتعالى خضوعاً مطلقاً، حتى أن صوته الذى تسمعون كأنه تسبيح له سبحانه بالحمد على تكوينه، دلالة على خضوعه، وكذلك الأرواح الطاهرة التى لا ترونها تسبِّح حامدة له، وهو الذى يُنْزِل الصواعق المحرقة فيصيب بها من يريد أن تنزل عليه، ومع هذه الدلائل الظاهرة الدالة على قدرته سبحانه يجادلون فى شأن الله سبحانه، وهو شديد القوة والتدبير فى رد كيد الأعداء.
١٤ - وأن الذين يدعون فى خوفهم وأمنهم من الأصنام - دون أن يدعوا الله وحده - لا يجيبون لهم نداء ولا دعاء، وحالهم معهم كحال مَنْ يبْسط كفه ويضعها ليحمل بهذه اليد المبسوطة الماء ليبلغ فمه فيرتوى، وليس من شأن الكف المبسوطة أن توصل الماء إلى الفم، وإذا كانت تلك حالهم فما دعاؤهم الأصنام إلا ضياع وخسارة.
١٥ - والله سبحانه يخضع لإرادته وعظمته كل من فى السموات والأرض من أكْوان وأناس وجن وملائكة طائعين، أو كارهين لما ينزل بهم، حتى ظلالهم من طول وقصر حسب أوقات النهار فى الظهيرة وفى الأصيل خاضعة لأمر الله ونهيه.
١٦ - أمر الله نبيه أن يجادل المشركين هادياً مبيناً، فقال له: قل لهم - أيها النبى -: مَنْ الذى خلق السموات والأرض، وهو الحافظ لهما، والمسير لما فيهما؟ ثم بين لهم الجواب الصحيح الذى لا يحارون فيه، فقل لهم: هو الله المعبود بحق دون سواه، فكان حقا عليكم أن تعبدوه - وحده - ثم قل لهم: أفترون الأدلة المثبتة لإنشائه - وحده - كل شئ. وتتخذون مع ذلك أوثاناً تعتبرونها آلهة من غير أن تقروا بوحدانيته، وهذه الأوثان لا تملك لذاتها نفعاً ولا ضراً، فكيف تسوونها بالخالق المدبر، إنكم تسوون بين الخالق لكل شئ ومن لا يملك شيئاً! فكنتم كمن يسوى بين المتضادين، فهل يستوى من يبصر ومن لا يبصر؟ وهل تستوى الظلمة المتكاثفة الحالكة والنور المبين؟ أيسوغون تلك التسوية؟ أم ذهب بهم فرط ضلالهم إلى زعم أن أوثانهم شركاء له فى الخلق والتدبير، فتشابه عليهم أمر الخلق، كما ضلوا العبادة، قل لهم، أيها النبى: الله - وحده - هو الخالق لكل ما فى الوجود، وهو المتفرد بالخلق والعبادة، الغالب على كل شئ.
١٧ - وأن نعمه تعالى مرئية لكم، وأصنامكم لا تأثير لها فى هذه النعم، فهو الذى أنزل عليكم الأمطار من السحاب، فتسيل بها الأنهار والوديان كل بالمقدار الذى قدره الله تعالى لإنبات الزرع، وإثمار الشجر. والأنهار فى جريانها تحمل ما لا نفع فيه ويعلو على سطحها، فيكون فيها ما فيه نفع فيبقى، وما لا نفع فيه يذهب. ومثل ذلك الحق والباطل، فالأول يبقى والثانى يذهب، ومن المعادن التى يصهرونها بالنار ما يتخذون منها حلية كالذهب والفضة، ومنافع ينتفعون بها كالحديد والنحاس، ومنها ما لا نفع فيه يعلو السطح، وأن ما لا نفع فيه يرمى وينبذ، وما فيه النفع يبقى، كذلك الأمر فى العقائد ما هو ضلال يذهب، وما هو صدق يبقى. وبمثل هذا يبين الله سبحانه الحقائق، ويمثل بعضها ببعض لتكون كلها واضحة بينة.
١٨ - وإن الناس فى تلقيهم للهدى قسمان: قسم أجاب دعوة الله الخالق المدبر، فلهم العاقبة الحسنى فى الدنيا والآخرة، وقسم لم يُجب دعوة الذى أنشأه، وهؤلاء لهم العاقبة فى الآخرة، ولو ثبت لهم ملك كل ما فى الأرض جميعاً ومثله معه، ما استطاعوا أن يدفعوا عن أنفسهم العاقبة السيئة، ولكن أنى يكون لهم ذلك الملك؟ ولذلك كان لهم حساب يسوؤهم وينتهون به إلى جهنم وبئس القرار والمستقر.
١٩ - إن المهتدين والضالين لا يستوون، فهل يكون الذى يعلم أن ما نزل عليك من الله الذى ربَّاك وكوَّنك واصطفاك لأداء رسالته، هو الحق الذى لا شك فيه.. هل يكون كمن ضل عن الحق، حتى صار كالأعمى الذى لا يبصر؟ إنه لا يدرك الحق وما يتذكر عظمة الله إلا أصحاب العقول التى تفكر.
٢٠ - أولئك الذين يدركون الحق، هم الذين يوفون بعهد الله تعالى عليهم بمقتضى الفطرة والتكوين وبمقتضى توثيق عقودهم وعهودهم، ولا يقطعون المواثيق التى عقدوها باسم الله بينهم وبين العباد، ولا بالميثاق الأكبر الذى عقده بالفطرة والتكوين، وجعلهم يدركون الحق ويؤمنون، إلا أن يضلوا فى يقينهم.
٢١ - وأولئك المؤمنون من دأبهم المحبة والطاعة، إنهم يعقدون المودة مع الناس ويخصون ذوى أرحامهم، ويؤيدون ولاتهم فى الحق، وهم يعرفون حق الله فيخشونه، ويخافون الحساب الذى يسوؤهم يوم القيامة فيتوقّون الذنوب ما استطاعوا.
٢٢ - وهم يصبرون على الأذى يطلبون رضا الله بتحمله فى سبيل إعلاء الحق، ويؤدون الصلاة على وجهها تطهيراً لأرواحهم وتذكراً لربهم، وينفقون من المال الذى أعطاهم الله فى السر والعلن من غير رياء، ويدفعون السيئات بالحسنات يقومون بها، وهم بهذه الصفات لهم العاقبة الحسنة، بالإقامة يوم القيامة بأحسن دار وهى الجنة.
٢٣ - تلك العاقبة الطيبة إقامة مستمرة فى الجنات والنعيم، يكونون فيها هم وآباؤهم الذين صلحت عقائدهم وأعمالهم، ومعهم أزواجهم وذرياتهم والملائكة تحييهم وتجئَ إليهم من كل ناحية.
٢٤ - وتقول لهم: السلام الدائم لكم بسبب صبركم على الأذى وصبركم فى مكافحة أهوائكم، وما أحسن هذه العاقبة التى صرتم إليها، وهى الإقامة فى دار النعيم.
٢٥ - وأن أوصاف المؤمنين الطيبة تقابلها أوصاف المشركين الذميمة.. فالمشركون ينقضون عهد الله الذى أخذه عليهم بمقتضى الفطرة ووثقه، فيخالفون فطرتهم وعقولهم بعبادتهم حجارة لا تنفع، ولا تضر، وينكثون فى عهودهم مع العباد، ثم يقطعون مودتهم مع الناس وصلتهم بالله، فلا يطيعون أوامره ولا يفردونه بالعبادة ويفسدون فى الأرض بالاعتداء فيها، وعدم إصلاحها والانتفاع بها، والله سبحانه لا يحب العبث والإفساد.
٢٦ - وإذا كان أولئك المشركون يرون أنهم قد أُوتوا مالاً وفيراً، والمؤمنون فقراء ضعفاء، فليعلموا أن الله تعالى يعطى الرزق الوفير لمن يشاء إذا أخذ فى الأسباب، ويضيِّقه على من يشاء، فهو يعطيه للمؤمن وغير المؤمن، فلا تظنوا أن كثرة المال فى أيديهم دليل على أنهم على الحق، ولكنهم يفرحون بما أوتوا من مال، مع أن الله تعالى يعطى الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، وما الحياة الدنيا إلا متع عارضة ضئيلة فانية.
٢٧ - وأن أولئك المشركين تذهب بهم اللجاجة فيقولون: هلا أُنزل على النبى من الله معجزة أخرى؟ فقل - أيها النبى -: إن السبب فى عدم إيمانكم ليس نقص المعجزة، إنما هو الضلال، والله سبحانه وتعالى يضل من يريد ضلاله ما دام يسير فى طريق الضلال، ويهدى إلى الحق من يرجع إلى الله دائماً.
٢٨ - وأن هؤلاء الذين يرجعون إلى الله، ويقبلون على الحق، هم الذين آمنوا وهم الذين تسكن قلوبهم عند ذكر الله تعالى بالقرآن وغيره، وإن القلوب لا تسكن وتطمئن إلا بتذكر عظمة الله وقدرته وطلب رضاه بطاعته.
٢٩ - وإن الذين أذعنوا للحق، وقاموا بالأعمال الصالحة، لهم العاقبة الطيبة والمآل الحسن.
٣٠ - كما أرسلنا إلى الماضين من الأمم رسلا بينوا لهم الحق، فضل من ضل واهتدى من اهتدى، وآتيناهم معجزات تدل على رسالتهم، أرسلناك فى أمة العرب وغيرهم، وقد مضت من قبلهم أمم، وكانت معجزتك القرآن لتقرأه لهم قراءة توضح معانيه وجلاله، وهم جاحدون برحمة الله عليهم بإنزال القرآن، فقل لهم - أيها النبى -: الله هو الذى خلقنى ويحمينى ويرحمنى، لا إله يُعبد - بحق - غيره، أعتمد عليه - وحده - وإليه مرجعى ومرجعكم.
٣١ - إنهم يطلبون معجزة غير القرآن مع عظم تأثيره لو طلبوا الحق وأذعنوا له، فلو ثبت أن كتاباً يُقرأ فتتحرك به الجبال من أماكنها، أو تتصدع به الأرض، أو تخاطب به الموتى، لكان ذلك هو القرآن، ولكنهم معاندون، ولله - وحده - الأمر كله فى المعجزات وجزاء الجاحدين، وله فى ذلك القدرة الكاملة، وإذا كانوا فى هذه الحال من العناد، أفلا ييأس الذين أذعنوا للحق من أن يؤمن هؤلاء الجاحدين، وإن جحودهم بإرادة الله، ولو أراد أن يهتدى الناس جميعاً لاهتدوا، وأن قدرة الله ظاهرة بين أيديهم، فلا يزالون تصيبهم بسبب أعمالهم القوارع الشديدة التى تهلكهم، أو تنزل قريباً منهم، حتى يكون الموعد الذى وعد الله به، والله تعالى لا يخلف موعده.
٣٢ - وإذا كان أولئك الجاحدون قد استهزأوا بما تدعو إليه وبالقرآن، فقد سخروا بالرسل الذين أرسلوا قبلك - أيها النبى - فلا تحزن لأنى أمهل الذين جحدوا ثم آخذهم فيكون العقاب الشديد الذى لا يقدر وصفه ولا تُعرف حاله.
٣٣ - إن المشركين ضلوا فى جحودهم، فجعلوا لله شركاء فى العبادة، فهل من هو حافظ مراقب لكل نفس مُحْصٍ عليها ما تكسب من خير أو شر، تماثله هذه الأوثان؟ قل لهم - أيها النبى -: صفوهم بأوصافهم الحقيقية، أهم أحياء؟ أهم يدفعون الضر عن أنفسهم؟ فإن كانت حجارة لا تنفع ولا تضر، فهل تخدعون أنفسكم بأن يخبروا الله بما تتوهمون أنه لا يعلمه فى هذه الأرض، أم تضعونهم فى موضع العبادة بألفاظ تتلوى بها ألسنتكم، بل الحقيقة أنه زين لهم تدبيرهم وتمويههم الباطل، وبسبب ذلك صرفوا عن طريق الحق وتاهوا، ومن يكن ضلالهم مثلهم، فلن يهديه أحد، لأنه صرف نفسه عن سبيل الهداية.
٣٤ - لهم العذاب فى الدنيا بالهزيمة والأسر والقتل، إن سار المؤمنون فى سبيل الحق، ولعذاب الآخرة النازل بهم لا محالة أشد وأدوْم، وما لهم أحد يقيهم من عذاب الله القاهر فوق كل شئ.
٣٥ - وإذا كان لهؤلاء هذا العذاب، فللمؤمنين الجنة ونعيمها، وقد وعدوا بها. وحال هذه الجنة التى وعد بها أولئك الذين استقاموا على الحق، وجعلوا بينهم وبين الباطل وقاية من الإيمان أنها تجرى من تحت أشجارها المياه العذبة ثمراتها دائمة لا تنقطع، وظلها دائم. وهذه عاقبة الذين اتقوا الشر. أما الجاحدون فعاقبتهم دخول النار.
٣٦ - والذين أعطوا علم الكتب المنزلة من شأنهم أن يفرحوا بالكتاب الذى أنزل عليك: لأنه امتداد للرسالة الإلهية، ومن يتخذون التدين تحزباً: ينكرون بعض ما أنزل إليك عداوة وعصبية، فقل - أيها النبى -: إنى ما أمرت إلا بأن أعبد الله لا أشرك فى عبادته شيئاً، وإلى عبادته - وحده - أدعو، وإليه - وحده - مرجعى.
٣٧ - ومِثْل الإنزال للكتب السماوية، أنزلنا إليك القرآن حاكماً للناس فيما بينهم، وحاكماً على الكتب السابقة بالصدق. وقد أنزلناه بلغة عربية، فهو عربى، ولا تساير المشركين أو أهل الكتاب بعد الذى جاءك من الوحى والعلم، ولئن سايرتهم فما لك ناصر ينصرك من الله، أو يقيك منه. والخطاب للنبى، وهو أولى بالمؤمنين، والتحذير لهم حقيقى، وللنبى لبيان أنه مع اصطفائه وعلو منزلته قابل للتحذير.
٣٨ - وإذا كان المشركون يثيرون العجب من أن لك أزواجاً وذرية، ويطلبون معجزة غير القرآن، فقد أرسلنا من قبلك رسلا لهم أزواج وأولاد، فالرسول من البشر له أوصاف البشر، ولكنه خير كله، وليس لنبى أن يأتى بمعجزة كما يحب أو يحب قومه، بل الذى يأتى بالمعجزة هو الله، وهو الذى يأذن له بها. لكل جيل من الأجيال أمر كتبه الله لهم يصلح به أمرهم، فلكل جيل معجزته التى تناسبه.
٣٩ - يمحو الله ما يشاء من شرائع ومعجزات، ويحل محلها ما يشاء ويثبته وعنده أصل الشرائع الثابت الذى لا يتغير، وهو الوحدانية وأمهات الفضائل، وغير ذلك.
٤٠ - ولئن أريناك بعض الذى نعدهم من ثواب أو عقاب، أو توفَّيناك قبل ذلك، لرأيت هول ما ينزل بالمشركين، ولرأيت نعيم المؤمنين، وليس عليك هذا، إنما الذى عليك أن تبلغ الرسالة والحساب علينا وحدنا.
٤١ - وإن أمارات العذاب والهزيمة قائمة، ألم ينظروا إلى أنّا نأتى الأرض التى قد استولوا عليها، يأخذها منهم المؤمنون جزءا بعد جزء؟ وبذلك ننقص عليهم الأرض من حولهم، والله - وحده - هو الذى يحكم بالنصر أو الهزيمة، والثواب أو العقاب، ولا راد لحكمه، وحسابه سريع فى وقته، فلا يحتاج الفصل إلى وقت طويل، لأن عنده علم كل شئ، فالبينات قائمة.
٤٢ - وقد دبَّر الذين من قبلهم التَّدبير السيئ لرسلهم، ولله سبحانه تدبير الأمر كله فى حاضر الكافرين وقابلهم، وسيكون الجزاء على ما يصنعون، وهو يعلم ما تعمله كل نفس. وإذا كانوا يجهلون أن العاقبة الحسنة للمؤمنين، فسيعلمون يوم القيامة - بالرؤية - لمن تكون العاقبة الحسنة بالإقامة فى دار النعيم.
٤٣ - والغاية من المراء الذى يقوم به الذين جحدوا ولم يذعنوا للحق أن يقولوا لك - أيها النبى - لست مرسلا من عند الله، فقل لهم: حسبى أن الله هو الذى يحكم بينى وبينكم، والذى يعلم حقيقة القرآن، وما يدل عليه من إعجاز باهر تُدركه العقول السليمة.
Icon